الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: أكوان الله

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

رابعا ـ الكون المقروء

1 ـ الفناء

2 ـ البقاء

3 ـ القراءة

4 ـ اليقين

 

رابعا ـ الكون المقروء

لا يحزننك ـ يا من سمعت تسابيح الموجودات ـ ما يفخر به من يصارعون الكون، ويصارعون معه رب الكون، من رحلتهم إلى القمر، أو تجولهم في الفضاء، أو ما يحلمون به من رقي في الكواكب، أو ما يوهمون به أنفسهم من غزو للفضاء.

فهؤلاء رحلوا من كون إلى كون، رحلوا من تراب الأرض ليقعوا على تراب القمر، وتخلصوا من جاذبية الأرض لتحتضنهم جاذبية القمر.

أما أنت ـ يا من تفقه أسرار الكون ـ فلا ينبغي أن تحزن، بل افخر، فرحلتك من الكون إلى المكون، قال ابن عطاء الله:( لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى يسير والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون:) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى( (النجم:42)

ولذلك يعتبر العارفون سكون الإنسان للأشياء وعدم عبوره منها وقوفا، بل سقوطا، فعن القاسم بن عبد الله البزار قال سمعت سري بن المغلس يقول:( لو أن رجلا دخل إلى بستان فيه من جميع ما خلق الله تعالى من الأشجار، عليها من جميع ما خلق الله تعالى من الأطيار، فخاطبه كل طائر منها بلغته، وقال: السلام عليك يا ولي الله، فسكنت نفسه إلى ذلك كان في يدها أسيرا)

وهي رحلة العارفين، فلذلك ينظرون إلى الكون المسبح قبل أن ينظروا إلى الكون المسخر، فيجتهدون في تفقه أسرار تسابيحه، قال الغزالي:( فإذن جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان العارف يتبوأ منه حيث يشاء من غير حاجة إلى أن يتحرّك إليها بجسمه وشخصه، فهو من مطالعة جمال الملكوت في جنة عرضها السموات والأرض. وكل عارف فله مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلاً، إلا أنهم يتفاوتون في سعة منتزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظرهم وسعة معارفهم، وهم درجات عند الله ولا يدخل في الحِصر تفاوت درجاتهم)[1]

وهذا الرحيل هو سنة رسول الله r، روى ابن عباس t أنه بات عند نبي الله r ذات ليلة فقام نبي الله r من الليل، فخرج فنظر إلى السماء، ثم تلا هذه الآية التي في آل عمران:) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190) إلى آخر السورة. ثم قال: (اللهم اجعل في قلبي نُورا، وفي سَمْعي نورا، وفي بَصَري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، ومن بين يَدَيّ نورا، ومن خَلْفي نورا، ومن فَوْقي نورا، ومن تحتي نورا، وأعْظِم لي نورا يوم القيامة)[2]

وأخبر r عن بعض الحجب التي تحول دون تأمل خلق الله، فقال r:(  انتهيت إلى السماء السابعة، فنظرت فإذا أنا فوقي برعد وصواعق، ثم أتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فقلت:( من هؤلاء؟) قال:( هؤلاء أكلة الربا) فلما نزلت وانتهيت إلى سماء الدنيا فإذا أنا برهج ودخان وأصوات فقلت:( من هؤلاء؟) قال:( الشياطين يحرفون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأت العجائب)[3] 

وسنتجول في هذا الفصل مع العارفين في بعض جنان الملكوت، لنعيش بعض أشواقهم، ونذوق من بعض شرابهم، فكرمهم يمنعهم من أن يحرمونا أن نذوق بعض فضلات كؤوسهم.

ونحن نقر في بداية هذا الفصل صعوبة الكلام في هذا الباب من نواح متعددة، منها ما له علاقة بالذوق، ومنها ما له علاقة بالتعبير، ومنها ما له علاقة بالعقل، ومنها ما له علاقة بأولئك المترصدين لكل كلمة ليحكموا من خلالها بالكفر أو البدعة[4].

ولذلك سنحاول أن نبسط الكلام في الموضوع بقدر الطاقة، ونحاول أن نلتمس من التعابير ما لا يثير أحدا من الناس.

1 ـ الفناء

أول خطوة يبدأ بها السالكون طريق المعرفة هي إعدام رؤية الكون الذي يتوهمونه، والذي لا حقيقة وجودية له.

فلا حقيقة للكون القائم بذاته، أو الذي يستمد وجوده من ذاته، كما يستمد تدبيره من ذاته.

وهذا الإعدام يعبرون عنه بالفناء [5] عن رؤية الأكوان، ويعرفونه بأنه ( اضمحلال ما دون الحق)، فيضمحل عن القلب والشهود.

قال الغزالي عند ذكره لمراتب السالكين في التوحيد:( الرابعة أن لا يرى في الوجود إِلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين، وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد؛ لأنه من حيث لا يرى إِلا واحداً، فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً في التوحيد، كان فانياً عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق)[6]

ويقول ابن القيم شارحا هذا الحال: ( وإن لم تكن ذاته فانية في الحال مضمحلة، فتغيب صور الموجودات في شهود العبد، بحيث تكون كأنها دخلت في العدم، كما كانت قبل أن توجد، ويبقى الحق تعالى ذو الجلال والإكرام وحده في قلب الشاهد، كما كان وحده قبل إيجاد العوالم)[7]

وهذا الفناء مرحلة من مراحل السير، أو هو لمعة تلمع في ذهن العارف ووعيه بعد المكابدة والتأمل، ليعود بعدها إلى الكون الحقيقي، وهو الكون المؤسس بنور الله، والموجود بإبداع الله، ليقرأه باسم الله.

فالعارف لا يحتقر الكون بإعدامه، وإنما يرفعه بأن يلبسه لباس العبودية والتوجه إلى الله.

وكما أن أي لا بس يحتاج لخلع ثوبه القديم ليلبس الجديد، فكذلك العارف يفني الكون القديم، أو لباس الكون القديم، وهو لباس لا اسم له، ليلبسه لباس الانتماء إلى الله.

ولذلك لا يوجد من يحترم الكون كاحترام العارفين، ولا يوجد من ينسب الكون إلى مصدره كما ينسبه العارفون، فهم لا يقصرون الشرك على الاعتقاد بوجود الند لله، بل يعتبرون من الشرك أو أساس الشرك نسبة الوجود الذاتي للأشياء.

وعلى هذا المعنى اتفق العارفون، وقد جمع ابن عطاء الله كل أقوالهم في ذلك بعبارة مختصرة فقال:( الأكوان ثابتة بإثباته، وممحوة بأحدية ذاته)

فالأكوان ـ كما يراها العارفون، وكما هي في حقيقة الحال ـ عدم محض من حيث ذاتها، وما ثبوتها إلا بإثباته تعالى وإيجاده لها وظهوره فيها.

وهم يستشهدون لهذا المعنى بالمعنى الإشاري المبثوث في ثنايا قوله تعالى:) كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه)(القصص: من الآية88))، فيفهمون منها أن كل ممكن هو باعتبار ذاته هالك، أو هو عدم محض ونفي صرف، وإنما له الوجود من جهة ربه، فهو هالك باعتبار ذاته، موجود بوجه ربه، أي أن وجوده قاصر على جهة ربه.

وربما سياق الآية قد يفيد هذا المعنى، فهو قد ورد في أثناء الدعوة إلى توحيد الله في الدعاء والعبادة، ليقول من جهة لا تتخذ أي ند تدعوه من دون الله فسيأتي اليوم الذي يهلك فيه، فلا يبقى شيء غير الله، وقد تفيد ما يريده خالعو لباس الكون المعدوم من نفي الوجود الذاتي، فلذلك يكون من دعا غير الله، متوجها بالدعاء إلى الوهم، قال  تعالى:﴿  وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص:88)

ولا تنافي بين المعنيين، ولا تصادم بينهما، ولا يلغي أحدهما الآخر[8]، بل إن المعنى الأول مؤسس على المعنى الثاني.

وهكذا يفهم العارفون من كل النصوص الواردة في إثبات وحدانية الحق أو أحديته أو أحقيته:

وقد كان النبي r إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال من ضمن دعاء التهجد:( أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق) [9]

ففي قوله r:( أنت الحق) أي واجب الوجود؛ فأصله من حق الشيء أي ثبت ووجب، فوجود الله هو الوجود الحقيقي إذ وجوده لنفسه، لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم؛ وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم، ويجوز عليه لحاق العدم، ووجوده من موجده لا من نفسه، فهو معدوم باعتبار ذاته في كل الأحوال، كما قال العارف:

الله قل وذر الوجود وما حوى      إن كنت مرتاداً بلوغ كمال

فالكل دون الله أن حققته       عدم على التفصيل  والإجمال

واعلم بأنك  والعوالم  كلها     لولاه في محو وفي  اضمحلال

من لا وجود لذاته  من  ذاته       فوجوده   لولاه عين  محال

والعارفون بربهم لم  يشهدوا شيئاً      سوى   المتكبر   المتعال

ورأوا سواه على الحقيقة هالكاً      في الحال والماضي والاستقبال

وعبر الآخر عن انشغال العارف بالله عن الكون بقوله:

شغل المحب عن الهواء بسره في حب من خلق الهواء وسخره

والعارفون عقولهم معقولة عن كل كون ترتضيه مطهره

فهم لديه مكرمون وفي الورى  أحوالهم مجهولة ومستره

وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر، كما ورد في الحديث كلمة لبيد[10]: ألا كل شيء ما خلا الله باطل[11].

* * *

 والقرآن الكريم يدلنا على التأمل ومعايشة هذه المعاني من خلال ذكره لمبدأ خلقه الأشياء، وكأنه يردنا إلى عدمها الأصلي، ليصاحبنا معناه في تعاملنا معها، فلا نعطيها من الوجود فوق ما تستحقه:

وقد قال تعالى عن مبدأ الإنسان:)  هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (الانسان:1)

وأخبر تعالى أن الغفلة عن أولية الإنسان هي السبب في جحوده وكبريائه، فقال تعالى:﴿  وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يّـس:78)، ولهذا صحح له هذا الجهل بقوله تعالى:﴿  قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يّـس:79)

ومثلما جاءت الآيات الكثيرة تبين أولية الإنسان لتدل على أنه ليس قائما بذاته، بل هو قائم بقيومية الله، جاء الحديث عن خلق الأشياء جميعا، بل جاء الحث على السير في الأرض لاكتشاف مبدأ الخلق، ومن ثم اكتشاف أنها مخلوقة وليست قائمة بذاتها، قال تعالى:﴿  قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت:20)

وقد كان رسول الله r يعلم الصحابة ـ رضي الله عنهم  ـ مبدأ خلق الأشياء ليربي في نفوسهم هذه المعاني، فعن عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ أن النبى r قال: يا بنى تميم اقبلوا البشرى قالوا قد بشرتنا فإعطنا فأقبل على أهل اليمن فقال: يا اهل اليمن اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم فقالوا: قد قبلنا يا رسول الله قالوا جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر فقال: كان الله ولم يكن شيء قبله[12] وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض وفي لفظ ثم خلق السموات والأرض ثم جاءنى رجل فقال: أدرك ناقتك فذهبت فإذا السراب ينقطع دونها فوالله لوددت أنى تركتها ولم أقم [13].

ومن هذا الباب جاءت أسماء الله تعالى التي نص عليها قوله تعالى:﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحديد:3)

فالتأمل في المعاني العميقة التي تحملها هذه الأسماء يلبس الأشياء جميعا ثوب العدم، ليبقى الحق وحده هو المتفرد بالوجودالحقيقي.

يقول سيد قطب مبينا عمق المعاني التي تدل عليها هذه الأسماء الحسنى:( وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض، حتى تطالعه حقيقة أخرى، لعلها أضخم وأقوى. حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة. فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه ؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء، عليمة بكل شيء ) هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم

ويقول عن المعاني التي يستشعرها، وهو يعيش في ظلال هذه الأسماء:( الأول فليس قبله شيء. والآخر فليس بعده شيء. والظاهر فليس فوقه شيء. والباطن فليس دونه شيء.. الأول والآخر مستغرقا كل حقيقة الزمان، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان. وهما مطلقتان. ويتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله. وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه. حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله. فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده. وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته. وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود)[14]  

وقد عبر القرآن الكريم ـ كذلك ـ عن هذا المعنى باسم الله ( الأحد) في قوله تعالى:﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الاخلاص:1)، وهو اسم عظيم يحوي ـ مع التأمل ـ الكثير من الدلالات، ولهذا لما خشي رسول الله r أن لا يقدر حق قدره ـ كما قد لا تقدر المعاني الواردة في السورة حق قدرها ـ ذكر أن هذه السورة ـ التي تحوي هذه الحقيقة الجليلة ـ والتي نتوهمها صغيرة تعدل ثلث القرآن كما روي عن أبي سعد، أن رجلا سمع رجلا يقرأ:)  قل هو الله أحد يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي  r فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالها - فقال النبي  r:(  والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن)[15] 

ولهذا كان بلال t في رمضاء مكة في بداية الإسلام يصيح بها في نشوة عظيمة، وقد فني عن كل العذاب المحيط به:( أحد أحد)

ولا غرابة في كل هذا ـ كما يقول سيد قطب ـ ( فإن الأحدية التي أمر رسول الله r أن يعلنها: قل هو الله أحد .  هذه الأحدية عقيدة للضمير، وتفسير للوجود، ومنهج للحياة)[16] 

ولهذا ـ خلاف ما قد نتصور ـ فإن غاية رسالة رسول الله r لم تكن الدعوة والتربية على معنى التوحيد الذي ينفي الشريك فقط، وإنما الدعوة والتربية على معنى الأحدية الذي ينفي الوجود الذاتي لغير الله.

وعلى كليهما تقوم حياة المؤمن، ومن كليهما يستمد العارف.

وقد شرح سيد قطب بتعبيره الجميل المعاني التي يعيشها العارف، وهو في ظلال هذا الاسم الجليل، فقال:( إنها أحدية الوجود.. فليس هناك حقيقة إلا حقيقته. وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده. وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية)[17] 

وهذه الحقيقة هي التي تتأسس عليها كل حقائق المعرفة والسلوك، وهي النهاية التي ينتهي إليها سلوك العارف ليبدأ بها استمداده، فهو ما دام ينظر إلى الوجود نظرة الشريك الذي يزاحم ربه في وجوده، لا يستمد من هذا الوجود غير الجهل والتشتت، لكنه إن خلع عنه هذا الوجود المشرك، وحلاه بحلية الأحدية، فإن الوجود كله يصبح عيونا تفيض بالمعارف على قلبه.

ولهذالا يفهم العارفون من قول ( لا إله إلا الله) ما يفهمه الكثير من قصر معناها على ( لا معبود بحق إلا الله)، بل يفهمون ذلك، ومعه يفهمون أن ( لا موجود بحق إلا الله)

* * *

 ولم يخالف أحد من العلماء في صحة هذه المعاني التي يتحدث عنها العارفون[18].

فهي معان شرعية تدل عليها النصوص الكثيرة، بل يدل عليها العقل، ويستطعمها الذوق.

والرمي لأجل هذا بالبدعة والضلال لا دليل عليه، ولا مبرر له.

