المؤلف:
نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: معجزات حسية |
الناشر:
دار الكتاب الحديث |
الفهرس
في اليوم
السابع..
لم أنتظر
بولس، فقد أخبرني بعدم تمكنه من زيارتي اليوم، فلذلك بقيت أفكر أين أذهب، وبمن أتصل،
وفجأة خطر على بالي الموعد الذي عقده عبد القادر مع أولئك المستضعفين المنبوذين
ليحدثهم عن حماية الله لنبيه r، فسررت كثيرا لهذه الفرصة
العظيمة.
سرت إلى
ذلك المحل، وكلي همة ونشاط، وكلي ـ في نفس الوقت ـ أسف على صاحبي بولس الذي ستفوته
فرصة التعرض لهذه الأنوار الجديدة من شمس محمد r.
لكني ما
وصلت إلى ذلك المحل حتى رأيت من بعيد صاحبي بولس في نفس ذلك المحل متخفيا عن
الجمع، بحيث يسمع من غير أن يراه أحد، فلذلك تخفيت أنا الآخر حتى أرى بولس من غير
أن يراني، وأسمع عبد القادر من غير أن يلحظ الجمع ذلك مني.
جاء عبد القادر بأنوار الإيمان التي تسري في كل كيانه،
وقال للجمع المحيطين به، والذين ازدادوا كثرة على كثرتهم: لقد طلبتم مني الحديث عن
حماية الله لنبيه محمد r.
قال أحدهم: أجل، فنحن نتعجب كيف استطاع محمد في تلك
البيئة الموبوءة بالعداء له أن يحمي نفسه، ويحمي رسالته.
قال آخر: إن نجاته من كل تلك الأهوال برسالته كنجاة رجل
غرق في عرض المحيط، وغرقت معه كنوز كثيرة يحملها، لكنه فجأة قطع عشرات الآلاف من
الأميال ليخرج لا وحده فقط، بل تخرج معه كل كنوزه، لا يضيع منها كنز واحد.
قال عبد القادر: إنها حماية الله.. لقد
حمى الله رسوله ليؤدي الرسالة التي كلف بها، كما حمى جميع أنبيائه، قال تعالى:﴿
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ
الْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:103)، وقال تعالى ذاكرا نبيه يونس u:﴿
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الانبياء:88)
أنتم تلاحظون أن القرآن الكريم يربط في هذا بين المؤمنين والأنبياء، فالله
تعالى يحمي المؤمنين المستضعفين الذي تكون لهم همة الخروج من استضعافهم من كل ما
يكيده أعداؤهم لهم، لقد قال تعالى في ذلك:﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾
(الحج:38)
قال رجل من الجمع: لقد عرفنا أمس مواطن البلاء الكثيرة
التي تعرض لها محمد r، فحدثنا اليوم
عن جنود الحماية التي وفرها الله له.
قال عبد القادر: هي جنود كثيرة.. فلا
يمكن إحصاء جنود الله، قال تعالى:﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾
(المدثر: من الآية31)
وقد حمى الله ببعض هذه الجنود الظاهرة والخفية رسول الله كما حمى الفئة
المؤمنة الصامدة في كل مكان وكل زمان، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾
(الأحزاب:9)، وقال تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ (الفتح:4)،
وقال تعالى:﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ
عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (الفتح:7)
ولكن مع ذلك.. فسأذكر لكم بعض الأمثلة عن الجنود التي حمى الله بها نبيه r، والتي تحقق بها وعده له بأن
يعصمه من الناس، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة:67)
فمن هؤلاء
الجنود الذين حموا رسول الله r من مؤامرات أعدائه جند الرعب الذي يملأ قلوب من
يقترب من جنابه الشريف، وقد أشار r إلى هذا النوع من الجند، فقال:( نصرت بالرعب )[1]
وأشار إليه
القرآن في مواقف من مواقف نصرة الدين، فقال تعالى:﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ (آل
عمران:151)، وقال تعالى:﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي
مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾
(لأنفال:12)، وقال تعالى:﴿ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً
تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً﴾ (الأحزاب:26)، وقال تعالى:﴿
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ
دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي
الْأَبْصَارِ﴾ (الحشر:2)
وقد ذكر المؤرخون وعلماء السيرة الكثير من الأمثلة على
هذا النوع من الجند:
فممن دكهم هذا الرعب الذي أيد الله
به نبيه r أبو جهل، فقد رويت عنه الروايات الكثيرة
المنبئة عما تعرض له من تخويف رباني نتيجة همه بإيذاء محمد r:
ومما يروى من ذلك ما حدث به أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ فقال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد
وجهه بين أظهركم[2]؟
قال: قيل: نعم فقال: واللات والعزى لئن
رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأعفرن وجهه في التراب.
فأتى رسول الله r وهو يصلي ليطأ على رقبته، فما
فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه[3]،
ويتقي بيديه، فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار، وهولاً وأجنحة.
وقد قال رسول الله r يبين كيف حماه الله تعالى:( لو دنا
مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا )[4]
وفي حديث آخر عن العباس ـ رضي الله
عنه ـ قال: كنت يوما جالسا في المسجد، فأقبل أبو جهل، فقال: ان لله علي ان رأيت
محمدا ساجدا ان أطأ على رقبته، فخرجت على رسول الله r حتى دخلت عليه، فأخبرته بقول أبي جهل، فخرج غضبانا حتى أتى المسجد
فعجل قبل أن يدخل من الباب، فاقتحم الحائط فقلت: هذا يوم شر فاتزرت واتبعته[5].
وفي حديث آخر عن ابن عباس ـ رضي الله
عنهما ـ قال: قال أبو جهل: يا معشر قريش، ان محمدا قد أبى الا ما ترون من عيب
ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا، وإني لأعاهد الله لأجلسن له غدا
بحجر فإذا سجد في صلاته فضحت به رأسه، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، فلما
أصبح أبو جهل أخذ حجرا وقام رسول الله r يصلي، وقد غدت قريش، فجلسوا في أنديتهم ينظرون، فلما سجد رسول
الله r احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه ثم رجع،
منتقعا لونه، قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، فأتى قريشا، فقالوا
له: مالك؟ قال: لما قمت إليه عرض لي فحل من الابل، فوالله ما رأيت مثل هامته ولا
قصرته، ولا أنيابه لفحل قط، فهم أن يأكلني، فقال رسول الله r:( ذاك جبريل، لو دنا مني لاخذه )[6]
وفي حديث آخر عن ابن عباس ـ رضي الله
عنهما ـ قال: مر أبو جهل بالنبي r وهو يصلي، فقال: ألم أنهك أن تصلي يا محمد، لقد
علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني فانتهره النبي r فقال جبريل: فليدع ناديه سندع الزبانية، فوالله لو دعا ناديه
لاخذته زبانية العذاب [7].
ومنهم النضر
بن الحارث، فقد روي عن عروة ـ رضي الله عنه ـ أن النضر بن الحارث كان يؤذي رسول الله r
ويتعرض له، فخرج رسول الله r يوما يريد حاجته في نصف النهار في حر شديد، فبلغ أسفل من ثنية
الحجون، فرآه النضر بن الحارث، فقال: لا أجده أبدا أخلى منه الساعة، فأغتاله، فدنا
الى رسول الله r ثم انصرف راجعا مرعوبا إلى منزله، فلقي أبا جهل، فقال: من أين؟
قال النضر: اتبعت محمدا رجاء أن أغتاله وهو وحده، فإذا أسود تضرب بأنيابها على
رأسي فاتحة أفواهها فذعرت منها ووليت راجعا، فقال أبو جهل ـ الذي أصابه من قبل ما
أصابه ـ: هذا بعض سحره[8].
ومنهم دعثور
بن الحارث الغطفاني، فقد روي عن عبد الله بن أبي بكر ـ
رضي الله عنه ـ وغيره، أنهم قالوا: كنا مع رسول الله r فبلغ رسول الله r أن جمعا من غطفان من بني ثعلبة بن محارب بذي أمر، قد تجمعوا
يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول الله r، معهم رجل يقال له: دعثور بن الحارث، فخرج رسول الله r
في أربعمائة وخمسين رجلا، ومعهم أفراس، فهزمت منه الاعراب فوق ذروة من الجبال،
ونزل رسول الله r ذا أمر فعسكر به، وأصابهم مطر كثير، فذهب رسول الله r
لحاجته، فأصابه ذلك المطر فبل ثوبه، وقد جعل وادي ذي أمر بينه وبين أصحابه، ثم نزع
ثيابه فنشرها لتجف، وألقاها على شجرة، ثم اضطجع تحتها والأعراب ينظرون، فقالت
لدعثور وكان سيدها وأشجعها: قد أمكنك محمد، وقد انفرد من أصحابه، حيث أن غوث
بأصحابه لم يغث حتى تقتله، فاختار سيفا من سيوفهم صارما، ثم أقبل حتى قام على رسول
الله r بالسيف مشهورا فقال: يا محمد، من يمنعك مني اليوم؟ فقال r:(
الله عز وجل )، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله r
وقام على رأسه، فقال:( من يمنعك مني؟) قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا اله الا الله،
وأن محمدا رسول الله، لا أكثر عليك جمعا أبدا، فأعطاه سيفه ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه
فقال: والله، لأنت خير مني، فقال رسول الله r:( أنا أحق بذلك منك )
فأتى قومه فقالوا: أين ما كنت تقول،
والسيف في يدك، قال: قد كان والله ذلك، ولكن نظرت إلى رجل أبيض طويل، فدفع في
صدري، فوقعت لظهري، وعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمدا رسول الله.
وجعل الرجل يدعو قومه الى الاسلام،
ونزلت هذه الآية:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ
فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (المائدة:11)[9]
ومنهم غورث
بن الحارث، فعن جابر بن
عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنا مع رسول الله r بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة، تركناها لرسول الله r
وان رجلا من بني محارب يقال له غورث قال لقومه من غطفان: لأقتلن لكم محمدا، فنزل
رسول الله r تحت ظل شجرة، فعلق سيفه، فنمنا نومة، فإذا رسول الله r
يدعونا، فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس فقال:( إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم،
فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فسقط السيف من يده،
وأخذ رسول الله r السيف وقال:( من يمنعك مني؟) قال: كن خيرا آخذ، فخلى سبيله فأتى
أصحابه، فقال: جئتكم من عند خير الناس [10].
ومنهم شيبة
بن عثمان،
فعن عكرمة قال: قال عثمان بن شيبة لما غزا رسول الله r حنينا فذكرت أبي وعمي، وقتل علي وحمزة اياهما، فقلت: اليوم أدرك
ثأري من محمد، فجئته من خلفه فدنوت منه حتى لم يبق الا أن أسوره بالسيف إذ دفع لي
شواظ من نار بيني وبينه كأنه البرق، فنكصت القهقرى، فالتفت الي النبي r
فقال:( يا شيبة، ادن مني )، فوضع يده على صدري، واستخرج الله الشيطان من قلبي،
فرفعت إليه بصري، وهو أحب الي من سمعي وبصري[11].
ومنهم نفر
من المنافقين أرادوا الفتك به r، فعن حذيفة في قوله تعالى:﴿ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ
يَنَالُوا ﴾ (التوبة: من الآية74)) أن رسول الله r رجع قافلا من تبوك الى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر
برسول الله r ناس من أصحابه، فتآمروا عليه أن يطرحوه في عقبة في الطريق، فلما
هموا وبلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فلما غشيهم رسول الله r
أخبر خبرهم، قال:( من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فإنه أوسع لكم )، وأخذ رسول
الله r العقبة، وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين مكروا برسول الله
r لما سمعوا ذلك استعدوا وتلثموا وقد هموا بأمر عظيم.
وأمر رسول الله r
حذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، فمشيا معه مشيا، وأمر عمارا أن يأخذ بزمام
الناقة، وأمر حذيفة أن يسوقها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم من ورائهم، قد
غشوهم، فغضب رسول الله r وأمر حذيفة أن يردهم، وأبصر حذيفة غضب رسول الله r
فرجع ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم، فضربها بالمجن وأبصر القوم وهم متلثمون لا
يشعر أنما ذلك فعل المسافر، فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة، وظنوا أن مكرهم قد ظهر
عليه، فأسرعوا حتى خالطوا الناس.
وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله r،
فلما أدركه قال:( اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش أنت يا عمار )، فأسرعوا حتى استوى
بأعلاها فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال رسول الله r:( يا حذيفة، هل عرفت من هؤلاء الرهط، أو الركب أو أحدا منهم؟)،
قال: عرفت راحلة فلان وفلان، وقال: كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون، فقال
رسول الله r:( هل علمتم شأنهم وما أرادوا؟) قالوا: لا، والله يا رسول الله،
قال:( فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا أظلمت في العقبة طرحوني منها، وإن الله
تعالى قد أخبرني بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وهم عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وابو
حاضر الاعرابي، وابو عامر، والجلاس بن سويد بن الصامت، ومجمع بن جارية وفليح
التيمي، وحصين بن نمير، وطعمة بن أبيرق وعبد الله بن عيينة، ومرة بن الربيع )،
قيل: يا رسول الله، أفلا تأمر بهم فتضرب أعناقهم، قال:( أكره أن يتحدث الناس،
ويقولوا: ان محمدا وضع يده في أصحابه )
فلما أصبح أرسل إليهم كلهم، فقال:(
أردتم كذا وكذا )، فحلفوا بالله ما قالوا، ولا أرادوا الذي سألهم عنه فذلك قوله
تعالى:﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ
الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا
نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ
يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ
عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾ (التوبة:74)، فهم اثنا عشر رجلا، حاربوا الله
ورسوله، وكان أبو عامر رأسهم، وله بنوا مسجد الضرار[12].
ومن الجنود
الذين حموا رسول الله r من مؤامرات أعدائه جند الإخفاء.
تعجب الجمع
من قوله هذا، فقال: الله قادر على كل شيء، فلذلك قد يلقي الله تعالى سرابيل ستره
على من يشاء من بعده لحمايته، كما قال تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ﴾ (يّـس:9)
ومن هؤلاء
محمد r.. فقد ألقى الله عليه في بعض
مواضع الحاجة هذه السرابيل حتى يحميه ويحفظه من أعدائه.
ومن المواقف
التي حمى الله بنها نبيه بهذا النوع من الجند، موقفه مع العوراء بنت حرب بن أمية، امرأة ابي لهب، فعن أسماء بنت أبي بكر، وغيرها من الصحابة قالوا: لما نزلت:﴿
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ (المسد:1) أقبلت العوراء أم جميل،
ولها ولولة، وفي يديها فهر، وهي تقول:
مذمما أبينا
ودينه قلينا وأمره عصينا
والنبي r جالس في المسجد ومعه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ الى جنبه فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه، وأنا
أخاف أن تراك، فقال:( إنها لن تراني )، وقرأ قرآنا فاعتصم به، كما قال تعالى:﴿
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً﴾ (الاسراء:45)
فجاءت حتى أقامت على أبي بكر فلم تر
النبي r فقالت: أبن الذي هجاني وهجا زوجي، فقال: لا ورب هذا البيت ما
هجاك، فولت، وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها
وفي لفظ: يا أبا بكر، ما شأن صاحبك
ينشد في الشعر، بلغني أن صاحبك هجاني.
فقال أبو بكر: والله ما صاحبي بشاعر
ولا هجاك، فقالت: أليس قد قال: (في جيدها حبل من مسد)، فما يدريه ما في جيدي، قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (قل لها: هل ترين عندي أحدا، فانها لن تراني، جعل الله
بيني وبينها حجابا)، فسألها أبو بكر، فقالت: أتهزأ بي والله، ما أرى عندك أحد،
فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها، فقال أبو بكر الصديق ـ رضي الله
عنه ـ: يا رسول الله، إنها لم ترك، فقال:( حال بيني وبينها جبريل، يسترني بجناحيه
حتى ذهبت)[13]
ومنها ما وري في عصمته r
من المخزوميين، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ
أن ناسا من بني مخزوم تواصوا بالنبي r ليقتلوه، منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة ونفر
من بني مخزوم، فبينما النبي r قائما يصلي فلما سمعوا قراءته فأرسلوا إليه الوليد ليقتله، فانطلق
حتى انتهى الى المكان الذي يصلي فيه، فجعل يسمع قراءته ولا يراه، فرجع إليهم
فأعلمهم بذلك، فأتاه من بعده أبو جهل والوليد ونفر منهم، فلما انتهوا الى الصوت،
فإذا الصوت من خلفهم، فينتهون إليه فيسمعونه أيضا من خلفهم، ثم انصرفوا ولم يجدوا
إليه سبيلا[14].
ومنها موقفه r مع زيد بن قيس وعامر بن
الطفيل، كما
ورد في الحديث أن عامر بن الطفيل قدم على رسول الله r وهو يريد أن يغدر به، فقال لاربد: انا قدمنا على الرجل، فاني شاغل
عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك، فاعله بالسيف، قال: أفعل.
فلما قدما على رسول الله r
قال: أريدك يا محمد قم معي أكلمك، فقام معه فخليا الي جدارا ووقف عامر يكلمه،
فقال: يا محمد خالني قال:( لا، حتى تؤمن بالله وحده)، فلما أتى على رسول الله r
فقال: أما والله، لأملأنها عليك خيلا حمرا ورجالا.
فلما ولى قال رسول الله r:(
اللهم اكفني عامر بن الطفيل )
فلما خرجوا من عند رسول الله r
قال عامر لاربد: ويحك يا اربد، أين ما كنت أمرتك به؟ قال: ما كان على ظهر الارض
رجل أخوف عندي على نفسي منك، وأيم الله، لا أخاف بعد اليوم أبدا، قال: لا أبا لك،
لا تعجل علي، فوالله، ما هممت بالذي أمرتني به مرة الا دخلت بيني وبين الرجل حتى
ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف[15]؟
ومنها موقفه الشديد عند
الهجرة..
وسأقصه علكيم بطوله، فقد كان إخفاؤه r في ذلك المحل آية بينة لا شك فيها.
فعن أ بي مصعب المكي قال: أدركت أنس
بن مالك، وزيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة يتحدثون أن النبي r ليلة الغار أمر شجرة[16]، فنبتت في وجه رسول الله r، فسترته، وبعث الله العنكبوت، فنسجت ما بينهما، فسترت وجه رسول
الله r، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا في فم الغار.
وأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم
وهراويهم وسيوفهم، حتى إذا كانوا من النبي r على أربعين ذراعا، جعل بعضهم ينظر في الغارـ فلم ير إلا حمامتين
وحشيتين بفم الغار، فرجع إلى أصحابه، فقالوا له: ما لك؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين
فعرفت أنه ليس فيه أحد، فسمع النبي r ما قال، فعرف أن الله قد درأ عنه بهما، فبارك عليهما النبي r
وفرض جزاءهن وانحدرتا في الحرم فأفرخ ذلك الزوج كل شئ في الحرم. [17]
وفي حديث آخر عن ابن عباس ـ رضي الله
عنهما ـ أن المشركين قصوا أثر رسول الله r، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا
على بابه نسيج العنكبوت، فمكث فيه ثلاثة أيام[18].
وعن الحسن البصري ـ رضي الله عنه ـ
قال: جاءت قريش يطلبون النبي r، وكانوا إذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت قالوا: لم يدخله
أحد، وكان النبي r قائما يصلي وأبو بكر يرتقب، فقال أبو بكر: يا رسول الله، هؤلاء قومك
يطلبونك، أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره.
فقال له النبي r:( لا تخف إن الله معنا )[19]
لقد ذكر القرآن الكريم هذا الموقف
الشديد الذي وقفه رسول الله r في الغار، فقال تعالى:﴿ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ
اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي
الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ
كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة:40)
لقد كان الموقف شديدا، فلم يكن يحول
بين النبي r وذلك الكيد العظيم المدبر له إلا تلك الخيوط الواهية من نسيج
العنكبوت..
وفي حديث آخر عن أبي بكر الصديق ـ
رضي الله عنه ـ قال: قلت للنبي r
ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدمه لابصرنا تحت قدميه، فقال:( ما ظنك باثنين
الله ثالثهما )[20]
وعن عطاء بن ميسرة قال:( نسجت
العنكبوت مرتين مرة على داود حين كان طالوت يطلبه ومرة على النبي r
في الغار )[21]
وفي حديث آخر أن المشركين استأجروا رجلا
يقال له علقمة بن كرز بن هلال الخزاعي، فقفا لهم الاثر حتى انتهى إلى غار ثور وهو
بأسفل مكة فقال: ههنا انقطع أثره ولا أدري أخذ يمينا أم شمالا أم صعد الجبل.
فلما انتهوا إلى فم الغار قال أمية
بن خلف: ما أربكم في الغار، إن عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد، ثم جاء فبال[22].
وفي حديث آخر عن عروة أن المشركين
لما فقدوا رسول الله r ركبوا في كل وجه يطلبونه، وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم به
ويجعلون لهم الجعل العظيم وأتوا على ثور الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النبي r
حتى طلعوا فوقه، وسمع رسول الله r وأبو بكر أصواتهم، فأشفق أبو بكر وبكى وأقبل عليه الهم والحزن
والخوف، فعند ذلك يقول رسول الله r ) لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾(التوبة: من
الآية40)، ودعا رسول الله r فنزلت السكينة من الله تعالى.
وقد ذكر من ستر الله غير نسيج
العنكبوت ما حدثت به أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ أن أبا بكر رأى رجلا
مواجها الغار فقال:( يا رسول الله إنه يرانا ) قال:( كلا إن الملائكة تستره الآن
بأجنحتها )[23]
وقد أرخ البوصيري الشاعر المحب لهذه
الحادثة، فقال:
ويح قوم جفوا
نبيا بأرض ألفته ضبابها والظباء
وسلوه وحن جذع
إليه وقلوه ورده الغرباء
أخرجوه منها
وآواه غار وحمته حمامه ورقاء
وكفته بنسجها
عنكبوت ما كفته الحمامة الحصداء
وفي قصيدة أخرى قال:
أقسمت بالقمر
المنشق أن له من قلبه نسبة
مبرورة القسم
وما حوى الغار
من خير ومن كرم وكل طرف من الكفار عنه
عم
فالصدق في
الغار والصديق لم يردا وهم يقولون
ما بالغار من أرم
ظنوا الحمام
وظنوا العنكبوت على خير البرية لم
تنسج ولم تحم
وقاية الله
أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الاطم
وقبل هذا الموقف عندما
وقف المشركون يتربصون برسول الله r ليقتلوه، أخفاه الله أعينهم لم يروه، فقد حدث محمد بن كعب عن ذلك،
فقال: قال أبو جهل وهم جلوس: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكا، فإذا
متم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جِنَانٌ خير من جنان الأرْدُن وأنكم إن خالفتموه
كان لكم منه ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تُعَذَّبون بها.
وخرج عليهم
رسول الله r عند ذلك، وفي يده حفنة من تراب،
وقد أخذ الله على أعينهم دونه، فجعل يَذُرّها على رؤوسهم، ويقرأ أول سورة يس حتى
انتهى إلى قوله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ
خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ (يّـس:9)،
وانطلق رسول الله r لحاجته، وباتوا رُصَدَاء على
بابه، حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار، فقال: ما لكم؟ قالوا: ننتظر محمدًا.
قال: قد خرج عليكم، فما بقي منكم من رجل إلا قد وضع على رأسه ترابا، ثم ذهب
لحاجته. فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب[24].
وفي حديث
آخر أن النبي r أمر عليًا ـ رضي الله عنه ـ يوم
الهجرة أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صير
الباب ويرصدونه، ويريدون بياته ويأتمرون أيهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله r عليهم، فأخذ حفنة من البطحاء،
فجعل يذره على رءوسهم، وهم لا يرونه وهو يتلو قوله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ
فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ (يّـس:9)
ومضى رسول الله r إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في
دار أبي بكر ليلاً، وجاء رجل ورأى القوم ببابه، فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدًا
قال: خبتم وخسرتم، والله مر بكم وذرّ على رؤوسكم التراب، قالوا: والله ما أبصرناه.
وقاموا
ينفضون التراب عن رؤوسهم، وهم: أبو جهل والحكم بن العاص وعقبة بن أبي معيط والنضر
بن الحارث وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود وطعيمة بن عدي وأبو لهب وأبي بن خلف ونبيه
ومنبه ابنا الحجاج[25].
ومن الجنود التي أيد الله بها نبيه r
وحماه بها من مؤامرات أعدائه الكثيرة جند الدعاء، وهو جند لا يكون إلا مع الصادقين
المخلصين.
فالصادقون المخلصون يثبتون في مواطن
الشدة لعلمهم أن الله لن يضيعهم.
وقد ذكر الله تعالى موقف موسى u
المخلص الصادق، مقارنا له بموقف قومه من الشاكين من بني إسرائيل، فقال تعالى:﴿
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا
لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ
كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآَخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)﴾(الشعراء)
فموسى u في هذا الموقف الشديد ذكر الله، وتوجه
إليه، فآتاه الله من خوارق الآيات ما نجاه به، ونجى قومه معه.
