الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: أنبياء يبشرون بمحمد

الناشر: دار الكتاب الحديث

 أولا ـ بشارة إبراهيم

بركة إسماعيل:

حساب الجمل:

برية فاران:

أولا ـ بشارة إبراهيم

في اليوم الأول خرجت باكرا من البيت، وسرت أتجول في تلك البلاد الجميلة التي تمتلئ بروائح القداسة التي فاحت بها أرواح النبيين.

ظللت فترة الصباح أسير على غير هدى .. وقد كان أول ما أفعله ـ على حسب ما تعلمت ـ هو التعرف على المنطقة، ثم على أهلها.

في منتصف النهار دب الجوع إلى بطني، فسرت طالبا مطعما أتغدى فيه .. لكن رجلا يبدو عليه الكرم ناداني طالبا مني أن أتغدى عنده.

سرت إليه، وحاولت التعرف عليه، قلت له: من أنت؟

قال: عبد الله .. واسمي إبراهيم.

قلت: أأنت مسيحي؟

قال: أجل ..

قلت: أنا مثلك .. مسيحي أبا عن جد.

قال: أنا لست مسيحيا فقط .. بل إبراهيمي أيضا .. ألا ترى أن اسمي إبراهيم؟

قلت: كل مسيحي لا بد أن يكون إبراهيميا .. فإبراهيم من أنبياء العهد القديم الذين بشروا بالمسيح.

قال: وبشروا بمحمد ..

انتفضت غاضبا، وقلت: ما تقول يا رجل .. كيف تكون مسيحيا، وتقول هذا؟

رد علي بهدوء: لأني مسيحي أقول هذا .. فقد تعلمت من المسيح الصدق والإخلاص، كما تعلمت من إبراهيم التضحية والإسلام ..

قلت: تعلمت من إبراهيم الإسلام!؟

قال: أجل .. فإبراهيم هو رمز الإسلام الأول .. لقد ذكره الله تعالى فقال:) مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ( (الحج: من الآية78) ، ورد الله على تنازع الملل لإبراهيم، فقال :) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( (آل عمران:67)

قلت: أراك تكذب، وأنت تدعي الصدق .. وتغدر وأنت تدعي الوفاء.

قال: ما كذبتك، ولا خنتك.

قلت: فلم زعمت أنك مسيحي؟.. وهل يترك المسيحي كتبه ليقرأ كتابا إنما هو هرطقات وترهات وأساطير؟

قال: رويدك .. فلا ينبغي أن نسخر بشيء لا نعلمه .. المسيحية تطلب منا احترام الكل.

قلت: أجل .. ولكن كيف تزعم انتماءك للمسيحية، وأنت ترطن بنغمة أهل الإسلام؟

قال: أنا مسيحي أجل .. ولم أكذب في ذلك .. وإبراهيمي .. وها أنت تراني أبحث عن الأضياف، كما كان يبحث عنهم إبراهيم .. وفوق ذلك أنا محمدي ..

قلت: كيف يجمع المرء بين هذه المتناقضات؟

قال: أنا جمعت ببينها .. بل لم أعرف المسيح إلا بعد أن عرفت محمدا .. لقد كان محمد هو دليلي إلى المسيح ..

اسمعني يا أخي .. إن الصورة التي يحملها المسلمون عن المسيح أشرف بكثير من الصورة التي يخملها المسيحيون عنه .. ولذلك، فالمسلمون أقرب للمسيح وأجدر به من الذين يدعون انتسابهم للمسيح.

قلت: ما الذي رغبك في الإسلام حتى تركت من أجله دين آبائك وأجدادك؟

قال: أنا لم أترك دين آبائي وأجدادي .. ولكني صححت دين آبائي وأجدادي .. أما عن سؤالك .. فإن العمر جميعا لا يفي بالجواب عنه .. ولكني سأحدثك عن سر اختياري لاسم إبراهيم لأتسمى به بعد الإسلام:

لقد كان إبراهيم هو النبي الذي أعطاني المفتاح الذي أدخل به عالم محمد، وهو المصباح الذي استنرت به للوصول إلى أشعة محمد.

قلت: كيف ذلك؟ .. هل زارك إبراهيم في الرؤى كما زارتني العذارء؟

قال: الرؤى تختلط فيها الحقائق بالأوهام .. ولكنه ترك وصية يقرؤها الكل، ويعرض عنها الكل ..

قلت: أين هي؟

قال: في الكتاب المقدس .. الكتاب الذي تقرؤونه وتنتقون في قراءته، وتفهمونه، وتتملصون من فهمه.

قلت: أين ذلك في الكتاب المقدس؟

قال: في مواضع منه .. وسأذكر لك أمثلة تشير إليه[1].

بركة إسماعيل:

قلت: حدثني .. فلعلك وقعت في شبهة منعتك من فهم أغراض الكتاب المقدس.

قال: ألم يخرج إبراهيم u من أرض العراق إلى الأرض المباركة، أرض فلسطين؟

قلت: أجل .. وتذكر التوراة أن عمره كان حينذاك خمسة وسبعين عاما، ولما يولد له ولد حينها .. وقد بشره الله بعد خروجه ، فقال :( أجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة.. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض) (التكوين 12/2 - 3)

قال: فقد وعد إبراهيم u بأن يبارك له في ذريته.

