الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: المقدمات الشرعية للزواج

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

رابعا ـ أحكام الخطبة

1 ـ أحكام الخطبة

تعريف الخطبة :

أولا ـ حكم الخطبة

1 ـ الحكم الأصلي للخطبة:

2 ـ الأحكام العارضة للخطبة:

الخطبة المباحة:

الخطبة المحرمة :

أمر قائم بالخاطب :

أمر قائم بالمخطوبة :

خطبة المرأة في حال عدتها :

خطبة المعتدة من نكاح فاسد أو المستبرأة:

الفرق بين التصريح والتعريض بالخطبة :

حكم جواب الخطبة:

خطبة المرأة المخطوبة:

 

محل تحريم الخطبة على الخطبة :

من تعتبر إجابته أو رده:

الخطبة على خطبة الكافر:

العقد بعد الخطبة المحرمة :

من تخطب إليه المرأة :

خطبة المحرم:

أمر قائم بالولي أو الوكيل :

ثبوت النسب :

استحقاق المهر:

الرجوع للزوجة الأولى التي طلبها الخاطب:

ثانيا ـ مستحبات الخطبة

صيغة الخطبة:

عدد الخطبات :

إخفاء الخطبة:

ثالثا ـ آثار العدول عن الخطبة

رد المهر :

رد الهدايا :

رابعا ـ أحكام الخطبة

نتناول في هذا الفصل الحديث عن جانبين يدخل أكثرهما في مستحبات الزواج ومقدماته، خصصنا كل جانب منهما بمبحث خاص، هذان الجانبان هما:

·      الأحكام المتعلقة بالخطبة، سواء كانت أحكاما أصلية أم عارضة، وما يترتب عنها.

·  الأحكام المتعلقة بالزفاف كتقديم التوثيق الكتابي على البناء والوليمة، وقد عرضنا فيه أحكام ما يجري في ولائمنا من أمور شرعية أو منكرة.

1 ـ أحكام الخطبة

تعريف الخطبة :

لغة: خَطَبَ الـمرأَةَ يَخْطُبها خَطْباً وخِطْبة، بالكسر، وجَمْعُ الـخاطبِ: خُطَّابٍ. الـجوهري: والـخَطِيبُ الـخاطِبُ، والـخِطِّيبَى الـخُطْبة. والـخِطْبُ: الذي يَخْطُب الـمرأَةَ، والـخِطْبة مصدر بمنزلة الـخَطْبِ، وهو بمنزلة قولك: إِنه لـحَسَن القِعْدة والـجِلْسةِ. والعرب تقول: فلان خِطْبُ فُلانة إِذا كان يَخْطُبها. ويقُول الـخاطِبُ: خِطْبٌ فـيقول الـمَخْطُوب إِلـيهم: نِكْحٌ وهي كلـمة كانتِ العرب تَتَزوَّجُ بها. ورجلٌ خَطَّابٌ: كثـير التَّصَرُّفِ فـي الـخِطْبةِ[1].

اصطلاحا: عرفت الخطبة تعاريف مختلفة منها[2]:

·      هي ما يورد من الخطب في استدعاء النكاح والإجابة إليه.

·  هي التماس التزويج والمحاولة عليه صريحا، مثل أن يقول فلان يخطب فلانة أو غير صريح كـ[يريد الاتصال بكم والدخول في زمرتكم] من الخاطب والمجيب.

·      هي التماس النكاح تصريحا وتعريضا

·      ومن القيود التي ضبطت بها الخطبة[3] :

·  أنها تستعمل في كل ما يستدعى به الزواج من القول، وإن لم يكن مؤلفا على نظم الخطب فيقال: فلان يخطب فلانة إذا طلب زواجها وإن لم يوجد منه لفظ يسمى خطبة ويدل عليه قوله  - صلى الله عليه وسلم -  :(لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)[4] ولم يعن بالخطبة الكلام المؤلف الذي يؤتى به عند انعقاد النكاح، وإنما أراد ما يتراجع به القول عند محاولة ذلك ومراوضته.

·  أن الخطبة ليست عقدا شرعيا ملزما، وإن تخيل كونها عقدا فليس بلازم بل هو جائز من الجانبين قطعا.

·  أن الخطبة هي ما يجري من المراجعة والمحاولة للنكاح، لأنه أمر غير مقدر ولا يتعين له أول ولا آخر.

·  أن الخطبة وسيلة للزواج غالبا , إذ لا يخلو عنها في معظم الصور , وليست شرطا لصحته، فلو تم بدونها كان صحيحا.

أولا ـ حكم الخطبة

1 ـ الحكم الأصلي للخطبة:

اختلف العلماء في الحكم الأصلي للخطبة على قولين:

القول الأول: أن الأصل في حكم الخطبة هو الاستحباب وهو مذهب جمهور العلماء، بل صرح ابن قدامة إلى)أنها غير واجبة عند أحد من أهل العلم علمناه إلا داود)[5]، ومن الأدلة على ذلك:

·  أنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد خطب - صلى الله عليه وسلم - عائشة بنت أبي بكر الصديق وحفصة بنت عمر.

·      أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله , زوجنيها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -زوجتكها بما معك من القرآن)[6]، فلم يذكر خطبة فدل ذلك على جواز التزويج بدون خطبة.