ومثل ذلك
حصل لإبراهيم u عندما أراد قومه أن يحرقوه
بالنيران التي أعدوها لهم، فلم يكن له من سلاح يواجه به تلك النيران إلا سلاح
التوجه إلى الله.
وقد ذكر ابن
عباس ما قاله إبراهيم u في ذلك الموقف الشديد، فقال:(
حسبي الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها أصحاب محمد حين
قالوا:﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾(آل عمران:
173)[26]
ومما قاله
إبراهيم u في ذلك الموقف الشديد ما نص عليه
قوله r:( لما ألقي إبراهيم، عليه السلام،
في النار قال: اللهم، إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك )[27]
ويروى أنه
لما جعلوا يوثقونه قال: لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك.
ويروى أنه
عرض له جبريل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا وأما من الله
فبلى.
ويروى عن
ابن عباس أنه قال: لما أُلقيَ إبراهيم جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر
فأرسله؟ قال: فكان أمر الله أسرع من أمره، قال الله تعالى:﴿ يَا نَارُ
كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (الانبياء: من الآية69)
وعلى خطى
هذا النبي الكريم وغيره من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ كان رسول الله r يفزع إلى الله في كل مواقف الشدة،
فكانت حماية الله أسرع إليه من كل جند.
ومن الأمثلة
على ذلك عصمته r من سراقة بن مالك في الهجرة ففي الحديث عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ
قال: طلبنا القوم فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك على فرس له، فقلت:
يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، قال:( لا تحزن، ان الله معنا )، فلما كان بيننا
وبينه قيد رمح أو ثلاثة دعا عليه رسول الله r فقال:( اللهم، اكفناه بما شئت )، فساخت قوائم فرسه
في الأرض إلى بطنها، قال: يا محمد، قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما
أنا فيه، فوالله لأعمين كل من ورائي من الطلب، فدعا له فانطلق راجعا )[28]
وفي حديث آخر مفصل عن هذه الحادثة
حدث به سراقة بن مالك ـ رضي الله عنه ـ نفسه، قال: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في
رسول الله r وأبي بكر دية كل واحد منهما مائة ناقة من الابل لمن قتله أو أسره،
فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ـ
ونحن جلوس ـ فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه.
قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فأومأت
إليه بعيني أن أسكت، فسكت، ثم قلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا
انطلقوا يبتغون ضالة لهم.
ثم لبثت في المجلس، ثم قمت، فدخلت
بيتي فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت
به من ظهر البيت، فحططت بزجه الارض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها
تقرب بي حتى رأيت أسودتهما.
فلما دنوت منهم عثرت بي فرسي، فخررت
عنها، فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الازلام فاستقسمت بها أضرهم، أم
لا أضرهم، فخرج الذي أكره: أني لا أضرهم، وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة،
فركبت فرسي وعصيت الازلام فرفعتها تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله r
وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين
فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ الاثر
يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالازلام، فخرج الذي أكره ـ ألا
أضرهم ـ فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني وأنه ظاهر، فناديتهم بالامان وقلت:
أنظروني فوالله لا آذيتكم ولا يأتيكم مني شئ تكروهونه.
فقال رسول الله r
لأبي بكر: قل له وما تبتغي منا؟ فقلت: إن قومك قد جعلوا فيكما الدية وأخبرتهما
أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني شيئا ولم يسألاني
إلا أن قال:( أخف عنا )، فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به، قال:( اكتب له يا
أبا بكر )[29]
ثم رجعت، فسكت فلم أذكر شيئا مما كان حتى إذا كان
فتح مكة على رسول الله r وفرغ من حنين والطائف خرجت لألقاه ومعي الكتاب الذي كتب لي لقيته
بالجعرانة،فبينا أنا عامد له دخلت بين ظهري كتيبة من كتائب الانصار، فطفقوا
يقرعونني بالرماح ويقولون: إليك إليك حتى إذا دنوت من رسول الله r
وهو على ناقته، والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة، فرفعت يدي
بالكتاب، ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابك لي وأنا سراقة بن مالك، فقال رسول الله r:(
يوم وفاء وبر أدنه )، فدنوت منه فأسلمت.
ثم تذكرت شيئا أسأل رسول الله r
عنه فما أذكره، إلا أني قلت: يا رسول الله الضالة من الإبل تغشى حياضي، وقد ملأتها
لإبلي: هل لي من أجر في أن أسقيها؟ قال:( نعم في كل ذات كبد حرى أجر )، ثم رجعت
إلى قومي فسقت إلى رسول الله r صدقتي[30].
ومن هذا الباب إجابة الله دعاءه على
أقوام تكبروا عليه، أو على ما طلبه منهم:
فمنهم من
رآه يأكل بشماله، فعن سلمة بن الاكوع ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا أكل عند النبي r بشماله، فقال:( كل بيمينك )، فقال: لا أستطيع، قال:( (لا استطعت
)، ما منعه إلا الكبر.
قال الراوي: فما رفعها إلى فيه بعد[31].
ومنهم سبيعة
الاسلمية،
فعن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ أن
رسول الله r رأى سبيعة الاسلمية تأكل بشمالها، فقال:( أخذها داء غزة )، فلما
مرت بغزة أصابها الطاعون فقتلها[32].
ومنهم رجل يقال له قيس، فعن بريدة ـ
رضي الله عنه ـ أن رسول الله r
سأل عن رجل يقال له قيس فقال:( لا أقرته الأرض )، فكان لا يدخل أرضا يستقر بها حتى
يخرج منها[33].
ومنهم معاوية، فعن ابن عباس
ـ رضي الله عنهما ـ قال رسول الله r:( ادع لي معاوية )، فقلت: إنه يأكل، فقال في الثالثة:( لا أشبع
الله بطنه )، فما شبع بطنه أبد[34].
ومنهم من
كف شعره عن التراب في الصلاة، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r رأى رجلا ساجدا وهو يقول: بشعره هكذا يكفه عن التراب، فقال r:(
اللهم قبح شعره ) قال: فسقط[35].
ومنهم من
احتكر طعاما، فعن أبي يحيى عن فروخ مولى عثمان أن عمر، قيل له: ان
مولاك فلانا قد احتكر طعاما، فقال: قد سمعت رسول الله r يقول:( من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام أو
بالافلاس )، فقال مولاه: نشتري بأموالنا ونبيع، فذكر أبو يحيى أنه رأى مولى عمر
بعد حين مجذوما[36].
ومنهم قريش، التي دعا
رسول الله r عليها أن يصيبها الله بالسنين، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ
قال: كان رسول الله r يدعو في القنوت:( اللهم انج سلمة بن هشام، اللهم انج الوليد بن
الوليد، اللهم انج عياش بن أبي ربيعة، اللهم انج المستضعفين من المؤمنين، اللهم
اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف )[37]
ومنهم بنو
حارثة بن عمرو، فقد روي أن رسول الله r كتب الى بني حارثة بن عمرو بن قرط يدعوهم الى الاسلام، فأخذوا
صحيفته فغسلوها، ورقعوا بها دلوهم، فقال رسول الله r:( ما لهم ذهب الله بعقولهم )، قال: فهم أهل رعدة وعجلة، وكلام
مختلط، وأهل سفه.
قال الواقدي: قد رأيت بعضهم عيا لا
يحسن تبيين الكلام[38].
ومنهم سراقة
بن مالك،
فقد روي أنه دعا إليه قبل إسلامه حين اتبع النبي r وأبا بكر، فعن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه
ـ في حديث هجرة النبي r
أن رسول الله r دعا عليه قال: (اللهم اكفناه بما شئت)، فساخت به فرسه في الأرض
إلى بطنها[39].
ومنهم أبو
القين، فعن
سعيد بن جهمان عن أبي القين ـ رضي الله عنه ـ
أنه مر برسول الله r ومعه شئ من تمر، فأهوى رسول الله r ليأخذ منه قبضة لينثرها بين يدي أصحابه فضم طرف ردائه الى بطنه
وإلى صدره، فقال رسول الله r:( زادك الله شحا )
زاد أبو عبد الله بن مندة: فكان من
أشح الناس[40].
ومنهم الحكم
بن أبي العاص والد مروان، فقد كان الحكم بن أبي العاص يجلس
عند رسول الله r فإذا تكلم النبي r اختلج فبصر به النبي r فقال:( أنت كذلك )، فما زال يختلج حتى مات، وفي لفظ: مر النبي r
بأبي الحكم، فجعل يغمز بالنبي r فقال: فرآه، فقال:( اللهم اجعل به وزعا )، فرجف مكانه[41].
ومنهم كسرى
حين
مزق كتابه، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله r بعث بكتابه الى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فدعا عليهم رسول الله r
أن يمزقوا كل ممزق[42].
وفي حديث آخر عن عن عمير بن اسحاق،
قال: كتب رسول الله r الى كسرى وقيصر، فأما قيصر فوضعه وأما كسرى فمزقه، فبلغ ذلك رسول
الله r فقال:( أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فستكون لهم بقية )[43]
ومن الجنود الذين حمى الله بهم نبيه r
جند الإعلام.. وهم جند ليس لهم من دور غير إخبار رسول الله r بالمؤامرات التي يدبرها أعداؤه له.
لاشك أنكم تعرفون أهمية المعلومة في
المعارك، حتى أن الرؤساء والملوك، بل من هم دونهم يضعون ميزانيات ضخمة للعيون
والجواسيس ليترصدوا لهم كل تحرك توجه ضدهم.
أما محمد r فلم يكن له من العيون إلا ما يطلعه الله عليه سواء من عالم الحكمة
أو من عالم القدرة.
وسأذكر لكم بعض الأمثلة عن ذلك:
لعل أولهم هو الوحي الرباني، فالقرآن
الكريم كان يتنزل ليفضح المؤامرات المختلفة، كما قال تعالى:﴿ يَحْذَرُ
الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي
قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾
(التوبة:64)
فالنفاق ذلك الخطر الخفي لا يعلمه
إلا من يعلم السر وأخفى، ولذلك أخبر القرآن الكريم عن كثير من مؤامرات المنافقين
وعلاماتهم ليتميزوا عن المخلصين الصادقين.
فمن الآيات التي بينت
لرسول الله r بعض مواقف هؤلاء المعادية للإسلام، ولرسول الله r
قولهتعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا
إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ
أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ
عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا
إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ
قَوْلًا بَلِيغًا (63)﴾(النساء)
فقد نزلت
هذه الآيات رجل من المنافقين اختصم مع رجل من اليهود، فجعل اليهودي يقول: بيني
وبينك محمد، وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف[44].
فعن الشعبي قال: كان بين رجل من
المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي r
لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهودي إلى حاكمهم لانه علم أنهم
يأخذون الرشوة في أحكامهم.
فلما اختلفا اجتمعا على أن يحكما
كاهنا في جهينة، فأنزل الله تعالى الآيات السابقة.
وفي حديث آخر عن ابن عباس ـ رضي الله
عنه ـ أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه بينه وبين يهودي خصومة، فقال
اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الاشرف، وهو الذى سماه
الله تعالى الطاغوت، فأبى اليهودي إلا أن يخاصمه إلى رسول الله r،
فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله r، فاختصما إليه، فقضى رسول الله r لليهودي، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: ننطلق إلى عمر بن
الخطاب، فأقبلا إلى عمر، فقال اليهودي: اختصمنا أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه
فلم يرض بقضائه، وزعم أنه مخاصم إليك وتعلق بي فجئت إليك معه، فقال عمر للمنافق،
أكذلك؟ قال: نعم، فقال لهما: رويدا حتى أخرج إليكما، فدخل عمر وأخذ السيف فاشتمل
عليه، ثم خرج إليهما وضرب به المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء
الله وقضاء رسوله، وهرب اليهودي، ونزلت هذه الآية.
