الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: أسرار الأقدار

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

الفصل الرابع ـ سر الرحمة

أولا ـ رحمة النشأة الأولى

1 ـ الرحمة الخالصة

2 ـ الرحمة الممزوجة

مزيج الظالمين

مزيج الصالحين

الجواب الأول:

الجواب الثاني:

الجواب الثالث:

الجواب الرابع:

الجواب الخامس:

مزيج الأبرياء

الجواب الأول:

الجواب الثاني:

الجواب الثالث:

ثانيا ـ رحمة النشأة الآخرة

1 ـ رحمة المقربين

2 ـ رحمة الأبرار

3 ـ رحمة الظالمين

4 ـ رحمة الجاحدين

خلود العذاب:

انتهاء عذاب أهل النار:

1 ـ من النصوص:

الأمارة الأولى:

الأمارة الثانية:

الأمارة الثالثة:

2 ـ من آثار السلف:

3 ـ من أسماء الله:

4 ـ من عالم الحكمة:

 

 

الفصل الرابع ـ سر الرحمة

في هذا السر يصحب المؤمن أسماء الله الكثيرة التي تخبر عن محبة الله لخلقه، ومودته لهم، ورحمته بهم، ورزقه لهم، ولطفه بهم، وحنانه عليهم، وعفوه عن مساويهم، ومغفرته لذنوبهم، وتوبته عليهم، وشكره لهم.

ومن هذا السر يبحر المؤمن في بحر الحب المقدس، حين يرى جمال الله المتجلي في جميع الأشياء، ورحمة الله التي هي فيض من فيوضات جماله قد تزيبنت بها حروف جميع الكائنات، ونطقت بمعانيها جميع الحقائق.

ومن هذا السر يمتلئ قلب المؤمن من الرحمة الإلهية، فيفيض على جميع الكائنات رقة وإحسانا وبرا، فيصير عينا من عيون الرحمة، وواسطة من وسائط الجود.

وقبل أن نلج باب الرحمة الإلهية المفتوح على كل الكائنات نحب أن نمثل لعقولنا الموغلة في الحس، والمغرمة بالتشبيه ما يمثل بعض تجليات الرحمة الإلهية.

ولمعرفة ذلك نرحل إلى رسول الله r أعظم العارفين بالله، وأقرب الخلق إلى الله، ليذكر لنا هذا النموذج:

رأى رسول الله r امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليه وألقمته ثديها، فقال رسول اللّه r:(  أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه؟)، قالوا:( لا يا رسول اللّه)، قال:( فواللّهِ، للُّه أرحمُ بعباده من هذه بولدها) [1] 

بل إن رسول الله r أخبرنا بأن هذه الرحمة التي وقفتها هذه الأم ليست سوى تجل من تجليات رحمة الله، قال r:( جعل اللّه الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) [2]

ولذلك كان أكثر أسماء الله الحسنى يصب في بحر الرحمة، فتوبة الله على عباده، وتجاوزه عنهم من رحمته بهم، وقد أخبر r ـ لتقريب صورة هذا النوع من الرحمة ـ بهذا المثال، قال r:( لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ، وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده، عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده) [3]

بل إن رسول الله r يحكي عن ربه قوله لعباده:( إذا تقرب إلي العبد شبرا تقربت إليه ذراعا وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة) [4]، وقوله:( يا ابن آدم قم إلي أمش إليك وامش إلي أهرول إليك) [5]

والله هو الودود الذي يحب عباده، ويفيض عليهم لمحبته لهم كل أنواع الخير، ولا يحول بينه وبين التودد إليهم ما يبارزونه به من الخطايا والمعاصي، وفي الأثر الإلهي يقول الله تعالى:( إني والجن والإنس في نبإ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي)[6]

وفي أثر آخر:( ابن آدم، ما أنصفتني، خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، أتحبب إليك بالنعم وأنا عنك غني، وتتبغض إلي بالمعاصي، وأنت فقير إلي)

وفي أثر آخر:( يا ابن آدم ما من يوم جديد إلا يأتيك من عندي رزق جديد، وتأتي عنك الملائكة بعمل قبيح، تأكل رزقي وتعصيني، وتدعوني فأستجيب لك، وتسألني فأعطيك، وأنا أدعوك إلى جنتي فتأبى ذلك)

وفي أثر آخر:( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك , يا  ابن آدم لو أتيتني بقرابة الأرض - بضم القاف ويجوز كسرها أي قريب ملئها - خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) [7]

وقد أخبر القرآن الكريم أن ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طـه:5)، وفي ذلك إشارة إلى أن مملكة هذا الكون الواسعة مبنية على أساس الرحمة الإلهية ومنتهية إليها.

فالله تعالى في تلك الآية الكريمة لم يختر من أسمائه إلا هذا الاسم الجليل الذي يجمع بين الدلالة على منتهى الرحمة وكمالها والعلمية على الذات ليدل على هذا المعنى، فإنه إذا قيل:( حكم الملك الشجاع) دل ذلك على ان أكبر منجزات هذا الملك مؤسسة على شجاعته، وإن قيل:( حكم الملك العادل) دل ذلك على أن أبرز ما يظهر في مملكته هو عدله، وهكذا.

وهذا ما نفهمه من الآية الكريمة، فهي لم تقرر معنى الاستواء بقدر ما قررت معنى الرحمة التي على أساسها يحكم الكون، ولكن التحريف اهتم بالاستواء وأوغل فيه مع دقة مسلكه، وكاد يعرض عن معنى الرحمة التي هي المقصود الأول من البيان في هذه الآية، أو كما قال تعالى:﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً﴾ (الفرقان:59)

وهذه الآية تدل على أن الخبراء بالله العارفين به يدركون هذا المعنى، فلذلك كان أكثر كلام العارفين في التحبيب في الله والدلالة على أبواب رحمته، بل كان أعظم العارفين r هو الرحمة المهداة.

ولهذا يربط القرآن الكريم بين ملك الله الذي يعني تدبير الله للأشياء وبين رحمته تعالى، كما قال تعالى:﴿  الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً﴾ (الفرقان:26)

ولذلك ورد في القرآن الكريم الإخبار عن سعة الرحمة الإلهية وشمولها باعتبار الكون مؤسسا عليها إنشاء وتدبيرا، قال تعالى:﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ((الأعراف:من: 156)، وقال تعالى:﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (الأنعام:147)

فالآيتان الكريمتان صريحتان في سعة الرحمة الإلهية وشمولها لكل شيء، ولم يرد في القرآن الكريم اقتران السعة بشيء من صفات الله إلا في صفتي الرحمة والعلم.

وقد بينا في الفصل الأول أن العلم هو أوسع الصفات الإلهية حيث يتعلق بالواجب والجائز والمستحيل، فاعتبارالرحمة مماثلة للعلم في السعة يدل على المدى العظيم لسعتها، قال تعالى في بيان سعة علمه:﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ (الأنعام:80)، وقال تعالى:﴿  قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ (لأعراف:89)، وقال تعالى:﴿  إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ (طـه:98)

وقال تعالى جامعا بين الرحمة والعلم واقترانهما بالسعة:﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ (غافر:7)

وقد ورد في القرآن الكريم ـ زيادة على هذا ـ اقتران السعة بالمغفرة، كما قال تعالى:﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ (لنجم: من الآية32) وهو يصب فيما ذكرناه من الرحمة، لأن المغفرة مظهر من مظاهر الرحمة، أو هو مقدمة لها، ولذلك يقترنان في مواضع كثيرة من القرآن الكريم.

* * *

قد يقال بعد هذا: فما حقيقة الرحمة الإلهية؟

إن أحدنا إذا رحم غيره رق قلبه، وانهمرت دموعه، وشعر بمشاعر هي أدل على الصعف منها على الكمال، فهل يجوز على الله هذا النقص الذي نجده في ذواتنا، وهذه المشاعر التي هي دليل ضعفنا وعجزنا؟

والجواب عن ذلك هو أن الله تعالى الكبير المتعال الذي ليس كمثله شيء يتعالى عن النقص، فهو السلام الذي سلم من كل الآفات، بل من كل ما نتوهمه كمالا، بل نحن ـ لضعفنا وقصورنا ـ لا نعرف من حقائق الأسماء إلا بعض مظاهرها، أما حقائقها فلا حدود لها.

ولذلك تتفق رحمته تعالى مع ما نفهمه من الرحمة في بعض الأمور، وتختلف في بعضها.

فالرحمة في منطقنا تستدعي مرحوما، وتشترط في المرحوم أن يكون محتاجا.

وتشترط في الراحم أن يفيض عنايته على المرحوم بما يسد حاجاته، قاصدا بذلك العناية بالمرحوم، فإن قصر ـ مع القدرة ـ لم تعتبره رحيما.

فإن عجز اكتفت منه بما يظهر عليه من أمارات الرقة وعلاماتها، فتكون رحمة قاصرة لا يصيب المرحوم منها إلا امتنانه لمن رحمه.

وتتفق الرحمة الإلهية مع هذه المعاني جميعا إلا في المعنى الأخير، والذي لا يعتبر شرطا في الرحمة، بل هو دليل العجز والنقص.

وعدم احتواء الرحمة الإلهية على هذا المعنى مظهر من مظاهر كمالها، لأن الرحيم الذي يفيض عنايته بسبب ما اعتراه من الرقة، هو في حقيقته يعالج رقته، ويعتني بالضعف الذي أصابه لا بالمرحوم، ولذلك تجده يضطر المرحوم للتوسل إليه بفاقته وعجزه ليرحمه.

يقول الغزالي:( الرحمة لا تخلو عن رقة مؤلمة تعتري الرحيم فتحركه إلى قضاء حاجة المرحوم والرب سبحانه وتعالى منزة عنها، فلعلك تظن أن ذلك نقصان في معنى الرحمة، فاعلم أن ذلك كمال وليس بنقصان في معنى الرحمة، أما أنه ليس بنقصان فمن حيث أن كمال الرحمة بكمال ثمرتها ومهما قضيت حاجة المحتاج بكمالها لم يكن للمرحوم حظ في تألم الراحم وتفجعه، وإنما تألم الراحم لضعف نفسه ونقصانها ولا يزيد ضعفها في غرض المحتاج شيئا بعد أن قضيت كمال حاجته، وأما أنه كمال في معنى الرحمة فهو أن الرحيم عن رقة وتألم يكاد يقصد بفعله دفع ألم الرقة عن نفسه فيكون قد نظر لنفسه وسعى في غرض نفسه، وذلك ينقص عن كمال معنى الرحمة بل كمال الرحمة أن يكون نظره إلى المرحوم لأجل المرحوم لا لأجل الاستراحة من ألم الرقة) [8]

ولكنه مع ذلك، فإن هناك فرقا بين الرحمة والإحسان المجرد عن الرحمة والذي تدل عليه أسماء حسنى كثيرة، وهذا الفرق قد ندركه ذوقا ولا نستطيع التعبير عنه لسانا، فأسماء الله وصفاته من العظمة ما يعجز اللسان عن الوصف أو التعبير.

ولذلك، فإن تفسير الرحمة الإلهية بمجرد الإحسان يزيل عنها الخصوصية التي يختص بها هذا الاسم، بل يجل هذا الاسم مجرد مرادف لفظي لأسماء الجواد والكريم وغيرها.

* * *

 قد يقال هنا: كيف نعتبر الرحمة صفة إلهية، والقرآن الكريم والسنة المطهرة تخبر بأن الله تعالى خلق الرحمة، والمخلوق ليس صفة، أو ملكها، والمملوك ليس اسما؟

والجواب عن ذلك أن أكثر الأسماء الحسنى تدل على اتصاف الله بالرحمة، بل إن الله تعالى تسمى باسمين صريحين في الدلالة على رحمته هما:( الرحمن الرحيم)

فهذان الاسمان الكريمان هما الخلاصة التي تضمنها أكثر الأسماء الحسنى، ولذلك لهما من العناية من النصوص وفي الأذكار الشرعية ما ليس لغيرهما.

وقد وردا مقترنين في مواضع من القرآن الكريم للدلالة على سعة الرحمة وشمولها، كما قال تعالى:﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (الفاتحة:1)، وقال تعالى:﴿  الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (الفاتحة:3)، وقال تعالى:﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة:163)، وقال تعالى:﴿ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (فصلت:2)

بل إن الله تعالى جعل اسم الرحمن علما على الذات الإلهية المقدسة، قال تعالى:﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ (الاسراء: من الآية110)، وقال تعالى:﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ (طـه:90)

ومما يدل على دلالته للذات أن الله تعالى نسب الملك للفظ الجلالة الدال عل الذات، كما قال تعالى:﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ (الحج:56) ونسبه إلى الرحمن، كما قال تعالى:﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً﴾ (الفرقان:26)، وقال تعالى:﴿ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ (طـه:109)، وقال تعالى:﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً﴾ (النبأ:38)

ولهذا ترد نسبة العباد إلى الرحمن سواء من البشر، كما قال تعالى:﴿  وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً﴾ (الفرقان:63)، أو من الملائكة، كما قال تعالى:﴿ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ﴾ (الزخرف:19)

ودلالته على الذات تعني شموليته لكل شيء، فكل شيء قائم بالله، ولهذا يربط القرآن الكريم كل المظاهر برحمانية الله سواء ما كان منها من باب الرحمة الخالصة، كقوله تعالى:﴿  جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً﴾ (مريم:61)

 أو من باب الرحمة الممزوجة بالآلام على حسب ما تقتضيه الأسماء الحسنى والحكمة الإلهية، كما قال تعالى على لسان إبراهيم u:﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً﴾ (مريم:45)

فقد ذكر إبراهيم u الرحمن، ولم يقل الجبار ولا القهار، للدلالة على أن العذاب لا يتنافى مع الرحمة الإلهية، كما لا يتنافى الكي أو الحقنة أو الدواء المر إذا وضعت في مواضعها التي تقتضيها حكمة الجسم مع رحمة الطبيب.

ولذلك قال تعالى: ﴿ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ﴾ (يّـس:23)، فقد نسب إرادة الضر إلى الرحمن ليدل على أن هذا الضرر في حقيقته رحمة، اقتضاه التدبير الإلهي.

ومثل ذلك قوله تعالى:﴿ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً﴾ (مريم:69)، وقال تعالى:﴿ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً﴾ (مريم:75)

أما ما ورد في النصوص من الرحمة المضافة إلى الله مما قد يوهم أنها خلق من خلق الله لا صفة من صفاته، فهو جار على أسلوب القرآن الكريم والسنة المطهرة في وصف الله تعالى إما بأوصاوف أو بأعيان تدل على الأوصاف، فالإضافة تدل على أنها إضافة وصف له قائم به ليست مخلوقة لأن الصفة لا تقوم بنفسها، فلا بد لها من موصوف تقوم به، فإذا أضيفت إليه علم أنها صفة له.

لكن قد يعبر باسم الصفة عن المفعول بها، فيسمى المقدور قدرة والمخلوق بالكلمة كلاما، والمعلوم علما، والمرحوم به رحمة، كما يقال للمطر والسحاب:( هذه قدرة قادر، وهذه قدرة عظيمة)، ويقال في الدعاء:( غفر الله لك علمه فيك) أي معلومه.

ومن هذا الباب ما ورد من النصوص الكثيرة من التعبير على الرحمة الإلهية بمظاهرها، كما قال تعالى في دعاء المؤمنين:﴿  رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (آل عمران:8)، وقال تعالى:﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً﴾ (النساء:175)

ومثل ذلك اعتبار الله تعالى الجنة رحمة، كما قال تعالى:﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (آل عمران:107)

ومثله اعتبار ما ينزل على عباده من مظاهر النعيم المختلفة رحمة، كما قال تعالى:﴿ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ (يونس:21)، وقال تعالى:﴿  وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ﴾ (هود:9)

إلى غير ذلك مما يرد في النصوص من مظاهر الرحمة الإلهية، والتي سنعرف الكثير منها في محالها من هذا الفصل.

* * *

 

 ولهذا، فإن كل مقادير الله تصب من بحر رحمة الله، ولكن صورها ومظاهرها قد تختلف بحسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية، وأسماء الله الحسنى، وهي مع هذا الاختلاف الذي قد يبدو متناقضا تتوحد على رحمة الله.

* * *

قد يقال بعد هذا، أو بعد قراءة ما سيأتي من مباحث: أليس في نشر مثل هذا الفكر الإرجائي خطرا على السلوك الإسلامي الذي يستدعي الترهيب والتشديد سدا لذرائع الانحراف؟

أو لسنا بهذا نعطي المنحرفين مبررا للانحراف، بل نوهمهم أن رحمة الله ستشملهم كما تشمل المتقين؟

والجواب على ذلك: أن المؤمن يقدم كل ما ورد في النصوص على كل ما يرد في ذهنه من تحليلات ومخاوف، لأن الله تعالى هو الذي أخبر عن صفاته وأفعاله ما ملأنا شعورا برحمته التي وسعت كل شيء، ومن الخطر أن نصف الله تعالى بغير ما وصف به نفسه.

فالله تعالى يخاطب المسرفين على أنفسهم بألوان الذنوب قائلا:﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر:53)، فالله تعالى عرف نفسه لهؤلاء المسرفين بكونه غفورا رحيما، ومن الخطأ أن نعرفهم لهم بغير ما عرفهم به.

بل إن هذا التعريف هو الذي يحرك القلوب للسير نحو الله، ويكبح الغرائز عن معارضة الرحيم الودود، وقد روي أن علياً الأسدي حارب، وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة فامتنع، ولم يقدروا عليه حتى جاء تائباً، وسبب توبته أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية::﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر:53)، فوقف عليه، فقال:( يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائباً.

وكان من صدق توبته أن خرج مجاهداً في سبيل اللّه في البحر، فلقوا الروم، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم، فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقها الآخر، فمالت به وبهم، فغرقوا جميعاً.

ويروى من هذا أن مجوسياً استضاف إبراهيم الخليل u، فقال: إن أسلمت أضفتك؛ فمرّ المجوسي، فأوحى الله تعالى إليه: يا إبراهيم لم تطعمه إلا بتغيـير دينه ونحن من سبعين سنة نطعمه على كفره، فلو أضفته ليلة ماذا كان عليك؛ فمر إبراهيم يسعى خلف المجوسي فرده وأضافه؛ فقال له المجوسي: ما السبب فيما بدا لك؟ فذكر له؛ فقال له المجوسي: أهكذا يعاملني ثم قال: اعرض علي الإسلام فأسلم.

ويروى عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام؛ فقيل له: تتابع في هذا الشراب؛ فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان، سلام عليك، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو: ﴿ بسم الله الرحمن. حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (غافر:1 ـ 3)، ثم ختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته. فلما بلغ عمر ـ رضي الله عنه ـ أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه.

فهذه المعرفة بالله جعلت الأول يستهين بكل صعب في سبيل الله، وجعلت الثاني يقبل على الله، وجعلت الثالث يتوب إلى الله، ولذلك قال الغزالي:( اعلم أن العمل على الرجاء أعلى منه على الخوف، لأن أقرب العباد إلى الله تعالى أحبهم له، والحب يغلب الرجاء، واعتبر ذلك بملكين يخدم أحدهما خوفاً من عقابه والآخر رجاء لثوابه) [9]

ولما يتضمنه القنوط من رحمة الله من مساوئ في الاعتقاد أو السلوك ورد النصوص بتحريمه، كما قال تعالى في الآية السابقة:﴿ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)(الزمر: من الآية53)، فحرم أصل اليأس.

بل اعتبر اليأس من روح الله من صفات الكافرين، كما قال تعالى:﴿ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف: من الآية87)

وأخبر تعالى أن كفر الكافرين وضلالهم ناتج عن سوء ظنهم بربهم، كما قال تعالى:﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (فصلت:23)، وقال تعالى:﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ (الفتح:12)

وذلك لأن استشعار رحمة الله يحبب في لقاء الله، بخلاف اليأس من رحمته، فإن الإنسان يكره لقاء من لا يحبه، قال r:( إن شئتم أنبأتكم: ما أول ما يقول الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة وما أول ما يقولون له؟ قلنا: نعم يا رسول الله. قال: إن الله تعالى يقول للمؤمنين هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا. فيقول: لم؟ فيقولون رجونا عفوك ومغفرتك , فيقول: قد وجبت لكم مغفرتي) [10]

ولهذا ورد الأمر بحسن الظن بالله خاصة في موقف الاحتضار، وقد سمع النبي r قبل موته بثلاثة أيام يقول:( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى) [11]

ودخل r على شاب وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله , وإني أخاف ذنوبي , فقال r:( لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف) [12]

وقد أخبر r عن تأثير حسن الظن بالله ـ والذي يعتمد على معرفة رحمة الله الواسعة ـ سواء في السلوك أو في تنزل فضل الله عليه:

فقال عن تأثيره السلوكي:( حسن الظن من حسن العبادة) [13]، وقال r:( إن أفضل العبادات حسن الظن بالله تعالى , يقول الله لعباده أنا عند ظنك بي) [14] 

وقال عن تأثيره في تنزل فضل الله عليه:( قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني) [15]، وقال r:( قال الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرا فله , وإن ظن شرا فله) [16]

وأخبر r عن تأثير حسن الظن بالله في الآخرة بقوله:( أمر الله تعالى  بعبد إلى النار فلما وقف على شفيرها التفت فقال: أما والله يا رب إن كان ظني بك لحسنا , فقال الله تعالى ردوه , أنا عند ظن عبدي بي) [17]

ويروى في الأثر أن رجلين كانا من العابدين متساويـين في العبادة، قال: فإذا أدخلا الجنة رفع أحدهما في الدرجات العلى على صاحبه، فيقول: يا رب ما كان هذا في الدنيا بأكثر مني عبادة فرفعته عليَّ في عليـين، فيقول الله سبحانه: إنه كان يسألني في الدنيا الدرجات العلى وأنت كنت تسألني النجاة من النار، فأعطيت كل عبد سؤله.

وسر هذا أن القانط من رحمة الله يعتقد في الله ما لا يليق به مما ينزه عنه، بينما من أحسن ظنه بالله، وإن قصر في سلوكه، فإن ذلك التقصير لم يؤثر في حسن معرفته بربه، ولذلك قال علي ـ رضي الله عنه ـ لرجل أخرجه الخوف إلى القنوط لكثرة ذنوبه:( يا هذا يأسك من رحمة الله أعظم من ذنوبك)

ولهذا ورد الأمر بتحبيب الله إلى عباده، وذلك لا يكون إلا بذكرفضله ورحمته، وقد أوحي الله تعالى إلى داود u:( أحبني وأحب من يحبني وحببني إلى خلقي)، فقال:( يا رب، كيف أحببك إلى خلقك؟)، قال:( اذكرني بالحسن الجميل واذكر آلائي وإحساني وذكرهم ذلك فإنهم لا يعرفون مني إلا الجميل)

ويروى أنّ رجلاً من بني إسرائيل كان يقنط الناس ويشدّد عليهم، فيقول الله تعالى يوم القيامة له:( اليوم أويسك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها)

وقد رئي أبان بن أبـي عياش في النوم، وكان يكثر ذكر أبواب الرجاء فقال: أوقفني الله تعالى بـين يديه فقال: ما الذي حملك على ذلك؟ فقلت: أردت أن أحببك إلى خلقك، فقال: قد غفرت لك)، وقد لقي في حياته مالكا بن دينار، فقال له: إلى كم تحدث الناس بالرخص؟ فقال: يا أبا يحيـى، إني لأرجو أن ترى من عفو الله يوم القيامة ما تخرق له كساءك هذا من الفرح.

وقال بكر بن سليم الصوّاف: دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها فقلنا: يا أبا عبد الله، كيف تجدك؟ قال: لا أدري ما أقول لكم إلا أنكم ستعاينون من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب، ثم ما برحنا حتى أغمضناه.

وقال يحيـى بن معاذ في مناجاته: يكاد رجائي لك من الذنوب يغلب رجائي إياك مع الأعمال؛ لأني أعتمد في الأعمال على الإخلاص وكيف أحرزها وأنا بالآفة معروف، وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف.

ورأى بعضهم أبا سهل الصعلوكي في المنام على هيئة حسنة لا توصف، فقال له: يا أستاذ، بم نلت هذا؟ فقال: بحسن ظني بربـي.

وحكي أن أبا العباس بن سريج رحمه الله تعالى رأى في مرض موته في منامه كأن القيامة قد قامت، وإذا الجبار سبحانه يقول: أين العلماء؟ قال: فجاؤوا، ثم قال: ماذا عملتم فيما علمتم؟ قال: فقلنا يا رب قصرنا وأسأنا: قال: فأعاد السؤال كأنه لم يرض بالجواب وأراد جواباً غيره، فقلت: أما أنا فليس في صحيفتي الشرك وقد وعدت أن تغفر ما دونه، فقال: اذهبوا به فقد غفرت لكم، ومات بعد ذلك بثلاث ليال.

* * *

وقد كان السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ يتذاكرون آيات الرحمة، وحسن الظن بالله، ويبحثون عنها في القرآن الكريم، ويستبشرون بها، ومما يروى من ذلك، ولا ندري مدى صحته، أن الصحابة y تذاكروا القرآن فقال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ، فقال:( قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر فيه آية أرجى وأحسن من قوله تعالى:﴿ بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)﴾ (غافر)، قدم غفران الذنوب على قبول التوبة، وفي هذا إشارة للمؤمنين.

وقال عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ:( قرأت جميع القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى:﴿  نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الحجر:49)

وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ:﴿ قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى:﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر:53)

قال القرطبي معلقا على هذه الرواية:( وقرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى:﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأنعام:82)

ونقول على سنتهم: إن كل القرآن الكريم رحمة وتحبيب إلى الله، وأرجى آية فيما نرى هي قوله تعالى:﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ (طـه:5)، فكيف يساء الظن بمن هذا وصفه؟

ويروى من ذلك أنّ أعرابـياً سمع ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يقرأ:﴿ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ﴾ (آل عمران: من الآية103)، فقال الأعرابي:( فوالله ما أنقذكم منها وهو يريد أن يوقعكم فيها)، فقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ:( خذوها من غير فقيه)

ويروي الغزالي عن بعض العارفين أنه كان يرى آية المداينة في البقرة من أقوى أسباب الرجاء، فقيل له: وما فيها من الرجاء؟ فقال: الدنيا كلها قليل، ورزق الإنسان منها قليل، والدين قليل عن رزقه، فانظر كيف أنزل الله تعالى فيه أطول آية ليهدي عبده إلى طريق الاحتياط في حفظ دينه، فكيف لا يحفظ دينه الذي لا عوض له منه؟

* * *

قد يقال بعد هذا: فإن رجع الأمر إلى استشعار الرحمة المحضة، فما محل ما ذكر في النصوص، وما تحدث عنه العارفون من مقامات الخوف والخشية والحذر، أتلغى كل هذه المقامات، أم يعتقد قصورها وضعفها وانحطاطها؟

فإن قيل بذلك، فإن الله تعالى أخبر عن العارفين من عباده أنهم يخشونه، بل أخبر r عن نفسه أنه يخشى الله، كما قال r:(  أما والله إني لاتقاكم لله، وأخشاكم له) [18]

والجواب عن ذلك هو أن المؤمن الكامل هو الذي يؤمن بالعزيز الرحيم، فكما أن لله صفات الجمال، فله صفات الجلال، وفرق كبير بين من يعرف العزيز الرحيم، وبين من يعرف الرحيم مجردا من العزة والكبرياء والجلال.

بل إن إدراك المؤمن لعزة الله المقترنة برحمته، أو رحمته المقترنه بعزته يزيد من إدراكه وتلذذه واستشعاره لرحمة الله، لأن رحمة العزيز كمال، ورحمة الذليل الضعيف القاصر ضعف، قد يستحسن لبعض البشر، ولا يستحسن لله.

ولذلك ورد في القرآن الكريم وصف المؤمنين برجاء الرحمة الذي يكبح بمكابح الهيبة والخشية والخشوع، كما قال تعالى:﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر:9)

فهذه الآية الكريمة جمعت بين المعرفتين: معرفة العزة المقتضية للحذر، ومعرفة الرحمة المقتضية للرجاء، وأشارت إلى أن هذا الجمع هو جمع العارفين العالمين من المؤمنين.

وقد جمع بينهما في تعبير الخشية، كما قال تعالى:﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: من الآية28) فحصر الخشية في العلماء العارفين بالله.

والخشية أخص من الخوف، وأدل على المعرفة بالله منه، ولذلك حصرت في العلماء، فهي خوف مقرون بمعرفة، ولهذا قال r:( أما والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له) [19]

وهي خوف مقرون بمحبة وشعور بالرحمة، قال ابن القيم:( الخوف حركة، والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك له حالتان: إحداهما حركة للهرب منه، وهي حالة الخوف، والثانية: سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه فيه، وهي الخشية) [20]، وقال مفرقا بين صاحبي الحالين:( صاحب الخوف  يلتجىء إلى الهرب والإمساك وصاحب الخشية  يلتجىء إلى الاعتصام بالعلم ومثلهما مثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق فالأول يلتجىء إلى الحمية والهرب والطبيب يلتجىء إلى معرفته بالأدوية والأدواء)

فالخشية في حقيقتها خوف مقترن برحمة اقتضاه معرفة العزيز الرحيم، ولذلك قال تعالى:﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً﴾ (النساء:9)، فكأن الآية تقول لهم:( كما تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم ولا تحملوه على تبذير ماله) [21] فالخوف على الأولاد خوف رحمة لا خوف هروب.

ولهذا لم يرد في القرآن الكريم وصف العارفين من المؤمنين إلا بالخشية، كما قال تعالى:﴿ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ (طـه:3)، وقال تعالى:﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ (النور:52)، وقال تعالى:﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾ (الأحزاب:39)، وقال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ (الملك:12)، وقال تعالى:﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الزمر:23)، وقال تعالى:﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ (الأعلى:10)

بل نرى القرآن الكريم يعبر أن الخشية تجتمع مع اسم الرحمن، كما قال تعالى:﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ (قّ:33)، فسماه بالرحمن في حال خشيته ليدل أن الخشية اقتران معرفة العزة بالرحمة.

بينما نرى القرآن الكريم يقصر الخوف على أفعاله تعالى دون ذاته، كما قال تعالى:﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (الأنعام:15)، وقال تعالى:﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (يونس:15)، وقال تعالى:﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (يونس:15)، وقال تعالى:﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ (هود:103)، وقال تعالى:﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً﴾ (الاسراء:57)، وقال تعالى:﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (قّ:45)، وقال تعالى:﴿ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ (الذريات:37)، وقال تعالى:﴿ كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ﴾ (المدثر:53)، وقال تعالى:﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾ (الانسان:7)، وقال تعالى:﴿ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾ (الانسان:10)     

فالخوف من هذه جميعا يدعو إلى سلوك السبل المبعدة عنها، بخلاف الخشية التي تدعو إلى الفرار من الله إلى الله، عرفانا بعزة الله ورحمته.

ولهذا عندما تجتمع الخشية والخوف في الآية الواحدة تتعلق الخشية بالله، ويتعلق الخوف بأفعاله، ومن ذلك قوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾ (الرعد:21)، وقال تعالى:﴿ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ (الانبياء:49)

وبالإضافة إلى هذا ورد النص على الخوف من مقام الله، كما قال تعالى:﴿  وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ (ابراهيم:14)، وقال تعالى:﴿  وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ (النازعـات:40)  

وهو راجع لمعنى الخوف من أفعاله، لأن المعنى فيها:( خاف مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية)، فـ (مقام) مصدر بمعنى القيام، أو أنه ( خاف قيام ربه عليه أي إشرافه واطلاعه عليه)، كما قال تعالى:﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ (الرعد: من الآية33)

أما المواضع الوحيدة التي ورد فيها التعبير عن الخوف من الله، ففي قوله تعالى عن إبليس:﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ (الحشر:16) وخوف إبليس يدعوه إلى الهروب من ربه لا إلى الفرار إليه.

وورد مثله في قوله تعالى:﴿  وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (النحل:49 ـ 50)، والآية عامة تشمل المؤمن المستسلم بقلبه وقالبه للّه، والكافر المستسلم للّه كرهاً، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع.

وبما أن الخوف مرحلة مؤقتة أو حالة مؤقتة، فإن الملائكة ـ عليهم السلام ـ تخاطب المؤمنين العارفين بالله لتبشرهم وتزيل عن قلبهم المخاوف، قال تعالى:﴿  إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت:30)

فالخوف إذن حالة سلبية إذا لم تمزج بمعرفة رحمة الله، بل هو ـ بذلك ـ دليل على الجهل بالله، وطريق إلى اليأس من الله، ومثل هذا لا يمدح بحال من الأحوال.

أما ما ورد من حديث العارفين المربين عن الخوف، فمرادهم منه الخشية لا الخوف المؤدي إلى القنوط، ولذلك يربطون الخوف بالسلوك، كما قال أبو حفص:( الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه)، وقال :( الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله تعالى فإنك إذ خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه)، وقال أبو سليمان:( ما فارق الخوف قلبا إلا خرب)، وقال إبراهيم بن سفيان:( إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها)، وقال ذو النون:( الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق)

ولهذا اتفقوا على أن الخوف ليس مقصودا لذاته، بل هو مقصود لغيره، قصد الوسائل، ولهذا يزول بزوال المخوف فأهل الجنة لا يخافون، كما قال تعالى:﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة:112)، وقال تعالى:﴿ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران:170)، وقال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (المائدة:69)، وقال تعالى:﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الأنعام:48)

ولهذا كانت المحبة الناشئة من معرفة جمال الله أكمل من الخوف المتعلق بأفعال الله، ولهذا كان الخوف المحمود الصادق هو ما حال بين صاحبه وبين محارم الله تعالى، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط، قال ابن تيمية:( الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله)

وقال الغزالي بعد إيراده النصوص الكثيرة المرغبة في الخوف:( اعلم أن الأخبار في فضل الخوف والرجاء قد كثرت وربما ينظر الناظر إليها فيعتريه شك في أن الأفضل أيهما) [22]

وقد أجاب على هذا السؤال بقوله:( وقول القائل الخوف أفضل أم الرجاء سؤال فاسد يضاهي قول القائل الخبز أفضل أم الماء وجوابه أن يقال الخبز أفضل للجائع والماء أفضل للعطشان، فإن اجتمعا نظر إلى الأغلب، فإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل وإن كان العطش أغلب فالماء أفضل، وإن استويا فهما متساويان، وهذا لأن كل ما يراد لمقصود ففضله يظهر بالإضافة إلى مقصوده لا إلى نفسه والخوف، والرجاء دواءان يداوي بهما القلوب ففضلهما بحسب الداء الموجود، فإن كان الغالب على القلب داء الأمن من مكر الله تعالى والاغترار به فالخوف أفضل، وإن كان الأغلب هو اليأس والقنوط من رحمة الله فالرجاء أفضل، وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية فالخوف أفضل) [23]

وبعد بيانه لمنفعة الخوف لأكثر الخلق بين أن الأساس الذي يبنى عليه الرجاء أكمل من الأساس الذي يبنى عليه الخوف، قال:( وإن نظر إلى مطلع الخوف والرجاء، فالرجاء أفضل لأنه مستقى من بحر الرحمة، ومستقى الخوف من بحر الغضب، ومن لاحظ من صفات الله تعالى ما يقتضي اللطف والرحمة كانت المحبة عليه أغلب، وليس وراء المحبة مقام، وأما الخوف فمستنده الالتفات  إلى الصفات التي تقتضي العنف، فلا تمازجه المحبة ممازجتها للرجاء)

بل إن الرجاء لا يقل عن الخوف في تأثيره السلوكي، ولهذا غلب الله تعالى الرجاء عل الخوف في قوله تعالى:﴿ وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (لأعراف: من الآية56)

فالرجاء مع ما يبثه في النفس من محبة الله، فإنه يبعث فيها دوافع السلوك إليه، والخوف من فراقه، فإن كل محب خائف، ولهذا يقال:( من رجا خاف، ومن خاف رجا)، وقد قال الإمام الجليل محمد بن إبراهيم القاسمي في هذا المعنى [24]:

عذلي عابوا رجائي
 

عذلي جاروا وتاهوا
  

كيف لا أرجو الذي لا
 

يغفر الذنب سواه
  

جاء في القرآن منصوصا
 

وكل قد رواه
  

وهو أعلي رتب المجد
 

بعفو هو ما هو
  

قصر المدح عليه
 

فانظروا ذا المدح ما هو
  

هو حق أو محال
 

أو صحيح أو سواه
  

لا ومن لا يغفر الذنب
 

وإن جل سواه
  

إنه للحق صدقا
 

وصدوق من رواه
  

وسعيد من تلقا
 

بصدق ورجاه
  

وظلوم من يسميه
 

مني خاب مناه
  

الاماني رده الحق
 

اجتهادا بهواه
  

أو يري أهدي من
 

القرآن نهجا ما رآه
  

ويري الباطل في
 

مفهومه مهما تلاه
  

غير أن الله للعبد
 

بخوف ابتلاه
  

لصلاح فيه لا يغني
 

عن الخوف سواه
  

نحمد الله علي الخوف
 

فمولانا قضاه
  

لو محا الخوف رجائي
 

لمحا الخوف قضاه
  

من رجا خاف من الله
 

ومن خاف رجاه
  

ولذا اختص أولو العلم
 

ومن قد اصطفاه
  

بمزيد الخوف لله
 

مع وعد رضاه
  

لو رجا الكافر أوخاف
 

وقاه وكفاه
  

ذا رجائي فيه وإلا
 

رجاء زور لا أراه
  

 

* * *

قد يقال بعد هذا: فإن الله تعالى وصف نفسه بأنه شديد العقاب مقرونا بوصف الرحمة.

فنقول: نعم.. إن الله وصف أنه من كمال قدرته شديد العقاب، ولكن عقوبة الرحيم رحمة، وسنرى في هذا الباب أن كل ما نتوهمه عقوبات هو في حقيقته رحمة أخذت ذلك المظهر للحاجة التي استدعت ذلك.

أو أن كل ما كان من صفة الرحمة فهو غالب لما كان من صفة الغضب، فالغضب ليس من لوازم ذاته، ولهذا يقول رسله وأعلم الخلق به يوم القيامة:( إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله) [25]

وهذا بخلاف رحمته، فإنه تعالى لا يكون إلا رحيما، ورحمته من لوازم ذاته كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وإحسانه فيستحيل أن يكون على خلاف ذلك، ولذلك كان ( الرحمن) اسما دالا على الذات.

وقد أخبر تعالى أن رحمته وسعت كل شيء، ولم يخبر عن غضبه أنه يسع كل شيء، وأخبر أنه كتب علي نفسه الرحمة، ولم يخبر أنه كتب على نفسه الغضب، وأخبر أنه وسع كل شيء رحمة وعلما، ولم يخبر أنه وسع كل شيء غضبا وانتقاما[26].

بل وردت النصوص الكثير الدالة على أن آثار ما يكرهه ـ وهو المنهيات ـ أسرع زوالا بما يحبه من زوال آثار ما يحبه بما يكرهه، فآثار كراهته سريعة الزوال، فقد يزيلها سبحانه بالعفو والتجاوز وتزول لتوبة والاستغفار والأعمال الصالحة والمصائب الكفرة والشفاعة والحسنات يذهبن والسيئات ولو بلغت ذنوب العبد عنان السماء ثم استغفره غفر له ولو لقيه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئا لأتاه بقرابها مغفرة وهو سبحانه يغفر الذنوب وان تعاظمت ولا يبالى فيبطلها ويبطل آثارها بأدنى سعى من العبد وتوبة نصوح وندم علي ما فعل وما ذاك الا لوجود ما يحبه من توبة العبد وطاعته وتوحيده فدل علي أن وجود ذلك أحب اليه وأرضى له[27].

ولهذا، فإن الأسماء الكثيرة التي تدل على الرحمة أو تصب في مجراها يصح إطلاقها مفردة أو مقترنة بغيرها من الأسماء، فتقول:( يا عزيز يا حليم يا غفور يا رحيم)، بينما الأسماء التي تدل على المنع والضرر والانتقام لا يصح إطلاقها إلا مقرونة بما يقابلها، فلا يقال:( يا مذل يا ضار يا مانع)، ولو قال ذلك لم يكن مثنيا على ربه، ولا حامدا له حتى يذكر مقابلها، لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله لا بمفرده، ويراد به حينذاك أنه المنفرد بالربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيهم عطاء ومنعا ونفعا وضرا وعفوا وانتقاما، كما مر في الباب السابق.

ثم إن تأمل ما ورد في القرآن الكريم مما يدل على شدة العقوبة يقترن غالبا بما يدل على سعة الرحمة، سواء في الآية نفسها أو في السياق الذي وردت فيه، بل يقترن به ما يدل على غلبة الرحمة على الغضب، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المائدة:98)، فقد قابل شدة العقاب باسمين كريمين هما ( الغفور الرحيم)

ومثل ذلك قوله تعالى:﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (غافر:3) فقد وقع الوصف بـ ( شديد العقاب) بين صفة رحمة قبله وصفة رحمة بعده، فقبله ( غافر الذنب وقابل التوب) وبعده ( ذي الطول) [28]

بل إن الله تعالى يقرن بين عزته ورحمته في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى:﴿  وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الشعراء:9) في ثمانية مواضع، وهي تعقيبات على الهلاك الذي حاق بمكذبي الأنبياء ـ عليهم السلام ـ، ويسبق كل موضع منها بقوله تعالى:﴿  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء:8)، فلم تختم هذه الآيات بالمنتقم أو بالقهار، إنما ختمت بالعزة والرحمة.

وفي ذلك دليل يكاد يكون صريحا بأن كل ما نراه من مظاهر العزة مقترن بالرحمة ومنته إليها، ولذلك أمر بالتوكل على العزيز الرحيم، كما قال تعالى:﴿  وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ (الشعراء:217)

* * *

بعد هذه المقدمات التي تبين لنا من خلالها سعة الرحمة الإلهية وشمولها، نحاول أن نطل من نافذة قوله تعالى:﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طـه:5) على بعض تفاصيل الرحمة الإلهية الشاملة ومظاهرها، فالتفاصيل تعمق الإيمان وتحققه، وفي نفس الوقت نرد بتوفيق الله على بعض الشبه التي قد تشوه جمال الرحمة الإلهية في الذهن المؤمن.