قلت: أجل .. وما ذكرته من سفر التكوين يدل عليه .. بل إنه عندما ابتلى الله إبراهيم بذبح ابنه الوحيد يومذاك، فاستجاب وابنه لأمر الله، وحينها ( نادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء، وقال: بذاتي أقسمت، يقول الرب، إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً، كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه ) (التكوين 22/1-17)

وقد ظل هذا الوعد بالمباركة مستمرا إلى آخر أيام إبراهيم، فإنه عندما بلغ إبراهيم التاسعة والتسعين تجددت البركة من الله لإبراهيم ، وقد جاء في الكتاب المقدس :( قال له: أنا الله القدير. سر أمامي وكن كاملاً، فأجعل عهدي بيني وبينك، وأكثرك كثيراً جداً.. أجعلك أباً لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيراً جداً، وأجعلك أمماً، وملوك منك يخرجون، وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً.. ) (التكوين 17/1 - 8).

قال: أليس إسماعيل الذي هو جد محمد من نسل إبراهيم؟

قلت: بلى .. بل هو ابنه البكر .. وقد ورد ذلك في الكتاب المقدس، فعندما أذلت سارة هاجر، فهربت هاجر من وجه مولاتها ( قال لها ملاك الرب: ارجعي إلى مولاتك واخضعي تحت يديها. وقال لها ملاك الرب: تكثيراً أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة، وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى فتلدين ابناً وتدعين اسمه: إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك، وإنه يكون إنساناً وحشياً يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن " (التكوين 16/11 - 12)

قال: لقد بشرها الملاك إذن بابن عظيم يسود على كل أحد، لكنه أحياناً يكون على خلاف ذلك، فيتسلط عليه كل أحد.

قلت: أجل .. وقد ولدت هاجر ابنها إسماعيل فكان بكراً لإبراهيم، كما ورد في الكتاب المقدس :( وكان أبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل ) (التكوين 16/16)

قال: لقد وعد إبراهيم بالبركة في ذريته، فهل شملت هذه البركة ابنه إسماعيل؟

قلت: أجل .. فقد طلب إبراهيم من الله الصلاح في ابنه إسماعيل، ففي الكتاب المقدس :( قال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك)(التكوين 17/18)، فاستجاب الله له وبشره بالبركة فيه وفي ابن آخر يهبه الله له، فقد بشره بميلاد إسحاق من زوجه سارة فقال :( وأباركها وأعطيك أيضاً منها ابناً، أباركها فتكون أمماً، وملوك شعوب منها يكونون.. وتدعو اسمه إسحاق، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده، وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره، وأكثره كثيراً جداً، اثني عشر رئيساً يلد، وأجعله أمة كبيرة)(التكوين 17/16-20)

قال: فقد وعد إبراهيم بالبركة في إسماعيل وإسحق.

قلت: أجل .. وقد ولد لإبراهيم أبناء آخرون من زوجته قطورة، لكن الله لم يعده بالبركة فيهم، ففي الكتاب المقدس :( عاد إبراهيم فأخذ زوجة اسمها قطورة، فولدت له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوحا )(التكوين 25/1-2)

قال: إن كل ما ذكرته من البركات يتفق فيه الكتاب المقدس مع القرآن الكريم .. فالقرآن يقرر بركة وعهداً لإبراهيم في صالحي ذريته من ابنيه المباركين إسماعيل وإسحاق، حيث يقول :) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ( (الصافات:113)

ولكن هذه البركات ترتبط بصلاح الذرية، لا بمجرد كونهم من نسل إبراهيم، فقد قال تعالى:) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ( (البقرة:124)

قلت: وقد ورد في الكتاب المقدس هذا الشرط .. ففي الكتاب المقدس :( سر أمامي وكن كاملاً فأجعل عهدي.. )(التكوين 17/1 - 2)، كما قال له:( إبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع أمم الأرض، لأني عرفته، لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب، ليعملوا براً وعدلاً، لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلم به)(التكوين 18/18 - 19)

قال: فأنت تقر إذن بالبركة في كل من ذرية إسماعيل وإسحق ..

قلت: أجل .. ولكنها تبدأ بإسحاق دون إسماعيل، وقد ورد في الكتاب المقدس :( ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق، الذي تلده لك سارة في هذا الوقت، في السنة الآتية) (التكوين 17/21)

قال: لا بأس .. لا يضرنا بمن تبدأ، ولا بمن تنتهي.

قلت: أجل .. لا يمكن أن أكابر في هذا .. فإسماعيل بورك كما بورك إسحق.

قال: فقد ظهر من بركات الله على ذرية إسحق كثير من الأنبياء، كما قال تعالى:) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ( (الجاثية:16)

قلت: أجل .. فكل أنبياء بني إسرائيل كانوا من ذرية إسحق.

قال: فأين آثار البركة على ذرية إسماعيل الذي وعد في البركة في ذريته؟

قلت: نحن نتفق في أن بركة إسحاق هي النبوة والملك والكتاب والكثرة والغلبة، والتي نص عليها كتابكم، ولكن بركة إسماعيل تقتصر على تكثيره فقط، كما ورد في الكتاب المقدس :( وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً، اثني عشر رئيساً يلد، وأجعله أمة كبيرة)(التكوين 17/20)

قال: هذه مكابرة .. فالكثرة وحدها لا تحمل أي بركة .. نعم نحن نقر بأن البركة بدأت بإسحق .. كما نص على ذلك الكتاب المقدس، فلذلك لم يظهر في العرب نبي طيلة الفترة بين إبراهيم ومحمد.

