المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: آثار حل عصمة الزوجية |
الناشر: دار الكتاب الحديث |
الفهرس
نتناول في هذا الفصل حقا من حقوق المطلقة
ورد الاهتمام به في القرآن الكريم بحيث ذكر في ثلاث آيات من القرآن الكريم، وهو
عدد كثيرمقارنة بعدد الآيات المخصصة لأحكام الأسرة، وهذه الآيات هي قوله تعالى:﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ
فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾
(البقرة:236)، وقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا
فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:49) وقوله
تعالى:﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:241)
فلذلك نرى أن هذا الباب من أهم
الأبواب التي يمكن الدخول منها لحفظ حقوق المطلقة، ولسد التلاعب بالطلاق.
وانطلاقا من هذا سيكون بحثنا في هذا
الفصل القصير.
لغة: سبق التعريف اللغوي عند الحديث
عن زواج المتعة.
اصطلاحا: من التعاريف
التي عرفت بها متعة الطلاق:
· هي
ما يعطيه الزوج , ولو عبدا لزوجته المطلقة زيادة على الصداق لجبر خاطرها[1].
· هي
مال يجب على الزوج دفعه لامرأته لمفارقته إياها بشروط[2].
اختلف الفقهاء في حق المطلقة في
المتعة على قولين[3]:
القول الأول: أنها ليست
واجبة لها، وقد روي عن فقهاء المدينة السبعة[4]، وهو قول ابن أبي ليلى , وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ,
ومالك.
وقد نص مالك كما في المدونة على رأيه
في المتعة، ودليله عليها، فقد جاء فيها: (قلت: أرأيت المتعة في قول مالك أهي لكل
مطلقة ؟ قال: نعم , إلا التي سمى لها صداقا فطلقها قبل أن يدخل بها فلا متعة لها،
وكذلك قال لي مالك وهذه التي استثنيت في القرآن كما ذكرت لك. قلت: أرأيت هذه التي
طلقها زوجها قبل أن يدخل بها ولم يفرض لها صداقا لم لا يجبره مالك على المتعة ؟
وقد قال الله تبارك وتعالى في هذه بعينها وجعل لها المتعة فقال: ﴿
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ﴾(البقرة:236)
قال: قال مالك: إنما خفف عندي في المتعة ولم يجبر عليها المطلق في القضاء في رأيي
لأني أسمع الله يقول ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾(البقرة:236) و﴿
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:241) فلذلك خففت ولم يقض بها , وقال
غيره: لأن الزوج إذا كان غير متق فليس عليه شيء , ولا محسن , فلما قيل على المتقي
وعلى المحسن متاعا بالمعروف حقا بالمعروف ولم يكن عاما على غير المحسن ولا غير
المتقي علم أنه مخفف)
وقد حكي في المدونة عن ابن أبي سلمة:
المتاع أمر رغب الله فيه وأمر به ولم ينزل بمنزلة الفرض من النفقة والكسوة، وليس
تعدى عليه الأئمة كما تعدى على الحقوق وهي ﴿ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ
وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ﴾(البقرة:236)
القول الثاني: وجوب المتعة للمطلقة،
وهو قول الجمهور، على اختلاف بينهم في محل الوجوب كما سنرى، ومن الأدلة على ذلك:
· قوله
تعالى:﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا
عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾(البقرة:236)، وقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا
فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:49) وقوله
تعالى:﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:241)، وقد استدل بالآية على وجوب المتعة من الوجوه
التالية:
الوجه الأول: قوله تعالى:﴿
فَمَتِّعُوهُنَّ ﴾(الأحزاب:49) ﴾ لأنه أمر , والأمر يقتضي الوجوب
حتى تقوم الدلالة على الندب.
الوجه الثاني: قوله تعالى:﴿
مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة:236) وليس
في ألفاظ الإيجاب آكد من قوله (حقا عليه).
الوجه الثالث: قوله تعالى:﴿
حقا على المحسنين ﴾ تأكيد لإيجابه ; إذ جعلها من شرط الإحسان , وعلى كل أحد
أن يكون من المحسنين , وكذلك قوله تعالى:﴿ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾
قد دل قوله (حقا عليه) على الوجوب , وقوله تعالى: ﴿ حقا على المتقين ﴾
تأكيد لإيجابها.
الوجه الرابع: قوله تعالى:﴿
فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ (الأحزاب:49) قد دل
على الوجوب من حيث هو أمر. وقوله تعالى: ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:241) يقتضي الوجوب أيضا
; لأنه جعلها لهم , وما كان للإنسان فهو ملكه له المطالبة به , كقولك (هذه الدار
لزيد).