وقد اخترنا من باب القسمة العقلية حصر الحديث في هذا الباب على رحمة الله في النشأتين: النشأة الأولى والنشأة الآخرة، ونحن نستغفرالله مسبقا من تقصيرنا في بيان رحمة الله الواسعة، فهي من العمق والشمول ما لا يقدر بشر على الإحاطة به، ونستغفره قبل ذلك من أن نرى رأيا أو نذهب مذهبا يخالف مراده، فهو اجتهاد المقصر الذي يبحث عن الحق أين كان، ويرجع إليه كيف كان.

أولا ـ رحمة النشأة الأولى

النشأة الأولى هي النشأة التي جعلها الله غراسا للنشأة الآخرة، فحياتها مقدمة الحياة لا أصلها، وهي لذلك حياة دنيا قصيرة تختلط فيها جميع الأشياء ليختار كل طبع ما يتلاءم مع طبعه.

هي أشبه بالتعليم الابتدائي الذي تتميز فيه الكفاءات، ومنه تنشأ التخصصات.

أو هي أشبه بمراحل التدريب التي يخوضها الإنسان في فترات حياته ليتمكن من عمل أو ليحترف حرفة.

وهي لذلك تجمع النماذج المختلفة للنشأة الآخرة، التي هي الأصل والمستقر، فتجمع صورة الجنة مع صورة النار، وريح الجنة، مع فيح جهنم، وأهل الجنة مع أهل النار.

في النشأة الدنيا تحتجب القدرة بالحكمة ليقول الغافلون:( لا إله)، وليقول الموقنون الطيبون مستدركين:( إلا الله)

ومع ذلك، فإن هذا النشأة التي اقتضت الحكمة الإلهية المقترنة بالرحمة الإلهية إنشاءها بهذه الصورة هي في حقيقتها دار ضيافة عظيمة، وكل ما فيها رحمة صرفة، ولكن العقول الغافلة قد لا تبصرهذه الرحمة، لأنها كالأطفال لا تريد من الحياة إلا اللعب.

وقد أخبر r عن شمولية هذه الرحمة في الدنيا بقوله:( إن الله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، وجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض وأخر تسعا وتسعين، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة) [29]، فقد أخبر r أن هذه الرحمة هي طباق ما بين السماء والأرض، ومع ذلك فهي رحمة واحدة.

وأخبر r أن من مظاهر هذه الرحمة عطف الوالدة على ولدها.

فكل ما نراه إذن من مظاهر الرحمة، حتى الرحمة التي نجدها في قلوبنا وتدمع لها أعيننا وترق لها أفئدتنا هي من رحمة الله لا من رحمة قلوبنا.

ومظاهر رحمة الله في هذه النشأة لا نهاية لها ولا حدود تحدها، ولا يمكن إحصاؤها، فكيف نحصي اللانهاية، وكيف نحد اللامحدود؟

ولذلك يخبرنا القرآن الكريم عن مظاهر الرحمة الإلهية الكثيرة لننتقل من التفصيل إلى التحقيق، ومن المظاهر إلى المظهر الظاهر.

ويخبرنا تعالى أن خزائن الرحمة بيده، وأنه لا يتصرف فيها غيره، لنتوجه إليه وحده في طلبها، قال تعالى:﴿ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً﴾ (الاسراء:100)، وقال تعالى:﴿  أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ (صّ:9)

ولذلك، فإن مفاتيح كل ما نراه من رحمة هو بيد الله تعالى، كما قال تعالى:﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (فاطر:2)

ولذلك، فإن العارفين بتفرد الله بالرحمة الشالمة الواسعة يتوجهون إليه وحده في طلبها، قال تعالى:﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر:9)

وأخبر تعالى عن أهل الكهف أنهم قالوا:( رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً﴾ (الكهف:10)

ولذلك فإن الله تعالى يخبرنا على أن كل ما يحصل في الكون من رحمة هو من إرساله ومن خزائنه:

فرحمة رسول الله r التي هي أساس علاقته بأمته وبالخلق، والتي هي مقصد رسالته هبة من الله إليه، أو هي مظهر من مظاهر رحمة الله، قال تعالى:﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران:159)

وما أنزل على رسول الله r من الكتاب رحمة من الله تعالى، قال تعالى:﴿  وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ﴾ (القصص:86)، وقال تعالى:﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (القصص:46)

بل إن نفس إرساله r رحمة من الله، قال تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الانبياء:107)

وما أنعم الله به على أيوب u من العافية بعد البلاء رحمة إلهية، قال تعالى:﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ (الانبياء:84)

 وما أنعم الله به على الخضر u رحمة إلهية، قال تعالى:﴿  فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف:65)

والقرآن الكريم ينبهنا إلى أن ما نتوهمه رحمة منا قد نزكي بسببها أنفسنا هو في حقيقته رحمة إلهية، ولذلك نسب الخضر u ما بذله من جهد لحفظ مال اليتيمين رحمة من الله، قال تعالى:﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف:82)

ونسب ذو القرنين ما فعله من بناء السد إلى رحمة الله، قال تعالى:﴿  قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً﴾ (الكهف:98)

* * *

 

 انطلاقا من هذه المعاني سنتحدث عن بعض مظاهر رحمة الله في هذه النشأة، وقد قسمنا الحديث فيها إلى قسمين:

الرحمة الخالصة، وهي الرحمة الصرفة التي لم تمزج بشيء من الآلام.

والرحمة الممزوجة، وهي التي مزجت ببعض الآلام لما تقتضيه الحكمة الإلهية وأسماء الله الحسنى.

1 ـ الرحمة الخالصة

الرحمة الخالصة هي الرحمة التي تهب من ريح الجنة لترسم نموذجا عن جمالها، فلذلك يراها كل الخلق ويسعدون بها ويعيشون فرحين بنشوتها، ولكنهم قد يغفلون عن مرسلها أو عن الحكمة منها، فتصبح شركا لأرواحهم وقيدا لنفوسهم يجذبهم إلى الخلود إلى الأرض.

وتجليات هذه الرحمة لا حدود لها، فهي تشمل كل الأشياء، ( فلو أنعم الانسان النظر في سير الحوادث ابتداءً من أضعف كائن حيّ وأشده عجزاً وانتهاءً بأقوى كائن، لوجد أن كل كائن يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، بل يَمنح سبحانه أضعفَهم وأشدّهم عجزاً ألطف الارزاق وأحسنها، ويسعف كل مريض بما يداويه)[30]

فكسوة جميع الأشجــار بحلل شبيـهة بالسـندس الخـضر كأنها حور الجنة، وتزيينَها بمرصعات الازهار الجميلة والثمار اللطيفة، وتسخيرَها لخدمتنا بانتاجها ألطف الاثمار المتنوعة وألذها في نهايات اغصانها التي هي أيديها اللطيفة.. وتمكيننا من جني العسل اللذيذ ـ الذي فيه شفاء للناس ـ من حشرة سامة.. وإِلباسَنا أجمل ثياب وألينها مما تحوكه حشرة بلا يد.. وادّخار خزينة رحمة عظيمة لنا في بذرة صغيرة جداً.. كل ذلك يرينا بداهةً كرماً في غاية الجمال، ورحمة في غاية اللطف.

وهكذا عناية الامهات بأولادهن الضعاف العاجزين ـ سواء في النبات أو الحيوان أو البشر ـ عناية ملؤها الرأفة والرحمة وتغذيتها بالغذاء اللطيف السائغ من اللبن، تريك عظمة التجليات، وسعة الرحمة المطلقة.

وانطلاقا من قوله تعالى:﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾ (الذريات:21)نرحل إلى عالم النفس، وما أودع الله فيه من خزائن الرحمة، فعالم النفس هو أول عالم يرحل منه إلى الله.

ونبدأ عالم النفس بعالم الجنين.. ذلك الذي تتجلى فيه الرحمة الخالصة في أصفى تجلياتها.

يقول الأستاذ عبد الرزاق نوفل في كتابه (الله والعلم الحديث):( انظر إلى الجنين كيف يتغذى في بطن أمه، وكيف يتنفس، أو كيف يقضي حاجاته، وكيف تنمو أجهزته، أو كيف تعلق في الرحم، وكيف أن الحبل السري الذي يربطه بأمه ليتغذى به منها قد روعي عند تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكّون من أجله دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه، أو قصر يؤدي إلى اندفاع الغذاء إليه بما قد يؤذيه.. اذا ما فكرنا في ذلك فلا نملك إلا أن نعترف بقدرة الصانع ولطف الخالق.

وعندما يبلغ الحمل نهايته تفرز غدد الأنثى إفرازات كثيرة متعددة الأغراض، فمنها ما يساعد على انقباضات الرحم وتقلصاته، ومنها ما يسهل عملية انزلاق الجنين، ومنها ما يعمل على مساعدة المولود في أن يكون نزوله بالوضع الطبيعي.

وباعتبار أن الثدي غدة كذلك، فهو يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع، سائلاً أبيض مائلاً إلى الأصفر، ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كمياوية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض.

وفي اليوم التالي للميلاد يبدأ اللبن في التكّون، ومن تدبير المدبر الأعظم أن يزداد مقدار اللبن الذي يفرزه الثدي يوماً بعد يوم، حتى يصل إلى حوالي لترين ونصف لتر في اليوم بعد سنة، بينما لا تزيد كميته في الأيام الأولى على بضع أوقيات.

ولا يقف الإعجاز عند كمية اللبن التي تزيد على حسب زيادة الطفل، بل إن تراكيب اللبن كذلك تتغير نسب مكوناته وتتركز مواده، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أول الأمر، ثم تتركز مكوناته فزيد نسبته السكرية والدهنية فترة بعد أخرى، بل يوماً بعد يوم بما يوافق أنسجة وأجهزة الطفل المستمر النمو، وعملية استخلاص اللبن في الثدي عملية عجيبة، تثبت وجود الخالق وتدلل على قدرته.

وجهاز الرضاع الذي نراه بعين الغفلة، فلا نكاد نبصره عالم من عجائب الرحمة الإلهية.

فالثدي أوعية شبكية كبيرة العدد، دقيقة الحجم، تتميز عن غيرها من الأوعية الدموية بكثرة مرور الدم فيها كثرة ملحوظة، وهذه الأوعية تحيط بفجوات متسعة مبطنة بالخلايا، صانعة اللبن، الذي تستخلصه من الدم المار بالأوعية، ويخرج اللبن من هذه الفجوات إلى مستودعات يبلغ عددها خمسة عشر أو عشرين، مكانها تحت دائرة حلمة الثدي، وتضيق قنوات هذه المستودعات كلما قربت من سطح الحلمة حتى تصبح فتحات ضيقة بهذا العدد، توزع اللبن  بها توزيعاً عادلاً، ويكون بذلك في حالة ميسرة لرضاعة الطفل.

ويأخذ الرضيع حاجاته من هذا اللبن الذي يتغير من وقت إلى آخر، وكلما زاد تراكيز مكوناته، كلما سبب ذلك نمو الأسنان التي تظهر لتهيئة الطفل لأن يتناول الطعام.

والأسنان نفسها تعتبر آية من آيات رحمة الله، فهي تختلف من قواطع في وسط الفم وقرب فتحته لقطع الطعام، إلى أنياب بجانبها للمعونة في تمزيقه، ثم أضراس صغيرة فكية على كل جانب لهرس وطحن الطعام.

وقد حاول العلماء جاهدين عند محاولة صنع الأسنان الصناعية أن يستنبطوا نظاماً آخر أو يغيروا من وضع الأسنان، فاعترفوا بقدرة الخالق، عندما قرروا أن أبدع وأكمل نظام يمكن للأسنان أن تكون عليه هو النظام الطبيعي، فلذلك صنعوا أطقم الأسنان على نسق الأسنان الطبيعية: شكلهاً.. وموضعهاً.. وترتيبهاً.

وعندما يحجب الطفل عن الرضاعة ويبدأ في الأكل، تظهر الآيات البينات على قدرة الخالق وعظمته، بما يشاهد من جليل الصنع على تهيئة الإنسان بما يحقق له حفظ حياته، فنجد في فم الإنسان فتحات الأنف الداخلية، وفتحة التنفس في أول القصبة الهوائية وفتحة البلعوم أول القناة الهضمية، ويذكر العلم أن أية ذرة من غبار تضل طريقها وتصل إلى القصبة الهوائية لابد أن تُطرد، وما السعال إلا محاولة لطرد غبار وصل  القصبة الهوائية، وأي ذرة من الغبار تقتحم القصبة الهوائية تفضي إلى الموت.. فكيف تدخل أذن البلعة الغذائية إلى فتحة القناة الهضمية ولا تدخل في فتحة القصبة الهوائية برغـم تلاصق فتحتيها!؟

وتدفع اللهاة إلى أعلى عند البلع، ويسد لسان المزمار طريق التنفس حتى تدخل البلعة الغذائية، ولم يحدث أن أخطأ لسان المزمار طريق التنفس حتى تدخل البلعة الغذائية، ولم يحدث أن أخطأ لسان المزمار، ذلك الجندي المجهول في نظام المرور الكائن في فتحة الفم اطلاقاً.. فاذا تصورنا كم فماً على وجه الحياة وكم جنديا يحرس تلك الفتحات في كل ثانية بل في كل لمحة، وكم مرة تفتح هذه هذه الفتحات وتقفل لآمنا بأن الله لا يحيط به مكان ولا زمان.

ويتم هضم الغذاء، أي تحويله من مواد صلبة معقدة، إلى أخرى سائلة سهلة الامتصاص بعمليات دقيقة غاية الدقة، تقوم خير دليل على رحمة الله، فكم ما يأكله الإنسان من صلب جامد وسائل ولزج، ومر وحار، وثقيل وخفيف، وحريف ولاذع  وساخن وبارد، ولحوم وخضر، وخبز وفاكهة، وزيوت وشحوم، وبقول وأبصال، مطبوخة أو نيئة، كلها تهضم بمواد واحدة، وطريق واحد، مواد  اختلفت تراكيبها وتباينت تراكيزها جسم الإنسان، أدق معمل كيماوي  عرف على وجه البسيطة فيدفعها في طريقها المرسوم لتصب عليها الغدد افرازاتها الحمضية، وعصاراتها ذات التركيز المقدر، الذي لو قل قليلاً لما هضم الطعام، ولو زاد زيادة طفيفة لاحترق الجسم، فسبحان الخالق العظيم.

وتدخل البلعة الغذائية في الفم، فتبدأ أولى مراحل الهضم، وذلك بخلط الغذاء باللعاب الذي تفرزه ست غدد.. وهذا اللعاب أول مراتب الهضم، لاحتوائه على خميرة، ويساعد على خفض درجة حرارة الطعام، إن كان ساخنا، وكسر حدة برودته أن كان مثلجا، كما أنه عامل أساسي في معادلة المواد الحرفة، وتخفيف أثر التراكيب اللاذعة وتنزلق بعد ذلك البلعة مختلطة باللعاب إلى البلعوم، فالمريء ثم المعدة إلي تفرز حامض الكلورودريك، ذا التركيز الخاص المعد بعناية، فتبلغ درجته من أربعة من أربعة إلى خمسه  في الألف، ولو زاد التركيز هذا الحامض على ذلك زيادة طفيفة، لحرق أنسجة المعدة حرقاً تاماً، وتتولى بعد ذلك زيادة الافرازات والعصارات في مختلف أجزاء الجهاز الهضمي الذي يبلغ طوله تسعة أمتار.

فهذه العصارات في مختلف أجزاء الجهاز الهضمي الذي يبلغ تسعة أمتار، فهذه عصارة الأمعاء، وتلك إفرازات  الصفراء والبنكرياس وغيرها وكلها تلائم حالة الغذاء الذي وصل إليها، ولم تعرف إلا من عشرين سنة.

ووظائف الغدد المسامات تلك المعامل الكيماوية الصغيرة التي تمد الجسم بالتراكيب الكيماوية الضرورية، والتي تبلغ من قوتها، أن جزءا من بليون جزء من بليون جزء منها، تحدث آثارا خطيرة في الإنسان.

وهي مرتبة بحيث أن إفراز كل غدة يكمل إفراز الغدة الأخرى، وكل ما يعرف عن هذه الافرازات إنها معقدة التركيب تعقيداً مدهشاً، وأن أي اختلال في إفرازها يسبب تلفاً عاما في الجسم، يبلغ حد الخطورة إذا دام هذا الاختلال وقتاً قصيراً.

ومثل ذلك لم يعرف إلا أخيراً أن الغدد النخامية والغدتين فوق الكليتين إنما هي مخازن  ذخيرة تعمل وتنشط عند الحاجة.. بينما في الأوقات العادية لا تزيد عن كونها أجهزة عاطلة.. هذه الغدة وظيفتها الأساسية حفظ التوازن الكمياوي والحيوي في الجسم.. إلا أنه يحاط الإنسان بجو بارد تفرز هذه الغدد افرازات تسبب ضيقاً في الأوعية الدموية مما يرتفع بسببه ضغط الدم.. فيتغلب الجسم  على الجو البارد المحيط به.. بالدفء الداخلي الناتج من ارتفاع ضغط الدم.

وفي حالات الجروح الخطيرة.. ينعكس عمل هذه الغدد فتعمل على خفض ضغط الدم.. وسرعة تجلطه لإيقاف نزف الدم.. كما أن هذه الغدد تعمل على تخفيض ضغط الدم عند الانفعالات النفسية وحالات التوتر والقلق...

وما قرره العلم من أن للأمعاء الدقاق، التي يبلغ طولها ستة أمتار ونصف متر، حركتين لا اراديتن كلها دلائل على رحمة الله.

أما الحركة الأولى، فهي حركة خلط مستمر هدفها مزج الطعام بمختلف عصارات الأمعاء وخمائرها مزجا تاما حتى يكون الهضم عاما.

وأما الحركة الثانية، فهي عرض الطعام المهضوم على أكبر مساحة ممكنة في الأمعاء كي يمس أكبر مسطح فيها فتمتص منه أكبر قدر، ثم يأتي بعد ذلك دور الهضم في الأمعاء الغلاظ التي  تفرز آخر أجزاء المواد المهضومة من الفضلات، حتى لا تخرج من الجسم إلا الفضلات والنفايات التي لا فائدة منها للإنسان، كما أنها كذلك تفرز مادة مخاطية تيسر انزلاق هذه الفضلات إلى خارج الجسم. 

وفي جسم الإنسان، علاوة على هذه المواد الكيماوية المعقدة والمختلفة الأنواع، ميكروبات وجراثيم وبكتريا، إذا زاد عدد النوع النوع منها عما هو مقدر لها، أو قل عمل تنوع آخر، أو اختلفت لسبب ما نسبة هذه الأحياء بعضها لبعض، لهلك الجسم.

وهذه الأحياء تفرز افرازات، وتقوم بنفسها بتحويل الغذاء العسر إلى يسر، والصعب إلى سهل، والمعقد إلى بسيط والضار إلى نافع، والكيماوي إلى دم.

ولتعرف ماهية هذه الحياء يكفي أن تعلم أن العلماء قد قدروا عدد الموجود منها بالمعدة بحوالي مائة ألف في السنتيمتر المكعب الواحد.

ويذكر المختصون  يقول علماء الطب وأساتذة علم الأحياء عن جسم الإنسان، انه يقوم بأعمال تثبيت أنه خلق بحكمة ولحكمة، وانه وجد بتقدير، وتنفي عنه شبة المصادفة في خلقه. ودليلهم على ذلك التحول الذي تقوم به الأجهزة لملاقات نقص وجد، أو لتكملة ضعف طرأ على أحدها، فقد دلت التجارب التي أجريت، والمشاهدات التي درست،

ومن عجائب الرحمة الإلهية المرتبطة بجسم الإنسان ما أودع فيه من قدرات على ترميم ذاته، فقد وجد العلماء أنه إذا استؤصلت كلية من الجسم مثلاً ترتب على ذلك تضخم الأخرى، لإمكان قيامها بعمل الكيتين، دون أن يكون للإنسان دخل في ذلك، ومثل ذلك إذا بتر نصف الغدة الدرقية زاد حجم النصف الثاني، وإذا أصاب القلب مرض في صمامه قلل من قدرته، عمل على أن يزيد سمك جدرانه شيئاً فشيئاً لتقوى عضلاته على دفع الأذى، وكثيرا ما يلاحظ أن القلب في محاولة إصلاح خلله يأخذ  حجمه في الكبر حتى يصبح أربعة أضعاف ما هو عليه.

وفي ذلك يقول الدكتور (رتشارد كابوت)، والدكتور (راسل ركس) في مؤلف لهما:( إن لأعضاء الجسم قوة مدخرة يستمد منها عند الحاجة، فالمريض بالسل الذي أصيب في بقعة من الرئة ن يجد في جسمه أنسجة من الرئة تزيد عن حاجته، يستطيع أن يعتمد عليها في مده بأسباب الحياة)

وقد ظل الدكتور (ترودو) أربعين عاماً عاكفاً على علمه المتواصل المرهق، وليس له الا جزء من رئة واحدة.

ودلت التجارب على أن بالجسم أجزاء احتياطية يمكن الاستغناء عن جزء منها عند إصابتها بمرض، فقد يقطع من أمعاء الإنسان متر  من الأمتار السبعة والنصف الموجودة بجسمه دون أن يحس بفقده..كذلك أمكن بتر أجزاء متعددة في مختلف أجهزة الجسم دون أن يؤثر على حياة الإنسان.

ومن أغرب ما حدث في هذا الشأن ما أعلنه الدكتور آرون سميث في المؤتمر الدولي لعلماء النفس المنعقد في موسكو أوائل شهر أغسطس 1966 عن رجل أمريكي أزيل نصف مخه بعملية جراحية وما زال يستطيع المشي والكلام والغناء بل والقيام بمسائل حسابية كما كان قبل الجراحة..

ومن عجائب رحمة الله في جسم الإنسان ما أودع فيه من قدرة على التشكل لملائمة ظروف طارئة، فعندما يشرف الحمل على غايته، تتدفق السوائل من مختلف الأجهزة إلى أنسجة المهبل لتصبح أنسجته رخوة مطاطة، وتساعد بذلك على مرور الجنين، وتجعل نزوله ممكنا.

ومن عجائب رحمة الله في جسم الإنسان جلده.. فالجسم يغلف بستار محكم بديع يحجب الأسرار التي تجري بداخله، وهذا الستار هو الجلد، وهو من أدق وأروع الآيات المحكمات الدالة على جليل صنع الخالق، فالجلد لا ينفذ منه الماء ولا الغازات، رغم مسامه التي تساعد على إخراج الماء من داخل الجسم، فهو يخرج الماء ولا يسمح بدخوله.

والجلد معرض لهجمات المكروبات والجراثيم التي تسبح في الجو، لذلك يسلح بإفرازات قادرة على قتل تلك المكروبات، أما إذا تغلبت الجراثيم واجتازت منطقة الجلد، فهنا تبدأ عملية حربية منظمة يعجز الإنسان عن إدراك عظمتها، حيث تدق الأجراس لتنبه أعضاء الجسم على دخول عدوا لها، وما هذه الأجراس إلا الآلام التي يحسها الإنسان، لتسرع فرقة حراس الحدود، وتضرب حصارا شديدا على عدوها المغير، فإما هزيمة وطردته خارج الجسم، وإما اندحرت وماتت، فتتقدم فرقة أخرى من الصف الثاني،، فالثالث، وهكذا.

وهذه الفرقة هي كريات الدم التي يبلغ عددها حوالي ثلاثين ألف بليون كرة بين بيضاء وحمراء، فإذا رأيت بثرة حمراء وفيها صديد على الجلد فاعلم أن صديدها إن هو إلا فرق ماتت في سبيل واجبها، وأن الاحمرار هو كريات دم في صراع مع عدو غادر.

ومن أهم وظائف الجلد، حفظ الجسم عند درجة ثابتة من الحرارة، إذ أن أعصاب الأوعية الدموية في الجلد تنشطها عندما يشتد حر الجو، كي تشع منه الحرارة، وتفرز غدد العرق ما يزيد على لتر من الماء فتخفض درجة حرارة الجو الملاصق للجلد.

أما إذا اشتد برد الجو فإن الأوعية الدموية تنقبض، فتحتفظ بحرارتها ويقل العرق.. وهذا الجهاز العجيب أعد بعناية وتقدير ليكيف حرارة الجسم فيجعلها على درجة 37 مئوية دوما في خط الاستواء أو في القطب.

وقد قال الدكتور (رتشارد كابوت) في هذا الشأن:( لقد أودع الله في أجسامنا قدرة عظيمة شافية تعين على الصحة، وفطنة لا تنام لها عين، ويحاول الأطباء تقليدها ومعاونتها بالمبضع تارة وبالدواء أخرى، وهذه القدرة البارعة الجبارة لا تفتأ تشد من أزرنا في كفاح العلل والأمراض)

وجلد الإنسان شيء خاص به، فلا يشبه جلد إنسان إنسانا آخر أبدا كما أن الجلد نفسه يتجدد، فالجلد الحالي ليس هو جلد العام الماضي، فإن تجديدات الجلد مستمرة بنمو الخلايا التي في الطبقات التي تكون الجلد فكل 20 طبقة من الخلايا تكون سطح الجلد.

وبالرغم مما وصل إليه العلم من حقائق وغرائب في جسم الإنسان، فهناك أسرار ما زالت تكتشف لتضع الإنسان موضع العجب والحيرة التي لا بعدها إلا التسليم بوجود الله وقدرته وعظمته.

وهكذا جميع أجهزة الجسم.. كلها تصيح بلسان فصيح مخبرة عما أودع الله فيها من رحمته بعباده.


 

 

2 ـ الرحمة الممزوجة

وهي الرحمة التي مزجت بعجين الآلام، أو هب عليها بعض فيح جهنم، وهي رحمة يرسلها الله ليطهر من تدنست روحه، أو يرفع من تثاقل سره، أو يبرز عن حقيقته من تعفنت فطرته.

وهنا يقول الغافل أو الجاحد: فلماذا تمزج هذه الرحمة بما يكدرها، ويحيلها في الأعين آلاما وشرا ينزه الإله عنه؟

والجواب عن ذلك ـ ابتداء ـ هو أن الآلام التي مزجت بهذه الرحمة، والشر الذي خلط بها لا ينسب إلى الله، فليس من الله إلا الخير، وقد قال r:(  لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِى يديك، والشر ليس إليك) [31]

قال ابن القيم معلقا على هذا الحديث:( فهذا النفى يقتضى امتناع إضافة الشر إليه تعالى بوجه، فلا يضاف إلى ذاته ولا صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله، فإن ذاته تعالى منزهة عن كل شر، وصفاته كذلك إذ كلها صفات كمال ونعوت جلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك البتة، وهو المحمود على ذلك كله فيستحيل إضافة الشر إليه) [32]

ولهذا ينزه الله تعالى في الأسلوب القرآني من نسبة الشر إليه، فالطريقة المعهودة في القرآن الكريم هي نسبة أفعال الإحسان والرحمة والجود إلى الله تعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه، ولا يبني الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول، والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن الكريم:

ومنها قوله تعالى:﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة:7)، فإنه تعالى ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها، ولما ذكر الغضب حذف الفاعل، وبنى الفعل للمفعول، فقال:﴿ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (، وقال في الإحسان:﴿ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (

ومنها قول إبراهيم الخليل u:﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ (الشعراء:78 ـ80)، فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى، ولما جاء إلى ذكر المرض نسبه إلى نفسه، ولم يقل:( أمرضني) وقال:﴿ فَهُوَ يَشْفِينِ (

ومنه قول الخضر u في السفينة:﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ (الكهف:79)، فأضاف العيب إلى نفسه، وقال في الغلامين:﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّك﴾ (الكهف: من الآية82) فأضاف الإرادة إلى الله.

ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن:﴿ وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾ (الجـن:10)، فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب، وحذفوا فاعل إرادة الشر، وبنوا الفعل للمفعول.

ومنه قوله تعالى:﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ﴾ (البقرة: من الآية187)، فحذف الفاعل وبناه للمفعول، بينما قال في البيع:﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ﴾ (البقرة: من الآية275)، لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل.

ومثل ذلك قوله تعالى:﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ (المائدة: من الآية3)، وقوله تعالى:﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ (الأنعام: من الآية151)

ولهذا ليس من أسماء الله الحسنى أي اسم يتضمن الشر، وإنما يذكر الشر فى مفعولاته كقوله تعالى:﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الحجر:49)، وقال بعدها:﴿ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ (الحجر:50)، ومثل ذلك قوله تعالى:﴿  اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المائدة:98)

ولذلك نفى المحققون من العلماء صحة تسمية الله تعالى باسم ( المنتقم)، فهو ليس من أسماء الله الحسنى الثابتة عن النبى r، وإنما جاء في القرآن مقيدا، كقوله تعالى:﴿) إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ (السجدة: من الآية22)، وقوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ (آل عمران: من الآية4)

أما الحديث الذي في عدد الأسماء اللحسنى الذى يذكر فيه المنتقم، فقد ذكر في سياقه البر التواب المنتقم العفو الرؤوف، زيادة على أن الصحيح أنه ليس من كلام النبى r.

مزيج الظالمين

 قد يقال بعد هذا: فهل يفهم من هذا أن الخالق لذلك المزيج المؤلم غير الله، وأن الخالقية بذلك لا ينفرد بها الله، فكيف يكون ذلك وقد عرفنا في سر التوحيد أن المتفرد بالخلق والمشيئة هو الله، وأن كل ما يحدث في الكون أفعال الله؟

والجواب عن ذلك: إن الله تعالى هو الرحيم الذي خلق كل شيء، وجعل لكل شيء من الحكم ما يصب في بحر الرحمة التي هي منفعة محضة، ولكن هذه الرحمة قد يعترضها ما يحيلها إلى ألم، ولا يكون ذلك الاعتراض إلا من نفس الإنسان.

ولنضرب مثلا على ذلك بهذه الأرض التي نعيش عليها، فإن الله تعالى جعلها رحمة صرفة، بكل ما فيها، لكن فعل الإنسان الذي استغل ما وهب من عقل، وما عرف من قوانين، جعله يمزج هذه الرحمة بأنواع الكدر والتلوث والآلام، بحيث قد تتحول بفعله إلى آلام محضة.

ولذلك قال تعالى:﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم:41)، فقد نسب الله تعالى الفساد إلى كسب الناس.

وأخبر عن الكفرة أنهم:﴿ أَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾ (الفجر:12)، وأخبر عن المجرم الذي ﴿ إِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ (البقرة:205)

ولهذا أخبر تعالى أن كل ما يحصل في الأرض من مشاق هو نتيجة حتمية للذنوب، على حسب ما يقتضيه العدل الإلهي والحكمة الإلهية، التي رتبت المشقة على المعصية، كما رتبت الراحة على الطاعة، قال تعالى:﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ (لأعراف:96)

وقال تعالى عن أهل الكتاب:﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ (المائدة:65 ـ 66)، أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأديهم عن الأنبياء، على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث اللّه به محمداً r، فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتماً لا محالة.

وهو ما أشار إليه سقوط آدم u من الجنة، حيث كان يجد كل شيء في غاية الجمال والمتعة واليسر، حيث خوطب من الحق تعالى:﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)﴾ (طه)

ولكنه مباشرة بعد شرب كأس اللذة، أصابه شؤمها فسقط عنه لباس الرخاء ليلبس لباس التعب والعناء، قال تعالى:﴿ فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (طـه:121)

وأخبر تعالى عن جزائه للذين:﴿ أَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ)(الفجر: من الآية12) ( بأنه:﴿ صَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) (الفجر: من الآية13)

وهذه النصوص تشير إشارة صريحة إلى الفساد الذي حصل في البر والبحر والجو بفعل معاصي المدنية الحديثة، التي أرادت أن توفر الترف لثلة قليلة تمتص أموالها على حساب صحة الأرض وجمالها وصلاحيتها للحياة.

ولذلك ورد في الأخبار أن الحيوانات تتأذى بمعاصي الإنسان، قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ:( إن الحباري لتموت في وكرها من ظلم الظالم)، وقال مجاهد:( إن البهائم تلعن عصاة بنى آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر وتقول هذا بشؤم معصية ابن ادم)، وقال عكرمة:( دواب الارض وهوامها حتي الخنافس والعقارب يقولون منعنا القطر بذنوب بني آدم فلا يكفيه عقاب ذنبه حتي يبوء بلعنه من لا ذنب له)

وكما كان كسب الإنسان هو السبب فيما حصل للأرض من مصائب، وما حصل لأهلها نتيجة لذلك من بلاء تخبرنا النصوص أن كل المعاصي صغرت أو كبرت هي الحائل بين الإنسان والرحمة الصرفة، أو هي المزيج المؤلم الذي يكدر الرحمة، ويظهرها بمظهر العقوبة والألم.

ولذلك قال تعالى مخبرا عن مقالة الملائكة المقربين من حملة العرش، ومن حوله:﴿ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (غافر:9)

ولهذا كان لكل مخالفة شرعية من الآلام ما يكدر صفو الرحمة النازلة مع ذلك الأمر التشريعي، قال تعالى مشيرا إلى هذا المعنى:﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ (المائدة:49)

وسر ذلك هو أن التكاليف الشرعية هي نفسها رحمة، فلذلك كان مجرد مخالفتها ألما قد يشعر به الإنسان الحساس في حينه، وقد يغفل عنه إلى أن تتراكم الآلام، فيهتز ميزان الرحمة في نفسه.

فالمعصية بذلك تشبه وضع الإنسان نفسه في مواضع العطب، فإنه في حينها قد يغفل عن جراحه لحرارة ما هو فيه من معصية، فإذا ما انطفأت تلك الحرارة في نفسه عادت الآلام لتشعره بجروحه الكثيرة.

ولذلك فإن المصائب تتوالى بتوالي الكفر، وتنمو بنمو المعصية، قال تعالى:﴿) وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ (الرعد: من الآية31)

ولهذا أخبر تعالى أن المؤمنين المستقرين في طاعة الله لا يرون إلا الرحمة الخالصة، والتي قد يتيه عنها بسبب الغفلة الغافلون، ولهذا قال تعالى آمرا المؤمنين بأن يخاطبوا المنافقين قائلين:﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾ (التوبة:52)،

ولكن رحمة الله مع ذلك قد تعفو عن بعض الذنوب، فتمحوها، أو تجعل من ذلك البلاء كفارة لها، قال تعالى:﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ (الشورى:30)، وقال تعالى:﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً﴾ (فاطر:45)

والقرآن الكريم يضرب لنا الأمثلة الكثيرة عن آثار المعاصي المتمكنة من النفوس، لينبهنا إلى أن الشر الذي كانت تنطوي عليه تلك النفوس هو السر الواقف وراء ما حاق بها من عذاب، فلهذا كانت تلك العقوبات ـ والتي هي في حقيقتها نوع من التطهير كما سنرى ـ متناسبة مع جرائمهم:

 فالله تعالى قال عن أهل سبأ:﴿ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) (سـبأ:16)

ولهذا أمر النبي r أن يحذر قومه مثل هذا المصير، قال تعالى:﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) (فصلت:13)

* * *

بل إن النصوص لا تعتبر الشر هو النتيجة الطبيعية الحتمية للانتكاسة التي تصييب الإنسان بالمعاصي فقط، وإنما تخبر بأن المعاصي نفسها ـ بتأثيرها الخطير على الفطرة ـ تعتبر أكبر شر وأخطر ألم يصيب الإنسان، فهي مصيبة في نفسها، ثم هي مصيبة بما تجره من بعدها من آثار.

ولهذا كان r يجمع في خطبه بين الاستعاذة من المعاصي وآثارها، قال r:( الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا) [33]، فتضمن هذا الحديث الاستعاذة من شرور النفوس ومن سيئات الأعمال وهى عقوباتها.

ولعله ـ لأجل هذا ـ كان لفظ الحسنة والسيئة في القرآن الكريم لفظا مشتركا يدل على النعم والمصائب، ويدل كذلك على ما يفعله الإنسان باختياره باعتباره من الحسنات أو السيئات.

فالحسنة الناتجة عن سلوك الإنسان هي نفسها رحمة، والسيئة مصيبة بفعلها أو نتيجتها:

ومن أمثلة الحسنة والسيئة السلوكية قوله تعالى:﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ (الأنعام:160)، وقال تعالى:﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ (النمل:89)، وقال تعالى:﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (القصص:84)، وقال تعالى:﴿ ) إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ (هود: من الآية114)، وقال تعالى:﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ (الفرقان:70)

ومن أمثلة الحسنة والسيئة القدرية قوله تعالى عن المنافقين:﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ (آل عمران:120)، وقال تعالى:﴿ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ﴾ (التوبة:50)، وقال تعالى:﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (لأعراف: من الآية168)، وقال تعالى:﴿ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْأِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ (الشورى: من الآية48)،

ومثل ذلك قوله تعالى في حق الكفار المتطيرين بموسى u ومن معه:﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (لأعراف:131) ذكر هذا بعد قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ (لأعراف:130)

ثم إن السيئة الثانية قد تكون عقوبة للسيئة الأولى، فتجتمع فيها سيئات الجزاء مع سيئات العمل، ومثل ذلك الحسنة قد تلد الجسنة، فيجتمع فيها المعنيان جميعا.

وقد وردت الدلالة على هذا المعنى في مواضع كثيرة من القرآن الكريم:

ومن ذلك قوله تعالى:﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾ (النساء:66)، فقد أخبر تعالى بأن من جزاء طاعتهم للتكليف زيادة التثبيت.

ومنه قوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت:69)، فقد أخبر تعالى أن من نتائج المجاهدة الهداية لسبله.

ومنه قوله تعالى:﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (الروم:10)، فقد بين أن عاقبة مرتكبي السيئات أن أضافوا إليها التكذيب والاستهزاء.

ومنه قوله تعالى:﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة:16)، فقد أخبر عن الحسنات الكثيرة التي يهبها الله برحمته لمن اتبع رضوانه.

ومنه قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الحديد:28)، فقد أخبر تعالى أن من إثابته للمتقين أن يجعل لهم نورا يمشون به.

ومن قوله تعالى:﴿  وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ (لأعراف:154)، فقد أخبر تعالى أن الهدى الذي في الألواح ينعم به من عمل حسنة الرهبة من الله.

ومثله قوله تعالى:﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران:138)، فقد أخبر تعالى أن البيان الإلهي يتعظ به ويهتدي الذين سبق لهم عمل حسنة التقوى.

ومثله قوله تعالى:﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ (فصلت:44)فقد أخبر تعالى أن الهدى والشفاء لمن سبقت لهم حسنة الإيمان، وأن العمى والوقر لمن سبقت لهم السيئات.

ومنه قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ (يوسف:24)، فقد أخبر تعالى أن سر صرفه عن السوء والفحشاء ما سبق منه من الإخلاص لله.

ومثله قوله تعالى:﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف:22)، فقد أخبر تعالى أن الحكم والعلم جزاء لحسنة الإحسان.

ومنه قوله تعالى:﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ (الأحزاب:70 ـ71) فقد أخبر تعالى أن من جزاء تقوى الله والقول السديد صلاح الأعمال.

ومنه قوله تعالى:﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ (النور:54)، فقد أخبر تعالى أن من جزاء الطاعة الهداية.

والشواهد على هذا المعنى كثيرة في القرآن الكريم، وهي تدل على انسياق الطبيعة الإنسانية إلى ما يفعله صاحبها من أفعال سلوكية.

فالسلوك الإنساني زيادة على أنه المحدد لطبيعة الإنسان، والتي بموجبها يتم ثوابه أو عقابه قد انطوى على رحمة القابلية للتغير.

فالطبيعة الإنسانية المنتكسة في حمأة الرذيلة يمكنها بحسنة واحدة أن تسترجع فطرتها الأصلية، فالحسنة تلد الحسنات، والحسنات هي المطهر الشرعي لما يلحق بالفطرة من أوزار.

لذلك كان سلوك الإنسان في كل الأحوال هو المزيج المؤلم لهذا النوع من الرحمة.

* * *

 قد يقال بعد هذا: فإذا كان الأمر راجعا للإنسان، وأنه هو الجاني على نفسه، وأن الأمر كما قال تعالى:﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ (النساء: من الآية79)، فكيف ينسجم هذا، وقد نسب الله تعالى الجميع من الحسنات والسيئات إليه، وذلك في الآية الكريمة السابقة لهذه الآية:﴿  وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ (النساء:78)

والجواب عن ذلك: أن القرآن الكريم ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ يستحيل فيه التناقض، إنما التناقض في الفهم المحدود الذي لا يستطيع أن يستوعب المعاني المتعلقة بالألوهية، فيقيسها بمعاني البشرية، فكل الأشياء من الله خلقا وتقديرا، وذلك لا يلغي كسب العبد، وتأثيره في حصول النتائج.

وزيادة على هذا، فإن الله تعالى ذكر عن المنافقين والذين في قلوبهم مرض الناكصين عن الجهاد ما ذكره بقوله:﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ (النساء:78)

* * *

قد يقال بعد هذا: نعم، إن أقدار الله لا تتنزل إلا بالخير، فصفات الله تعالى، والتي هي كلها محامد لا يصدر منها إلا الخير، وإنما كسب الإنسان هو الذي يحول الخير شرا والعافية بلاء والجمال دمامة.

لكن ما القول في بعض ما نراه شرا مجردا، لا وجه للخيرية فيه، كخلق الشياطين المضللة، بل كتقدير المعاصي نفسها، فلو أن الله تعالى خلقنا معصومين لما حاق بنا ذلك العذاب،ولما تنزلت بنا تلك الآلام؟

والجواب عن ذلك، هو أن كل ما قد نتصوره من شر مجرد، هو في حقيقته ـ ومن جهة تقدير الله له ـ خير عظيم، ولكن سوء تعاملنا معه هو الذي يحول ذلك الخير إلى شر نتهم به الأقدار.

وقد ذكر النورسي مثلا لذلك بالنار، فإن لها فوائد ومنافع كثيرة جداً، فلا يـحق لأحد أن يقول: إن ايـجاد النار شرّ اذا ما أساء استعمالـها باختياره وجعلـها شّـراً ووبالاً على نفسه.