ولكن هذا التأخر لا يعني الإلغاء .. بل هو يعني شيئا أعمق وأكثر دلالة.

قلت: وما هو؟

قال: إن قصر النبوة في ذرية إسماعيل u في محمد r دليل على أهمية هذه الرسالة.. فالبركة فيها قد جمعت كل البركات التي فرقت على أنبياء بني إسرائيل .. هذه ناحية.

وناحية أخرى لها أهميتها هي أنه لو كان في ذرية إسماعيل من كان نبيا لربما اعتقد المكابرون بأن البركات انصرفت إليه.. ولكن اقتصار النبوة على محمد r دليل على أنه هو المبارك الموعود.

فلذلك يقال للمنكرين: دلونا على صدق الوعد الذي وعد الله به إبراهيم في حق إسماعيل؟

فإنهم لو بحثوا لم يجدوا غيره r دليلا على هذه البركة .. وقد كان البحث في سلسلة ذرية إسماعيل هو الذي هداني إلى هذا، وهداني بعده إلى الإسلام.

لقد ساد العرب المسلمون الأمم بمحمد r ودولته، وفيما عدا ذلك كانوا أذل الأمم وأضعفها وأبعدها عن أن يكونوا محلاً لبركة الله، إذ لا بركة في قبائل وثنية تكاثرت على عبادة الأوثان والظلم.

قلت: أراك تؤمن ببعض الكتاب، وتكفر ببعض.

قال: كيف ذلك؟

قلت: لقد نسيت أن تقرأ نصوصا مهمة في الكتاب المقدس توضح لك هذا الإشكال الذي وقعت فيه.

قال: وما هي؟

قلت: لقد نص الكتاب المقدس على أن الوعد في إسحاق وعد أبدي لن ينتقل إلى غيرهم، فقد جاء فيه :( فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابناً، وتدعو اسمه إسحاق. وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً، لنسله من بعده.. ولكن عهدي أقيمه مع إسحق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية) (التكوين 17/19-21)، فقد نص على أبدية العهد، أي أنه يظل في بني إسرائيل إلى يوم القيامة.

قال: لقد ذكرت لي أن ذلك مشروط باستقامتهم.

قلت: أجل.

قال: فقد غيروا وبدلوا، وقتلوا أنبياءهم، وأنتم تذكرون أنهم صلبوا المسيح، فكيف يظل العهد محصورا فيهم؟

قلت: ولكن نص الكتاب المقدس ذكر الأبدية، فقال :( وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً )

قال: صحيح هذا .. ولكنه مشروط بالصلاح والطاعة.

قلت: وما تقول في لفظ الأبدية .. ألا يفيد الاستمرار إلى قيام الساعة؟

قال: لا .. لا يعني ذلك .. وإن عناه فهو مشروط بالاستقامة.

قلت: اسأل أي صبي من الصبية عن الأبد، فسيخبرك أنه الزمن اللامتناهي.

قال: لن أسأل الصبية، ولكني سأسأل الكتاب المقدس.

قلت: كيف ذلك .. فالكتاب المقدس لن يجيبك إلا بما أجبتك به.

قال: ألم تقرأ في سفر الملوك :( فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد) (ملوك (2) 5/27)، فهل كان الأبد مقصودا هنا؟

سكت، فقال: لا .. لم يكن مقصودا .. ولو كان كذلك للزم أن نرى ذريته اليوم أمة كبيرة تتوالد مصابة بالبرص.

أخبرني متى انتهت مملكة سليمان.

قلت: انتهت مملكته منذ ما يربو على 2500 سنة على يد بختنصر البابلي.

قال: ولكن سفر الأيام يعبر عن تلك الفترة القصيرة التي امتد فيها ملك سليمان بالأبد، ألم تقرأ فيه :( وقال لي: إن سليمان ابنك، هو يبني بيتي ودياري، لأني اخترته لي ابناً، وأنا أكون له أباً، وأثبت مملكته إلى الأبد ) (الأيام 28/6)

قلت: بلى .. قرأتها.

قال: فالمراد بالأبدية هنا الوقت الطويل فحسب .. وأزيدك شيئا .. لقد وقتَّ سفر التثنية الأبدية بما يساوي عشرة أجيال، فقال :( لا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الرب، حتى الجيل العاشر، لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد، من أجل أنهم لم يلاقوكم بالخبز والماء )(التثنية 33/3-4)، فالجيل الحادي عشر للمؤابي غير محروم من جماعة الرب، وهو دون الأبد والقيامة.

أخبرني .. في أي بلد يسكن الآن نبوخذ نصر، فإني أرغب في زيارته؟

قلت: ما بالك .. لقد اختلطت عظامه مع تراب الأرض.

قال: فكيف ورد في الكتاب المقدس إذن :( فتكلم دانيال مع الملك: يا أيها الملك عش إلى الأبد )(دانيال 6/21)؟

سكت، فقال: إن الأبد الذي أراده الكتاب المقدس ليس المقصود منه الأبد اللانهائي، أو الأبد المرتبط بالحياة الدنيا .. بل هو أبد مرتبط بالفترة التي تسبق البركة التي تظهر على ذرية إسماعيل.