·  خطب إلى عمر - رضي الله عنه -  مولاة له , فما زاد على أن قال: قد أنكحناك على ما أمر الله , على إمساك بمعروف , أو تسريح بإحسان، ولم يذكر خطبة في ذلك.

·  عن رجل من بني سليم , قال: خطبت إلى رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - أمامة بنت عبد المطلب , فأنكحني من غير أن يتشهد)[7] قال ابن القيم  :(وفيه أنه لا يشترط في صحة العقد تقدم الخطبة إذا لم يقع في شيء من طرق هذا الحديث وقوع حمد ولا تشهد ولا غيرهما من أركان الخطبة)[8]

·      أنه عقد معاوضة , فلم تجب فيه الخطبة كالبيع.

القول الثاني: الوجوب، وهو قول داود الظاهري على ما ذكره الناقلون عنه، وربما استدل بما يدل على الاستحباب على القول بالوجوب ،فقد قال في المغني :(وما استدلوا به يدل على عدم الكمال بدون الخطبة , لا على الوجوب)[9]، وقال ابن القيم :(ووافقهم من الشافعية أبو عوانة فترجم في صحيحه باب وجوب الخطبة عند العقد)[10]

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الخطبة سنة كما دل على ذلك النصوص، وسنيتها تتحقق فيما لو علم الولي مثلا قبول موليته الزواج بمن تقدم إليها، أو كانت حاضرة وعلم رأيها، فتتحول بالتالي نفس الخطبة عقدا، ولكن في حال عدم العلم، أو الحاجة إلى الاستئذان، وهو الأعم الأغلب، تتحول الخطبة إلى حكم الوجوب تفريقا بينها وبين العقد الشرعي، وهذا الوجوب، وإن لم تقتضه النصوص، ولكنه وسيلة الواجب، ووسيلة الواجب واجبة، والواجب هنا هو الاستئذان والاستئمار والتحري، وكل هذه الواجبات تقتضي التمهل قبل عقد العقد الشرعي، وبالتالي تقتضي الخطبة.

وهذا الترجيح على مقتضى ما ذكرنا في قيود الخطبة من أنها مجرد التماس النكاح، لا ما يقال من خطب ويعقد من اجتماعات.

2 ـ الأحكام العارضة للخطبة:

يعرض للخطبة الأحكام الشرعية الأخرى، لأن حكم الوسيلة تابع لحكم المقصد، فتكره ممن يكره له النكاح، وتحرم ممن يحرم عليه[11]، وسنذكر هنا بعض أحكامها العارضة:

الخطبة المباحة:

اتفق الفقهاء على أن المرأة التي تجوز خطبتها هي المرأة التي لم يقم بها أي مانع من موانع الزواج الآتي ذكرها، واتفقوا على أنه يجوز خطبتها تصريحا وتعريضا.

الخطبة المحرمة :

وسبب تحريمها ثلاثة أمور:

أمر قائم بالخاطب :

وهو حرمة الزواج عليه كما سنذكر في موانع الزواج، فمن حرم عليه الزواج حرمت عليه الخطبة لكونها طلبا لما يحرم وللوسائل حكم الغايات، ولكن بعض الفقهاء ذهب إلى إباحة ذلك، ولسنا ندري وجه استدلاله على ذلك.

أمر قائم بالمخطوبة :

وهي خطبة المرأة لتي قام بها مانع من الموانع التي تمنعها من الزواج والتي سنفصل الكلام عليها بإذن الله في موانع الزواج، ولكنا نقتصر هنا على أمرين لهما علاقة بالخطبة المحرمة، وهما:

خطبة المرأة في حال عدتها :

اتفق الفقهاء على ثلاثة أحكام تتعلق بعدة المرأة هي:

·      تحريم خطبة المرأة المعتدة تصريحا مهما كان نوع عدتها.

·      تحريم خطبة المرأة المعتدة من طلاق رجعي تصريحا وتعريضا.

·      جواز خطبة المعتدة من وفاة زوجها تعريضا.

والدليل على ذلك كله هو قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ (البقرة: 234 -235)

فهذا النص الكريم يبين عدة المتوفى عنها زوجها، والأحكام المتصلة بها، ورفع الجناح عن التعريض بخطبتها في العدة، ونهى عن المواعدة بالنكاح، وهو الخطبة الصريحة، ثم نهى عن العقد عليها حتى تنتهي عدتها، والمراد بالنساء هن المتوفى عنهن أزواجهن بدليل سياق الكلام فيقتصر الاستثناء على موضعه.

وقد ذكر الفقهاء السر في إباحة التعريض بأن الزوجية قد انقطعت بالوفاة، ولا أمل في عودتهما فليس هنا زوج يتضرر من هذا التعريض، وقد يكون في ذلك عزاء لهذه المرأة التي فقدت عائلها، فلا ينقطع أملها في الحياة الكريمة في ظل زوج كريم، أما منع التصريح فمراعاة لجانب المرأة من ناحية أخرى، وهو إحدادها على زوجها، فلو أبيح التصريح لحمل المرأة على التزين وترك الإحداد، على أن الزوج لا يعدم أن يكون له أقارب يلحقهم الأذى بهذا التصريح.