وبما أن بعض الناس ممن يدعون الانتساب إلى ابن القيم أو ابن تيمية يخول لنفسه الحكم بالبدعة والضلالة بسبب هذه المقولات، فإنا سنود رأيهما هنا، لا من باب الجدل الذي نهينا عنه، وإنما من باب الدفاع عن هذين العالمين من أن يقولا ما لم يقولا، والدفاع عن أهل الله وما يرمون به من خلالهما.

تحدث ابن القيم عن الفناء والبقاء في كتبه الكثيرة، ومما قاله في مدارج السالكين عند حديثه عن منزلة الفناء:( الفناء ضد البقاء، والباقي إما باق بنفسه من غير حاجة إلى من يبقيه، بل بقاؤه من لوازم نفسه وهو الله تعالى وحده، وما سواه فبقاؤه ببقاء الرب، وليس له من نفسه بقاء، كما أنه ليس له من نفسه وجود، فإيجاده وإبقاؤه من ربه وخالقه، وإلا فهو ليس له من نفسه إلا العدم، قبل إيجاده والفناء بعد إيجاده)[19] 

ويرفع توهم أن المراد بأن نفسه وذاته اقتضت عدمه وفناءه بقوله:( إنما الفناء أنك إذا نظرت إلى ذاته بقطع النظر عن إيجاد موجده له كان معدوما، وإذا نظرت إليه بعد وجوده مع قطع النظر عن إبقاء موجده له استحال بقاؤه، فإنه إنما يبقى بابقائه كما أنه إنما يوجد بإيجاده فهذا معنى قولنا إنه بنفسه معدوم وفان فافهمه)[20] 

أما ابن تيمية، فتحدث في رسائلة كثيرا عن هذه الحال، وإن كان يعيب عليه نقصه عن الكمال وهو يتفق في ذلك مع كل من تحدث عن هذا الحال..

يقول في مجموع الفتاوى:( الفناء الذي يوجد فى كلام الصوفية يفسر بثلاثة أمور: أحدها فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب والتوكل عليه وعبادته وما يتبع ذلك، فهذا حق صحيح وهو محض التوحيد والإخلاص، وهو فى الحقيقة عبادة القلب وتوكله واستعانته وتألهه وإنابته وتوجهه إلى الله وحده لاشريك له، وما يتبع ذلك من المعارف والأحوال، وليس لأحد خروج عن هذا، وهذا هو القلب السليم الذي قال الله فيه: [إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] (الشعراء:89)، وهو سلامة القلب عن الإعتقادات الفاسدة ومايتبع ذلك.

وهذا الفناء لاينافيه البقاء، بل يجتمع هو والبقاء، فيكون العبد فانيا عن إرادة ما سواه وإن كان شاعرا بالله وبالسوى وترجمته قول (لا إله إلا الله)، وكان النبى r يقول:( لا اله الا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن) وهذا فى الجملة هو أول الدين وآخره.

 الأمر الثانى فناء القلب عن شهود ما سوى الرب، فذاك فناء عن الإرادة، وهذا فناء عن الشهاده، ذاك فناء عن عبادة الغير والتوكل عليه، وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه، فهذا الفناء فيه نقص، فإن شهود الحقائق على ما هي عليه، وهو شهود الرب مدبرا لعباده آمرا بشرائعه أكمل من شهود وجوده أو صفة من صفاته أو اسم من أسمائه، والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك)[21] 

وقال في موضع آخر:(.. وهذا فناء عن ذكر السوى وشهوده وخطوره بالقلب، وهذا حال ناقص يعرض لبعض السالكين، ليس هو الغاية، ولا شرطا في الغاية، بل الغاية الفناء عن عبادة السوى.. وهو حال ابراهيم ومحمد الخليلين ـ صلى الله عليهما وسلم ـ فإنه قد ثبت في الصحاح عن النبي r من غير وجه أنه قال:( إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا)[22].. وحقيقة هذا الفناء هو تحقيق الحنيفية، وهو إخلاص الدين لله وهو أن يفني بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبالحب فيه والبغض فيه عن الحب فيما سواه والبغض فيه، فلا يكون لمخلوق من المخلوقين لا لنفسه ولا لغير نفسه على قلبه شركة مع الله تعالى)[23]

فهذه النصوص وغيرها تدل على أن حال الفناء الذي تحدث عنه أهل الله حال معتبر عند هذين العالمين الجليلين، وأن ما يدعيه من يدعي صحبتهما من الدعاوى لا دليل عليه، وهو محض أحقاد تمتلئ بها النفوس، لا علم معتبر يمكن أن يناقش.

أما ما ذكراه من نقص هذه الحال، فهو صحيح لا شك فيه.. والمتوقف عند هذه الحال والمستلذ لها انقطع به الطريق.. أولم يفهم الغاية منه.. فالخالع للكون الفاني لن يفهم مراد الله من رسائل الكون حتى يعيد لبسه من جديد، باسم الله لا باسمه الذي لا وجود له.

ولكن استنقاص العارفين المتحدثين عن هذه الحال غير صحيح.. ومقارنتهم في ذلك بالسلف الصالح من الصحابة وغيرهم، واعتبار كلامهم بدعة بسبب ذلك أبعد عن الصواب.

ذلك أن الكلام في هذه المسألة يشبه الكلام في التفسير والفقه.. وغيرها من علوم الشريعة.

فكلام المفسر في تفسير غريب القرآن ربما يكون بدعة لم يخض فيها السلف، لا لكونها بدعة، ولكن لكون ذلك الغريب كان مشهورا غير غريب عندهم.

والكلام في دقائق الفقه، وتقسيمه إلى سنن وفرائض وموانع وأسباب .. وغير ذلك بدعة بالنسبة لفقهاء الصحابة.. فلم تدعهم الحاجة في وقتهم إلى مثل هذه المصطلحات.

وهكذا الأمر في هذا الباب..

فأهل الله الذين اختصوا بالبحث في هذا الجانب.. ودرسوا الأحوال التي يمر بها السالك في رحلته إلى الله لاحظوا هذه المرحلة الخطيرة والمهمة.. فلذلك تحدثوا عنها بصنوف من الأحاديث..

منها ما يرغب فيها، ويعتبرها قمة من قمم السلوك.. وهو صحيح.. لأن من وصل إليها بدأ البداية الصحيحة.. والبداية الصحيحة لابد أن توصل إلى النهاية الصحيحة.

وليس ذلك نقصا.. وليس القيام بأداء ظواهر العبودية أكمل من هذا..

ذلك أن تلك الظواهر قد يقوم بها من لا حال له، بل من لا إيمان له.

أما كلام العارفين فهو في أحوال الباطن، وهي أحوال دقيقة تستدعي تفاصيل دقيقة كتلك التفاصيل التي يتحدث فيها الفقهاء عن دقائق الفقه، ما يقع منها وما لا يقع.. ولم يقل أحد من الناس أن كلام الفقهاء في هذا قصور عن درجة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ

ولكن العارفين مع هذا ينبهون إلى السالكين إلى عدم الوقوف مع أي حال، وهم يرددون لهم في كل حين قوله تعالى: [وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنْتَهَى] {النَّجم:42}

* * *

قد يقال بعد هذا: فما الذي يميز العارفين؟

ولماذا لا يستوون مع سائر المؤمنين في النظر إلى الكون؟

ولماذا تمتلئ الكتب بهذه المعاني الواضحة الصحيحة؟

والجواب عن ذلك: أن هذا العلم يتحول عند العارفين إلى معرفة، فالعالم يدرك الشيء، والعارف يذوقه ويعايشه.

وعندما يعيش العارف أو السالك هذه المشاعر النبيلة، فإن وديان البلاغة تفيض من لسانه لتعبر عن تلك المشاعر..وهذا سر تلك الكنوز العظيمة التي خلفها أولياء الله.

2 ـ البقاء

بعد أن يخلع العارف لباس الكون المعدوم، والذي كان حجابه الحائل بينه وبين عبادة ربه ومعرفته، يعود إلى الكون المنتسب إلى الله، والدال على الله، والمعرف بالله.

فالعارفون جميعا متفقون على أن حالة الفناء التي يمر بها السالك ـ والتي تعبر عن حقيقة عقدية، وذق عرفاني ـ هي بداية المعرفة لا نهايتها، فإن الفناء هو مقدمة ما يسمونه بالبقاء.

فالباقي بالله، والذي يرى الأكون، ويصاحبها في الله أكمل من الذي فني عن الأكوان

وفي ذلك يقول ابن عطاء الله يعبر عن الحالين:( صاحب الحقيقة غاب عن الخلق بشهود الملك الحق، وفني عن الأسباب بشهود مسبب الأسباب، فهو عبد مواجه بالحقيقة، ظاهر عليه سناها سالك للطريقة قد استولى على مداها، غير أنه غريق الأنوار مطموس الآثار قد غلب سكره على صحوه وجمعه على فرقه وفناؤه على بقائه وغيبته على حضوره)

فهذه هي حال الفاني الذي شغله الله عن كل شيء، وهي حال شريفة، وصاحبها من الخواص، لكنه وإن كان كاملاً بالنسبة لأهل الغفلة ناقص بالنسبة لخواص الخواص الذين جمعوا بين الأمرين وهم أهل المعرفة.

فلذا قال ابن عطاء الله معقبا على أوصاف الفاني:( غير أنه غريق الأنوار) قد غرق في بحار التوحيد والأحدية ( مطموس الآثار) قد طمست بصيرته عن النظر إلى الآثار والعبيد، ( قد غلب سكره) وعدم إحساسه بالآثار على صحوه وهو إحساسه بها، وهو رؤية الحق وحده على فرقه، وهو رؤية الحق  والخلق، فهو في مقام الجمع لا في مقام الفرق.

أما الباقي، فحاله أكمل، قال ابن عطاء الله بعد ذكره لحال الفاني:( وأكمل منه عبد شرب فازداد صحواً، وغاب فازداد حضوراً، فلا جمعه يحجبه عن فرقه ولا فرقه يحجبه عن جمعه، ولا فناؤه عن بقائه ولا بقاؤه يصده عن فنائه، يعطي كل ذي قسط قسطه ويوفي كل ذي حق حقه)

فهذا العارف الباقي بربه قد جمع بين المزيتين، ( فباطنه مكمل بالحقيقة، وظاهره مجمل بالشريعة، فيشكر الخلق والحق لا يغيب عن  الحق في حال مخالطة الخلق، ليعطي كل ذي قسط قسطه)

ويضرب العارفون لهذا بمثل أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وعائشة ـ رضي الله عنها ـ بعد حادثة الإفك، فقد قال أبو بكر الصديق لعائشة لما نزلت براءتها من الإفك على لسان رسول الله r:( يا عائشة، اشكري رسول الله r فقالت:( والله لا أشكر إلا الله)، فقد دلها أبو بكر على البقاء المقتضي لإثبات الأشياء، بينما كانت هي في مقام الجمع فانية عن شاهدها[24].

فأبو بكر رضي الله عنه في هذه الحادثة كان يطل من مشكاة قوله تعالى:﴿  أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ، ومن باب قوله r:(  لا يشكر الله من لا يشكر  الناس) [25] أما عائشة، فقد كانت مغمورة في بحار المنة، فنسيت شكر الواسطة.

وقد جمع ابن عطاء الله حال السالكين والواصلين في قوله:( من عرف الحق شهده في كل شيء، ومن فني به غاب عن كل شيء)

فالعارف في حال البقاء يرى الخلق والحق، فيرى الحق تعالى ظاهراً في كل الأشياء وقائماً بها، مع عدم غيبته عن نفسه وحسه، بخلاف الفاني عن نفسه وعن الأكوان، فإنه لا يرى في الوجود ظاهراً إلا الله تعالى، ويغيب عن كل شيء سواه حتى عن نفسه وحسه.

والعارفون يشيرون بالبقاء، الذي هو العودة إلى الكون إلى استيقاظ الفاني من حال الفناء والاصطلام.. إلى حال الصحو والتحقيق، وهي مراتب قد يمر ببعضها السالك، وقد يتجاوزها إلى مقامات أرفع وأعلى من غير أن يمر عليها.

ويعبرون بها عن بقاء الكون بالله، فالبقاء هو الدوام، واستمرار الوجود.

3 ـ القراءة

بعد أن يمحى الكون اللاموجود ـ المؤسس على الوهم ـ في ذهن العارف ووجدانه، ثم يعود من جديد بخلعة أخرى، هي خلعة الانتساب لله، فيعود له البقاء باسم الله، يتحول إلى كتاب يقرؤه العارف ليرى من خلاله صفات ربه وكمالاته.

فالكون المقروء هو المرحلة الثالثة من علاقة العارفين بالكون، أو هو المرحلة الأولى للعرفان.

فالعارف هو الذي لديه القدرة على حل رموز الكون، أو هو الخبير الذي لديه المفاتيح التي يفك بها الشيفرة التي يختزنها الكون، أو هو صاحب البصيرة الذي يرى ما يخبأ بين سطور الكون.

ولهذا أول كان ما أمر به رسول الله r، بل ما أمرت به أمته ـ كما يشير العارفون ـ هو أن تعاد قراءة الكون باسم الله، كما قال تعالى:﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1)، فالآية تحتمل من حيث الإشارة أن يكون اسم الموصول مفعولا به، ويصير المعنى حينئذ ( اقرأ باسم ربك الأشياء التي خلقها)

والقرآن الكريم مليئ بهذا المعنى مما قد لا يحوجنا إلى هذا المعنى الإشاري الذي يفهمه العارفون، بل فيه الدلالة على كيفية قراءة الكون باسم الله.

فالله تعالى يأمرنا بقراء الرحمة الإلهية من خلال حياة الأرض بعد موتها، قال تعالى:﴿  فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)(الروم: من الآية50)

ويأمرنا بالاستبشار تفاؤلا بفضل الله، وفرحا بالله، وتنسما لرحمة الله عند هبوب الرياح التي يرسلها الله، قال تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (لأعراف:57)

ويعلمنا أن نقرأ لطف الله وخبرته المحيطة بكل شي من خلال حروف الماء الساقطة على الأرض المخضرة، قال تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (الحج:63)

ويعلمنا أن نقرأ علم الله وقدرته من خلال السطور المبثوثة في تقلب الزمان بأعمارنا، قال:) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (النحل:70)

ويرينا قوة الله القاهرة، وقدرته الشاملة باستعراض تفاصيل دقيق المكونات وجليلها:

فالسموات التي ننبهر لضخامتها لا تعدو أن تكون شيئا حقيرا جدا أمام عظمة الله، قال تعالى:﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67)

والقرآن الكريم يرشدنا من خلال هذه الآية إلى أن سبب الجهل بقدر الله هو عدم قراءة الكون باسم الله، فهؤلاء نظروا إلى عظم السموات والأرض غافلين عن خالقهما.

وليس من الغريب لهذا أن تحوي سيدة آي القرآن الكريم[26] الحديث عن خلق الله لتستتدل بها على الله، قال تعالى:﴿  اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255)

فالآية الكريمة تدلنا على طريق العبور من السموات والأرض إلى الحي القيوم، لأنه لا يكون هذا الإبداع العظيم في هذا الخلق العظيم إلا بحياة المبدع وقيوميته، فالتوازن والتكامل والبقاء في المخلوقات دليل قيام خالقها بها.

ويروى في هذا حديث ضعفه العلماء، ونحن هنا نرويه كأثر عن بني إسرائيل من باب التمثيل لا من باب الحقيقة، وهو أن أحد الأنبياء وقع في نفسه ( هل ينام الله جل ثناؤه)، فأرسل الله إليه ملكا، فأرقه ثلاثا، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما، فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فينحي أحديهما عن الأخرى، حتى نام نومة فاصطفقت يداه، فانكسرت القارورتان[27].