وأقول لك: إن سوء فهمكم لمعنى الأبد هو الذي جعلكم تحجرون كل البشارات التي وردت في الكتاب المقدس على المسيح مع أنكم تتكلفون في ذلك.

قلت: دعنا من هذه، فهذه البشارة عامة لا خاصة، فهي لم تذكر اسما ولا صفة، بل ولا فردا .. بل هي بركة تشمل شعبا وأمة .. ويمكن تأويل ذلك بسهولة.

 قال: أنا لا أريد أن أجادلك في هذا .. ولو أني أعلم أنك تعلم أنه لم يظهر في بني إسماعيل من هو أكثر بركة من محمد .. ولكني مع ذلك أتجاوز هذا لأدلك على النصوص التي لا يفهم منها غير محمد.

قلت: محال هذا .. لقد قرأت العهدين .. ولم أجد فيها اسم محمد، ولا أي إشارة إليه.

حساب الجمل:

قال: أتصدق بما يفعله اليهود من الاعتماد على حساب الجمل[2] في التعرف على النبوءات؟

قلت: هم يفعلون هذا .. وقد يخطئون، وقد يصيبون ..

قال: المهم أنه مسلك من المسالك المعتمدة .. وأنا لا أذكره لك إلا تأكيدا لغيره من النبوءات.

ألم تقرأ ما جاء في الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة أن الله تعالى خاطب إبراهيم u، فقال :( وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك، قد باركت فيه، وأثمره، وأكثره جدا جدا ) ، ففي التوراة العبرية ورد النص هكذا :( ولشماعيل . شمعتيخا . هني . بيراختى . أوتو . وهفريتى . أوتو . وهربيتي . أوتو بماد ، ماد  )

فهذه الكلمة ( بماد ماد ) إذا عددنا حساب حروفها بالجمل وجدناه اثنين وتسعون، وذلك عدد حساب حروف (محمد ) r فإنه أيضا اثنان وتسعون.

قلت: أنا لا أؤمن بهذا كثيرا .. فقد يكون مصادفة، فلماذا يرد مُلغّزاً مع إمكانية إيراده واضحا؟

قال: هذا أسلوب من أساليب الكتاب المقدس في نبوءاته .. بالإضافة إلى هذا، فإنه لو صرح به لبدلته اليهود وأسقطته من التوراة، كما أسقطت غيره من النصوص الصريحة.

بل يمكن أن يقال ـ على ما نعقتده من التحريف الذي مارسه اليهود مع هذه الكتب ـ بأن الله تعالى قد صرح به من قبل أن تغير التوراة ، واليهود هم الذين غيروا الاسم الصريح بالرمز في مدينة بابل ، ليعرفوه هم أنفسهم إذا جاء ، ويسهل عليهم جحد نبوته إذا جاءهم بما لا تهوى أنفسهم.

قلت: أنت ترمي الغيب بسهام الظنون .. فكل ما تذكره من هذا الباب لا مستند له.

قال: لا .. لدي مستنداتي في ذلك ، وقد كان السموأل[3]، وهو أحد أحبار اليهود المهتدين إلى الإسلام قد نبه إلى ذلك، ومثله فعل الحبر المهتدي عبد السلام في رسالته (الرسالة الهادية)

وقد ذكر هؤلاء أن اسم ( محمد ) r قد ورد في التوراة ، في سياق بركة إسماعيل u بحساب ( الجمل) ليعرف الناس أنه بظهوره يبدأ ملك بني إسماعيل.

قلت: لهم أن يقولوا ما يشاءون .. ولكني امرؤ صاحب منطق وعقل، وما كان لي أن أستسلم لمثل هذه الأوهام .. فبحساب الجمل تستوي الترهات والأباطيل مع الحقائق والمعارف.

قال: لا بأس .. لن ألح عليك في الاقتناع بهذا .. ولكني سأذكر لك إشارة أخرى تتعلق ببشارة إبراهيم، لن يفهم منها إلا محمد.

قلت: هاتها .. لنزيل عنك شبهتها.

قال: أو قل: لنتعلم منك علومها .. فلا يصح لمسيحي يخلص لمسيحيته أن يتكبر بما يعلمه.

قلت: قل قولك ، ودعني من نصائحك، فلولا ثقتي في ديني ما قلتها لك.

برية فاران:

قال: أتعرف برية فاران؟

قلت: وكيف لا أعرفها .. ألم أقل لك: إني رجل دين .. لقد ورد ذكرها في التوراة ، فقد جاء فيها أنه بعد فطام إسحاق، هاجرت هاجر وابنها وأنها ( مضت وتاهت في برية بئر سبع، ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار.. ونادى ملاك الله هاجر... قومي احملي الغلام، وشدي يدك به، لأني سأجعله أمة عظيمة، وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء.. وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر ) (التكوين 21/17-21).

قال: فقد سكن إسماعيل ببرية فاران.

قلت: هذا ما تنص عليه التوراة.

قال: أنا لن أجدلك في مكان فاران ، فستجد من يدلك عليها، ولكن .. ألم يرد التبشير بنبوءة تظهر فيها.