وقد اختلف الفقهاء فيمن لم تبق تحت عصمة زوجها  بالطلاق البائن أو الفسخ هل يجوز خطبتها تعريضا أم لا على قولين:

القول الأول: أن المعتدة من طلاق بائن بينونة صغرى لا تجوز خطبتها، لا تصريحاً ولا تعريضاً، وهو قول الحنفية، ومن أدلتهم على ذلك[12]:

·  أن التعريض للمطلقة اكتساب عداوة وبغض فيما بينها وبين زوجها، إذ العدة من حقه بدليل أنه إذا لم يدخل بها لا تجب العدة , ومعنى العداوة لا يتقدر بينها وبين الميت ولا بينها وبين ورثته أيضا، لأن العدة في المتوفى عنها زوجها ليست لحق الزوج بدليل أنها تجب قبل الدخول بها فلا يكون التعريض في هذه العدة تسبيبا إلى العداوة والبغض بينها وبين ورثة المتوفى فلم يكن بها بأس.

·  أنه لا يجوز للمعتدة من طلاق الخروج من منزلها أصلا بالليل ولا بالنهار فلا يمكن التعريض على وجه لا يقف عليه الناس والإظهار بذلك بالحضور إلى بيت زوجها قبيح. وأما المتوفى عنها زوجها فيباح لها الخروج نهارا فيمكن التعريض على وجه لا يقف عليه سواها.

·  أن الطلاق البائن مع قطعه لرباط الزوجية إلا أن بعض آثاره باقية، وذلك كافٍ في منع خطبتها لئلا يؤدي ذلك إلى إثارة النزاع بين مطلقها وبين من خطبها.

·  أن إباحة خطبتها قد يحملها على ارتكاب محظور إذا رغبت في زواج من خطبها، فتقر بانقضاء عدتها في مدة زاعمة أنها حاضت فيها ثلاث حيضات، وتصدق في ذلك الإقرار، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتها وليس لأحد سلطان عليها، بخلاف المتوفى عنها زوجها فإن جواز التعريض في حقها لا يؤدي إلى هذا المحظور حيث تعتد بوضع الحمل إن كانت حاملا أو بأربعة أشهر وعشرة أيام إن لم تكن حاملاً.

القول الثاني: أنه يجوز التعريض بخطبة المرأة المعتدة غير الرجعية، كأن تكون معتدة عن وفاة، أو شبهة، أو فراق بائن بطلاق، أو فسخ، وحكم جواب المرأة تصريحا وتعريضا حكم الرجل في ذلك، وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة[13]، واستدلوا على ذلك بما يلي: 

·  قوله تعالى: ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾(البقرة:235)﴾ ومع ورود الآية في عدة الوفاة إلا أنها تشمل كل ما يشابهه من أنواع الفراق.

·      عدم سلطنة الزوج عليها فهي في جميع تلك الأحوال ليس لها زوج، وإنما منع التصريح لها بالخطبة مع ذلك لأنه إذا صرح تحققت رغبته فيها فربما تكذب في انقضاء العدة.

·  أنه لا يجوز خطبتها تصريحاً مراعاة لجانب الزوج المطلق، لأنها معتدة منه، وقد يثور النزاع بينه وبين من خطبها، أما خطبتها بطريق التعريض فلانقطاع الزوجية بالطلاق البائن، وهو كاف في جواز التعريض الذي لا يثير النزاع بينه وبين مطلقها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة والأوفق بمقاصد الشريعة هو النظر في المصالح والمفاسد المترتبة عن كلا الأمرين، فإن رأى أن في التعريض إذية للزوج أو الزوجة كف عنه إلا إذا خشي أن يسبقه إليها غيره، فيجوز، لأن الأمر حينذاك أهم من مراعاة المشاعر التي قد تكون متوهمة والدليل عليها هو الفراق الحاصل بين الزوجين.

أما إن كان الأذى من جهة الزوج فقط، فإن أولى الأقوال هو القول الثاني، لأن الزوج قد انقطعت صلته بزوجته، وقد كان سببا أو محلا لقطعها، فلذلك لا يصح مراعاة شعوره، ونسيان شعور المرأة، وهي المتضررة في أغلب الأحوال، بل قد تكون حالتها تستدعي هذا التعريض.

خطبة المعتدة من نكاح فاسد أو المستبرأة:

اختلف الفقهاء في حكم التعريض بخطبة المعتدة من نكاح فاسد وفسخ وشبههما , كالمعتدة من لعان أو ردة , أو المستبرأة من الزنى , أو التفريق لعيب أو عنة على قولين:

القول الأول: جواز التعريض لهن[14]، وهو قول جمهور المالكية والشافعية والحنابلة وجمهور الحنفية أخذا بعموم الآية وقياسا على المطلقة ثلاثا , وأن سلطة الزوج قد انقطعت.

القول الثاني: أن التعريض يختلف حكمه بحسب ما يترتب عليه , فإن كان يؤدي إلى عداوة المطلق فهو حرام , وإلا فلا، وهو قول بعض الحنفية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكرناه في المسألة السابقة من اعتبار المصالح والمفاسد المنجرة عن الخطبة مع مراعاة مصلحة المرأة في ذلك قبل مصلحة الرجل، وقد يمكن بصنوف الحيلة الجمع بينهما، وهو أولى، فهذا هو باب الحيل المشروعة التي لا تحلل الحرام، وإنما تيسر أبواب الحلال، وسنرى نماذج كثيرة لها في محلها.