فكان في هذا شاهدا على أنه تعالى لو كان ينام لم تمتسك السماء والأرض.

ومن هذه الأبواب التي يفتحها لنا القرآن الكريم للتعرف على الله من خلال كتاب الكون ما ورد فيه من استدلالات على البعث، فهي ـ عند التأمل ـ أدلة على الله أكثر من دلالتها على البعث.

وهي تدل على الله قبل البعث، لأن الأساس الذي أوقع الدهريين والمنكرين للبعث هو اعتقادهم بالاستحالة العقلية لعودة العظم الرميم للحياة، كما قال تعالى ضاربا المثل ببعضهم:﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يّـس:78)

والقرآن الكريم ـ لينفي هذه الشبهة، ويرفع هذا الالتباس ـ لا يتكلف كلاما عقليا جافا كالكلام الذي يتعمده الفلاسفة، بل يكتفي بأمرنا برفع أبصارنا وحواسنا للنظر إلى الأرض الخاشعة كيف تتحول بالماء الرباني إلى جنة من جنان الحياة، قال تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (فصلت:39)، وقال تعالى:﴿ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) (الزخرف:11)، وقال تعالى:﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) (فاطر:9)

أو يرشدهم إلى استعادة تذكر ما سبق من النشأة الأولى، قال تعالى:﴿  قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يّـس:79)

ويخاطب الذين قالوا ـ مغترين بما لديهم من المعارف ـ:﴿ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)(الاسراء: من الآية49)، بأمرهم بأن يتحولوا إلى أي شيء شاءوا مما يتعتقدون قوته:﴿ قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾(الاسراء: 50-51)، فإذا بقيت حيرتهم حينها ويقولون:) مَن يُعِيدُنَا ﴾، فإن الجواب القرآني يكتفي بتذكيرهم بالنظر إلى مبدأ خلقهم، قال تعالى:﴿  قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾

وحينذاك يبدل هؤلاء الغافلون عن كنوز المعارف المخبأة في السموات والأرض الموضوع، فيسألون عن موعد ما لا يؤمنون به،وكأن عدم تحديد الموعد هو الدليل على ما ينكونه، قال تعالى:﴿  فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً ﴾(الاسراء:51)

أما صعوبة تحقيق ذلك، فالقرآن الكريم يدل عليه بالنظر في السموات والأرض، فيستدل بالقدرة على النشأة الثانية بقدرته تعالى على النشأة الأولى، قال تعالى:﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (يّـس:81)

فكل شيء يسير على الله، والكون كله يدل على ذلك اليسر، قال تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (العنكبوت:19)، وقال تعالى:﴿ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (قّ:15)

ويرد على غلاظ القلوب من بني إسرائيل الذي صورت لهم عقولهم الغارقة في أوحال المادة أن الله ـ تعالى عما يقولون ـ يلحقه العياء، فرد عليهم تعالى في قوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الاحقاف:33)

وهذه النظرة العرفانية لسطور المكونات تكسبها من الجمال ما لا يكسبها أي وصف بشري، فلا مقارنة بين من يرى ذات الزهرة التي سرعان ما تذبل، فيحزن لذبولها بقدر ما سره تفتحها، وبين من يرى في ابتسام الزهرة لطف الله ورحمته وجماله.

وقد ذكر النورسي الفرق في آثار النظرة العرفانية والناظرة الغافلة للكون بقوله:( ثم إن الإيمان أراني بفضل أسرار القرآن الكريم أراني أحوال الدنيا وأوضاعها المنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفلة، لا تتدحرج هكذا في غياهب العدم - كما ظنّ في بادئ الأمر - بل إنها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للأسماء السبحانية قد أتمّت مهامها، وأفادت معانيها، وأخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين)[28]

وشبه عبور المؤمن للكون الحسي الذي يستوي في النظر إليه العارف والغافل، بالنظر إلى المرآة، فهي من حيث أنها زجاجة، نرى مادتها الزجاجية، وتكون الصورة المتمثلة فيها شيئا ثانويا، بينما إن كان القصد من النظر الى المرآة رؤية الصورة المتمثلة فيها، فالصورة تتوضح أمامنا بينما يبقى زجاج المرآة أمراً ثانوياً.

وقد وضع اصطلاحين لذلك، ليوضح من خلالها النظرة القرآنية العرفانية للكون، استفادهما من اصطلاحات النحويين هما ( المعنى الاسمي للكون، والمعنى الحرفي له، فالاسم ما دل على معنى في نفسه، أما الحرف فهو الذي: دلّ على معنى في غيره.

والنظرة القرآنية الإيمانية إلى الموجودات تجعلها جميعا حروفاً، تعبّر عن معنى في غيرها، وهذا المعنى هو تجليات الاسماء الحسنى والصفات الجليلة للخالق العظيم المتجلية على الموجودات.

وكما أن الكون من حيث صورته المادية يحتوي على عناصر محددة تتكون منها جميع أشكال الموجودات، ويسمون الجدول الذي يحوي هذه العناصر بالجدول الدوري، فبمثل ذلك يتحدث العارفون عما يمكن تسميته بالجدول الأسمائي للكون.

وهذا الجدول يستخلص صفات الله من خلال أشكال المكونات وأنواع واختلاف تدبيرها، وقد شرح النورسي بعض ما يرتبط بهذا الجدول بقوله:( إن في كل شئ وجوهاً كثيرة جداً متوجهة - كالنوافذ - الى الله سبحانه وتعالى، بمضمون الآية الكريمة ) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾)(الاسراء: من الآية44) إذ أن حقائق الموجودات وحقيقة الكائنات تستند إلى الاسماء الإلهية الحسنى، فحقيقة كل شئ تستند الى اسم من الاسماء أو إلى كثير من الاسماء. وأن الاتقان الموجود في الأشياء يستند إلى اسم من الأسماء) [29]

ويضرب بعض الأمثلة على ذلك بالعلوم المادية التي تنقلب بهذه النظرة إلى علوم روحية، فعلم الحكمة الحقيقي يستند إلى اسم الله (الحكيم)، وعلم الطب يستند إلى اسم الله (الشافي)، وعلم الهندسة يستند إلى اسم الله (المقدّر)، وهكذا كل العلوم تستند الى الأسماء الحسنى تبدأ منها، وتنتهي إليها.

ولهذا اتفق العارفون على أن حقائق الأشياء، إنما هي الأسماء الإلهية الحسنى، أما ماهية الاشياء فهي ظلال تلك الحقائق..

قال ابن وفا معبرا عن هذه النظرة العرفانية:

هو الحق المحيط بكل شئ          هو الرحمن ذو العرش المجيد

هو النور المبين بغير شك           هو الرب المحجب في العبيد

هو المشهود في الإشهاد يبدو      فيخفيه الشهود عن الشهيد

هو العين العيان لكل غيب       هو المقصود من بيت القصيد

جميع العالمين له ظلال            سجود في القريب وفي العبيد

وهذا القدر في التحقيق كاف   فكف النفس عن طلب المزيد

وقال الشيخ عبد السلام بن مشيش مخاطباً مريده الشيخ أبا الحسن الشاذلي في وصية له:( حدد بصر الإيمان تجد الله تعالى في كل شيء، وعند كل شئ، وقبل كل شئ، وبعد كل شئ، وفوق كل شئ، وتحت كل شيء، قريباً من كل شئ، ومحيطاً بكل شئ، بقرب هو وصفه، وبحيطة هي نعته، وعد عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة والقرب في المسافات، وعن الدور بالمخلوقات، وامحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو هو.. كان الله ولا شئ معه، وهو الآن على ما عليه كان)

وتشبيهنا القراءة الأسمائية للكون بالجدول الدوري للعناصر تشبيه من حيث الأسس التي يقوم عليها كليهما، فالكون من حيث تركيبه يتركب من تلك العناصر، ومن حيث أسسه يقوم على تلك الأسماء.

أما من حيث الكم والمحدودية، فالفرق كبير بينهما، فعناصر الكون المادية محدودة، ولكن حقائق الأسماء الحسنى المستندة للمكونات غير محدودة، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى:﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان:27) فلو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً، وجعل البحر مداداً وأمد بسبعة أبحر معه، فكتبت بها كلمات اللّه الدالة على عظمته وصفاته وجلاله، لتكسرت الأقلام ونفذ ماء البحر، ولو جاء أمثالها مدداً.

ولم تذكر السبعة من باب الحصر، وكيف يحصر ما لا نهاية له، بل ذكرت على وجه المبالغة، كما قال تعالى:﴿  قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109)

ولهذا يختلف العارفون المستمدون من بحار الكون في قراءة حروف الكون بحسب أحوالهم ومراتبهم، فما يدفع هذا إلى الرجاء قد يدفع الآخر إلى الخوف، لأن كل واحد منهم يلاحظ في كل حين ما لا يلاحظ الآخر، بل يلاحظ في الأوقات المختلفة المعارف المختلفة.

وكمثال على تقريب ذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ ما نقرؤه نحن من رؤية الدموع، فقد تعبر عن الفرح، وقد تعبر عن الحزن، وقد تعبر عن الخشوع الذي دعا إليه الرجاء، وقد تعبر عن الخشوع الذي دعا إليه الخوف.. وقد تعبر عن أشياء كثيرة لا يمكن حصرها[30].

ويشير إلى هذا المعنى ما أخبر به رسول الله r من أحوال القيامة وأهوالها، حيث ( يجمع اللّه الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون)

في ذلك الموقف يقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه مما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟

فيبدأون بآدم u، فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.

فيذهبون إلى نوح u، فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك اللّه عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله قط، وإنه قد كان لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم.

وهكذا يذهبون إلى إبراهيم u، فيقول:( إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، فذكر كذباته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى)

فيقول موسى u :( إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى)

فيقول عيسى u:( إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمداً r)

فيأتون محمداً r، فيقولون: يا محمد أنت رسول اللّه وخاتم الأنبياء، وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟

قال r في بيان ما يفعل ذلك اليوم:( فأقوم فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عزَّ وجلَّ، ثم يفتح اللّه علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه، واشفه تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب؟ فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى)[31] 

ففي هذا الحديث إشارات جليلة إلى القراءات المختلفة لأفعال الله، فبينما اقتصر نظر الأنبياء عليهم السلام ـ مع جلالتهم ـ في ذلك الحين ومع تلك الأهوال على النظر إلى غضب الله عرف رسول الله r أن ذلك الغضب يحمل معاني الرحمة الأزلية، فقرأ رحمة الله من خلال مظاهر الغضب، كما نقرأ رحمة الله بالغيث مع دوي الرعد.

وفي قوله r:( ثم يفتح اللّه علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي) دليل على عدم انحصار المعارف الإلهية.

وقد كانت هذه المعارف هي الحادي الذي حدا بيعقوب u إلى الطمأنينة لأمر الله، قال تعالى في حكاية ما كان يقوله لهم قبل رجوع يوسف u:)  أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(يوسف: من الآية96)

ويروي المفسرون عن حنة امرأة عمران، أنها كانت امرأة لا تحمل، فرأت يوماً طائراً يزق فرخه، فاشتهت الولد فدعت اللّه تعالى أن يهبها ولداً، فاستجاب اللّه دعاءها.

فكانت قراءتها لرحمة الله التي وهبت ذلك الطائر فرخه هي السر الذي ألهمها أن تدعو الله.

وكأن الله تعالى يبين من خلال المكونات قدراته المختلفة ووجوه تدبيره، لنفتقر إليه كما يفتقر إليه كل شيء.

فالتجليات التي تحملها المكونات لا نهاية لها، وكل واحد يقرأ بحسب استعداده ومرتبته وهمته، وسنذكر هنا بعض قراءات العارفين، ولكن قبل ذلك، وللاستشهاد على بعض ما تحمله المكونات من حقائق الأسماء الحسنى، نستشهد بذلك العارف بالله الذي آوته الجبال والغابات أياما طويلة من عمره الإمام بديع الزمان النوسي، الذي جعل من رسائل النور مفاتيح لقراءة حروف الكون.

فقد ذكر أنه يمكن مشاهدة آثار تجلي عشرين اسماً من الأسماء على ظاهر كل ذي حياة فحسب، ولتقريب هذه الحقيقة الدقيقة والعظيمة الواسعة، استشهد بالمثال التالي، والذي نتصرف فيه من باب مراعاة الاختصار بعض التصرف.

فذكر أنه لو أراد فنان بارع في التصوير والنحت، رسم صورة زهرة فائقة الجمال، أو نحت تمثال بديع، فإنه يبدأ أول ما يبدأ بتعيين بعض خطوط الشكل العام لهما، وهذا التعيين يتم بتنظيم، ويعمله بتقدير يستند فيه إلى علم الهندسة، فيعيّن الحدود وفقه بعلمٍ وبحكمة، لذا تحكُم معاني العلم والحكمة وراءَ التنظيم والتحديد.

ثم إن تلك الاعضاء التي عُيّنت وفق العلم والحكمة أخذت صيغة الصنعة المتقنة والعناية الدقيقة، لذا تحكمُ معاني الصنع والعناية وراء العلم والحكمة.

وقابلية الحسن والزينة في الظهور يدل على أن الذي يحرك الصنعة والعناية هو إرادة التجميل والتحسين وقصد التزيين، فهما إذن يحكمان من وراء الصنعة والعناية.

وعندما يبدأ الفنان بإضفاء حالة التبسم لتمثاله، وشرع بمنح أوضاع حياتية لصورة الزهرة، يكون قد بدأ بفعلَي التزيين والتنوير، ويحركهما معنيا اللطف والكرم.

وهكذا.. يحرك معاني الكرم واللطف، وما وراءهما معاني التودد والتعرف، أي تعريف نفسه بمهارته وفنه، وتحبيبها الى الآخرين.

وهذا التعريف والتحبيب آتيان من الميل إلى الرحمة وإرادة النعمة.

ومعاني الترحم والتحنن هذه، لا يسوقهما الى الظهور لدى ذلك المستغنى عن الناس، غير ما في ذاته من جمال معنوي وكمال معنوي يريدان الظهور، فأجمل ما في ذلك الجمال، وهو المحبة، وألذ ما فيه وهو الرحمة، كل منها يريد إراءة نفسه بمرآة الصنعة، ويريد رؤية نفسه بعيون المشتاقين.

فالجمال والكمال محبوب لذاته، ( يحب نفسه أكثر من أي شئ آخر، حيث أنه حُسن وعشق في الوقت نفسه، فاتحاد الحسن والعشق آتٍ من هذه النقطة.. ولما كان الجمال يحب نفسه، فلابد أنه يريد رؤية نفسه في المرايا، فالنعم الموضوعة على التمثال، والثمرات اللطيفة المعلقة على الصورة، تحمل لمعةً براقة من ذلك الجمال المعنوي - كل حسب قابليته - فتُظهر تلك اللمعات الساطعة نفسها الى صاحب الجمال، والى الآخرين معاً)[32]

فعلى منوال هذا المثال الذي أورده بديع الزمان تتم قراءة العارف للكون، وللأسماء الحسنى التي تتجلى في مرآته، قال النورسي:( وعلى غرار هذا المثال الذي ينظم الصانع الحكيم ـ ولله المثل الاعلى ـ الجنة والدنيا والسموات والارض والنباتات والحيوانات والجن والانس والملك والروحانيات، أي بتعبير موجز ينظم سبحانه جميع الأشياء كليّها وجزئيها.. ينظمها جميعاً بتجليات أسمائه الحسنى ويعطي لكل منها مقداراً معيناً حتى يجعله يستقرىء اسم:المقدر، المنظم، المصور) [33] 

ففي النظر إلى زهرة واحدة جميلة صحائف كثيرة جداً من صحائف التعرف على الله:

فصحيفة هيئة الشئ التي تبين شكله العام ومقداره، تلهج باسماء: يا مصور يا مقدر يا منظم.