· أن
استدلال المخالفين بأنه لما خص المتقين والمحسنين بالذكر في إيجاب المتعة عليهم ,
دل على أنها غير واجبة وأنها ندب ; لأن الواجبات لا يختلف فيها المتقون والمحسنون
وغيرهم، غير صحيح، وقد ردوا عليه من الوجوه التالية:
الوجه الأول: أنه إنما ذكر
المتقين والمحسنين تأكيدا لوجوبها , وليس تخصيصهم بالذكر نفيا لإيجابها على غيرهم
كما قال تعالى ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة:2) وهو هدى للناس كافة , وقوله تعالى:﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾(البقرة:185) فلم يكن قوله تعالى:﴿
هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:2) موجبا ; لأن لا يكون هدى لغيرهم ; كذلك
قوله تعالى:﴿ حقا على المتقين ﴾ و﴿حقا على المحسنين ﴾
غير ناف أن يكون حقا على غيرهم.
الوجه الثاني: إنا نوجبها
على المتقين والمحسنين بالآية ونوجبها على غيرهم بقوله تعالى:﴿
فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:49) وذلك عام
في الجميع بالاتفاق ; لأن كل من أوجبها من فقهاء الأمصار على المحسنين والمتقين
أوجبها على غيرهم.
الوجه الثالث: أنه يلزم على
قول المخالفين أن لا يجعلها ندبا أيضا ; لأن ما كان ندبا لا يختلف فيه المتقون
وغيرهم , فإذا جاز تخصيص المتقين والمحسنين بالذكر في المندوب إليه من المتعة وهم
وغيرهم فيه سواء , فكذلك جائز تخصيص المحسنين والمتقين بالذكر في الإيجاب ويكونون
هم وغيرهم فيه سواء.
الوجه الرابع: أن كل مسلم
في العالم فهو محسن متق , من المحسنين المتقين، ولو لم يقع اسم محسن , ومتق إلا
على من يحسن ويتقي في كل أفعاله لم يكن في الأرض محسن , ولا متق بعد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - إذ لا بد لكل من
دونه من تقصير , وإساءة لم يكن فيها من المحسنين , ولا من المتقين.
الوجه الخامس: أنه لو حملت
الآية على ما ذكر المخالفين يكون كلام الله تعالى: ﴿ حقا على المحسنين ﴾
﴿ حقا على المتقين ﴾ فارغا ولغوا وباطلا , وهذا لا يحل لأحد أن
يعتقده.
· أن
ما ذكره المخالفون من أن هذه الآية، وهي قوله تعالى:﴿ وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً﴾(البقرة:237) نسخت التي بعدها ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾(البقرة:241)، فإنه لا يصح، قال ابن حزم :(لا يصدق
أحد على إبطال حكم آية منزلة إلا بخبر ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فكيف وليس في الآية التي ذكر شيء يخالف التي زعم أنها نسختها ؟ فكلتاهما حق)
· أن
استدلال المخالفين بعدم تخصيص المتقين والمحسنين في سائر الديون من الصداق وسائر
عقود المداينات عند إيجابها عليهم وخصهم بذلك عند ذكر المتعة , وأن ذلك يدل على
أنها ليست بواجبة غير صحيح من وجهين:
الوجه الأول: أنه إذا كان
لفظ الإيجاب موجودا في الجميع , فالواجب علينا الحكم بمقتضى اللفظ ثم تخصيصه بعض
من أوجب عليه الحق بذكر التقوى , والإحسان إنما هو على وجه التأكيد, ووجوه التأكيد
مختلفة , فمنها ما يكون ذكر بتقييد التقوى والإحسان، ومنها ما يكون بتخصيص لفظ الأداء نحو قوله
تعالى:﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾(النساء:4)
وقوله تعالى:﴿ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي
اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾(البقرة:283) , ومنها
ما يكون بالأمر بالإشهاد عليه , والرهن به ; فكيف يستدل بلفظ التأكيد على نفي
الإيجاب ؟
الوجه الثاني: أن عقد
النكاح لا يخلو من إيجاب البدل إن كان مسمى , فالمسمى وإن لم يكن فيه تسمية فمهر
المثل , ثم كانت حاله إذا كان فيه تسمية أن البضع لا يخلو من استحقاق البدل له مع
ورود الطلاق قبل الدخول , وفارق النكاح بهذا المعنى سائر العقود ; لأن عود المبيع
إلى ملك البائع يوجب سقوط الثمن كله , وسقوط حق الزوج عن بضعها بالطلاق قبل الدخول
لا يخرجه من استحقاق بدل ما وهو نصف المسمى , فوجب أن يكون ذلك حكمه إذا لم تكن
فيه تسمية , والمعنى الجامع بينهما ورود الطلاق قبل الدخول.