 

الفرق بين التصريح والتعريض بالخطبة :

التصريح في الخطبة :هو ما يقطع بالرغبة في الزواج، كقوله: أريد أن أتزوجك أو إذا انقضت عدتك تزوجتك. ولا فرق في ذلك بين الحقيقة والمجاز والكناية كقوله  :(أريد أن أنفق عليك نفقة الزوجات)فكل من الثلاثة إن أفاد القطع بالرغبة في النكاح فهو تصريح ،أو مجرد الاحتمال لها فتعريض.

التعريض بالخطبة: هو ما يحتمل الرغبة في الزواج وغيره من الأقوال والأفعال، ومن الأمثلة التي ذكرها الفقهاء لذلك[15]:

الأقوال: وهي أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها: إنك علي لكريمة، وإني فيك لراغب، وإن الله لسائق إليك خيرا ورزقا وإنك لنافقة , وإنك لإلى خير , وإني بك لمعجب , وإني لك لمحب , وإن يقدر أمر يكن ونحو هذا من القول.  

الأفعال :كأن يهدي إليها الهدية، وفيما رواه ابن حبيب عن مالك قال :(ولا أحب أن يفتي به إلا من تحجزه التقوى عما وراءه، ووجه ذلك أنه ليس في الهداية تصريح بالنكاح ولا مواعدة وإنما فيه إظهار المودة كقوله: إني فيك لراغب وإني عليك لحريص)[16]

حكم جواب الخطبة:

نص الفقهاء على أن حكم جواب المرأة أو وليها للخاطب كحكم خطبة هذا الخاطب حلا وحرمة , فيحل للمتوفى عنها زوجها المعتدة أن تجيب من عرض بخطبتها بتعريض أيضا , ويحرم عليها وعلى كل معتدة التصريح بالجواب - لغير صاحب العدة الذي يحل له نكاحها - وكذلك الحكم في بقية المعتدات كما مر سابقا.

خطبة المرأة المخطوبة:

اتفق الفقهاء على أن الخطبة على الخطبة[17] حرام إذا حصل الركون إلى الخاطب الأول, لما روى عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال  :(لا يخطب الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب)[18]

قال ابن عبد البر :(هذا حديث صحيح ثابت عن النبي  - صلى الله عليه وسلم -  وروى عن أبي هريرة من وجوه ورواه أيضا ابن عمر عن النبي  - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى فيه عند أهل العلم بالحديث أن الخاطب إذا ركن إليه وقرب أمره ومالت النفوس بعضها إلى بعض في ذلك وذكر الصداق ونحو ذلك لم يجز لأحد حينئذ الخطبة على رجل قد تناهت حاله وبلغت ما وصفنا)[19]، واستدل لذلك بأن رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - خطب لأسامة بن زيد فاطمة بنت قيس إذ أخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباها، ولم ينكر أيضا خطبة واحد منهما، وخطبها على خطبتهما إذ لم يكن من فاطمة ركون وميل.

وهذا النهي يجري مجرى قوله - صلى الله عليه وسلم - :(لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يسوم أحدكم على سوم)[20]، ولأن فيها إيذاء وجفاء وخيانة وإفسادا على الخاطب الأول , وإيقاعا للعداوة بين الناس، وقد حكى النووي الإجماع على أن النهي في الحديث للتحريم[21]، ومع ذلك فقد اختلف في بعض المسائل المتعلقة بهذا الباب، ومنها:

محل تحريم الخطبة على الخطبة :

اختلف الفقهاء في محل تحريم الخطبة على الخطبة على الأقوال التالية:

القول الأول: أنه يشترط للتحريم أن يكون الخاطب الأول قد أجيب، ولم يترك ولم يعرض، ولم يأذن للخاطب الثاني , وعلم الخاطب الثاني بخطبة الأول وإجابته، وهو قول الشافعية والحنابلة[22]، وهو قريب من قول ابن حزم، فقد قال :(ولا يحل لمسلم أن يخطب على خطبة مسلم سواء ركنا وتقاربا  أو لم يكن شيء من ذلك، إلا أن يكون أفضل لها في دينه وحسن صحبته، فله حينئذ أن يخطب على خطبة غيره ممن هو دونه في الدين وجميل الصحبة، أو إلا أن يأذن له الخاطب الأول في أن يخطبها فيجوز له أن يخطبها حينئذ، أو إلا أن يدفع الخاطب الأول الخطبة فيكون لغيره أن يخطبها حينئذ، أو إلا أن ترده المخطوبة فلغيره أن يخطبها حينئذ وإلا فلا)[23]

القول الثاني: يشترط لتحريم الخطبة على الخطبة ركون المرأة المخطوبة أو وليها, ووقوع الرضا بخطبة الخاطب الأول غير الفاسق ولو لم يقدر صداق, وهو قول المالكية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو الجمع بين النظر إلى مصلحة المخطوبة مع مصلحة الخاطب من تلك الزيجة، فإن تعارضا قدمت مصلحة المخطوبة، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخطبة على الخطبة رعاية لمصلحة الخاطب، ودلت أفعاله على جواز بعض مواضعها لأن مصلحة المخطوبة اقتضتها، مع كون ذلك قد يضر الخاطب، فدل بفعله - صلى الله عليه وسلم - على ترجيح جانب المخطوبة على جانب الخاطب.

