المؤلف: نور الدين أبو
لحية |
العودة للكتاب: رقية الجسد |
الناشر: دار الكتاب الحديث |
من هدي القرآن الكريم
إِذْ يُغَشِّيكُمُ
النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى
قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (الأنفال:11)
وَكُلُوا
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ
بِهِ مُؤْمِنُونَ (المائدة:88)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا
تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْـتَدِينَ (المائدة:87)
فَسَقَى لَهُمَا
ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ
مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (القصص:24)
المقدمة
دخلنا القسم الثاني من أقسام
المستشفى... وقد فوجئت بالحراسة المشددة في هذا القسم، وهوما لم ألحظه في القسم السابق...
أما المعلم، فلم يتنبه له الحرس الواقفون أمام الباب، فلذلك لم يتعرض لأي تفتيش.
أما أنا، فأوقفوني طويلا، يفتشون،
قلت لهم: يا قوم... والله إني لا أحمل سلاحا... ولا أعرفه... فلماذا تفتشوني كل
هذا التفتيش؟
قال أحد الحرس: افتح فمك.
قلت له: ما هذا؟... أتظن أني يمكن أن
أخبئ سلاحا في فمي؟
لم ينتبه لما أقول... بل راح ينظر
إلى فمي مستعملا الإنارة والمكبرات التي يستعملها الأطباء.
قال لي: انصرف... لا بد أن تغسل فمك
أو لا، وتأتي.
اضطررت أن أنفذ ما يقولون مع أني لم أكن
لأغفل عن تنظيفه، ثم عاودت الدخول: فراح ينظر في أنفي... وهكذا ظللت أكثر يومي مع
هؤلاء الحرس المتشددين، أما معلم السلام، فلم يتدخل، بل تركهم يعملون ما شاءوا،
ويدققون في تفتيشهم ما يحلو لهم.
بعد انتهاء التفتيش دخلت مع المعلم
إلى هذا القسم، لم أتجاسر أن أسأله عن تلك الشدة التي لاقاني بها الحرس، فقد خشيت
أن يسمعني أحدهم، فلهم من الأجهزة المتطورة ما أقنعني بأنني تحت حراسة مشددة.
قال لي المعلم: هذا هو القسم الذي يحصن فيه الجسد.
قلت: ولماذا وضعوا فيه هؤلاء الحرس
الأشداء؟
قال: لا... ليسوا أشداء... بل هم
أنصح لك من أبيك وأمك.
قلت: ولكنهم قساة.
قال: هي قسوة مملوءة برحمة، وشدة
مكتنفة بلطف.
قلت: أتقصد ما قال الشاعر:
قسا
ليزدجروا ومن يك راحما فليقسوأحيانا
على من يرحم
قال: هو ذاك...
قلت: فلا خير في رحمة تضرني...
ومرحبا بقسوة تنفعني.
التفت إليهم مبتسما، وأنا أقول:
جزاكم الله خيرا... لقد أسأت فهمكم.
لم يلتفتوا إلي، بل ظلوا منشغلين
بمعاينة وتفتيش كل داخل، لا يفرقون في ذلك بين وجيه ووضيع.
قلت للمعلم: لم كان هذ القسم تاليا
للقسم السابق؟
قال: أجبني: عندم عاينت القسم
السابق، بماذا حدثتك نفسك؟
قلت: سأصدقك... لم أمر بقسم من
الأقسام إلا تمنيت المكث فيه... بل تمنيت أن أدفن في ثراه... فمع أن العلة لا تزال
تنخر في جسمي إلا أن الراحة التي كنت أشم عطرها في تلك الأقسام جعلتني أنسى كل
علة، وأشعر بكل قوة، وأستغني عن كل دواء.
قال: فهذا القسم يدعوك إلى الفرار...
قلت: إلى الفرار من تلك الأحوال
الربانية التي عشتها... بل لم أعش مثلها.
قال: لا... الفرار من بلاء الله إلى
عافية الله.
قلت: ولكن ما أجمل البلاء الذي يجر
إلى مثل تلك العافية والسعادة التي عشتها.