قال النورسي معلقا على هذا:( ومن هذا السر يكون خلق الشر ليس شراً، وانما كسب الشر شر، اذ لا يحق لكسلان قد تأذى من المطر المتضمن لمصالح غزيرة أن يقول: المطر ليس رحمة) [34]

وهكذا الكلام عن المعاصي، فهي ليست شرا ـ من جهة تقديرها ـ بل قد أخبر r أن البشر لو لم يخطئوا لخلق الله بدلهم من يخطئ، ولكن الشر في سوء التعامل معها.

فالمعاصي المقدرة من الله رحمة محضة، كرحمة الله عباده بخلق النار، ولكن العاصي الذي يسيئ التعامل مع هذا التقدير هو الذي يحرق نفسه بها، كالذي يحرق نفسه بالعبث مع النار.

قد يستغرب هذا، أو يعتبر إلحادا، أو قد يرمى قائل هذا بالشطح والبدعة، ولكن التأمل في حقيقة هذا يؤدي إلى هذا المعنى.

وقبل أن نبين هذا نحب أن نذكر مثالين لسوء التعامل مع المعصية ولحسن التعامل معها:

أما المثال الأول، فهو إبليس، فإنه عصى الله تعالى، ولعلها أول معصية تحدث في الكون، وقد أخبر إبليس عن تأثير تقدير الله في حصول معصيته، كما قال تعالى:﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (لأعراف:16)، وقال تعالى:﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الحجر:39)،ولم ينكر الله عليه هذا، فالمعصية من تقدير الله تعالى، وهي من هذا الباب رحمة إلهية.

لكن إبليس انشغل بكون المعصية مقدرة عن التعامل معها وفق ما يحبه الله ويرضاه، فلذلك عندما سأله الله تعالى، وهو أعلم به، عن الدافع لمعصيته، فقال تعالى:﴿  يَا إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ (الحجر: من الآية32) أجابه بكبرياء:﴿  لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ﴾ (الحجر: من الآية33)

وكان في إمكان إبليس بعد ما حاقت به اللعنة أن يقول: اغفر لي وتب علي، ولكن ما تنطوي نفسه المتكبرة، والتي أبرز كبرياءها أمره بالسجود لآدم u جعلته يطلب شيئا آخر، هو مدد لمعصيته الأولى، جعلته يقول:﴿ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (الاسراء: من الآية62)

فإبليس، أو طبيعة إبليس حولت من المعصية إلى شر محض استحق بسببه تلك الآلام.

وبخلافه آدم u، فإن المعصية كانت وسيلة لتبوئه تلك المكانة العظيمة من الله، ففرق كبير بين آدم الذي يسرح بين الجنان، وآدم الذي هبط إلى الأرض متبتلا للرحمن، قد انطوى قلبه على كل المشاعر النبيلة نحو ربه.

فآدم u بأكله من الشجرة، وإدراكه حقيقة نفسه الشهوانية أقر بقصوره وكمال ربه:﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة:37)، فكان ذلك الإقرار هو سبب الرفعة العظيمة التي نالها في جوار الله.

وقد ذكر ابن القيم خطابا رفيعا لآدم u يسلي فيه آدم u عن معصيته يقول فيه[35]:

يا آدم لا تجزع من قولي لك:﴿ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ (البقرة: من الآية36) , فلك ولصالح ذريتك خلقتها.

يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك, واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك.

يا آدم لا تجزع من قولي لك:﴿) وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُم﴾ (البقرة: من الآية216)

يا آدم لم أخرج اقطاعك الى غيرك, انما نحيّتك عنه لأكمل عمارته لك, وليبعث الى العمّال نفقة ﴿)تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (السجدة:16)

ويعلق على فرح إبليس بمعصية آدم u بقوله:( فرح ابليس بنزول آدم من الجنة, وما علم أن هبوط الغائص في اللجة خلف الدر صعود..كم بين قوله تعالى لآدم u:﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ (البقرة: من الآية30)، وقوله لك:﴿ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً﴾ (الاسراء: من الآية63)

انطلاقا من هذين المثالين، فإن المعاصي، وإن احتوت على مساخط الرب تعالى إلا ان في تقديرها من المحاسن ما يجعلها رحمة محضة سواء من ناحية علاقة الإنسان بنفسه أو علاقته بربه أو علاقته بالمجتمع:

أما من الناحية النفسية،فإنه بالمعاصي يعرف الإنسان نفسه، وأنها الخطاءة الجاهلة، وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير فمن الله منَّ به عليه لا من نفسه.

فنفس كل إنسان تحمل الاستعداد لكل رذيلة، بل في كل نفس مقالة فرعون:﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ (النازعـات: من الآية24)، ولهذا فهم العارفون الربانيون الذين فقهوا عن الله، وفهموا عن الله مراده أن فرعون الذي أمر موسى بالذهاب إليه:﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ (النازعـات:17) لا يراد به فرعون مصر فقط، بل هو كل فرعون يزاحم الله ربوبيته، وأولهم فرعون النفس التي أبت التسليم لله، ولذلك جاءت المقدمة القرآنية لقصة فرعون بهذه الآية:﴿)نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (القصص:3)، وجاءت الخاتمة بهذه الآية:﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ﴾ (الزخرف:56)

ولذلك فإن الله تعالى ـ كما ابتلى فرعون بموسى u ـ ليبرز عن سريرته، يبتلي عباده بما يبرز ما في سرائرهم من حقائق.

ولتقريب الرحمة المنطوية في هذا المعنى نقول: بأن دور المعاصي في تقويم الإنسان وتهذيبه وتطييبه ليصلح لمعرفة ربه ولدخول جنته  هو نفس دور الأعراض التي تصاحب الأمراض من حمى وآلام وغيرها، فإنها وإن كانت مكروهة في نفسها، إلا أن فيها خيرا عظيما، فلولاها لم يتعرف الإنسان على مرضه، ولم يسع للعلاج منه، ولذلك، فإن أخطر الأمراض ما تسرب تسربا خفيا إلى الجسد وصار ينخر فيه إلى أن يستحكم نخره من غير ان يظهر لذلك من الآلام ما يتناسب مع دوره التهديمي.

زيادة على هذا، فإن الانشغال برؤية الطاعة قد يصحبه الإدلال على الله بها، وهو من أكبر الموبقات، بخلاف المعية التي يصحبها الانكسار، ولهذا ورد في الحديث الشريف:( لو لم تكونوا تذنبون لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب) [36]، وفي الأثر الإلهي:( لولا أن الذنب خير لعبدي المؤمن من العجب ما خليت بين عبدي المؤمن وبين الذنب)، وقد قال بعض السلف: إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال: يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه، إذا ذكرها ندم واستقال وتضرع إلى الله وبادر إلى محوها وانكسر وذل لربه وزال عنه عجبه وكبره، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يراها ويمن بها ويعتد بها ويتكبر بها حتى يدخل النار.

زيادة على هذا، فإن حسن التعامل مع المعصية يزيد في مناعته منها ويدفعه إلى المزيد من التيقظ والحذر من مصايد العدو ومكايده، ويعرفه من أين يدخل عليه، وبماذا يحذر منه، كالطبيب الذى ذاق المرض والدواء.

أما من ناحية علاقته بربه تعالى، فإنه بالمعصية يعرف المؤمن صفات الله الكثيرة التي تزيده معرفة بربه ومحبة له وقربا منه:

فيعرف عزة ربه فى قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه، فيملؤه ذلك هيبة له وخشية منه وإجلالا له.

ويعرف شدة حاجته إلى ربه، وأنه هو المستعان، والمستعاذ به، وأنه لا حول له ولا قوةإلا به، فيدعوه ذلك إلى الالتجاء إليه، والاحتماء بحصنه.

ويعرف سعة حلمه وكرمه فى ستره عليه، فإنه لو شاء لعاجله على الذنب ولهتكه بين عباده فلم يصف له معهم عيش، فيمتلئ قلبه شعورا بالحياء منه.

ويعرف كرمه فى قبول توبته ومعرفته له على ظلمه وإساءَته، فيمتلئ شعورا بالمنة والفضل لربه.

أما من الناحية الاجتماعية، فإن من الرحمات العظيمة المنطوية في آلام المعصية، ما ينشأ عنها من تواضع وذلة نحو خلق الله، فلا يتعاظم أحد، ولا يتكبر، ولا يعتقد أن له مزية على غيره، بل ( يرى أن من سلم عليه أو لقيه بوجه منبسط قد أحسن إليه وبذل له ما لا يستحقه فاستراح فى نفسه واستراح الناس من عتبه وشكايته، فما أطيب عيشه وما أنعم باله وما أقر عينه، وأين هذا ممن لا يزال عاتباً على الخلق شاكياً ترك قيامهم بحقه ساخطاً عليهم وهم عليه أسخط؟) [37] 

وهذه النعمة المتفرعة عن المعصية تجعله يمسك عن عيوب الناس والفكر فيها، بل يبقى منشغلا بعيبه ونفسه، و( طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة ولم يعد عنها إلى البدعة)[38]

وهذا الشعور يدفعه إلى الإِحسان إلى الناس والاستغفار لإخوانه الخاطئين من المؤمنين فيصير دعاءه الدائم:﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ (ابراهيم:41) ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (الحشر: من الآية10) ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ (نوح: من الآية28) لأنه يرىأن إخوانه الخاطئين يصابون بمثل ما أُصيب به، ويحتاجون إِلى مثل ما هو محتاج إليه، فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم يحب أن يستغفر هو لأخيه المسلم.

وهذا السلوك الناتج عن المعصية يدعوه إلى سعة إبطائه وحلمه ومغفرته لمن أساء إليه، ( فإنه إذا شهد نفسه مع وبه سبحانه مسيئاً خاطئاً مذنباً- مع فرط إحسانه إليه وبره وشدة حاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين وهذا حاله مع ربه- فكيف يطمع أَن يستقيم له الخلق ويعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة؟ وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته فى كل ما يريد وهو مع ربه ليس كذلك، وهذا يوجب أن يغفر لهم ويسامحهم ويعفو عنهم ويغضى عن الاستقصاءِ فى طلب حقه قبلهم) [39]

وقد لخص ابن القيم الكثير من صنوف الرحمة التي ينطوي عليها تقدير المعاصي بقوله:( فتقدير الذنب عليه إِذا اتصل به التوبة والإنابة والخضوع والذل والانكسار ودوام الافتقار كان من النعم باعتبار غايته وما يعقبه،وإِن كان من الابتلاء والامتحان باعتبار صورته ونفسه والرب تعالى محمود على الأَمرين.. وإِن لم يتصل به ذلك، فهذا لا يكون إِلا من خبث نفسه وشره وعدم استعداده لمجاورة ربه بين الأرواح الذكية الطاهرة فى الملأ الأعلى ومعلوم وأن هذه النفس فيها من الشر والخبث ما فيها، فلا بد من خروج ذلك منها من القوة إلى الفعل ليترتب على ذلك الآثار المناسبة لها ومساكنة من تليق مساكنته ومجاورة الأَرواح الخبيثة فى المحل الأَسفل) [40]

* * *

قد يقال بعد هذا: فما الرحمة التي أتنعم بها وأنا مبتلى بشيطان يضع خرطومه على صدري لا يكف عن بث الوساوس في قلبي؟

وكيف أتنعم وشياطين الإنس والجن تترصد لي؟

والجواب عن ارتباط هذا بسر العدل ذكرناه في محله من الفصل الثاني، وقد ذكرنا في الفصل الثالث أَن خلق الأضداد وترتيب آثارها عليها هو ما تقتضيه حكمة الله تعالى وأسماؤه الحسنى، وأن الكمال في هذا الترتيب.

أما ارتباط هذا المعنى بالرحمة،  فإن سمو الإنسان وكماله وتدرجه في معارج الرحلة إلى الله مربتط بمجاهدته هذه الشياطين، فلذلك ـ كما يقول النورسي ـ ( لا يسيغ لـمن استسلـم للشيطان - باختياره وكسبه الـخاطىء - أن يقول: ان خلق الشيطان شرٌ، اذ قد عمل الشر لنفسه بكسبه الذاتي) [41]

فالشيطان ليس له من دور إلا الكشف عن الخبايا الآثمة للنفس، ولذلك يبرأ يوم القيامة من أن يكون له أي سلطان على سلوك الإنسان، بل إن سلوك الإنسان كان نابعا من طبيعته واختياره، قال تعالى:﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (ابراهيم:22)

والشياطين في هذا تشبه تلك المحاليل الكاشفة التي توضع على مواد معينة للتعرف على مكوناتها، فإن انفعال تلك المواد هو الذي يحدد طبيعتها، أما المحاليل، فليس لها من دور إلا الكشف عن تلك المواد.

ولهذا أخبر تعالى الشيطان بأنه ليس له من سلطان على عباده المخلصين، قال تعالى:﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ (الحجر:42)، بل استثنى الشيطان نفسه هؤلاء بقوله:﴿ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (الحجر:40)

وذلك لأن عباد الله المخلصين، هم الذين تخلصوا من كل الشوائب التي تتفاعل معها وساوس الشيطان، فلذلك لا يصدر منهم إلا الخير.

وقد ذكر ابن القيم بعض ما ينطوي عليها خلق الشياطين من رحمة، فقال:( إن هذه الحوادث نعمة فى حق المؤمن، فإِنها إِذا وقعت فهو مأمور أن ينكرها بقلبه ويده ولسانه فقط أَو بقلبه فقط، ومأمور أَن يجاهد أَربابها بحسب الإِمكان، فيترتب له على الإنكار والجهاد من مصالح قلبه ونفسه وبدنه ومصالح دنياه، وآخرته ما لم يكن ينال بدون ذلك، والمقصود بالقصد الأول إِتمام نعمته تعالى على أَوليائه ورسله وخاصته فاستعمال أعدائه فيما تكمل به النعمة على أُوليائه غاية الحكمة، وكان فى تمكين أَهل الكفر والفسق والعصيان من ذلك إِيصال إِلى الكمال الذى يحصل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادهم والإِنكار عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه وبذل نفوسهم وأَموالهم وقواهم له) [42]

ومن هذه المصالح أن ( تمام العبودية لا يحصل إِلا بالمحبة الصادقة، وإِنما تكون المحبة صادقة إِذا بذل فيها المحب ما يملكه من مال ورياسة وقوة فى مرضاة محبوبة والتقرب إِليه، فإِن بذل له روحه كان هذا أعلى درجات المحبة، ومن المعلوم أَن من لوازم ذلك التى لا يحصل إِلا بها أَو يخلق ذواتاً وأَسباباً وأَعمالاً وأَخلاقاً وطبائع تقتضى معاداة من يحبه ويؤثر مرضاته لها وعند ذلك تتحق المحبة الصادقة من غيرها فكل أَحد يحب الإِحسان والراحة والدعة واللذة، ويجب من يوصل إِليه ذلك ويحصله له، ولكن الشأْن فى أَمر وراءَ هذا وهو محبته سبحانه ومحبة ما يحبه مما هو أَكره شيء إِلى النفوس وأَشق شيء عليها مما لا يلائمها، فعند حصول أَسباب ذلك يتبين من يحب الله لذاته ويحب ما يجب ممن يحبه لأَجل مخلوقاته فقط من المأْكل والمشرب والمنكح والرياسة، فإِن أُعطى منها رضى وإِن منعها سخط وعتب على ربه وربما شكاه وربما ترك عبادته) [43]

فلذلك كان خلق هذه الأضداد التي تقف في طريق المؤمن وسائل وكواشف لمحبة المؤمن لربه وما ينتج عنها من آثار، قال ابن القيم:( فلولا خلق الأضداد وتسليط أَعدائه وامتحان أَوليائه بهم لم يستخرج خالص العبودية من عبيده الذين هم عبيده، ولم يحصل لهم عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه والعطاء له والمنع له، ولا عبودية بذل الأرواح فى جهاد أَعدائه ونصرته وعبودية مفارقة الأمر عنده أحوج ما يكون إليهم عبده فى مرضاته ما يتحسر إليهم وهو الذى عاب نفسه وملاذ بها بأيديهم قد جنى بمفارقتهم ومشايعتهم وأما من موالاة الحق عليهم، فلولا الأَضداد والأَسباب التى توجب ذلك لم تحصل هذه الآثار) [44]

ومثل هذا، مثل من أرسل لحبيبه يختبره ببعض أعدائه، فإن أنس له واستحلى مجالسته، وخضع لقوله ووساسه كان ذلك علامة على عدم صدق محبته، وإن خالف ذلك، بالإعراض عنه ومجاهدته كان ذلك دليل صدق على صدق محبته وإخلاصها:

وفي الأحبابِ مختصٌ بوَجْدٍ   وآخرُ يدعي معها شتراكا

إِذا اشتبكَتْ دموعٌ في خدودٍ   تبَّنَ من بَكَى ممن تَباكا

ومثل تسليط الشياطين تسليط الدواعي التي تمتطيها الشياطين للاستيلاء على قلب الإنسان من الشهوة والغضب ودواعيهما، وإرسال رياح الفتن لاختبار طبيعة الإنسان، فإن كل ذلك ـ بالتأمل الصادق ـ رحمة إلهية عظمى.

فإنه لولا هذا لفات الإنسان من الفضائل ما هو أضعاف الآلام الممزوجة بهذه الدواعي، فلولاها لم تحصل فضيلة الصبر ولا جهاد النفس ومنعها من حظوظها وشهواتها محبة لله وإِيثاراً لمرضاته وطلباً للزلفى لديه والقرب منه.

بل لولاها ما تحقق سير السائرين إلى الله، كما يقول ابن عطاء الله:( لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين، إذ لا مسافة بينك وبينه حتى تطويها رحلتك، ولا قطعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك)

فالسير إلى الله إنما هو قطع عقبات النفس، إذ لا مسافة حسية بين الله وعبده، ولا مقاطعة توجب البعد المعنوي بين الله وعبده حتى تمحوها وصلته، وليس ثم حجاب غير حجاب النفس.

فلذلك كان من رحمة الله خلق هذه النفس بهذه الصورة ليتحقق من قطع عقباتها التعرف على الله والوصول إليه.

***

قد يقال: فلماذا لا نكون بهيئة أخرى ومع ذلك ينعم علينا ـ من غير مجاهدة ـ بهذه المعرفة وذلك الوصول؟

والجواب عن ذلك أن الأمر لو لم يكن بهذه الصفة، لما كانت النشأَة الإِنسانية إِنسانية، بل كانت ملكية، ولما كان الإنسان حينها إنسانا بل كان ملاكا.

قد يقال: فلماذا لم أكن ملاكا؟

والجواب عن ذلك ما ذكرنا في باب الحكمة من أن الله تعالى ينوع الدلائل على قدرته، وعلى مشيئته، وأن هذا من مقتضيات الربوبية ومن مقتضيات اسمائه الحسنى.

وهذه الحكمة تنطوي على رحمة عظيمة للإنسان، فالنشأة الإنسانية في منتهى السمو والرفعة، بل إن الإنسان فهرس العالم الأكبر، وجامع تفاصيله[45].

يقول ابن عطاء الله في بيان رحمة الله في خلق النشأة الإنسانية بهذه الصورة:( جعلك في العالم المتوسط بين ملكه وملكوته ؛ ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته، وأنك جوهرة تنطوي عليك أصداف مكوناته)

أي أن الله أنعم على الإنسان بأن جعله عالماً متوسطاً بين ملكه، وهو عالم الشهادة، وملكوته وهو عالم الغيب، ولم يجعله ملكياً محضاً ولا ملكوتياً محضاً، بل جعل فيه من كلا العالمين ليعلمه جلالة قدره بين مخلوقاته، حيث جمعت بين الظاهر والباطن، وبين الجسمانيات والروحانيات، فانطوى فيه العالم الأكبر.

ولهذا السر سخر الله للإنسان جميع مخلوقاته لنفعه، كما قال تعالى:﴿  وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثـية:13)،وفي الأثر الإلهي:( يا ابن آدم خلقت الأشياء كلها من أجلك، وخلقتك من أجلي، فلا تشتغل بما هو لك عمن أنت له)

مزيج الصالحين

قد يقال بعد هذا: نعم، إن كسب الإنسان هو الذي يحول الخير شرا والعافية بلاء، والجمال دمامة، ولكن ما القول في أولئك الصالحين العارفين الذين يتربعون على عروش الولاية، والذين يمتلئ كيانهم بجميع الأنوار، ولا يعرج منهم إلى ربهم إلا الحسنات المتلألئة العظيمة، فكيف يجازون بالبلاء الذي تنهد له الجبال؟

أو لم يقل رسول الله r:( أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل) [46]؟

والجواب عن ذلك من وجوه عديدة، نكتفي منها بخمسة أجوبة على عدد الصوات الخمس[47]:

الجواب الأول:

أولها أن الصالحون والعارفون يعطيهم الله من القوة والإيمان بحيث يواجهون البلاء بالابتسامة العذبة، ويرونه هدايا جزيلة من محبوبهم تعالى الذي فنوا بمحبته عن كل ألم، وقد أخبر السري السقطي ـ رضي الله عنه ـ عن القدرة العجيبة التي يتحملها من انشغل بالله، لما سأله الجنيد: هل يجد المحب ألم البلاء؟ قال: لا، قال: وإن ضرب بالسيف قال: نعم وإن ضرب بالسيف سبعين ضربة، ضربة على ضربة.

وبين يحيـى بن معاذ الرازي الحال الذي دعا إلى هذا الفناء عن البلاء مستعملا أقيسة الفقهاء بقوله: (  إذا نظر أهل الجنة إلى الله تعالى ذهبت عيونهم في قلوبهم من لذة النظر إلى الله تعالى ثمانمائة سنة لا ترجع إليهم، فما ظنك بقلوب وقعت بـين جماله وجلاله؟ إذا لاحظت جلاله هابت وإذا لاحظت جماله تاهت)

ومثل الغزالي سبب بطلان إحساس المحبين بالآلام، بالرجل المحارب فإنه في حال غضبه أو في حال خوفه قد تصيبه الجراح،  وهو لا يحس بألم ذلك لشغل قلبه، ( بل الذي يحجم أو يحلق رأسه بحديدة كآلة يتألم به، فإن كان مشغول القلب بمهم من مهماته فرغ المزين والحجام وهو لا يشعر به) [48]

ثم بين علة هذه الحالة وقانونها الذي لا يختص بالمحبين لله، فقال:( وكل ذلك لأنّ القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور مستوفى به لم يدرك ما عداه، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه أو بحبه قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتمّ له لولا عشقه، ثم لا يدرك غمه وألمه لفرط استيلاء الحب على قلبه. هذا إذا أصابه من غير حبـيبه فكيف إذا أصابه من حبـيبه؟)[49]

فإذا كان الحب والعشق من أعظم الشواغل، وكان ذلك في ألم يسير بسبب حب خفيف، فكيف يكون الأمر لو تصوّر في الألم العظيم بالحب العظيم.

وقد بين بشر بن الحارث في موعظة بليغة كيف يتمكن المحب من قهر كل ألوان البلاء، فقال يحكي عن نفسه: مررت برجل وقد ضرب ألف سوط في شرقية بغداد ولم يتكلم ثم حمل إلى الحبس، فتبعته فقلت له: لم ضربت؟ فقال: لأني عاشق، فقلت له: ولم سكت؟ قال:( لأنّ معشوقي كان بحذائي ينظر إليَّ، فقلت: فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر قال: فزعق زعقة خرّ ميتاً.

ولذلك يعتبر الربانيون المنشغل بذاته عن ربه، أو الذين يعبدون الله على حرف، فلم يعبروا من عبادته إلى معرفته، ولم يخرجوا من أنفسهم إليه قاصرين محاطين بأنواع الشوائب، وقد قيل لعبد الواحد بن زيد: هاهنا رجل قد تعبد خمسين سنة، فقصده فقال له: يا حبـيب أخبرني عنك هل قنعت به؟ قال: لا، قال أنست به؟ قال: لا، قال: فهل رضيت عنه؟ قال: لا، قال: فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة؟ قال: نعم، قال: لولا أني أستحي منك لأخبرتك بأن معاملتك خمسين سنة مدخولة.

ومراده ـ كما يشرح الغزالي ـ أنك لم يفتح لك باب القلب فتترقى إلى درجات القرب بأعمال القلب، وإنما أنت في طبقات أصحاب اليمين، لأن مزيدك منه في أعمال الجوارح.

وعلى نهج هؤلاء الصالحين، قال الإمام بديع الزمان النورسي:( المؤمن يعتقد بما يقول لذا يجد في كل شئ باباً ينفتح الى خزائن الرحمة الإلهية، فيطرقه بالدعاء، ويرى أن كل شئ مسخَّر لأمر ربه، فيلتجىء اليه بالتضرع. ويتحصَّن أمام كل مصيبة مستنداً الى التوكل، فيمنحه ايمانه هذا الامان التام والاطمئنان الكامل) [50]

فلذلك ( لو أصبحت الكرة الارضية قنبلة مُدمِّرة وانفجرت، فلربما لا تخيف عابداً لله ذا قلب منوَّر، بل قد ينظر اليها أنها خارقة من خوارق القدرة الصمدانية، ويتملاها باعجاب ومتعة، بينما الفاسق ذو القلب الميت ولو كان فيلسوفاً ـ ممن يُعدّ ذا عقل راجح ـ اذا رأى في الفضاء نجماً مذنباً يعتوره الخوف ويرتعش هلعاً ويتساءل بقلق: ألا يمكن لهذا النجم أن يرتطم بأرضنا؟ فيتردى في وادي الاوهام)

ولذلك، فإن الصالحين المنورين بنور العبودية لا يخافون من الأقدار، بل يستقبلونها كما يستقبل المحب هدايا محبوبها، ولا يثقلهم الهم بما يأتي لعلمهم بأن الله هو الذي يحمل ذلك الهم عنهم، قال النورسي مصورا تصور المؤمن لقدر الله:( كما ان القدر لا يورث ضيقاً، فانه يمنح خفة بلا نهاية وراحة بلا غاية وسروراً ونوراً يحقق الأمن والامان والروح والريحان؛ لأن الانسان إن لم يؤمن بالقدر يضطر لأن يحمل ثقلاً بقدر الدنيا على كاهل روحه الضعيف ضمن دائرة ضيقة وحرية جزئية وتحرر مؤقت، لأن الانسان له علاقات مع الكائنات قاطبة، وله مقاصد ومطالب لا تنتهيان الاّ ان قدرته وارادته وحريته لا تكفي لإيفاء واحدٍ من مليون من تلك المطالب والمقاصد، ومن هنا يفهم مدى ما يقاسيه الانسان من ثقل معنوي في عدم الايمان بالقدر، وكم هو مخيف وموحش.

بينما الايمان بالقدر يحمل الانسان على أن يضع جميع تلك الاثقال في سفينة القدر، مما يمنحه راحة تامة، اذ ينفتح امام الروح والقلب ميدان تجوال واسع، فيسيران في طريق كمالاتهما بحرية تامة. بيد أن هذا الايمان يسلب من النفس الامارة بالسوء حريتها الجزئية ويكسر فرعونيتها ويحطم ربوبيتها ويحدّ من حركاتها السائبة)

وضرب مثالا على لذة الإيمان بالقدر، برجلين يسافران معاً الى عاصمة سلطان عظيم، ويدخلان الى قصر السلطان العامر بالعجائب والغرائب، أحدهما لا يعرف السلطان ويريد ان يسكن في القصر خلسة ويمضي حياته بغصب الاموال، فيعمل في حديقة القصر. ولكن ادارة تلك الحديقة وتدبيرها وتنظيم وارداتها وتشغيل مكائنها واعطاء ارزاق حيواناتها الغريبة وامثالها من امورها المرهقة دفعته الى الاضطراب الدائم والقلق المستمر، حتى اصبحت تلك الحديقة الزاهية الشبيهة بالجنة جحيماً لا يطاق. اذ يتألم لكل شئ يعجز عن ادارته، فيقضي وقته بالآهات والحسرات. واخيراً يُلقى به في السجن عقاباً وتأديباً له لسوء تصرفه وادبه.

أما الشخص الثاني فانه يعرف السلطان، ويعدّ نفسه ضيفاً عليه، ويعتقد ان جميع الاعمال في القصر والحديقة تدار بسهولة تامة.. بنظام وقانون وعلى وفق برنامج ومخطط، فيلقى الصعوبات والتــكاليـف الى قانون السلــطان، مســتفيداً بانــشــراح تام وصفاء كامـل من متــع تلــك الحديــقة الـزاهــرة كالجـنــة، ويــرى كــل شـــئ جميلاً حقاً، استناداً الى عطف السلطان ورحمته، واعتماداً على جمال قوانينه الادارية.. فيقضي حياته في لذة كاملة وسعادة تامة [51].

الجواب الثاني:

ونوضحه بهذا المثال الذي ضربه الشبلي في حالة من أحواله الوجدانية، فقد دخل عليه جماعة في مارستان قد حبس فيه، وقد جمع بـين يديه حجارة، فقال: من أنتم؟ فقالوا: محبوك، فأقبل عليهم يرميهم بالحجارة فتهاربوا فقال: ما بالكم ادعيتم محبتي إن صدقتم فاصبروا على بلائي.

وهذا المعنى هو عينه ما يدل عليه قوله تعالى:﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت:2)، فقد أخبر تعالى أن من مقتضيات ادعاء الإيمان الابتلاء حتى يعلم الصادق من الكاذب، ومن يؤثر الله، ومن يؤثر هواه.

ولذلك أخبر تعالى عن الكثير من البلاء الذي أصاب المؤمنين، كما قال تعالى في غزوة الأحزاب:﴿)إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾ (الأحزاب:10 ـ 11)

بل أخبر أن هذا الابتلاء المزلزل الذي محص به الصحابة y هو سنة الله تعالى مع الرسل ـ عليهم السلام ـ وأتباعهم، كما حكى الله تعالى عن النماذج الكثيرة من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وما حصل لهم مع أقوامهم، كما قال تعالى على لسان فرعون مخاطبا السحرة الذين اتبعوا موسى u:﴿ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾ (طـه:71)

وهذا البلاء قد يكون من الأقوام لأنبيائهم والدعاة المكلفين بتبليغهم، كما حكى الله تعالى عن فعل فرعون بالسحرة.

وقد يكون من الله تعالى، للتمحيص، ولبيان رفعة الدرجة، وأن الابتلاء لا يتنافى مع النبوة، وذلك مثل ما حصل لأيوب u، قال تعالى:﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الانبياء:83)، وقال تعالى:﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ (صّ:41)

فإن أيوب u استقبل كل أنواع البلاء بصدر رحب لم يتزعزع قيد أنملة عن محبة ربه وإيثاره، بل إنه في ثنايا ذلك البلاء كان مستغرقا في رحمة الله، فلذلك قال في دعائه:﴿ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (، وكان متأدبا مع ربه، فلم ينسب البلاء إليه، بل قال:﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ( وقال:﴿  أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (

وقد جمع الله كلا النوعين من البلاء لإبراهيم u، فإنه من جهة قومه أوذي إيذاء عظيما، كما قال تعالى:﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ﴾ (العنكبوت: من الآية24)، وقال تعالى:﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ (الانبياء:68)، بل إنه أوذي من أقرب الناس إليه حيث قال له:﴿ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً﴾ (مريم: من الآية46)

ومع هذا البلاء العظيم الذي واجهه به قومه، وأقرب الناس إليه، أمره الله تعالى بذبح ابنه الوحيد، والذي لم يرزقه إلا بعد أن بلغ من الكبر عتيا، ولكنه لم يتلكأ، ولم يتردد، بل سارع ليخبر ابنه بذلك، وكان البلاء موجها لكليهما، ولنستمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي عن هذه الرحمة التي صبت في قالب هذا الابتلاء، قال تعالى:﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ((الصافات:101 ـ 102)

لكن الله تعالى برحمته كما نجى إبراهيم u من الحرق بالنار، فجعلها بردا وسلاما، نجاه كذلك من هذا البلاء الذي لم يكن مقصده العذاب، وإنما مقصده الرحمة ورفعة الدرجة، قال تعالى:﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( (الصافات:105 ـ110)

فالله تعالى أخبر في هذه الآيات عن الجزاء العظيم الذي ناله إبراهيم u على نجاحه في ذلك البلاء، وهو لا يقتصر على الذبح العظيم فقط، بل تعداه إلى سلام الله عليه،وإلى ترك أثره في الآخرين بالثناء الحسن والذكرالجميل.

وأول الثناء عليه ثناء الله الذي بين وفاءه u، قال تعالى:﴿ )وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ (لنجم:37)،، وقال تعالى:﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة:124)

وهكذا يجازي الله الصالحين الذين صبروا لبلائه ووفوا له، أما من لا ينجح في أقل من هذا البلاء ويبيع الله بأي شهوة تعرض له أو شوكة تعترض طريقه، فإن الله تعالى يتخلى عنه ويتركه لنفسه جزاء وفاقا.

وقد أخبر الله تعالى عن هذا الصنف في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ (الحج:11)، فهذا الخاسر لا يعبد الله في الحقيقة وإنما يعبد أهواءه التي قد تتفق أحيانا مع ما يأمر به الله، فيتوهم الخلق أنه يعبد الله، فلذلك يبتلى بما يظهر حقيقته،ويكشف عن سريرته.

وقد أخبر الله تعالى عن مواقف هذا الصنف مع الخلق بقوله:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾ (العنكبوت:10)

ولذلك كان من سنة الله في هذه الدار الكشف عن المعادن النفيسة وتمييزها عن المعادن الخسيسة بما يصبه من انواع البلاء، قال تعالى:﴿  أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة:214)، وقال تعالى:﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران:142)، وقال تعالى:﴿  أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة:16)

ولابن القيم حكمة جليلة في هذا المعنى يقول فيها:( يا مخنث العزم أين أنت, والطريق طريق تعب فيه آدم, وناح لأجله نوح, ورمى في النار الخليل, وأضجع للذبح اسماعيل, وبيع يوسف بثمن بخس, ولبث في السجن بضع سنين, ونشر بالمنشار زكريا, وذبح السيد الحصور يحيى, وقاسى الضر أيوب, وزاد على المقدار بكاء داود, وسار مع الوحش عيسى, وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد r وتزها أنت باللهو واللعب:

فيا دارها بالحزن إن مزارها  قريب  ولكن دون ذلك أهوال[52]

الجواب الثالث:

وعبر عنه الشافعي ـ رضي الله عنه ـ عندما سئل:( يا أبا عبد الله أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟)، فقال الشافعي ـ رضي الله عنه ـ:( لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ فلما صبروا مكنهم)

فالله تعالى ـ بحكمته المطلقة ـ يربي عباده الصالحين الذين جعلهم وسائط للهداية والرحمة بينه وبين خلقه بأنواع البلاء المتناسب مع نوع الرسالة التي يكلفون بها.

ومثل ذلك مثل من يريد تعلم صناعة معينة، فإنه يحتاج إلى التدريب الذي يتناسب مع تلك الصناعة، فإن نجح فيه أهل ومكن من صناعته، وإن لم ينجح طرد وأبعد عنها.

وقد ضرب الله تعالى الأمثلة القرآنية الكثيرة على ذلك، ولعل أوضحها ما حكاه عن نبيين كريمين هما يوسف وموسى ـ عليهما السلام ـ فإن الله تعالى دربهما بصنوف البلاء ليتمكنا من أداء الوظيفة التي كلفا بها.

الجواب الرابع:

هو أن العارفين الذين يعتبرون أفعال الله U فيهم وفي غيرهم رسائل رحمة ومودة لا يفهمون من تلك الأنات والبلايا إلا أنها حروف من الله تشهدهم وجود فاقتهم، وتشعرهم بحقيقتهم، لتشغلهم بالله عن أنفسهم، قال ابن عطاء الله:( خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجود فاقتك، وترد فيه إلى وجود ذِلتك)، ولهذا يقال:( أوقات الفاقات أعياد المريدين)

وقد أشار إلى هذا المعنى ابن عطاء الله في الحكمة الأخرى بقوله:( فاقتك لك ذاتية، وورود الأسباب مذكرات لك بما خفي عليك منها، والفاقة الذاتية لا ترفعها العوارض)

أي أنه إذا علم العبد أن العدم سابق على وجوده، وأن وجوده مفتقر إلى المدد في كل وقت، وإلا تلاشى وانعدم، علم أن فاقته ذاتية وأن الاضطرار لازم لوجوده، وأن ورود العلل المختلفة من الفقر والمرض مذكرات له بما خفي عليك من الفاقة الذاتية، فإن غالب الناس يغفلون عن الفاقة الذاتية إذا دامت عليهم صحة أبدانهم وكثرة أموالهم.

ولهذا قيل: إن السبب الذي حمل فرعون على قوله:) أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى( (النازعات:24) طول العافية والغنى، فإنه لبث أربعمائة سنة لم يتصدع رأسه، ولم يضرب عليه عرق، ولو أخذته الشقيقة ساعة واحدة لشغله ذلك عن دعوى الربوبية.

وأخبر r أن الرجل يكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها، وبأن  عظم الجزاء مع عظم البلاء إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع، وأن من يرد الله به خيرا يصب منه[53].

ولكن هذا لا يعني ترفع الولي على ربه، أوعدم رفع يديه إليه بالسؤال، أو عدم الالتجاء إلى عالم الحكمة الربانية، ومداواة العلل بماوضعه الخالق الحكيم من علاج، فلامنافاة بين الانشغال بالله وممارسة الأسباب، ودفع الأقدار بالأقدار.

ولهذا قص القرآن الكريم علينا نموذج الراضي بالله، المنشغل به أيوب u، وهو ينادي ربه:) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الانبياء:83) وهو أدب رفيع في الدعاء، اقتصر فيه أيوب u على ذكر ضعفه، وكمال ربه، فعالج ضره برحمة ربه.

الجواب الخامس:

أن الآلام التي هي الطريق الذي يرفع غشاوة الكبر عن القلب، قد تدعو إلى التوجه إلى الرحيم، كما يتوجه الصبي إلى أحضان أمه، فيكسب بالتجائه من اللذة ما ينسيه إلى كل ألم، بل يكون ذلك الألم هو طريق الأشواك القصير المحدود الذي أوصله إلى الجنان المزهرة.

ويشير إلى هذه الرحمة المكسوة بكساء الألم قوله تعالى:﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً﴾ (الاسراء:28)

وقد عبر النورسي عن هذا المعنى الجميل بقوله:( ان الخوف من الخالق الجليل يعني وجدان سبيل الى رأفته ورحمته تعالى للالتجاء اليه. فالخوف بهذا الاعتبار هو سوط تشويقٍ يدفع الانسان الى حضن رحمته تعالى. اذ من المعلوم ان الوالدة تخوّف طفلها لتضمّه الى صدرها. فذلك الخوف لذيذ جداً لذلك الطفل. لأنه يجذب ويدفع الطفل الى صدر الحنان والعطف. علماً ان شفقة الوالدات كلهن ما هي الاّ لمعة من لمعات الرحمة الإلهية. بمعنى ان في الخوف من الله لذة عظيمة. فلئن كان للخوف من الله لذة الى هذا الحد، فكيف بمحبة الله سبحانه، ألا يفهم كم من اللذائذ غير المتناهية فيها) [54]

ويقول في موضع آخر:( ان العارف بالله يتلذذ من عجزه وخوفه من الله سبحانه. وحقاً ان في الخوف لذة! فلو تمكنّا من الاستفسار من طفل له من العمر سنة واحدة، مفترضين فيه العقل والكلام: ما اطيـب حالاتك وألـذها؟ فربما يكـون جــوابه: هو عندما ألوذ بصدر أمي الحنون بخوفي ورجائي وعجزي.. علماً ان رحمة جميع الوالدات وحنانهن ما هي الاّ لمعةُ تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية الواسعة.

ومن هنا وجد الذين كَمُل ايمانُهم لذة تفوق اية لذة كانت في العجز ومخافة الله،حتى انهم تبرأوا الى الله براءة خالصة من حولهم وقوتهم ولاذوا بعجزهم اليه تعالى واستعاذوا به وحده، مقدِّمين هذا العجز والخوف وسيلتين وشفيعين لهم عند البارئ الجليل) [55]

وقرب هذا المعنى بأن الإنسان ضيف لدى الذي فَرَش له وجه الارض مائدةً حافلة بالنعم، وجعل الربيع كأنه باقة انيقة من الورود ووضعها بجانب تلك المائدة العامرة بل نثرها عليها، فمَن كان ضيفاً عند هذا الجواد الكريم جل وعلا كيف يكون الفقر والحاجة لديه مؤلماً وثقيلاً؟

بل إنه يتخذ فقره وفاقته اليه سبحانه صورة مُشهٍّ لتناول النِعم، فيسعى الى الاستزادة من تلك الفاقة كمن يستزيد من شهيته. وهنا يكمن سبب افتخار الكاملين واعتزازهم بالفقر الى الله تعالى.

وبذلك يكون البلاء في حق هؤلاء نعمة، وما نتصوره من انتقام في حقهم رحمة، كما قال تعالى:﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: من الآية216)

وقد ذكر ابن القيم حالا من أحوال العارفين أسماه ( مشهد الذل والانكسار والخضوع والافتقار للرب تعالى) [56]

وذكر أن المؤمن في هذا المشهد يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة وافتقارا تاما إلى ربه ووليه ومن بيده صلاحه وفلاحه وهداه وسعادته، فيحصل لقلبه انكسار خاص لا يشبهه شىء، بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل الذى لا شىء فيه ولا به ولا منه ولا فيه منفعة ولا يرغب فى مثله وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيمه.

وفي هذا المشهد يرى المؤمن العارف كل ما يأتيه من ربه خيرا، بل يرى أنه لا يستحق قليلا منه ولا كثيرا، فأي خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم أن قدره دونه، وأن رحمة ربه هى التى اقتضت ذكره به وسياقته إليه.

ويذكر ابن القيم الجزاء الذي يناله هذا القلب المنكسر لله بقوله:( فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور، وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه، وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه، وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم، وأحب القلوب إلى الله سبحانه قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة وملكته هذه الذلة، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلا من الله) [57]

وإلى هذا الكلام الذي ذكره ابن القيم يشير قول سهل التستري عندما سئل:( أيسجد القلب؟)، فقال:( نعم، يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء)

ومثل ابن القيم لهذا المشهد برجل كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللباس ويربيه أحسن التربية ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية، وهو القيم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه في حاجة له، فخرج عليه فى طريقه عدو فأسره وكتفه وشده وثاقا، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة، فتهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه.

فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد نحره في آخر الأمر إذ حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه فرأى أباه منه قريبا، فسعى إليه وألقى نفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث:( يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه.. انظر إلى ولدك وما هو فيه) ودموعه تستبق على خديه، قد اعتنقه والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه، وهو ملتزم لوالده ممسك به.

فهل يمكن لهذا الوالد أن يسلم ولده مع هذه الحال إلى عدوه، ويخلي بينه وبينه؟

فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها إذا فر عبد إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحا ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكيا بين يديه يقول:( يا رب يا رب ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك، أنت معاذه، وبك ملاذه، يا من ألوذ به فيما أؤمله، ومن أعوذ به مما أحاذره:

لا يجبر الناس عظما أنت كاسره  ولا يهيضون عظما أنت جابره

ويحكى في هذا عن بعض العارفين أنه قال:( دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام، فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه) [58]

مزيج الأبرياء

  قد يقال بعد هذا: نعم إن المزيج الذي مزجت به هذه الآلام هو نتيجة حتمية لأفعال المكلفين، أو لها علاقة بتهذيبهم، أو لها علاقة برفع درجاتهم وتقريبهم من ربهم وتعريفهم به، لكن ما القول في الآلام المحضة التي يعاني مرارتها الذين لم يمنحهم الرحيم تعالى قابلية التكليف، فلا علاقة للآلام بتهذيبهم، لعدم تلطخهم، ولا علاقة له بأعمالهم لعدم تكليفهم؟

وللجواب عن ذلك نقول:

إن هذه المسألة من أخطر المسائل التي تاه فيها العقل البشري، إلى أن جر بعضهم إلى الإلحاد بسببها، ولذلك لا بأس أن نورد بعض هذا التيه لنبين قيمة النور الذي يستفيده المؤمن من وحي الله العاصم من تلك الأوحال، وذلك التيه.

أما الملحدون، فأعموا قلوبهم القاسية عن الاهتمام بذلك، بل قالوا: إن كل ذلك من تصرف الطبيعة وفعلها، وليس لذلك فاعل مختار مدبر بمشيئته وقدرته.

وذهب القائلون بالتناسخ إلى أن الأرواح الفاجرة الظالمة تودع فى الحيوانات التى تناسبها، فينالها من أَلم الضرب والعذاب بحسبها، فلذلك كانت مستحقة لما يصيبها من آلام، وذكروا أن الله خلق خلقه كلهم جملة واحدة بصفة واحدة ثم أَمرهم ونهاهم، فمن عصى منهم نسخ روحه فى جسد بهيمة تبتلى بالذبح والقتل، فما سلط على هذه البهائم من الآلام فهو للأَرواح الآدمية التى أَودعت هذه الأَجساد، فمن كان منهم جباراً عنيداً كوفيء بأَن جعل فى بدن قملة أَو قرادة ونحوهما، إِلى أَن يقتص منهم ثم يردون، فمن عصى منهم بعد ردّه كرر أَيضاً عليه ذلك التناسخ هكذا أبداً حتى يطيع طاعة لا معصية بعدها أَبداً فينتقل إلى الجنة من وقته.

وذهب المجوس ومن هو على شاكلتهم إلى إسناد الشر والخير إلى إلهين مستقلين كل منهما يذهب بخلقه، وذكروا أَن هذه الآلام والشرور من الإِله الشرير المظلم فلا تضاف إِلى الإِله الخير العادل ولا تدخل تحت قدرته.

وذهب آخرون إلى أن البهائم مكلفة مأْمورة منهية مثابة معاقبة، وأن فى كل أُمة منها رسول ونبى منها، وهذه الآلام والعقوبات الدنيوية جزاءٌ على مخالفتها لرسولها ونبيها.

وذهب آخرون إلى أن البهائم والأَطفال لا تتألم أبدا[59].

وكل هذه أقوال جر إليها العقل المجرد الذي لم يستند إلى الوحي، ولا إلى ما تقتضيه المعرفة بالله من حقائق.

ونحن نقر بادئ ذي بدء أن كشف سر الرحمة في هذا يتطلب الإيمان بجميع الحقائق، وأولها ما ذكرناه في سر الحكمة من أنه ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)

فمن فهم هذه الكلمة خق الفهم ورعاها حق الرعاية أدرك بعين البصيرة أن ما نراه من آلام قد نتصورها آلاما مجردة هي في حقيقتها رحمة صورت بتلك الصورة.

ولو أن الأمر كان خلاف ذلك لكان العالم على خلاف الصورة التي هو عليها.

ولذلك نكتفي هنا بثلاثة أجوبة:

الجواب الأول:

الإحالة إلى الله تعالى في علم تفاصيل الرحمة المنطوية في ظل هذه الآلام، فإن الله تعالى أخبرنا بأن رحمته وسعت كل شيء، وأن المزيج المؤلم الذي يختلط برحمته هو مزيج يرتبط بالكسب، لا بالرحمة والمقادير.

فلذلك، إذا جهلنا سرا ما نلجئه إلى هذه المعرفة التي برهنت عليها كل الدلائل.

ولنضرب مثالا مقربا لذلك، وهو قوله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ﴾ (الانبياء: من الآية30)، فإن هذه الآية كانت تتناقض مع بعض التصورات الخاطئة من أن حياة بعض الحيوانات قد تستغني عن الماء، لكن معارف الإنسان المتطورة أثبتت شمولية هذه الحقيقة.

ومثل ذلك قوله تعالى:﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الذريات:49)، فقد كانت النظرة البدائية تتصور الزوجية منحصرة في أجناس معينة، لكن العلم الحديث أثبت الكثير من مظاهر الزوجية في الأشياء مما يجعل منها معنى شاملا.

وهكذا، وبنفس الأسلوب قال تعالى:﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (لأعراف: من الآية156)، وقال تعالى:﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً﴾ (غافر: من الآية7)، فلذلك إن رأينا قصورا في إدراك شمولية هذا المعنى، فالمتهم هو عقولنا، لا سعة رحمة الله.

الجواب الثاني:

ونرجع فيه إلى اسم الله ( الشكور) وقد ذكرنا في الفصل السابق أن هذا الاسم مفتاح لمعرفة الكثير من حقائق الكون.

فالله تعالى برحمته قد يستسخر من خلقه من يقوم بوظيفة معينة إظهارا لحكمة من حكمه أو لمقتضى من مقتضيات أسمائه الحسنى، فإذا قام ذلك المستسخر بتلك الوظيفة جازاه عليها أضعاف أضعاف الآلام التي تحملها.

فلذلك كان من حكمة الله التي اقتضاها وجود الكون بهذه الصورة أن توجد الآلام التي قد نتوهمها آلاما محضة، ولكنها في حقيقتها تنطوي على رحمة خفية إما في ذات وجودها، أو بما يترتب عليها.

فلذلك من حكمة الله أن يستسخر هؤلاء لتحمل بعض الآلام اللحظية ليستوفوا بعد ذلك أجورا تتناسب مع شكر الله وجوده.

ولو أنا نرى أن الله تعالى يخفف عنهم الآلام إلى درجة قد لا يحسون بها، وإلى ذلك الإشارة بما أخبر عنه r من أن ( الشهيد لا مس القتل إلا كما يجد أحدكم مس القرصة يقرصها) [60]

وقد يقال هنا: فإذا كان الله قادراً على التفضل بالعوض وبأضعافه بدون توسط الألم فأى حاجة إلى توسطه؟ وهل يصح لأحدنا أن يؤلم غيره ثم يعوضه عن آلامه؟

والجواب عن ذلك: إن الله تعالى مع مشيئته المطلقة التي لا يحدها شيء، ولا يحجر عليها حاجر أخبرنا ـ من خلال النصوص الكثيرة ـ على أن حكمته تأبى وضع شيء في غير موضعه، لذلك ورد أنه ـ بالنسبة للمكلفين ـ يوزع البلاء عليهم بحسب ما يصلحهم، كما ورد في الأثر الإلهي:( وإن من عبادي المؤمنين لمن سألني من العبادة فأكفه عنه ولو أعطيته إياه لدخله العجب وأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك وإني أدبر لعبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير) [61]

ولذلك ـ نؤمن انطلاقا من ذلك ـ إيمانا جازما أن الرحمة في ذلك البلاء بغض النظر عن نوع الرحمة في ذلك.

وقد أجاب بعض من يسمى بالقدرية على هذا جوابا حسنا، فقال: إن الله تعالى لا يُمرض ولا يُؤلِم إلا من يعلم من حاله أَنه لو أَطلعه على الأَعواض التى تصل إليه لرضى بالأَلم ولرغب فيه لوفور الأعواض وعظمها.

وانطلاقا من هذا فرق بين إيلام البشر وإيلام الله، فإِن من قطع يد غيره أَو رجله ليعوضه عنها لم يحسن ذلك منه، لأن العوض يصل إليه وهو مقطوع اليد والرجل، وليس من العقلاءِ من يختار ملك الدنيا مع ذلك، والله يوصل الأعواض فى الآخرة إلى الأحياء وهم أكمل شيءٍ خلقاً وأَتمه أَعضاءً، فلذلك افترق الشاهد والغائب فى هذا.

أما إذا فرض أن الأذى تحقق مع سلامة الأعضاءِ،وكان فيه مصلحة ورضى المضروب بذلك وعظمت الأعواض عنه فهو حسن فى العقل لا محالة، لأن العوض يخرج الألم عن كونه ظلماً، لأنه نفع موقوف على مضرة الألم، وباعتبار كونه لطفاً فى الدين يخرج عن كونه عبثاً.

بل إن الواقع يدل على هذا، فإنه يحسن فى المشاهد ًإيلام أنفسنا وإتعابها فى طلب العلوم والأرباح التى لا نصل إليها إلا على جنس من التعب والمشقة.

وبناء على هذا ذكر بأن هذا الوجه هو الذى حسن لأجله إيلام الأطفال فإنه إيلام لنفع، فإن أبدان الأطفال لا تستقيم إلا على الأسباب الجالبة للآلام، وكذلك نفوسهم إنما تكمل بذلك.

وهذه أجوبة حسنة، والخطأ الذي ينكر عليهم ليس فيها، وإنما في إلزام هؤلاء الله تعالى بذلك، فهو تعالى:﴿ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (الانبياء:23)، أو اعتقادهم الظلم في خلافها، و﴿االلَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (يونس: من الآية44)

ويروون من محاجة المخالفين لهم في بعض هذا أن أبا الحسن الأشعرى ناظر أبا على الجبائى عن ثلاثة إخوة لأب وأم مات أحدهم صغيراً، وبلغ الآخر فاختار الإسلام، وبلغ الآخر فاختار الكفر، فاجتمعوا عند رب العالمين، فرفع درجة البالغ المسلم فقال أخوه الصغير:( يا رب، ارفع درجتى حتى أبلغ منزلة أخى، فقال: إنك لا تستحق، إن أخاك بلغ فعمل أعمالاً استحق بها تلك الدرجة)، فقال:( يا رب، فهلا أحييتنى حتى أبلغ فأعمال عمله)، فقال: كانت تلك لمصلحة تقتضى اخترامك قبل البلوغ، لأنى علمت أنك لو بلغت لاخترت الكفر، فكانت المصلحة فى قبضك صغيراً، قال: فصاح الثالث بين أطباق النار وقال: يا رب، لم لم تمتنى صغيراً؟ فما جواب هذا أيها الشيخ؟ فلم يرد إليه جواباً[62].

***

قد يقال هنا: نعم، إن هذا أمر يحتاج إلى معرفة وجه الرحمة والعدل فيه.

والجواب عن ذلك ما ذكرنا في الفصل الثاني من أن عدالة الله المطلقة تقتضي أن لا يدخل الجنة إلا الطيبون، سواء بفطرتهم الأصلية التي لم تتدنس، أو بمقاومتهم للتأثيرات المفسدة للفطرة.

فلذلك إن مات الصغير من غير تدنس فطرته دخل الجنة برحمة الله المحضة، وكان حاله كحال الذين خلقهم الله للجنة من غير معاناة للتكاليف، أما درجته فيها فتختلف بحسب فطرته، وقد أخبر تعالى أنهم يلحقون بآبائهم المؤمنين كرما منه ورحمة، كما قال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ (الطور:21)

أما إن تدنست فطرته في صغره، فإنه يتعرض من الامتحان إلى ما يعيد لفطرته أصالتها، ثم يدخل الجنة برحمة الله.

أما الكافر، فلا يحق له أن يسأل ذلك السؤال، لأنه كان معرضا لنفس الرحمة التي تعرض لها أخوه الصغير الذي حافظ على فطرته بصغره، أو أخوه الكبير الذي أضاف إلى فطرته الأصلية ما استأهل به الدرجات العليا.

ومع ذلك، فإن الله يرحمه بذلك العذاب ليخلص فطرته من الدنس الذي علق به، وسنعرف هذا في محله من ( رحمة النشأة الثانية)

ثم إن هذا السؤال نفسه مستحيل، لأن الله تعالى برحمته يجعل لكل واحد من أهل الجنة رضى بما هو فيه، فلا يطمع في نصيب غيره، بل لا يرغب فيه، وإلى هذا الإشارة بقوله r  عن عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه:( فيقولون: ربنا! أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا! أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا) [63]

بل يدل الواقع على هذا، فإن الصبي الصغير لو خير بين لعبه والمناصب الرفيعة أو الأموال الضخمة لاختار لعبه.

ولهذا أخبر r عن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى ولكن أحب أن أزرع، فبذر فبادر الطرف نباته واستواءه واستحصاده، فكان مثل أمثال الجبال؛ فيقول الله: دونك يا ابن آدم! فإنه لا يشبعك شيء[64].

وهو يدل على أن رغبات أهل الجنة هي التي تحدد درجاتهم، وهو من تمام رحمة الله بهم.

الجواب الثالث:

ونرجع فيه إلى ولي من أولياء الله عاش حياته يحمل الهموم الكثيرة على المصائب المختلفة بقلب يمتلئ شفقة ورحمة، وهو الإمام بديع الزمان النورسي، ولنسمع إليه يخاطب نفسه، ويقول لها:( يا نفسي ويا صاحبي.. يا من تتألمان كثيراً لشدة ما تحملان من شفقة ورأفة. اعلما ان الوجود خير محض والعدم شر محض، والدليل هو رجوع جميع المحاسن والكمالات والفضائل الى الوجود، وكون العدم اساس جميع المعاصي والمصائب والنقائص) [65]

ومن هذه البذرة العرفانية أجاب الإمام عن هذه المعضلة، فإنه لما كان العدم شراً محضاً، فالحالات التي تنجر الى العدم أو يُشم منها العدم تتضمن الشر ايضاً، لذا فالحياة التي هي اسطع نور للوجود، تتقوى بتقلبها ضمن أحوال مختلفة، وتتصفى بدخولها اوضاعاً متباينة، وتثمر ثمرات مطلوبة باتخاذها كيفيات متعددة، وتبين نقوش اسماء واهب الحياة بياناً لطيفاً وجميلاً بتحولها في اطوار متنوعة.

وبناءً على هذا تعرض حالات على الأحياء في صور الآلام والمصائب والمشقات والبليات، فتتجدد بتلك الحالات انوار الوجود في حياتهم وتتباعد عنها ظلمات العدم، واذا بحياتهم تتطهر وتتصفى.

وذلك لأن التوقف والسكون والسكوت والعطالة والدعة والرتابة، كل منها عدمٌ في الكيفيات والاحوال. حتى ان اعظم لذة من اللذائذ تتناقص بل تزول في الحالات الرتيبة.

ثم ضرب مثالا يقرب هذا المعنى بصانع ثري ماهر يكلّف رجلاً فقيراً لقاء أجرة معينة ليقوم له في ظرف ساعة بدور النموذج لأجل اظهار آثار صنعته الجميلة وابراز مدى ثرواته القيّمة، فيُلبسه ما نسجه من حلة قشيبة في غاية الجمال والابداع،و يجرى عليه اعمالاً ويظهر اوضاعاً واشكالاً شتى لإظهار خوارق صنائعه وبدائع مهاراته، فيقصّ ويبدّل ويطوّل ويقصر، وهكذا..

فهل يحق لذلك الفقير الأجير أن يقول لذلك الصانع الماهر:( إنك تتعبني وترهقني بطلبك منّي الانحناء مرة والاعتدال أخرى.. وانك تشوّه بقصّك وتقصيرك هذا القميص الذي يجمّلني ويزينني؟ ترى أيقدر ان يقول له: لقد ظلمت وما انصفت؟!)

وهكذا الأمر في الصانع الجليل الفاطر الجميل ـ ولله المثل الاعلى ـ اذ يبدّل قميص الوجود الذي ألبسه ذوي الحياة، ويقلبه في حالات كثيرة، ذلك القيمص المرصع باللطائف والحواس كالعين والاذن والعقل والقلب وامثالها، يبدّله ويقلّبه اظهاراً لنقوش اسمائه الحسنى.

ففي الأوضاع التي تتسم بالآلام والمصائب أنوار جمال لطيف تشف عن أشعة رحمة ضمن لمعات الحكمة الإلهية، اظهاراً لأحكام بعض الاسماء الحسنى[66].

 

ثانيا ـ رحمة النشأة الآخرة

جعل الله تعالى بحكمته ومقتضيات أسمائه الحسنى هذه الدار الدنيا محلا لاجتماع الطيب مع الخبيث، والصالح مع الفاسد، والمؤمن مع الكافر ليقيم الحجة على خلقه، ولتظهر أسرار رحمته عليهم.

ففي الدنيا يجتمع الرسل مع الفراعنة، والأولياء مع الأشقياء، والطاهرون مع المتننجسين، والطيبون مع الخبثاء.

وفي الدنيا تتحاور الجواهر الكريمة مع الحجارة الخسيسة، والجداول الرقراقة مع المستنقعات الآسنة، والصفاء مع الكدر، والسلامة مع العطب.

وفي الدنيا تلتقي المتناقضات، ليختار هذا الإنسان من بينها ما يتناسب مع طبيعته.

أما في الآخرة، فإن ما تميز في الدنيا تميزا معنويا يتميز هناك تميزا حسيا، فهي في ذلك تشبه مغناطيسا ضخما وضع على معادن متباينة ليميز كل معدن منها عن غيره.

ولهذا ورد في القرآن الكريم الكثير من النصوص الدالة على هذا التميز، قال تعالى:﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ﴾ (الروم:14)، وقال تعالى:﴿  فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ (الروم:43) أي يصيرون صدعين أي فرقتين.

ولهذا يقال في ذلك اليوم للمجرمين الذين يطمعون أن يجالسوا المؤمنين:﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ (يّـس:59)، ويقال لهم:﴿ مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ﴾ (يونس: من الآية28)

وعندما يطمع المنافقون أن يقتبسوا من أنوار المؤمنين يقال لهم:﴿ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ (الحديد:13)

وإلى هذا التميز الإشارة بقوله تعالى:﴿  وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴾ (التكوير:7)، وبقوله تعالى:﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ (الصافات: من الآية22)، وبقوله تعالى:﴿ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾ (الفرقان:13)

فقد ورد في تفسير هذه الآيات عن السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ أن المراد منه الجمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف[67]، وقد ورد في الحديث قوله r في تفسير الآية:( يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله)

وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ:( يقرن الفاجر مع الفاجر، ويقرن الصالح مع الصالح)

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ:( ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة، السابقون زوج - يعني صنفا - وأصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج)

وعنه أيضا:( قرن كل شكل بشكله من أهل الجنة وأهل النار، فيضم المبرز في الطاعة إلى مثله، والمتوسط إلى مثله، وأهل المعصية إلى مثله)

وقال الحسن:( ألحق كل امرئ بشيعته: اليهود باليهود، والنصاري بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد شيئا من دون الله يلحق بعضهم ببعض، والمنافقون بالمنافقين، والمؤمنون بالمؤمنين)

ولهذا قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ:( لو أن رجلاً قام بـين الركن والمقام يعبد الله سبعين سنة لبعثه الله يوم القيامة مع من يحب)

وقد بينت النصوص علة هذا التفريق بقوله تعالى:﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (لأنفال:37)

فالبشر في ذلك مثل الشوائب التي تختلط بالمعادن النفيسة، فإنها بعد عرضها على كير الامتحان يميز الذهب، فيوضع في أعناق الحسان، ويرمى بالشوائب إلى القمامات.

لكن..

هل يمكن أن نعرف أصناف الخلق في الآخرة، في تلك النشأة المتميزة.

في الدنيا، نعرف أصناف السلالات، وأنواع الألوان، وأجناس القوميات، والأحزاب والمذاهب والأديان التي يتميز الناس على أساسها.

أما في الآخرة، فالتمايز شديد، ولكنه يرجع إلى مقياس واحد هو صورة الروح التي تشكلت في الدنيا، ونوع المعدن الذي تمخضت عنه الأنا، يقول الغزالي:( الناس في الآخرة ينقسمون أصنافاً وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتاً لا يدخل تحت الحصر كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها ولا تفارق الآخرة في هذا المعنى أصلاً البتة، فإن مدبر الملك والملكوت واحد لا شريك له. وسنته الصادرة عن إرادته الأزلية مطردة لا تبديل لها) [68]

وقد أشار إلى هذا التمايز الشديد قوله تعالى:﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ (الاسراء:21) أي ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من تفاوتهم الدنيا، فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها، ومنهم من يكون في الدرجات العلى ونعيمها وسرورها، ثم أهل الدركات يتفاتون فيما هم فيه، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون.

وقد بين تعالى الأصناف العامة للخلق، فقسمها إلى ثلاثة أقسام، تختلف رحمة كل واحد منهم بحسبها، وهذه الأصناف عبرت عنها كثير من سور من القرآن الكريم نذكر ثلاثة منها هنا، وهي الواقعة، والإنسان والمطففين:

أما في سورة الواقعة، فقد ذكر الله تعالى أن الخلق يقسمون إلى ثلاثة أصناف عبر عنها بقوله  تعالى:﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ فِى جَنَّاتِ النَّعِيم( (الواقعة: 7- 12)

ثم عبر عن الجزاء الخاص المعد لكل صنف، ثم ختمت بذكر حالهم في القيامة الصغرى والبرزخ بقوله تعالى:﴿ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِن المُكَذَّبِينَ الضَّالِّينَ فنُزُلٌ مِنْ حَمِيمِ وَتَصْلِيةُ جَحِيمٍ ( (الواقعة: 88- 94)

أما سورة الإنسان، فقال تعالى:﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً( (الإنسان: 4) فهؤلاء هم أصحاب المشأَمة، ثم قال تعالى بعدها:﴿ إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبَون مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً((الإنسان: 5)، وهؤلاء هم أصحاب اليمين، ثم قال تعالى بعدها:﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفْجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ((الإنسان:6)، وهؤلاء هم المقربون السابقون، ولهذا خصهم بالإضافة إليه وأخبر أنهم يشربون بتلك العين خالصة بينما تمزج للأبرار مزجاً كما قال تعالى فى سورة المطففين فى شراب الأبرار:﴿ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ((المطففين:27-28)

أما في سورة المطففين، فقال تعالى عن الفجار:﴿ كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ( إلى قوله تعالى:﴿ كَلا إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ((المطففين: 7- 17)

ثم تحدثت الآيات القرآنية عن الأبرار الذين هم أصحاب اليمين، فقال تعالى:﴿  كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِى عليين وَمَا أَدرَاك مَا عِلِّيُّونَ((المطففين: 18- 19)

ثم ذكر تعالى النعيم المعد لهم، فقال تعالى:﴿  يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ((المطففين: 25- 26)، ثم قال تعالى:﴿  وَمِزَاجُهُ مِن تَسنيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ((المطففين: 27- 28) والتسنيم هو أعلى أشربه الجنة، فأخبر تعالى أن مزاج شراب الأبرار من التسنيم، وأن المقربين يشربون منه بلا مزاج، ولهذا قال تعالى بعدها:﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المُقَرَّبون((المطففين: 28(، كما قال تعالى فى سورة الإنسان سواءً، قال ابن عباس وغيره: يشرب بها المقربون صرفاً، ويمزج لأصحاب اليمين مزجاً.

وقد شبه الغزالي هذه التقسيمات بملك من الملوك استولى على إقليم فيقتل بعضهم فهم الهالكون، ويعذب بعضهم مدّة ولا يقتلهم فهم المعذبون، ويخلي بعضهم فهم الناجون، ويخلع على بعضهم فهم الفائزون، فإن كان الملك عادلاً لم يقسمهم كذلك إلا باستحقاق، فلا يقتل إلا جاحداً لاستحقاق الملك معانداً له في أصل الدولة، ولا يعذب إلا من قصر في خدمته مع الاعتراف بملكه وعلوّ درجته، ولا يخلى إلا معترفاً له برتبة الملك لكنه لم يقصر ليعذب ولم يخدم ليخلع عليه، ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة، ثم ينبغي أن تكون خلع الفائزين متفاوتة الدرجات بحسب درجاتهم في الخدمة، وإهلاك الهالكين إما تحقيقاً بحزّ الرقبة أو تنكيلاً بالمثلة بحسب درجاتهم في المعاندة، وتعذيب المعذبـين في الخفة والشدّة وطول المدّة وقصرها واتحاد أنواعها واختلافها بحسب درجات تقصيرهم، فتقسم كل رتبة من هذه الرتب إلى درجات لا تحصى ولا تنحصر.

ثم عقب على هذا المثال بقوله:( فكذلك فافهم أنّ الناس في الآخرة هكذا يتفاوتون، فمن هالك، ومن معذب مدّة، ومن ناج يحل في دار السلامة، ومن فائز)[69]

* * *

 بعد هذا..

نتساءل عن قوله تعالى:﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ (لأعراف: من الآية156)، وقوله تعالى:﴿  كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ (الأنعام: من الآية54) فنقول:

هل تشمل هذه الرحمة العظيمة هذه الأصناف جميعا؟

وكيف تشملهم؟

وكيف تنسجم الرحمة مع العدل والحكمة؟

هذا ما سنحاول معرفته في هذا المبحث.

1 ـ رحمة المقربين

المقربون هم أصحاب القلوب الطاهرة النقية الذين لم يريدوا من الأكوان غير رب الأكوان.

هم كالمرآة الصقيلة، أو كصفحة الماء الصافي، أو كالجوهر اللامع ليس لها رغبة في غير أن يشرق على صفحاتها الجمال الخالد.

وكما أن أحوال هؤلاء المقربين مع ربهم محجوبة عن أكثر الخلق، فلا يرون فيهم إلا بشرا مثلهم يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، شغلتهم مظاهر البشرية عن أحوال الخصوصية، فكذلك ما أخبرت عنه النصوص من الجزاء المعد لهم والرحمة الخاصة بهم.

ولذلك لما سأل موسى u ربه عن أدنى أهل الجنة منزلة أجابه، لكن عندما سأله عن أعلاهم منزلة قال:( أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر) [70]

ولهذا عندما ذكر الله هؤلاء المقربين العارفين بربهم الساجدين بكل كيانهم له، فقال تعالى:﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) ﴾ (السجدة)

ذكر بعدها ما أعد لهم من النعيم، فقال تعالى:﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)﴾ (السجدة)

وفي الحديث القدسي الجليل قال r:( قال اللّه تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)  قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ:( اقرأوا إن شئتم:﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾) [71]

وقال r:(  من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) [72]

بل ورد في النصوص ما يدل على أن أهل الجنة أنفسهم لا يعرفون الرحمات الخاصة بهؤلاء المقربين، قال r:( إن أهل الجنة ليتراؤن أهل الغرف من فوقهم كما تراؤن الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم) [73]

 

* * *

 قد يقال هنا: فما سر هذا الإخفاء؟

أو ليست رغبات الخلق واحدة، فكيف تتفنن النصوص في عرض ما أعد للمقتصدين، والمقصرين، بينما لا تذكر من نعيم المقربين إلا النزر اليسير، والذي هو في أكثره مجمل يحتاج إلى تفصيل، أو غامض يحتاج إلى بيان؟

وقد أجاب العلماء على ذلك، فذكر ابن كثير أن العلة في ذلك هي أن الله جازاهم جزاء وفاقا، فأخفى ثوابهم لخفاء أعمالهم، قال ابن كثير معلقا على الآية السابقة:( أي فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى اللّه لهم في الجنات، من النعيم المقيم، واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد، لما أخفوا أعمالهم، كذلك أخفى اللّه لهم من الثواب، جزاء وفاقاً، فإن الجزاء من جنس العمل) [74]

ونقل عن الحسن البصري ـ رضي الله عنه ـ قوله:( اخفى قوم عملهم فأخفى اللّه لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر)

والجواب ـ فيما نرى ـ  أن الجزاء المعد لهم لا يمكن تصوره أو التعبير عنه أو فهمه في حال القدرة على التعبير عنه.

والأمر في ذلك يشبه تعليم الأميين أعقد النظريات الرياضية، أو إقناعهم بأخطر المسائل الفلسفية.

ولذلك كان أكثر ما ورد من جزائهم ـ إن استثنينا بعض الجزاء الحسي ـ ألغازا تعيا العقول في تحديد معانيها، فلذلك لما قال r:( صلوا علي فإن الصلاة علي زكاة لكم واسألوا الله تعالى لي الوسيلة) [75] احتار الصحابة y في هذا اللفظ الذي يعرفون معناه ولكنهم لا يعرفون حقيقته، فقالوا:( وما الوسيلة؟)، فقال r:(  هي أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو) [76]

وهذا التعريف بالوسيلة منه r بين قيمتها، ولكنه لم يبين حقيقتها لعدم إطاقة العقول تحمل معناها.

ومن جهة ثانية فإن للمقربين الذين هم عصارة عصارة البشر، وخلاصة خلاصة الخير من المقامات والأحوال ما يجعل من كل واحد منهم عالما خاصا، فتكون له رحمته الخاصة به، والتي تنسجم مع حقيقته وطبيعته.

ولهذا لا يستغرب أن يخص رسول الله r من بين الخلق جميعا بالمقام المحمود، قال تعالى:﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً﴾ (الاسراء:79)

وهو مقام تتيه العقول والأرواح في معرفة كنهه.

فهو مقام منسجم مع رسول الله r فكل شيء فيه r ينطق بالحمد، فاسمه محمد وأحمد، وهو محمود عند الله ومحمود عند ملائكته ومحمود عند إخوانه من المرسلين، وأمته الحمادون يحمدون الله على السراء والضراء، وصلاة أمته مفتتحة بالحمد، وخطبته مفتتحة بالحمد، وكتابه مفتتح بالحمد، وبيده لواء الحمد يوم القيامة، وعندما يسجد بين يدي ربه تعالى للشفاعة ويؤذن له فيها يحمد ربه بمحامد يفتحها عليه حينئذ.

وقد فسر المقام المحمود تفسيرات مختلفة، نعتبرها مظاهر أو نتائج لهذا المقام المحمود، لا حقيقته، فحقيقته النهائية لغز كسائر الألغاز.

وحتى نبين قيمة هذا المقام المتجلية في بعض مظاهره نذكر أن مشهدا واحدا من مشاهد ذلك المقام يطوق أعناق الخلائق جميعا بالشعور بالمنة نحو رسول الله r.

ففي ذلك الموقف الذي يغضب الله فيه غضبا لم يغضب قبله ولا بعده مثله، وفي ذلك الوقت الذي ينشغل فيه الأنبياء بغضب الله عن سائر صفاته يقوم رسول الله r العارف بربه الحامد له فيشفع للخلائق جميعا بعد آلاف من سنين الانتظار.

ولو أردنا أن نعرف قيمة هذا الموقف مقارنة بما نعيشه نقول: إن كل ما مر به البشر من أحداث لا يساوي لحظة واحدة من ذلك الموقف.

ونعود إلى ما كنا فيه فنقول: بأن هذا المقام المحمود يتناسب تناسبا تاما مع طبيعة رسول الله r، فلذلك كان من رحمة الله له أن يهبه هذا المقام.

فطبيعة رسول الله r كما أخبر القرآن الكريم، وكما أخبرت حوادث السيرة، وكما عرفه العارفون عين من عيون رحمة الله على عباده، بل هو رحمةكبرى من رحمات الله، بل هو شمس الرحمة التي تفيئ إلى دفئها جميع الخلائق.

ولهذا ورد في القرآن الكريم الإخبار بأن الرحمة هي علة إرسالة، كما قال تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الانبياء:107) بل إن الله تعالى سماه باسمين من أسماء رحمته، فقال تعالى:﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة:128)

وفي هذه الآية تصريح عظيم بما كانت عليه طبيعة رسول الله r من حب للخير والرحمة على كل الخلائق، ولهذا قال r:(  إن اللّه لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش والذباب) [77]

وبناء على هذا كانت الرحمة الخاصة برسول الله r مرتبطة بهذه الطبيعة، فكان المقام المحمود الذي هو جزء من أجزاء فضل الله عليه متناسبا تماما مع رحمته وحرصه.

وهكذا يقال في الكوثر، فرسول الله r لا يصيبه الظمأ الذي يصيب الخلائق، وهم في ذلك الموقف الشديد، وكيف يصيبه وهو رسول الله r،  ولكن طبيعته التي خلقه الله عليها جعلته يأبى أن يروي في الوقت الذي يعطش فيه المؤمنون، فكان الكوثر جزاءا متوافقا تماما مع هذه الطبيعة.

عن أنَس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال:( بينا رسول اللّه r بين أظهرنا في المسجد إذا أغفى إغفاءة، ثم رفع مبتسماً قلنا: ما أضحكك يا رسول اللّه؟ قال: لقد أنزلت عليَّ آنفاً سورة، فقرأ:﴿ بسم اللّه الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: اللّه ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر في الجنة وعدنيه ربي عزَّ وجلَّ عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم في السماء فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدث بعدك) [78]

ففي هذا الحديث إشارة صريحة إلى علة تخصيص رسول الله r بهذه الرحمة الخاصة.

***

قد يقال هنا: فإن قلبي يتقطع رحمة على الخلائق، بل إن من الصالحين من تمنى أن يدخل النار بدل الخلائق، فكيف تكون هذه المقامات خاصة برسول الله r؟

والجواب عن هذا: إن الفرق عظيم بين الدعوى والواقع، وبين ما يستشعره الإنسان من معان، وبين عرضه على كير الامتحان.

ونحن لا ننكر الدعوى ولا الشعور بها، ولا فضل من نطق بها، ولكن نقول: إن تلك المواقف الشديدة التي لا يمكن تصورها، والتي لا تستمر ساعات وأياما، بل قرونا طويلة ممتدة تظهر الطبيعة الحقيقية التي تتشكل منها الروح.

ولتصور هذا نرى كيف تتخبط الخلائق في البحث عن المخلص الذي يخلصها من تلك الأهوال آلاف السنين، فلا تجد إلا من يعتذر لهول الموقف.

بل نرى أن ما أخبر عنه r من رجوع الخلق إلى الأنبياء ـ عليهم السلام ـ  هو مرحلة أخيرة سبقتها مراحل طويلة من البحث المضني عن السبيل للخلاص.

فلذلك لم تكمل الرحمة لأحد إلا لواحد، فاستحق ذلك المقام المحمود.

عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال:( إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاء، كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى محمد r، فذلك يوم يبعثه اللّه مقاماً محموداً)، وفي رواية:( إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم، فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم بموسى فيقول كذلك، ثم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فيشفع بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة، فيومئذ يبعثه اللّه مقاماً محموداً، يحمده أهل الجمع كلهم) [79]

ومثل ما ذكرنا من الرحمات الخاصة برسول الله r الرحمات الخاصة بغيره من المقربين، فلكل منهم من الرحمة ما يتناسب مع طبيعته التي نم عنها سلوكه في الدنيا.

ولا بأس أن نذكر بعض ما أعد لهؤلاء من الجزاء في ذلك الموقف الشديد الذي تفزع فيه الخلائق ويبهتون.

فقد أخبر r أنه عندما تغشى الظلمات أرض الموقف، فلا يكاد أحد يرى أحدا تلمع من بعيد منابر مختلفة مكونة من مواد مختلفة على كل منها من لا يتناسب معه إلا ذلك المقام:

فعلى بعضها المتحابون في الله، كما قال r:( ليبعثن الله أقواما يوم القيامة، في وجوههم النور، على منابر اللؤلؤ، يغبطهم الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء، هم المتحابون في الله من قبائل شتى، وبلاد شتى، يجتمعون على ذكر الله يذكرونه) [80]، وقال r:(  إن لله تعالى عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة، عباد من عباد الله من بلدان شتى وقبائل من شعوب، أرحام القبائل لم يكن بينهم أرحام، يتواصلون بها، ولا دنيا يتباذلون بها، يتحابون بروح الله، يجعل الله في وجوههم نورا، يجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الرحمن تعالى، يفزع الناس ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون) [81]

وعلى بعضها الذين يحببون عباد الله إلى الله، ويحببون الله إلى عباده، قال r:(  ألا أخبركم بأقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء؟ يغبطهم يوم القيامة الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله على منابر من نور يرفعون الذين يحببون عباد الله إلى الله، ويحببون الله إلى عباده، ويمشون في الأرض نصحاء، قيل: كيف يحببون عباد الله إلى الله؟ قال: يأمرونهم بما يحب الله وينهونهم عما يكرهه الله، فإذا أطاعوهم أحبهم الله) [82]

وعلى بعضها المقسطون، كما قال r:( إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا) [83]

وعلى بعضها الذين أكرموا الفقراء والمساكين، قال r:( يصيح صائح يوم القيامة أين الذين أكرموا الفقراء والمساكين ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، ويصيح صائح يوم القيامة أين الذين عادوا مرضى الفقراء والمساكين في الدنيا، فيجلسون على منابر من نور يحدثون الله والناس في شدة الحساب) [84]

وعلى بعضها المدلجون إلى المساجد في الظلم، قال r:( بشر المدلجين إلى المساجد في الظلم بمنابر من نور يوم القيامة يفزع الناس ولا يفزعون) [85]

وعلى بعضها المهاجرون الذين فزعوا في سبيل الله، قال r:( للمهاجرين منابر من ذهب يجلسون عليها يوم القيامة قد أمنوا من الفزع) [86]

وعلى بعضها الشهداء الذين قدموا أرواحهم في سبيل الله قال r:( الشهداء عند الله على منابر من ياقوت في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، على كثيب من مسك، فيقول لهم الرب: ألم أوف لكم وأصدقكم؟ فيقولون: بلى وربنا) [87]

بل إن الرحمات الكثيرة التي ينالها الشهيد ابتداء من ذلك الجرح الذي رفع روحه إلى الله تجعله يتمنى أن يعود إلى الحياة من جديد ليقتل في سبيل الله آلاف القتلات، قال r:( ما من نفس تموت لها عند اللّه خير، يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل الشهادة) [88]

وقال r لجابر ـ رضي الله عنه ـ عند استشهاد أبيه:( أعلمت أن اللّه أحيا أباك فقال له: تمنَّ، فقال له: أردُّ إلى الدنيا فأقتل فيك مرة اخرى، قال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون) [89]

بل إنه r تمنى ـ لما رأى من رحمة الله بالشهيد ـ أن يموت شهيدا، قال r:(  والذي نفسي بيده لولا أن رجالا يكرهون أن يتخلفوا بعدي ولا أجد ما أحملهم ما تخلفت لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل) [90]

وأول رحمة ينالها هذا الشهيد أن يحفظ ذلك الدم الذي أراقه في سبيل الله ليراه في القيامة عطرا فواحا يشهد له بالشهادة، قال r:(  ما من مجروح يجرح في سبيل الله والله أعلم بمن يجرح في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه كهيئته يوم جرح اللون لون دم والريح ريح مسك) [91]

 بل إن من رحمة الله بالشهيد أن لا يجد ألم القتل حتى لو تقطع جسمه أشلاء في سبيل الله، قال r:( ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة) [92]

وبعد قتله مباشرة ينزل عليه من فضل الله ما يجعله مبهوتا حائرا، قال r:(  لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى يبتدره زوجتاه كأنهما ظئران أظلتا أو أضلتا فصيليهما ببراح من الأرض بيد كل واحدة منهما حلة خير من الدنيا وما فيها) [93]

ولهذا يصحح القرآن الكريم الخطأ الشائع الخطير بأن الشهيد ميت، وأن الشهادة موت، بحقيقة عظمى، وهي أن الشهيد لم يمت، لا بالمعنى المجازي الإيحائي الذي يعتبر الشهيد حيا في كتب التاريخ وعلى ثرى الأرض وفي ذاكرة الشعوب، وإنما حياة حقيقية لا فرق بينها وبين هذه الحياة إلا في أن تلك الحياة أفضل بكثير من هذه الحياة ،قال تعالى:﴿ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة:154)

وليدفع تعالى الأوهام التي تؤول معنى هذه الحياة أخبر تعالى عن الرحمة التي يجدها الشهيد، والتي لم يجد جزءا من ملايين الأجزاء منها في الدنيا، قال تعالى:﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران:169 ـ 170)

فقد أخبر تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين بكل ما يدل على الحياة الحقيقية للشهيد، فهو يرزق كما يرزق الأحياء، وهو يتتبع أخبار إخوانه الذين كانوا معه، بل أخبر تعالى أن الشهيد يستبشر مطلقا سواء استشهد إخوانه فنالوا مثل فضله، أو انتصورا فتحقق ما قدم من أجله دمه.

عن مسروق قال: سألنا عبد اللّه عن هذه الآية:﴿)وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران:169)، فقال: أما إنا قد سالنا عن ذلك رسول اللّه r فقال:( أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع عليهم ربهم إطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن تردَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا) [94]

ولهذا كان r يعزي أسر الشهداء بهذا الجزاء العظيم الذي نالوه، لما أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام جاءت أمه إلى النبي  r، فقالت:( يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب وإن تك الأخرى ترى ما أصنع فقال ويحك أوهبلت أوجنة واحدة هي إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس) [95]

فهذه النماذج هي بعض ما يناله هؤلاء المقربون من رحمات بحسب أعمالهم وطبائعهم ورغباتهم.