قلت: أجل .. فقد جاء في الفصل العشرين :( أن الرب جاء من طور سينين، وطلع لنا من ساعير، وظهر من جبل فاران، ومعه عن يمينه ربوات القديسين فمنحهم العز، وحببهم إلى الشعوب، ودعا بجميع قديسيه بالبركة )

قال: هذه بشارة صريحة لا تنطبق إلا على محمد r .. ولكني لن أشرحها لك هنا.. فأنا إبراهيمي .. ولكني أريد أن أقنعك فقط بأن برية فاران محل من محال النبوة .. وأن ذرية إسماعيل التي استوطنت فاران محل صالح لها.

قلت: فنلترك هذه الإشارة للبحث .. فما كان لي أن لزمك بقولي، وما كان لك أن تلزمني بقولك.

قال: اسمح لي أن أسألك سؤالا له علاقة بمحل البشارة.

قلت: سل ما بدا لك.

قال: ألا تتحدث التوراة عن قصة أمر الله إبراهيم بذبح ابنه الوحيد؟

قلت: بلى .. وقد جاء في القصة التوراتية :( خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب به إلى أرض المريا.. فلما أتيا الموضع... لا تمد يدك إلى الغلام، ولا تفعل به شيئاً، لأني الله علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني... فدعا إبراهيم ذلك الموضع :( يهوه يراه) حتى إنه يقال اليوم: في جبل الرب يرى.. يقول الرب: إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة.... ) (التكوين 22/1 - 18)

قال: هل تعتقد حقيقة أن هذا النص لم يحرف؟

قلت: أنا لا أعتقد بتحريف نص في الكتاب المقدس.

قال: إن هذا النص لو نزعت منه اسم إسحق المقحم إقحاما على من ينطبق.

قلت: ما كان لي أن أنزع لفظا ورد في الكتاب المقدس، وإلا كنت محرفا.

قال: بورك لك في حرصك على كتابك .. ولكن أخبرني: هل حصل في يوم من الأيام أن كان إسحق وحيدا لإبراهيم u؟

ترددت قليلا، ثم قلت: لا ..

قال: وليس لك أن تقول غير ذلك .. فقد كان  إسماعيل وحيداً لإبراهيم أربع عشرة سنة.

صمت قليلا، ثم قلت: ولكنه كان ابنا لجارية، ولم يكن ابنا لسارة.

قال: فهل ينفي ذلك عنه كونه ابنا لإبراهيم؟

قلت: لا ..

قال: فأنت تقر إذن بما قلت لك ..

قلت: ومع ذلك يظل ابن جارية.

قال: مع ما يحمله قولك من عنصرية مقيتة إلا أني أسلم لك .. لقد كان إسماعيل ابن جارية .. فهل تنتفي عنه البكورية لأجل ذلك حسب الكتاب المقدس؟

قلت: لا .. لا تنتفي عنه، فمنزلة الأم لا تؤثر في بكورية الابن ولا منزلته، وقد جاء في التوراة :( إذا كان لرجل امرأتان إحداهما محبوبة، والأخرى مكروهة، فإن كان الابن البكر للمكروهة، فيوم يقسم لبنيه ما كان له لا يحل له أن يقدم ابن المحبوبة بكراً على ابن المكروهة البكر. بل يعرف ابن المكروهة بكراً ليعطيه نصيب اثنين في كل ما يوجد عنده، لأنه هو أول قدرته له حق البكورية ) (التثنية 21/15 - 17)

قال: بالإضافة إلى هذا، فإن إبراهيم تزوج من هاجر.

لم أحر جوابا، فقال: ومما يبطل أن يكون الذبيح إسحاق ما عرفنا من قبل من أن إبراهيم قد وعد فيه بالبركة والذرية منه قبل ولادته، وأنه سيكون كعدد نجوم السماء[4] فالأمر بذبحه لا ابتلاء فيه، لأنه يعلم أنه سيكون لهذا الابن نسل مبارك [5] ..

سكت قليلا، ثم قلت: وما فائدة كل هذا التحقيق .. وما علاقته بالبشارة؟

قال: أردت أن أقول لك بأن في التوراة إشارة صريحة إلى المحل الذي كان فيه إسماعيل، والذي وعد فيه بالبركة، وهو لا ينطبق إلا على مكة، البلد الذي ولد فيه محمد.

قلت: كيف هذا؟

قال: لقد حرف الذين ورثتم منهم  الكتاب اسم الذبيح، فأدرجوه إدراجا في نص لا يحتمل غير إسماعيل .. ثم حرفوا اسم المكان المعظم الذي جرت فيه أحداث القصة، فسمتها التوراة السامرية ( الأرض المرشدة ) .. وسمتها التوراة العبرانية (المريا)، ولعله تحريف لكلمة ( المروة )، وهو اسم لجبل يقع داخل المسجد الحرام في مكة المكرمة اليوم، أي في المكان الذي درج فيه إسماعيل.

بالإضافة إلى هذا، فقد اتفق النصان العبري والسامري على تسمية ذلك الموضع (جبل الله)، ولم يكن هذا الاسم مستخدماً لبقعة معينة حينذاك .. لذا اختلف اليهود في تحديد مكانه اختلافاً بيناً فقال السامريون[6]: هو جبل جرزيم[7]، وقال العبرانيون: بل هو جبل أورشليم الذي بني عليه الهيكل بعد القصة بعدة قرون[8].

