الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: أنبياء يبشرون بمحمد

الناشر: دار الكتاب الحديث

سابعا ـ بشارة إرميا

في اليوم السابع خرجت من غرفتي صباحا كعادتي .. فوجدت رجلا ممتلئا حزنا .. كانت عيناه تذرفان، وكان قلبه يكاد يتفطر.

اقتربت منه، وفي عيني دموع لا أكاد أملك حبسها، وقلت له: ما بالك يا أخي .. لقد فطرت قلبي بحزنك، وأسلت عيني بدمعك.

قال: وما لي لا أبكي .. وأنا الحزين الذي لا يتقن فنا كما يتقن الرثاء.

قلت: ومن ترثي؟ .. إن مات لك عزيز، فالموت كأس .. وكل الناس شاربها .. ثم إنك يوشك أن تنسى كما نسي غيرك .. فلست أرق منهم قلبا، ولا أغزر منهم دمعا.

قال: أنا لا أبكي على قريب، ولا على بعيد .. أنا أبكي على هذه الأمة التي ضيعت وصايا ربها .. وخانته، وأخاف أن يحيق بها من العذاب ما حاق ببني إسرائيل من قبلهم..

لقد صاح فيهم إرميا كثيرا .. وندبهم .. ولكنهم لم يسمعوه .. لقد كان يقول لهم (مراثي أرميا:1/1 ـ 4):

كيف جلست وحدها المدينة الكثيرة الشعب .. كيف صارت كأرملة، العظيمة في الأمم، السيدة في البلدان صارت تحت الجزية.

تبكي في الليل بكاء ودموعها على خديها .. ليس لها معزّ من كل محبيها. كل أصحابها غدروا بها، صاروا لها أعداء.

قد سبيت يهوذا من المذلة ومن كثرة العبودية، هي تسكن بين الأمم لا تجد راحة، قد أدركها كل طارديها بين الضيقات.

طرق صهيون نائحة لعدم الآتين إلى العيد .. كل أبوابها خربة كهنتها يتنهدون .. عذاراها مذللة وهي في مرارة.

أتدري سر كل ما حاق بها؟

قلت: لا شك أنها الذنوب.

قال: أجل .. لقد ذكر إرميا ذلك .. اسمع إليه، وهو يبكي، ويقول (مراثي أرميا:1/5 ـ 10):

صار مضايقوها رأسا .. نجح أعداؤها لأن الرب قد أذلّها لأجل كثرة ذنوبها، ذهب أولادها إلى السبي قدام العدو.

وقد خرج من بنت صهيون كل بهائها، صارت رؤساؤها كأيائل لا تجد مرعى، فيسيرون بلا قوة أمام الطارد.

قد ذكرت أورشليم في أيام مذلتها وتطوّحها كل مشتهياتها التي كانت في أيام القدم. عند سقوط شعبها بيد العدو وليس من يساعدها. رأتها الاعداء ضحكوا على هلاكها.

قد أخطأت أورشليم خطية من أجل ذلك صارت رجسة. كل مكرميها يحتقرونها لأنهم رأوا عورتها وهي أيضا تتنهد وترجع إلى الوراء.

نجاستها في أذيالها. لم تذكر آخرتها وقد انحطت انحطاطا عجيبا. ليس لها معزّ. انظر يا رب الى مذلتي لأن العدو قد تعظم.

بسط العدو يده على كل مشتهياتها فإنها رأت الامم دخلوا مقدسها الذين أمرت أن لا يدخلوا في جماعتك.

كان يقرأ كلام إرميا بألم شديد .. أعاد إلى نفسي ذكرى إرميا وآلامه ومراثيه.

قلت: كف عنك يا أخي .. ذلك زمن بعيد.

قال: ولكنه يعود كل يوم من جديد.

قلت: أرى أنك تدمن على قراءة سفر إرميا .. فلهذا أرى تأثيره عليك .. فأحزانه تغمرك بالكآبة .. ألك علاقة بأرميا جعلت لك كل هذا الاتصال به؟

قال: أجل .. لقد كان إرميا هو النافذة التي أطللت منها على الوجود.

قلت: لم أفهم ما تقصد؟

قال: أنا إرميا.

قلت: مرحبا بك .. أنا أسألك عن سر علاقتك بإرميا.

قال: لقد ذكرت لك أنه النافذة التي أطللت منها على جمال الوجود.

قلت: أي جمال؟

قال: جمال الشمس التي تغمر بأشعتها الكائنات.

قلت: أي شمس؟

قال: وهل هناك شمس غير شمس محمد؟

أصابتني صدمة مما قال، فقلت: أنت أيضا أصابتك العدوى.

قال: ما تقصد؟

قلت: لا أقصد شيئا ..