وهذا الترجيح لا يتطلب النظر في الناحية الدينية فقط، بل قد يرجع لنواح تتعلق بها سعادة الزوجين واستقرارهما كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت قيس، ولكن المرجع في هذا لا ينبغي أن يكون الهوى والحكم المجرد عن الدليل، بل يجب أن يكون الشرع المؤيد بالنظر الصحيح.

من تعتبر إجابته أو رده:

اختلف الفقهاء فيمن تعتبر إجابته أورده على قولين:

القول الأول:  أن المعتبر رد الولي وإجابته إن كانت مجبرة , وإلا فردها وإجابتها، وهو قول الشافعية والحنابلة.

القول الثاني: المعتبر ركون غير المجبرة إلى الخاطب الأول , وركون المجبرة معرضا مجبرها بالخاطب ولو بسكوته , وعليه لا يعتبر ركون المجبرة مع رد مجبرها, ولا ردها مع ركونه , ولا يعتبر ركون أمها أو وليها غير المجبر مع ردها لا مع عدمه فيعتبر، وهو قول المالكية.

الترجيح:

قد ذكرنا في الفصل الماضي أنه لا يصح الإجبار مطلقا سواء للرجل أو للمرأة، ولهذا فإنه لا يصح اعتبار الركون إلا بعد قبول المخطوبة، أما وليها، فليس له في هذا الباب إلا أن يرفض من يرى فيه عدم الكفاءة لموليته بالشروط التي سنعرفها في محلها.

الخطبة على خطبة الكافر:

اختلف الفقهاء في جواز الخطبة على خطبة الكافر المحترم، أي غير الحربي أو المرتد، وذلك بأن يخطب ذمي كتابية ويجاب ثم يخطبها مسلم، على قولين:

القول الأول: أن الخطبة على خطبة الكافر حرام، وهو قول المالكية والشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      ما في الخطبة الثانية من الإيذاء للخاطب الأول، ولو كان كافرا.

·  أن ذكر لفظ الأخ في بعض روايات الحديث :(لا يخطب الرجل على خطبة أخيه)خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.

·  أن الفاسق لا يشبه الكافر عند المالكية ،لأن الفاسق لا يقر شرعا على فسقه , فتجوز الخطبة على خطبته بخلاف الذمي فإنه في حالة يقر عليها بالجزية.

القول الثاني: لا تحرم الخطبة على خطبة كافر، وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -  :(على خطبة أخيه)

·      أن النهي خاص بالمسلم وإلحاق غيره به إنما يصح إذا كان مثله , وليس الذمي كالمسلم , ولا حرمته كحرمته.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكرنا سابقا من النظر إلى مصلحة المخطوبة قبل النظر إلى مصلحة الخاطب، وتطبيق ذلك الضابط عل هذه الحالة أن ينظر إمكان إسلام تلك الكتابية إن هو تزوجها، فإن جاز ذلك له، كان في ذلك مصلحتها التي لا يمكن وصفها، ويكون بذلك قد قدم لها خدمة عظيمة، أما إن لم يتيقن ذلك، أو لم يكن ذلك في نيته، فالأولى هو ما قاله أصحاب القول الأول أخذا للحديث بعمومه، خاصة وأن الشرع قد طالب بتأليف قلوب أهل الذمة، وفي الخطبة على خطبتهم ما قد يفسد قلوبهم.

العقد بعد الخطبة المحرمة :

اختلف الفقهاء في حكم عقد النكاح على امرأة تحرم خطبتها على العاقد كالخطبة على الخطبة , وكالخطبة المحرمة في العدة تصريحا أو تعريضا على قولين:

القول الأول: أن عقد النكاح على من تحرم خطبتها كعقد الخاطب الثاني على المخطوبة , وكعقد الخاطب في العدة على المعتدة بعد انقضاء عدتها يكون صحيحا مع الحرمة، وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أن الخطبة المحرمة لا تقارن العقد فلم تؤثر فيه.

·      أنها ليست شرطا في صحة النكاح فلا يفسخ النكاح بوقوعها غير صحيحة.

القول الثاني: أن عقد الخاطب الثاني على المخطوبة يفسخ حال خطبة الأول بطلاق , وجوبا لحق الله تعالى وإن لم يطلبه الخاطب الأول , وظاهره وإن لم يعلم الثاني بخطبة الأول , ما لم يبين الثاني حيث استمر الركون أو كان الرجوع لأجل خطبة الثاني , فإن كان لغيرها لم يفسخ , ومحله أيضا إن لم يحكم بصحة نكاح الثاني حاكم يراه وإلا لم يفسخ، وهو قول بعض المالكية[24].

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة والأصلح للزوجين هو القول بصحة العقد ما دام مبنيا على التراضي بين المتعاقدين، والحرام لا يحرم الحلال، لأن أثره هو الإثم لا التأثير في العقد، وهذا الترجيح يتفق مع مصلحة كلا الزوجين، لأنه لو قلنا بوجوب تطليقها، فإن هذا الخاطب سيعود للعقد عليها من جديد، بعد أن وضع في ذمته طلقة تنقص من الفرص التي جعلها الشرع للزوجين لللمراجعة، ويتنافى ذلك مع تشوف الشرع للحد من الطلاق وتضييق بابه كما سنراه في الجزء الثالث.