بل أخبر r أن رفيق المؤمن في تلك المواقف العصيبة هو من كان قلبه يهفو إلى محبته، والاقتداء بسنته الشاملة لجميع أحواله، قال r:(  إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله ما المتفيقهون؟ قال: المتكبرون) [96]

وهذا المعنى هو العزاء العظيم لمحبي رسول الله r، فإنهم لا تقر أعينهم بأي نعيم ما لم يروا رسول الله r ويكحلون أبصارهم وبصائرهم بطلعته، فلذلك كانت الرحمة الخاصة بهم أن ينالوا هذا الجزاء.

عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول اللّه r وهو محزون، فقال له النبي r:( يا فلان مالي أراك محزوناً؟) فقال:( يا نبي اللّه شيء فكرت فيه)، فقال:( ما هو؟) قال:(  نحن نغدوا ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك) [97]

فلم يرد عليه النبي r شيئاً، حتى أتاه جبريل بهذه الآية:﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾ (النساء:69)، فبعث النبي r فبشره.

وتروي عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن رجل جاء إلى النبي r، فقال: يا رسول اللّه! إنك لأحب إليَّ من نفسي، واحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلتّ الجنة رفعتَ مع النبييّن، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك)، فلم يرد عليه النبي r حتى نزلت عليه الآية السابقة [98].

وجاء ثوبان مولى رسول الله r، وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن؛ فقال له:( يا ثوبان ما غير لونك؟) فقال:( يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك؛ لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا) فأنزل الله تعالى هذه الآية [99].

وروي مثل ذلك عن عبدالله بن زيد بن عبدربه الأنصاري - الذي أري الأذان – فقد قال:( يا رسول الله، إذا مت ومتنا كنت في عليين لا نراك ولا نجتمع بك)؛ وذكر حزنه على ذلك فنزلت هذه الآية.

وهذا يدل على أن الصحابة y كانوا يستشعرون جميعا هذا المعنى بغض النظر عمن روي عنه ذلك، ولذلك كانت فرحتهم شديدة بعلمهم أن المرء من أحب، وقد روي من طرق متوترة عن جماعة من الصحابة y أن رسول اللّه r سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال:( المرء مع من أحب)، قال أنس ـ رضي الله عنه ـ:( فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث) [100]

وقد عقب أنس على هذا الحديث بقوله:( إني لأحب رسول اللّه r، وأحب أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما، وأرجوا أن اللّه يبعثني معهم، وإن لم أعمل كعملهم) [101]

* * *

بعد هذا..

هل نطمع ـ ونحن في هذه الدار ـ أن ندخل إلى الجنة لنتلمس بعض رحمات الله لهؤلاء الذين فنت أرواحهم في معرفة الله ومحبته؟

هل نطمع أن نتلمس بعض ذلك الذي يجل عن أي اسم أو وصف أو تعبير؟

إن النصوص المقدسة ـ برحمة الله ـ لم تترك من الحقائق شيئا إلا وبينته أو رمزت له ليكون الخلق على بينة، فيختاروا من السبل ما يتناسب معهم لإقامة الحجة عليهم.

وقد أخبر r أن الجنة دار الرغبات والأشواق، فكل رغبة في النفس يجعلها الله تعالى بين يدي الراغب فيها.

وانطلاقا من هذا نستطيع أن نتلمس ذلك النعيم الخفي من هذه الرغبات الظاهرة، وقد اتفق العارفون بالله على أن أكبر رغبة لهم، ولا تتحقق الرحمة الكاملة بهم إلا بتحقيقها هي لقاء الله ورؤيته ومصاحبته، قال الغزالي:( والعارفون مطلبهم تلك الحالة التي لا يتصوّر أن تخطر على قلب بشر في هذا العالم وأما الحور والقصور والفاكهة واللبن والعسل والخمر والحلي والأساور فإنهم لا يحرصون عليها ولو أعطوها لم يقنعوا بها، ولا يطلبون إلا لذة النظر إلى وجه الله تعالى الكريم فهي غاية السعادة ونهاية اللذات) [102]

ويخبر عن رابعة العدوية ـ رضي الله عنها ـ أنه قيل لها:( كيف رغبتك في الجنة؟)، فقالت:( الجار ثم الدار)

ورابعة في هذا أثر من آثار امرأة فرعون التي قالت:﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ﴾ (التحريم: من الآية11) فقدمت الجار قبل الدار.

ولذلك يقول العارفون:( ليس خوفنا من نار جهنم ولا رجاؤنا للحور العين وإنما مطالبنا اللقاء ومهربنا من الحجاب فقط)

وقالوا:( من يعبد الله بعوض فهو لئيم كأن يعبده لطلب جنته أو لخوف ناره، بل العارف يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته فقط، فأما الحور العين والفواكه فقد لا يشتهيها، وأما النار فقد لا يتقيها. إذ نار الفراق إذا استولت ربما غلبت النار المحرقة للأجسام، فإن نار الفراق نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام، وألم الأجسام يستحقر مع ألم الفؤاد)

وقالوا:

وفي فؤاد المحبِّ نار جوى       أحرّ نار الجحيم أبردُها

ولا ينبغي أن يفهم من هذه الأقوال أن هؤلاء يتكبرون على النعيم الحسي، أو يأنفون منه، فالطبيعة التي طبع عليها الإنسان تأبى ذلك، ولكن ما يختلج في صدرهم من أشواق يشغلهم عن كل نعيم حسي.

قد شبه الغزالي أحوال هؤلاء بالعاشق المستهتر بمعشوقه المستوفي همه بالنظر إلى وجهه والفكر فيه، فإنه في حال الاستغراق غافل عن نفسه لا يحس بما يصيبه في بدنه، لم يبق في قلبه متسع لغير محبوبه حتى يلتفت إليه لا نفسه ولا غير نفسه.

بل إن مثل هذا نراه في عالم الدنيا، ( فقد رئي من غلب عليه الوجد فغدا على النار وعلى أصول القصب الجارحة للقدم وهو لا يحس به لفرط غلبة ما في قلبه، وترى الغضبان يستولي عليه الغضب في القتال فتصيبه جراحات وهو لا يشعر بها في الحال لأنّ الغضب نار في القلب.. واحتراق الفؤاد أشدّ من احتراق الأجساد، والأشد يبطل الإحساس بالأضعف كما تراه فليس الهلاك من النار والسيف إلا من حيث إنه يفرّق بـين جزأين يرتبط أحدهما بالآخر برابطة التأليف الممكن في الأجسام، فالذي يفرق بـين القلب وبـين محبوبه الذي يرتبط به برابطة تأليف أشدّ إحكاماً من تأليف الأجسام فهو أشدّ إيلاماً) [103]

ولذلك كانت الرحمة الخاصة بهؤلاء أن ينالوا مناهم بهذه الرؤية والمصاحبة والمعرفة التي هفت أنفسهم لها.

ورحمة هؤلاء ـ بهذا ـ رحمة لا يمكن تصورها، ولا الطمع فيها لولا إخبار الله بها ووعده عباده الصالحين بتحقيقها.

ولذلك كان  أفضل نعيم الآخرة وأجله وأعلاه على الإطلاق هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع خطابه.

وقد ورد في الحديث الشريف قوله r:( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه)، وفى حديث آخر: (فلا يلتفتون إلى شىء من النعيم ما داموا ينظرون إليه) [104]

فهذا الحديث الشريف يشير إلى أن الرؤية أكمل عطاء يناله المؤمنون، قال ابن القيم معلقا على الحديث السابق:( فبين النبى r أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم فى الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما كان ذلك أحب إليهم لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم والفرح والسرور وقرة العين، فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب والحور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعيمين البتة) [105]

ويشير إلى هذا المعنى أن الله تعالى قدم الحجاب الذي يعذب به أهل النار على النار نفسها، فقال تعالى:﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ (المطففين:15)، ثم قال بعدها:﴿ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ﴾ (المطففين:16)

وقال في المقابل عن المؤمنين جامعا بين النعيمين:﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ (المطففين:22)، ثم ذكر نعيم الرؤية بقوله تعالى:﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ (المطففين:23)

وهذا هو المعنى الأكمل للآية لا أن المراد فقط أنهم ينظرون إلى أعدائهم يعذبون، أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم، أو ينظر بعضهم إلى بعض.

* * *

 قد يقال هنا: فلماذا لا يرحم هؤلاء الذين تطلعت أرواحهم لهذا في الدنيا، بل لماذا يؤخرون كل تلك الآماد الطويلة إلى أن يظفروا بمطلوبهم؟

والجواب عن هذا كالجواب على كل المسائل المرتبطة بالزمن، وهو أن حكمة الله تعالى قدرت لكل سبب ما يمكن اعتباره مسبباته، فكما قدرت لسببية الشفاعة أن لا يشفع رسول الله r حتى يلجأ إليه الخلائق بعد آلاف السنين، فكذلك قدرت للرؤية أسبابها الخاصة بها، والتي لا تتوفر في الدنيا.

ولذلك نفى القرآن الكريم أي إمكانية لرؤية الله تعالى في الدنيا، فقال تعالى:﴿ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام:103)

ولذلك، فإن الصحيح من الأقوال هو عدم رؤية رسول الله r لربه تعالى مع كونه أقرب الخلق إليه، كما قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ:( من زعم أن محمداً أبصر ربه فقد كذب على اللّه، فإن اللّه تعالى قال:﴿ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ () [106]

والسر في ذلك هو أن ما خلق الله تعالى في الإنسان من ضعف والذي هو من مقتضيات التكليف يحول بين الإنسان ورؤية ربه في الدنيا.

فالرب لم يحتجب عن خلقه، وإنما خلقه هم الذين حجبوا عنه، إما بغفلتهم كالغافلين، أو عن ضعفهم كالمقربين.

ولذلك لما طلب موسى u الرؤية صرف عنها إلى بيان تأثيرها على المرئي، قال تعالى:﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (لأعراف:143)

وقد ورد في الآثار:( يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده)

وبذلك يكون هذا الحجاب رحمة أخرى من رحمات الله.

زيادة على هذا، فإن رؤية الله تعالى تحتاج إلى صفاء مرآة القلب صفاء عظيما يعز وجوده في الدنيا، فقدسية الله تحول بين القلوب المختلطة بالأغيار وبين معرفته فكيف لا تحول بينها وبين رؤيته.

وكمثال مقرب لذلك، ولله المثل الأعلى، أن البشر مع تطور المراقيب التي يرصدون بها الأفلاك أدركوا أنهم مع هذا التطور يحتاجون إلى مراقيب توضع في الفضاء الخارجي حيث لا تؤثر شوائب الغلاف الغازي عليها، وحققوا بعض ذلك بالفعل، وتم لهم بعض ما أرادوا من رؤية للنجوم والكواكب.

فكيف تطمع القلوب بعد هذا، وهي لا تزال مستوطنة في هذه الأرض أن ترى الله القدرس الذي ليس كمثله شيء.

يقول الغزالي مبينا هذه العلة على مستوى عالم الأنفس:( كما أن سنة الله تعالى جارية بأن تطبـيق الأجفان يمنع من تمام الكشف بالرؤية ويكون حجاباً بـين البصر والمرئي، ولا بدّ من ارتفاع الحجب لحصول الرؤية، وما لم ترتفع كان الإدراك الحاصل مجرّد التخيل فكذلك مقتضى سنة الله تعالى أن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن ومقتضى الشهوات وما غلب عليها من الصفات البشرية، فإنها لا تنتهي إلى المشاهدة واللقاء في المعلومات الخارجة عن الخيال، بل هذه الحياة حجاب عنها بالضرورة كحجاب الأجفان عن رؤية الأبصار) [107]

فلذلك كان الموت رفعا لبعض هذه الحجب، قال الغزالي: ( فإذا ارتفع الحجاب بالموت بقيت النفس ملوثة بكدورات الدنيا، غير منفكة عنها بالكلية وإن كانت متفاوتة، فمنها ما تراكم عليه الخبث والصدأ فصار كالمرآة التي فسد بطول تراكم الخبث جوهرها فلا تقبل الإصلاح والتصقيل، وهؤلاء هم المحجوبون عن ربهم أبد الآباد ــــ نعوذ بالله من ذلك ــــ ومنها ما لم ينته إلى حد الرين والطبع ولم يخرج عن قبول التزكية والتصقيل فيعرض على النار عرضاً يقمع منه الخبث الذي هو متدنس به) [108]

* * *

قد يقال هنا: فكيف يقال بأن هذه الرحمة خاصة بالمقربين، وقد ورد في النصوص التصريح بأن رؤية الله تعالى هي من حظ جميع المؤمنين في الجنة، بل ورد أنها من النعيم الذي يشتركون فيه؟

والجواب عن ذلك، والله أعلم، هو أن هذه الرؤية وإن كان يتفق فيها أهل الجنة جميعا باعتبار أنه لا يدخل الجنة إلا من عرف ربه وآمن به ووحده إلا أنهم يختلفون فيها اختلافهم بينا كاختلافهم في سائر النعيم.

وقد لا يفهم هذا، فكيف يختلفون في الرؤية والمرئي واحد؟

والجواب عن ذلك هو أن رؤية الله لا تعني ما نفهمه في الدنيا من الرؤية التي تحصر المرئي في حدقة العين، بحيث تكون الرؤية الثانية هي الرؤية الأولي، وما يراه زيد هو عين ما يراه عمرو.

بل إن رؤية الله في الآخرة تنزه عن ذلك، فتلك الرؤية خاصة بالمحدود المحصور المحاط، أما الله تعالى فهو مقدس عن كل ذلك.

بل إن رؤيته تعالى تعني اكتمال المعرفة الحاصلة في الدنيا، فتبلغ كمال الكشف والوضوح وتنقلب مشاهدة، ( ولا يكون بـين المشاهدة في الآخرة، والمعلوم في الدنيا اختلاف إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح) [109]

وبذلك يختلف المرئي باختلاف درجات المعرفة والقرب، ( ولهذا لا يفوز بدرجة النظر والرؤية إلا العارفون في الدنيا، لأن المعرفة هي البذر الذي ينقلب في الآخرة مشاهدة كما تنقلب النواة شجرة والحب زرعاً، ومن لا نواة في أرضه كيف يحصل له نخل؟ ومن لم يزرع الحب فكيف يحصل الزرع، فكذلك من لم يعرف الله تعالى في الدنيا فكيف يراه في الآخرة؟) [110]

قد يقال: فقد رجع الأمر إذن إلى تخصيص العارفين بالرؤية دون غيرهم، وهو ما يتنافى مع تصريحات النصوص.

والجواب عن ذلك أنه كما أن للمعرفة درجات متفاوتة كان التجلي أيضاً على درجات متفاوتة، ( فاختلاف التجلي بالإضافة إلى اختلاف المعارف كاختلاف النبات بالإضافة إلى اختلاف البذر، إذ تختلف لا محالة بكثرتها وقلتها وحسنها وقوّتها وضعفها) [111]

ولذلك فإن كل أهل الجنة يفوزون بالرؤية، وإنما تختلف رؤاهم بحسب معارفهم، ولذلك أخبر تعالى أن التسنيم، وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه، يشرب منه المقربون صرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً ـ كما قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق وقتادة وغيرهم ـ قال تعالى:﴿  وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ((المطففين:27-28)

* * *

قد يقال بعد هذا: إن تفسير الرؤية بوضوح الكشف تأويل للرؤية، أو هروب منها، أو بدعة من البدع المنكرة المصادمة للنصوص.

والجواب عن هذا أنا نقول بأن الرؤية تتم بما نعرفه من الرؤية في الدنيا، كما قال تعالى:﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (القيامة:22 ـ23)

ولكنها مع ذلك وجمعا بينها وبين قوله تعالى:﴿ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام:103)، وبقوله تعالى لموسى u:﴿  لَنْ تَرَانِي﴾ (لأعراف: من الآية143) لا تعني ما نفهمه من رؤية الأشياء المحدودة التي نحيطها بأبصارنا.

وإلا كيف نرى الله العليم أو الله الخبير أو الله الرحيم، فإن هذه الصفات لا ترى بعين الحس، وهي قائمة بذات الله ليست شيئا منفصلا قائما بذاته حتى يرى.

ولذلك، فإن العارف بالله يفرح لرؤية الله ويشتاق لها، وفي نفس الوقت يدرك أنه أعجز من أن يحد الله أو يحيط به، بل إن إدراك العجز هو علامة المعرفة، فالعجز عن الإدراك إدراك.

وقد ذكر الغزالي أن البحث في هذه المسألة ناشئ من الغفلة أما العارف المشتاق، فلا تهمه هذه التفاصيل، قال عند عرضه للمسألة:( اعلم أنّ الناس قد اختلفوا في ذلك [112] وأرباب البصائر لا يلتفتون إلى هذا الخلاف ولا ينظرون فيه، بل العاقل يأكل البقل ولا يسأل عن المبقلة، ومن يشتهي رؤية معشوقه يشغله عشقه عن أن يلتفت إلى أن رؤيته تخلق في عينه أو جبهته، بل يقصد الرؤية ولذتها سواء كان ذلك بالعين أو غيرها، فإن العين محل وظرف لا نظر إليه ولا حكم له) [113]

ثم بين ما ينبغي أن تحمل عليه النصوص فقال:( والحق فيه أنّ القدرة الأزلية واسعة فلا يجوز أن نحكم عليها بالقصور عن أحد الأمرين، هذا في حكم الجواز، فأما الواقع في الآخرة من الجائزين فلا يدرك إلا بالسمع، والحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين ليكون لفظ الرؤية والنظر وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجرى على ظاهره، إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلا لضرورة والله تعالى أعلم) [114]

* * *

قد يقال بعد هذا: فإذا رجع الأمر إلى أن رحمة كل شخص تتناسب مع طبيعته، وطبيعة المقربين روحانية محضة، فهل يقتضي هذا أن يكون نعيمهم روحانيا محضا، وإن كان كذلك فكيف القول فيما ورد في النصوص من النعيم الحسي الجزيل المعد لهم؟

والجواب عن ذلك، والله أعلم، أن كل ما يتمتع به المقربون من نعيم ينسجم مع طبيعتهم.

وطبيعة المقربين الروحانيين في المفهوم الإسلامي وحسب ما توضحه النصوص لا يخرج عن الطبيعة البشرية، ولذلك قال تعالى في أقرب خلقه إليه:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾ (الكهف: من الآية110)

وهو نفس قول سائر الأنبياء ـ عليهم السلام ـ، كما قال تعالى:﴿  قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ (ابراهيم: من الآية11)

وهذه الطبيعة البشرية هي المرآة التي تتجلى على صفحتها الحقائق الروحانية، ولهذا لا تنافي بين الحس والمعنى، ولا بين الجسد والروح إلا فيمن لم تتوحد ذاته، ولم يعرف ربه، أما الذي عرفه، فإنه لا يحجبه عن الله شيء.

وقد بين النورسي روحانية الأجسام بقوله:( على الرغم من كثافة التراب وظلمته، نسبة الى الماء والهواء والضياء فهو منشأٌ لجميع أنواع المصنوعات الإلهية، لذا يسمو ويرتفع معنىً فوق سائر العناصر.. وكذا النفس الانسانية على الرغم من كثافتها، فانها ترتفع وتسمو على جميع اللطائف الانسانية بجامعيتها، بشرط تزكيتها.

فالجسمانية كذلك هي أجمع مرآة لتجليات الأسماء الإلهية، وأكثرها احاطة واغناها.. فالالات التي لها القدرة على وزن جميع مدخرات خزائن الرحمة الإلهية وتقديرها، انما هي في الجسمانية، اذ لو لم تكن حاسة الذوق التي في اللسان مثلاً حاوية على آلاتٍ لتذوق الرزق بعدد أنواع المطعومات كلها، لَما كانت تحسّ بكل منها، وتتعرف على الاختلاف فيما بينها، ولَما كانت تستطيع ان تحس وتميز بعضها عن بعض.

وكذا فان أجـهزة معرفة أغلب الأسماء الإلهية المتجلية، والشعور بها وتذوقـها وادراكها، انما هي في الجسمانية) [115]

ويشير إلى هذا المعنى ما أخبر به r من إلهام أهل الجنة التسبيح كما نلهم النفس، قال r:(  إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون  ولكن طعامهم ذلك جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس) [116]

فالنفس الذي هو نوع من النعيم الحسي، بل لا يقوم الحس إلا به هو نفس التسبيح الدال على المعرفة بالله، فلذلك لايغفلون عن الله طرفة عين ولا أقل من ذلك.

2 ـ رحمة الأبرار

الأبرار هم أصحاب القلوب الطاهرة الذين لاح لهم فضل الله في أعمال البر، فأسرعوا إليها يتسابقون في الاستزادة منها، فكان منهم السابق بالخيرات، وكان منهم المقصر المقتصد فيها.

والفرق بينهم وبين المقربين أن المقرب لاح له نور الحق، فأسرع بالتقرب إليه، ومعرفته ومحبته غافلا عما أعد له من فضل، مقدما الجار على الدار، أما الأبرار، فهم كالتجار يعملون الطاعات، وينتظرون العوض، أو يتوسعون في البر طمعا في الفضل.

فالأبرار تعرفوا إلى الله الرحيم الجواد الحكيم، فأسرعوا إلى ما في يديه الكريمتين ينهجون ما اقتضته حكمته من أسباب أو أمارات، ففضل الله هو داعيهم إلى الله.

أما المقربون فداعيهم إلى الله هو الله، فهم مكتفون بالله منشغلون به عن فضله من غير استغناء منهم عن فضله.

ولا فرق في الأعمال بين المقربين والأبرار، بل قد يكون بعض الأبرار أكثر أعمالا من المقربين، لأن البر ينظر إلى العمل، فيستزيد منه، أما المقرب فهو مشغول بقيمة العمل عن العمل.

ولنضرب مثالا على ذلك بعمل عظيم من أعمال البر هو قيام الليل، فالمقرب حاديه إلى القيام ومهيجه إليه ( الحب لله وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناج ربه وهو مطلع عليه مع مشاهدة ما يخطر بقلبه، وأن تلك الخطرات من الله تعالى خطاب معه، فإذا أحب الله تعالى أحب لا محالة الخلوة به وتلذذ بالمناجاة فتحمله لذة المناجاة بالحبـيب على طول القيام)

وهؤلاء يشعرون بأن نفس القيام هو جنتهم وجزاؤهم، فلذلك لا يتنظرون عليه عوضا، وكيف ينتظر المحب الولهان العوض عن ملاقاة حبيبه وهي كل مراده،بل يشعرون بمنة الله عليهم بتحريكهم لعبادته ومناجاته.

وقد روي عن المقربين من هذه الأمة ما يدل على هذا المعنى، فقد قيل لبعضهم: كيف الليل عليك؟ فقال: ساعة أنا فيها بـين حالتين أفرح بظلمته إذاجاء وأغتم بفجره إذا طلع، ما تم فرحي به قط. وقال علي بن بكار: منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء سوى طلوع الفجر. وقال الفضيل بن عياض: إذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربـي، وإذا طلعت حزنت لدخول الناس عليَّ. وقال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وقال أيضاً: لو عوض الله أهل الليل من ثواب أعمالهم ما يجدونه من اللذة لكان ذلك أكثر من ثواب أعمالهم.

 وقال بعض العلماء: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة. وقال بعضهم: لذة المناجاة ليست من الدنيا إنما هي من الجنة أظهرها الله تعالى لأوليائه لا يجدها سواهم، وقال ابن المنكدر: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث. قيام الليل ولقاء الإخوان والصلاة في الجماعة.

أما الأبرار فإن حاديهم إلى ذلك إما خوف يلزم قلوبهم من عذاب الله، فهم يبادرون إلى الوقاية منه، أو شوق إلى فضل الله يحرك جوارحهم إلى القيام بطاعته:

منع القران بوعده ووعيده      مقل العيون بليلها أن تهجعا

فهموا عن الملك الجليل كلامه   فرقابهم ذلت إليه تَخَضُّعا

ويروى من باعث الخوف أن غلاماً بالبصرة اسمه صهيب كان يقوم الليل كله فقالت له سيدته: إنّ قيامك بالليل يضر بعملك بالنهار، فقال: إنّ صهيباً إذا ذكر النار لا يأتيه النوم.

ويروى من باعث الشوق أن بعض الصالحين رجع من غزوته فمهدت امرأته فراشها وجلست تنتظره، فدخل المسجد ولم يزل يصلي حتى أصبح فقالت له زوجته: كنا ننتظرك مدة فلما قدمت صليت إلى الصبح؟ قال: والله إني كنت أتفكر في حوراء من حور الجنة طول الليل، فنسيت الزوجة والمنزل فقمت طول ليلتي شوقاً إليها.

ويروى عن اجتماع الباعثين أنه قيل لغلام وهو يقوم كل الليل فقال: إذا ذكرت النار اشتدّ خوفي وإذا ذكرت الجنة اشتدّ شوقي فلا أقدر أن أنام.

وجميع هؤلاء عارفون بالله ومحبون له، ولكن الفرق بينهما في كمال المحبة والمعرفة ونوعها، ( فالعباد المواظبون على ذكر الله بالقلب واللسان الذين يصدقون بما جاءت به الرسل بالإيمان التقليدي ليس معهم من محاسن صفات الله تعالى إلا أمور جميلة اعتقدوها بتصديق من وصفها لهم. والعارفون هم الذين شاهدوا ذلك الجلال والجمال بعين البصيرة الباطنة التي هي أقوى من البصر الظاهر) [117]

وإلى هذا الاختلاف الإشارة بقوله تعالى:﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾ (الاسراء:84)، قال ابن عباس: على ناحيته، وقال مجاهد: على حدته وطبيعته، وقال قتادة: على نيته، وقال ابن زيد: على دينه، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى تدل على اختلاف البواعث بحسب اختلاف الطبائع.

وإلى ذلك أيضا الإشارة بقوله تعالى:﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً﴾ (الاسراء:57)، فقد جمع تعالى في هذه الآية الكريمة بين بواعث العارفين المقربين، وهو التقرب إليه بحبه وفعل ما يحبه. وبين بواعث الأبرار والمقتصدين، وهي رجاء الرحمة وخوف العذاب.

* * *

 

 بعد هذا التمهيد الذي لا بد منه للتعرف على طبيعة الأبرار السابق منهم بالخيرات والمقتصد، نتساءل عن الرحمة المعدة لهم، والتي تتطلبها طبائعهم.

والجواب عن هذا: أن الكريم الجواد إن صحب لغرض لم يبخل على مصاحبه بما طلبه من غرض، والأكرم الأجود هو من أنال مصاحبه فضلا زائدا على طلبه، وأكرم الأكرمين وأجود الأجواد من يكون عطاؤه ممتدا لا يفنى، عظيما لا يحد، ولا يتحقق ذلك في غير صحبة الله.

ولذلك فإن الله تعالى ـ برحمته وكرمه ـ أعد لكل عمل من أعمال البر ما يتناسب معه من جزاء، أو ما يتناسب مع صاحبه من طبيعة ورغبة.

ولهذا وردت النصوص الكثيرة ترغب في الجنة وما فيها من الجزاء، قال  r:( من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)[118]

ويروى أن أعرابيا جاء إلى رسول الله r فقال: يا رسول دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة فقال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه، فلما ولى قال: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا[119].

وغيرها من النصوص الكثيرة.

* * *

قد يقال هنا: فإن كان الجزاء محض رحمة إلهية، فلماذا لم يتساو الناس في الجزاء، بل لماذا اختلفت درجاتهم في نعيم الجنان؟

والجواب عن ذلك، والله أعلم، هو أن الأسماء الإلهية الحسنى تقتضي تنوع الجزاء بحسب الأعمال، فالرحمة تقتضي إفاضة الإحسان بلا حدود، والعدل يقتضي توزيع الجزاء بحسب الأعمال، والحكمة تقتضي ترتيب ما يدل على الطبائع والنفوس حتى يتشكل الجزاء منها.

والعقل والعادة يدلان على هذا، فنحن في حياتنا لا نتعامل إلا على هذا الأساس، فنعطي لكل شيء ما يستحقه من الجزاء بحسبه.

ولهذا يخبر القرآن الكريم عن تنوع الجزاء بحسب تنوع الأعمال:

فأخبر تعالى أن عمل العالم المؤمن يرفع درجات على عمل الجاهل، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (المجادلة:11)

وأخبر أن عمل المجاهدين أفضل من أعمال القاعدين، قال تعالى:﴿ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً﴾ (النساء:95)

وأخبر أن أعمال البر العظمى أعظم من كثير من أعمال الخير التي يتهافت عليها الخلق غافلين عن أصول البر، قال تعالى:﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (التوبة:19)

وأخبر أن:﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ (التوبة:20)

بل أخبر بأن الأعمال، وإن تساوت في صورها يختلف جزاؤها بحسب مواقيت الحاجة لها، فلذلك قال تعالى:﴿ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (الحديد: من الآية10)

ولهذا كان فضل صحبة رسول الله r لا يعدله شيء من أعمال البر، كما قال r:(  لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) [120]، وقال r:( خير القرون القرن الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) [121]

وأخبر r عن فضل السقي والإطعام عند الحاجة، فقال:( أيما مؤمن سقى مؤمناً شربة ماء على ظمأٍ سقاه اللّه تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه اللّه من ثمار الجنة، وأيما مؤمن كسا مؤمناً ثوباً على عري كساه اللّه من خضر الجنة) [122]

 

3 ـ رحمة الظالمين

الظالمون ـ هنا ـ هم من عرفوا الحق، ولكنهم آثروا أهواءهم على سلوك سبيله، فجمعوا بين الإيمان الذي يستدعي الرحمة، والخطيئة التي تستدعي العقوبة، فلذلك وقعوا تحت اسمي العدل الرحيم.

وقد عرف ابن القيم هذا الصنف بأنه ( مقصر في الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل لا في قدره ولا في صفته، بل مفرط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود ما يتأذى به في طريقه ويجد غب أذاه إذا وصل المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذي الضار) [123] 

وعرفه الغزالي بأنه من ( تحلى بأصل الإيمان، ولكن قصر في الوفاء بمقتضاه، فإنّ رأس الإيمان هو التوحيد. وهو أن لا يعبد إلا الله، ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهه هواه، فهو موحد بلسانه لا بالحقيقة) [124]

وهذا الصنف بذلك يجمع أمرين:

الإيمان الصحيح الجازم بالله، وبقضايا الإيمان، فيذعن لها، ويوقن بها.

والسلوك المنحرف عما يقتضيه الإيمان، وهذا السلوك كالمنحرف يبدأ من الصغائر لينتهي إلى الكبائر، ويبدأ من اللمم، وينتهي بالإصرار.

وكل واحد من الأمرين يتطلب معاملة خاصة بحسب ما تقتضيه أسماء الله الحسنى، وكلها بعد ذلك يؤول إلى رحمة الله.

أما الرحمة الإلهية، فهي تطلب المغفرة لهؤلاء والستر عليهم ومحو ذنوبهم وإدخالهم دار الرحمة الإلهية بعد استحقاقهم لها.

والعدل يقتضي مجازاتهم بذنوبهم، وتطهيرهم من رذائلهم، فجوار الله تعالى لا يتحقق إلا للطيبين.

والحكمة تقتضي ما يصلح هؤلاء، ويجعلهم أهلا للرحمة الإلهية.

ولهذا، يرد في القرآن الكريم ربط المعاصي والمخالفات بالمغفرة والرحمة، أو بالعزة والحكمة، وما شاكل ذلك:

فمن الربط بالمغفرة والرحمة قوله تعالى:﴿  وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة:102)، وقال تعالى:﴿  وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الحجرات:5)، فأخبر تعالى عن مغفرته لهم ورحمته بهم من غير أن يذكر توبتهم.

أما ما ذكر مرتبطا بالتوبة فكثير جدا في القرآن الكريم.

ومثل ذلك الربط بالمغفرة والحلم، كما قال تعالى:﴿  لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ (البقرة:225)، وقوله تعالى:﴿  وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ (البقرة:235)، وقوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ (آل عمران:155)، وقوله تعالى:﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ (المائدة:101)

فالله تعالى في هذه الآيات وعد بالمغفرة والحلم من غير أن يذكر صدور توبة منهم.

ومن الربط بالعزة والحكمة، والتي قد تقتضي العقاب المطهر قوله تعالى:﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة:209)، وقوله تعالى:﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (المائدة:38)

فحال هؤلاء إذن متروك للمشيئة، فقد تغفر لهم خطاياهم مغفرة محضة، وقد تغفر لهم بعد تعريضهم لكير الامتحان، ولهذا اختلفت المدارس الإسلامية في شأنهم، فمنها من غلب الرجاء، ومنها من غلب الوعيد، وكلها على حق في بعض جهاتها، كما سنرى.

* * *

وقد عبرت النصوص القرآنية عن هذا الصنف من الخلق بظالمي أنفسهم، كما قال تعالى:﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر:32)، وقال تعالى:﴿ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ (الصافات:113)

والظالم لنفسه يحتمل في النصوص القرآنية أن يراد به المؤمنين المخطئين أو الكافرين الجاحدين، كما قال تعالى:﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً﴾ (الكهف:35)

ولذلك اختلف السلف ومن بعدهم في شمول قوله تعالى:﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ (فاطر:33) للظالمين لأنفسهم على قولين[125]:

فذهب ابن مسعود وابن عباس وأَبى سعيد الخدرى وعائشة أُم المؤمنين إلى شمول الآية لظالمي أنفسهم، عن عقبة بن صبهان الهنائى قال: سألت عائشة عن قول الله تعالى:﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر:32)، فقالت لى: يا بنى، كل هؤلاء فى الجنة، فأما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله r يشهد له رسول الله r بالخيرة والرزق، وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأَما الظالم لنفسه فمثلى ومثلك)، قال:( فجعلت نفسها معنا) [126]

وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ:( هذه الأُمة يوم القيامة أثلاث: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يوم القيامة يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وثلث يجيئون بذنوب عظام، فيقول الله: ما هؤلاء؟ وهو أعلم بهم، فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أَنهم لم يشركوا. فيقول الله: أدخلوهم فى سعة رحمتى، وقال كعب: تحاذت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأَعمالهم)

وقال الحسن:( السابقون من رجحت حسناتهم، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم من خفت موازينه)

وقد دلت على هذه الآثار بعض الأحاديث الشريفة، منها ما روي عن أَبى الدرداءِ ـ رضي الله عنه ـ قال:( قرأَ النبى r هذه الآية:﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (فاطر:32)، فقال:( أَما السابق فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، وأما الظالم فيجلس فى طول المحبس ثم يتجاوز الله عنه)

ومنها قوله r:(  يبعث الله تبارك وتعالى هذه الأُمة- أَو كما قال- ثلاثة أصناف، وذلك فى قوله الآية:﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (فاطر:32)، فالسابق بالخيرات يدخل الجنة بلا حساب، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً، والظالم لنفسه يدخل الجنة برحمة الله)

وروي أن أبا ـ رضي الله عنه ـ قال لرجل:( ألا أُحدثك بحديث أخصك به لم أحدث به أحداً؟، قال رسول الله r:( فَمِنْهُمْ ظالم لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمنهم سَابِقٌ بالخيَرَات بإذن الله جَنَّاتُ عَدْنٍ (، قال:( دخلوا الجنة جميعاً)

وذهب طائفة أخرى من السلف، ومنهم عكرمة والحسن وقتادة وغيرهم، إلى أن الظالمين لأنفسهم من غير المصطفين، وأن الوعد بالجنات قاصر على المقتصد والسابق دون الظالم لنفسه.

وفسروا الظالم لنفسه بالكافر، والمقتصد المؤمن العاصى، والسابق المؤمن التقى، وذلك مثل ما ورد في تصنيف الخلق في الاخرة، والذي تقدم ذكره سالفا.

ومن أدلتهم على ذلك أن الله تعالى عبر عن هؤلاء بكونهم مصطفين، والمصطفون من عباد الله هم صفوتهم وخيارهم، والظالمون لأنفسهم ليسوا خيار العباد بل شرارهم، فكيف يوقع عليهم اسم المصطفين، وكيف يتناولهم فعل الأصطفاء؟

ثم إن صفوة الله هم أحباؤه، والله لا يحب الظالمين، فكيف يكونون من أصفيائه؟

ثم إن الاصطفاء  ـ لغة ـ يدل على صفوة الشيء وخلاصته ولبه، فكيف يكون الظالم لنفسه صفوة العباد أو خلاصتهم أو لبهم؟

ثم إن الله تعالى سلَّم على المصطفين من عباده فقال تعالى:﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (النمل:59)، والسلام يقتضى سلامتهم من كل شر وكل عذاب، والظالم لنفسه غير سالم من هذا ولا هذا فكيف يكون من المصطفين؟

وزيادة على هذا، فإن أسلوب القرآن الكريم مستقر في إطلاق الوعد بالثواب على المتقين لا على الظالمين، كما قال تعالى:﴿ )تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً﴾ (مريم:63)، وقوله تعالى:﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾ (الرعد:35)، وقوله تعالى:﴿ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً﴾ (الفرقان:15)، وقوله تعالى:﴿  مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ (محمد:15)

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة التي تقصر الوعد بالثواب على المتقين دون الظالمين، بل لم يأت في القرآن الكريم ذكر الظالم لنفسه إِلا مصحوبا بالوعيد، كما قال تعالى:﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ (هود:101)، وقال تعالى:﴿)وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾ (ابراهيم:45)، وقال تعالى:﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ (سـبأ:19)

بل إن القرآن الكريم يصرح بأن الظالم لنفسه هو من خفت موازينه ورجحت سيئاته، وهو ما يدل على خسارته وعدم نجاته، كما قال تعالى:﴿  فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ((الأعراف: 8-9)، وقال تعالى:﴿  وأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُمُّهُ هَاوِيَةٌ((القارعة: 8- 9)

ومما يدل دلالة تكاد تكون صريحة على هذا القول أن الله تعالى وصف حليتهم فيها بأنها أساور من ذهب ولؤلؤ، وهذه ـ كما ورد في النصوص ـ جنات السابقين لا جنات المقتصدين، فإن الجنات أربع كما ورد في الحديث الشريف، قال r:( جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكبرياءِ على وجهه فى جنة عدن)، فإذا كانت الجنتان الذهبيتان للظالمين لأنفسهم، فمن يسكن الجنتين الفضتين؟

ومما يدل على هذا المعنى من حيث اللغة أن أقرب المذكورات إلى ضمير الداخلين هم السابقون بالخيرات، فوجب اختصاصهم بالدخول إلى الجنات المذكورات.

أما علة اختصاصهم بذكر ثوابهم، والسكوت عن الآخرين، فيرجع إلى أسلوب القرآن الكريم في ذكر ثواب الأبرار والمتقين والمخلصين والمحسنين ومن رجحت حسناتهم، ويذكر عقاب الكفار والفجار والظالمين لأنفسهم ومن خفت موازينهم، ويترك من فيه شائبتان، كما قال تعالى:﴿  إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ((الانفطار: 13- 14)، وقوله تعالى:﴿ فأَمَّا مَن طَغَى وآثر الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمِ هِى الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِى الْمَأْوَى( (النازعات 37- 41)

* * *

بعد هذا الخلاف الذي ذكرناه بأدلته، نحاول تبين الحق والجمع بين النصوص من الزاوية التي نحن فيها من سر الرحمة الإلهية الشاملة.

ونبادر فنقول بأن كل إنسان باعتبار عظمة حق الله وثقل أدائه أداء كاملا ظالم لنفسه، فحق الله تعالى المعبر عنه في قوله تعالى:﴿  اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ (آل عمران: من الآية102)، وهو ـ كما فسره عبد اللّه بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ـ أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر) [127] أعظم من أن يطيق أحد أداءه أداء كاملا.

فحق الله هو أن تحصى كل نعمة من نعمه وتشكر، وذلك مستحيل، كما قال تعالى:﴿  وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (ابراهيم: من الآية34)، ولهذا ختمت هذه الآية بظلم الإنسان وكفره، قال طلق بن حبيب ـ رضي الله عنه ـ:( إن حق اللّه أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم اللّه أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصحبوا تائبين وأمسوا تائبين)

بل إنهم لو أطاقوا إحصاءها لكان إحصاؤهم لها نعمة أخرى تستوجب الشكر، وذلك ما يؤدي للتسلسل المستحيل:

لو كان جارحة مني لها لغة         تثني عليك بما أوليتَ من حسن

لكان ما زاد شكري إذ شكرت به   إليك أبلغ في الإحسان والمنن

وقد روي أنا ناساً سألوا عبد اللّه بن عمرو بمصر، فقالوا: نرى أشياء من كتاب اللّه عزَّ وجلَّ أمر أن يعمل بها لا يعمل بها، فاردنا أن نلقي أمير المؤمنين في ذلك فقدم وقدموا معه، فلقي عمر رضي اللّه عنه، فقال: متى قدمت؟ منذ كذا وكذا، قال: أبإذنٍ قدمت؟ قال: فلا أدري كيف رد عليه. فقال: يا أمير المؤمنين إن ناساً لقوني بمصر، فقالوا: إنا نرى أشياء في كتبا اللّه أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها، فأحبوا أن يلقوك في ذلك. قال فاجمعهم لي قال: فجمعتهم له. قال ابن عون فأخذ أدناهم رجلاً فقال: أنشدك بالله بحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم. قال: فهل أحصيته في نفسك؟ فقال: اللهم لا، قال: ولو قال نعم لخصمه. قال: فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم، فقال: ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات، قال: وتلا ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (النساء:31)، ثم قال: هل علم أهل المدينة؟ أو قال: هل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا: لا، قال: لو علموا لوعظت بكم) [128]

ولهذا حكى الله تعالى عن ظلم المصطفين من عباده لأنفسهم، كما قال تعالى عن آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ:﴿ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (لأعراف:23)

وحكى تعالى عن موسى u قوله:﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ﴾ (القصص: من الآية16)

وحكى عن يونس u قوله:﴿ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الانبياء: من الآية87)

وأخبر تعالى عن صفات المتقين، وأنهم يقع منهم ظلم النفس والفاحشة من غير إصرار على ذلك، كما قال تعالى عن عباده المتقين الموعودين بالجنات التي عرضها السموات والأرض:﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران:135)

ولهذا أخبرت عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن نفسها بأنها من الظالمين لأنفسهم.