قال: نعم... إن رحمة الله تدرك
المبتلى، وهي تدرك كذلك المعافى، ألم تسع رحمته كل شيء؟
قلت: بلى...
قال: فهي تشمل الجميع إذن.
قلت: فما دامت تشمل الجميع، لماذا
نفر من البلاء؟
قال: لأن الأصل هو العافية... والبلاء عارض.
قلت: كيف هذا... وأنا أرى في واقعي
البلاء أصلا والعافية عارضا.
قال: ذلك لأنكم تنشغلون برؤية البلاء
عن رؤية العافية... فينسخ أحدكم القناطير المقنطرة من العافية بالدرهم الواحد من
البلاء.
***
بينما نحن في حديثنا هذا مر علينا رجل يلبس ثياب
الممرضين ينادي في الجموع:( سلوالله العافية... سلوالله العافية)
قلت للمعلم: من هذا؟
قال: هذا الممرض مكلف بهذه المهمة...
فهو يحذر من التعرض للبلاء... ويدعوإلى سؤال العافية.
قلت: ولم يشغل نفسه بهذا؟... فلا أظن
الناس محتاجين لمن يذكرهم بهذا.
قال: هو يحيي سنة من سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم
- بذلك.
ضحكت، وقلت: أقوله هذا سنة... هو لا
يأمرهم بإعفاء اللحية، ولا بتقصير القميص.
قال: أجل... ألم يكن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يحض أمته على طلب العافية؟
قلت: بلى، فقد كان يقول:(سلوا الله العافية، فما أعطى أحد
أفضل من العافية إلا اليقين)[1]
قال: وقد عاد r رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ فقال له رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -:( هل كنت تدعوبشيء أو تسأله إياه) قال:( نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به
في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( سبحان
الله لا تطيقه، ولا تستطيعه، فهلا قلت:) رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ((البقرة:
من الآية201)، قال: فدعا اللّه فشفاه[2].
وقال على t مرة أمام رسول الله r:( اللهم إنى أسألك الصبر)، فقال r:( لقد سألت الله البلاء
فسله العافية)[3]
قلت: ألهذا ـ إذن ـ كان r يستعيذ فى دعائه من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة،
وكان من دعائه r:( اللهم إنى أعوذ بك من
ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة)
قال: نعم... ولكن هذا بشرط تحقق
الشكر، كما قال الحسن t:( الخير الذى لا شر فيه العافية مع الشكر، فكم من منعم عليه غير شاكر)،
وقال مطرف بن عبد الله:( لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر)
قلت: لم ورد في النصوص الحث على طلب
العافية... ولم لم يترك الأمر لله ليختار لعبده ما يشاء؟
قال: إن سؤالنا العافية من الله أدب
مع الله وتعظيم لله.
قلت: كيف هذا؟... أليست العبودية هي أن نسكن لمجريات الأقدار... فلا
نتدخل فيها؟
قال: أليس من رحمة الله بنا أن
يبتلينا لنرجع إليه؟
قلت: بلى.
قال: فكيف نرجع إليه؟
قلت: نتوب.
قال: وهل تحدثنا نفوسنا، ونحن نرجع
إلى الله بطلب عافية الله؟
قلت: لا أكتمك بأن ذلك طبع.
قال: فهل هو طبع طيب أم طبع خبيث؟
قلت: هو طبع وكفى... وقد يكون طيبا وقد يكون خبيثا.
قال: لا... هو طبع طيب... فالله لم تعالى لم يخلقنا إلا
طيبين... أجبني: هل من أسماء الله الحسنى التي أمرنا بإحصائها اسم المبتلي؟
قلت: لا... فأنا أحفظها جميعا بحمد
الله.
قال: فعدها.
قلت: هو الله... الرحمن الرحيم...
قال: حسبك... فطلب العافية طلب من
الرحمن الرحيم... وتحقق بعبودية الرحمن الرحيم.