قلت: ما فائدة ذكر الخلاف في هذه المسألة؟

قال: الخلاف في مسألة مهمة مثل هذه يدل على أن كلا الموضعين ليس هو المحل المقصود، بل قد ورد عن المسيح ما يدل على هذا .. فعندما دخلت عليه امرأة سامرية، وسألته عن المكان الحقيقي المعد للعبادة، أفصح لها المسيح أن المكان ليس جبل جرزيم السامري، ولا جبل عيبال العبراني الذي بني عليه الهيكل .. وقد ورد النص هكذا في يوحنا:( قالت له المرأة: يا سيد أرى أنك نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه، قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب، أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم، لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له، الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا )  (يوحنا 4/19-24)

قال: وما المكان الذي تراه لذلك؟

قلت: التحقيق فيها أن قصة الذبح جرت في الأرض المرشدة، وهي أرض العبادة، وهي مكة أو بلاد فاران، واختلافهم دليل على صحة ذلك، واتفاقهم على اسم المكان بجبل الرب صحيح، لكنهم اختلفوا في تحديده، وقد ربطوه بتسميات ظهرت بعد الحادثة بقرون عدة، وتجاهلوا البيت المعظم الذي بني في تلك البقعة حينذاك، ويسمى بيت الله كما سمي الجبل الذي في تلك البقعة جبل الله.

وقد قال ميخا النبي عن مكة والبيت الحرام وعن إتيان الناس للحج عند جبل عرفات :( يكون في آخر الأيام بيت الرب مبنياً على قلل الجبال، وفي أرفع رؤوس العوالي يأتين جميع الأمم، ويقولون: تعالوا نطلع إلى جبل الرب ) (ميخا 4/1-2)

كما تحدثت المزامير عن المدينة المباركة التي فيها بيت الله، والتي تتضاعف فيها الحسنات، فالعمل فيها يعدل الألوف في سواها، وقد سماها باسمها (بكة)، فجاء فيها :( طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك، سلاه، طوبى لأناس عزهم بك، طرق بيتك في قلوبهم، عابرين في وادي البكاء[9] يصيرونه ينبوعاً، أيضاً ببركات يغطون مورة، يذهبون من قوة إلى قوة، يرون قدام الله في صهيون، يا رب إله الجنود اسمع صلاتي وأصغ يا إله يعقوب، سلاه، يا مجننا انظر يا الله والتفت إلى وجه مسيحك، لأن يوماً واحداً في ديارك خير من ألف، اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار )(المزامير 84/4-10)، فذكر أن اسمها بكة، وترجمته إلى وادي البكاء صورة من التحريف.

قلت: وما الفرق بين بكة وبين وادي البكاء؟

قال: فرق عظيم .. فبكة اسم لمكة البلد الذي ولد فيه محمد، وقد جاء في القرآن الكريم ذكرها بهذا الاسم، كما قال تعالى:) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ( (آل عمران:96)

قلت: ولكن ما الذي جعلهم يعدلون عن اسم بكة إلى اسم وادي البكاء؟

قال: لا أريد أن أخوض في المقاصد والنيات .. فالله هو رب النيات والمقاصد، وهو الديان الذي يحاسب عليها، ولكني أقول لك بأن التصحيف والتغير في الأسماء كثير عند الترجمة بين اللغات، بل بين الطبعات، فاسم (بارباس) مثلا في الترجمة البروتستانتية هو في نسخة الكاثوليك ( بارابا )، وكذا (المسيا، ماشيح) و(شيلون، شيلوه) وغير ذلك كثير.

***

 ما قال هذا حتى جاءنا الغداء، فدعاني إلى أكله، وأكل معي، وقد كان هشوشا بشوشا، يلح علي في الأكل من أنواع الطعام الطيب الذي حضره لي، وهو يرسل النكت بين ذلك .. وكأنني لم أكن أختلف معه، أو يختلف معي.

بعد انتهائي من الأكل، وتصميمي على العودة إلى الفندق الذي آوي إليه، مد يده إلي يدي، وصافحها بحرارة، وهو يقول: سررت بمعرفتك .. وأسأل الله أن يقيض لك من يعرفك به، ويدلك عليه.

وأخبرك قبل أن تنصرف بأن محمدا r الذي لم أملك إلا أن أؤمن به، أخبر عن هذه العلاقة التي تربطه بإبراهيم، فقال :( إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري: أنا دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج منها نور ساطع أضاءت منه قصور الشام )[10] 

بل أخبر القرآن الكريم كتاب المسلمين المقدس على أن الله دعا لتلك البلاد التي ولد فيها محمد r بأن يكون فيهم رسول منهم، قال تعالى:) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( (البقرة:129)

انصرفت عنه .. وقد كان ذلك بداية الحيرة .. وكان في نفس الوقت بداية إشراقة النور التي هبت علي من شمس محمد.

 

 

 



([1]) رجعت في هذه البشارات وتفسيرها إلى مراجع كثيرة من أهمها:

1. إظهار الحق لرحمة الله الهندي.

2. الفارق بين المخلوق والخالق لعبدالرحمن باجه جي.

3. البشارة بنبي الإسلام، لأحمد السقا.

4. نبي أرض الجنوب، ع .  م / جمال الدين شرقاوى.

ومنها مصنفات المهتدين من أهل الكتاب:

1. الدين والدولة لعلي بن ربّن الطبري.

2. تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب لعبد الله الترجمان.

3. النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية للمتطبب.

4. إفحام اليهود للسموأل بن يحيى المغربي.

5. مسالك النظر في نبوة سيد البشر لسعيد بن الحسن الاسكندراني.

6. محمد r في الكتاب المقدس لعبد الأحد داود.

7. محمد نبي الحق لمجدي مرجان.

8. محمد r في التوراة والإنجيل والقرآن لإبراهيم خليل أحمد.

وغيرها.

ومنها بعض المواقع التي اهتمت بهذا الجانب، كموقع (الحوار الإسلامي المسيحي)، وموقع (العلامة أحمد ديدات)، وموقع (ابن مريم عن المسيح الحق).

بالإضافة إلى كتب كثيرة وجدتها في هذه المواقع، وخاصة كتب د. منقذ بن محمود السقار الكثيرة، والمنتشرة في هذه المواقع.

([2])حسَابُ الجُمَّل طريقةٌ حسابية تُوضَع فيها أحرف الهجاء مقابل الأرقام، بمعنى أن يأخذ الحرف الهجائي القيمة الحسابية للعدد الذي يقابله وفق جدول معلوم، ويقوم حساب الجُمَّل في اللغة العربية، والذي يسمّى أيضًا حساب الأبجدية، على حروف أبْجَدْ أو الحروف الأبجدية، وهي: أبْجَدْ، هوز، حطِّي، كَلَمُنْ، سَعْفَص، قََرَشَتْ، ثَخَذْ، ضَظَغٌ. ومجموعها ثمانية وعشرون حرفًا؛ تسعة منها للآحاد، وتسعة للعشرات، و تسعة للمئات، وحرف للألْف.

فإذا قرأت عن حدث وقع في سنة (جمر)، مثلاً، فهذا يعني في حساب الجمّل أنّ الحدث قد وقع سنة (243)؛ لأن الحرف (ج) يقابله الرقم (3)، والحرف (م) يقابله الرقم (40)، والحرف (ر) يقابله (200). فمجموع الحروف ج + م + ر = 3 + 40 + 200 = 243. فإذا زاد العدد على الأَلف (ويقابله الحرف غ) وُضع قبل الحرف (غ) حرف مناسب، فالخمسة الآلاف يقابلها (هغ) وهي تساوي (5 × 1000)، وأربعون ألفًا يقابلها (مع) وتساوي (40 × 1000). وهكذا يكون تركيب أيّ عدد بالحروف التي تلائمه.

ويعتقد اليهود، وخاصة القبَّاليون منهم أن الأبجدية العبرية لها قداسة خاصة، ولها دور في عملية الخلق، وتنطوي على قوى غريبة قوية ومعان خفية، وبالذات الأحرف الأربعة التي تكوِّن اسم يهوه (تتراجرماتون)، فلكل حرف أو نقطة أو شرطة قيمة عددية.

ومن هذا المنطلق، فإن الحروف تنقسم عندهم بصفة عامة إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى الهمزة (رمز الهواء)، والمجموعة الثانية الميم (رمز الماء)، والمجموعة الثالثة الشين (رمز النار). وبإمكان الإنسان الخبير بأسرار القبَّالاه أن يفصل الحروف، ويجمع معادلها الرقمي ليستخلص معناها الحقيقي، كما كان من الممكن جَمْع الحروف الأولى من العبارات، وأن يُقرَأ عكساً لا طرداً ليصل المرء إلى معناها الباطني، وكانت هناك أيضاً طريقة الجماتريا.

وبذلك تصبح كلمات التوراة مجرد علامات، أو دوال، تشير إلى قوى ومدلولات كونية وبنى خفية يستكشفها مفسر النص الذى يخترق الرداء اللفظي ليصل إلى النور الإلهي الكامن.

(انظر: الموسوعة العربية العالمية، وموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، لعبد الوهاب المسيري)

ونحب أن ننبه هنا إلى أن هناك حروفا اختلف في أرقامها يهود المشرق ويهود المغرب، والجدول التالي يذكر الرقم المعترف به عند يهود المشرق، أولا، ثم عن يساره الرقم المعمول به عند يهود المغرب، مع اعتبار أنَّ اللغة العبرية القديمة لا تحتوى على الستة أحرف الأخيرة (ثخذ ضظع):

أ

ب

ج

د

هـ

و

ز

1

2

3

4

5

6

7

ح

ط

ى

ك

ل

م

ن

8

9

10

20

30

40

50

س

ع

ف

ص

قلت:

ر

ش

90-60

70

80

800-90

100

200

300

ت

ث

خ

ذ

ض

ظ

ع

400

500

600

700

900-800

1000-900

300-1000

وقد أشرنا إلى هذا هنا لأنا سنعود إلى اعتماد هذا النوع من الحساب في البشارات التالية.