وصحيفة صور الاعضاء المتباينة المنكشفة ضمن تلك الهيئة البسيطة للزهرة، أسماء كثيرة أمثال: العليم، الحكيم.

وصحيفة إضفاء الحسن والزينة على الأعضاء المتباينة بأنماط متنوعة من الحسن والزينة تكتب في تلك الصحيفة أسماء كثيرة من امثال: الصانع، البارئ.

وصحيفة الزينة والحسن البديع الموهوبان لتلك الزهرة تقرأ اسماء كثيرة امثال: يا لطيف. يا كريم.

وصحيفة تعليق ثمرات لذيذة على تلك الزهرة يجعلان تلك الصحيفة، تستقرئ اسماء كثيرةً أمثال: يا ودود يا رحيم يا منعم.

وصحيفة الإنعام والإحسان تقرأ أسماء أمثال: يا رحمن يا حنان.

وصحيفة ظهور لمعات الحسن والجمال الواضحة في تلك النعم تكتب وتقرأ اسماء: يا جميل ذا الكمال يا كامل ذا الجمال.

فهذه زهرة واحدة تلهج بجميع هذه المعارف التي تحتوي من الأعماق ما لا حدود له، فإلى أي حد من السمو والكلية تستقرىء جميع الازهار، وجميع ذوي الحياة والموجودات الاسماء الحسنى الإلهية.

* * *

وهذه القراءة التي يتنعم بها العارفون لا تكون من طرف واحد، كما هي العادة في جميع كتب الدنيا.. حيث يكون الكتاب مفتوحا، وعين القارئ هي التي تكد لترى ما تنطق به الحروف.

فكتاب الله الذي يسمونه صامتا نطق عند العارفين.. فصاحت كل ذرة تعرفهم بحقيقتها وانتمائها..

يقول الغزالي:( بل أرباب القلوب والمشاهدات قد أنطق الله تعالى في حقهم كل ذرة في السموات والأرض بقدرته التي بها نطق كل شيء حتى سمعوا تقديسها وتسبـيحها لله تعالى وشهادتها على نفسها بالعجز بلسان ذلق تتكلم بلا حرف ولا صوت لا يسمعه الذين هم عن السمع معزولون)[34] 

واستدرك للذين لا يفهمون من العبارات إلا ظواهرها بقوله:( ولست أعني به السمع الظاهر الذي لا يجاوز الأصوات، فإنّ الحمار شريك فيه، ولا قدر لما يشارك فيه البهائم، وإنما أريد به سمعاً يدرك به كلام ليس بحرف ولا صوت ولا هو عربـي ولا عجمي) [35]

وقد ذكر النورسي بعض ما يسمعه العارفون من هذه الأحاديث، فقال: إن كنت تريد أن تشاهد تلك الحقائق الرفيعة عن قرب، فاذهب إلى بحرٍ هائج، وإلى أرضٍ مهتزة بالزلازل، وأسألهما: ما تقولان؟ ستسمع حتماً أنهما يناديان: يا جليل.. يا جليل.. يا عزيز.. يا جبار..

ثم اذهب إلى الفراخ والصغار من الحيوانات، التي تعيش في البحر أو على الارض، والتي تُربى في منتهى الشفقة والرحمة، وأسألها: ما تقولين؟ لابد أنها تترنم: يا جميل.. يا جميل.. يا رحيم.. يا رحيم.

ثم انصت الى السماء كيف تنادي: يا جـليـل ذو الجمال!

وأعر سمعك إلى الارض كيف تردد: يا جميل ذو الجلال.

وتصــنّت للحـيوانات كيـف تقــول: يا رحمن يا رزاق.

واسأل الربيع، فستسمع منـه: يا حـنان يا رحمـن يا رحـيم يا كريم يا لطيف يا عطوف يا مصوّر يا منوّر يـا محـسن يا مزيّن.. وأمثالـها من الأسماء الكثيرة.

واسأل إنساناً هو حقاً إنسان وشاهد كيف يقرأ جميع الاسماء الحسنى، فهي مكتوبةٌ على جبهته، حتى اذا أنعمت النظر ستقرؤها أنت بنفسك.

وكأن الكون كله موسيقى متناغمة الالحان لذكر عظيم. فامتزاج أصغر نغمة وأوطئها مع أعظم نغمة وأعلاها ينتج لحناً لطيفاً مهيباً.. وقس على ذلك)[36]

ويذكر الغزالي محاورة لطيفة بين عن بعض هذه الكلمات التي تجل عن الحصر، وهو مثال حركة القلم، معبرا بالحرف والصوت عن الكلام المنزه عن الحرف والصوت[37].

فحكى عن بعض الناظرين من مشكاة نور الله تعالى للكاغد، وقد رآه اسود وجهه بالحبر، فقال:( ما بال وجهك كان أبـيض مشرقاً والآن قد ظهر عليه السواد؟ فلم سودت وجهك؟ وما السبب فيه؟) فقال الكاغد:( ما أنصفتني في هذه المقالة فإني ما سوّدت وجهي بنفسي، ولكن سل الحبر فإنه كان مجموعاً في المحبرة التي هي مستقره ووطنه فسافر عن الوطن ونزل بساحة وجهي ظلماً وعدواناً) فقال: صدقت.

فسأل الحبر عن ذلك؟ فقال: ( ما أنصفتني فإني كنت في المحبرة وادعاً ساكناً عازماً على أن لا أبرح منها، فاعتدى على القلم بطمعه الفاسد، واختطفني من وطني وأجلاني عن بلادي وفرق جمعي وبدّدني كما ترى على ساحة بـيضاء، فالسؤال عليه لا عَلَيَّ)، فقال: صدقت.

ثم سأل القلم عن السبب في ظلمه وعدوانه وإخراجه الحبر من أوطانه فقال: ( سل اليد والأصابع فإني كنت قصباً نابتاً على شط الأنهار متنزهاً بـين خضرة الأشجار، فجاءتني اليد بسكين فنحت عني قشري ومزقت عني ثيابـي واقتلعتني من أصلي وفصلت بـين أنابـيبـي، ثم برتني وشقت رأسي؛ ثم غمستني في سواد الحبر ومرارته وهي تستخدمني وتمشيني على قمة رأسي، ولقد نثرت الملح على جرحي بسؤالك وعتابك، فتنح عني وسل من قهرني) فقال: صدقت.

ثم سأل اليد عن ظلمها وعدوانها على القلم واستخدامها له، فقالت اليد: ( ما أنا إلا لحم وعظم ودم، وهل رأيت لحماً يظلم أو جسماً يتحرّك بنفسه؟ وإنما أنا مركب مسخر ركبني فارس يقال له القدرة والعزة، فهي التي ترددني، وتجول بـي في نواحي الأرض، أما ترى المدر والحجر والشجر لا يتعدّى شيء منها مكانه ولا يتحرّك بنفسه إذ لم يركبه مثل هذا الفارس القوي القاهر، أما ترى أيدي الموتى تساويني في صورة اللحم والعظم والدم، ثم لا معاملة بـينها وبـين القلم، فأنا أيضاً من حيث أنا لا معاملة بـيني وبـين القلم، فسل القدرة عن شأني فإني مركب أزعجني من ركبني) فقال: صدقت.

ثم سأل القدرة عن شأنها في استعمالها اليد وكثرة استخدامها وترديدها، فقالت: دع عنك لومي ومعاتبتي، فكم من لائم ملوم، وكم من ملوم لا ذنب له وكيف خفي عليك أمري؟ وكيف ظننت أني ظلمت اليد لما ركبتها وقد كنت لها راكبة قبل التحريك، وما كنت أحرّكها ولا استسخرها، بل كنت نائمة ساكنة نوماً ظنّ الظانو ن بـي أني ميتة أو معدومة، لأني ما كنت أتحرّك ولا أحرّك حتى جاءني موكل أزعجني وأرهقني إلى ما تراه مني، فكانت لي قوّة على مساعدته، ولم تكن لي قوّة على مخالفته، وهذا الموكل يسمى الإرادة، ولا أعرفه إلا باسمه وهجومه وصياله، إذ أزعجني من غمرة النوم وأرهقني إلى ما كان لي مندوحة عنه لو خلاني ورأيـي، فقال صدقت.

ثم سأل الإرادة:( ما الذي جرّأك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة حتى صرفتها إلى التحريك وأرهقتها إليه إرهاقاً لم تجد عنه مخلصاً ولا مناصاً؟)، فقالت الإرادة:( لا تعجل عليَّ فلعل لنا عذراً وأنت تلوم، فإني ما انتهضت بنفسي ولكن أنهضت وما انبعثت ولكني بعثت بحكم قاهر وأمر جازم، وقد كنت ساكنة قبل مجيئه ولكن ورد عليّ من حضرة القلب رسول العلم على لسان العقل بالإشخاص للقدرة فأشخصتها باضطرار فإني مسكينة مسخرة تحت قهر العلم والعقل، ولا أدري بأي جرم وقفت عليه وسخرت له وألزمت طاعته، لكني أدري أني في دعة وسكون ما لم يرد علي هذا الوارد القاهر، وهذا الحاكم العادل أو الظالم وقد وقفت عليه وقفاً وألزمت طاعته إلزاماً، بل لا يبقى لي معه مهما جزم حكمه طاقة على المخالفة، لعمري ما دام هو في التردد مع نفسه والتحير في حكمه، فأنا ساكنة لكن مع استشعار وانتظار لحكمه، فإذا انجزم حكمه أزعجت بطبع وقهر تحت طاعته وأشخصت القدرة لتقوم بموجب حكمه، فسل العلم عن شأني ودع عني عتابك، فإني كما قال القائل:

متى ترحلت عن قومٍ وقد قَدِروا  أن لا تفارقهم فالراحلون هُمُ

فقال:( صدقت)

وأقبل على العلم والعقل والقلب مطالباً لهم ومعاتباً إياهم على استنهاض الإرادة وتسخيرها لإشخاص القدرة، فقال العقل: أما أنا فسراج ما اشتعلت بنفسي ولكن أشعلت، وقال القلب: أما أنا فلوح ما انبسطت بنفسي ولكني بسطت، وقال العلم: أما أنا فنقش نقشت في بـياض لوح القلب لما أشرق سراج العقل وما انخططت بنفسي، فكم كان هذا اللوح قبل خالياً عني، فسل القلم عني لأنّ الخط لا يكون إلا بالقلم

فعند ذلك تتعتع السائل ولم يقنعه الجواب وقال: قد طال تعبـي في هذا الطريق وكثرت منازلي ولا يزال يحيلني من طمعت في معرفة هذا الأمر منه على غيره، ولكني كنت أطيب نفساً بكثرة الترداد لما كنت أسمع كلاماً مقبولاً في الفؤاد وعذراً ظاهراً في دفع السؤال: فأما قولك: إني خط ونقش، وإنما خطني قلم فلست أفهمه فإني لا أعلم قلماً إلا من القصب، ولا لوحاً إلا من الحديد أو الخشب، ولا خطاً إلا بالحبر، ولا سراجاً إلا من النار، وإني لأسمع في هذا المنزل حديث اللوح والسراج والخط والقلم ولا أشاهد من ذلك شيئاً: أسمع جعجعة ولا أرى طحناً.

فقال له القلم: إن صدقت فيما قلت فبضاعتك مزجاة وزادك قليل ومركبك ضعيف، واعلم أن المهالك في الطريق التي توجهت إليها كثيرة: فالصواب لك أن تنصرف وتدع ما أنت فيه، فما هذا بعشك، فادرج عنه فكل ميسر لما خلق له، وإن كان راغباً في استتمام الطريق إلى المقصد فألق سمعك وأنت شهيد،  واعلم أنّ العوالم في طريقك هذا ثلاثة: عالم الملك والشهادة أوّلها، ولقد كان الكاغد والحبر والقلم واليد من هذا العالم، وقد جاوزت تلك المنازل على سهولة، والثاني عالم الملكوت وهو ورائي؛ فإذا جاوزتني انتهيت إلى منازله وفيه المهامة والفيح والجبال الشاهقة والبحار المغرقة، ولا أدري كيف تسلم فيها، والثالث وهو عالم الجبروت وهو بـين عالم الملك وعالم الملكوت، ولقد قطعت منها ثلاث منازل في أوائلها منزل القدرة والإرادة والعلم، وهو واسطة بـين عالم الملك والشهادة والملكوت؛ لأنّ عالم الملك أسهل منه طريقاً، وعالم الملكوت أوعر منه منهجاً، وإنما عالم الجبروت بـين عالم الملك وعالم الملكوت يشبه السفينة التي هي في الحركة بـين الأرض والماء، فلا هي في حدّ اضطراب الماء، ولا هي في حدّ سكون الأرض وثباتها، وكل من يمشي على الأرض يمشي في عالم الملك والشهادة؛ فإن جاوزت قوّته إلى أن يقوى على ركوب السفينة كان كمن يمشي في عالم الجبروت؛ فإن انتهى إلى أن يمشي على الماء من غير سفينة مشى في عالم الملكوت من غير تتعتع؛ فإن كنت لا تقدر على المشي على الماء فانصرف فقد جاوزت الأرض وخلفت السفينة ولم يبق بـين يديك إلا الماء الصافي وأوّل عالم الملكوت مشاهدة القلم الذي يكتب به العلم في لوح القلب.

فقال السالك السائل: قد تحيرت في أمري واستشعر قلبـي خوفاً مما وصفته من خطر الطريق، ولست أدري أطيق قطع هذه المهامة التي وصفتها أم لا؟ فهل لذلك من علامة؟

قال: نعم، افتح بصرك واجمع ضوء عينيك وحدّقه نحوي فإن ظهر لك القلم الذي به أكتب في لوح القلب فيشبه أن تكون أهلاً لهذا الطريق، فإن كل من جاوز عالم الجبروت وقرع باباً من أبواب الملكوت كوشف بالقلم.

فقال السالك: لقد فتحت بصري وحدقته، فوالله ما أرى قصباً ولا خشباً، ولا أعلم قلماً إلا كذلك.

فقال العلم: لقد أبعدت النجعة، أما سمعت أنّ متاع البـيت يشبه رب البـيت، أما علمت أنّ الله تعالى لا تشبه ذاته سائر الذوات، فكذلك لا تشبه يده الأيدي ولا قلمه الأقلام ولا كلامه سائر الكلام ولا خطه سائر الخطوط، وهذه أمور إلهية من عالم الملكوت، فليس الله تعالى في ذاته بجسم ولا هو في مكان بخلاف غيره، ولا يده لحم وعظم ودم بخلاف الأيدي، ولا قلمه من قصب، ولا لوحه من خشب، ولا كلامه بصوت وحرف، ولا خطه رقم ورسم، ولا حبره زاج وعفص، فإن كنت لا تشاهد هذا هكذا فما أراك إلا مخنثاً بـين فحولة التنزيه وأنوثة التشبـيه، مذبذباً بـين هذا وذا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فكيف نزهت ذاته وصفاته تعالى عن الأجسام وصفاتها؟ ونزهت كلامه عن معاني الحروف والأصوات وأخذت تتوقف في يده وقلمه ولوحه وخطه؟

فلما سمع السالك من العلم ذلك استشعر قصور نفسه وأنه مخنث بـين التشبـيه والتنزيه، فاشتعل قلبه ناراً من حدّة غضبه على نفسه لما رآها بعين النقص، ولقد كان زيته الذي في مشكاة قلبه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فلما نفخ فيه العلم بحدّته اشتعل زيته فأصبح نوراً على نور، فقال له العلم: اغتنم الآن هذه الفرصة وافتح بصرك لعلك تجد على النار هدى، ففتح بصره فانكشف له القلم الإلهي، فإذا هو كما وصفه العلم في التنزيه: ما هو من خشب ولا قصب، ولا له رأس ولا ذنب، وهو يكتب على الدوام في قلوب البشر كلهم أصناف العلوم، وكأن له في كل قلب رأساً ولا رأس له.