قال: اسمع لي .. لقد ارتحت إليك .. ولهذا سأحدثك عما جذبني إلى دين محمد.

قلت: كلي آذان صاغية.

قال: لقد كان أول ما جذبني من خلال قراءتي لسفر إرميا هو اسم قيدار.. أنت تعلم أنه من ذرية إسماعيل.

قلت: أجل .. لا شك في ذلك .. فالكتاب المقدس يدل عليه.

قال: لقد قرأت في سفر إرميا .. ذلك النبي الذي سماني والدي باسمه قوله:( قال الرب: قوموا اصعدوا إلى قيدار )(إرميا 49/ 28)

لقد كان هذا النص هو الفاتحة التي ابتدأ بها بحثي .. إنه يشير إلى أن لبني قيدار شأنا.. فما ذكرهم الكتاب المقدس إلا لعلة عظيمة.

قلت: أهذا كل ما جذبك من سفر أرميا؟

قال: لا .. هذا أول ما شد انتباهي .. ولهذا لما أعدت قراءته شعرت أنه يتكلم عن محمد .. إنه يكاد يصرح باسمه.

لقد ورد فيه .. بل في الإصحاح الأول منه :( قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيا للشعوب)(إرميا: 1/5)

إن هذه الفقرة تشير إلى محمد .. بل تنطق باسمه ..

قلت: كيف ذلك؟

قال: أنتم تعلمون بأن كل الأنبياء الذين جاءوا بعد إرميا جاءوا لبني إسرائيل خاصة.

قلت: ولكن المسيح جاء لغيرهم .. بدليل أن المسيحية تنتشر في العالم أجمع.

قال: لا .. لقد اكتشفت أن هذا الانتشار أعظم خرافة .. فالمسيح يصرح بأنه لم يرسل إلا إلى بيت إسرائيل.. بل إن المسيح عندما أرسل تلاميذه لينشروا دعوته بين اليهود كرر لهم الوصية في أن يقصروا الدعوة على اليهود، بل إنه حذرهم من دخول مدن الأمم الأخرى، ولو كانـوا جيراناً لليهود، وقد ذكر إنجيل متى ذلك، فقال :( هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً : إلى طريق أمم لا تمضوا إلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)(متى: 10 : 5)

ليس ذلك فقط .. بل إن المسيح لما بدأ الدعوة إلى الله أعلن أنها قاصرة على بني إسرائيل، ولا تمتد إلى غيرهم، لذلك تجدونه يقول في متى(15 : 24):( لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة )

ألا تعلمون أن (إلا) أداة للحصر، وهي تدل على انحصار رسالة المسيح ضمن الشعب الاسرائيلي؟

قلت: ولكن .. ألم تقرأ ما ورد في إنجيل (متى: 38 ):( اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم)

قال: إن هذا النص معارض بكل النصوص التي سبق ذكرها .. ولهذا ذهب المحققون إلى أن هذه العبارة إلحاقية بإنجيل متى، لأنها لم تذكر في بقية الأناجيل.

ألا ترى من الغرابة أن يختص متى بهذه الرواية دون غيره؟

لقد اتفقت الاناجيل الثلاثة على إيراد قصة دخول المسيح أورشليم راكباً على جحش، فهل كان ركوبه على جحش أهم من عالمية الرسالة!؟

بل إن الكثير من النصوص في إنجيل متى يشير إلى أن رسالة المسيح مختصة بإسرائيل، فقد ورد في إنجيل متى (2 : 1):( وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ ؟)

وينقل متى أن التهمة التي وجهت للمسيح هي أنه ملك اليهود :( فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي، فَسَأَلَهُ الْوَالِي :( أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ ) فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ :( أَنْتَ تَقُولُ ) (متى 27: 11)

قلت: فقد ورد في إنجيل يوحنا ما يدل على عموم تخليصه، ألم تقرأ:( ولي خراف أخرى ليست من هذه الحظيرة ، وينبغي أن آتي بتلك )(يوحنا: 16:10) .. وجاء في نفس الإنجيل (32:12) :( وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع )

قال: من قصد بالخراف الذين من الحظائر الأخرى ؟

قلت:  قصد بهم كل من يؤمن به من جميع الأمم؟

قال: لا .. إن مقصد المسيح واضح .. إنه يقصد ما ورد في إنجيل متى (24:15):( لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة )

قلت: ولكن خراف إسرائيل من حضيرته.

قال: لا .. لقد كان كل سبط من إسرائيل يشكل حضيرة خاصة .. فلهذا كان قصده من سائر الحظائر ، أي الأسباط الإحدى عشر الأخرى.