من تخطب إليه المرأة :

اتفق الفقهاء على أن خطبة المرأة المجبرة تكون إلى وليها , فقد روي عن عروة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب عائشة رضي الله تعالى عنها إلى أبي بكر - رضي الله عنه -  فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك , فقال - صلى الله عليه وسلم -  له  :(أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال)[25]قال الشوكاني :(فيه دليل على أن خطبة المرأة الصغيرة البكر تكون إلى وليها)[26]

واتفقوا على انه يجوز أن تخطب المرأة الرشيدة إلى نفسها , لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت. لما مات أبو سلمة أرسل إلي النبي - صلى الله عليه وسلم -  حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه -   يخطبني له , فقلت له: إن لي بنتا وأنا غيور , فقال: أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها , وأدعو الله أن يذهب بالغيرة)، وفي رواية)إني امرأة غيرى وإني امرأة مصبية فقال: أما قولك: إني امرأة غيرى فسأدعو الله لك فيذهب غيرتك, وأما قولك: إني امرأة مصبية فستكفين صبيانك)[27].

ونرى أن كلا الحديثين لا يدلان على تخصيص الكبيرة والصغيرة بالخطبة من الولي، ولكنهما يدلان على كيفية الخطبة، فلهذا يصح اعتبارهما دليلا على صحة خطبة المرأة سواء كانت بكرا أو ثيبا من نفسها، فليس في الحديثين ما يخصص إحداهما بحكم دون الأخرى، ولكن الأدب مع ذلك قد يقتضي الخطبة من ولي المرأة، فإن لم يكن لها ولي، أو خاف من وليها الرفض دون إعلامها، فله أن يخبرها عن رغبته في التقدم لخطبتها، ثم يذهب بعدها لوليها.

أما ما يفعله البعض من الجرأة في هذا الباب على التقدم من أي امرأة ثم مواعدتها بالخطبة من باب العبث واللهو، فلا شك في حرمته الشديدة، فهو من التذرع بالمباح للوصول إلى الحرام الذي يتعلق به حق الغير.

خطبة المحرم:

يكره للمحرم[28] أن يخطب امرأة ولو لم تكن محرمة عند الجمهور , كما يكره أن يخطب غير المحرم المحرمة , لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :(لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب)[29], والخطبة تراد لعقد النكاح فإذا كان ممتنعا كره الاشتغال بأسبابه ; ولأنه سبب إلى الحرام.

أمر قائم بالولي أو الوكيل :

وهو التدليس في الخطبة كأن يخطب رجل امرأة ويجاب إلى ذلك، ثم يغرر به بالزواج بغيرها وهو يعتقد أنها التي خطبها فلا ينعقد هذا الزواج لأن القبول انصرف إلى غير من وجد الإيجاب فيه فلم يصح الزواج ووجب الفسخ، فإن أراد أن يتزوجها تزوجها بعقد جديد، أما الآثار المترتبة على هذا الزواج فهي:

ثبوت النسب :

 إن ولدت تلك المرأة ثبت نسب ولدها إليه لأن المقصد الشرعي هو إثبات الأنساب ما أمكن، كما سنفصله في موضعه إن شاء الله.

استحقاق المهر:

 اختلف الفقهاء في استحقاق هذه المرأة المهر على أقوال، منها:

القول الأول: أن المهر على وليها، وإليه ذهب أحمد في رواية عنه ،قال  أحمد  في رجل خطب جارية , فزوجوه أختها , ثم علم بعد  :(يفرق بينهما، ويكون الصداق على وليها لأنه غره)

القول الثاني: أن عليه المهر بما أصاب منها، روي عن علي رضي الله عنه في رجلين تزوجا امرأتين , فزفت كل امرأة إلى زوج الأخرى: لهما الصداق , ويعتزل كل واحد منهما امرأته حتى تنقضي عدتها، وبه قال النخعي والشافعي , وإسحاق وأصحاب الرأي.قال أحمد في رجل تزوج امرأة فأدخلت عليه أختها :(لها المهر بما أصاب منها , ولأختها المهر. قيل: يلزمه مهران ؟ قال: نعم، ويرجع على وليها، هذه مثل التي بها برص أو جذام.)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة التفريق بين حالين:

·      المرأة العالمة بالخدعة التي تعرض لها الخاطب، لا حق لها في المهر لأنها زانية مطاوعة.

·  المرأة الجاهلة، ولها حقان: حق من زوجها الذي أصابها، وهو أدنى ما يطلق عليه المهر على الخلاف الذي بين العلماء في المسألة جزاء ما أصاب منها، وحق على وليها، وهو مهر المثل لأنه المتسبب فيما حصل لها.

الرجوع للزوجة الأولى التي طلبها الخاطب:

 يجوز الرجوع للزوجة التي طلبها بالصداق الأول ،ولكن بعقد جديد، بعد انقضاء عدة أختها إن كان أصابها  لأن العقد الذي عقده لم يصح في واحدة منهما فالإيجاب صدر في إحداهما , والقبول في الأخرى , فلم ينعقد في هذه ولا في تلك فإن اتفقوا على تجديد عقد في إحداهما أيتهما كان جاز.

وللمسألة مزيد من التفاصيل في محلها من الفصل الخاص بالكفاءة.