فقضى منه العجب وقال: نعم الرفيق العلم، فجزاه الله تعالى عني خيراً، إذ الآن ظهر لي صدق أنبائه عن أوصاف القلم؛ فإني أراه قلماً لا كالأقلام؛ فعند هذا ودع العلم وشكره وقال: قد طال مقامي عندك ومرادتي لك، وأنا عازم على أن أسافر إلى حضرة القلم وأسأله عن شأنه.

فسافر إليه وقال له: ما بالك أيها القلم تخط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الإرادات إلى إشخاص القدر وصرفها إلى المقدورات؟ فقال: أو قد نسيت ما رأيت في عالم الملك والشهادة وسمعت من جواب القلم إذ سألته فأحالك على اليد؟ قال: لم أنس ذلك. قال: فجوابـي مثل جوابه. قال: كيف وأنت لا تشبهه؟ قال القلم: أما سمعت أنّ الله تعالى خلق آدم على صورته؟ قال: نعم. قال: فسل عن شأني الملقب بـيمين الملك فإني في قبضته، وهو الذي يرددني وأنا مقهور مسخر؛ فلا فرق بـين القلم الإلهي وقلم الآدمي في معنى التسخير، وإنما الفرق في ظاهر الصورة. فقال: فمن يمين الملك؟ فقال القلم: أما سمعت قوله تعالى:﴿ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(الزمر: من الآية67)؟ قال: نعم. قال: والأقلام أيضاً في قبضة يمينه هو الذي يرددها.

فسافر السالك من عنده إلى اليمين حتى شاهده ورأى من عجائبه ما يزيد على عجائب القلم ولا يجوز وصف شيء من ذلك ولا شرحه، بل لا تحوي مجلدات كثيرة عشر عشير وصفه، والجملة فيه أنه يمين لا كالأيمان، ويد لا كالأيدي، وأصبع لا كالأصابع؛ فرأى القلم محرّكاً في قبضته، فظهر له عذر القلم.

فسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم؟ فقال: جوابـي مثل ما سمعته من اليمين التي رأيتها في عالم الشهادة وهي الحوالة على القدرة، إذ اليد لا حكم لها في نفسها وإنما محرّكها القدرة لا محالة.

فسافر السالك إلى عالم القدرة ورأى فيه من العجائب ما استحقر عندها ما قبله وسألها عن تحريك اليمين فقالت: إنما أنا صفة فاسأل القادر، إذ العمدة على الموصوفات لا على الصفات.

وعند هذا كاد أن يزيغ ويطلق بالجراءة لسان السؤال، فثبت بالقول الثابت ونودي من وراء حجاب سرادقات الحضرة:﴿ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الانبياء:23)

 فغشيته هيبة الحضرة، فخر صعقاً يضطرب في غشيته.

فلما أفاق قال: سبحانك ما أعظم شأنك تبت إليك وتوكلت عليك وآمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار، فلا أخاف غيرك ولا أرجو سواك ولا أعوذ إلا بعفوك من عقابك وبرضاك من سخطك، وما لي إلا أن أسألك وأتضرع إليك وأبتهل بـين يديك، فأقول: اشرح لي صدري لأعرفك واحلل عقدة من لساني لأثني عليك.

فنودي من وراء الحجاب: إياك أن تطمع في الثناء وتزيد على سيد الأنبـياء، بل ارجع إليه فما آتاك فخذه وما نهاك عنه فانته عنه، وما قاله لك فقله؛ فإنه ما زاد في هذه الحضرة على أن قال:  (سُبْحَانَكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)

فقال: إلهي، إن لم يكن للسان جراءة على الثناء عليك فهل للقلب مطمع في معرفتك، فنودي: إياك أن تتخطى رقاب الصدّيقين، فارجع إلى الصدّيق الأكبر فاقتد به؛ فإن أصحاب سيد الأنبـياء كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، أما سمعته يقول: العجز عن درك الإدراك إدراك؛ فيكفيك نصيباً من حضرتنا أن تعرف أنك محروم عن حضرتنا عاجز عن ملاحظة جمالنا وجلالنا.

فعند هذا رجع السالك واعتذر عن أسئلته ومعاتباته، وقال لليمين والقلم والعلم والإرادة والقدرة وما بعدها: اقبلوا عذري فإني كنت غريباً حديث العهد بالدخول في هذه البلاد ولكل داخل دهشة، فما كان إنكاري عليكم إلا عن قصور وجهل، والآن قد صح عندي عذركم وانكشف لي أنّ المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو الواحد القهار، فما أنتم إلا مسخرون تحت قهره وقدرته، مرددون في قبضته وهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن.

***

 

وانطلاقا من هذه النظرة العرفانية يقبل العارف بالله على التعرف على خلق الله، فيبحث في جل العلوم والمعارف بنشوة عظيمة، وهو يرى ما سطر فيها من كلمات الله.

وهكذا في الوقت الذي ينحجب فيه الغافل بالعلوم التي يطلقون عليها علوما مادية، يعرج من خلالها العارف إلى بحار معرفة الله، لتصبح في نظره علوم الروح والقلب والسر.

قال الغزالي عند بيانه لانشعاب العلوم مالمادية من القرآن الكريم:( ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال)[38] 

ثم ذكر بعض النماذج عن ذلك بقوله:( فمن أفعال الله تعالى وهو بحر الأفعال مثلا الشفاء والمرض، كما قال الله تعالى حكاية عن ابراهيم u تعالى:﴿  واذا مرضت فهو يشفين ﴾، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه الا من عرف الطب بكماله، اذ لا معنى للطب الا معرفة المرض بكماله وعلاماته ومعرفة الشفاء وأسبابه) [39]

ومن النماذج تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان، والتي نص عليها قوله تعالى منبها إلى النظر فيهما:) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام:96) وكل ما يرتبط بالفلك إلا ( من عرف هيئات تركيب السموات والأرض، وهو علم برأسه)

ومثل ذلك تركيب الإنسان ( فلا يعرف كمال معنى قوله تعالى:﴿  يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ﴾(الانفطار:6ـ 8) إلا من عرف تشريح الأعضاء من الانسان ظاهرا وباطنا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها) [40]

* * *

 قد يقال ـ هنا ـ فما الميزة التي يستحقها العارف دون العامي، وكلاهما يقرأ الكون، وكلاهما يفهم منه دلالته على الله.

وما الميزة التي يتميز بها العارف، والمتكلم يقرأمن صفحات الكون ما لا يقرؤه العارف، وعالم الطبيعة يعرف من معارف الكون ما لا يطلع عليه العارف.

وللجواب على ذلك نذكر ما تتميز به المعرفة عن العلم، فالعلم اكتشاف قد يدفع إليه الفضول، والمعرفة معايشة يدفع إليها الشوق والاحتراق.

ولهذا تختلف نظرة العارف عن العالم للأشياء، كما اختلفت نظرة يعقوب u وأبنائه حول قميص يوسف.

فأبناء يعقوب u لم يروا في قميص يوسف سوى خيوط متجمعة لا تختلف عن أي خيوط، بينما رأي يعقوب u ـ المكتوي بنار العشق ـ في تلك الخيوط ابنه يوسف u، بل إنه شم رائحته من بعيد، قال تعالى يحكي هذه المواقف المتناقضة نحو الشيء الواحد حاكيا قول يوسف u:) اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾

وهذه الآيات الكريمة فيه إشارات جليلة ترتبط بذوق العارف، والتفريق بينه وبين ذوق العامي، فالقميص الذي يحمل رائحة يوسف u كالكون الذي يحمل ختم خالقه ومبدعه، والعمى الذي وجده إخوة يوسف u هو عمى العامي عن رؤية ذلك الختم، وعود البصر ليعقوب u كعود البصيرة للعارف بعد اكتحاله برؤية الختم المطبوع على الأشياء.

فالأشياء واحدة، ولكن الشأن ليس في وحدة الأشياء، وإنما في النظر إلى الأشياء والمواقف من الأشياء.

فالفرق جليل بين من يوحد الله بنفي غير الله،  وبين من يوحده بالإثبات المحض، فلا يرى غيرا يحتاج إلى نفيه.

وفرق كبير بين من يرى الكون قائما بذاته، وبين من يراه ظلمة لولا نور الله، كما قال ابن عطاء الله:( الكونُ كلُّه ظُلْمةٌ، وإنَّما أنارَهُ ظهورُ الحقِّ فيه، فمن رأى الكونَ ولم يشهدُهُ فيه أو عنده أو قَبْلَه أو بَعْدَه فقد أَعْوَزَهُ وجودُ الأنوارِ، وحُجبَتْ عنه شموسُ المعارفِ بسُحُبِ الآثار)

وفرق كبير بين النظر الإيماني إلى المكونات والنظر الطبيعي، فالنظرة واحدة ولكن القلب المستقبل للنظرة مختلف، كالأرض تسقى بمطر واحد لكن بعضها ينتج زهرا والآخر شوكا،:﴿ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ)(الرعد: من الآية4)

وقد ذكر الغزالي الفرق بين الرؤيتين رؤية الموحد ورؤية الطبيعي بقوله:( وكل ما نظرنا فيه فإن الطبـيعي ينظر فيه ويكون نظره سبب ضلاله وشقاوته، والموفق ينظر فيه فيكون سبب هدايته وسعادته. وما من ذرّة في السماء والأرض إلا والله سبحانه وتعالى يضل بها من يشاء ويهدي بها من يشاء، فمن نظر في هذه الأمور من حيث إنها فعل الله تعالى وصنعه استفاد منه المعرفة بجلال الله تعالى وعظمته واهتدى به، ومن نظر فيها قاصراً للنظر عليها من حيث تأثير بعضها في بعض لا من حيث ارتباطها بمسبب الأسباب فقد شقي وارتد) [41]

وقد ذكر النورسي الفرق بين الرؤيتين بتفريقه بين توحيدين:

توحيد العامي الذي يقول:( لاشريك له، ليست هذه الكائنات لغيره)، وهذا يكون عرضة لتداخل الغفلات، بل الضلالات في أفكار صاحبه.

وتوحيد حقيقي، هو توحيد العارف الذي يقول:( هو الله وحدَه له الملك، وله الكون، له كل شئ) فيرى سكتّه على كل شئ، ويقرأ خاتمه على كل شئ، فيثبته له اثباتاً حضورياً.

ومثل هذه التوحيد، ومثل هذه الرؤية لايمكن تداخل الضلالة والاوهام فيها أبدا[42].

ولتقريب الصورة للأذهان نذكر هذا المثال الذي أبدع فيه بديع الزمان أيما إبداع فقد ذكر أن حاكما عظيما ذا تقوى وصلاح وذا مهارة وإبداع أراد أن يكتب القرآن الحكيم كتابة تليق بقدسية معانيه الجليلة، فأراد أن يُلبِس القرآن الكريم ما يناسب إعجازه السامي من ثوب قشيب خارق مثله.

فبدأ بكتابة القرآن الكريم كتابة عجيبة جداً مستعملاً جميع أنواع الجواهر النفيسة ليشير بها إلى تنوع حقائقه العظيمة، فكتب بعض حروفه المجسمة بالالماس والزمرد وقسماً منها باللؤلؤ والمرجان وطائفة منها بالجوهر والعقيق، ونوعاً منها بالذهب والفضة، حتى أضفى جمالاً رائعاً وحسناً جالباً للانظار يعجب بها كل من يراها سواء أعلم القراءة أم جهلها.

ثم عرض هذا القرآن البديع الكتابة، الرائع الجمال، على فيلسوف أجنبي ـ ونحن نشير به هنا إلى النظر السطحي للعامي ـ وعلى عالم مسلم. وأمرهما بأن يكتب كل منكما كتاباً حول حكمة هذا القرآن.

فكتب الفيلسوف كتاباً، وكتب العالم المسلم كتاباً.

أما كتاب الفيلسوف، فاقتصر على البحث عن نقوش الحروف وجمالها، وعلاقة بعضها ببعض، وأوضاع كل منها، وخواص جواهرها وميزاتها وصفاتها، ولم يتعرض في كتابه إلى معاني ذلك القرآن العظيم قط، بل لم يدرك أن ذلك القرآن البديع هو كتاب عظيم تنم حروفه عن معان جليلة، وإنما حصر نظره في روعة حروفه وجمالها الخارق.

ومع هذا فهو مهندس بارع، ومصور فنان، وكيميائي حاذق، وصائغ ماهر، لذا فقد كتب كتابه هذا وفق ما يتقنه من مهارات ويجيده من فنون.

أما العالم المسلم ـ ونحن نشير به هنا إلى العارف ـ فما إن نظر إلى تلك الكتابة البديعة حتى علم أنه: كتاب مبين وقرآن حكيم، فلم يصرف اهتمامه الى زينته الظاهرة، ولا أشغل نفسه بزخارف حروفه البديعة، وانما توجه كليا ًـ وهو التواق للحق ـ الى ما هو أسمى وأثمن وألطف وأشرف وأنفع وأشمل مما انشغل به الفيلسوف الاجنبي بملايين الاضعاف، فبحث عما تحت تلك النقوش الجميلة من حقائق سامية جليلة وأسرار نيرة بديعة، فكتب كتابه تفسيراً قيماً لهذا القرآن الحكيم، فأجاد وأتقن.

والنورسي يشير بالقرآن الجميل الزاهي إلى هذا الكون البديع، وبالحاكم المهيب إلى سلطان الازل والابد تعالى، أما الرجلان، فالأول هو العامي ولو كان عالما بالعلوم القديمة والحديثة، وأما الآخر، فهو العارف الذي تتلمذ على أنوار القرآن الكريم.

فالفرق كبير بين الرؤيتين، فالعارف ينظر إلى الكون ـ كما يقرأ القرآن الكريم ـ فـ ( ينظر الى الموجودات - التي كل منها حرف ذو مغزى - بالمعنى الحرفي، أي ينظر اليها من حيث دلالتها على الصانع الجليل. فيقول: ما أحسنَ خلقه! ما أجملَ خلقه! ما أعظم دلالته على جمال المبدع الجليل)، وهذا النظر هو الذي يكشف الجمالَ الحقيقي للكائنات.

أما العلم المجرد عن المعرفة فهو غارق في تزيينات حروف الموجودات، مبهوت أمام علاقات بعضها ببعض،، قد انصرف عن النظر عن قراءة حروف الكون الدالة على كاتبها، فإذا رأى شيئا من جمال الكائنات قال:( ما أجمل هذا) بـدلاً من:( ما أجمـل خـلـق هذا)[43] 

***

ولأهمية هذا النوع من القراءة الكونية، ولعلاقته الوثيقة بالإيمان، بل بأرفع درجات الإيمان يثني القرآن الكريم على المؤمنين الذين أمضوا حياتهم في قراءة رسائل الله إليهم عبر مكوناته.