وعلمنا r أن أوفق الدعاء أن يقول الرجل:( اللهم أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، يا رب فاغفر لي ذنبي، إنك أنت ربي، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) [129]

ومن الأدعية المأثورة:( اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، وأنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم) [130]

فظلم الإنسان لنفسه بهذا الاعتبار لا يتنافى مع الاصطفاء، بل لا يتنافى مع القرب والولاية، فيكون ( مصطفى من جهة كونه من ورثة الكتاب علما وعملا، ظالم لنفسه من جهة تفريطه في بعض ما أمر به وتعديه بعض ما نهي عنه، كما يكون الرجل وليا لله محبوبا له من جهة ومبغوضا له من جهة أخرى)

وسر ذلك ـ كما يذكر ابن القيم ـ أن الاصطفاء والولاية والصديقية وكون الرجل من الأبرار ومن المتقين ونحو ذلك كلها مراتب تقبل التجزيء والانقسام والكمال والنقصان، وعلى هذا فيكون هذا القسم مصطفى من وجه ظالما لنفسه من وجه آخر.

ولكن سياق الآية بعد هذا يخرج المقتصدين والسابقين بالخيرات من جملة الظالمين لأنفسهم، فلم يبق إلا أن يكون الظالمون لأنفسهم قسما خاصا من جملة العباد المصطفين،فالآية لم ترد لبيان أقسام العباد، وإنما وردت لبيان أقسام المصطفين.

ومثل ابن القيم لذلك بما لو قلنا:( أعطيت مالي البالغين من أولادي فمنهم تاجر ومنهم خازن ومنهم مبذر ومسرف) [131]، هل يفهم من هذا أحد قط أن هذا التقسيم لجملة أولاده، بل لا يفهم منه إلا أن أولاده كانوا في أخذهم المال أقساما ثلاثة، ولهذا أتي فيها بالفاء الدالة على تفصيل ما أجمله أولا.

أما تنافي الاصطفاء مع الظلم، وتنافي ذلك مع الحكمة الإلهية، فإن الله تعالى الذي سبقت رحمته غضبه نسخ إساءة سلوكهم بإحسان اعتقادهم، فكانوا مصطفين من جهة الاعتقاد، وإن كانوا مبعدين من جهة السلوك.

ويدل على هذا النسخ قوله r:( إن رجلاً أذنب ذنباً فقال: رب إن أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال اللّه عزّ وجلّ: عبدي عمل ذنباً فعلم أن له ربا يغفر الذنب وياخذ به قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفر لي، فقال عزَّ وجلَّ: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره فقال اللّه عزّ وجلّ عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء) [132]

أما ما ذكر من اختلاف جنة السابقين عن جنة الظالمين لأنفسهم، فقد أجاب عليه ابن القيم بوجهين[133]:

أحدهما: أن المقتصد من أهل الجنات، ومعلوم أن جنات السابقين بالخيرات أعلى وأفضل من جناته، فما كان جواب المخالفين عن المقتصد فهو الجواب بعينه عن الظالم لنفسه، فإن التفاوت حاصل بين جنات الأصناف الثلاثة، ويختص كل صنف بما يليق بهم ويقتضيه مقامهم وعملهم.

والثاني: أنه تعالى ذكر جزاء السابقين بالخيرات هنا مشوقا لعباده إليه منبها لهم على مقداره وشرفه، وسكت عن جزاء الظالمين لأنفسهم والمقتصدين ليحذر الظالمون ويجد المقتصدون، وذكر في سورة الإنسان جزاء الأبرار منبها على ما هو أعلى وأجل منه وهو جزاء المقربين السابقين ليدل على أن هذا إذا كان جزاء الأبرار المقتصدين فما الظن بجزاء المقربين السابقين.

أما عدم اصطفاء الله لظالمي أنفسهم، فجوابه ماذكرنا من عدم تنافي الظلم مع التقريب، والظلم في ذلك نوعان:

نوع لا يبقى معه شيء من الإيمان والولاية والصديقية والاصطفاء وهو ظلمها بالشرك والكفر، وهو الظلم الحقيقي، كما قال تعالى:﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان: من الآية13)

ونوع يبقى معه حظه من الإيمان والاصطفاء والولاية وهو ظلمها بالمعاصي، وهو درجات متفاوتة في القدر والوصف.

* * *

قد يقال بعد هذا: لقد عرفنا في سر العدل أن الله تعالى لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فكيف يستوي في موازين اصطفاء الله السابقون مع الظالمين لأنفسهم، فهل يرجع الأمر إلى محض المشيئة، أم أن هناك قوانين وسننا ضابطة لهذا الاصطفاء تمنع تساوي الفريقين؟

والجواب عن ذلك أن جناب الحق العدل الحكيم يعز عن أن يساوى بين المحسن والمسيئ، وبين القريب والبعيد، كما لا تستوي الظلمات والنور، ولا الظل ولا الحرور.

بل هو تعالى ـ مع مشيئته المطلقة ـ  أخبرنا بقوانين الثواب والعقاب التي يتعامل بها مع عباده، حتى يقيم الحجة علينا.

فلذلك كان من الذنوب ـ التي هي سبب الظلم للنفس ـ ما يكفي في تطهيره العمل الصالح بعده، وكان منها ما تكفي فيه المغفرة المجردة من العمل، وكان منها ما يحتاج إل التوبة النصوح، وكان منها ما يستدعي استحلال الخلائق ورد حقوقهم.

فالذنوب كالأمراض، منها ما يزور الفينة بعد الفينة ليغادر من غير أن يترك آفة أو يحدث ضررا، بل قد تكون زيارته عافية: وربما صحت الأجسام بالعلل، وإلى هذا النوع من الذنوب الإشارة بقوله r:( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) [134] 

ومن الذنوب ما يحدث جراحا في القلب تداويها الأعمال الصالحة، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى:﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ (هود:114)

وإليها الإشارة بالأحاديث الكثيرة الدالة على مغفرة الذنوب ارتباطا بالأعمال الصالحة، كقوله r ( الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر) [135]، وقوله r:( ألا أنبئكم بمكفرات الخطايا! إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط) [136]

ولهذا أرشد r إلى إتباع السيئات بالحسنات، كما قال  r:( ما من مسلم يذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر له) [137]، وقال r:(  اتق اللّه حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) [138]، وعندما قال أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ لرسول اللّه r:( يا رسول اللّه أوصني)، قال:( إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها)، قال، قلت:( يا رسول اللّه أمن الحسنات (لا إله إلا اللّه)؟)، فقال r:( هي أفضل الحسنات) [139]

ومن الذنوب ما يحدث جراحا خطيرة في القلب، فتغير طبعه، وينتكس انتكاسة خطيرة توجب إجراء عملية تصحيح لنفسه، وتطييب لها إن لم يتب، وهي ما يسمى بالكبائر، قال تعالى:﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً﴾ (النساء:31)، وقال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ (الشورى:37)، وقال تعالى:﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ﴾ (لنجم: من الآية32)

وقد سمى r هذا النوع من الذنوب بالموبقات، فقال r:( اجتنبوا السبع الموبقات)، قيل:( يا رسول اللّه وما هن؟)، قال:( الشرك باللّه وقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) [140]

وليس المراد في هذا الحديث تحديدها، بل المراد ذكر مجامعها، عن سعيد بن جبير، أن رجلاً قال لابن عباس ـ رضي الله عنه ـ:( كم الكبائر، سبع؟)، قال:( هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار)

وقد ورد في أحاديث أخرى ذكر غيرها، وقد كتب رسول اللّه r إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم وكان في الكتاب:( إن أكبر الكبائر عند اللّه يوم القيامة: إشراك باللّه، وقتل النفس المؤمنة بغير حق، والفرار في سبيل اللّه يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم) [141]

وفي حديث آخر عن عبد اللّه بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال، قلت:( يا رسول اللّه أي الذنب أعظم؟)، فقال:( أن تجعل للّه نداً وهو خلقك)، قلت:( ثم أي؟)، قال:( أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)، قلت:( ثم أي؟)، قال:( أن تزاني حليلة جارك) [142]

فهذه الذنوب وغيرها تستدعي أمرين:

إما التوبة النصوح المطهرة التي ترد فيها الحقوق لأصحابها، وترد فيه الفطرة إلى أصالتها.

أو أن تجرى لهذا الذي انتكست نفسه، وتغيرت طبيعته عملية جراحية تعيد لفطرته أصالتها، ولنفسه طيبتها، فيستحيل أن يدخل دار الطيبين متلطخ بالخبث.

* * *

قد يقال عند هذا: ألا يتنافى هذا مع رحمة الله، فكيف يكون الله الرحيم معاقبا، وكيف تأذن رحمة الله التي وسعت كل شيء في وجود العقوبة؟

والجواب عن ذلك، هو أن ما ورد في الشرع من اصطلاح (العقوبات) في الحقيقة ليس إلا نوعا ممن المجاز[143]، فكما أنه لا يقال للجراح الذي يحاول جهده أن يخلص المريض من الأذى الخطير الذي لحق بدنه معاقبا، فكذلك لا يقال للعمليات التي تترتب على هذا النوع من الخطايا بأنها عقوبات إلا بنوع من المجاز، فالرحيم اللطيف يستحيل عليه أن يعاقب لغير علة أو لغير ما تقتضيه الحكمة.

ولعله لأجل هذا ورد الوعيد بالعذاب في مواضع من القرآن الكريم بصيغة البشارة، كما قال تعالى:﴿  إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (آل عمران:21)، وقال تعالى:﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (لقمان:7)، وقال تعالى:﴿ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الجاثـية:8)

ومثل ذلك قوله r:( بشر الكنازين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم) [144]

فهذه النصوص وغيرها مع استعمالها لأساليب العرب في ذكر الوعيد بصيغة البشارة إلا ان لها دلالة غير مباشرة على البشارة الحقيقية، ومثل ذلك أن يقال لمريض ميئوس من مرضه:( أبشر، فإن هناك عملية خطيرة وشديدة وأليمة، وهي في ظاهرها عذاب، ولكنها في حقيقتها علاج لهذا الداء)، أفلا يعتبر هذا بشارة؟

وقد أشار إلى هذا البعد التطهيري للعقوبة قوله r في آخر من يدخل الجنة:( آخر رجل يدخل الجنة رجل يتقلب على الصراط ظهرا لبطن كالغلام يضربه أبوه وهو يفر منه، يعجز عنه عمله أن يسعى فيقول: يا رب بلغ بي الجنة ونجني من النار! فيوحي الله إليه: عبدي أنجيتك من النار وأدخلتك الجنة تعترف لي بذنوبك وخطاياك؟ فيقول: العبد: نعم يا رب وعزتك وجلالك لئن نجيتني من النار لأعترفن لك بذنوبي وخطاياي! فيجوز الجسر ويقول فيما بينه وبين نفسه: لئن اعترفت له بذنوبي وخطاياي ليردني إلى النار! فيوحي الله إليه: عبدي اعترف لي بذنوبك وخطاياك أغفرها لك وأدخلك الجنة فيقول العبد: وعزتك وجلالك ما أذنبت ذنبا قط ولا أخطأت خطيئة قط! فيوحي الله إليه: عبدي إن لي عليك بينة فيلتفت العبد يمينا وشمالا فلا يرى أحدا ممن كان يشهده في الدنيا فيقول: يا رب أرني بينتك! فيستنطق الله تعالى جلده بالمحقرات فإذا رأى ذلك العبد يقول: يا رب عندي - وعزتك - العظائم المضمرات! فيوحي الله إليه: عبدي! أنا أعرف بها منك، اعترف لي بها أغفرها لك وأدخلك الجنة، فيعترف العبد بذنوبه فيدخل الجنة، هذا أدنى أهل الجنة منزلة فكيف بالذي فوقه) [145]

ولعل رؤية أهل النار لنجاة مثل هذا هي التي جعلتهم يقولون:﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ (فاطر: من الآية37) ﴿ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ (السجدة: من الآية12)

لكنهم لا يخرجون منها لعدم استكمال الطهارة، ولأن جرائمهم التي يتطهرون منها لا علاقة لها بالاعتارف بذنوبهم، وما أسهل أن يقول المنافق مثل هذا، ثم يتنصل منه متى شاء.

* * *

قد يقال: فلماذا هذه العملية الأليمة؟

لماذا لاتشمل هؤلاء الرحمة، فيدخلون الجنة من غير آلام؟

والجواب عن ذلك، هو أن الحكمة الإلهية اقتضت تطهير من يجاور دار الرحمن تطهيرا متناسبا مع الجرائم التي عملها، ولنضرب مثلا مقربا لذلك، وهو أن من تنجست روحه بالفواحش وأنواع الشذوذ لا يليق أن يدخل جنة الطيبين، وهو ملوث بهذا الخبث، لأن خبثه سينقله معه إلى الجنة، وليس في الجنة إلا الطهارة.

ولهذا ورد في الأحاديث المخبرة بأنواع العقوبات التي يتعرض لها الظالمون لأنفسهم في البرزخ ما يتناسب مع العقوبة:

فقد رأى r الذي يأخذ بالقرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة مضطجعا، وآخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ بها - رأسه فيتدهده الحجر فيذهب ههنا فيتبعه فيأخذه ولا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى[146].

ففي ذلك أكبر تنبيه له وتأديب وتبيان لعظم ما كان يفعله.

ورأى r الذي يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق مستلقيا لقفاه، وآخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ذلك، فما يفرغ منه حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود إليه فيفعل به كما فعل في المرة الأولى.

فهذا تأديب مناسب تماما للكذب رادع عنه.

ورأى الزناة والزواني على بناء مثل التنور عراة، وإذا هو يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضؤا.

وفي هذا إشارة واضحة إلى حفلات الرقص الماجنة التي يختلط فيها الرجال والنساء، فلذلك كان أكبر رادع لهم هو أن تصور تلك الحفلات ذاتها بصخبها، مصحوبة بذلك العذاب الشديد، لينمحي من القلب استحلاء تلك المعصية، وتنمحي من الفطرة صورة ذلك الشذوذ.

ورأى r آكل الربا على نهر أحمر مثل الدم، وهو يسبح فيه، وإذا على شاطيء النهر رجل قد جمع عنده حجارة، وإذا ذاك السابح يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده حجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا حجرا فيذهب فيسبح ما يسبح ثم يرجع إليه كلما رجع فغر له فاه فالقمه حجرا.

فهذا تأديب متناسب تماما مع هذا السلوك.

ولهذا أخبر r أن المتكبرين ( يحشرون يوم القيامة أمثال الذر، في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال) [147]، فهذا الإذلال الشديد تأديب قد ينزع الكبر من صدورهم، ليستحقوا دخول الجنة، فالجنة لا يدخلها المتكبرون.

وأخبر r أن من شرب المسكر يسقى يوم القيامة من طينة الخبال، وفسرها r بأنها عرق أهل النار، أو صديد أهل النار، حتى يمحى حبها تماما من قلبه.

وأخبر r أن ( من ولي من أمور المسلمين شيئا فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم وفاقتهم احتجب الله عنه يوم القيامة دون خلته وحاجته وفاقته وفقره) [148]، فهذا الاحتجاب كفيل بنزع ما لصق بفطرته من ذلك السلوك.

بل إن هذه العقوبات، التي هي في حقيقتها رحمة منطوية في مظهر الغضب، تتماثل مع الغرض الذي تريد تحقيقه في جميع ما ينزل الله تعالى من أنواع عقاب الكفار وغيرهم في الدنيا.

ومن ذلك مثلا أن الله تعالى قال لموسى u عندما دعا قومه لدخول الأرض المقدسة وإبائهم:﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (المائدة:26)، فهي عقوبة بحرمانهم من الأرض المقدسة، لأن أنفسهم حينذاك كانت مستمرئة للذل، فاحتاجت إلى تدريب يدوم أربعين سنة ليقلع آثار ذلك الاستمراء.

* * *

 وهذا ما يرد الكثير من الأسئلة والشبهات التي يوردها البعض ممن يضرب النصوص بعضها ببعض، فيقول: بما أن الله تعالى جعل الجنة دار الرغبات التي لا تحد، فبالإمكان إذن أن يطلب أهل الجنة رغبات شاذة.

فبإمكانهم مثلا أن يقيموا حفلات رقص ماجنة يحضر فيها أهل الجنة نساءهم وحور عينهم ويرقصون ويلهون كما كانوا يلهون في الدنيا.

أو بإمكانهم أن يمارسوا أنواع الشذوذ الذي كانوا يمارسونه في الدنيا[149].

أو بإمكان من جرت اللصوصية في عروقه، فلم يستحل إلا ما جاء به من عرق اللصوصية أن يكون عصابة في الجنة تغير على قصورهم وضياعهم.

أو بإمكان من تمكن حب الاستبداد والتسلط من نفسه أن يقيم امبراطورية في الجنة يحكم فيها بنفسه ولنفسه.

والجواب عن هذا أن الفطرة والطيبة التي يملكها أهل الجنة سواء بسلوكهم الصالح في الدنيا، وحفاظهم على أمانة الروح التي أودعت جنباتهم، أو بالتطهير الذي تعرضوا له تحيل عليهم مجرد التفكير في الخبث.

ولهذا ورد في النصوص الإخبار عن أن الجنة لا يدخلها، بل لا يشم ريحها من لم تتوفر فيه الطيبة الكافية، والفطرة الأصيلة:

ومن ذلك الإخبار بعد دخول البخلاء الجنة، قال r:( قال إن الله تعالى غرس جنة عدن بيده وزخرفها، وأمر الملائكة فشقت فيها الأنهار، فتدلت فيها الثمار، فلما نظر إلى زهرتها وحسنها، قال: وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي لا يجاورني فيك بخيل) [150]

وأخبر r أنه لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا ديوث، قال r في الحديث القدسي:( وعزتي لا يسكنها مدمن خمر ولا ديوث)، قالوا:( يا رسول الله وما الديوث؟)، قال:( من يقر السوء في أهله) [151]

وأخبر r أنه لا يجد ريح الجنة من قتل معاهدا، قال r:(  من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وأن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما) [152]، وقال r:(  ألا من قتل نفسا معاهدة له وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة، وإن الجنة ليوجد ريحها من مسيرة سبعين خريفا) [153]

وأخبر r أنه لا يجد ريح الجنة أي وال بات غاشا لرعيته، قال r:(  ما من إمام ولا وال بات ليلة سوداء غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة وعرفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين سنة) [154]، وقال r:(  من استرعى رعية فلم يحطهم بنصيحة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام. من انتسب إلى غير أبيه لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمس مائة عام) [155]

وأخبر r أنه ( لا يدخل الجنة شيخ زان، ولا مسكين مستكبر، ولا منان بعمله على الله) [156]

وقال r:(  إياكم وعقوق الوالدين! فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار إزاره خيلاء، إنما الكبرياء لله عز وجل) [157]

وأخبر r عن هذين الصنفين من أهل النار، فقال r:(  صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا) [158]

وأخبر r أن المرأة التي تسأل زوجها الطلاق من غير سبب لا تجد رائحة الجنة، فقال r:( لا تسأل المرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة! وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاما) [159]

 ونرى في كثير من هذه الاحاديث مسافات مختلفة لبعد رائحة الجنة، وهي تعني بعد صاحبها أو قربه من الجنة، بحسب نوع جرمه، وقدر الحاجة إلى تطهيره.

وقد أشار حديث أدنى أهل الجنة منزلة إلى هذا، فقال r:(  أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة ومثل له شجرة ذات ظل فقال: أي رب! قدمني إلى هذه الشجرة أكون في ظلها، فقال الله تعالى: هل عسيت إن فعلت أن تسألني غيره؟ قال: لا وعزتك! فقدمه الله إليها، ومثل له شجرة ذات ظل وثمر، فقال: أي رب! قدمني إلى هذه الشجرة فأكون في ظلها وآكل من ثمرها، فقال الله تعالى له: هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزتك! فيقدمه الله إليها، فيمثل الله تعالى له شجرة أخرى ذات ظل وثمر وماء، فيقول: أي رب! قدمني إلى هذه الشجرة أكون في ظلها وآكل من ثمرها وأشرب من مائها! فيقول له: هل عسيت إن فعلت أن تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيقدمه الله إليها، فيبرز له باب الجنة فيقول: أي رب! قدمني إلى باب الجنة فأكون تحت نجاف الجنة فأرى أهلها، فيقدمه الله إليها فيرى الجنة وما فيها فيقول: أي رب أدخلني الجنة! فيدخله الجنة، فإذا دخل الجنة قال: هذا لي؟ فيقول الله تعالى له: تمن! فيتمنى، ويذكره الله عز وجل: سل من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى: هو لك وعشرة أمثاله، ثم يدخله الجنة فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين فتقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك! فيقول: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت) [160]

فهذا الحديث الشريف يشير إلى أن أهل النار من الظالمين لأنفسهم في رحلة مستمرة طويلة من النار إلى الجنة، بحسب جرائمهم، وبحسب قابليتهم للتطهير.

ولعله لأجل هذا، والله أعلم، كان الصراط بين الجنة والنار، والصراط يشير إلى الاستقامة، قال الغزالي:( ولما كان الصراط المستقيم الذي لا يكمل التوحيد إلا بالاستقامة عليه أدق من الشعر وأحدّ من السيف مثل الصراط الموصوف في الآخرة، فلا ينفك بشر عن ميل عن الاستقامة ولو في أمر يسير، إذ لا يخلو عن اتباع الهوى ولو في فعل قليل، وذلك قادح في كمال التوحيد بقدر ميله عن الصراط المستقيم، فذلك يقتضي لا محالة نقصاناً في درجات القرب، ومع كل نقصان ناران: نار الفراق لذلك الكمال الفائت بالنقصان، ونار جهنم كما وصفها القرآن؛ فيكون كل مائل عن الصراط المستقيم معذباً مرتين من وجهين) [161]

ولهذا ورد في القرآن الكريم قوله تعالى:﴿ كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً﴾ (مريم:71)، ففيها دالة على أن كل الخلق يعرضون على النار، ولكن مكثهم فيها بحسب أعمالهم، وهذا ما نصت عليه الأحاديث الشريفة والآثار عن السلف الصالح y، عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضهم يدخلونها جميعاً، ثم ينجي اللّه الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد اللّه فقلت له: إنا اختلفنا في الورود، فقال: يردونها جميعاً، وأهوى بإصبعه إلى أذنيه، وقال: صُمَّتَا إن لم أكن سمعت رسول اللّه r يقول:( لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم، ثم ينجي اللّه الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً) [162]

ولهذا اشتد خوف السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ من هذا الورود، والذي يدل على استحالة كمال الاستقامة، عن قيس ابن أبي حازم قال: كان عبد اللّه بن رواحة واضعاً رأسه في حجر امرأته فبكى، فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال إني ذكرت قول اللّه تعالى:﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا (، فلا أدري أنجو منها أم لا؟ وكان مريضاً) [163]، وكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل له: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال: أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها، وعن الحسن البصري قال، قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك، قال: فما رئي ضاحكاً حتى لحق باللّه.

وهذا الورود المتيقن، والذي هو من مقتضيات حكمة الله التي تأبى دخول غير الطيبين، يختلف باختلاف درجات الخبث ونوعه، وقابلية صاحبه للتطهير، وقد قال عبد اللّه بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ:( يرد الناس جميعاً الصراط، وورودهم قيامهم حول النار، ثم يصدون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجُل، حتى إن آخرهم مراً رجل نوره على موضع قدميه يمر فيتكفأ به الصراط، والصراط دحض مزلة، عليه حسك كحسك القتاد، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس) [164]

ومع انسجام هذا الورود لحكمة الله، فهو ينسجم كذلك مع رحمته، فلا يعرف قيمة الجنة من لم يعرف النار، ولا يعرف قيمة النجاة من لم يرد موارد الهلكة، ولا يعرف قيمة القرب إلا من صلي بنار البعد.

* * *

وقد كانت النصوص الكثيرة السابقة في وعيد هذا الصنف بعدم دخول الجنة سببا فيما ذهبت إليه طوائف الوعيدية من خلود مرتكبي الكبائر في جهنم، ومع أن هذا القول يتنافى مع الكثير من النصوص الدالة على خروج الموحدين من الجنة، والتي سنعرضها في محلها من هذا الفصل، إلا أنه لا ينبغي التشنيع على القائلين بهذا القول أو عدهم مبتدعة بهذا.

فالحكمة الإلهية تقتضي وجود من يقول بهذا غضبا لمحارم الله، بل قد ورد في النصوص ما يشير إلى أن من طوائف الملائكة من خلقه الله غيورا لمحارم الله، فلذلك يشتد غيظه على العصاة وادا لو أقحم بهم في جهنم.

وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:﴿ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴾ (المدثر:27)، فقد قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في تفسيرها:(من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب) [165]، فاعتبر هذا من كلام الملائكة.

ويكاد يصرح بذلك قوله r في خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالماً هل لي من توبة فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد اللّه فيه، فهاجر إليه، حتى إذا أنصف الطريق أتاه ملك الموت، فاختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاءنا تائبا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم حكما: فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة[166].

وعلى ذلك يفسر ما ورد في النصوص من اختصام الملأ الأعلى، كما قال r في قول الله تعالى له:( هل تدري فيما اختصم الملأ الأعلى)، قال r:(  قلت: نعم يا رب في الكفارات والدرجات، قال: فما الكفارات؟ قلت: إنشاء السلام، وإطعام الطعام، وصلة الأرحام، والصلاة والناس نيام، قال: فما الدرجات؟ قلت: إسباغ الطهور في المكروهات ومشي على الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ قال: صدقت) [167]

وعلى ذلك أيضا يفسر ما ورد في الآحاديث من أنه ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا) [168]

بل ذلك يفسر ما جعل الله تعالى لكل مؤمن من الملائكة الكتبة، فمنهم من يحصي الحسنات، ومنهم من يحصي السيئات، كما قال تعالى:﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (قّ:18)

وكما أن رحمة الله سبقت غضبه، فقد جعل ملك الرحمة أمينا على صاحب الشمال، قال الأحنف بن قيس ـ رضي الله عنه ـ:( صاحب اليمين يكتب الخير وهو أمين على صاحب الشمال، فإن أصاب العبد خطيئة قال له: أمسك، فإن استغفر اللّه تعالى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها)

ومثل ذلك منكر ونكير ومبشر وبشير، وملائكة الجنة وملائكة النار..

ومثل هذا الخلاف نجده في البشر، كما قال رسول الله r، وهو يتحدث عما جبل الله البشر عليه من الطبائع:( إن لله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال:﴿ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(ابراهيم: من الآية36)، ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال:﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:118)، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال:﴿ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً)(نوح: من الآية26)، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال:﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ)(يونس: من الآية88) [169]

ومثل هذا حصل في المدارس الإسلامية، حيث خاف بعضهم من مفاسد الأمان، وخاف بعضهم من مفاسد القنوط، ومن مفسدة تكذيب البشرى ومفسدة ثقة الانسان بنفسه وحوله وقوته وعلمه.

فكانت هذه المقاصد هي الحامل على هذه الأقوال، بل يدل على هذا من السنة ما روي أن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت ردف النبي r على حمار يقال له عفير، فقال:( يا معاذ، هل تدري ما حق الله على العباد؟)، قال:( الله ورسوله أعلم) قال:( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحقهم على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا)، فقلت:( يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟)، قال:( لا تبشرهم فيتكلوا) [170]

* * *

ولكن مع هذا العذر الذي نقيمه لهؤلاء الوعيدية، مقدرين غضبهم لمحارم الله، وإعمالهم لظواهر النصوص التي تدل على هذا الوعيد الشديد، إلا أن الحق الذي نعتقده هو ما دلت عليه النصوص من سبق الرحمة الإلهية، وأن العذاب ليس مقصودا لذاته، بل هو لحكمة التربية والإصلاح.

ولهذا اعتبر الله تعالى النار في سورة الرحمن من جملة نعم الله على عباده الذين خافوه واتقوه  فقال تعالى:﴿ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ( (الرحمن:43 ـ 44)، ثم قال تعالى بعدها:﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ (الرحمن:45)

ولهذا قال سفيان بن عيينة ـ رضي الله عنه ـ:( خلق الله النار رحمة يخوف بها عباده لينتهوا) [171]

ولهذا وردت النصوص الكثيرة المتواترة على خروج الموحدين من النار ودخولهم الجنة، وقد قال r:( ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة وإن زنى وإن سرق وإن زنى وإن سرق وإن زنى وإن سرق وان رغم أنف أبي ذر) [172]

وقد أخبر r عن أثر التوحيد في النجاة، فقال r:( إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب! فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب! فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم. فتخرج بطاقة فيها ( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله)، فيقول: أحضر وزنك. فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: فإنك لا تظلم. فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء) [173]

بل قد ورد ما هو أخطر من ذلك،فقد قال r:( إن الله تعالى حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى) [174]

وهذا الحديث لا يتعارض مع ما ذكرنا من إمكانية دخول الموحدين الجنة، لأن رسول الله r قيد التوحيد بالإخلاص، وهو يعني البعد عن محارم الله، قال r:(  من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة) قيل:( وما اخلاصها) قال:( أن تحجزه عن محارم الله) [175]

أما من لم يحجزه التوحيد عن معاصي الله، وورد الآخرة ملطخا بهذه الأوزار، فإن النصوص أخبرت بوروده إلى النار، وبقائه المدة الكافية لتطهيره، ثم يخرج بعدها إلى الجنة، قال r:(  يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله عز وجل: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية) [176]

وفي حديث آخر، قال r:( يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمما، ثم تدركهم الرحمة، فيخرجون ويطرحون على أبواب الجنة فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الثغاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة) [177]، وقال r:( ليصيبن ناسا سفع من النار عقوبة بذنوب عملوها ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته فيقال لهم الجهنميون) [178]

فهذان الحديثان يشيران إلى أن هؤلاء لكثرة ذنوبهم تكاد النار تطحنهم طحنا، لينشأوا في الجنة نشأة أخرى بفطرة أطهر وأطيب.

* * *

 قد يقال بعد هذا: فلماذا كان هذا الجزاء مختصا بالتوحيد، أوليس من الكفار من هو أحسن خلق، وأكثر عدلا من بعض هؤلاء الموحدين؟

والجواب عن ذلك ما عرفنا في الفصول الماضية من أن السر في خلق الإنسان هو تحقيق العبودية لله، وأعلى درجات هذه العبودية هو التسليم التام لله، وأصحاب هذه العبودية هم أصحاب الرحمة الخالصة التي لم يشبها أي منغص.

وأدنى درجات هذه العبودية هو الإقرار بالله وبتوحيده، وهو بتعبير العصر الحد الأدنى الذي ينجو به صاحبه من الخلود في عذاب الله.

وسر ذلك أن الشر ـ كما ذكرنا سابقا ـ هو أعظم تخريب لبنيان الكون، كما قال تعالى إنكارا على من زعم أن له ولداً ـ تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً ـ:﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ( (مريم:88 ـ 93)

فكل حرف في هذه الآيات ينطق بخطر الشرك، وبعظم جرمه، فلذلك إن انتفى الشرك كان الأمر أيسر، وكانت الرحمة أقرب، مع أن ذلك لا ينفي ضرورة التطهير والتطييب الذي يؤهل لدخول الجنة.

* * *

قد يقال بعد هذا: فإن كان الغرض مما نسميه عقابا هو التطهير، وأن الجنة لا يدخلها إلا الطيبون، فما القول فيما تواتر في النصوص من أن الله تعالى يأذن بالشفاعة لمن شاء من عباده، فيدخلون بالشفاعة إلى الجنة، أو يخرجون بالشفاعة من النار، فهل تملك الشفاعة لهؤلاء أن يطهروا من ذنوبهم، ومما لحق فطرتهم من الدنس؟

والجواب عن ذلك، والله أعلم، أن النصوص المقدسة كما أخبرت عن جدوى الشفاعة وتأثيرها، وهي من التواتر والكثرة ما لا يمكن غض الطرف عنه، أو تحريفه بأنواع التأويل، فقد ورد مقابل ذلك كذلك ما يدل على عدم جدواها.

فقد قال تعالى:﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ (غافر:18)، وقال تعالى:﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾ (النساء:123)، وقال تعالى:﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ (البقرة:48)، وغيرها من آيات القرآن الكريم.

ولا يصح تأويل هذه النصوص ـ كما أولها بعضهم ـ من أن المراد منها الكافرون دون المؤمنين، بدليل ما ورد في صفة الكافرين، كما قال تعالى:﴿ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ (المدثر:48)، لأن ما في النصوص يثبت عدم صحة هذا التأويل.

ومن ذلك قوله r لأهل بيته، وهم أقرب الناس إليه:( إلا ان لي عملي ولكم عملكم، إلا اني لا أغني عنكم من الله شيئا، إلا ان أوليائي منكم المتقون، ألا لا أعرفنكم يوم القيامة تاتون بالدنيا تحملونها على رقابكم، ويأتي الناس يحملون الآخرة. يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد، اعملا فاني لا أغني عنكما من الله شيئا) [179]

ومنه قوله r في تاركي الزكاة:( لأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي: يا محمد يا محمد! فأقول: لا أملك لك من اللّه شيئاً قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رغاء يقول: يا محمد يا محمد؟ فأقول: لا أملك لك من اللّه شيئاً قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة ينادي: يا محمد يا محمد! فأقول: لا أملك لك من اللّه شيئا قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قسماً من أدم ينادي: يا محمد يا محمد! فأقول: لا أملك لك من اللّه شيئاً قد بلغتك) [180]

 بل منه  وأوضح دلالة مع تعرضه للتأويل ـ قوله r:(  ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح:﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (المائدة:117 ـ 118)، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) [181]

***

فكيف نتعامل ـ إذن ـ مع هذه النصوص، ونحن إن قدمنا أحدها أخرنا الآخر، والشرع طالبنا بتقديمها جميعا؟

والجواب عن ذلك، والله أعلم، أن الشفاعة نوع من أنواع التطهير، كما أنها سبب من أسباب الرحمة.

قد يستغرب هذا، فالشفاعة رحمة صرفة، والتطهير ـ كما رأينا في النصوص ـ عذاب محض، فهل يستوي حنان الشفاعة ولطفه مع شدة العذاب وقسوته؟

والجواب عن ذلك، بمثال بسيط، وهو أن من الخلق من يرده عن غيه تقلده لمنة، أو سماعه لكلمة طيبة، أو استشعاره لشعور نبيل، فمعدنه يتقبل ذلك، ويستسيغه، بل قد يؤثر فيه هذا السلوك أكثر من جميع أنواع العقاب، بينما نجد من الخلق من لا يردعه إلا طول العقاب، وأنواع العذاب، فلذلك لا تردعه الكلمة الطيبة ولا الموقف النبيل، فإن ردع ظاهرا لم يردع باطنا، وإن ردع لحظة رجع بعدها.

وبمثل هذا، ولله المثل الأعلى، أحوال الآخرة، فمن الخلق  ـ وهم أكثر الخلق ـ من لا يجدي معه إلا الشدة والتعنيف والقسوة لكف نفسه الرعناء، فلذلك أخبرت النصوص أن أكثر تطهيرات الآخرة من نوع العقوبات، ومنها ما يقبل التطهير بهذا النوع الذي سماه الشرع شفاعة، ومنها ما يحتاج إلى النوعين، فيطهر بالشفاعة والنار جميعا، بحسب ما دنس فطرته الأصلية من ذنوب.

ونرى أن لهذه الشفاعة شروطها الخاصة بها، وأهمها التعلق بالشافع ومحبته، وهي المحبة التي تحرق خطايا المحب خاصة إن علم الشفوع له بتدخل الشافع بإذن الله في محو أوزاره، وقد تؤخر هذه الشفاعة لذلك إلى ان تستقر هذه المحبة في قلب ذلك المعذب، فيستحق بذلك شفاعة الشافعين.

والشفاعة بذلك ليست وساطة، فوحدانية الله تتنافى مع الوسطاء، ورحمة الله أعظم من أن تحتاج إلى الوسطاء.

ولكن الله تعالى شاء برحمته، كما شاء في الدنيا أن يفيض فضله على عباده عبر عباده، أن يجعل من عباده شفعاء، فيكرمهم من جهة، ويطهر المشفوع فيهم من جهة أخرى.

ومثل ما ذكرنا في الحكمة من ظهور طوائف الوعيدية كانت الحكمة في ظهور منكري الشفاعة، فإن هناك من قعد عن العمل والكسب طمعا في الشفاعة، فكان القول المتناسب معه هو إزالة هذا الوهم عنه.

ولذلك لم يكن القول بإنكار الشفاعة أو تأويلها بدعة ضلالة، وإنما هو فهم من الفهوم، قد يحتاج إليه في موضعه المناسب.

4 ـ رحمة الجاحدين

بعد هذا البحر المحيط من رحمة الله الواسعة ألا يحق لنا ـ نحن الأقزام الغلاظ ـ أن نتساءل عن مصير أولئك الذين مكثوا في النار آلاف الآلاف من السنين، أو أقل منها، أو أكثر منها.

أيظلون في النار أبد الآباد ـ حيث لا حدود للزمن ـ تبدل جلودهم، ويذوقون من أصناف العذاب المتصاعد ما لا ينتهي مدده ولا عدده؟

أم يألفون النار بعد وحشة، ويتنعمون بها بعد عذاب، كما يتنعم أهل الصحارى بحر صحرائهم، وأهل القطبين بجليد قطبهم؟

أم ـ ياترى ـ ينتهي ما كتب لهم من عذاب، كما تنتهي فترة المسجون بطول مكثه في سجنه؟

وهل في هذه الحالة يخرجون بعد تغير صفاتهم وتبدل سيرهم وتحولهم خلقا آخر فتنسجم الحكمة مع الرحمة، ويمتزج العدل بها جميعا، أم يخرجون بمجرد اقتضاء رحمة الله ذلك، فرحمة الله تسبق غضبه؟

هذه أسئلة كثيرة يتيه العقل في مبادئها، ولم يرد في النصوص القطعية ما يشفي غليل السائلين فيها.

وسر ذلك أنها من العلم الذي قد يضر سماعه، فالغافل الجاحد إن سمع مثل هذا قد يجعل منه زادا لغفلته، وسببا من أسباب شقوته، وطريقا يسلك منها إلى غضب ربه.

وقد كان هذا سببا لإحجامي عن الحديث في هذه المسألة، ولولا أن النصوص تكاد تشير إليها ما ذكرتها.

زيادة على ذلك، فإن العاقل الذي سد منافذ الغفلة يرى من رحمة الله فيها ما يملؤه محبة له وشوقا إليه وتطلعا لما في يديه.

ومن هذا الباب نطل على هذه المسألة غير باتين فيها بقول من الأقوال، مرجعين الأمر لإرادة الله ومشيئته، فلذلك نكتفي بذكر ما يمكن أن تحتمله النصوص، وما قد يدل عليه العقل الواعي لحكمة الله ورحمته [182]ليشرب منها كل إنسان ما ينسجم مع طبيعته، كما قال تعالى:﴿ كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ (الاسراء:20)

خلود العذاب:

 أكثر النصوص القطعية تدل على خلود الكفار في العذاب، وبأن النار لا تفنى، ولا يفنى ما فيها، وقد ورد في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، وبصيغ مختلفة الدلالة على هذا المعنى:

ومن ذلك الإخبار عن مقامهم فيها بصيغة الخلود، وهو يقتضي التأبيد، وهو أكثر ما ورد في القرآن الكريم مما يدل على خلود أهل النار في النار، كما قال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (التغابن:10)، وقال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة:39)، وقال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة: من الآية257))، وقال تعالى:﴿  وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (لأعراف:36)، وقال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (يونس:27)، وقال تعالى:﴿  مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ (التوبة:17)، وقال تعالى:﴿  لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (الانبياء:99)، وقال تعالى:﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ (الزخرف:74)، وقال تعالى:﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ (الحشر:17)، وقال تعالى:﴿ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ (المائدة:80)

أو يعبر عن ذلك بعدم الخروج من النار، كما قال تعالى:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ (البقرة:167)، وقال تعالى:﴿  ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ (الجاثـية:35)

أو يعبر عن ذلك بأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، كما قال تعالى:﴿  كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (الحج:22)، وقال تعالى:﴿  وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ (السجدة:20)

أو يعبر عن ذلك بكون العذاب مقيما مستقرا، كما قال تعالى:﴿  يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ (المائدة:37)

أو يعبر عن ذلك بكون العذاب مقيما ملازما، كما قال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً﴾ (الفرقان:65) أي لازما، ومنه سمى الغريم غريما لملازمة غريمه، ولهذا قال الحسن في هذه الآية:( كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام اللازم ما دامت الأرض والسماوات) [183]

أو يعبر عن ذلك بعدم التخفيف من العذاب، كما قال تعالى:﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ (البقرة:86)، وقال تعالى:﴿ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ (الزخرف:75)

أو يعبر عن ذلك بدوام تسعير النار وإيقادها، كما قال تعالى:﴿ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً﴾ (الاسراء:97)

أو يعبر عن ذلك بتجديد الأهلية للعذاب، كما قال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء:56)

أو يعبر عن استحالة دخولهم الجنة بما يدل على الاستحالة العقلية، كما قال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ (لأعراف:40)

وقد ورد في الأحاديث الشريفة من النصوص ما يدل على هذا[184]، ومن ذلك قوله r:( يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت) [185]

وورد في الحديث الموقوف عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال:( إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، أتي بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا، فلا يبقى أحد في أهل عليين، ولا في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه، ثم ينادي مناد: يا أهل النار هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدينا فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درك من جهنم إلا نظر إليه، ثم يذبح بين الجنة والنار، ثم ينادى: يا أهل الجنة هو الخلود أبد الآبدين، ويا أهل النار هو الخلود أبد الآبدين، فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحدا ميتاً من فرح ماتوا، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً من شهقة ماتوا، فذلك قوله تعالى:﴿ )وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (مريم:39)يقول:( إذا ذبح الموت) [186]

وقد وقع إجماع جماهير العلماء على ما دلت عليه هذه النصوص، ولم يخالفه إلا القليل.