وقال السدى: كان ناس من اليهود
أسلموا ونافق بعضهم، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل رجل من بني قريظة
رجلا من بني النضير قتل به وأخذ ديته مائة وسق من تمر، وإذا قتل رجل من بني النضير
رجلا من قريظة لم يقتل به وأعطى ديته ستين وسقا من تمر، وكانت النضير حلفاء الاوس
وكانوا أكبر وأشرف من قريظة وهم حلفاء الخزرج، فقتل رجل من النضير رجلا من قريظة
واختصموا في ذلك، فقالت بنو النضير: إنا وأنتم اصطلحنا في الجاهلية على أن يقتل
منكم ولا تقتلوا منا، وعلى أن ديتكم ستون وسقا والوسق ستون صاعا وديتنا مائة وسق،
فنحن نعطيكم ذلك، فقالت الخزرج: هذا شئ كنتم فعلتموه في الجاهلية لانكم كثرتم
وقللنا فقهرتمونا، ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد، وليس لكم علينا فضل،
فقال المنافقون: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الاسلمي، وقال المسلمون: لا بل إلى
النبي r، فأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبى بردة ليحكم بينهم، فقال: أعظموا
اللقمة: يعني الرشوة، فقالوا: لك عشرة أوسق، قال: لا، بل مائة وسق ديتي، فإني أخاف
إن نفرت النضيرى قتلتني قريظة، وإن نفرت القريظى قتلتني النضير، فأبوا أن يعطوه
فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فدعا النبي r
كاهن أسلم إلى الاسلام، فأبى فانصرف، فقال النبي r لابنيه: أدركا أباكما، فإنه إن جاوز عقبة كذا لم يسلم أبدا،
فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم، وأمر النبي r مناديا فنادى: ألا إن كاهن أسلم قد أسلم.
ومنها قوله تعالى:﴿
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾ (الأحزاب:12)
فقد نزلت هذه الآية تخبر عن استهزاء
المنافقين ومثلهم اليهود بما وعد به رسول الله r أصحابه من النصر والتمكين.
فقد قال ابن عباس وأنس بن مالك ـ رضي
الله عنهماـ: لما افتتح رسول الله r مكة ووعد أمته ملك فارس والروم، قالت المنافقون واليهود: هيهات
هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة
والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وفي حديث آخر عن عمرو بن عوف قال:
خطب رسول الله r على الخندق يوم الاحزاب، ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا، فكنت أنا
وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الانصار في أربعين ذراعا، فحفرنا
حتى إذا كنا تحت ذي ناب، أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقت علينا،
فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله r فأخبر خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، وإما أن يأمرنا فيها
بأمره، فإنا لا نحب أن نجاوز خطه.
فرقا سلمان إلى رسول الله r
وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق
فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحيك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمر، فإنا لا
نحب أن نجاوز خطك، قال: فهبط رسول الله r مع سلمان الخندق والتسعة على شفة الخندق، فأخذ رسول الله r
المعول من سلمان، فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، يعني
المدينة حتى كأن مصباحا في جوفه بيت مظلم، وكبر رسول الله r تكبير فتح، فكبر المسلمون، ثم ضربها رسول الله r
فكسرها وبرق منها برق أضاء مابين لابتيها حتى كأن مصباحا في جوف بيت مظلم، وكبر
رسول الله r تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول الله r
فكسرها، وبرق منها برق أضاء مابين لابتيها، حتى كأن مصباحا في جوف بيت مظلم، وكبر
رسول الله r تكبير فتح وكبر المسلمون.
وأخذ يد سلمان ورقى، فقال سلمان:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط، فالتفت رسول الله r
إلى القوم فقال: رأيتم ما يقول سلمان، قالوا: نعم يا رسول الله،
قال: ضربت ضربتي الاولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى
كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت
ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها
أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي
الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني
جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا.
فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله
موعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر، فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم
الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم
إنما تحفرون الخندق من الفرق، ولا تستطيعون أن تبرزوا؟
فنزل القرآن يفضحهم، وينبئ عن
مقولتهم هذه، ونزل كذلك قوله تعالى:﴿ )قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ
مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران:26)
ومنها قوله تعالى:﴿
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا
بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (آل عمران:188)
فقد نزلت هذه الآية تفضح ما تخئه
نفوس المنافقين من غرور[45]، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن رجالا من المنافقين على
عهد رسول الله r كان إذا خرج رسول الله r إلى الغزو تخلفوا عنه، فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن
يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية [46].
وفي حديث آخر عن عن ابن عباس: دعا
النبي r يهود فسألهم عن شئ فكتموه إياه وأخبروه بغيره،
فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من
كتمانهم إياه، ثم قرأ ابن عباس:﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ
وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾
(آل عمران:187))[47]
وفي حديث آخر عن الضحاك، قال: كتب
يهود المدينة إلى يهود العراق واليمن ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الارض كلها إن
محمدا ليس نبي الله، فاثبتوا على دينكم وأجمعوا كلمتكم على ذلك، فأجمعت كلمتهم على
الكفر بمحمد r والقرآن، ففرحوا بذلك وقالوا: الحمد لله الذي جمع كلمتنا ولم
نتفرق ولم نترك ديننا، وقالوا: نحن أهل الصوم والصلاة ونحن أولياء الله، فلذلك قول
الله تعالى:﴿ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا
بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ (آل عمران: من الآية188)، يعني بما ذكروا من الصوم
والصلاة والعبادة.
ومنها قوله تعالى:﴿
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (آل عمران:199)
فقد نزلت هذه الآية في الرد على
شبهات بعض المنافقين، فعن جابر بن عبد الله وأنس وابن عباس وقتادة ـ رضي الله عنهم
ـ: نزلت في النجاشي، وذلك لما مات نعاه جبريل u لرسول الله r في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله r لأصحابه: اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم، فقالوا: ومن
هو؟ فقال: النجاشي، فخرج رسول الله r إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة، فأبصر سرير
النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له وقال لاصحابه: استغفروا له، فقال
المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه،
فأنزل الله تعالى هذه الآية[48].
ومنها قوله تعالى:﴿
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾
(النساء:78)
فقد نزلت هذه الآية ـ في قول ابن
عباس ـ لما استشهد الله من المسلمين من استشهد يوم أحد قال المنافقون الذين تخلفوا
عن الجهاد: لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فأنزل الله
تعالى هذه الآية.
ومنها قوله تعالى:﴿
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا
كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ
اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ (النساء:88)
ففي هذه الآية يخبرر الله تعالى
المؤمنين المتحيرين عن حقيقة بعض المنافقين، فعن عبد الله بن يزيد بن ثابت، أن
قوما خرجوا مع رسول الله r إلى أحد فرجعوا، فاختلف فيهم المسلمون، فقالت فرقة نقتلهم، وقالت
فرقة لا نقتلهم، فنزلت هذه الآية[49].
وفي حديث آخر عن سلمة بن عبد الرحمن،
أن قوما من العرب أتوا رسول الله r فأسلموا وأصابوا وباء المدينة، وحماها فأركسوها، فخرجوا من المدينة
فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله r، فقالوا: مالكم رجعتم؟ فقالوا: أصابنا وباء المدينة فاجتويناها،
فقالوا: ما لكم في رسول الله أسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا هم
مسلمون، فأنزل الله تعالى الآية[50].
ومنها قوله تعالى:﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ
هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
(المائدة:57)
فقد ذكر ابن عباس أن هذه الآية نزلت
في رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث اللذان أظهرا الاسلام، ثم نافقا، وكان رجال من
المسلمين يوادونها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومنها قوله تعالى:﴿
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾ (المائدة:58)
فقد ذكر الكلبي في سبب نزولها أن
منادى رسول الله r كان إذا نادى إلى الصلاة، فقام المسلمون إليها، قالت اليهود:
قوموا صلوا اركعوا، على طريق الاستهزاء والضحك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وذكر السدى أنها نزلت في رجل من
نصارى المدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله قال: حرق الكاذب،
فدخل خادمه بنار ذات ليلة، وهو نائم وأهله نيام، فطارت منها شرارة في البيت فاحترق
هو وأهله.
وذكر آخرون أن الكفار لما سمعوا
الاذان حضروا رسول الله r والمسلمون على ذلك، وقالوا: يا محمد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به
فيما مضى من الامم، فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الآذان
الأنبياء من قبله، ولو كان في هذا خير كان أولى الناس به الانبياء والرسل من قبلك،
فمن أين لك صياح كصياح البعير، فما أقبح من صوت ولا أسمج من كفر، فأنزل الله تعالى
هذه الآية وأنزل:﴿ )وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ
وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (فصلت:33)
ومنها قوله تعالى:﴿
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ
خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ
لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (التوبة:61)
فقد نزلت هذه الآية في جماعة من
المنافقين كانوا يؤذون الرسول r ويقولون ما لا ينبغي، قال بعضهم: لا تفعلوا، فإنا نخاف أن يبلغه
ما تقولون، فيقع بنا، فقال الجلاس بن سويد: نقول ما شئنا، ثم نأتيه فيصدقنا بما
نقول، فإنما محمد أذن سامعة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وذكر محمد ابن إسحاق وغيره أن الآية
نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحارث، وكان رجلا أذلم أحمر العينين
أسفع الخدين مشوه الخلقة، وهو الذي قال النبي r: من أراد أن ينظر الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث، وكان ينم
حديث النبي r إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل، فقال: إنما محمد أذن من حدثه
شيئا صدقه نقول ما شئنا، ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال السدى: اجتمع ناس من المنافقين
فيهم جلاس بن سويد بن الصامت ووديعة ابن ثابت فأرادوا أن يقعوا في النبي r
وعندهم غلام من الانصار يدعى عامر بن قيس فحقروه، فتكلموا وقالوا: لئن كان ما
يقوله محمد حقا لنحن أشر من الحمير، ثم أتى النبي r فأخبره، فدعاهم فسألهم، فحلفوا أن عامرا كاذب
وحلف عامر أنهم كذبة، وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى تبين صدق الصادق من كذب
الكاذب، فنزلت فيهم هذه الآية، ونزل قوله:﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ
لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا
مُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة:62)
ومنها قوله تعالى:﴿
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ
أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ (التوبة:65)
فقد نزلت هذه الآية في أقوام من
المنافقين:
فعن قتادة، قال: بينما رسول الله r
في غزوة تبوك وبين يديه ناس من المنافقين إذ قالوا: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور
الشام وحصونها هيهات له ذلك، فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال نبي الله: اجلسوا على
الركب فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا؟ فقالوا: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب،
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وعن زيد بن أسلم ومحمد بن وهب قالا:
قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب
ألسنا ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله r وأصحابه، فقال عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله r
فذهب عوف ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول
الله r وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب
ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق.
وعن ابن عمر قال: رأيت عبد الله ابن
أبي يسر قدام النبي r والحجارة تنكته وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب،
والنبي r يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون.
ومنها قوله تعالى:﴿
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ
وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا
إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ
خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾
(التوبة:74)
فقد نزلت هذه الآية في أقوام من
المنافقين:
فعن الضحاك، قال: خرج المنافقون مع
رسول الله r إلى تبوك، وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله r
وأصحابه وطعنوا في الدين، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله r،
فقال رسول الله r: يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم، فحلفوا ما قالوا شيئا من
ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية إكذابا لهم.
وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلين
اقتتلا، رجلا من جهينة ورجلا من غفار، فظهر الغفاري على الجهيني، فنادى عبد الله
بن أبي: يا بني الاوس انصروا أخاكم، فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال
القائل: سمن كلبك يأكلك، فوالله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الأذل،
فسمع بها رجل من المسلمين، فجاء إلى رسول الله r فأخبره، فأرسل إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، وأنزل الله تعالى
هذه الآية.
أما قوله تعالى:﴿ وَهَمُّوا
بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾، فقد قال الضحاك: هموا أن يدفعوا ليلة العقبة،
وكانوا قوما قد أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله r وهم معه يلتمسون غرته حتى أخذ في عقبة، فتقدم بعضهم وتأخر بعضهم
وذلك كان ليلا قالوا: إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي، وكان قائده
في تلك الليلة عمار بن ياسر وسائقه حذيفة فسمع حذيفة وقع أخفاف الابل، فالتفت فإذا
هو بقوم متلثمين، فقال: إليكم يا أعداء الله فأمسكوا، ومضى النبي r
حتى نزل منزله الذي أراد، فأنزل الله تعالى قوله:﴿ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ
يَنَالُوا﴾
ومنها قوله تعالى:﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ
وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ
نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾
(التوبة:101)
فقد ذكر الكلبي أنها نزلت في جهينة
ومزينة وأشجع وأسلم وغفار من أهل المدينة، يعني عبد الله بن أبي وجد ابن قيس ومعتب
بن بشير والجلاس بن سويد وأبي عامر الراهب.
ومنها قوله تعالى:﴿
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ
وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ﴾ (التوبة:107)
فقد نزلت هذه الآية في بعض المنافقين
الذين أسسوا مسجدا ليضاروا به المسلمين.