وأول هؤلاء، وعلى رأسهم العارفون الذين يعبر عنهم القرآن الكريم بأولي الألباب[44]، وهم الذين خرجوا من ظواهر المكونات إلى بواطنها، ولم تحجبهم الصور المزخرفة للمكونات عن الحروف المسجلة فيها.

ولعل أعظم وصف قرآني لهم هو ما ورد في أواخر سورة آل عمران من قوله تعالى:﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:191)

 وقد كان لهذه الآيات محل خاص من قلب رسول الله r كما تروي كتب السنة، فقد روي أن رسول اللّه r كان يقرأ هذه الآيات وما يليها من آخر سورة آل عمران إذا قام من الليل لتهجده، قال ابن عباس t: بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول اللّه r مع أهلة ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال:) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190) الآيات، ثم قام فتوضأ واستن، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح [45].

أما يوم نزولها، فقد كان يوما عجيبا من أيام الله، عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب، فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا، قال: قول الشاعر: زر غباً تزدد حباً، فقال ابن عمر: ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول اللّه r!؟ فبكت وقالت: كل أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال:( ذريني أتعبد لربي عزّ وجلّ)، قالت، فقلت:( واللّه إني لأحب قربك، وإني أحب أن تعبد ربك، فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى بلّ لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح، قالت، فقال: يارسول اللّه ما يبكيك وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال:( ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل اللّه عليّ في هذه الليلة:))إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190)، ثم قال:( ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها) [46]

وفي هذه الآيات برهان جلي على الأثر الذي تتركه القراءة الإيمانية لحروف المكونات، فالقرآن الكريم قدم الفكر على الذكر، وقدم القراءة على التسبيح، ثم ذكر أن أول ما يقوله هؤلاء العارفون، أو أول ما يقرؤونه هو أن هذا الخلق العظيم لم يخلق عبثا.

ومن العبثية أن نقصر دلالة كل المكونات على مجرد احتياجها إلى خالق، ثم لا نرحل من ذلك إلى التعرف على هذا الخالق الذي دلت على وجوده هذه المكونات.

وهؤلاء العارفون الذين يخبرنا القرآن الكريم عن أحوالهم بمجرد امتلاء قلوبهم بالمعاني التي يدل عليها الكون انفجرت ألسنتهم بدعاء الله ومناجاته، وكأنهم رأو الكون، وهو يمد يديه بالافتقار والاضطرار إلى الله، فمدوا أيديهم معه.

وكل ما ورد من أدعيتهم يدل على قراءة متأنية عميقة لحروف المكونات.

ومن الآيات المتحدثة عن هذا الصنف قوله تعالى:﴿  أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (الزمر:21)

ونلاحظ هنا كذلك أن هؤلاء العارفين لا يقتصرون على النظر إلى المكونات، بل يبحثون في حركاتها وسكناتها وعجيب ما يحدث لها من التحولات، ليتعرفوا من خلال ذلك على الله، وكأن ابن عطاء الله ينظر من مشكاة هذه الآية عندما قال في مناجاته:( إلـهي! قد علمت باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار، أن مرادك أن تتعرف إلي في كل شيء، حتى لا أجهلك في شيء)

ويلي هؤلاء ـ الذين تعمقوا في معرفة الله نتيجة تعمقهم في معرفة الكون ـ أصحاب العقول الراجحة الذين يمدون أبصارهم لتأمل جميع المكونات في البر والبحر والسماء والأرض، قال تعالى:﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (البقرة:164)

ونلاحظ في هذه الآية الكريمة التفصيل في ذكر أنواع المكونات، ثم الإخبار بأن هذه الآيات خاصة بالذين يعقلون، وفي ذلك إشارة إلى الفريق الثاني ممن يستفيدون من آيات الله، وهم الذين يستعملون عقولهم في الاستدلال على الخالق، وقد مثل هؤلاء علماء التوحيد والكلام، بخلاف الآيات السابقة التي عبرت عن العقل باللب.

ومثل هذه الآية ما ورد من تفاصيل قد لا يدرك أكثرها إلا العلماء المختصون، والمعبر عنهم في القرآن الكريم بالذين يعقلون، قال تعالى:﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد:4)

ومن الأصناف القارئة لكتاب الكون صنف المفكرين، وهم الذين يمزجون بين الرؤى المختلفة للكون ليستنتجوا منها المعارف الإلهية، قال تعالى عنهم:)  وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(3)

ومن الأصناف القارئة لكتاب الكون أصحاب الحواس المرهفة، أو الذين شفت حواسهم لتدرك ما يختزن الظاهر من حقائق الباطن، قال تعالى:﴿  هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(67)، وقال تعالى:﴿  وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(23)

وعن المبصرين بالبصر والبصائر قال تعالى:﴿  يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَارِ(44)

ومن الأصناف القارئة لكتاب الكون العلماء، قال تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم:22)

وقد قصر الخشية من الله على هؤلاء، قال تعالى بعد تعداد آيات الكون:﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر:28)

ومن الأصناف القارئة لكتاب الكون المؤمنون، قال تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام:99)، وقال تعالى:﴿ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ (العنكبوت:44)

ومن هذه الأصناف القارئة المنيبون والمتقون، قال تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (غافر:13)

ومنهم العابدون الموحدون، قال تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت:37)

ومنهم الشاكرون الحامدون، قال تعالى:﴿ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (القصص:73)

وقد يجمع القرآن الكريم بين هذه الأصناف في نسق واحد، كما ورد في قوله تعالى:﴿  إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ(3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(5) ﴾ (الجاثـية)

ونرى أن التأمل والتعمق في فواصل هذه الآيات يكشف عن معارف جليلة ترتبط بهذه الأصناف، ونوع المكونات التي تتأملها، وطريقة تأملها، وهو تصنيف أساسي له علاقة كبيرة بالسلوك، وقد نتحدث عنه في المناسبات المرتبطة به.

ولهذه الأصناف جميعا ورد قوله تعالى:﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53)، فهذه الآيات موجهة لهؤلاء، أو هي بعبارة أخرى موجهة لجميع الناس، ولكن لا يستفيد منها غير هؤلاء.

أما غيرهم من المعرضين عن آيات الله الذين يقصرون نظرهم على شهواتهم، فلا يرون في الكون غير سوق لتغذية هذه الشهوات، فالقرآن الكريم يضعهم في صنف المعرضين، قال تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) (الانبياء:32)، وقال تعالى:﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف:105)

وهؤلاء هم الأميون في عالم الحقائق، وإن قرأو جميع حروف العالم، وحللوا جميع لغاته، فالعجب كل العجب ـ كما يقول الغزالي ـ ممن يرى خطاً حسناً أو نقشاً حسناً على حائط فيستحسنه، فيصرف جميع همه إلى التفكر في النقاش والخطاط وأنه كيف نقشه وخطه وكيف اقتدر عليه ولا يزال يستعظمه في نفسه ويقول: ما أحذقه وما أكمل صنعته وأحسن قدرته ثم ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره ثم يغفل عن صانعه ومصوّره فلا تدهشه عظمته ولا يحيره جلاله وحكمته؟) [47]

* * *

انطلاقا من هذه الأسس القرآنية لقراءة الكون نحب أن ننقل هنا بعض النماذج عن القارئين للكون ليكونوا هداة في هذا الطريق، فلكل طريق صيغته النظرية وطريقته العملية، وهداته السالكون المسلكون.

وأول هؤلاء يخبرنا عنه r في بعض أحاديثه عن الأمم السالفة، فذكر r أن غلاما كان في بني إسرائيل على جبل، فقال لأمه:( من خلق السماء؟) قالت:( الله عز وجل) قال:( فمن خلق الأرض؟) قالت:( الله عز وجل) قال:( فمن خلق الجبال؟) قالت ( الله عز وجل) قال:( فمن خلق الغيم؟)  قالت:( الله عز وجل) قال:( إني لأسمع لله شأنا)،ثم رمى بنفسه من الجبل فتقطع[48].

قال الغزالي معلقا على هذه القصة:( وهذا كأنه سمع ما دل على جلال الله تعالى وتمام قدرته فطرب لذلك ووجد فرمى بنفسه من الوجد) [49]

* * *

 ومن هذه الأمة نذكر الإمام الجليل أبا حامد الغزالي، فهو يعتبر النظر في خلق الله المجال الأفسح والأيسر لمعرفة الله، فمنها يرقى المتفكر لمعرفة الصفات التي هي المعراج لمعرفة الذات، قال الغزالي:( ولما كان النظر في ذات الله تعالى وصفاته خطراً من هذا الوجه اقتضى أدب الشرع وصلاح الخلق أن لا يتعرض لمجاري الفكر فيه، لكنا نعدل إلى المقام الثاني وهو النظر في أفعاله ومجاري قدره وعجائب صنعه وبدائع أمره في خلقه فإنها تدل على جلاله وكبريائه وتقدّسه وتعاليه، وتدل على كمال علمه وحكمته وعلى نفاذ مشيئته وقدرته) [50]

وكل هذه الأمور من صفات الله التي تدل عليها أفعال الله، ( فالآثار هي الطريق لمعرفة الصفات فينظر إلى صفاته من آثار صفاته) [51]

ويضرب الغزالي المثل للعبور من الآثار إلى الصفات بنور الشمس ومقارنته بسائر الأنوار، يقول:( فإنا لا نطيق النظر إلى صفاته كما أنّا نطيق النظر إلى الأرض مهما استنارت بنور الشمس. ونستدل بذلك على عظم نور الشمس بالإضافة إلى نور القمر وسائر الكواكب، لأن نور الأرض من آثار نور الشمس، والنظر في الآثار يدل على المؤثر دلالة ما وإن كان لا يقوم مقامها في نفس المؤثر) [52]

وبما أن كل ما في الوجود فعل من أفعال الله، فإن كل شيء قد أودع من صفات الله ما لا يحيط به الحصر، قال الغزالي:( اعلم أن كل ما في الوجود مما سوى الله تعالى فهو فعل الله وخلقه، وكل ذرة من الذرات من جوهر وعرض وصفة وموصوف ففيها عجائب وغرائب تظهر بها حكمة الله وقدرته وجلاله وعظمته، وإحصاء ذلك غير ممكن لأنه لو كان البحر مداداً لذلك لنفد البحر قبل أن ينفد عشر عشير) [53]

ومع الاعتراف بالعجز عن إحصاء خلق الله، يشير الغزالي كثيرا إلى نماذج خلق الله، وكيفية العبور منها،وهو يقول في تصنيفها:( الموجودات المخلوقة منقسمة إلى: ما لا يعرف أصلها، فلا يمكننا التفكر فيها، وكم من الموجودات التي لانعلمها كما قال الله تعالى:﴿ وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾(النحل: من الآية8).. ﴿ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)(يّـس: من الآية36).. ﴿ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ)(الواقعة: من الآية61)، وإلى: ما يعرف أصلها وجملتها ولا يعرف تفصيلها فيمكننا أن نتفكر في تفصيلها) [54]

وهو يقسم هذا القسم الثاني إلى ما لا يدرك بحس البصر، كالملائكة والجن والشياطين والعرش والكرسي وغير ذلك، وهذا المجال مما يضيق ويغمض، وهو مما يكتفى فيه بما ورد في النصوص[55].

والقسم الثاني هو ما ندركه بالبصر، كالسموات السبع والأرض وما بـينهما، فالسموات مشاهدة بكواكبها وشمسها وقمرها وحركتها ودورانها في طلوعها وغروبها والأرض مشاهدة بما فيها من جبالها ومعادنها وأنهارها وبحارها وحيوانها ونباتها، وما بـين السماء والأرض وهو الجوّ مدرك بغيومها وأمطارها وثلوجها ورعدها وبرقها وصواعقها وشهبها وعواصف رياحها.

وهذا النوع الذي كلفنا بالنظر فيه منقسم ـ أيضا ـ إلى أقسام كثيرة لا يحيط بها الحصر، قال الغزالي:( فهذه هي الأجناس المشاهدة من السموات والأرض وما بـينهما، وكل جنس منها ينقسم إلى أنواع، وكل نوع ينقسم إلى أقسام، ويتشعب كل قسم إلى أصناف. ولا نهاية لانشعاب ذلك وانقسامه في اختلاف صفاته وهيئاته ومعانيه الظاهرة والباطنة) [56]

وكل هذه الأصناف وتفاصيلها ميدان للنظر، ( فلا تتحرّك ذرّة في السموات والأرض من جماد ولا نبات ولا حيوان ولا فلك ولا كوكب إلا والله تعالى هو محركها وفي حركتها حكمة أ أو حكمتان أو عشر أو ألف حكمة كل ذلك شاهد لله تعالى بالوحدانية ودال على جلاله وكبريائه، وهي الآيات الدالة عليه) [57]

والغزالي يرى أن الترقي لمعرفة ما لا يدرك بالبصر مرتبط بإدراك ما يرى، فلا يمكن الوصول إلى الأعلى دون المرور بالأدنى، يقول:( فأجِل أيها العاقل فكرَك في الملكوت فعسى يفتح لك أبواب السماء فتجول بقلبك في أقطارها إلى أن يقوم قلبك بين يدي عرش الرحمن، فعند ذلك ربما يرجى لك أن تبلغ رتبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: رأى قلبـي ربي، وهذا لأن بلوغ الأقصى لا يكون إلا بعد مجاوزة الأدنى، وأدنى شيء إليك نفسك، ثم الأرض التي هي مقرك، ثم الهواء المكتنف لك، ثم النبات والحيوان وما على وجه الأرض، ثم عجائب الجو وهو ما بـين السماء والأرض، ثم السموات السبع بكواكبها، ثم الكرسي ثم العرش، ثم الملائكة الذي هم حمَلة العرش وخزان السموات، ثم منه تجاوز إلى النظر إلى رب العرش والكرسي والسموات والأرض وما بـينهما) [58]

وهو يعاتب الذين يدعون معرفة الله من غير مرور على الأكوان بقوله:( فبـينك وبـين هذه المفاوز العظيمة والمسافات الشاسعة والعقبات الشاهقة، وأنت بعد لم تفرغ من العقبة القريبة النازلة، وهي معرفة ظاهر نفسك، ثم صرت تطلق اللسان بوقاحتك وتدعي معرفة ربك وتقول: قد عرفته وعرفت خلقه ففيماذا أتفكر وإلى ماذا أتطلع؟) [59]

وقد انطلق الغزالي من الآيات التي تتحدث عن مخلوقات الله تعالى في كتابه ( الحكمة في مخلوقات الله) إلى الحديث عن حكم تلك المخلوقات،بأسلوب يمتزج فيه العلم بالتذكير،وهو أسلوب القرآن الكريم في عد نعم الله على خلقه، وهو يستخدم هذا الأسلوب في (الإحياء) وغيره، كلما دعت الضرورة إلى ذلك.