وقد اختلف أصحاب هذا القول على
الآراء التالية:
الرأي الأول: وجوب المتعة
لكل المطلقات مطلقا، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب, والحسن , وسعيد بن جبير ,
وأبي قلابة , والزهري , وقتادة , والضحاك , وأبي ثور، وهو رواية عن أحمد[5]، وأبلغ من بالغ في ذلك مذهب الظاهرية، قال ابن حزم :(المتعة فرض
على كل مطلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو آخر ثلاث وطئها أو لم يطأها فرض لها
صداقها أو لم يفرض لها شيئا أن يمتعها, وكذلك المفتدية أيضا ويجبره الحاكم على ذلك
أحب أم كره)، ولا يسقط التمتع عنده عن المطلق
مراجعته إياها في العدة ولا موته ولا موتها، والمتعة لها أو لورثتها، ولم يستثن
إلا من انفسخ نكاحه منها بغير طلاق.
وقد حكى ابن حزم هذا المذهب عن جملة
من السلف لا بأس من ذكر أقوالهم هنا مبتورة عن أسانيدها، فعن إياس بن عامر: أنه
سمع علي بن أبي طالب يقول: لكل مطلقة متعة، وعن الزهري قال: لكل مطلقة متعة، وسئل
ابن شهاب عن المملكة والمخيرة ؟ فقال ابن شهاب: كل مطلقة في الأرض لها متاع، وعن
الزهري , قال: للمختلعة المتعة , التي جمعت , والتي لم تجمع سواء، وعن سعيد بن
جبير قال: لكل مطلقة متعة وتلا قوله
تعالى:﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:241) وعن أبي قلابة , قال: لكل مطلقة متعة، وعن عطاء
قال: لكل امرأة افتلتت نفسها من زوجها فلها المتعة.
ومن الأدلة على ذلك قول الله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:241)، قال ابن
حزم :(فعم عز وجل كل مطلقة ولم يخص وأوجبه لها على كل متق يخاف الله تعالى) [6]
الرأي الثاني: أنها فرض على
المتقين , والمحسنين دون غيرهم، فعن محمد بن سيرين قال: شهدت شريحا وأتوه من متاع
, فقال: لا تأب أن تكون من المتقين؟ قال: إني محتاج قال: لا تأب أن تكون من
المحسنين ؟ قال أيوب: قلت لسعيد بن جبير: لكل مطلقة متاع ؟ قال: نعم , إن كان من
المتقين , إن كان من المحسنين , قال أيوب: وسأل عكرمة رجل فقال: إني طلقت امرأتي
فهل علي متعة ؟ قال: إن كنت من المتقين , فنعم.
واستدلوا علىهذا كما يذكر ابن حزم
بظاهر كلام الله تعالى.
الرأي الثالث: لا تجب
المتعة إلا للتي طلقت قبل أن توطأ , سمي لها الصداق أو لم يسمى، فهذه تجب لها
المتعة فرضا، وقد روي عن ابن عباس قال: إذا فوض إلى الرجل فطلق قبل أن يمس ؟ فليس
لها إلا المتاع، وهو قول سفيان الثوري , والحسن بن حي , والأوزاعي , وأبي حنيفة ,
وأصحابه. إلا أن الأوزاعي قال: لا متعة على عبد. إلا أن أبا حنيفة قال: من تزوج
ولم يذكر مهرا ثم فرض لها مهرا برضاه وبرضاها - وقد فرض لها القاضي مهر المثل - ثم
طلقها قبل أن يدخل بها , فإن ذلك المهر يبطل, ولا يجب لها إلا المتعة[7].
ومن الأدلة على
ذلك قول الله تعالى: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ
مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا
عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾(البقرة:236)
الرأي
الرابع: لكل مطلقة
متعة , إلا التي طلقت قبل أن تمس، من غير تسمية، وقد روي عن أحمد، فظاهر المذهب أن
المتعة لا تجب إلا للمفوضة التي لم يدخل بها إذا طلقت. قال أبو بكر: كل من روى عن
أبي عبد الله فيما أعلم , روى عنه أنه لا يحكم بالمتعة إلا لمن لم يسم لها مهر ,
إلا حنبلا , فإنه روى عن أحمد أن لكل مطلقة متاعا. قال أبو بكر: والعمل عليه عندي
لولا تواتر الروايات عنه بخلافها.