أما قوله تعالى:﴿ لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً﴾ (النبأ:23)، فالمراد منها أنهم ماكثون في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حقب جاء حقب، والمعنى في الآية بذلك:( لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها) ؛ فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه؛ إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة؛ أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية.

 أما سبب ذكر الأحقاب، فلأن الحقب كان أبعد شيء عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها، وهو بذلك يكون كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبدا.

زيادة على أن هذا اللفظ قد يدل على التوقيت لو قال ( خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب ونحوه)

زيادة على انه يمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب.

أو أن تحمل الأحقاب على وقت شربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب؛ ولهذا قال:﴿ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (النبأ:23 ـ 25)، و( لابثين) اسم فاعل من لبث، ويقويه أن المصدر منه اللبث بالإسكان.

أما دلالة العقل والحكمة على خلود الكفار في جهنم، فقد سبق الحديث عنها في باب سر العدالة، ومن ذلك أن نفوس الكفار غير قابلة للخير، فلذلك لو خرجوا منها لعادوا كفارا كما كانوا.

وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى:﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ (الأنعام: من الآية28)، فهذا يدل على غاية عتوهم وإصرارهم وعدم قبول الخير فيهم، فلا تصلح نفوسهم الشريرة الخبيثة إلا للعذاب، ولو صلحت لصلحت على طول العذاب، فحيث لم يؤثر عذابهم تلك الأحقاب الطويلة في نفوسهم ولم يطيبها علم أنه لا قابلية فيهم للخير أصلا.

ونصوا على أن هذه الطريق وإن أنكرت ببادئ الرأي، فهي طريق قوية، وهي ترجع إلى الحكمة الإلهية، فإن الحكمة التي اقتضت دخولهم هي التي اقتضت خلودهم.

انتهاء عذاب أهل النار:

وهذا مما قد تحتمله الأدلة، وإن كان جماهير العلماء على خلافه، والحكمة تقتضي أن يذهب جماهير العلماء إلى ذلك، فإن انتشار مثل هذا العلم قد يكون سبيلا من سبل الشقاوة، وفتنة للقلوب المريضة.

ولكن العلم به مع ذلك لا يخلو من مصلحة، بل إن مصلحته للقلوب الواعية والفطر السليمة أعظم من مفسدته.

بل إن ما تحتمله النصوص من هذا المعنى يجيب على الأسئلة الكثيرة التي قد تحتار فيها العقول، ولا تجد لها مسلكا في غير رحمة الله التي وسعت كل شيء.

وقبل أن نذكر الأدلة نحب أن ننبه إلى أن الذين قد يبادرون لإنكار هذا القول، أو يشنعون على القائل به قد لا يتصورون حقيقة الخلود، أو قد لا يعطونها حقها، فلذلك لو تركوا لخيالهم أن يمتد بهم ليتصور بعض حقيقة الخلود، فلربما نزعوا عن بعض التشنيع والمبادرة بالإنكار.

فلذلك نرى أن ما ورد في تحديد فترة مكوث الكافرين في النار من الآثار التي قد لا يسلم لها كافية في الردع والزجر بغض النظر عن ذكر الخلود.

ومن أمثلة هذه الآثار ما ذكره ابن كثير بقوله في تفسير قوله تعالى:﴿ لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً﴾ (النبأ:23):( أي ماكثين فيها أحقاباً، وهي جمع حقب وهو المدة من الزمان، وقد اختلفوا في مقداره، فقال ابن جرير، قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لهلال الهجري:( ما تجدون الحقب في كتاب اللّه المنزل؟)، فقال:( نجده ثمانين سنة، كل سنة اثنا عشر شهراً، كل شهر ثلاثون يوماً، كل يوم ألف سنة) [187]

والحقب الواحد بذلك يصبح ثمانية وعشرين مليونا وثمانمئة ألف سنة [ 28800000 ] مع أن الله تعالى ذكر أن مكثهم يستمر أحقابا بدون تحديد، وبذلك يصبح العدد مهولا جدا لا يمكن تخيله.

فإذا اعتبرنا عدد الأحقاب سبعمائة على حسب ما ذكر السدي، فإن العدد يصبح عشرين مليارا ومئة وستين مليونا [ 20160000000 ]

وفي رواية عن عبد اللّه بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ:( الحقب أربعون سنة، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون)، والحقب الواحد بهذا هو عبارة عن أربعة عشر مليونا وستمئة ألف سنة[14600000 ]

فإذا اعتبرنا عدد الأحقاب سبعمائة على حسب ما ذكر السدي، فإن العدد يصبح عشر ملايير ومائتين وعشرين مليونا [10220000000]

وقد ذكر السدي أن عدد الأحقاب سبعمائة حقب، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلثمائة وستون يوماً، كل يوم كألف سنة مما تعدون) ومدة مكث أهل النار بحسب هذا العد تصل إلى سبعة عشر مليارا وستمائة وأبعين مليونا [ 17640000000]

ونحن نسوق هذه النصوص لا من باب كونها الحقيقة النهائية، ولكن من جهتين:

أولا: من جهة أن ذكر مثل هذه الأعداد خاصة من الصحابة y يبعد أن يقال بمجرد الرأي، فالرسول r ذكر للصحابة y كثيرا من الحقائق التي لم تشتهر إلا بين الخاصة من أهل العلم، حتى لا يفتتن بها، وقد ذكرنا بعض أدلة ذلك من قبل.

فإن لم يذكر رسول الله r هذا، فقد يكون ذلك استنباطا منهم من كتاب الله، كما أشار إلى ذلك قول علي ـ رضي الله عنه ـ لهلال الهجري:( ما تجدون الحقب في كتاب اللّه المنزل؟)

وقد يستغرب هذا، ولكن ما ورد من الآثار عن السلف y في استثارة معاني القرآن الكريم ووجوه الاستنباط لا يحيل هذا.

ومن ذلك ما روي عن عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال:( من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد، فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم:﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ (المدثر:30)، وهم يقولون في كل أفعالهم ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم  ﴾ فمن هنالك هي قوتهم، وببسم الله استضلعوا)

ومثل هذا قولهم في ليلة القدر: إنها سبع وعشرين، مراعاة للفظة (هي) من كلمات سورة القدر، قال أبو بكر الوراق: إن اللّه تعالى قسم ليالي هذا الشهر - شهر رمضان - على كلمات هذه السورة، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال: هي، وأيضا فإن ليلة القدر كرر ذكرها ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، فتجيء سبعا وعشرين.

ومثل هذا قول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ لعمر ـ رضي الله عنه ـ حين سأل مشيخة الصحابة y عن ليلة القدر فقالوا: الله أعلم؛ فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق السموات سبعا والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع وجعل رزقه في سبع، فأراها في ليلة سبع وعشرين. فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ:( أعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه) [188]

 ومثل هذا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل:( ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه)، فإنها بضعة وثلاثون حرفا، فلذلك قال النبي r:( لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول) [189]

وثانيا: أن تصور مثل هذه الأرقام الضخمة كاف وحده للزجر، بل إن ذكر مثل هذه الأرقام قد يكون أردع وأزجر من ذكر الخلود نفسه عند الكثير من العامة الذين لا يستطيع خيالهم أن يتخيل ما تحمله كلمة الخلود من معان.

وفي الواقع دلالات كثيرة على هذا المعنى، فالمجرم قد يردعه عن جرائمه توعده بسنين معدودات في سجن هو جنة بالنسبة لجهنم، فكيف لا يردع بهذه السنين الطويلة في العذاب الذي لا يشبهه في شدته أي عذاب.

أما المجرم الذي قد يستحلي هذا المعنى، فهو مجرم لا يخاف من عذاب الخلود نفسه، فكيف يخيفه العذاب المحدود.

فذريعة إنكار ما قد تحتمله من النصوص من هذا المعنى خوفا من الفساد غير صحيح أو غير لازم، فالكفار مع علمهم بما يخبرهم المؤمنون من خلودهم في النار لا يردعون، والمؤمنون الأتقياء العارفون أنهم بتوحيدهم ينجيهم الله من النار ولو دخلوا إليها أخوف الناس من النار.

والمؤمنون العصاة يعلمون أنهم يدخلون النار وأنهم يخرجون منها، ومع ذلك لا يردعهم ذلك عن ما هم فيه.

بعد هذا.

نحاول أن نتخلص من التقليد، ونبحث في الأدلة لنجعلها هادينا لحقيقة هذه المسألة الخطيرة المتعلقة بالأبد، وقد حاولنا انطلاقا من كلام ابن القيم وابن تيمية اللذين حملا لواء هذا القول أن نصنف الأدلة فيها إلى ثلاثة أنواع: 

1 ـ من النصوص:

أول من يسمح لعقولنا بالولوج في هذا الباب الخطير هو ما ورد في النصوص مما قد يستدل به على انتهاء عذاب أهل النار بعد الأحقاب الطويلة.

وهذا الاحتمال هو الإذن الشرعي الذي يسمح لهذه المسألة أن تطرح، ولولاه ما جاز الحديث عنها، ولتركت لإرادة الله ومشيئته المطلقة.

وورود هذا الاحتمال ـ كما نتصور ـ ليس إذنا للحديث في هذه المسألة فقط، بل نرى أن حقائق القرآن الكريم يجب بثها، ولو كانت من باب الإشارة إن ظهر ما يؤيدها، أما الخوف من آثار البث فلا مبرر له، لأن الله تعالى لو أراد أن لا نبحث في المسألة لما ترك أي احتمال يدل عليها.

وقد ورد في القرآن الكريم من الأمارات الدالة على هذا الاحتمال:

الأمارة الأولى:

أن القرآن الكريم إذا ذكر جزاء أهل رحمته وأهل غضبه معا فرق بين جزاء أهل الرحمة وجزاء أهل الغضب.

ومن ذلك بأن يذكر خلود المؤمنين في الجنة ولا يذكر خلود الكافرين، كما قال تعالى في الكافرين:﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ (آل عمران:106) ثم قال بعدها في المؤمنين:﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (آل عمران:107)

أو أن يذكر خلود الكفار مطلقا، ويذكر خلود المؤمنين مؤبدا، كما قال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ (البينة:6) وفي المقابل قال عن جزاء المؤمنين:﴿ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ (البينة:8)

أو أن يذكر خلود الكفار مع الاستثناء والإخبار عن إرادة الله، كما قال تعالى:﴿  فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ (هود:107)بينما يعبر عن عدم انقطاع نعيم أهل الجنة، كما قال تعالى:﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ (هود:108)

وقد يقال هنا: ولكن في مقابل ذلك قد ورد في النصوص الجمع بينهما في الذكر، والقضاء لهم بالخلود جميعا، كقوله تعالى:﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (النساء:13)، وقوله بعدها عن العصاة:﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ (النساء:14)

والجواب عن هذا ـ كما يذكر ابن القيم ـ أن مجرد ذكر الخلود والتأبيد لا يقتضي عدم النهاية، لأن الخلود هو المكث الطويل، كقولهم قيد مخلد.

زيادة على أن تأبيد كل شيء بحسبه، فقد يكون التأبيد لمدة الحياة، وقد يكون لمدة الدنيا، كما قال تعالى عن اليهود:﴿  وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (البقرة:95) مع العلم أنهم يتمنون الموت في النار حيث يقولون:﴿ يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ (الزخرف:77)

زيادة على هذا، فإن الله تعالى ذكر خلود بعض أهل المعاصي في النار مع إجماع العلماء على أن الموحدين يخرجون منها، كما مر سابقا.

ومن ذلك قوله تعالى:﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ (النساء:14)،، وقوله تعالى:﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة:63)

وهذان النصان قد يؤولان بالكفار، إلا أن قوله تعالى:﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ (النساء:93) لا يمكن تأويله، فالآية السابقة تتحدث عن قتل المؤمن للمؤمن، كما قال تعالى:﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ (النساء:92)

وقد روي في النصوص ما يؤيد هذا، كما روى سالم بن أبي الجعد قال: كنا عند ابن عباس بعدما كُفَّ بصره فأتاه رجل فناداه: يا عبد اللّه بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال: جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً، قال: افرأيت إن تاب وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى؟ والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم r يقول: ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمداً، جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني، وإيم الذي نفس عبد اللّه بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم r وما نزل بعدها من برهان)[190]

فهذه النصوص مع ما تواترت به الأحاديث عن رسول اللّه r من أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان يدل على أن الخلود لا يعني بالضرورة الأبد.

فنحن بهذا: بين أن نقول بخلود عصاة الموحدين في النار، وبين أن نعتبر أن لفظ ( الخلود) لا يدل بالضرورة على الأبد الذي لا نهاية له، والقول الثاني أهون من القول الأول.

قد يقال هنا: فأهل الجنة كأهل النار إذن، فلا خلود للطرفين، ما دامت النصوص الدالة على الخلود واحدة.

والجواب عن هذا أن الله تعالى خص أهل الجنة بما يدل على الخلود الحقيقي الذي هو الأبد الذي لا نهاية له، ومن ذلك قوله تعالى:﴿ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ﴾ (صّ:54)، وقوله تعالى عن نعيم الجنة:﴿ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ (هود: من الآية108)، وقوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ (فصلت:8)، وقوله تعالى:﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ (الانشقاق:25) أي غير مقطوع، بخلاف أهل النار، فإنه لم يرد فيهم مثل هذا.

وقد ذكر ابن القيم وجوها كثيرة لتميز الجنة عن النار تقتضي خلود الجنة دون النار، ومنها[191]:

1.       أنه تعالى أخبر بما يدل على انتهاء عذاب أهل النار في عدة آيات، ولم يخبر بما يدل على انتهاء نعيم أهل الجنة، ولهذا احتاج القائلون بالتأبيد الذي لا انقطاع له إلى تأويل تلك الآيات، ولم يجيء في نعيم أهل الجنة ما يحتاجونه إلى تخصيصه بالتأويل.  

2.       أن الأحاديث التي جاءت في انتهاء عذاب النار لم يأت شيء منها في انتهاء نعيم الجنة.  

3.       أن الصحابة والتابعين y إنما ذكروا انقطاع العذاب، ولم يذكر أحد منهم انقطاع النعيم.    

4.       أنه قد ثبت أن الله تعالى يدخل الجنة بلا عمل أصلا بخلاف النار.  

5.       أنه تعالى ينشئ في الجنة خلقا يمتعهم فيها، ولا ينشئ في النار خلقا يعذبهم بها.  

6.       أن الجنة دار فضله، والنار دار عدله، وفضله يغلب عدله. 

7.       أن النار دار استيفاء حقه الذي له، والجنة دار وفاء حقه الذي أحقه هو على نفسه، وهو سبحانه يترك حقه ولا يترك الحق الذي أحقه على نفسه.  

الأمارة الثانية:

أن القرآن الكريم يستثني بعد ذكر الخلود، فيرجع الأمر إلى المشيئة، وذلك كقوله تعالى:﴿  فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ (هود:107)، بينما ذكر أهل الجنة بعد الاستثناء بأن عطاءهم غير مجذوذ، كما قال تعالى:﴿  وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ (هود:108)

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:( أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال تعالى:﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ (هود:108)، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار)

ومثل ذلك ما ورد من الاستثناء، بل رد الأمر إلى حكمة الله وعلمه في قوله تعالى:﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ (الأنعام:128) وقال ابن عباس معلقا على هذه الاية:( إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارا) [192]

وقد ذكر ابن القيم وجوها لاستبعاد ارتباط الاستثناء في هذه الآية بغير الكفار، ومنها:

1.       استكبارهم منهم أي من إغوائهم وإضلالهم وإنما استكبروا من الكفار.

2.       أنه عبر عنهم بأنهم أولياؤهم، وأوليائهم هم الكفار، كما قال تعالى:﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (لأعراف: من الآية27)، فحزب الشيطان هم أولياؤه.

3.       أنهم شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين، ومع هذا قال:﴿ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ (، ثم ختم الآية بقوله تعالى:﴿  إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (، فتعذيبهم متعلق بعلمه وحكمته، وكذلك الاستثناء صادر عن علم وحكمة، فهو عليم بما يفعل بهم حكيم في ذلك.

الأمارة الثالثة:

أن القرآن الكريم قيد لبث الكفار في جهنم بعدد محدود تعرفه العرب، وهو ( الأحقاب) في قوله تعالى:﴿ لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً﴾ (النبأ:23)، فهذا اللفظ يدل على مدة مقدرة يحصرها العدد، كما تقدم من النصوص الدالة على ذلك.

ولهذا تهرب المخالفون إلى التأويل، فتأول الزجاج الآية على أن الأحقاب تقييد لقوله تعالى:﴿ لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً﴾ (النبأ:24)، وأما مدة مكثهم فيها فلا يتقدر بالأحقاب.

وقد استبعد ابن القيم هذا التأويل بحجة أنه يقتضي أن يكونوا بعد الأحقاب ذائقين للبرد والشراب.

ونحن مع كلا الحالين الظاهر منهما والمؤول، فكلاهما يقتضي نهاية العذاب سواء بالخروج من النار، أو بالبقاء فيها مع انتهاء العذاب.

أما القول بأن الآية منسوخة بالنصوص الدالة على الخلود، فغير صحيح، لأن النسخ لا يدخل في الخبر إلا إذا كان بمعنى الطلب، فإن أرادوا بالنسخ البيان فهو صحيح، وهو إنما يدل على أن عذابهم دائم مستمر ما دامت باقية فهم فيها خالدون، وما هم بمخرجين.

وفرارا من هذه التأويلات استدل بعضهم على أن ذكر الأحقاب لا يدل على النهاية بعدم تقديرها بالعدد، فإنه لم يقل عشرة ولا مائة، ولو قدرت بالعدد لم يدل على النهاية إلا بالمفهوم، فكيف إذا لم يقدر، ونصوا على أنه كلما مضى حقب تبعه حقب لا إلى نهاية.

والرد على هذا هو أن أهل النار يختلف مكثهم فيها أو عذابهم بها ـ كما سنرى ـ بحسب استعدادهم، فلذلك لا يمكن تحديد مكثهم فيها بأحقاب معينة.

وقد رد ابن القيم على استدلالهم بأنه لو أريد بالآية بيان عدم انتهاء مدة العذاب لم يقيد بالأحقاب، فإن ما لا نهاية له لا يقال هو باق أحقابا ودهورا وأعصارا أو نحو ذلك، ولهذا لا يقال ذلك في نعيم أهل الجنة، ولا يقال للأبدي الذي لا يزول هو باق أحقابا أو آلافا من السنين.

زيادة على أن الصحابة y، وهم أفهم لمعاني القرآن فهموا منها خلاف ذلك، وقد قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ:( ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا)

2 ـ من آثار السلف:

ولكن هذه النصوص ـ مع ما فيها من الأمارات التي نرى فيها من القوة ما يتيح البحث في هذه المسألة ـ ليست هي المستحث الوحيد على الجرأة على الكلام فيها، بل إن هناك ما ورد عن السلف مما قد يجعل للمسألة محلا للمناقشة، أو على الأقل أقوالا خارقة للإجماع تتيح البحث فيها بعيدا عن الشذوذ.

وقد توجه النقد لبعض هذه النصوص إما في بعض أسانيدها، أو في تأويلها، ورعاية للأمانة العلمية سنورد المناقشات السندية والمتنية عقب كل نص ونذكر ما يمكن أن يجاب به عليه:

وأول هذه النصوص ما روى عبد بن حميد في تفسيره قال: أخبرنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري أنه قال: قال عمر ـ رضي الله عنه ـ:( لو لبث أهل النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه)، وفي رواية:( عدد رمل عالج) قال ابن تيمية تعليقا على الحديث:( والحسن وإن لم يسمع من عمر فلو لم يصح عنده عن عمر لم يجزم به)

ووجه الاستدلال بهذا الحديث واضح، ويبعد أن يقوله عمر ـ رضي الله عنه ـ بمجرد الاجتهاد، بل مثل هذه النصوص لا تحتمل غير التوقيف.

زيادة على أن رواية العلماء ـ وخاصة الحسن البصري مع علمه وورعه ـ لهذا القول دليل على عدم إنكارهم له، ولا على مخالفته الإجماع، قال ابن القيم:( ورواة هذا الأثر أئمة ثقات كلهم، والحسن سمعه من بعض التابعين ورواه غير منكر له، فدل هذا الحديث أنه كان متداولا بين هؤلاء الأئمة لا ينكرونه، وقد كانوا ينكرونه على من خرج عن السنة أدنى شيء، ويروون الأحاديث المبطلة لفعله، وكان الإمام أحمد يقول: أحاديث حماد بن سلمة هي الشجا في حلوق المبدعة، فلو كان هذا القول عندهم من البدع المخالفة للسنة والإجماع لسارعوا إلى رده وإنكاره) [193]

وقد رد الحديث بأمرين:

الأول: من حيث الرواية، فإنه منقطع لنص ابن تيمية بأنه لم يسمعه الحسن من عمر، واعتذاره بأنه لو لم يصح للحسن عن عمر لما جزم به يلزم أن يجري في كل مقطوع يجزم به روايه، ولا يقول هذا أئمة الحديث كما هو معروف في قواعد اصول الحديث، بل الانقطاع عندهم علة والجزم معه تدليس وهو علة أخرى، ولا يقوم بمثل ذلك الاستدلال في مسألة فرعية كيف في مسألة قيل أنها أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة.

والحسن البصري معروف عند أئمة هذا الشأن بأنه لا يؤخذ بمراسيله، كما قال الدارقطني في السنن:( وقد روى عاصم الأحول عن ابن سيرين، وكان عالما بأبي العالية وبالحسن، قال لا تأخذوا بمراسيل الحسن ولا أبي العالية، فإنهما لا يباليان عمن أخذا عنه)

والثاني من حيث المعنى، وهو توجيه هذا الكلام بأن المراد منه الموحدون.

والرد على هذين الوجهين يسير، أما من حيث السند، فيكفي أن يقول الحسن البصري ـ رضي الله عنه ـ هذا، ثم لا ينكر عليه ليعتبر قولا له اعتباره عند العلماء، فكيف به وهو يرويه عن عمر ـ رضي الله عنه ـ، ثم كيف يغيب عليه أن يحقق في هذه المسألة الخطيرة، وهو من هو علما وورعا.

أما من حيث المعنى، فإن كلام عمر ـ رضي الله عنه ـ مطلق لم يقيد بذكر الموحدين، ثم في ذكره لرمل عالج مع كثرته دليل على أن المراد غير الموحدين، فالموحدون لا يمكثون برحمة الله تلك المدد العظيمة.

ومما أنكره الصنعاني من الاستدلال بهذا القول قوله:( إنه لو ثبت صحته عن عمر لم يدل على المدعى، فإن أصل المدعى هو فناء  النار، وأن لها مدة تنتهي إليها، وليس في أثر عمر هذا إلا أنه يخرج أهل  النار من النار، والخروج لا يكون إلا وهي باقية، فإنك لو قلت لو لبث زيد في الدار كذا وكذا ثم خرج منها لم يدل هذا على فناء الدار لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما) [194]

ونحن نوافق الصنعاني على هذا القول، فلا نقول بفناء النار، وإنما نقول بأن العذاب هو الذي يفنى عن أهل النار، وفرق كبير بين القولين، فالشيء قد يكون مؤلما، ولكن هناك من يتحمله، كالنار التي تحملها إبراهيم u بل صارت عليه بردا وسلاما مع كونها لم تخرج عن ناريتها.

ومن النصوص التي يمكن الاستدلال بها في المسألة أثر ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ، فإنه ذكر عنه البغوي أنه قال:( ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد) ثم قال:( وعن أبي هريرة مثله) وفي رواية أخرى زاد:( وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا)

قال الصنعاني:( هذان الأثران بهما متمسك ابن تيمية في جعل القول بفناء  النار قولا لابن مسعود وأبي هريرة كما سيرويهما في صدر الاستدلال، وهذان الأثران ذكرهما البغوي في تفسير سورة هود في قوله تعالى:﴿  إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّك ﴾ (هود: من الآية107)، ثم قال البغوي عقب ذكرهما ما لفظه ومعناه عند أهل السنة:( إن ثبت أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان، وأما مواضع الكفار فممتلئة ابدا)، هذا لفظه فشكك في الرواية أولا ثم ابان أنها إن ثبتت فهي عند أهل السنة في عصاة من الموحدين) [195] 

وقد ذكر الصنعاني وجوها لرد الاستدلال بهذين الأثرين:

منها لا دلالة فيهما على فناء  النار بوجه من الوجوه، فإن قوله ليس فيها أحد دال على بقائها، فإنك إذا قلت:( ليس في الدار احد) فإنه دال على بقاء الدار لا على فنائها.

ومنها أنه محمول على خروج الموحدين سواء على قول ابن تيمية أو غيره، أما عند ابن تيمية بخصوصه، فإنه لا يقول بخروج الكفار من النار، بل يقول بأنه بعد فنائها وذهابها لا يتصور فيها بقاء الكفار، وهذان الأثران حاكمان بخروج من فيها، وليس إلا عصاة الموحدين.

أما عند غيره، فالأمر واضح في أن الأثرين ليسا إلا في خروج الموحدين، ولفظ أثر ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وإن كان عاما، فإنه نكرة في سياق النفي إلا أنه معلوم تخصيصه بالأدلة الدالة على أن الكفار ليسوا منها بمخرجين عند ابن تيمية وغيره.

وما ذكره الصنعاني من وجوه صحيح، وقد قلنا بأن الاستدلال هنا غير متعلق بفناء النار، وإنما بعدم عذاب أهلها، إما لخروجهم منها كما قد تدل على ذلك هذه النصوص، أو لبقائهم فيها مع عدم حصول العذاب.

وهو مضطر إلى أحد التأويلين لا محالة، فإما أن يقدر ( ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد يعذب) كما ذكرنا، أو ( ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد موحد) والتقدير الأول أرجح، لأن الثاني مستبعد، بعد علمنا أن غير الموحدين أكثر من الموحدين، فكيف يقول لا يبقى فيها أحد، وهي لا تزال ممتلئة بالكفار.

زيادة على أن بقاء الموحدين لا يستمر أحقابا طويلة، وقد ذكرنا طولها.

ونكتفي بهذه النصوص للاستدلال على انخرام الإجماع في المسألة، ونخرج منها لندخل طرقا أخرى للاستدلال تصب فيما كنا فيه.

3 ـ من أسماء الله:

ذكرنا في الفصول الماضية أن بناء المقادير جميعا قائم على أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، فلا يشذ شيء عن هذه الأسماء.

وهي معرفة بديهية تقتضيها الفطرة، وتدل عليها النصوص، وانطلاقا منها نحاول التعرف على النهاية التي سيؤول إليها أولئك الذين أودعوا بجرائمهم كل تلك السنين في دركات جهنم.

وأول ذلك أن الله تعالى تسمى بالغفور الرحيم، ولم يتسم بالمعذب ولا بالمعاقب، بل جعل العذاب والعقاب في أفعاله، فهو فعل لا وصف.

وهذا التفريق واضح في القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى:﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الحجر:49) ثم قال بعدها:﴿ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ (الحجر:50)

ومثل ذلك قوله تعالى:﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيم﴾ (الأنعام: من الآية165)

ومثله قوله تعالى:﴿ )فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (الأنعام:147)

ومثله قوله تعالى:﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ (البروج:12) ثم قوله بعدها:﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ (البروج:14)

ومثله قوله تعالى:﴿  غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (غافر:3)

بل إن هذه الآية مسبوقة بصفات الرحمة ومنتهية بها، فالطول ـ كما قال يزيد بن الأصم ـ يعني الخير الكثير، وقال عكرمة: ذي المن، وقال قتادة: ذي النعم والفواضل، والمعنى أنه المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والإنعام التي لا يطيقون القيام بشكر واحدة منها.

ثم إنه تعالى يتمدح  في أسمائه الحسنى بالعفو والمغفرة والرحمة والكرم والحلم، ويتسمى بها، ولم يتمدح بأنه المعاقب ولا الغضبان ولا المعذب ولا المسقم[196].

ثم إن الله تعالى ـ كما مر في الفصول الماضية ـ قد كتب على نفسه كتابا بأن رحمته سبقت غضبه، وهذا الكتاب لا يخلف ولا يبدل.

بل إنه تعالى رحم أهل النار، وسبقت رحمته غضبه في كل شؤونهم: رحمهم في حال شركهم بإقامة الحجة عليهم، وبدعوتهم إليه بعد أن أغضبوه وآذوا رسله وكذبوهم، وأمهلهم ولم يعاجلهم، بل وسعتهم رحمته فرحمته غلبت غضبه.

ثم إن الرسول r أخبر في حديث الشفاعة عن قول أولي العزم من الرسل:( إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) [197]، وهو تصريح بأن هذا الغضب العظيم لا يدوم.

وبما أن أهل النار إنما دخلوها بما استوجبوه من ذلك الغضب، فلذلك لو دام ذلك الغضب لدام عذابهم، إذ هو موجب ذلك الغضب، فإذا رضي الله تعالى وزال ذلك الغضب زال موجبه.

ومثل ذلك ما ورد في النصوص من أن عقوبات الدنيا العامة آثار غضب الله، فإذا استمر غضبه استمر ذلك البلاء، فإذا رضي وزال غضبه زال البلاء وخلفته الرحمة.   

ثم إن النصوص أخبرت بأن رضى الله أحب إليه من غضبه، وعفوه أحب إليه من عقوبته، ورحمته أحب إليه من عذابه، وعطاءه أحب إليه من منعه.

بل أخبرت أن الأصل هو الرضى والعفو والرحمة والعطاء، وإنما يقع ما يضادها بأسباب تناقص موجب تلك الصفات والأسماء.

ولهذا ورد في النصوص الإخبار بأن الله وتر يحب الوتر، جميل يحب الجمال، نظيف يحب النظافة، عفو يحب العفو، شكور يحب الشاكرين، عليم يحب العالمين، جواد يحب أهل الجود، حيي ستير يحب أهل الحياء والستر، صبور يحب الصابرين، رحيم يحب الرحماء.

وهو تعالى إنما يكره ما يضاد ذلك ككره الكفر والفسوق والظلم والجهل لمضادة هذه الأوصاف لأوصاف كماله الموافقة لأسمائه وصفاته، وإنما يريد تعالى هذه الأمور مع كراهيته لها لأدائها إلى ما ما يحبه ويرضاه، فهو مرادة لغيرها لا لنفسها، فلذلك إذا حصل بها ما يحبه وأدت إلى الغاية المقصودة له تعالى لم تبق مقصودة لا لنفسها ولا لغيرها فتزول ويخلفها أضدادها التي هي أحب إليه تعالى وهي موجب أسمائه وصفاته[198].

قد يقال هنا: بأن من أسماء الله ما يقتضي خلودهم في العذاب، فالعذاب صادر عن عزته وحكمته وعدله، وكل هذه أسماء حسنى، فكيف تقدم الرحمة عليها؟

والجواب عن هذا ما ذكرناه في الفصل الماضي من أسماء الله المركبة من أن الله تعالى إن أراد أن يرحم عبدا غفر له، فتكون المغفرة مقدمة للرحمة، ووسيلة لها، فلذلك كان من أسماء الله الحسنى اسم ( الغفور الرحيم)، فكذلك عزة الله وحكمته وعدله قد تقترن برحمته وجوده ومغفرته، فتكون ( عزة مقرونة برحمة، وحكمة مقرونة بجود وإحسان وعفو وصفح، فالعزة والحكمة لم يزالا ولم ينقص بل صدر جميع ما خلقه ويخلقه وأمر به ويأمر به عن عزته وحكمته) [199]

ثم إن الله تعالى بحكمته ورحمته ـ كما سنرى ـ لم يجعل العذاب مقصودا لذاته، بخلاف الرحمة والإحسان والنعيم فقد جعل مقصودة لنفسها، فالإحسان غاية والعذاب والألم وسيلة، فلا يصح قياس أحدهما على الآخر.

ثم إنه تعالى أخبر أن رحمته وسعت كل شيء، كما قال تعالى:﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً﴾ (غافر: من الآية7)، وقال تعالى:﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (لأعراف: من الآية156)

وهذه الرحمة الواسعة التي شملت كل شيء لا يستحيل أن تشمل هؤلاء المعذبين بعد انقضاء فترة طويلة على حسب ما يوجبه العدل والحكمة، وقد ورد في الحديث عن جندب بن عبد اللّه البجلي قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته، ثم عقلها ثم صلى خلف رسول اللّه r فلما صلى رسول r  أتى راحلته، فأطلق عقالها، ثم ركبها، ثم نادى:( اللهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً)، فقال رسول اللّه r:( أتقولون هذا أضل أم بعيره، ألم تسمعوا ما قال؟)، قالوا:( بلى)، قال:( لقد حظرت رحمة واسعة، إن اللّه عزَّ وجلَّ خلق مائة رحمة، فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها وبهائمها، وأخرّ عنده تسعاً وتسعين رحمة، أتقولون هو أضل أم بعيره؟)[200]

قد يقال هنا: إن الله تعالى أخبر بعد ذكره سعة رحمته أنه يكتبها للمؤمنين الذين ذكر مواصفاتهم في قوله تعالى عقب ذكر سعة رحمته:﴿ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ (لأعراف: من الآية156)، وهي بذلك رحمة خاصة بالمؤمنين لا تتسع لغيرهم.

والجواب عن هذا: إن الرحمة المكتوبة في هذه الآية هي الرحمة الخالصة، فلذلك يدخل هؤلاء المستظلون بظل هذه الرحمة إلى الجنة مباشرة من غير عقاب، أما الرحمة المقترنة بعدل أو بحكمة، فلم تنفها الآية عن غيرهم، بدليل ما تواتر من النصوص من دخول من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان الجنة مع كونه ليس منصوصا عليه في هذه الآية.

وذكر الرحمة الخاصة بعد الرحمة العامة ليس غريبا في النظم الققرآني الذي قد يستطرد من الخاص إلى العام أو العكس حسبما يقتضيه المقام.

ومن ذلك قوله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ (لأعراف:189)، فهذا استطراد من ذكر الأبوين إلى ذكر الذرية.

4 ـ من عالم الحكمة:

بعد البرهنة ععلى أن هذا القول قد يدل عليه ما نعرفه من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا وسننه تعالى في خلقه نعرج إلى عالم الحكمة، وهو عالم أعطانا الله تعالى الكثير من قوانينه، فهل يمكن انطلاقا من تلك القوانين أن نعرف المصير الأبدي لأهل جهنم؟

وقبل الجواب عن هذا السؤال، نتجرأ فنذكر السؤال الذي انطلق منه ابن القيم في الحديث عن هذه المسألة، وهو ( أي لذة وأي خير ينشأ من العذاب الشديد الدائم الذي لا ينقطع ولا يفتر عن أهله، بل أهله فيه أبد الآباد، كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها، لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم طرفة عين؟)[201] 

ومع أن هذا السؤال في منتهى الجراءة، بل قد يتصور البعض منه أنه صادر عن سوء أدب مع الله تعالى، ولكن الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم بأن يبينوا أحكام الله، ويجيبوا على خوالج الصدور، ويحببوا الله إلى خلقه يوجب طرح هذا السؤال والإجابة عنه.

وقد اختلفت أنظار المدارس الإسلامية في الإجابة على هذا السؤال الخطير:

فمنها من بادر فأنكر الحكمة، ورد الأمر إلى المشيئة المحضة التي لا سبب لها ولا غاية، وهؤلاء هم الذين جوزوا على الله أن يعذب أهل طاعته وأولياءه وينزلهم إلى أسفل الجحيم، وينعم أعداءه المشركين به ويرفعهم إلى أعلى جنات النعيم، ( وأن يدخل النار من شاء بغير سبب ولا عمل أصلا، وأن يفاوت بين أهلها مع مساويهم في الأعمال ويسوي بينهم في العذاب مع تفاوتهم في الاعمال، وأن يعذب الرجل بذنب غيره، وأن يبطل حسناته كلها فلا يثيبه بها أو يثيت بها غيره وكل ذلك جائز عليه لا يعلم أنه لا يفعله إلا خبر صادق إذ نسبه ذلك وضده إليه على حد سواء) [202]

وهؤلاء تصوروا أن مجرد إرجاع الأمر إلى المشيئة كاف في الإجابة، استنادا إلى قوله تعالى:﴿ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (الانبياء:23)

وهذه الإجابة مع تقريرها للتوحيد إلا أنها غفلت عن عالم الحكمة الإلهية، ولذلك آثاره الخطيرة على معرفة الله أو السلوك إليه، فمعرفة الله تستدعي تكامل المعرفة لا الاقتصار على بعض جوانبها، والسلوك تبع للمعرفة، وثمرة شجرتها.

ومقابل هؤلاء مثبتو الحكمة الغافلون عن التوحيد، وهؤلاء ( أوجبوا على الله سبحانه تخليد من أفنى عمره في طاعته، ثم ارتكب كبيرة واحدة ومات مصرا عليها في النار مع أعدائه الكفار أبد الآباد، ولم يرقبوا له طاعة ولم يرعوا له إسلاما) [203]

ومقابل هذين ظهر من وصف نفسه بالحكمة، فنفى كل ما ورد عن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ من العقاب، وتصور أن كل ذلك مجرد ( تخويف وتخييل لا حقيقة له يزرع النفوس السبعية والبهيمية عن عدوانها وشهواتها فتقوم بذلك مصلحة الوجود) [204]

بعد هذه الأجوبة المختلفة المتناقضة نتساءل عن الجواب الصحيح الذي تدل عليه النصوص:

وأول ما نستلهمه من النصوص الكثيرة هو أن الغاية من كل ما شرعه الله تعالى من العقوبات أو أخبر عنه هو لتهذيب النفوس وتصفيتها من الشر الذي فيها، ولحصول مصلحة الزجر والاتعاظ وفطما للنفوس عن المعاودة.

فإذا لم تنتج العقوبة هذه المصالح لم يعتبرها الشرع، ولم يعاقب بها، ( إنه تعذيب عليم حكيم رحيم لا يعذب سدى ولا لنفع يعود إليه بالتعذيب، بل كلا الأمرين محال)

ولهذا ورد في النصوص أن الغرض من دخول النار هو التطهير والتطييب لأن الجنة لا يدخلها إلا الطيبون، كما قال تعالى:﴿ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ (الزمر: من الآية73)

وقد ورد في الحديث قوله r:( يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة) [205]

وفي الحديث الموقوف عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال:( لا يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع اللّه ما في صدره من غل حتى ينزع منه مثل السبع الضاري)

وهذا يدل على أن في العذاب المعد لأهل جهنم خاصية تطهير الروح وتطييبها، وأن المكث في جهنم بحسب استعداد الروح للطيبة والتطهير.

وربما نستشف هذا المعنى من الحديث الذي قال فيه r:(  إن عبداً في جهنم لينادي ألف سنة: يا حنان يا منان، فيقول اللّه عزَّ وجلَّ لجبريل اذهب فأتني بعبدي هذا، فينطلق جبريل، فيجد أهل النار مكبين يبكون، فيرجع إلى ربه عزَّ وجلَّ فيخبره، فيقول اللّه عزَّ وجلَّ: ائتني به فإنه في مكان كذا وكذا، فيجيء به، فيوقفه على ربه عزَّ وجلَّ، فيقول له: يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل، فيقول اللّه عزَّ وجلَّ: ردوا عبدي، فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها، فيقول اللّه عزَّ وجلَّ: دعوا عبدي) [206]

ففي هذا الحديث إشارة جليلة إلى أن هذا العبد قد تطيبت روحه وتطهرت وحسن ظنه بربه، فاستحق بذلك أن يخرج من العذاب.

وفي حديث آخر قريب من هذا قال رسول اللّه r:( إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول: نحّوا عنه كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا، كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئاً، فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها ههنا)، قال: فضحك رسول اللّه r حتى بدت نواجذه[207].

فهذا الحديث يشير إلى أن هذا الرجل قد هذب وأدب إلى أن صار يعترف بذنوبه وينبه إلينا.

ولو وضعنا في أذهاننا صورة ذلك الرجل الذي كان يجادل الله والملائكة وجميع الشهود ويحاول أن يخدعهم إلى أن نطقت جوارحه، وطبقناه على هذا الذي هذب بنيران العقوبة، فصار يعترف وحده لرأينا مدى الحكمة التي ينطوي عليها العذاب الذي قدره الله في جهنم.

قد يقال بعد هذا: إن هذا المعنى الصحيح، وهو ما دلت عليه النصوص من خروج الموحدين أو من كان في قلبه ذرة من الإيمان من النار ودخوله الجنة، لأن تلك البذرة ستنبت في جهنم شجرة الإيمان التي تؤهله لدخول الجنة، ولكن الشأن فيمن لا يملك تلك البذرة أصلا، أي أن فطرته الأصلية فطرة شر محض لا تقبل التطهير.