ومن نماذج ذلك ( عجائب الجو وما يظهر فيه من الغيوم والرعود والبروق والأمطار والثلوج والشهب والصواعق؛ فهي عجائب ما بـين السماء والأرض.. فإذا لم يكن لك حظ من هذه الجملة إلا أن ترى المطر بعينك وتسمع الرعد بأذنك فالبهيمة تشاركك في هذه المعرفة فارتفع من حضيض عالم البهائم إلى عالم الملأ الأعلى فقد فتحت عينيك فأدركت ظاهرها، فغمض عينك الظاهرة وانظر ببصيرتك الباطنة لترى عجائب باطنها وغرائب أسرارها) [60]

أما كيفية قراءة الكون فيعبر عنها بقوله:( يستفاد من الفكر في الخلق لا محالة معرفة الخالق وعظمته وجلاله وقدرته، وكلما استكثرت من معرفة عجيب صنع الله تعالى كانت معرفتك بجلاله وعظمته أتم. وهذا كما أنك تعظم عالماً بسبب معرفتك بعلمه، فلا تزال تطلع على غريبة غريبة من تصنيفه أو شعره فتزداد به معرفة وتزداد بحسنه له توقيراً وتعظيماً واحتراماً، حتى إن كل كلمة من كلماته وكل بـيت عجيب من أبـيات شعره يزيده محلاً من قلبك يستدعي التعظيم له في نفسك. فهكذا تأمل في خلق الله تعالى وتصنيفه وتأليفه، وكل ما في الوجود من خلق الله وتصنيفه والنظر والفكر فيه لا يتناهى أبداً، وإنما لكل عبد منهما بقدر ما رزق) [61]

* * *

ومن القارئين للكون ممن ملأوا مصنفاتهم بالدعوة إلى تأمل عجائب خلق الله فيه الإمام الجليل ابن قيم الجوزية، فهو يكثر من الإشارة إلى هذه العجائب، وخاصة في كتابه ( مفتاح دار السعادة)

يقول في بيان الفرق بين نظرة العارفين ونظرة العوام:( والنظر في هذه الآيات وأمثالها نوعان: نظر اليها بالبصر الظاهر، فيرى مثلا زرقة السماء ونجومها وعلوها وسعتها، وهذا نظر يشارك الإنسان فيه غيره من الحيوانات، وليس هو المقصود بالأمر.

الثاني أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السموات السبع والارضين السبع بالنسبة إليه كحلقه ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حوله، لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين وإعزاز قوم وإذلال آخرين واسعاد قوم وشقاوة آخرين وإنشاء ملك وسلب ملك وتحويل نعمة من محل الى محل وقضاء الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها من جبر كسر وإغناء فقير وشفاء مريض وتفريج كرب ومغفرة ذنب وكشف ضر ونصر مظلوم وهداية حيران وتعليم جاهل ورد آبق وأمان خائف وإجارة مستجير ومدد لضعيف وإغاثة الملهوف وإعانة لعاجز وانتقام من ظالم وكف العدوان فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة تنفذ في أقطار العوالم لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلافها وتباينها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيبته خاشعا لعظمته عان لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه وهذا من اعظم آيات الله وعجائب صنعه فياله من سفر ما أبركه وأروحه وأعظم ثمرته وربحه وأجل منفعته وأحسن عاقبته، سفر هو حياة الأرواح ومفتاح السعادة وغنيمته العقول والألباب، لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب)[62]

وهو ينتقل من الجملة إلى التفصيل، فيتحدث عن الأكوان وعلاقتها بالعرفان، فيقول عند ذكره للحكمة من خلق النار:( ثم تأمل الحكمة في خلق النار على ما هي عليه من الكمون والظهور، فإنها لو كانت ظاهرة أبدا كالماء والهواء كانت تحرق العالم وتنتشر ويعظم الضرر بها والمفسدة، ولو كانت كامنة لا تظهر أبدا لفاتت المصالح المترتبة على وجودها، فاقتضت حكمة العزيز العليم أن جعلها مخزونة في الأجسام، يخرجها ويبقيها الرجل عند حاجته إليها، فيمسكها ويحبسها بمادة يجعلها فيها من الحطب ونحوه، فلا يزال حابسها ما احتاج إلى بقائها فإذا استغنى عنها وترك حبسها بالمادة خبت بإذن ربها وفاطرها، فسقطت المؤنة والمضرة ببقائها، فسبحان من سخرها وأنشأها على تقدير محكم عجيب اجتمع فيه الاستمتاع والانتفاع والسلامة من الضرر قال تعالى: [أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ] {الواقعة:71}  إلى قوله:﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (الواقعة:74).. فسبحان ربنا العظيم، لقد تعرف الينا بآياته وشفانا ببيناته، وأغنانا بها عن دلالات العالمين، فأخبر سبحانه أنه جعلها تذكرة بنار الآخرة، فنستجير منها ونهرب إليه منها ومتاعا للمقوين، وهم المسافرون النازلون بالقواء[63].. وهم أحوج إلى الانتفاع بالنار للاضاءة والطبخ والخبز والتدفي والانس وغير ذلك) [64]

ويتحدث عن الهواء، وما أودع الله فيه من المصالح، فيقول:( ثم تأمل هذا الهواء وما فيه من المصالح فإنه حياة هذه الأبدان والممسك لها من داخل بما تستنشق منه، ومن خارج بما تباشر به من روحه، فتتغذى به ظاهرا وباطنا، وفيه تطرد هذه الأصوات فتحملها وتؤديها للقريب والبعيد كالبريد والرسول الذي شأنه حمل الأخبار والرسائل، وهو الحامل لهذه الروائح على اختلافها ينقلها من موضع إلى موضع، فتأتي العبد الرائحة من حيث تهب الريح، وكذلك تأتيه الأصوات، وهو أيضا الحامل للحر والبرد اللذين بهما صلاح الحيوان والنبات.. وتأمل منفعة الريح وما يجري له في البر والبحر، وما هيئت له من الرحمة والعذاب، وتأمل كم سخر للسحاب من ريح حتى أمطر فسخرت له المثيرة أولا، فتثيره بين السماء والأرض، ثم سخرت له الحاملة التي تحمله على متنها كالجمل الذي يحمل الراوية، ثم سخرت له المؤلفة، فتؤلف بين كسفه وقطعه، ثم يجتمع بعضها إلى بعض، فيصير طبقا واحدا، ثم سخرت له اللاقحة بمنزلة الذكر الذي يلقح الانثى، فتلقحه بالماء، ولولاها لكان جهاما لا ماء فيه، ثم سخرت له المزجية التي تزجيه وتسوقه إلى حيث أمر، فيفرغ ماءه هنالك، ثم سخرت له بعد إعصاره المفرقة التي تبثه وتفرقه في الجو، فلا ينزل مجتمعا، ولو نزل جملة لأهلك المساكن والحيوان والنبات، بل تفرقه فتجعله قطرا، وكذلك الرياح التي تلقح الشجر والنبات ولولاها لكانت عقيما وكذلك الرياح التي تسير السفن ولولاها لوقفت على ظهر البحر ومن منافعها انها تبرد الماء وتضرم النار التي يراد اضرامها وتجفف الاشياء التي يحتاج الى جفافها وبالجملة فحياة ما على الارض من نبات وحيوان بالرياح فإنه لولا تسخير الله لها لعباده لذوي النبات ومات الحيوان وفسدت المطاعم وأنتن العالم وفسد الا ترى اذا ركدت الرياح كيف يحدث الكرب والغم الذي لو دام لأتلف النفوس واسقم الحيوان وامرض الاصحاء وانهك المرضى وافسد الثمار وعفن الزرع واحدث الوباء في الجو فسبحان من جعل هبوب الرياح تأتي بروحه ورحمته ولطفه ونعمته كما قال النبي r في الرياح إنها من روح الله تأتي بالرحمة وتنبه للطيفة في هذا الهواء وهي ان الصوت اثر يحدث عند اصطكاك الاجرام وليس نفس الاصطكاك كما قال ذلك من قاله ولكنه موجب الاصطكاك وقرع الجسم للجسم او قلعة عنه فسببه قرع او قلع فيحدث الصوت، فيحمله الهواء ويؤديه الى ما مع الناس فينتفعون به في حوائجهم ومعاملاتهم بالليل والنهار وتحدث الأصوات العظيمة من حركاتهم فلو كان أثر هذه الحركات والأصوات يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب في القرطاس لامتلأ العالم منه ولعظم الضرر به واشتدت مؤنته واحتاج الناس الى محوه من الهواء والاستبدال به اعظم من حاجتهم الى استبدال الكتاب المملوء كتابة فان ما يلقى من الكلام في الهواء اضعاف ما يوضع في القرطاس، فاقتضت حكمة العزيز الحكيم أن جعل هذا الهواء قرطاسا خفيا يحمل الكلام بقدر ما يبلغ الحاجة ثم يمحي بإذن ربه، فيعود جديدا نقيا لا شيء فيه فيحمل ما حمل كل وقت)[65]

وعلى هذا النسق ذكر الأمثلة الكثيرة التي يختزن كل منها حروفا كثيرة دالة على الله ومعرفة به.

* * *

 ومن القارئين للكون المطالعين عجيب صنع الله فيه الإمام الجليل بديع الزمان النورسي، فكل رسائله تطفح بآيات الله في الكون، وقد ذكرنا بعض علاقته بالمكونات فيما سبق، وسنكتفي هنا بهذا النقل الذي يبرز دقة البصيرة المنورة بنور الإيمان التي وهبها الله لهذا الإمام الجليل، قال:( رأيت ما يقارب الأربعين غصناً ـ بما يشبه الرأس ـ لشجرة متوسطة من أشجار اللوز، ومن ثم نظرت إلى أحد أغصَانها فكان له ما يقارب الأربعين من الأغصَان الصغيرة بمثابة الألسنة، ورأيت هناك أربعين زهرة قد تفتحت من أحد تلك الألسنة، فنظرت بدقة وأمعنت بحكمة إلى تلك الأزهار، فإذا في كل زهرة ما يقارب الأربعين من الخيوط الدقيقة المنتظمة ذات الألوان البديعة والدقة الرائعة، بحيث أن كلّ خيط من تلك الخيوط يُظهر تجلّياً من تجلّيات أسماء الصانع ذي الجلال، ويستنطق اسماً من اسمائه الحسنى) [66]

4 ـ اليقين

بعد القراءات المتواصلة للحروف التي تبرزها المكونات، والمعاني التي ترسمها رسائلها الإلهية يطل العارف على واحة اليقين، كما يطل الظمآن على مورد الماء العذب الذي يسد له كل ظمأ، ويطفئ له كل حرقة.. فاليقين هو الغاية التي يصل إليها العارف بعد قراءته المتواصلة لسطور الكون.

ولهذا اعتبر القرآن الكريم تفصيل الآيات وتعديدها علة لليقين وطريقا إليه، فقال:﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (الرعد:2)

ولأجل هذه القيمة التي يحتلها اليقين في سلم السير إلى الله اعتبره القرآن الكريم غاية الغايات، فقال:﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99)

واعتبر الغاية التي قصدت من إشهاد إبراهيم u لملكوت السموات والأرض هي وصوله إلى درجة اليقين، قال تعالى:﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:75)

فطريق اليقين الذي تحقق به إبراهيم u هو ما رآه من ملكوت السموات والأرض، والقرآن الكريم يعبر عن رؤيته بـ ) نُرِي ﴾، وفي ذلك إشارة إلى أن رؤية إبراهيم u كانت رؤية بالله، لا بنفسه، أي أنه صار باقيا بالله بعد أن فنى عن نفسه.

ويحكي القرآن الكريم بعض ما أريه إبراهيم u وما قرأه، فقال تعالى:﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (الأنعام:76)، ثم رأى القمر بازعا، ﴿ قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)(الأنعام: من الآية77))، ثم رأى الشمس بازغة ﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(الأنعام: من الآية78)

والكثير قد يتصور أن ما ذكره إبراهيم u هو من باب التمثيل والاحتيال لإرشاد قومه، ونحن لا ننكر هذا، ولا ننكر كذلك أن الله تعالى يصف لنا الطريق الذي سلكه إبراهيم u للوصول إلى الله، لا إلى اعتقاد وجوده أو تفرده بالألوهية فحسب، وإنما إلى معان أخرى أعمق وأجل.

ولا يرد على ذلك ما ذكره من ربوبية الأشياء، فالربوبية غير الألوهية، وقد قال تعالى حاكيا عن يوسف u:) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (يوسف:42)، ولهذا لم يقل إبراهيم u:( هذا إلهي)، بل قال:) هَذَا رَبِّي ﴾، فلعل مراده هنا هو ما اعتقده من منافع الأشياء، فلما أفلت تبين له عجزها، وأن الله تعالى هو المتفرد بالنفع والضر[67].

ولأجل هذا المحل الرفيع لليقين في سلم الطريق إلى الله أخبر الله أن أئمة الهدى العارفين بالله الذين جعلهم الله نجوما لهداية الخلق هم الذين زاوجوا بين الصبر واليقين، أو المجاهدة والمعرفة قال تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24)  

وآيات الله بأنواعها المختلفة لا يفهمها ولا يصدقها ولا يقدرها حق قدرها سوى الموقنين، قال تعالى:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (البقرة:118)

ومن هذه الآيات آيات الله الكونية المتجلية في الأرض، قال تعالى:﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (الذريات:20)، أو المتجلي في الإنسان والكائنات الحية، قال تعالى:﴿ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثـية:4)، فكل هذه الآيات لا يدركها سوى الموقنين.

ومثل ذلك آيات الله المستقبلية المرتبطة بمصير الإنسان أومصير الأرض لا يؤمن بها غير الموقنين، قال تعالى:﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ) (النمل:82)

وحقائق القرآن التي هي بصائر البصائر لا يراها ولا يعرفها ولا يهتدي بها ويرحم غير الموقنين، قال تعالى:﴿ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثـية:20)

والمعارف المرتبطة بالله لا يفهمها، أو يذعن لها، أو يستشعر سموها سوى الموقنين، قال تعالى:﴿ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) (الدخان:7)

وأحكام الله لا يدرك حكمها، ويستكنه أسرارها، ويعرف وجوه المنافع والمصالح فيها سوى الموقنين، قال تعالى:﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50)، والآية تشير إلى أن إدراك الحسن المتغلغل في ثنايا الأحكام لا يقلب صفحاته سوى الموقنين، ولعله لأجل هذا لم يتصد للبحث في أسرار الشريعة ومقاصدها سوى من جمعوا بين العلم والتقوى، أو بين اليقين والإرادة.

ولهذا كان r يرغبنا في أن نسأل الله اليقين معتبرا إياه خيرا من العافية، وكيف لا يكون كذلك، وهو عافية القلب، قال r:( عليكم بالصدق، فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور، وهما في النار، وسلوا الله اليقين والمعافاة فإنه لم يؤت أحد بعد اليقين خيرا من المعافاة، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله) [68]

وفي هذا الحديث إشارة صريحة بأن اليقين من المواهب الربانية التي تتنزل على من تحقق بأسبابها، فأسباب اليقين كسبية وحقيقته وهبية.

وقد كان r يعلمنا أن ندعو الله بأن يرزقنا اليقين، كهذا الدعاء الشامل الجامع الخاشع:( اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتذكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهم أعطني إيمانا ويقينا ليس بعده كفر، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما يهون علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا؛ واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)[69]

فالرسول r يشير في هذا الدعاء الجامع إلى أن اليقين هو قاتل الكفر، فيستحيل على من بلغ درجة اليقين أن يتحول إلى الكفر، وأن اليقين كذلك قاتل الأحزان، فهو الذي يهون مصائب الدنيا ويرفع آلامها، كما قال r:( لا ترضين أحدا بسخط الله ولا تحمدن أحدا على فضل الله ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله فإن ما رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص ولا يرده عنك كراهية كاره وإن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)[70]

وقد أخبر r أن الأجور المعدة للأعمال متوقفة على اليقين قال r:( إن الله تعالى قد افترض عليكم صوم رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا ويقينا كان كفارة لما مضى) [71]

وفي نبوءاته r الغيبية الصادرة من حرصه r على هذه الأمة يخبر r عن الخطر المحدق بأمته الناتج عن ضعف اليقين، قال r:( ما أخاف على أمتي إلا ضعف اليقين)[72]

***

 ومن هذه المنطلقات القرآنية والنبوية أجمع العارفون بالله على أن اليقين هو البذرة التي تنبت منها جميع المحاسن التي ينضح بها العرفان.