قلت: أطلب العافية عبودية؟
قال: أرأيت لوكنت في بحر عميق، وغرقت
فيه... وكان بجانبك منقذ ماهر في السباحة... ألا تمد يداك إليه لينقذك؟
قلت: مجنون أنا إن لم أفعل؟
قال: أرأيت لوقلت: لا أمد يدي إليه،
بل أترك البحر يلتهمني.
قلت: في ذلك الحين إما أن أكون
مجنونا، وإما أن أكون متكبرا.
قال: المجنون لا يفعل هذا... بل
يفعله المتكبر... فلذلك كان طلبك العافية من الله... وتذلك بين يديه عبودية لله لا
تختلف عن أي عبودية.
قلت: لكني قرأت في سير الصالحين من
يمتلئون بالحب إلى درجة سؤال الله البلاء.
قال: كمال ديننا نستلهمه من الله،
ومن رسول الله... أما الصالحون ففيهم العارفون، وفيهم السالكون، وهم يمرون بمراحل
في سلوكهم وبمواجيد قد توحي لهم بما يقولون... ألا تعرف سمنون؟
قلت: إي والله... سمنون المحب... ومن
لا يعرفه، لقد كان ورده في كل يوم وليلة خمسمائة ركعة، وهوالقائل:
كان
لي قلب أعيش بـه ضاع
مني في تقلـبـه
رب
فاردده علي فقـد ضاق
صدري في تطلبه
وأغث
ما دام بي رمـق يا
غياث المستغيث بـه
وهوالقائل:
وكان
فؤادي خالي قبـل حـبـكم وكان بذكر الخلق يلهـوويمـرح
فلما
دعا قلبي هو اك أجـابـه فلست أراه عـن فـنـائك يبـرح
رميت
ببين منك ان كنت كاذبا وإن كنت في
الدنيا بغـيرك افـرح
وإن
كان شيء في البلاد بأسرها إذا غبت عن
عيني لعينـي يمـلـح
فان
شئت واصلني وان شئت لا تصل فلست ارى قلبي
لغيرك يصـلـح
وهوالقائل:
تركت
الفؤاد علـيلا يعـاد وشردت نومي
فما لي رقاد
وهو...
قال: لم أقصد أن تروي أشعاره.
قلت: لم يكن شاعرا بل كان محبا...
ولم تكن أشعاره سوى زفرات من قلبه الذي امتلأ عشقا.
قال: فقد دعاه حاله ومواجيده لأن
يقول:
وليس
لي في سواك حظ فكيفما شئت فاختبرنى
قلت: الله !... أي حب هذا؟! ... لقد دعته ثقته بحبه لله لأن
يقول هذا.
قال: ولكن الله تعالى ابتلاه بعلة
تدعوه إلى السنة.
قلت: كيف هذا؟
قال: لقد ابتلي بعلة الحصر.
قلت: إنها علة خطيرة، فماذا فعل؟
قال: كان بعد ذلك يدور على أبواب
المكاتب، ويقول للصبيان:( ادعوا لعمكم الكذاب)
***
قلت: يا معلم... لا يزال ذهني
مضطربا، فكيف نجمع بين ما مر من نصوص تكاد ترغب في البلاء، وبين ما سقت من
نصوص؟... ألا تلاحظ أن هناك تناقضا صارخا؟
قال: معاذ الله... كتاب الله ) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(
(فصلت:42)... التعارض في أذهانكم المشوشة التي تمتلئ بالصراع.
قلت: فكيف ننفي عنها الصراع، ونملؤها
بالسلام؟
قال: ألم تسمع قوله - صلى الله عليه
وسلم -:( أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتم
فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب،
وهازم الأحزاب اهزمهم، وانصرنا عليهم)[4]
قلت: بلى.
قال: فقد نهى - صلى الله عليه وسلم -
عن تمني لقاء العدو، وأمر في نفس الوقت بالصبر حين لقائهم، حتى لا يولي أحد دبره
قائلا: لقد نهينا عن لقاء العدو.
قلت: فهذا الحديث فرق البلاء قبل
نزوله وبعد نزوله.