فقد ذكر المفسرون أن بني عمرو بن عوف
اتخذوا مسجد قباء وبعثوا إلى رسول الله r أن يأتيهم، فأتاهم فصلى فيه، فحسدهم إخوتهم بنو عمرو، وقالوا:
نبنى مسجدا ونرسل إلى رسول الله r ليصلى فيه كما يصلى في مسجد إخواننا، وليصل فيه أبو عامر الراهب
إذا قدم من الشام، وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية وتنصر ولبس المسوح، وأنكر
دين الحنيفية لما قدم رسول الله r المدينة وعاداه وسماه النبي r أبا عامر الفاسق وخرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا
بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر فآتي بجند الروم،
فأخرج محمدا وأصحابه فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء، وكان الذي بناه اثنا عشر رجلا
حزام بن خالد، ومن داره أخرج إلى المسجد وثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير وأبو حبيبة
بن الارعد وعباد بن حنيف وحارثة وجارية وابناه مجمع وزيد ونبتل ابن حارث ولحاد بن
عثمان ووديعة بن ثابت.
فلما فرغوا منه أتوا رسول الله r
فقالوا: إنا بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا
نحب أن تأتينا فتصلى لنا فيه، فدعا بقميصه ليلبسه فيأتيهم، فنزل عليه القرآن وأخبر
الله عز وجل خبر مسجد الضرار وما هموا به، فدعا رسول الله r مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن يشكر والوحشي قاتل حمزة،
وقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه، فخرجوا وانطلق
مالك وأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا، ثم دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدموه
وتفرق عنه أهله، وأمر النبي r أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيها الجيف والنتن والقمامة، ومات أبو
عامر بالشام وحيدا غريبا.
ومنها قوله تعالى:﴿
وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ﴾ (الأحزاب: من الآية4)
فقد نزلت هذه الآية في زيد بن حارثة
الذي كان عند الرسول r فأعتقه وتبناه قبل الوحي، فلما تزوج النبي r زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة، قالت اليهود والمنافقون:
تزوج محمد r امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها، فأنزل الله
تعالى هذه الآية.
ومنها قوله تعالى:﴿
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ
الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ
وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (المجادلة:8)
فقد قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في
اليهود والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى
المؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا وقد
بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو مصيبة أو هزيمة،
فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أصحابهم وأقرباؤهم، فلما
طال ذلك وكثر، شكوا إلى رسول الله r، فأمرهم أن يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى
مناجاتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
أما قوله تعالى:﴿
وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ﴾، فقد ذكرت
عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن ناسا من اليهود جاءوا إلى النبي r فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم وفعل الله
بكم، فقال رسول الله r: مه يا عائشة فإن الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش، فقلت: يا
رسول الله ألست أدرى ما يقولون؟ قال: ألست ترين أرد عليهم ما يقولون؟ أقول:
وعليكم، ونزلت هذه الآية في ذلك.
وعن أنس أن يهوديا أتى النبي r
فقال: السام عليك، فرد القوم، فقال نبي الله r: هل تدرون ما قال؟ قالوا الله ورسوله أعلم يا نبي الله، قال: لا،
ولكن قال كذاوكذا ردوه علي، فردوه عليه، فقال: قلت السام عليكم، قال: نعم، فقال
نبي الله r عند ذلك: إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: أي عليك ما
قلت، ونزل قوله تعالى:﴿ وَإِذَا
جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ﴾
ومنها قوله تعالى:﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا
يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (المجادلة:11)
فقد ذكر مقاتل سبب نزولها، فقال: كان
النبي r في الصفة وفي المكان ضيق وذلك يوم الجمعة، وكان رسول الله r
يكرم أهل بدر من المهاجرين والانصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس،
فقاموا حيال النبي r على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم، وشق ذلك على رسول
الله r فقال لمن حوله من غير أهل بدر، قم يا فلان وأنت يا فلان، فأقام من
المجلس بقدر النفر الذي قاموا بين يديه من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه
وعرف النبي r الكراهية في وجوههم، فقال المنافقون للمسلمين: ألستم تزعمون أن
صاحبكم يعدل بين الناس؟ فوالله ما عدل على هؤلاء قوم أخذوا مجالسهم وأحبهم القرب
من نبيهم أقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومنها قوله تعالى:﴿
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا
هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
(المجادلة:14) إلى قوله تعالى:﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى
شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (المجادلة:18)
فقد ذكر السدى ومقاتل أنها نزلت في
عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس النبي r ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله r في حجرة من حجره، إذ قال: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار
وينظر بعينى شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق، فقال له رسول الله r:
علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي r:
فعلت، فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وفي حديث آخر عن ابن عباس ـ رضي الله
عنه ـ أن رسول الله r كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين قد كان الظل يقلص
عنهم، فقال لهم: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعين شيطان، وإذا أتاكم فلا تكلموه،
فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله r وكلمه، فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ نفر دعا بأسمائهم،
فانطلق الرجل فدعاهم، فحلفوا بالله واعتذروا إليه، فأنزل الله تعالى:﴿
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ
لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾
(المجادلة:18)[51]
بالإضافة إلى هذا كله، فقد أنطق الله
لمحمد r الأشياء لتخبره بما تختزنه من مكايد، ومن ذلك قصة الشاة المسمومة.
والحديث ـ كما روي بأسانيد كثيرة
مختلفة[52]ـ هي أن رسول
الله r لما افتتح خيبر، واطمأن الناس، أهدت زينب ابنة الحارث امرأة سلام
بن مشكم، وهي ابنة أخي مرحب لصفية امرأته شاة مصلية، وقد سألت: أي عضو الشاة أحب
إلى رسول الله r؟ فقيل لها الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاء، فدخل
رسول الله r على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور، فقدمت إليه الشاة المصلية،
فتناول رسول الله r الكتف، وانتهس منها فلاكها رسول الله r وتناول بشر بن البراء عظما، فانتهس منه.
قال ابن إسحاق: فأما بشر فاساغها،
وأما رسول الله r فلفظها، فلما استرط رسول الله r لقمته استرط بشر بن البراء ما في فيه، فقال رسول
الله r: ارفعوا ما في أيديكم، فإن كتف هذه الشاة تخبرني أني نعيت فيها.
وقد روي أن رسول الله r
أرسل إلى اليهودية، فقال:( أسممت هذه الشاة؟)، فقالت: من أخبرك؟ قال:( أخبرتني هذه
التي في يدي، وهي الذراع)، قالت: نعم، قال:( ما حملك على ما صنعت؟)، قالت: بلغت من
قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكا استرحنا منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فعفا
عنها رسول الله r ومات بشر من أكلته التي أكل ولم يعاقبها.
ومن الجند الذي حمى الله به نبيه r
كما حمى به سائر الأنبياء جند الكفاية، وهي التي يشير إليها قوله تعالى:﴿
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
(البقرة:137)
وقد تحقق هذا الوعد الإلهي، وأشار
القرآن الكريم إلى هذا التحقق، فقال تعالى:﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ﴾
(الحجر:95)
وقد أخبر القرآن الكريم أن الله
تعالى يمد عباده الصالحين من أنبيائه وغيرهم بهذا النوع من الجند، قال تعالى:﴿
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا
مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (الأنعام:10)، وقال تعالى:﴿وَلَقَدِ
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (الانبياء:41)
وقد أخبر رسول الله r
عن إمداد الله بعض عباده الصالحين بهذا النوع من الجند، فقال ـ فيما رواه أحد
المضطهدين صُهَيب ـ رضي الله عنه ـ: كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما
كبر الساحر قال للملك: إني قد كبرت سِنِّي وحضر أجلي، فادفع إلي غلاما لأعلمه
السحر. فدفع إليه غلاما فكان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى
الغلام على الراهب فسمع من كلامه، فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه
وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه
وقالوا: ما
حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي. وإذا
أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر.
قال: فبينما
هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة، قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا،
فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر. قال: فأخذ حجرًا فقال:
اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك وأرضى من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى
يجوز الناس. ورماها فقتلها، ومضى الناس. فأخبر الراهب بذلك فقال: أيْ بُنَي، أنت
أفضل مني، وإنك سَتُبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي.
فكان الغلام
يبُرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان جليس للملك فعمي، فسمع به،
فأتاه بهدايا كثيرة فقال: اشفني ولك ما هاهنا أجمعُ. فقال: ما أنا أشفي أحدًا،
إنما يشفي الله، عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك. فآمن فدعا الله فشفاه. ثم
أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان، من رَدّ عليك بصرك؟
فقال: ربي؟ فقال: أنا؟ قال: لا ربي وربك الله. قال: ولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي
وربك الله. فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال: أيْ بُنَي، بلغ من
سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أنا أحدًا، إنما يشفي
الله، عز وجل. قال: أنا؟ قال: لا. قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله.
فأخذه أيضا
بالعذاب، فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى بالراهب فقال: ارجع عن دينك، فأبى،
فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع
المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض. وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى،
فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، وقال: إذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا
فَدَهدهوه من فوقه فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اللهم، اكفنيهم بما شئت.
فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون. وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل
أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله.
فبعث به مع
نفر في قُرقُور فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرِّقوه في البحر.
فلججوا به البحر فقال الغلام. اللهم، اكفنيهم بما شئت. فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام
حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله.
ثم قال
للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا
فإنك لا تستطيع قتلي. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على
جذع، وتأخذ سهمًا من كنانتي ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
ففعل، ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه، وقال: باسم الله رب الغلام. فوقع السهم في
صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام. فقيل
للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم.
فأمر بأفواه
السكك فَخُدّت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه
وإلا فأقحموه فيها. قال: فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها
ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه، فإنك على الحق[53].
وسأذكر لكم
بعض الأمثلة على من كفى الله نبيه r شرهم، وهي مصدقا قوله تعالى:﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ﴾
(الحجر:95)
فمنهم الأسود
بن عبد يغوث، وهو ابن خال رسول الله r، وقد كان يسخر من رسول الله r، فيقول له إذا لقيه: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد.
وكان إذا رأى أصحابه قال: قد جاءكم
ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى وقيصر، وما أشبه هذا القول[54].
فخرج من عند أهله، فأصابته السموم،
فاسود وجهه حتى صار حبشيا، فأتى أهله فلم يعرفوه، وأغلقوا دونه الباب، فرجع متلددا
حتى مات عطشا[55].
بالإضافة إلى هذا، فقد روي أن جبريل u
أومأ إلى رأسه، فضربته الأكلة، فامتخض رأسه قيحا[56].
بالإضافة إلى هذا، فقد روي أن جبريل u
حنى ظهره حتى احقوقف صدره، فقال رسول الله r خالي خالي، فقال: دعه عنك يا محمد فقد كفيته[57].
ومنهم الحارث
بن قيس السهمي، وكان يأخذ حجرا يعبده، فإذا رأي أحسن منه تركه وأخذ
الأحسن، وفيه نزل قوله تعالى:﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾ (الفرقان:43)
وكان يقول مستهزئا: لقد غر محمد نفسه
وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام
والأحداث.
وكانت عقوبة الله له أن أكل حوتا
مملوحا، فلم يزل يشرب عليه الماء حتى انقد بطنه[58]، ويقال إنه أصابته الذبحة، وقال بعضهم: امتخض رأسه قيحا.
ومنهم الأسود
بن المطلب
بن أسد بن عبد العزى، وكان هو وأصحابه يتغامزون بالنبي r وأصحابه ويقولون: قد جاءكم ملوك الأرض، ومن يغلب على كنوز كسرى
وقيصر، ثم يمكون ويصفرون.
وكلم رسول الله r
بكلام شق عليه فدعا عليه رسول الله r أن يعمي الله بصره ويثكله ولده، فخرج يستقبل ابنه، وقد قدم من
الشام، فلما كان ببعض الطريق جلس في ظل شجرة فجعل جبريل u يضرب وجهه وعينه بورقة من ورقها خضراء وبشوك من شوكها حتى عمي، فجعل
يستغيث بغلامه، فقال له غلامه: ما أرى أحدا يصنع بك شيئا غير نفسك.
بالإضافة إلى هذا، فقد روي أن جبريل u
أومأ إلى عينيه فعمي فشغل عن رسول الله r.
ولما كان يوم بدر قتل ابنه زمعة بن
الأسود، فتحقق بذلك ما دعا به رسول الله r عليه[59].
ومنهم مالك
بن الطلاطلة بن عمرو بن غبشان، وكان سفيها فدعا عليه رسول الله r
واستعاذ بالله من شره، فعصر جبريل بطنه حتى خرج ما في بطنه فمات[60].