فالمعرفة اليقينية هي روح الإيمان ـ كما يعبر ابن القيم ـ وهي ( من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد وبه تفاضل العارفون وفيه تنافس المتنافسون وإليه شمر العاملون وعمل القوم إنما كان عليه وإشاراتهم كلها إليه)، وهو (روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره) [73]    

وقد أجمعوا على اعتباره المركب الذي يحمل السالكين إلى الله، وبقدر سلامة المركب يكون الوصول، ولهذا ورد في وصية لقمان لابنه:( يا بني لا يستطاع العمل إلا باليقين، ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه، ولا يقصر عامل حتى ينقص يقينه)

وقد قال أبو سعيد الخراز معبرا عن هذا الدور:( العلم ما استعملك واليقين ما حملك)، فلولا اليقين ما سار ركب إلى الله ولا ثبت لأحد قدم في السلوك إلا به.

وقد أجمعوا كذلك على أن اليقين لا يساكن قلبا يسكن لغير الله، وقد وقال ذو النون:( اليقين يدعو إلى قصر الأمل وقصر الأمل يدعو إلى الزهد والزهد يورث الحكمة وهي تورث النظر في العواقب)، وقال:( ثلاثة من أعلام اليقين: قلة مخالطة الناس في العشرة وترك المدح لهم في العطية والتنزه عن ذمهم عند المنع وثلاثة من أعلامه أيضا  النظر إلى الله في كل شيء والرجوع إليه في كل أمر والاستعانة به في كل حال)، وقال السري:( اليقين سكونك عند جولان الموارد في صدرك لتيقنك أن حركتك فيها لا تنفعك ولا ترد عنك مقضيا)، وكل هذه التعاريف تدور حول التجرد المحض لله.   

وأجمعوا على أن الطريق لليقين هو التقوى، قال ابن عطاء:« على قدر قربهم من التقوى أدركوا من اليقين، وأصل التقوى مباينة النهي وهو مباينة النفس فعلى قدر مفارقتهم النفس وصلوا إلى اليقين » وهذا التعريف كالذي سبقه يدور حول توحيد الهمة المتوجهة لله، فلا يجتمع في قلب الموقن التوحيد مع الشرك.   

ويشير الجنيد إلى أن اليقين لا يعني ما يتصوره البعض ـ ممن يشحنون حياة العارفين والأولياء بالكرامات مع ما قد يلابسها من خرافات وأساطير ـ فالموقن لا يحتاج لأن يمشي على الماء ليثبت صحة يقينه :( قد مشى رجال باليقين على الماء ومات بالعطش من هو أفضل منهم يقينا)    

***

نتساءل بعد هذا عن سر كون اليقين هو الدرجة العليا التي تصب فيها كل الدرجات مع أنه من المعاني التي يفهمها الجميع، ويعيها الجميع، بل يدعيها الجميع.. فأي فضل للعارفين بعد هذا؟

والجواب عن ذلك من خلال النصوص المقدسة هو أن اليقين درجات بعضها فوق بعض، وليس مرادنا منها هنا إلا أعلاها، وهي درجة المقربين.. وهم ـ أيضا ـ درجات بعضهم فوق بعض.

وأولى درجات اليقين التي يتحدث عنها العارفون هي الدرجة التي تبدأ من الإدراك التام للأشياء إدراكا مشابها لإدراك السمع والبصر، كما قال تعالى عن المجرمين:﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (السجدة:12)، فقد اعتبروا إدراكهم للحقائق إدراك سماع وبصر يقينا.

ولهذا، فإن أولى علامات العارف أن يكون قلبه مرآة تتجلى فيها الحقائق بوضوح تام، كما قال شاعرهم:

إذا سكن الغدير على صفاء      وجنب أن يحركه النسيم

بدت فيه السماء بلا امتراء   كذاك الشمس تبدو والنجوم

كذاك قلوب أرباب التجلي     يرى في صفوها الله العظيم

وهذا هو الفرق الأساسي بين العلم والمعرفة، فالعلم بحث واستدلال، والمعرفة شهود وعيان، والعلم مكابدة وشك، والمعرفة راحة ويقين.

ففي الوقت الذي يتيه فيه العلماء بحثا عن الأدلة، ويتنازعون وفق ما تقتضيه أنظارهم، يجلس العارفون المتخلصون من كثافة حجاب العقل المقيد بقيود الحس والوهم في أرائك جنة المشاهدة والمكاشفة واليقين.

فالعارف يرى ما يؤمن به ويعيشه، أما العالم أو طالب العلم فيكتفي بأن يبحث عن أدلة ما يسمع عنه، وقد يحجب بالأدلة عن المدلول، وبالطريق عن الغاية.

وفي الوقت الذي يقلب فيه العالم صفحات الكون ليستدل به على ربه، ينطلق العارف من به ليستدل به على الكون، قال ابن عطاء الله:( الكونُ كلُّه ظُلْمةٌ، وإنَّما أنارَهُ ظهورُ الحقِّ فيه، فمن رأى الكونَ ولم يشهدُهُ فيه أو عنده أو قَبْلَه أو بَعْدَه فقد أَعْوَزَهُ وجودُ الأنوارِ، وحُجبَتْ عنه شموسُ المعارفِ بسُحُبِ الآثار)

فالكون في نظر العارفين ـ بالنظر إلى ذاته ـ لا يزال خاملا في ظلمة العدم المحض، فلا وجود له لولا نور الموجد، فلولا ظهور الحق فيه، ظهور إيجاد وتعريف لا ظهور حلول وتكييف لما كان له أي وجود.

وهذا هو الفرق العظيم بين العارف والعالم، فالعارف في محل الرؤية قد تجاوز فيافي الاستدلال وصحراء النظر ومتاهات البحث، أما العالم فلا يزال تنقطع به السبل دون حصول ذلك اليقين الذي ينعم به العارف، قال ابن عطاء الله:« شتان بين من يستدل به أو يستدل عليه، المستدل به عرف الحق لأهله، وأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه. وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه؟ ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه؟.

ولهذا ينطلق العارفون من الله إلى الكون، ويأخذون الأشياء من الله قبل أخذها من الكون، ولهذا لم ينحجبوا بالكون عن المكون، بل انحجبوا بالمكون عن الكون، الكون باعتباره أصلا لا باعتباره فرعا وتابعا.

وقد سمى الغزالي هذا اليقين « علم المكاشفة » وعرفه بأنه عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة.

وهذا النور المتجلي على القلب تنكشف به الحقائق الكثيرة التي كان ـ في مرحلة العلم ـ يسمع من قبل أسماءها، ويتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، وقد ينتشر له من بعض تلك المعاني ما يوهم التناقض أو يدعو إلى الشك، ولكن في مرحلة اليقين الذي يرفع الحجب يبصر الحقائق كما هي، ( فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه، وبصفاته الباقيات التامات، وبأفعاله، وبحكمه في خلق الدنيا والآخرة، ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا، والمعرفة بمعنى النبوّة والنبـيّ، ومعنى الوحي، ومعنى الشيطان، ومعنى لفظ الملائكة والشياطين، وكيفية معاداة الشياطين للإنسان، وكيفية ظهور الملك للأنبـياء، وكيفية وصول الوحي إليهم، والمعرفة بملكوت السموات والأرض، ومعرفة القلب وكيفية تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه، ومعرفة الفرق بـين لمة الملك ولمة الشيطان، ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب، ومعنى قوله تعالى:﴿  اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (الاسراء:14)، ومعنى قوله تعالى:﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(العنكبوت: من الآية64)، ومعنى لقاء الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم، ومعنى القرب منه والنزول في جواره، ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى ومقارنة الملائكة والنبـيـين، ومعنى تفاوت درجات أهل الجنان حتى يرى بعضهم البعض كما يرى الكوكب الدرّي في جوف السماء إلى غير ذلك مما يطول تفصيله) [74]

وقد تاه الخلق الذين لم يجاوزا مرحلة العلم في هذه المعارف جميعا، وكثر الخلاف بينهم، لأن كل واحد منهم ينظر إلى هذه المسائل، وهو متلبس بحجاب العقل، بخلاف من جاوزه وترقى إلى المشاهدة.

وقد اعتبر ابن القيم هذه المكاشفة هي المقام الذي عبر عنه رسول الله r بالإحسان، فقال:( ومراد القوم بالمكاشفة  ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين فلا يبقى معه شك ولا ريب أصلا وهذا نهاية الإيمان وهو مقام الإحسان) [75]

 

 



([1])  الإحياء.

([2]) رواه البخاري ومسلم.

([3])  رواه أحمد.

([4]) تفاصيل بعض المسائل الدقيقة المطروحة هنا في رسالة (عيون العارفين) من رسائل السلام.

([5])  يقصد بالفناء في كلام العارفين أمران:

1 ـ فناء سلوكي، وهو تغيير معنوى للسالك بإفناء ميوله ورغباته جميعا من المخالفة إلى الموافقة.

2 ـ فناء بمعنى التجريد العقلى وعدم الالتفات إلى المدركات والأفكار والأفعال والأحاسيس وذلك بانحصاره فى التفكير فى الله، وهذا ما نريده هنا.

([6])  الإحياء: (4/212).

([7])  مدارج السالكين:3/370.

([8])  وقد أنكر ابن تيمية هذا التفسير بوجوه من الإنكار قال في التقديم لها: وإذا كان المقصود هنا الكلام في تفسير الآية تفسير الآية بما هو مأثور ومنقول عن من قاله من السلف والمفسرين من أن المعنى كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه هو أحسن من ذلك التفسير المحدث، بل لا يجوز تفسير الآية بذلك التفسير المحدث، وهذا يبين بوجوه بعضها يشير إلى الرجحان وبعضها يشير إلى البطلان. انظر: مجموع الفتاوى:2/28.

([9])  رواه البخاري ومسلم.

([10]) وقد ورد الحديث بصيغ مختلفة منها أشعر كلمة تكلمت بها العرب، وفي رواية أصدق كلمة قالها شاعر، وفي أخرى أصدق بيت قاله الشاعر، وفي أخرى أصدق بيت قالته الشعراء، وفي أخرى أصدق كلمة قالتها العرب.

([11]) رواه البخاري ومسلم.

([12]) وفي لفظ معه وفي لفظ غيره.

([13]) رواه البخاري.

([14]) في ظلال القرآن.

([15]) رواه ابن حبان، وفي حديث آخر، قال رسول الله r:( أيعجز أحدكم أن يقرأ في كل ليلة ثلث القرآن قالوا نحن اعجز من ذلك واضعف قال: (إن الله عز وجل جزا القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله احد جزا من أجزاء القرآن)رواه أحمد ومسلم.

([16])في ظلال القرآن.

([17]) في ظلال القرآن.

([18]) باستنثاء بعض الحرفيين الذين لم تستطع عقولهم أن تفهم هذه المعاني العميقة، ولم تتح لهم أذواقهم أن تستشعرها.

([19]) مدارج السالكين: 3/369.

([20])مدارج السالكين: 3/369.

([21]) مجموع الفتاوى:10/337.

([22]) رواه الحاكم.

([23]) الرد على المنطقيين: 517.

([24]) شرح الحكم.. ولم أجد تخريجه.

([25]) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان.

([26]) عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله r:(يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟)، قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟) قال: قلت:﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ (البقرة: من الآية255)، فضرب في صدري وقال: (ليهنك العلم يا أبا المنذر) رواه مسلم.

([27]) الحديث رواه ابن جرير (5/394) قال فيه ابن كثير:وهذا حديث غريب جدا والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع، والله أعلم. (تفسير ابن كثير:1/679)

([28]) اللمعة السادسة والعشرون (رسالة الشيوخ)

([29]) الكلمة الثانية والثلاثون.

([30]) خصصنا رسالة من رسائل السلام بالبحث عن أسرار الدموع الطاهرة سميناها (منابع الدموع الطاهرة)

([31]) رواه البخاري ومسلم.

([32]) الكلمة الثانية والثلاثون.

([33]) الكلمة الثانية والثلاثون.

([34]) الإحياء.

([35]) الإحياء.

([36]) الكلمة الرابعة والعشرون.

([37]) انظر: الإحياء.

([38]) جواهر القرآن.

([39]) جواهر القرآن.

([40]) جواهر القرآن.

([41]) الإحياء.

([42]) المثنوي العربي النوري.

([43])الكلمة الثانية عشرة.

([44]) نرى أن القرآن الكريم يعبر عن العارفين بمصطلح أولي الألباب، وأدلة ذلك مفصلة في رسالة ( عيون العارفين)، وهي رسالة تبحث في ضوابط المعرفة وشروطها والفرق بينها وبين العلم.

([45]) أصل الحديث رواه البخاري ومسلم.

([46]) رواه ابن مردويه، وعبد بن حميد.

([47]) الإحياء.

([48]) رواه أبو يعلى، في إسناده عبد الله بن جعفر، وهو الذي ضَعّفه ولده الإمام علي بن المديني وغيره.

([49]) الإحياء.

([50])الإحياء.

([51])الإحياء.

([52])الإحياء.

([53])الإحياء.

([54])الإحياء.

([55]) ولكن للأسف نجد البعض خاض في هذا المجال تحت ما يسميه بالكشف، وهو ما لا يمكن اعتباره دليلا نتعرف به على عالم الغيب، وسنتعرض لهذه المسألة في محلها من رسالة ( عيون العارفين)

([56]) الإحياء.

([57])الإحياء.

([58]) الإحياء.

([59]) الحكمة في مخلوقات الله.

([60]) الحكمة في مخلوقات الله.

([61]) الإحياء.

([62])  مفتاح دار السعادة:1/199.

([63])  مفتاح دار السعادة: 1/ 215.

([64])  القواء: هي الارض الخالية.

([65])مفتاح دار السعادة:1/217.

([66]) الكلمة التاسعة والعشرون.

([67]) وقد أول بعضهم ذلك، فذكر أن المراد منه درجات ما كان يظهر لإبراهيم الخليل u في ترقيه، ففسر الكوكب بأنه وصل إلى حجاب من حجب النور فعبر عنه بالكوكب، ولم يرد هذه الأجسام المضيئة، فإن آحاد العوام لا يخفى عليهم أن الربوبية لا تليق بالأجسام بل يدركون ذلك بأوائل نظرهم فما لا يضلل العوام لا يضلل الخليل u، انظر: الإحياء:1/337، وهو تأويل بعيد حكاه الغزالي عن بعضهم، فلا يصح أن نعدل بألفاظ القرآن الكريم عن دلالاتها الظاهرة، إلا أن يكون ذلك من باب الإشارة، فلا حرج فيه بشرط الإقرار بظاهر المعنى.

([68]) رواه أحمد والبخاري في الأدب وابن ماجة.

([69]) رواه الترمذي.

([70])رواه الطبراني في الكبير وفيه خالد بن يزيد العمرى واتهم بالوضع.

([71]) رواه النسائي والبيهقي.

([72]) رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي.

([73]) مدارج السالكين: 2/397.

([74]) الإحياء.

([75]) مدارج السالكين:2/399.