قال: أجل... فأمر بالصبر على البلاء
إن نزل، ونهى عن طلبه إذا لم ينزل.
قلت: فهمت هذا... فالموقف من البلاء
إذن هو نفس الموقف من لقاء العدو.
قال:
وهل العدو إلا بلاء من البلاء؟
قلت:
هذا مثال جيد نفى التعارض بإنزال كل حالة محلها الخاص بها.
قال:
سأزيدك ما يزيدك طمأنينة... ألم ينه - صلى الله عليه وسلم - عن تمني الموت.
قلت: بلى، فقد قال - صلى الله عليه
وسلم -:( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنياً فليقل: اللهم
أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)[5]
قال: فلهذا يحمل ما ورد من نصوص تدل على محبة الموت أو الرغبة
فيه على هذا المعنى المحكم.
قلت:
تقصد قوله - صلى الله عليه وسلم - في دعائه:(
اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أردت في
الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون)[6]
قال:
أجل، ومثل ذلك قول عمر t:( اللهم قد ضعفت قوتي، وكبرت سني
وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مقصر)[7]، فما جاوز ذلك
الشهر حتى قبض t.
قلت:
لقد ذكرتني بحكمة لابن عطاء الله يقول فيها:( إرادتُكَ التجريدَ مع إقامةِ الله إِيَّاكَ في الأسباب من
الشَّهوة الخفيةِ، وإرادتُكَ الأسبابَ مع إقامةِ الله إِيَّاكَ في التجريد انحطاطٌ
عن الهِمَّةِ العَلَيَّةِ)
قال:
صدق الحكيم، فما أدخلك الله فيه تولى إعانتك عليه، وما دخلت فيه بنفسك وكلك
إليه... ألم يأمرنا الله تعالى بأن نقول:) وَقُلْ رَبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً((الاسراء:80)؟
قلت: بلى.
قال: فالمدخل الصدق أن تدخل فيه بالله، والمخرج الصدق أن تخرج
بالله.
***
قلت: يا معلم... لا يزال ذهني
مضطربا، فكيف يطلب منا أن نفر من البلاء، والله تعالى يقول:) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ
الْمَوْتِ أو الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً(
(الأحزاب:16)
وقد ذم الله قوما تعللوا بأسباب
واهية ليفروا من البلاء، فقال تعالى:) وَإِذْ قَالَتْ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ
وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً((الأحزاب:13)
وذم الفارين من الزحف، وهم إنما
يفرون اتقاء لجراح تصيبهم أو قتل يفتك بهم، فقال تعالى:) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ
أو مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ((لأنفال:16)
قال: إن الله تعالى، مع مطالبته لنا
بحفظ أجسادنا وقوانا، إلا أنه طلب منا كذلك أن نبيعها له، فقال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(
(الصف:10 ـ 11)
قلت: ما معنى بيع أجسادنا لله؟
قال: بأن نبذلها لله في حال الحاجة
إلى ذلك، فنضحي بهذه الأجساد من أجل غاية سامية، أو خدمة نبيلة.
قلت: اضرب لي مثلا على ذلك يقرب لي
هذا المعنى.
قال: مثل ذلك مثل شخص يعتني بسيارته
صيانة وتنظيفا، لا حرصا عليها، وبخلا بها، وإنما لتكون في خدمته أو خدمة نبله
ومروءته متى احتاج إلى ذلك.
قلت: ألهذا طلب الله تعالى منا أن
نعتني بقوانا لنبذلها في سبيله بأي صورة من صور البذل، فقال تعالى:) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُواللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ((لأنفال:
من الآية60)؟
قال: وبذلك يكون الفرار من البلاء
وأسباب البلاء نوعا من أنواع الجهاد في سبيل الله، لأن مطيتنا لطاعة الله هي هذه
الأجساد، فإن أهلكناها من غير حاجة تدعو إلى ذلك كان ذلك تلف لرأس مالنا.