قلت: فهل ينطبق هذا النص على محمد؟

قال: أجل .. فهو الوحيد الذي يخبر أنه أرسل إلى الناس كافة .. وقرآنه يثبت ذلك.. ورسائله التي أرسلها إلى ملوك زمانه تثبت ذلك.

سكت قليلا، ثم قال: ليس هذا فقط .. إن صدر هذه النبوءة، وهو قول إرميا :( قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك ) ينطبق تمام الانطباق على محمد.

قلت: كيف؟

قال: لقد أخبر القرآن الكريم أن الله تعالى أخذ الميثاق على كل نبي بعثه من لدن آدم، إلى المسيح أنه مَهْمَا آتى الله أحدَهم من كتاب وحكمة، وبلغ أيّ مبلَغ، ثم جاءه رسول من بعده، ليؤمنَنَّ به ولينصرَنَّه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته.

وقد نص على هذا الميثاق قوله تعالى:) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ( (آل عمران:81)

ومحمد r هو الذي جاء بالحق مصدقاً لما معهم بدليل قوله تعالى عنه :) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ( (الصافات:37)، وقوله تعالى:) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ( (آل عمران:3)

ساد صمت خاشع المحل الذي نجلس فيه، فقال: ليس هذا فقط .. لقد ورد في نبوءة إرميا قوله بعد قوله السابق :( فقلت آه يا سيد الرب: إني لا اعرف أن أتكلم لأني ولد، فقال الرب لي: لا تقل: إني ولد لانك الى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به) (إرميا: 6 ـ 7)

قلت: أهذه الفقرات تشير إلى محمد؟

قال: بل تكاد تنطق باسمه.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أنت تعلم أن محمدا كان أميا .. وكان لا يعرف القراءة والكتابة كالأولاد الصغار .. ولهذا ذكر عدم قدرته على القيام بما كلف به.

قلت: أجل .. أعلم ذلك .. والتاريخ يثبت ذلك بالأسانيد الصحيحة.

قال: فهذا النص يثبت هذه الصفة، ويجعلها دليلنا إليه.

زيادة على هذا .. فإن النص يبين خاصية ذكرت لمحمد وهي أنه يتكلم بكل ما أمر به .. وهو يدل على أن كل كلامه وحي من الله، وقد ثبت ذلك في قرآنه، فقد ورد فيه:) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى( (النجم:3 ـ 4)

وهو يشير إلى شيء آخر له أهميته، وهو أن هذا المبشر به أكمل رسالة ربه، وأداها أحسن أداء، وقد ورد في كتاب محمد ما يشير إلى هذا، فقد جاء فيه :) الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً( (المائدة: من الآية3)

قلت: صدقت .. هذا واضح تماما .. إن الكتاب المقدس الذي ندين به يفتقر إلى مثل هذا النص.

قال: أجل .. وقد ورد في أخبار المسلمين المسندة أن رجلا من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرأون آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: وأي آية؟ قال قوله :) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ( (المائدة: من الآية3)، فقال عمر :( والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله r، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله r ، نزلت عَشية عَرَفَة في يوم جمعة )[1] 

ورووا عن كعب ـ وهو من اليهود الذين أسلموا ـ قوله :( لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه. فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فذكر الآية، فقال عمر:( قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد )

صمت، فقال :( وفي النص بشارة أخرى تلي ما سبق، لقد ورد فيه:( لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب )(أرميا: 1/8)

ألا ترى في هذا النص بشارة صريحة بما أمد الله محمدا من نصر على أعدائه؟

إن أعداء كثرين لا حصر لهم اجتمعوا على حرب محمد ودين محمد في مهده .. لكنهم لم يطيقوا ..  واجتمع أعداء آخرون في كل الأزمان .. فلم يملكوا إلا أن يستسلموا أو يسلموا؟

قلت: ولكن المسيحية انتصرت على أعدائها.

قال: أنت تعلم كيف انتصرت .. وبماذا ضحت لتنتصر؟

لقد ضحت المسيحية بالمسيح لتصل إلى العالم.

لولا أن رجال الدين من المسيحية في مجمع نيقية أرضوا الامبراطور بتنازلاتهم ما قام للمسيحية دين.

لقد بحثت في ذلك بحوثا مستضيفة .. ربما أعلمك علومها في يوم من الأيام.

صمت، فقال: وفي النص بشارات أخرى .. اسمع هذه البشارة:( ومد الرب يده ولمس فمي وقال الرب لي ها قد جعلت كلامي في فمك) (أرميا:1/9)

هل تعرف كتابا في الأرض يمكن نسبته إلى الله غير كتاب محمد؟

إن كل الكتب يتحدث مؤلفوها، ويسمون أنفسهم، ويذكرون أنسابهم وتواريخهم ما عدا كتاب محمد، فإنه كله كلام الله من أوله إلى آخره.