واستدلوا على
ذلك بقوله تعالى:﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا
لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا
عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾(البقرة:236)، ثم قال تعالى:﴿ وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً﴾(البقرة:237) فقد خص الأولى بالمتعة , والثانية بنصف المفروض ,
مع تقسيمه النساء قسمين , وإثباته لكل قسم حكما , فيدل ذلك على اختصاص كل قسم
بحكمه , وهذا يخص ما ذكروه.
قال ابن قدامة
:(ويحتمل أن يحمل الأمر بالمتاع في غير المفوضة على الاستحباب ; لدلالة الآيتين
اللتين ذكرناهما على نفي وجوبها , جمعا بين دلالة الآيات والمعنى , فإنه عوض واجب
في عقد , فإذا سمي فيه عوض صحيح , لم يجب غيره , كسائر عقود المعاوضة , ولأنها لا
تجب لها المتعة قبل الفرقة , ولا ما يقوم مقامها , فلم تجب لها عند الفرقة ,
كالمتوفى عنها زوجها)
فإن
فرض لها بعد العقد , ثم طلقها قبل الدخول،
فلها نصف ما فرض لها , ولا متعة،
قال ابن قدامة: (وهذا وعن أحمد أن لها المتعة , يسقط المهر. وهو قول أبي
حنيفة ; لأنه نكاح عري عن تسميته , فوجبت به المتعة , كما لو لم يفرض لها)
الرأي
الخامس: لكل مطلقة
متعة إلا التي فرض لها، ولم تمس فحسبها نصف الصداق، وهو قول ابن عمر , وعطاء ,
والشعبي , والنخعي , والشافعي , وأبي عبيد.
قال الشافعي في
بيان وجه الدليل على هذا القول :(وهذا يوافق القرآن فيه وقوله فيمن سواها من
المطلقات أن لها متعة يوافق القرآن لقول الله جل ثناؤه ﴿ لَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا
لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾(البقرة:236)
وقال الله جل ذكره ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا
عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:241) قلت: فإنما ذهبنا إلى أن هذا إنما هو لمن
ابتدأ الزوج طلاقه فيها أرأيت المختلعة والمملكة فإن هاتين طلقتا أنفسهما قال:
أليس الزوج ملكها ذلك وملكه التي حلف أن لا تخرج فخرجت وملكه رجلا يطلق امرأته ثم
فرقت بينهن وبين المطلقات في المتعة ثم فرقت بين أنفسهن وكلهن طلقها غير الزوج إلا
أن ابتداء الطلاق الذي به كان من الزوج ؟ فإن قلت: لأن الله إنما ذكر المطلقات
والمطلقات المرأة يطلقها زوجها فإن اختلعت عندك فليس الزوج هو المطلق ،لأنه أدخل
قبل الطلاق شيئا لزمك أن تخالف معنى القرآن لأن الله تعالى يقول: ﴿
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾(البقرة:228)
فإن زعمت أن المملكة والمختلعة ومن سمينا من النساء يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء
مطلقات لأن الطلاق جاء من الزوج إذا قبل الخلع وجعل إليهن الطلاق وإلى غيرهن
فطلقهن فهو المطلق وعليه يحرمن فكذلك المختلعات ومن سمينا منهن مطلقات لهن المتعة
في كتاب الله ثم قول ابن عمر)
الترجيح:
نرى أن الأرجح
في المسألة هو القول بوجوب المتعة للمطلقات مطلقا، وهو ما يدل عليه ظاهر قوله
تعالى:﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة:241)، وحسبنا في إلزام من قالوا بعدم الوجوب
استدلالا بفاصلة الآية ما قاله ابن حزم في الرد عليهم:(ومن عجائب الدنيا احتجاج من
قلده لقولهم هذا بأن الله تعالى إنما أوجبها على المتقين والمحسنين لا على غيرهم ؟
فقلنا لهم: فهبكم صادقين في ذلك , أتوجبونها أنتم على من أوجبها الله تعالى عليه
من المتقين والمحسنين أو لا ؟ فإن قالوا: لا , أقروا بخلافهم لقول الله تعالى ,
وأبطلوا احتجاجهم المذكور , وإن قالوا: نعم , تركوا مذهبهم)
أما متى تجب؟ فنرى رجحان ما ذهب إليه
ابن حزم من وجوبها على كل مطلق، وفي كل نوع من أنواع الطلاق لأن الآيات الواردة في
ذلك لم تستثن شيئا، وفي هذا من المصالح الشرعية ـ زيادة على ما ذكره الفقهاء من
دفع بعض ما يصيب الزوجة من ضرر بسبب الطلاق ـ الردع عن الطلاق خاصة لمن يتلاعب به
فيطلق كما يهوى لاعتقاده بسهولة الرجعة، فإذا علم في حال تطليقه لزوجته بلزوم
تمتيعها لا يطلق إلا طلاق راغب لا طلاق متلاعب أو مهدد.