ومنهم العاصي
بن وائل السهمي، وقد كان من المستهزئين برسول الله r، فركب حمارا له ـ ويقال بغلة بيضاء ـ فلما نزل شعبا من تلك
الشعاب، وهو يريد الطائف ربض به الحمار ـ أو البغلة ـ على شبرقة فأصابت رجله شوكة
منها، فانتفخت حتى صارت كعنق البعير ومات[61].
وقد ذكر خباب بن الأرت بعض سخريته
بالمسلمين، فقال: كنت قينا ـ أي حدادا - في الجاهلية فعملت للعاصي بن وائل سيوفا،
فجئته أتقاضاه، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد r، فقلت: لا أكفر حتى يميتك الله ثم تبعث.
قال: وإني لميت ثم مبعوث؟! قلت: بلى.
قال: دعني أموت وأبعث، فنؤتى مالا
وولدا فأعطيك هنالك حقك، ووالله لا تكون أنت وصاحبك يا خباب أثرى عند الله مني ولا
أعظم حظا.
فأنزل الله تعالى فيه:﴿
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾
(مريم:77[62]
ومنهم الحكم
بن أبي العاصي بن أمية، وكان ممن يؤذي رسول الله r
يشتمه ويسمعه ما يكره.
وكان رسول الله r
يمشي ذات يوم وهو خلفه يخلج بأنفه وفمه فبقي على ذلك، وأظهر الإسلام يوم الفتح،
وكان مغموصا عليه في دينه، فاطلع يوما على رسول الله r وهو في بعض حجر نسائه، فخرج إليه بعنزة، وقال: من عذيري من هذا
الوزغة؟ لو أدركته لفقأت عينه أو كما قال r، ولعنه وغربه من المدينة فلم يزل خارجا منها إلى أن مات عمر بن
الخطاب ـ رضي الله عنه ـ [63].
وقد ذكره ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ
فقال: كان رجل خلف النبي r يحاكيه ويلمض فرآه النبي r فقال: كذلك كن، فرجع إلى أهله، فلبط به مغشيا عليه شهرا، ثم أفاق
حين أفاق، وهو كما يحاكي رسول الله r [64].
ومنهم الوليد
بن المغيرة،
فقد ذكر أنه مر برجل يقال له حراث بن عامر بن خزاعة، وهو يريش نبلا له، ويصلحها
فوطئ على سهم منها فخدشته خدشا يسيرا، ويقال علق بإزاره فخدش ساقه خدشا خفيفا
فأهوى إليه جبريل فانتفض الخدش وضربته الأكلة في رجله أو ساقه فمات[65].
وقد كان من كبار الساخرين من رسول
الله r المستهزئين به مع كونه حكيم قومهم ومرجعهم، وفيه نزل قوله تعالى:﴿
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)
وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ
أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ
صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ
قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ
أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ
هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا
سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا
تِسْعَةَ عَشَرَ (30)﴾(المدثر)
فقد ذكر ابن عباس سبب نزولها، فقال:
دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج
على قريش فقال: يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة. فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا
بهذْي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله.
فلما سمع بذلك النفرُ من قريش
ائتمروا، فقالوا: والله لئن صبا الوليد لتصْبُوَنَّ قريش، فلما سمع بذلك أبو جهل
بن هشام قال: أنا والله أكفيكم شأنه.
فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال
للوليد: ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألستُ أكثرهم مالا وولدا. فقال له
أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه، فقال الوليد:
أقد تحدث به عشيرتي؟! فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي
كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر. فأنزل الله على رسوله r هذه الآيات.
وقال قتادة: زعموا أنه قال: والله
لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه
ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر، فأنزل الله:﴿ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾
الآية.
وقد روي أنه جاء إلى النبي r
فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام، فأتاه فقال: أي عم، إن
قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟ قال: يعطونكه، فإنك أتيت محمدًا تَتَعَرض
لما قبله. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يعلم قومك أنك
منكر لما قال، وأنك كاره له. قال: فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم
بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي
يقوله شيئًا من ذلك. والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه
ليعلو وما يعلى.
فقال له أبو جهل: والله لا يرضى قومك
حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه. فلما فكر قال: إن هذا سحر يأثره عن غيره.
فنزلت الآيات.
ومن كبار المستهزئين أبو
لهب،
وكان من أشد الناس عداوة للنبي r، وكان يطرح القذر والنتن على باب رسول الله r، فرآه حمزة بن عبد المطلب وقد طرح من ذلك شيئا، فأخذه وطرحه على
رأسه، فجعل أبو لهب ينفض رأسه ويقول: صابئ أحمق، فأقصر عما كان يفعل، لكنه كان يدس
من يفعله[66].
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:
قال رسول الله r كنت بين شر جارين، بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان
بالفروث فيطرحانها على بابي.
قالت: وكان رسول الله r
يقول: يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟ ثم يميطه عن بابه[67].
وقد تحدث ابن عباس ـ رضي الله عنهما
ـ عن مشهد من مشاهد حربه لرسول الله r فذكر أن رسول الله r لما نزلت:﴿ )وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾
(الشعراء:214) صعد رسول الله r على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي لبطون من قريش، حتى
اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا ينظر ما هو، فجاء أبو لهب
وقريش فقال رسول الله r:( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟) قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال: فأنا
لكم نذير بين يدي عذاب شديد.
فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم
ألهذا جمعتنا، فأنزل الله تعالى:﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
(المسد:1) [68]
ولما خوفه النبي r
بالعذاب قال: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإني أفتدي منه بمالي وولدي فأنزل:﴿
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ (المسد:2)
وقد عاقبه الله تعالى بأن مات بداء
يعرف بالعداسة، كانت العرب تتشاءم به، وتفر ممن ظهر به، فلما أصاب أبا لهب تركه
أهله حتى مات، ومكث مدة لا يدفن حتى خافوا العار، فحفروا له حفرة، فرموه فيها.
ومن كبار المستهزئين عتبة
بن أبي لهب، فقد روي أنه قال: يا محمد هو يكفر بالذي دنا فتدلى، فكان
قاب قوسين أو أدنى، فقال رسول الله r:( سلط عليه كلبا من كلابك)
وكان أبو لهب يحتمل البز الى الشام،
ويبعث بولده مع غلمانه ووكلائه، ويقول: إنكم قد عرفتم سني وحقي، وإن محمدا قد دعا
على ابني دعوة، والله ما آمنها عليه، فتعاهدوه، فكانوا إذا نزلوا المنزل ألزقوه
الى الحائط وغطوا عليه الثياب والمتاع حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء
ليلا، فطاف بهم الأسد، فجعل عتبة يقول: يا ويل أمي هو والله آكلي كما دعا محمد
علي، قتلني محمد وهو بمكة وأنا بالشام، لا والله ما أظلت السماء على ذي لهجة أصدق
من محمد، ثم وضعوا العشاء، فلم يدخل يده فيه، ثم جاء النوم، فحاطوا أنفسهم بمتاعهم
ووسطوه بينهم، وناموا فجاء الاسد يهمس يستنشق رؤوسهم رجلا رجلا، حتى انتهى إليه.
وقال هبار: فجاء الاسد فشم وجوهنا
فلما لم يجد ما يريد تقابض ثم وثب، فإذا هو فوق المتاع، فشم وجهه ثم هزمه هزمة،
ففضخ رأسه فقال وهو بآخر رمق: ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس؟ ومات، فبلغ ذلك
أبا لهب، فقال: ألم أقل لكم اني أخاف عليه دعوة محمد؟ قد والله عرفت ما كان لينفلت
من دعوة محمد[69].
ومن كبار المستهزئين أم
جميل زوجة أبي لهب، وأخت أبي سفيان، وقد كانت تؤذي رسول
الله r كثيرا، وهي حمالة الحطب، وإنما سماها الله تعالى بذلك لأنها كانت
تحمل الشوك فتطرحه بالليل على طريق رسول الله r حيث يمر هو وأصحابه لتعقرهم بذلك.
فبينا هي ذات يوم تحمل حزمة أعيت فقعدت على حجر
تستريح أتاها ملك فجذبها من خلفها بالحبل الذي في عنقها فخنخقها به.
ومنهم
رجل كان يختلج بوجهه إذا تكلم النبي r،
فعن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كان رجل يجلس إلى النبي r فإذا تكلم النبي r بشئ اختلج بوجهه، فقال له النبي r:( كن كذلك )، فلم يزل يختلج حتى مات[70].
ومنهم
ناس كانوا يغمزون في قفاه r فعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ
قال: مر النبي r على ناس بمكة، فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون: هذا الذي يزعم أنه
نبي، ومعه جبريل، فغمز جبريل، فوقع مثل الظفر في أجسادهم، فصارت قروحا حتى نتنوا،
فلم يستطع أحد أن يدنو منهم فأنزل الله تعالى:﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ
الْمُسْتَهْزِئينَ﴾ (الحجر:95)[71]
ومنهم نفر
من اليهود أرادوا الفتك به r فقد روي أن رسول الله r خرج الى بني النضير يستعينهم في عقل الكلابيين، فقالوا: اجلس يا
أبا القاسم، حتى تطعم وترجع بحاجتك، فجلس ومن معه في ظل جدار ينتظرون أن يصلحوا
أمرهم فلما خلوا والشيطان معهم ائتمروا بقتل رسول الله r فقالوا: لن تجدوه من الآن، فقال رجل منهم: إن شئتم ظهرت فوق البيت
الذي هو تحته فدليت عليه حجرا فقتلته، فجاءوا إلى رحى عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك
الله عنها أيديهم، وأخبره بما ائتمروا به من شأنه، فقام ورجع أصحابه، ونزل القرآن:﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ
قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾
(المائدة:11)[72].
ومنهم نفر
أرادوا قتله r، فعن محمد بن كعب القرظي ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها، فأتاه
أعرابي فاخترط سيفه، ثم قال: من يمنعك مني؟ قال: الله، فرعدت يد الاعرابي، وسقط
السيف منه، وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله تعالى:﴿ يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ
اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة:67)[73]
ومن كبار المستهزئين أبو
الأصداء، وقد
كان ممن يؤذي رسول الله r، وكان يقول له: إنما يعلمك أهل الكتاب أساطيرهم، ويقول للناس: هو
معلم مجنون، فدعا عليه رسول الله r،
فإنه لعلى جبل إذا اجتمعت عليه الأروى، فنطحته حتى قتلته[74].
ومنهم أمية
بن خلف الجمحي، وقد كان إذا رأى رسول الله r همزه ولمزه، فأنزل الله تعالى:﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي
جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا
لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ
اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا
عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)﴾(الهمزة)[75]
ومنهم النضر
بن الحارث،
وقد كان إذا جلس رسول الله r مجلسا فدعا فيه إلى الله، وتلا عليهم القرآن، وحذر قريشا ما أصاب
الأمم الماضية خلفه في مجلسه إذا قام فحدثهم عن ملوك الفرس، ثم يقول: والله ما
محمد بأحسن حديثا مني، وما أحاديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها،
فأنزل الله تعالى:﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا
فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ (الفرقان:5)
قال ابن إسحاق: وجلس رسول الله r
يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي
المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله r فعرض له النضر، فكلمه رسول الله r
حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم:﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98) لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ
آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ(99)لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ
فِيهَا لا يَسْمَعُونَ(100)﴾ (الأنبياء)
ثم قام رسول الله r
وأقبل عبد الله بن الزبعرى ـ وأسلم بعد ذلك ـ حتى جلس إليهم، فقال الوليد بن
المغيرة لعبد الله بن الزبعرى: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا
وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم.
فقال عبد الله: أما والله ولو وجدته
لخصمته، فسلوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد
الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى ابن مريم.
فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس
من قول عبد الله، ورأوا أنه قد احتج وخاصم.
فذكر ذلك لرسول الله r
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من
عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته، فأنزل الله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ (الانبياء:101)
ومنهم الأخنس
بن شريق الثقفي، وكان من أشراف القوم، وممن يستمع منه، وكان يصيب من رسول
الله r ويرد عليه، فأنزل الله تعالى:﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ
حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ
وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
(15)﴾(القلم)
ومنهم أبي
بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وكانا متصافيين حسنا ما بينهما.
وقد روي أن عقبة بن أبي معيط كان
يجلس مع رسول الله r بمكة ولا يؤذيه وكان رجلا حليما، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه
آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام ـ في رواية أنه أمية بن خلف ـ فقالت
قريش: صبأ أبو معيط.
وقدم خليله من الشام ليلا، فقال
لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشد ما كان أمرا، فقال: ما فعل خليلي
أبو معيط؟ فقالت: صبأ.
فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو
معيط، فحياه فلم يرد عليه التحية فقال: ما لك لا ترد علي تحيتي، فقال: كيف أرد
عليك تحيتك وقد صبأت؟
قال: أوقد فعلتها قريش؟
ثم قال: ما يبرئ صدورهم إن أنا فعلت؟
قال: تأتيه في مجلسه، فتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم، ففعل، فلم يزد
النبي r أن مسح وجهه من البزاق[76].
وقد روي أن عقبة لما تفل في وجه
النبي r رجع ما خرج منه إلى وجهه، فصار برصا.
وقال أبي بن خلف: والله لأقتلن
محمدا، فبلغ ذلك رسول الله r فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله.
فلما بلغ أبيا ذلك أفزعه لأنهم لم
يسمعوا من النبي r قولا إلا كان حقا، فلما كان يوم بدر، وخرج أصحاب عقبة، أبي أن
يخرج فقال له أصحابه: اخرج معنا، فقال: قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال
مكة أن يضرب عنقي صبرا، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه.
فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين،
وحل به جمله في أخدود من الأرض فأخذه رسول الله r أسيرا في سبعين من قريش وقدم إليه أبو معيط فقال: أتقتلني بين
هؤلاء؟ قال: نعم، فقام إليه علي بن أبي طالب فضرب عنقه، ولم يقتل من الأسارى يومئذ
غيره.
فلما كان يوم أحد خرج أبي مع
المشركين فجعل يلتمس غفلة رسول الله r ليحمل عليه، فيحول رجل بين النبي r وبينه، فلما رأى ذلك رسول الله r قال لأصحابه: خلوا عنه.
فأخذ الحربة ورماه بها، فوقعت في
ترقوته، فلم يخرج منه دم كثير واحتقن الدم في جوفه، فجعل يخور كما يخور الثور فاحتمله
أصحابه وهو يخور فقالوا: ما هذا الذي بك! فوالله ما بك إلا خدش، فقال: والله لو لم
يصبني إلا بريقه لقتلني! أليس قد قال: أنا أقتله، والله لو كان الذي بي بأهل ذي
المجاز لقتلهم، فما لبث إلا يوما حتى مات.
وأنزل الله تعالى في أبي معيط:﴿
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ
مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾ (الفرقان:27)[77]
ومنهم أبو
جهل
عمرو بن هشام، وقد كناه رسول الله r بذلك وكان يكنى قبل ذلك أبا الحكم [78].
قال ابن إسحاق: ولقي أبو جهل بن هشام
رسول الله r، فقال له: والله يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي
تعبد، فأنزل الله تعالى:﴿ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ (الأنعام: من
الآية108)
وقد روي أن رسول الله r
لقي أبا جهل، فقال:( إن الله تعالى أمرني أن أقول لك:﴿ أَوْلَى لَكَ
فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾(القيامة: 34 -35)، فنزع ثوبه من
يده وقال: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء، ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء،
وأنا العزيز الكريم، فقتله الله تعالى يوم
بدر وأذله وعيره بكلمته، وأنزل:﴿ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ
الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ
(46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ
رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ
(49)﴾(الدخان)[79]
هذا في حياته..
أما بعد
وفاته، فقد روي من ذلك الكثير، حتى أن المسلمين صاروا يتفاءلون بتصدي الأعداء
لمقام رسول الله r لأنهم يعلمون أن الله سينصره لا محالة، وقد ذكر ابن تيمية
هذا، فقال:( إنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ
ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد، ونظير هذا ما
حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول، أهل الفقه والخبرة، عمَّا جربوه مراتٍ
متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها
بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر
من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ
الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو
يومين أو نحو ذلك،ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا
لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم
بما قالوا فيه )
وقد اشتهر هذا الأمر حتى صار من
المجربات التي لا تملك العقول إلا التسليم لها، قال ابن تيمية:( وهكذا حدثني بعض
أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل الغرب ـ يعني المغرب ـ حالهم مع النصارى كذلك،
ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده وتارة بأيدي عباده المؤمنين )[80]
ومن الجنود التي أيد الله بها نبيه r
وحماه بها من مؤامرات أعدائه الكثيرة جند الهداية، وذلك بأن يبث الله في قلوب من
يبغضون رسول الله r، أو من يريدون به شرا الإيمان ومحبة رسول الله r،
فيتحولون من سبه إلى حبه، ومن من حربه إلى الحرب عنه.
ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك عمر
بن الخطاب ـ
رضي الله عنه ـ، فقد كان في جاهليته شديد العداوة للإسلام ولمحمد r.
وقد ذكرت إحدى السابقات للإسلام، وهي
أم عبد الله بنت أبي حثمة، وكانت زوج عامر بن ربيعة، كيف كان المسلمون الأوائل
يستبعدون إسلامه قبل أن يسلم، فقالت: إنا نرحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر لبعض
حاجته، إذ أقبل عمر وهو على شركه حتى وقف علي.
وكنا نلقي منه البلاء أذى، وشدة
فقال: أتنطلقون يا ام عبد الله؟ قالت: قلت: نعم والله، لنخرجن في أرض الله فقد
آذيتمونا، وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجا.
قالت: فقال صحبكم الله، قالت: فلما
عاد عامر أخبرته، وقلت له: لو رأيت عمر، ورقته، وحزنه علينا! قال: أطمعت في
إسلامه؟ قلت: نعم، فقال: لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب لما كان يرى من غلظته،
وشدته على المسلمين.
ولكن الله هداه فأسلم في موقف عدائي
شديد لرسول الله r:
وقصة ذلك كما يرويها المؤرخون، وكما
يحكيها هو نفسه، هي أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت تحت سعيد بن يزيد بن عمرو
العدوي، وكانا مسلمين يخفيان إسلامهما من عمر، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة
يقرأها القرآن فخرج عمر يوما ومعه سيفه يريد النبي r، والمسلمين وهم مجتمعون في دار الأرقم عند الصفا، وعنده من لم
يهاجر من المسلمين في نحو أربعين رجلا، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا
عمر؟ فقال: أريد محمدا الذي فرق أمر قريش، وعاب دينها، فأقتله.
فقال نعيم: والله لقد غرتك نفسك،
أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض، وقد قتلت محمدا!؟ أفلا ترجع إلى أهلك
فتقيم أمرهم؟
فقال عمر: وأي أهلي!؟ قال: ختنك، وابن عمك سعيد بن زيد، واختك فاطمة،
فقد أسلما.
فرجع عمر إليهما، وعندهما خباب بن
الأرت يقرئهما القرآن.
فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب، وأخذت
فاطمة الصحيفة، وألقتها تحت فخذيها،وقد سمع عمر قراءة خباب.
فلما دخل قال: ما هذه الهينمة؟! قالا:
سمعت شيئا؟ قال: بلى، قد أخبرت أنكما تابعتما محمدا.
وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه
أخته لتكفه، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له اخته: قد أسلمنا، وآمنا بالله،
ورسوله، فاصنع ما شئت.
ولما رأى عمر ما باخته من الدم ندم،
وقال لها: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون فيها الآن حتى أنظر إلى ما جاء
به محمد، قالت: إنا نخشاك عليها، فحلف أنه يعيدها.
ثم قالت له ـ وقد طمعت في إسلامه ـ:
إنك نجس على شركك، ولا يمسها إلا المطهرون، فقام، واغتسل، فأعطته الصحيفة وقرأ
فيها: طه، وكان كاتبا فلما قرأ بعضها قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.
فلما سمع خباب ذلك خرج إليه وقال:
أبشر يا عمر، فإنني أرجو أن تكون دعوة رسول الله r لك ليلة الخميس: اللهم أعز الاسلام بعمر بن الخطاب، أو بعمرو بن
هشام.
فقال عمر عند ذلك: فدلني يا خباب على
محمد حتى آتيه فأسلم.
فدله خباب فأخذ سيفه، وجاء إلى النبي
r، وأصحابه فضرب عليهم الباب فقام رجل منهم فنظر من خلل الباب فرآه
متوشحا سيفه، فأخبر النبي r بذلك.
فقال حمزة: إئذن له، فإن كان يريد
خيرا بذلناه له، وإن أراد شرأ قتلناه بسيفه.
فأذن له فنهض إليه النبي r
حتى لقيه، فأخذ بمجامع ردائه، ثم جذبه جذبة شديدة، وقال: ما جاء بك؟ ما أراك تنتهي
حتى ينزل الله عليك قارعة.
فقال عمر: يارسول الله جئت لأؤمن
بالله، وبرسوله، فكبر رسول الله r تكبيرة عرف من في البيت أن عمرا أسلم.
قال عمر: لما أسلمت أتيت باب أبي جهل
بن هشام، فضربت عليه بابه، فخرج إلي وقال: مرحبا يا بن أخي! ما جاء بك؟ قلت: جئت
لاخبرك أني قد أسلمت، وآمنت بمحمد r، وصدقت ما جاء به.
قال: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك
الله، وقبح ما جئت به [81].
وقد حدث عمر بن الخطاب ـ رضي الله
عنه ـ نفسه عن سبب إسلامه، فقد خاطب مرة بعض الصحابة، فقال: أتحبون أن أعلمكم كيف
كان بدو إسلامي؟ قلنا: نعم، قال: كنت من أشد الناس على رسول الله r،
فبينا أنا يوما في يوم شديد الحر بالهاجرة، في بعض طرق مكة، إذ لقيني رجل من قريش
فقال: اين تذهب يابن الخطاب؟ أنت تزعم أنك هكذا، وقد دخل عليك هذا الامر في بيتك
قال: قلت: وما ذاك؟ قال: اختك قد صبأت قال: فرجعت مغضبا.
وقد كان رسول الله r
يجمع الرجل، والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوة فيكونان معه، ويصيبان من طعامه،
وقد كان ضم إلى زوج أختي رجلين.
قال: فجئت حتى قرعت الباب فقيل من
هذا؟ قلت: ابن الخطاب.
قال: وكان القوم جلوسا يقرؤن القرآن
في صحيفة معهم، فلما سمعوا صوتي تبادروا، واختفوا، وتركوا، أو نسوا الصحيفة من
أيديهم، فقامت المرأة ففتحت لي.
فقلت: يا عدوة نفسها، قد بلغني أنك
صبوت، قال: فأرفع شيئا في يدي فأضربها به قال: فسال الدم: قال: فلما رأت المرأة
الدم بكت، ثم قالت: يابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت.
قال: فدخلت، وأنا مغضب، فجلست على
السرير، فنظرت فإذا بكتاب في ناحية البيت، فقلت: ما هذا الكتاب؟ أعطينيه.
فقالت: لا اعطيك لست من أهله، أنت لا
تغتسل من الجنابة، ولا تطهر، وهذا ﴿ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾
(الواقعة:79)
قال: فلم أزل بها حتى أعطتنيه فإذا
فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، فلما مررت بالرحمن الرحيم، ذعرت، ورميت بالصحيفة من
يدي.
قال: ثم رجعت إلي نفسي، فإذا فيها:﴿
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
(الحديد:1)
قال: فكلما مررت باسم من أسماء الله
عزوجل ذعرت، ثم ترجع إلي نفسي حتى بلغت:﴿ وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ
مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (الحديد:8)، فقلت: أشهد أن لا إله
إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله[82].
ولما أسلم عمر بن الخطاب ـ رضي الله
عنه ـ قال: أي أهل مكة أنقل للحديث فقالوا: جميل بن معمر، فخرج عمر، حتى أتاه
فقال: يا جميل هل علمت أني أسلمت؟ فو الله ما راجعه الكلام حتى قام يجر رداءه،
وخرج عمر يتبعه، حتى إذا قام على باب مسجد الكعبه صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش إن
عمر قد صبا.
ومنهم أبو
سفيان بن الحارث أخو النبي r
من الرضاع، فقد كان يألف النبي r
أيام الصبا وكان له تربًا، فلما بُعث النبي r عاداه أبو سفيان عداوةً لم يعادها أحدًا قط، وهجا رسول الله r وهجا أصحابه، ثم شاء الله أن يكفي رسوله r لسان أبي سفيان وهجاءه، لا بإهلاكه، وإنما
بهدايته.
وحدث أبو سفيان
عن نفسه، فقال: ثم إن الله ألقى في قلبي الإسلام، فسرت وزوجي وولدي حتى نزلنا
بالأبواء، فتنكرت وخرجت حتى صرت تلقاء وجه النبي r، فلما ملأ عينيه مني أعرض عنّي بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحولت
إلى ناحية وجهه الأخرى.
قالوا: فما زال
أبو سفيان يتبعُهُ، لا ينزلُ منزلاً إلا وهو على بابه ومع ابني جعفر وهو لا يكلمه،
حتى قال أبو سفيان: والله ليأذنن لي رسول الله r أو لآخذن بيد ابني هذا حتى نموت عطشًا أو جوعًا، فلما بلغ ذلك
رسول الله r رق لهما فدخلا عليه.