([3])هو شموئيل بن يهوذا بن أيوب ، الذي سمى نفسه بعد إسلامه : ( السموءل بن يحي ) ، فقد ذكر في كتابه ( بذل المجهود في إفحام اليهود ) تحت عنوان : الإشارة إلى اسمه r :« وحساب الجمل عرف في الأمم القديمة ، وهو الحساب بالحروف الأبجدية ، فكل حرف أبجدي يُرمز له برقم . وتكمن أهميته في عدم كشف الخصم للأسرار » [انظر تفصيل ذلك  في كتاب البشارة بنبي الإسلام لأحمد حجازي السقا: 1/135]

([4]) (انظر التكوين 17/21)

([5])وهو ما صرح به المسيح حسب إنجيل برنابا الذي نذكره هنا من باب الاستئناس، فقد حاء فيه:« قال له التلاميذ: يا معلم هكذا كتب في كتاب موسى: إن العهد صنع بإسحاق؟ أجاب يسوع متأوهاً: هذا هو المكتوب، ولكن موسى لم يكتبه ولا يشوع، بل أحبارنا الذين لا يخافون الله. الحق أقول لكم: إنكم إذا أكملتم النظر في كلام الملاك جبريل تعلمون خبث كتبتنا وفقهائنا.. كيف يكون إسحاق البكر وهو لما ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين) (برنابا 44/1 - 11)، وفي التوراة المتداولة أن بينهما أربعة عشرة سنة. (انظر التكوين 16/16، 21/5)

([6]) (السامريون): كلمة معربة من كلمة «شوميرونيم» العبرية، أي سكان السامرة. ويُشار إليهم في التلمود بلفظة «كوتيم» وتعني «الغرباء»، وكان يوسيفوس يسميهم الشكيميين نسبةً إلى «شكيم» (نابلس الحالية). أما هم فيطلقون على أنفسم «بنو يسرائيل»، أو «بنو يوسف»، باعتبار أنهم من نسل يوسف. كما يطلقون على أنفسهم اسم «شومريم»، أي «حفظة الشريعة»، باعتبار أنهم انحدروا من صلب يهود السامرة الذين لم يرحلوا عن فلسطين عند تدمير المملكة الشمالية عام 722 ق.م، فاحتفظوا بنقاء الشريعة.

وهناك نقط اتفاق بين السامريين واليهود الحاخاميين قبل ظهور القبَّالاه وحركات الإصلاح الديني اليهودي، فكلا الفريقين يؤمن بالله الواحد وباليوم الآخر والملائكة، لكن السامريين احتفظوا بقدر أكبر من الوحدانية التي تراجعت في اليهودية إلى أن اختفت تماماً تقريباً. وقد تبنوا الجزء الأول من الشهادة الإسلامية وهو « لا إله إلا الله »، وكانوا يشيرون إلى الخالق بلفظة «إل»، أو «أللا» القريبة من كلمة «الله»، ولكنهم كانوا أيضاً يسمونه «يهوه». كما كانوا يؤمنون بأن موسى نبي الله الأوحد وخاتم رسله وبأنه تجسيد للنور الإلهي والصورة الإلهية.

والكتاب المقدَّس عند السامريين هو أسفار موسى الخمسة، ويُضاف إليها أحياناً سفر يشوع بن نون.وهو ـ في عقيدتهم ـ منزل من عند الله، وهم لا يعترفون بأنبياء اليهود ولا بكتب العهد القديم. بل إن أسفار موسى الخمسة المتداولة بينهم تختلف عن الأسفار المدونة في نحو ستة آلاف موضع (ويتفق نص التوراة السامرية مع الترجمة السبعينية في ألف وتسعمائة موضع من هذه المواضع، الأمر الذي يدل على أن مترجمي الترجمة السبعينية استخدموا نسخة عبرية تتفق مع النسخة السامرية).وهم ينكرون الشريعة الشفوية، شأنهم في ذلك شأن الصدوقيين والقرّائين (ومن هنا التشابه بين الفرق الثلاث في بعض الوجوه).كما أنهم يأخذون بظاهر نصوص التوراة.

ويُعَدُّ السامريون جماعة شبه منقرضة. فهم أصغر جماعة دينية في العالم، فعددهم لا يتجاوز خمسمائة، يعيش بعضهم في نابلس، ويعيش البعض الآخر في حولون (إحدى ضواحي تل أبيب)(انظر: الموسوعة اليهودية، للمسيري)

([7]) جريزيم: جبل صخري يطل على الوادي الذي تقع فيه شكيم (نابلس فيما بعد). ويواجه جبل عيبال على ارتفاع 2849 قدماً فوق سطح البحر، و700 قدم فوق مدينة نابلس. وقد بُني فوق جريزيم أقدم هيكل للعبرانيين، ثم جاء داود u فأبطله وعطله بعد أن نقل عاصمته إلى القدس.

وجريزيم جبل مقدَّس عند السامريين؛ بنوا فوقه هيكلهم ليحجوا إليه، واستمروا في تقديم القرابين عليه حتى بعد أن هدم يوحنا هيركانوس هيكلهم عام 128 ق.م. وقد أعادوا بناءه إلى أن هدمه الرومان في النهاية عام 67 ق.م. (انظر: الموسوعة اليهودية، للمسيري)

([8]) بقي هذا الاختلاف من أهم الاختلافات التي تفرق السامريين عن العبرانيين، وقد استمر في حياة المسيح، كما سنرى.

([9])في الترجمة الإنجليزية:through the valley of Ba'ca make it a well، والنص كما جاء في ترجمة الكاثوليك كالتالي :« يجتازون في وادي البكاء، فيجعلونه ينابيع ماء، لأن المشترع يغمرهم ببركاته، فينطلقون من قوة إلى قوة، إلى أن يتجلى لهم إله الآلهة في صهيون » (83/7-8)

([10])  رواه أحمد.