من تجب عليه المتعة :
اتفق الفقهاء القائلون بوجوب المتعة
على أنها واجبة على كل زوج يستوي في ذلك الحر والعبد , والمسلم والذمي , والحرة
والأمة , والمسلمة والذمية، وحكي عن أبي
حنيفة: لا متعة للذمية، وقال الأوزاعي: إن كان الزوجان أو أحدهما رقيقا , فلا
متعة.
والأرجح أنها واجبة على كل من صدق
عليه اسم الزوج لعموم النصوص، ولأن ما يجب من العوض يستوي فيه المسلم والكافر ,
والحر والعبد , كالمهر.
اختلف الفقهاء في مقدار المتعة على
الأقوال التالية:
القول الأول: أن المتعة
معتبرة بحال الزوج , في يساره وإعساره، فأعلاها خادم , وأدناها كسوة يجوز لها أن
تصلي فيها , إلا أن يشاء هو أن يزيدها , أو تشاء هي أن تنقصه وقد نص عليه أحمد،
وهو وجه للشافعية، ومن الأدلة على ذلك:
·
قول الله
تعالى:﴿ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ
وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ﴾(البقرة:236) وهذا نص في أنها معتبرة بحال
الزوج وأنها تختلف , ولو أجزأ ما يقع عليه الاسم سقط الاختلاف.
·
ولو اعتبر بحال
المرأة لما كان على الموسع قدره وعلى المقتر قدره.
· أن
الكسوة الواجبة بمطلق الشرع تتقدر بذلك , كالكسوة في الكفارة , والسترة في الصلاة،
وروي أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر الكلبية , فحممها بجارية سوداء. يعني
متعها.
وقد اختلف الفقهاء في كيفية تقدير
ذلك على الرأيين التاليين:
الرأي الأول: أن أعلاها
خادم إذا كان موسرا , وإن كان فقيرا متعها كسوتها درعا وخمارا وثوبا تصلي فيه، وهو
قول ابن عباس , والزهري , والحسن قال ابن عباس: أعلى المتعة الخادم ثم دون ذلك
النفقة , ثم دون ذلك الكسوة. ونحو ما ذكرنا في أدناها قال الثوري , والأوزاعي ,
وعطاء , ومالك , وأبو عبيد, وأصحاب الرأي , قالوا: درع وخمار وملحفة.
فإن سمح لها بزيادة على الخادم ,
أو رضيت بأقل من الكسوة , جاز ; لأن الحق
لهما , لا يخرج عنهما , وهو مما يجوز بذله , فجاز ما اتفقا عليه , كالصداق. وقد
روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما , أنه متع امرأة بعشرة آلاف درهم , فقالت:
متاع قليل من حبيب مفارق.
الرأي الثاني: أنه يرجع في
تقديرها إلى الحاكم، وهو أحد قولي الشافعي ورواية عن أحمد; لأنه أمر لم يرد الشرع
بتقديره , وهو مما يحتاج إلى الاجتهاد , فيجب الرجوع فيه إلى الحاكم , كسائر
المجتهدات.
القول الثاني: هو معتبر
بحال الزوجة، وهو وجه للشافعية، لأن المهر معتبر بها, كذلك المتعة القائمة مقامه،
وفي رواية عن أحمد أنها مقدرة بما يصادف نصف مهر المثل ; لأنها بدل عنه فيجب أن تتقدر
به. وهذه الرواية تضعف لوجهين ; أحدهما , أن نص الكتاب يقتضي تقديرها بحال الزوج ,
وتقديرها بنصف مهر المثل يوجب اعتبارها بحال المرأة ; لأن مهرها معتبر بها لا
بزوجها. الثاني , أنا لو قدرناها بنصف المهر لكانت نصف المهر , إذ ليس المهر معينا
في شيء ولا المتعة.
القول الثالث: يجزئ في
المتعة كل ما يقع عليه الاسم , كما يجزئ في الصداق ذلك.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن العبرة بما
تراضى عليه الطرفان مطلقا، وفي حال التنازع فإن الأرجح هو الرأي الثاني لأن الحاكم
هو الذي يفصل في هذه الأمور عند التنازع، والحاكم في هذا يقرر ما لا يتضرر به كلا
الزوجين على تقديم أكثر الطرفين تضررا.