قلت: ولهذا ـ إذن ـ فضل - صلى الله
عليه وسلم - المؤمن القوي على المؤمن الضعيف، فقال - صلى الله عليه وسلم -:(
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)[8]
قال: أجل... بل هذا ما نطق به القرآن
الكريم، فالله تعالى يقول على لساني إحدى ابنتي الشيخ الصالح: ) يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ( (القصص:26)
وعندما قال سليمان u
للملأ حوله مختبرا قواهم:)
يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي
مُسْلِمِينَ((النمل:38) وقال )
الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ
إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ
رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ((النمل:40)حمد
سليمان u الله تعالى لأن القوة التي تكون للمؤمن والصالح فضل عظيم من فضل
الله، وفضل الله يحافظ عليه، ولا يعبث به.
قلت: فكل هذه النصوص تدعونا لحفظ
قوانا.
قال: لا بأن تحبسوها في قفص ذهبي،
وتحرصوا عليها حرص البخلاء.
قلت: فماذا نفعل بها؟
قال: تبذلوها للحق، وللمروءة،
والنبل... وهل الجهاد في سبيل الله إلا قمة الفتوة والمروءة !؟
قلت: ألهذا إذن استثار الله تعالى الهمم بقوله:) وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا
وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً((النساء:75)
قال:
وبقوله:) أَلا
تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ
وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أولَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ((التوبة:13)
***
رأيت في مدخل هذا القسم أربع قاعات
جميلة بشكل قلاع متينة، سألت المعلم عنها، فقال: هذه حصون هذا القسم... ألا تستدعي
الوقاية التحصن؟
قلت: بلى... ولكن أي أعداء يتربصون
بهذا القسم حتى يحتاجون إلى هذه الحصون؟
قال: الأعداء يتربصون بالإنسان...
وهذه الحصون تعلم كيفية مواجهة هؤلاء الأعداء.
قلت: فهمت هذا... ولكن لم كانت بشكل
حصون؟
قال: لتذكر الداخل بضرورة التحصن... وما
كان لها أن تعلم التحصن، وهي غير محصنة.
قلت: فالحراسة فيها مشددة إذن؟
قال: أكثر مما تتصور.
قلت: فما الحصن الأول منها؟
قال: حصن الاستقامة.
قلت: فمما يحمي هذا الحصن؟
قال: هذا حصن الاحتماء من الأمراض
التي يفرزها السلوك المنحرف.
قلت: وما علاقة الانحراف السلوكي
بانحراف الصحة؟
قال: لأن الانحراف هو السبب الأكبر في كل بلاء يحدث، وأنة ترتفع...
ألم تسمع قوله تعالى:) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ(
(الذريات:50)
قلت: فما الحصن الثاني؟
قال: حصن الوقاية.
قلت: فمما يحمي هذا الحصن؟
قال: هذا حصن الوقاية، والابتعاد عن
أسباب العلل، والحفاظ على أمانة الجسد التي أو دعها الله الإنسان، وعلى أمانة
الوسط الذي يعيشه، وإلى هذا الركن يشير قوله - صلى الله عليه وسلم -:( فر من
المجذوم فرارك من الأسد)[9]
قلت: فما الحصن الثالث؟
قال: حصن القوة.
قلت: فما حصن القوة؟
قال: هو الحصن الذي يتم فيه تدريب قوى الجسم ليخافها
البلاء، أو لتقاوم البلاء.
قلت: فما الحصن الرابع؟
قال: هذا حصن التواصل.
قلت: فما حصن التواصل؟
قال: لقد عرف أهل هذا المستشفى أهمية
التواصل مع العالم الذي وجد فيه الإنسان، فلذلك اهتم بحفظ هذا التواصل وتقويته...
فأنشا له قسما خاصا.
قلت: أتقسيم هذه الحصون اجتهاد
اجتهده أهل هذا المستشفى.
قال: هو اجتهاد باركته النصوص.
قلت: كيف تباركه النصوص؟
قال: كل اجتهاد أشارت إليه النصوص
امتلأ بركة وخيرا.