ثانيا ـ مستحبات الخطبة

من المستحبات التي ذكرها الفقهاء للخطبة:

صيغة الخطبة:

يستحب أن يبدأ الخطبة بذكر الله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -    :(كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله  فهو أقطع)[30]

ويكفي في ذلك أن يحمد الله تعالى , ويتشهد , ويصلي على رسول الله  - صلى الله عليه وسلم -، والمستحب أن يخطب بخطبة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -  التي رواها بقوله  :(علمنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم -  التشهد في الصلاة , والتشهد في الحاجة , قال: التشهد في الحاجة: إن الحمد لله , نحمده , ونستعينه , ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله , وأن محمدا عبده ورسوله , ويقرأ ثلاث آيات  :(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون﴾(البقرة:102))و﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾(النساء:1))يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾(الأحزاب:70،71)[31]

وتكره الإطالة في الخطبة فقد  روي عن ابن عمر - رضي الله عنه -  أنه كان إذا دعي ليزوج قال: لا تفضضوا علينا الناس , الحمد لله , وصلى الله على محمد , إن فلانا يخطب إليكم , فإن أنكحتموه فالحمد لله , وإن رددتموه فسبحان الله.

وقد ذكر الدسوقي الكيفية المثلى لإجراء الخطبة وعليها العمل في البلاد المالكية،وهي أن يقول الزوج أو وكيله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾(النساء:1)و﴿ اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ﴾ الآية أما بعد فإني أو فإن فلانا رغب فيكم ويريد الانضمام إليكم والدخول في زمرتكم وفرض لكم من الصداق كذا وكذا , فانكحوه فيقول ولي المرأة بعد الخطبة المتقدمة: أما بعد فقد أجبناه لذلك[32].

عدد الخطبات :

اختلف الفقهاء في صيغة الخطبة هل تكرر أم يكتفى بواحدة على قولين:

القول الأول: أن المستحب خطبة واحدة يخطبها الولي , أو الزوج , أو غيرهما بدليل أن المنقول عن النبي  - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف , خطبة واحدة , وهو أولى ما اتبع [33].

القول الثاني: أن المسنون أكثر من خطبة :

·      فذهب الشافعي إلى أنهما خطبتان: واحدة في أوله , وخطبة من الزوج قبل قبوله.

·  وذكر المالكية أربع خطب: اثنتان عند التماس النكاح، واحدة من الزوج وواحدة من ولي المرأة واثنتان عند عقد النكاح واحدة من ولي المرأة أو وكيله وواحدة من الزوج[34].

الترجيح:

نرى أن كل ذلك جائز فمن نوى بالإكثار من عدد الخطب التبرك بذكر الله تعالى أو إعطاء حرمة للخطبة فهو حسن، ومن أراد بالاكتفاء بواحدة الاختصار واتباع ما نقل فهو حسن كذلك، ومع ذلك نشير إلى أن ما نقل في ذلك عن السلف لا يعني التحديد حتى تعتقد سنية ذلك بدليل ما روي من اختصارهم في صيغة العقد وعدم التزامهم بما روي صريحا عن رسول الله  - صلى الله عليه وسلم -، كما سبق من فعل ابن عمر - رضي الله عنه -، وهو فقه من ابن عمر - رضي الله عنه -  في مراعاة الاختصار حتى لا يكون التطويل فتنة على الناس وإطالة على الشهود، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والمجالس.

إخفاء الخطبة:

ذكر الفقهاء استحباب إخفاء الخطبة على عكس النكاح، وذلك خشية كلام المفسدين، وهو صحيح يدل عليه ما نرى الكثير من شواهده في واقعنا.

ثالثا ـ آثار العدول عن الخطبة

إذا عدل أحد الطرفين عن الخطبة أو كلاهما فإن الأثر المترتب على ذلك بالنسبة لما قدمه الخاطب من مهر أو هدايا يتمثل فيما يلي:

رد المهر :

 اتفق الفقهاء على أنه يجب رد ما قدمه من مهر قليلاً كان أو كثيراً، لأن المهر وجب بالعقد، فهو حكم من أحكامه وأثر من آثاره، وما دام الزواج لم يوجد فلا حق لها في أخذ ه، بل هو حق خالص للزوج، فإن كان قائماً أخذه بعينه، وإن هلك أخذ مثله إن كان مثلياً أو قيمته إن كان قيمياً.

رد الهدايا :

 اختلف الفقهاء في الهدايا التي يقدمها الخاطب إلى خطيبته من غير طلب منها على الأقوال التالية :

القول الأول: وجوب الرد مطلقاً باقية أو غير باقية، فإن كانت موجودة ردت بعينها، وإن هلكت أو استهلكت وجب رد مثلها أو قيمتها سواء كان العدول من قبله أو من قبل المخطوبة أو منهما معاً، وهو مذهب الشافعية.

القول الثاني: وجوب ردها إن كانت موجودة في يدها من غير زيادة متصلة بها لا يمكن فصلها، فإن هلكت كعقد فقد أو ساعة تكسرت أو استهلكت كطعام أكل أو ثوب لبس وبلي، أو زادت زيادة متصلة لا يمكن فصلها كقماش خيط ثوباً، أو خرجت عن ملكها بأن تصرفت فيها ببيع أو هبة لا يجب ردها في جميع تلك الصور، لأنهم أعطوا الهدية حكم الهبة، والهبة يمتنع الرجوع فيها بموانع منها الهلاك والاستهلاك والخروج عن الملك والزيادة المتصلة التي لا يمكن فصلها، وهو مذهب الحنفية. 