بل إن الله يعتبر كتاب محمد كلامه، فهو يقول :) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ( (التوبة:6) ، ويقول :) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً( (الفتح:15)

صمت، فقال: وفي النص بشارة أخرى تقول:( انظر قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس) (أرميا: 1/10)

إن هذا النص لا ينطبق إلا على محمد .. فهو النبي الوحيد الذي سار نحو الشعوب المختلفة لينقذ المستضعفين من نير المستكبرين.

أخبرني .. هل في بني إسرائيل نبي سار نحو الرومان أو الفرس أو الهنود؟

أخبرني .. هل قامت حضارة على أساس ديني في عهد أي نبي من أنبياء بني إسرائيل لتشمل العالم أجمع؟

ألم يكن الإسرائيليون منشغلون بأنفسهم عن كل العالم؟

حتى المسيح لما جاء ترك ما لقيصر لقيصر .. تركه لجبروته وطغيانه وعتوه.

قلت: ونبي المسلمين؟

قال: لم يترك قيصرا .. ولا غير قيصر ..

لقد كتب محمد إلى ملك الروم هرقل، الذي كانت ترتعد الفرائص عند ذكره، هذه الرسالة التي تمتلئ بالقوة:( بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدي، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ((آل عمران‏:‏64‏)

وكتب إلى جُرَيْج بن مَتَّي الملقب بالمُقَوْقِس ملك مصر والإسكندرية يقول:( بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبــط، ) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ((آل عمران‏:‏64‏)

وكتب إلى إلى كسرى ملك فارس‏ :( ‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدي، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك )

وكتب إلى ملك عمان جَيْفَر وأخيه عبد ابني الجُلَنْدَي :( بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدي، أما بعد .. فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما ‏[‏أن تقرا بالإسلام‏]‏ فإن ملككما زائل، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما )

صمت، فقال: أنا أعرف ما يتلاعب به قومي حين يترجمون النصوص المقدسة .. لقد مارست ذلك يوما، بل أياما.

وأنا الآن سأقرأ لك نصا من سفر إرميا .. في نسخة قديمة منه .. ذكرها علي بن ربن الطبري .. وهو مسيحي هدته دراسة الموضوعية الصادقة للكتاب المقدس ليستنير بشمس محمد.

لقد ذكر هذا المهتدي أنه كان في الفصل التاسع عشر من سفر إرميا قوله حاكيا عن الله تعالى :( إني جاعل بعد تلك الأيام شريعتي في أفواههم، وأكتبها في قلوبهم، فأكون لهم إلها، ويكونون لي شعبا، ولا يحتاج الرجل أن يعلم أخاه وقريبه الدين والملة، ولا إلى أن يقول له أعرف الرب، لأن جميعهم يعرفونه صغارهم وكبارهم، وأنا أغفر لذلك ذنوبهم، ولا أذكرهم بخطاياهم )

وقد قال هذا المهتدي معلقا على هذه النبوءة :( وقد صدق وعد الله، وازدرع حبه في قلوب هذه الأمة صغارها وكبارها، وأنطق ألسنتهم بشرائعه وتحاميده، وكل عارف بالله مؤمن به .. واقرأ قوله تعالى:)  الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ( (المائدة: من الآية3)، وقوله تعالى:) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( (آل عمران: من الآية110)، وقوله تعالى :) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ( (البقرة: من الآية165) حبا لله)، وتأمل ما وصف الله به هذه الأمة في هذه النصوص من صفات خيّرة مباركة، فستجد أنها مماثلة لما وصفها الله به على لسان أرميا.

قال هذا، ثم انصرف إلى بكائه.

قلت: ما بالك يا رجل .. إن المبشرات التي ذكرتها تدعوك إلى الفرح لا إلى الحزن.

قال: يحزنني أن نكون من هذه الأمة التي شرفت كل هذا الشرف .. وأنارت عليها تلك الشمس العظيمة .. ثم نرغب عنها إلى المستنقعات نشرب مياهها، وإلى الجحيم نحرق أنفسنا بها.

قلت: أنت حزين على قومك.

قال: وحزين على قومك .. وقد ورثت هذا الحزن من الشمس التي أستنير بأشعتها.. فقد كان محمد r مملوءا رحمة ولطفا ومودة .. فلذلك كان يحزن لإعراض الخلق عن الله حتى قال له ربه :) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ( (الشعراء:3)، وقال له :) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( (آل عمران:176)، وقال له :) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ( (لقمان:23)

كان يقرأ بخشوع تتصدع له القلوب ..

تركته .. وقد امتلأت بحيرة جديدة .. أنشأت بصيصا جديدا من النور اهتديت به إلى شمس محمد.

 

 

 

 



([1])البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.