والجواب عن هذا بأن الله تعالى الحكيم تنزه عن الباطل والعبث، فأدلة النصوص والأكوان كلها تبرهن بآلاف الأدلة على أنه تعالى ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ﴾ (الأنعام: من الآية73) وأنه تعالى لم يخلق شيئا عبثا ولا سدى ولا باطلا، كما قال تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ (صّ:27)،وقال العارفون بالله:﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً ﴾ (آل عمران: من الآية191)

فلذلك فإن كل ما نراه من الأفعال والموجودات يستند إلى الحق فهو ( وصفه واسمه وقوله وفعله، وهو سبحانه الحق المبين، فلا يصدر عنه إلا حق، ولا يقول إلا حقا، ولا يفعل إلا حقا، ولا يأمر الا بالحق، ولا يجازي إلا بحق، فالباطل لا يضاف إليه، بل بالباطل ما لم يضف إليه، كالحكم الباطل والدين الباطل الذي لم يأذن فيه ولم يشرعه على ألسنة رسله، والمعبود الباطل الذي لا يستحق العبادة، وليس أهلا لها فعبادته باطلة ودعوته باطلة، والقول الباطل هو الكذب والزور والمحال من القول الذي لا يتعلق بحق موجود بل متعلقه باطل لا حقيقة له) [208]

وانطلاقا من هذا فإن الغاية من خلق الخلق كما ذكرنا في الأبواب السالفة هو عبادته التي تعني معرفته ومحبته، كما قال تعالى:﴿  وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذريات:56)

وقد فطر الله الخلق على هذه المعرفة والمحبة، كما قال r:( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء) [209]

فالأصل في الفطر البشري هو الطهارة، والفساد والانحراف عارض لها كما قال r:( يقول اللّه تعالى إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم على دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً) [210]

ولذلك أرسل الله تعالى الرسل لتقويم الفطرة وتكميلها، فمن الخلق ( من استجاب لهم كل الاستجابة وانقاد إليهم كل الانقياد، فرجعت فطرته إلى ما كانت عليه مع ما حصل لها من الكمال والتمام في قوتي العلم النافع والعمل الصالح، فازدادت فطرتهم كمالا إلى كمالها، وهؤلاء لا يحتاجون في المعاد إلى تهذيب وتأديب ونار تذيب فضلاتهم الخبيثة وتطهرهم من الأردن والأوساخ، فإن انقيادهم للرسل أزال عنهم ذلك كله) [211]

ومنهم من استجاب لهم، ولم تكمل استجابته، بل بقيت فيه بقية من الأدران والأوساخ التي تنافي الفطرة التي فطروا عليها، والغاية التي خلقوا من أجلها، فلذلك هيأ لهم الله تعالى بعلمه وحكمته ( من الأدوية الابتلاء والامتحان بحسب تلك الأدواء التي قامت بهم، فإن وفت بالخلاص منها في هذه الدار، وإلا ففي البرزخ، فإن وفى بالخلاص وإلا ففي موقف القيامة وأهوالها ما يخلصهم من تلك البقية، فإن وفى بها، وإلا فلا بد من المداواة بالدواء الأعظم، وآخر الطب الكي فيدخلون كير التمحيص والتخليص، حتى إذا هذبوا ولم يبق للدواء فائدة أخرجوا من مارستان المرضى إلى دار أهل العافية)

وعلى كل هذا دلت النصوص التي ذكرناها في محالها.

ومن البشر من لم يستجيبوا للرسل ـ عليهم السلام ـ وخرجوا عن الفطرة، ولم يرجعوا إليها، واستحكم فسادها أتم استحكام، فهؤلاء لا تفي جميع البلايا التي يمرون بها من مصائب الموت وما بعده وأهوال القيامة وما بعده من تطهيرهم من أوساخهم،ومما لحق فطرهم، فلذلك بحكمة العليم الحكيم أن يجاور بهم الطيبين في دارهم.

وفي نفس الوقت لم يخلقهم الله للفناء، فلذلك تقتضي رحمة الله المقرونة بحكمته أن يعالجوا في دار الابتلاء والامتحان، فيتركون فيها الآباد الطويلة إلى أن يزول ما فيهم من درن الكفر والشرك.

بل إن النار والعذاب في الحقيقة ليس إلا صورا متشكلة من أعمالهم وذنوبهم، كما قال r في الحديث القدسي:( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) [212]، فلذلك يستمر عذابهم قدر ما يبقى معهم من حقائق تلك الأعمال وما تولد منهما، فما دامت موجبات العذاب باقية فالعذاب باق.

قد يقال هنا: فالعذاب إذن لن يفارقهم، ولن يفارقوه لأن فطرهم أصبحت شرا محضا، والشر المحض يستحيل أن يتحول إلى خير محض، وإلا انقلبت حقائق الأشياء.

والجواب عن هذا: إن الشر المحض يستحيل وجوده في هذا الكون ـ كما بينا سابقا ـ لأن كل ما نتوهمه أو نراه من شر قد يكون خيرا متلبسا بصورة شر، أو شرا انحرف عن مساره مع بقاء أصل الخيرية فيه.

ولهذا خلق الله تعالى ما نراه من الدواب الشريرة، أوالأفعال التي هي شر لما يترتب على خلقها من الخير المحبوب ( فلم يخلق لمجرد الشر الذي لا يستلزم خيرا بوجه ما) 

فالخير هو المقصود من الخلق، والشر إنما قصد قصد الوسائل والمبادئ لا قصد الغايات والنهايات، فإذا حصلت الغاية المقصودة بخلقه بطل وزال، كما تبطل الوسائل عند الانتهاء إلى غاياتها كما هو معلوم بالحس والعقل.

وبناء على هذا، فإن العذاب شر وله غاية تطلب به، وهو وسيلة إليها، فإذا حصلت غايته انتفى وجوده وارتفعت الحاجة إليه.

وانطلاقا من هذا، فإن هذه الفطر مع انحرافها الشديد، يمكن أن تعود بالعلاج الشديد إلى أصل الفطرة، فالفطرة لم تذهب بالكلية، وإنما أصابها مرض عضال قد يؤثر في علاجه ما ينزل على صاحبها من أنواع البلاء.

وقد ورد في النصوص ما يدل على تأثير البلاء في تطهي الفطرة وتقويمها، كما قال تعالى:﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (السجدة:21)، فأخبر تعالى أنه يعذبهم رحمة بهم ليردهم العذاب إليه كما يعذب الأب الشفيق ولده إذا فر منه إلى عدوه ليرجع إلى بره وكرامته.

وبين الله تعالى سنته في ذلك بقوله تعالى:﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾ (النساء:147)

وهذه الآية ـ التي جمعت قانون الله في الثواب والعقاب ـ دليل على أن الحكمة تقتضي كون العذاب مصلحة مؤقتة تقتضيها الرحمة المقترنة بالحكمة، يقول سيد قطب مبينا جمال هذه السنة مقارنة بما تحفل به الديانات الأخرى من وثنية:( وأخيرا تجيء تلك اللمسة العجيبة، الموحية المؤثرة العميقة..أخيرا بعد ذكر العقاب المفزع، والأجر العظيم..لتشعر قلوب البشر أن الله في غنى عن عذاب العباد. فما به - سبحانه - من نقمة ذاتية عليهم يصب عليهم من أجلها العذاب. وما به - سبحانه - من حاجة لاظهار سلطانه وقوته عن هذا الطريق. وما به - سبحانه - من رغبة ذاتية في عذاب الناس. كما تحفل أساطير الوثنية كلها بمثل هذه التصورات..وإنما هو صلاح العباد بالإيمان والشكر لله..مع تحبيبهم في الإيمان والشكر لله. وهو الذي يشكر صالح العمل ويعلم خبايا النفوس) [213]

ومن النصوص الدالة على هذا المعنى كذلك قوله تعالى:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (التوبة: من الآية120)، فقد أخبر تعالى أن يكتب لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالاً صالحة وثواباً جزيلاً.

ومنها قوله تعالى:﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران:141)، فأخبر تعالى أن ألم القتل والجراح في سبيله تمحيص وتطهير وتصفية للمؤمنين.

ومن الحديث روي أنه لما نزل قوله تعالى:﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾ (النساء:123) شق ذلك على كثير من الصحابة y، حتى أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ قال: يا رسول اللّه كيف الفلاح بعد هذه الآية ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾ (النساء:123)، فكل سوء عملناه جُزيناه به)، فقال النبي r:( غفر اللّه لك يا أبا بكر ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تصيبك اللأواء؟)، قال:( بلى)، قال:( فهو مما تجزون به)

فهذا الحديث يدل على أن القصد من كل ذلك البلاء الذي قد يتوهم أنه شر هو محو آثار الخطيئة من النفس، ومن سجلات الملائكة.

وفي رواية أخرى دلالة أكثر على هذا المعنى حيث قال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ:( كنت عند النبي r فنزلت هذه الآية:﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (، فقال رسول اللّه r:( يا ابا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ)، قلت:( بلى يا رسول اللّه)، قال:( فأقرأنيها فلا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها، فقال رسول اللّه r:( مالك يا أبا بكر؟)، قلت:( بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، وأينا لم يعلم السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟)، فقال رسول اللّه r:(  أما أنت يا أبا بكر واصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا اللّه ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة) [214]

وينص على هذا المعنى قوله تعالى:﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ (الشورى:30)، وفي هذا تبشير وتحذير، تبشير بالتطهير من الذنوب بالمصائب، وتحذير بالمصائب من المعاصي، فالعدل يقتضي الجزاء، والرحمة تقتضي التطهير.

ولهذا ورد في النصوص الإخبار بأن من عوقب عن ذنب في الدنيا بأنه لا يعاقب عليه في الآخرة، كما ورد في الحديث الشريف عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال:( ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثني بها رسول الله r: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ (الشورى:30) قال لي رسول الله r:( سأفسرها لك يا علي، ما أصابكم في الدنيا من بلاء أو مرض أو عقوبة فالله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم)، وفي لفظ:( أجل من أن يعود بعد عفوه) [215]

وفي حديث آخر قال r:( من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب به فالله أعدل أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستر الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه) [216]

ويستوي في هذا العقوبات التشريعية والقدرية، ولهذا قال r في العقوبات التشريعية:( من أصاب منكم ذنبا مما نهى الله عنه فأقيم عليه حده فهو كفارة ذنبه)[217]، وقال r:( أيما عبد أصاب شيئا مما نهى الله عنه ثم أقيم عليه[حده] كفر عنه ذلك الذنب) [218]

وقال r عن العقوبات القدرية:( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه) [219]، وقال r:( لا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة) [220]، وأخبر r  أن الحمى تنفي الذنوب كما ينفي الكير الخبيث الحديد[221]، وفي حديث آخر قال r:( لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم) [222]

وسرهذا أن هذا البلاء النازل يكسر سورة النفس وكبرياءها، ويجعلها أهلا لتنزل الرحمة الإلهية، ولهذا ورد في الحديث ما يشير إلى هذا المعنى، بل يكاد يصرح به، حيث قال r في الحديث القدسي:( إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني؟ قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين! قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني؟ قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه! أما علمت لو أنك أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني؟ قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي) [223]

ففي هذا الحديث إشارة، بل تصريح إلى أن الله تعالى عند المبتلى رحمة منه له وخيرا وقربا منه لانكسار قلبه بالمرض، فإنه عند المنكسرة قلوبهم.

ووجه الاستدلال بهذه النصوص واضح، وهو أن قانون العقوبات أو التمحيص الإلهي واحد في الدنيا والآخرة، ورب الدنيا والآخرة واحد، وحكمته ورحمته موجودة في الدنيا والآخرة، بل إن النصوص تخبر بأن رحمته في الآخرة أكثر ظهورا من رحمته في الدنيا.

ولهذا، فإن بقاء الخلق في النار مؤمنهم وغير مؤمنهم تابع لنوع ما في نفوسهم من أوزار وذنوب، وهي مختلفة اختلافا شديدا، وتبعا لاختلافها يكون استمرار بقائهم في النار.

ولهذا ورد في النصوص الإخبار بأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالى:﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا﴾ (النساء:145) قال ابن عباس: أي في أسفل النار.

وسر ذلك أن نفوسهم المطاطة المرنة المتحولة يصعب عليها أن تنتقل من حالة الانحراف إلى حالة الاستقامة إلا بعد تطهير طويل عميق.

وهذا بخلاف من خفف عليه العذاب كمن أخبر r عنه بأنه في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، فإنه سرعان ما تتطهر فطرته ليعود إلى عالم السعادة المحضة التي خلق لها.

بعد هذا.

قد يقال: فلماذا لا يغفر لهم مباشرة، ويدخلون الجنة من غير مقاساة للعذاب، فتغلب الرحمة الغضب.

والجواب عن هذا: إن العدل الإلهي يقتضي المجازاة، كما أن الرحمة الإلهية تقتضي الإحسان، فكان الجمع بينهما، وهو الاسم المركب منهما يقتضي إصلاح هذه النفوس لتصلح للرحمة الإلهية.

***

قد يقال بعد هذا: فلماذا يمتد العذاب كل تلك الأحقاب الطويلة، ألا يتناقض هذا مع الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء؟

والجواب عن هذا من جهتين:

الأول: إن تلك الأحقاب الطويلة التي ذكرناها لا تساوي شيئا أمام الأبد، بل إنها بالتعبير الرياضي تؤول إلى الصفر بالمقارنة مع اللانهاية، فلذلك لا ينشغل بالزمن إلا المقيد بقيود الزمن، أما أفعال الله، فهي خارجة عن هذه القيود، ولذلك تحتار عقولنا المحدودة عندما نسمع بتلك الأيام الطويلة للآخرة.

ولذلك عبر تعالى عن قرب القيامة بأنه أتى، كما قال تعالى:﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (النحل:1) أو بأنه قريب، كما قال تعالى:﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ (الانبياء:1)

وقد ورد في الحديث الشريف أن رسول اللّه r خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا سف يسير فقال:( والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه وما نرى من الشمس إلا يسيراً) [224]، بل قال r:(  بعثت أنا والساعة هكذا)، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى[225]، وفي لفظ آخر:( بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقني) وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى[226].

ومع ذلك، فقد مر على هذا الكلام أكثر من أربعة عشر قرنا، ولعل أجل الآخرة لا يزال ممتدا قرونا أخرى.

وقد أجاب النورسي عن شبهة القول باقتراب الساعة مع عدم وقوعها بعد كل تلك السنين بقوله:( نفهم من هذا أن القرب المذكور في الآية الكريمة لا يناقضه مرور ألف سنة ونيف، اذ الساعة اجل الدنيا. وما نسبة ألف سنة أو ألفين من السنين الى عمر الدنيا الاّ كنسبة يومٍ أو يومين أو دقيقة ودقيقتين الى سني العمر، وكذلك ينبغي ألا يغيب عن بالنا أن يوم القيامة ليس أجل الانسانية فحسب حتى يقاس قربه وبعده بمقياس عمرها، بل هو أجل الكائنات والسماوات والارض ذات الاعمار المهولة التي تندّ عن القياس والحساب) [227]

والثاني: أن قوانين الحكمة الإلهية في عالم المادة تتطلب ـ أحيانا ـ ملايين السنين، بل ملايير السنين لتحقق شيء ما، فالكون الذي نراه بصورته الحالية هو نتيجة تطور دام ملايير السنين، ولهذا، فإن القيامة تقوم على الكون، وهو في أوج كماله، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (يونس:24)

فالآية الكريمة أشارت إلى أن الحياة الدنيا باكتمالها تبدأ النشأة الأخرى، فكمال النشأة الأولى مقدمة النشأة الثانية، كما أن كمال مرحلة الصبا يكون بداية لمرحلة البلوغ.

وقوانين المادة تذكر السنين الطويلة لتشكيل الذرة، ثم مثلها لتشكيل الجزيئات، ثم المركبات، ثم الحياة بالصورة البدائية، ثم الحياة بالصورة المتطورة.

فلا يبعد أن تكون قوانين الحكمة الإلهية في عالم المادة هي نفس قوانين عالم الروح مع اختلاف ما تحتاجه الروح عما تحتاجه.

ومما يقوي هذا أن الله تعالى ربط مصير الكفار في جهنم بعمر السموات والأرض، كما قال تعالى:﴿  فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ (هود:107)

وقد نتجرأ هنا ـ مستغفرين الله تعالى أن نقول ما ليس لنا به علم ـ بأنه قد يكون في قوله تعالى:﴿ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾ إشارة إلى أن مدة لبث الكافرين في جهنم هي نفس المدة التي هي عمر الكون قبل قيام الساعة، لأنه بقيام الساعة ينهار الكون لينشأ نشأة أخرى، كما قال تعالى:﴿  يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ (ابراهيم:48)

ومما يقوي هذه الإشارة من أقوال السلف ما ذكره الحسن البصري في قوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً﴾ (الفرقان:65) فقد قال في هذه الآية:( كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام اللازم ما دامت الأرض والسماوات) [228]

والذي يقوي هذه الإشارة هو أن العلماء المعاصرين توصلوا إلى أن عمر الكون يتراوح بين 13000 مليون إلى 20000 مليون عام.

وهذا المجال الرقمي يدخل فيه ما نص عليه السلف من تفسير السنين التي تتكون منها الأحقاب، التي هي بنص القرآن الكريم مدة لبث الكفار في جهنم، فقد ذكر السدي أن عدد الأحقاب سبعمائة حقب، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلثمائة وستون يوماً، كل يوم كألف سنة مما تعدون) ومدة مكث أهل النار بحسب هذا العد تصل إلى سبعة عشر مليارا وسبعمئة وأربعة وستين مليونا [17640000000]

ويرتفع عدد السنين على حسب ما في رواية علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ إلى عشرين مليارا ومئة وستين مليونا [ 20160000000 ]

بل إن هناك إشارة قرآنية أشار إليها بعض الباحثين تتعلق بهذا، خلاصتها أن القرآن الكريم ذكر في كثير من آياتـه أن الله تعالى خلق الكون في ستـة أيام كمـا في قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (قّ:38)

ولا شك في أن أن أن أن المقصود بالأيام في هذه الآيات مراحل أو حقب زمنية لخلق الكون، و ليست الأيام التي نعدها نحن البشر، بدليل عدم وجود عبارة (مم تعدون) في جميع الآيات التي تتحدث عن الأيام الستة للخلق.

وطبقا لقوله تعالى:﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)﴾ (السجدة)، فإن الأيام الستة للخلق قسمت ـ كما أجمع المفسرون ـ إلى ثلاثة أقسام متساوية كل قسم يعادل يومين من أيام الخلق بالمفهوم النسبي للزمن:

أولاً: يومان لخلق الأرض من السماء الدخانية الأولى ﴿ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)(فصلت: من الآية9)، ويقول تعالى:﴿)أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) (الانبياء:30)

ثانياً: يومان لتسوية السماوات السبع، كما قال تعالى:﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:11)، وهذا يشير إلى الحال الدخانية للسماء بعد الانفجار الكوني العظيم بيومين حيث بدأ تشكل السماوات، فقضاهن سبع سماوات في يومين.

ثالثاً: يومان لتدبير الأرض جيولوجياً و تسخيرها للإنسان، كما قال تعالى:﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) (فصلت:10)، مما يشير إلى جبال نيزكية سقطت واستقرت في البداية على قشرة الأرض فور تصلبها بدليل قوله ﴿ مِنْ فَوْقِهَا ﴾

وقوله تعالى:﴿ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ أي تمام أربعة أيام كاملة متساوية بلا زيادة ولا نقصان للسائلين من البشر عن مدة خلقها وما فيها.

ويرى جميع المفسرين أن هذه الأيام الأربعة تشمل يومي خلق الأرض ويومي التدبير الجيولوجي لها، و يتضح مما سبق:

1 ـ تساوي الأيام زمنياً و إلا لما أمكن جمعها و تقسيمها إلى ثلاثة مراحل متساوية.

2 ـ التدبير الجيولوجي للأرض حتى وصول السائلين (الإنسان)  استغرق يومين من أيام الخلق الستة أي أستغرق ثلث عمر الكون.

و حيث أن التدبير الجيولوجي للأرض منذ بدء تصلب القشرة الأرضية وحتى ظهور الإنسان قد استغرق زمناً قدره 4.5 مليار سنة طبقاً لدراسة عمر الأرض إذاً عمر الكون =4،5 مضروبا في 3= 13،5 مليار سنة.

وهذا الرقم يقارب ما توصلت إليه وكالة الفضاء الأمريكية ناسا مؤخراً، وذلك باستخدام مكوك فضائي مزود  بمجسات متطورة جداً لدراسة الكون حيث قدرت عمر الكون بـ 13،7 مليار سنة[229].

* * *

 

 فالله تعالى قد أرجع بعد مرور لبث الفريقين من أهل الجنة والنار إلى مشيئته، أما أهل الجنة، فأخبر بأن عطاءهم بعدها غير مجذوذ، أي غير مقطوع، بينما أخبر بأن الأمر مع الكفار موكول إلى إرادته.

فلعل الكفار بعد بلوغ هذه الدة يتحولون إلى نشأة أخرى بحيث تتحول طبيعتهم إلى التنعم بما نراه عذابا، كما تنعم إبراهيم u بالنار التي صارت عليه بردا وسلاما.

أو أنهم بعد تحولهم إلى النشأة الأخرى يصيرون إلى الجنة، فيتنعمون بعطاء الله غير المجذوذ.

وقد أشار ابن القيم إلى هذا بقوله:( الحكمة لا تقتضي دوام عذابهم بدوام بقائه سبحانه، وهو لم يخبر أنه خلقهم لذلك، وإنما يعذبون لغاية محمودة إذا حصلت حصل المقصود من عذابهم، وهو سبحانه لا يعذب خلقه سدى، وهو قادر على أن ينشئهم بعد العذاب الطويل نشأة أخرى مجردة عن تلك الشرور والخبائث التي كانت في نفوسهم، وقد أزالها طول العذاب، فإنهم خلقوا قابلين للخير على الفطرة، وهذا القبول لازم لخلقتهم، وبه أقروا بصانعهم وفاطرهم، وإنما طرأ عليه ما أبطل مقتضاه، فإذا زال ذلك الطارئ بالعذاب الطويل بقي أصل القبول بلا معارض) [230]

وفي هذه الحالة، وبعد تبدل النشأة فإن الكفار لو ردوا لما عادوا لما نهوا عنه، لأن قوله تعالى:﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه﴾ (الأنعام: من الآية28)  كان قبل مثابرتهم للعذاب، كما قال تعالى قبلها:﴿  وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنعام:27)، ثم قال بعدها:﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ (الأنعام:28)، فلم يخبر تعالى أنه لو ردهم بعد العذاب الطويل السرمدي لعادوا لما نهوا عنه.

* * *

بعد إدراكنا للأدلة الكثيرة المخبرة عن تغلب الرحمة على الغضب، وأن الحكمة تقتضي عدم استمرار العذاب، فما الحال التي يؤول إليها هؤلاء؟

هل يساكنون الجنة مع المؤمنين، مع أن المؤمنين تقربوا إلى الله ببغضهم، ووالوا الله بعداوتهم؟

أم تحول لهم جهنم جنة كجنة المؤمنين، فيتنعمون فيها كما يتنعم المؤمنون؟

أم تصبح لهم القابلية للتنعم بالعذاب، كما يتنعم غيرهم بالنعيم؟

أو أن الأمر يختلف باختلاف طبائعهم ورغباتهم؟

أم أن هناك أمورا أخرى قد لا ندرك بعقولنا البسيطة حقائقها؟

والجواب عن هذا: أن الله تعالى رد الأمر إلى مشيئته، وكل ذلك ممكن، ولكن إعمالا لجميع النصوص نرى أن الممعنين في الكفر لا يخرجون من النار، بل تبدل نشأتهم لتتنعم بالعذاب كما يتنعم غيرهم بالنعيم، وليس في ذلك أي استحالة على القدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء.

والذي دعانا إلى هذا هو ما دل من النصوص على أن الكفار لا يخرجون من النار، كما قال تعالى:﴿  وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ (البقرة:167)، وقال تعالى:﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ (المائدة:37)، وقال تعالى:﴿  كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (الحج:22)،، وقال تعالى:﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ (السجدة:20)

ومثل ذلك ما ورد من أنهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، كما قال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ (لأعراف:40)

وبذلك لا نقول بفناء النار، بل إنها كسائر خلق الله لم يرد في النصوص ما يدل على فنائها.

بل ولا نقول بفناء العذاب، وإنما نقول بأن الله تعالى برحمته يحيل العذاب عليهم نعيما مقيما قد لا يقل عن نعيم أهل الجنة.

وقد نستغرب هذا، أو نضحك منه، ولكن التخلص من قيود الطبع يدل على أن العبرة في الأشياء لا بالأشياء وإنما بالذائقين لها، فقد يكون الطعام مرا ممقوتا عند البعض، وهو أكلة شهية عند آخرين، بل إن هناك ممن شذت نفسه فاستعذب العذاب واستحلى القسوة وصار ذلك طبعا فيه لا ينفك عنه، فتكون رحمة هؤلاء في توفير ما تستلزمه طبائعهم.

والجمع بين هذا القول وما ورد في الخلود قد يخفف الكثير من الطعون التي ووجه بها ابن تيمية وابن القيم ـ رحمهما الله ـ مع أن الأمر في الأخير يرجع إلى مشيئة الله التي لا يحدها شيء، كما قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في تفسير قوله تعالى:﴿  خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ (هود:107):( لا ينبغي لأحد ان يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا)

 



([1])  رواه البخاري.

([2])  رواه البخاري ومسلم.

([3])  رواه البخاري ومسلم.

([4])  رواه البخاري.

([5])  رواه أحمد.

([6])  رواه الحكيم والبيهقي.

([7])  رواه الترمذي.

([8])  المقصد الأسنى:62.

([9])  الإحياء.

([10])  رواه أحمد الطبراني في الكبير وفيه عبيد الله بن زحر وهو ضعيف.

([11])  رواه أحمد ومسلم.

([12])  رواه الترمذي، وقال: غريب.

([13])  رواه أبو داود والحاكم.

([14])  رواه البغوي.

([15])  رواه البخاري.

([16])  رواه أحمد وفيه ابن لهيعة.

([17])  رواه البيهقي.

([18])  رواه مسلم.

([19])  رواه مسلم.

([20])  مدارج السالكين:1/512.

([21])  قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد.

([22])  الإحياء.

([23])  الإحياء.

([24])  إيثار الحق على الخلق: 357.

([25])  رواه البخاري ومسلم.

([26])  الفوائد: 125.

([27])  الفوائد: 126.

([28])  قال عكرمة:« ذي الطول: ذي المن »، قال الجوهري:« والطول بالفتح المن؛ يقال منه طال عليه وتطول عليه إذا امتن عليه »، وقال محمد بن كعب:« ذي الطول: ذي التفضل»، وقال الماوردي:« والفرق بين المن والتفضل أن المن عفو عن ذنب. والتفضل إحسان غير مستحق. والطول مأخوذ من الطول كأنه طال بإنعامه على غيره. وقيل: لأنه طالت مدة إنعامه.

([29])  رواه الحاكم.

([30])  الكلمة العاشرة، النورسي.

([31])  رواه أحمد ومسلم.

([32])  طريق الهجرتين:166.

([33])  رواه البخاري ومسلم.

([34])  الكلمة السادسة والعشرون، رسالة القدر، النورسي.

([35])  الفوائد: 35.

([36])  رواه الخرائطي في مساوي الاخلاق، والحاكم في تاريخه وأبو نعيم عن أنس، والديلمي عن أبي سعيد.

([37])  طريق الهجرتين: 271.

([38])  الديلمي في مسند الفردوس.

([39])  طريق الهجرتين:271.

([40])  طريق الهجرتين:201.

([41])  اللمعة الثالثة عشر، النورسي.

([42])  طريق الهجرتين:202.

([43])  طريق الهجرتين:202.

([44])  طريق الهجرتين:202.

([45])  ذكر العلماء بعض مظاهر انطواء العوالم في الإنسان،ومنها:

أن فيه من صفات الملائكة العقل والمعرفة والعبادة.

ومن صفات الشيطان الإغواء والتمرد والطغيان.

ومن صفات الحيوانات أنه في حالة الغضب يكون أسداً، وفي حالة غلبة الشهوة يكون خنزيراً لا يبالي أين يلقي نفسه، في حالة الحرص على الدنيا والشره يكون كلباً، وفي حالة الاحتيال والخداع يكون ذئباً.

ومن صفات النبات والأشجار أنه يكون في مبدئه غصناً طرياً مترعرعاً وفي آخره يابساً أسود.

ومن صفات السماء أنه محل الأسرار والأنوار ومجمع الملائكة.

ومن صفات الأرض أنه محل لبنات الأخلاق والطباع، ومنه اللين والخشن.

ومن صفات العرش أن قلبه محل التجلي.

ومن صفات اللوح أنه خزانة العلوم.

ومن صفات الجنة إنه إذا حسنت أخلاقه تنعم به جليسه.

ومن صفات النار أنه إذا قبحت أخلاقه احترق به جليسه.

([46])  رواه البخاري ومسلم.

([47])  انظر في تفاصيل هذا رسالة (رقية الروح) من مجموعة (ابتسامة الأنين) من (رسائل السلام)

([48])  الإحياء.

([49])  الإحياء.

([50])  الكلمة الثالثة.

([51])  الكلمة السادسة والعشرون.

([52])  الفوائد: 42.

([53])  ذكرنا تخريج هذه الأحاديث ونصوصها في الفصل الأول من هذه الرسالة.

([54])  الكلمة الرابعة والعشرون، النورسي.

([55])  الكلمة الرابعة والعشرون، النورسي.

([56])  مدارج السالكين:1/428.

([57]) 

([58])  مدارج السالكين: 1/431.

([59])  وهذا المذهب له وجوه من الحقيقة تدل عليه، فالأطفال والبهائم لا تدرك الآلام حسبما يدركها العقلاءُ، فإن العاقل إذا أدرك تأَلم جوارحه وأَحس به تأْلم قلبه وطال حزنه وكثر هم روحه وغمها واشتدت فكرته فى ذلك وفى الأسباب الجالبة له والأسباب الدافعة له، وهذه الآلام زائدة على مجرد أَلم الطبيعة، ولا ريب أن البهائم والأطفال لا تحصل لها تلك الآلام كما يحصل للعاقل المميز، فإن أَراد القوم هذا فهم مصيبون، وإن أرادوا أنه لا شعور لها بالآلام البتة وأنها لا تحس بها فمكابرة ظاهرة، فإن الواحد منا يعلم باضطرار أَنه كان يتألم فى طفولته بمس النار له وبالضرب وغير ذلك. انظر: طريق الهجرتين: 249.

([60])  رواه الترمذي والنسائي وابن حبان.

([61])  رواه ابن ابى الدنيا في كتاب الاولياء والحكيم وابن مردوديه وأبو نعيم في الاسماء وابن عساكر عن انس.

([62])  نرى أن الجواب لمثل هذا الإشكال هو أن الله تعالى برحمته أعطى كل شخص من الرحمة ما يتناسب معه، فلذلك لا يطلب غيرها، كما أن الصبي لو عوض بلعبته قناطير الذهب والفضة لم يقبل.

وبناء على هذا، فإن هذه المسألة تقف في بدايتها، لأن سؤال الصبي مستحيل.. وما دام مستحيلا.. فلن تكون المسألة بهذه الصفة.

يضاف إلى هذا ما ذكرناه من قبل في مسألة امتحان غير المكلفين.. فالعدل الإلهي يقتضي أن لا يدخل الجنة إلا الطيبون.

([63])  رواه البخاري ومسلم.

([64])  رواه البخاري.

([65])  الكلمة السادسة والعشرون، النورسي.

([66])  الكلمة السادسة والعشرون، النورسي.

([67])  انظر هذه النصوص في: الدر المنثور:8/429.

([68])  الإحياء.

([69])  الإحياء.

([70])  رواه أحمد ومسلم والترمذي.

([71])  رواه البخاري ومسلم.

([72])  رواه الطبراني بإسناد حسن الترمذي رجاله.

([73])  رواه البخاري ومسلم.

([74])  تفسير ابن كثير: 6/365.

([75])  رواه الترمذي.

([76])  رواه الترمذي وابن مردويه.

([77])  رواه أحمد والطبراني في الكبير.

([78])  رواه مسلم وأبو داود.

([79])  رواه البخاري وابن جرير وابن مردويه.

([80])  رواه الطبراني في الكبير.

([81])  رواه أحمد والطبراني في الكبير والبيهقي.

([82])  رواه البيهقي وأبو سعيد النقاش في معجمه وابن النجار عن أنس.

([83])  رواه أحمد ومسلم والنسائي.

([84])  رواه ابن عساكر عن عمر، والشيرازي في الالقاب والرافعي عن ابن عمر.

([85])  رواه الطبراني في الكبير.

([86])  رواه ابن حبان والحاكم.

([87])  رواه العقيلي في الضعفاء.

([88])  رواه مسلم.

([89])  رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان.

([90])  رواه البخاري ومسلم.

([91])  رواه ابن ماجة.

([92])  رواه الترمذي وابن حبان.

([93])  رواه أحمد وابن ماجة.

([94])  رواه أحمد وأبو داود والحاكم.

([95])  رواه البخاري.

([96])  رواه ابن أبي شيبة وأحمد وابن حبان والطبراني.

([97])  رواه ابن جرير.

([98])  رواه الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والضياء المقدسي في صفة الجنة وحسنه عن عائشة.

([99])  رواه أبو صالح، عن ابن عباس.

([100])  رواه البخاري ومسلم.

([101])  رواه البخاري ومسلم.

([102])  الإحياء.

([103])  الإحياء.

([104])  رواه الطيالسي وهناد وأحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة وابن خزيمة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والدارقطني في الرؤية وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.

([105])  إغاثة اللهفان: 32.

([106])  وخالفها ابن عباس، فعنه: إطلاق الرؤية، وعنه: أنه رآه بفؤاده مرتين.

([107])  الإحياء.

([108])  الإحياء.

([109])  الإحياء.

([110])  الإحياء.

([111])  الإحياء.

([112])  نرى أن الاختلاف في هذا من باب اختلاف التنوع لا من باب اختلاف التضاد، فلذلك لا يحكم فيه بسنة ولا ببدعة.

ونحسب أن المنكرين للرؤية يقصرون إنكارهم على الرؤية التي تفيد الإحاطة بالمرئي، أما الرؤية التي يتحدث عنها العارفون، فهذه لا نرى أن أحدا في الأمة ينكرها.

([113])  الإحياء.

([114])  الإحياء.

([115])  الكلمة الثامنة والعشرون، النورسي.

([116])  رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

([117])  الإحياء.

([118])  رواه النسائي.

([119])  رواه البخاري ومسلم.

([120])  رواه البخاري ومسلم.

([121])  رواه الطبراني في الكبير.

([122])  رواه أحمد.

([123])  طريق الهجرتين:289.

([124])  الإحياء.

([125])  انظر الآثار في ذلك عن السلف في: الدر المنثور: 7/25.

([126])  الطيالسي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وابن مردويه.

([127])  رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، قال ابن كثير: والأظهر أنه موقوف.

([128])  رواه ابن جرير وقال ابن كثير: إسناد صحيح ومتن حسن.

([129])  رواه محمد بن نصر في الصلاة عن أبى هريرة.

([130])  رواه البخاري ومسلم.

([131])  طريق الهجرتين:306.

([132])  رواه البخاري ومسلم.

([133])  طريق الهجرتين: 309.

([134])  رواه أحمد ومسلم.

([135])  رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي.

([136])  رواه أحمد والطبراني في الكبير.

([137])  رواه النسائي.

([138])  رواه أحمد والترمذي والحاكم.

([139])  رواه أحمد.

([140])  رواه البخاري ومسلم.

([141])  رواه الحاكم والطبراني في الكبير.

([142])  رواه البخاري ومسلم.

([143]) كما ورد في الحديث:( تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه)

([144])  رواه أحمد والبخاري وغيرهما.

([145])  رواه الطبراني في الكبير.

([146])  رواه البخاري ومسلم.

([147])  رواه أحمد والترمذي.

([148])  رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم.

([149])  ومن هذا بعض ما يشيعه بعض شواذ المبشرين من الاستهزاء بما ورد في القرآن الكريم من ذكر الولدان المخلدين، انظر الرد المفصل عليهم في رسالة (الحياة) من سلسلة (أشعة من شمس محمد)

([150])  رواه ابن النجار و الخطيب في كتاب البخلاء عن ابن عباس) وهو ضعيف.

([151])  رواه الخرائطي في مساوئ الاخلاق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل.

([152])  رواه أحمد والبخاري وابن ماجة.

([153])  رواه الترمذي.

([154])  رواه الطبراني في الكبير.

([155])  رواه أحمد ومسلم.

([156])  رواه ابن عساكر.

([157])  رواه الديلمي.

([158])  رواه أحمد ومسلم.

([159])  رواه أبو داود.

([160])  رواه أحمد.

([161])  الإحياء.

([162])  رواه ابن حبان.

([163])  رواه عبد الرزاق.

([164])  رواه ابن أبي حاتم.

([165])  رواه ابن أبي حاتم.

([166])  رواه أحمد ومسلم وابن ماجة.

([167])  رواه ابن عساكر.

([168]) رواه النسائي.

([169])  رواه أحمد والبيهقي.

([170])  رواه البخاري ومسلم.

([171])  رواه أبو نعيم.

([172])  رواه البخاري ومسلم.

([173])  رواه البخاري والترمذي وغيرهما.

([174])  رواه أحمد ومسلم.

([175])  رواه الحاكم والطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية.

([176])  رواه البخاري ومسلم.

([177])  رواه أحمد والترمذي.

([178])  رواه أحمد والبخاري.

([179])  رواه الطبراني في الكبير وغيره.

([180])  رواه ابن جرير.

([181])  رواه البخاري ومسلم.

([182])  من الأقوال الواردة في مسألة الخلود في النار:

القول الأول: إن من دخل  النار لايخرج منها أبدا بل كل من دخلها يخلد فيها أبد الآباد، وهو قول الخوارج والمعتزلة.

القول الثاني: إن أهلها يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم وتبقى طبائعهم نارية يتلذذون بالنار لموافقتها لطبائعهم، وهو قول محي الدين بن عربى.

القول الثالث: إن أهل  النار يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا القول حكاه اليهود للنبي r فكذبهم فيه وقد كذبهم الله تعالى أيضا فى قوله تعالى:﴿ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)﴾ (البقرة)

القول الرابع: إنهم يخرجون منها وتبقى نارا بحالها ليس فيها أحد يعذب.

القول الخامس: إن الله تعالى يفنيها لأنه ربها وخالقها لأنه تعالى على زعم أرباب هذا القول جعل لها أمدا تنتهى إليه ثم تفنى ويزول عذابها، قال ابن تيمية:« وقد نقل هذا عن طائفة من الصحابة والتابعين » وله ولتلميذه ابن القيم ـ رحمهما الله تعالى ـ ركون إلى هذا القول، وذكر ابن القيم على تأييده بضعا وعشرين وجها، ثم قال وما ذكرناه فى هذه المسألة من صواب فمن الله وهو المنان به، وما كان من خطأ فمنى ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه، والله عنده لسان كل قائل وقصده والله أعلم »

وقد ألف الشيخ مرعى الكرمى الحنبلى رسالة سماها « توفيق الفريقين على خلود أهل الدارين »، وفى الباب رسالة للسيد الإمام محمد بن إسماعيل الأمير ورسالة للقاضى العلامة المجتهد محمد بن على الشوكانى حاصلهما بقاء الجنة والنار وخلود أهلهما فيهما.

وقد ذكر ابن القيم أنه هو الذي دل ابن تيمية على دلائلها،، قال:« وكنت سألت عنها شيخ الإسلام قدس الله روحه، فقال لي:« هذه المسألة عظيمة كبيرة »، ولم يجب فيها بشيء، فمضى على ذلك زمن حتى رأيت في تفسير عبد بن حميد الكثي بعض تلك الآثار التي ذكرت، فأرسلت إليه الكتاب وهو في مجلسه الأخير، وعلمت على ذلك الموضع، وقلت للرسول:« قل له هذا الموضع يشكل علي، ولا يدري ما هم »، فكتب فيها مصنفه المشهور رحمة الله عليه »

قال ابن القيم:« وأنا في هذه المسئلة على قول أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه فانه ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ووصف ذلك أحسن صفة، ثم قال:( ويفعل الله بعد ذلك في خلقه ما يشاء) وعلى مذهب عبدالله بن عباس رضي الله عنهما حيث يقول:( لا ينبغي لاحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا) وذكر ذلك في تفسير قوله قال النار مثواكم خالدين فيها الا ما شاء الله وعلى مذهب أبي سعيد الخدري حيث يقول:( انتهى القرآن كله الى هذه الآية ﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)(هود: من الآية107)

([183])  تفسير ابن كثير: 6/123.

([184])  أما ما يروى عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن النبي r أنه قال:« سبعة لا تموت ولا تفنى ولا تذوق الفناء: النار، وسكانها، والجنة، وسكانها، واللوح، والقلم، والكرسى، والعرش » فهو حديث لا يثبت، قال ابن تيمية:« بهذا اللفظ ليس من كلام النبى r وإنما هو من كلام بعض العلماء »

([185])  رواه البخاري ومسلم.

([186])  رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.

([187])  الدر المنثور: 8/395.

([188])  رواه ابن أبي شيبة.

([189])  رواه البخاري.

([190])  رواه ابن جرير عن سالم بن أبي الجعد.

([191])  شفاء العليل: 262.

([192])  رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ.

([193])  شفاء العليل: 259.

([194])  رفع الأستار: 67.

([195])  رفع الأستار: 75.

([196])  إلا في الحديث الذي فيه تعديد الأسماء الحسنى ولم يثبت.

([197])  رواه البخاري ومسلم.

([198])  شفاء العليل: 264.

([199])  شفاء العليل: 263.

([200])  رواه أحمد وأبو داود.

([201])  شفاء العيل: 252.

([202])  شفاء العيل: 252.

([203])  شفاء العيل: 252.

([204])  شفاء العيل: 253.

([205])  رواه أحمد والبخاري.

([206])  رواه أحمد.

([207])  رواه مسلم.

([208])  شفاء العليل: 252.

([209])  رواه البخاري ومسلم.

([210])  رواه الطبراني في الكبير.

([211])  شفاء العليل:254.

([212])  رواه مسلم وغيره.

([213])  في ظلال القرآن: 2/786.

([214])  رواه عبد بن حميد والترمذي وابن المنذر قال الترمذي: غريب وفى اسناده مقال وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث.

([215])  رواه أحمد أبو يعلى، وفيه أزهر بن راشد وهو ضعيف.

([216])  رواه أحمد وابن جرير وصححه.

([217])  رواه الحسن بن سفيان وأبو نعيم عن خزيمة بن ثابت.

([218])  رواه ابن حبان.

([219])  رواه البخاري ومسلم.

([220])  رواه أحمد والنسائي وابن ماجة..

([221])  رواه الطبراني في الكبير.

([222])  رواه البخاري في الأدب المفرد.

([223])  رواه مسلم وغيره.

([224])  رواه أحمد والترمذي والحاكم.

([225])  رواه البخاري ومسلم.

([226])  رواه أحمد.

([227])  الكلمة الرابعة والعشرون، النورسي.

([228])  انظر: الدر المنثور: 6/274.

([229])  انظر تفاصيل أخرى مرتبطة بهذا في رسالة (معجزات علمية) من سلسلة (أشعة من شمس محمد)، فصل (السماء)

([230])  شفاء العليل: 261.