قلت: فما النصوص التي أشارت إلى هذا؟
قال: لقد أشار - صلى الله عليه وسلم
- إلى هذه الحصون الأربعة عند ذكره لأدب من آداب النوم، باعتبار النوم محلا للغفلة
التي يتحينها الأعداء.
قلت: آداب النوم كثيرة... فما
هو الأدب الذي جمع هذه الحصون؟
قال: قوله - صلى الله عليه وسلم -:( إذا
قام أحدكم عن فراشه ثم رجع إليه فلينفضه بصنفة إزاره ثلاث مرات، فإنه لا يدري ما
خلفه عليه بعده، وإذا اضطجع فليقل:( باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت
نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما يحفظ به عبادك الصالحين)، فإذا استيقظ
فليقل:( الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد علي روحي، وأذن لي بذكره)[10]
قلت: أهذا الحديث يشمل الحصون
الأربعة؟
قال: أجل... أما لحصن الأول، فيدل
عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في دعاء النوم:( وإن أرسلتها فاحفظها بما يحفظ
به عبادك الصالحين) ففي ذكره للصالحين دليل على أن الله يحفظ عباده باستقامتهم
وسلوكهم سبيله.
ويشير إليه أيضا قوله - صلى الله
عليه وسلم - في دعاء الاستيقاظ:( الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد علي روحي،
وأذن لي بذكره)، وهودليل على شعور قائله بنعمة الله عليه، بل التفاته إلى هذه
النعم وانشغاله بذكر الله، وهوما يقيه كل الأمراض السلوكية الناتجة عن الغفلة، وعن
عدم رؤية نعم الله.
قلت: والثاني؟
قال: يدل عليه قوله - صلى الله عليه
وسلم -:( إذا قام أحدكم عن فراشه ثم رجع إليه فلينفضه بصنفة إزاره ثلاث مرات، فإنه
لا يدري ما خلفه عليه بعده)، فهواحتماء حسي ظاهر، واحتياط شرعي له تأثيره في الحفظ
والحماية.
قلت: والثالث؟
قال: هو النوم نفسه... أليس النوم سببا من أسباب القوة،
وركنا من أركانها.
قلت: كيف هذا؟
قال: ألم ينزل الله النوم على أهل
بدر ليستعدوا للمعركة بأجساد قوية؟
قلت: بلى، فقد قال تعالى:) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ
رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ
الْأَقْدَامَ((لأنفال:11)
قال: فقد جعل الله تعالى النوم سببا
من أسباب ربط القلوب.
قلت: والرابع؟
قال: قوله - صلى الله عليه وسلم -:(
وأذن لي بذكره) فذكر الله اتصال بالله، واستخدام لأدوات الاتصال.
قلت: فهمت هذا... ولكني أرى أعداء
كثيرين يتربصون بالإنسان؟
قال: ويمكنك أن تتحصن منهم بهذه
الحصون الأربع.
قلت: كيف هذا؟
قال: لأن العدوإما أن يكون داخليا أو
خارجيا، فإن كان خارجيا، فإما أن يكون ظاهرا أو خفيا.
أما العدوالداخلي، فهوالأمراض
النفسية الناتجة عن السلوك المنحرف، وأما العدوالخارجي الظاهر فهومسببات الأمراض
من الجراثيم والفيروسات والحوادث وغيرها.
أما العدوالخارجي الخفي، فمنه ما
نعرفه كالشياطين، ومنه ما نجهله وأمرنا بالاستعاذة منه.
قلت: فهل ندخل هذه الحصون الأربعة...
أم نكتفي بما عرفنا عنها؟
قال: لا مناص لنا من الدخول... فكل
من دخل هذا القسم تلزمه إدارة المستشفى بالتحصن بهذه الحصون.
قلت: لم أعلم أن حفظ الصحة إجباري.
قال: مدائن السلام تحرص على حفظ صحة
رعيتها أكثر من حرصكم على جمع الضرائب.
قلت: مدنيتنا تستفيد من الضرائب في
حفظ العمران.
قال: ومدائن السلام تستفيد من صحة
الرعية في حفظ الإنسان.