القول الثالث: التفصيل، وهو المفتى به في المذهب المالكي، وإن كان أصل المذهب عندهم أنه لا رجوع بشيء مما أهداه الخاطب ولو كان الرجوع من جهتها، وهذا التفصيل يتمثل فيما يلي :

·      اعتبار العرف أو الشرط إن وجد: فإن كان هناك عرف أو شرط بالرد وعدمه يعمل به.

·      إن لم يكن هناك شرط ولا عرف: ينظر إلى الجهة المتضررة بالعدول عن الخطبة :

·  إن كان العدول من الخاطب: لا يجوز له الرجوع في شيء من هداياه، لأنه أضرها بعدوله عن خطبتها، فلا يجمع عليها الضررين جميعا.

·  إن كان العدول من جهتها: وجب عليها رد ما أخذته بعينه إن كان قائماً أو مثله أو قيمته إن كان هالكاً، وذلك لأنه لا وجه لها في أخذه بعد مضرته بفسخ خطبته، وأن ما قدمه لها لا يمكن اعتباره هبة مطلقة، بل هو هبة مقيدة بغرض، وهو طلبه الزواج منها ،فانه لولا الخطبة الموصلة لزواج ما قدم لها شيئاً، فإذا لم يتحقق الزواج لم يتحقق الغرض الذي من أجله قدم الهدايا.

الترجيح:

يظهر من خلال الأقوال المعروضة رجحان رأي المالكية المفتى به في المسألة لمراعاته نفي الضرر عن كلا الطرفين.

 

 



([1])  لسان العرب: 1/360، مختار الصحاح: 76.

([2])  المنتقى، ج3، ص264، الخرشي،ج3، ص167، نهاية المحتاج، ج6،ص201.

([3])  حاشية البجيرمي عل الخطيب، ج3 ،ص407.

([4])  البخاري :2/752 ،مسلم:2/1029 ،الموطأ:2/523.

([5])  المغني:7/63.

([6])  البخاري :4/1920 ،مسلم :2/1040 ،الموطأ :2/526، الترمذي :3/421.

([7])  أبو داود :2/239 ،سنن البيهقي الكبرى:7/147.

([8])  عون المعبود:6/111.

([9])  المغني:7/63، المنتقى، ج3، ص264.

([10])  عون المعبود:6/111.

([11])  حاشيتا قليوبي وعميرة، ج3، ص214.

([12])  بدائع الصنائع ،ج3، ص204.

([13])  أسنى المطالب، ج3 ،ص115، حاشية البجيرمي على المنهاج، ج3، 330، الأم،ج5، ص39.

([14])  هذا كله في غير صاحب العدة الذي يحل له نكاحها فيها , أما هو فيحل له التعريض والتصريح , وأما من لا يحل له نكاحه فيها كما لو طلقها الثالثة أو رجعيا فوطئها أجنبي بشبهة في العدة فحملت منه , فإن عدة الحمل تقدم , فلا يحل لصاحب عدة الشبهة أن يخطبها ; لأنه لا يجوز له العقد عليها حينئذ.

([15])  حاشية البجيرمي على المنهاج، ج3، 330،  المدونة ،ج2، ص20، المنتقى، ج3،ص265.

([16])  المنتقى، ج3،ص265.

([17])  انظر:  منار السبيل: 2/132، المغني:7/111، المهذب: 2/47، إعانة الطالبين: 3/268، حاشية البجيرمي: 3/330، مواهب الجليل:3/411، شرح النووي على مسلم: 9/197، 10/158، المحلى:10/34، نيل الأوطار: 6/235.

([18])  البخاري: 2/752 مسلم: 2/1032، ابن حبان: 9/359، الدارميك 2/181، البيهقيك 7/180، أحمد: 2/122.

([19])  التمهيد :13/19.

([20])  البيهقي: 5/344، الموطأ: 2/683.

([21])  شرح النووي على مسلم:9/179.

([22])  وزاد الشافعية في شروط التحريم , أن تكون إجابة الخاطب الأول صراحة , وخطبته جائزة أي غير محرمة , وأن يكون الخاطب الثاني عالما بحرمة الخطبة على الخطبة. وقال الحنابلة: إن إجابة الخاطب الأول تعريضا تكفي لتحريم الخطبة على خطبته ولا يشترط التصريح بالإجابة.

([23])  المحلى:10/34.

([24])  المشهور عن مالك وأكثر أصحابه أن فسخ العقد حينئذ مستحب لا واجب.

([25])  البخاري: 5/1954، البيهقي: 7/161.

([26])  نيل الأوطار:6/234.

([27])  النسائي: 3/286، ابن حبان: 7/212، البيهقي: 7/131، أحمد: 6/317.

([28])  يجوز عند الحنفية الخطبة حال الإحرام.

([29])  مسلم: 2/1030، ابن خزيمة: 4/183، ابن حبان: 9/436، الترمذي: 3/199.

([30])  صحيح ابن حبان :1/173، سنن ابن ماجة:1/610، المعجم الكبير:19/72، وقد اختلف في وصله وإرساله فرجح النسائي والدارقطني الإرسال، انظر: التلخيص الحبير:3/151.

([31])  السنن الكبرى:3/321، المجتبى:6/89.

([32])  حاشية الدسوقي ،ج2، ص217.

([33])  المغني، ج7 ،ص5300.

([34])  حاشية الدسوقي ،ج2، ص217.