ومنهم شيبة
بن عثمان،
فقد خرج من بيته يريد قتل رسول الله r، فلم يرجع إلا بحبه والإيمان به.
وقد حدث عن قصة ذلك، فقال: لما كان
عام الفتح دخل رسول الله r مكة، وغزا حنينا، قلت أسير مع قريش إلى هوازن، فعسى إن اختلطوا أن
أصيب من محمد غرة، وتذكرت أبي وقتله حمزة، وعمي وقتله علي بن أبي طالب، فقلت:
اليوم أدرك ثاري من محمد، وأكون أنا الذي قمت بثار قريش كلها، وأقول: لو لم يبق من
العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ما تبعته أبدا، فكنت مرصدا لما خرجت له، لا يزداد
الأمر في نفسي إلا قوة.
فلما اختلط الناس، اقتحم رسول الله r
عن بغلته، وأصلت السيف، ودنوت منه، أريد ما أريد، فجئته من عن يمينه، فإذا العباس
قائم عليه درع بيضاء، قلت: عمه لن يخذله، فجئته من عن يساره، فإذا بابي سفيان بن
الحارث فقلت: ابن عمه لن يخذله، فجئته من خلفه، فلم يبق إلا أن أسورة سورة بالسيف
إذ رفع إلي فيما بيني وبينه شواظ من نار كانه برق، فخفت أن يتمحشني، فوضعت يدي على
بصري، خوفا عليه، ومشيت القهقرى، وعملت أنه ممنوع.
فالتفت إلى، وقال:( يا شيب أدن مني
)، فدنوت منه، فوضع يده على صدري وقال:( اللهم أذهب عنه الشيطان )، فرفعت إليه
رأسي وهو أحب إلي من سمعي وبصري وقلبي، ثم قال:( يا شيبة قاتل الكفار )
فتقدمت بين يديه أحب ـ والله ـ أن
أقيه بنفسي كل شئ، فلما انهزمت هوازن رجع إلى منزله ودخلت عليه فقال:( الحمد لله
الذي أراد بك خيرا مما أردت )، ثم حدثني بما هممت به r [83].
ومنهم النضير
بن الحارث[84] الذي حدث عن نفسه، فقال: الحمد لله الذي أكرمنا
بالاسلام ومن علينا بمحمد r، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، فذكر حديثا طويلا، ثم قال: خرجت
مع قوم من قريش، هم على دينهم بعد أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وسهيل بن
عمرو، ونحن نريد إن كانت دبرة على محمد أن نغير عليه فيمن يغير، فلما تراءت
الفئتان ونحن في حيز المشركين حملت هوازن حملة واحدة، ظننا أن المسلمين لا
يجبرونها أبدا، ونحن معهم وأنا أريد بمحمد ما أريد.
وعمدت له فإذا هو في وجوه المشركين
واقف على بغلة شهباء حولها رجال بيض الوجوه، فأقبلت عامدا إليه، فصاحوا بي: إليك،
فأرعب فؤادي وأرعدت جوارحي، فقلت: هذا مثل يوم بدر، إن الرجل لعلي حق، وإنه
لمعصوم، وأدخل الله تعالى في قلبي الاسلام وغيره عما كنت أهم به.
فما كان حلب ناقة حتى كر أصحاب رسول
الله r كرة صادقة، وتنادت الانصار بينها: الكرة بعد الفرة: يا للخزرج، يا
للخزرج، فحطمونا حطاما، فرقوا شملنا، وتشتت أمرنا، وهمة كل رجل نفسه.
فتنحيت في غبرات الناس حتى هبطت بعض
أودية أوطاس فكمنت في خمر شجرة لا يهتدي إلي أحد إلا أن يدله الله تعالى علي،
فمكثت فيه أياما وما يفارقني الرعب مما رأيت، ومضى رسول الله r
إلى الطائف، فاقام ما أقام، ثم رجع إلى الجعرانة، فقلت: لو صرت إلى الجعرانة،
فقاربت رسول الله r ودخلت فيه المسلمون، فما بقي فقد رأيت عبرا، وقد ضرب الاسلام
بجرانه، ولم يبق أحد، ودانت العرب والعجم لمحمد r فعز محمد لنا عز، وشرفه لنا شرف.
فو الله إني لعلى ما أنا عليه إن
شعرت إلا برسول الله r يلقاني بالجعرانة كنة لكنة فقال:( النضير؟) قلت: لبيك، فقال:( هذا خير لك مما أردت يوم
حنين مما حال الله بينك وبينه )
فأقبلت إليه سريعا، فقال:( قد آن لك
أن تبصر ما أنت فيه توضع )، قلت: قد أرى أن لو كان مع الله تعالى إلها غيره لقد
أغنى شيئا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله.
فقال رسول الله r:(
اللهم زده ثباتا )، قال النضير: فو الله الذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجر ثباتا في
الدين وبصيرة في الحق، وذكر الحديث[85].
ومنهم صفوان
بن أمية الجمحي، الذي حدث عن نفسه، فقال: ما زال رسول الله r
يعطيني من غنائم حنين، وهو أبغض الخلق إلي حتى ما خلق الله تعالى شيئا هو أحب إلي
منه[86].
وقال محمد بن عمر: يقال إن صفوان طاف
مع رسول الله r يتصفح الغنائم إذ مر بشعب مملوء إبلا مما أفاء الله به على رسوله r
فيه غنم وإبل ورعاؤها مملوء، فاعجب صفوان وجعل ينظر إليه، فقال رسول الله r:(
أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب؟) قال: نعم،
قال:( هو لك بما فيه )، فقال صفوان: أشهد أنك رسول الله r ما طابت بهذا نفس أحد قط
إلا نبي.
وقد كان سلوك رسول الله r
مع هؤلاء هو السر في كل ذلك التحول الذي انتقلوا به من حربه وسبه إلى الإيمان به ومحبته.
وسأضرب لكم مثالا على هذا بصفوان بن
أمية ـ الذي حدثتكم حديثه ـ فقد خرج بعد فتح مكة يريد جدة ليركب منها إلى اليمن،
فقال عمير بن وهب: يا نبي الله إن صفوان
بن أمية سيد قومي، وقد خرج هاربا منك، ليقذف نفسه في البحر، فأمنه r
قال:( هو آمن )
فخرج عمير حتى أدركه، وهو يريد أن
يركب البحر، وقال صفوان لغلامه يسار ـ وليس معه غيره ـ: ويح! أنظر من ترى؟ قال:
هذا عمير بن وهب، قال صفوان: ما أصنع بعمير بن وهب، والله ما جاء إلا يريد قتلي،
قد ظاهر علي محمدا، فلحقه فقال: يا أبا وهب جعلت فداك، جئت من عند أبر الناس، وأوصل
الناس، فداك أبي وأمي الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله r
قد جئتك به.
فقال: ويحك، أغرب عني فلا تكلمني،
فقال عمير: أي صفوان فداك أبي وأمي.. أفضل الناس وأبر الناس وخير الناس ابن عمك،
عزه عزك، وشرفه شرفك وملكه ملكك.
فقال صفوان: إني أخافه على نفسي،
فقال عمير: هو أحلم من ذلك وأكرم، قال: ولا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها،
فقال: امكث مكانك حتى آتيك بها.
فرجع عمير إلى رسول الله r فقال: إن صفوان أبى أن يأنس لي حتى يرى منك
أمارة يعرفها، فنزع رسول الله r عمامته فأعطاه اياها، وهي البرد الذي دخل فيه رسول الله r
معتجرا به برد حبرة.
فرجع معه صفوان حتى انتهى إلى رسول
الله r وهو يصلي بالمسلمين العصر في المسجد، فلما سلم رسول الله r
صاح صفوان: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني ببردك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم
عليك، فان رضيت أمرا وإلا سيرتني شهرين، فقال r:( انزل أبا وهب )، قال: لا والله حتى تبين لي قال:( بل لك تسيير
أربعة أشهر )
فنزل صفوان، ولما خرج رسول الله r
إلى هوازن وفرق غنائمها فرأى رسول الله r صفوان ينظر إلى شعب ملآن نعما وشاء ورعاء، فأدام النظر إليه،
ورسول الله r يرمقه فقال:( يا أبا وهب يعجبك هذا الشعب؟) قال: نعم قال:( هو لك وما فيه )
فقبض صفوان ما في الشعب، وقال عند
ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا
عبده ورسوله، وأسلم مكانه[87].
7 ـ
جند العقوبة
ومن الجند الذي حمى الله به نبيه r
كما حمى به سائر الأنبياء ما رتب على الاستهزاء بالنبي أو السخرية منه أو استنقاصه
من ألوان العقوبة.
وليس ذلك خاصا بالنبي r،
بل يعم سائر الأنبياء …
والعقوبا نوعان: عقوبات دنيوية،
وعقوبات أخروية.
أما العقوبات الدنيوية، فهي ما رتبت
الشريعة على السخرية من رسول الله r من ألوان العقوبات، فقد وقف الفقهاء ومثلهم
القضاة جنودا يحمون عرض محمد r وعرض الأنبياء جميعا من أن ينتهك أو ينتقص.
فقد نص الفقهاء على أن جميع من سب
النبي r، أو عابه، أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله،
أو عرض به، أو شبهه بشئ على طريق السب له، أو الازراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو
الغض منه، والعيب له، فهو ساب له.
ومثله من لعنه أو دعا عليه، أو تمنى
مضرة له، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة
بسخف من الكلام وهجر، ومنكر من القول وزور، أو عيره بشئ مما جرى من البلاء والمحنة
عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه.
فهؤلاء جميعا نص الفقهاء على خطورة
هذه المواقف منهم، وأنهم يستتابون، فإن تابوا، فبها، وإلا قتلوا لخطرهم الشديد على
المجتمع بما يبثونه من عدم احترام لمنصب النبوة الرفيع.
قال بعض القوم: أليس في ذلك تشددا
وقمعا؟
قال عبد القادر: لا … هذا نوع من
الردع للنفوس الظالمة التي تريد تخريب المجتمع.
قال الرجل: كيف ذلك؟
قال عبد القادر: لأن النبي ـ أي نبي
ـ هو رمز المعاني السامية التي جاء من أجلها، وأهمها معرفة الله وعبادته،
فاستهزاؤنا به استهزاء بمن أرسله.
ثم ألا ترون في الواقع أنا نحكم بمثل
هذا أو قريب منه في سب ناس لا ذمة لهم ولا خلق..
بل في سب أشياء ورموز نعتقد أنها تمثل أمة أو وطنا أو تاريخا؟
قالوا: ذلك صحيح.
قال عبد القادر: فمنصب النبوة الرفيع
يتطلب شدة وحزما … لأن المعاني التي جاء بها الأنبياء أعظم من كل المعاني التي
صاغها البشر لأنفسهم.
هذا عن عقوبات الدنيا، أما عقوبات
الآخرة، فقد نصت عليها آيات من القرآن الكريم، قال تعالى:﴿ وَمِنْهُمُ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ
لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
(التوبة:61)
وقال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً
مُهِيناً﴾ (الأحزاب:57)
فقد رتب الله على إذية رسول الله r
ـ حسب هاتين الآيتين ـ نوعين من العذاب ينسجمان تماما مع النفس التي سولت هذه
الإذية:
أما أولهما، فهو العذاب الأليم
الشديد، وهو يتناسب مع عظم الجرم.
وأما الثاني، فهو العذاب المهين، وهو
يتناسب مع مصدر الجرم، فليس لهذه الإذية إلى مصدر واحد هو كبر صاحبها وتعاليه
وتعاظمه، فلذلك يكون جزاؤه العذاب الذي يرده إلى حقيقته الخسيسة.
***
ما إن وصل عبد
القادر من حديثه إلى هذا الموضع حتى ابتدره أحد الحاضرين قائلا: لقد عرفنا كيف حمى
الله نبيه r بصنوف الجنود
الذين صدوا عنه كل من تعرض له، أو كل من أراد أن يتعرض له، ومع تسليمنا لكل ما
ذكرته، واعتقادنا بأن اجتماع كل ذلك من الأمور التي تدل على قصد الحماية.
ولكنا ـ مع ذلك ـ لا نرى كل ما ذكرته كافيا لنشر الدين وحمايته،
فالدين لم يكن محمد وحده، بل كان أمة من الناس.. فكيف امتدت الحماية إليهم جميعا؟
قال عبد القادر: أنت تسأل عن انتصارات محمد r بالثلة القليلة التي معه.
قال الرجل: يمكنك أن تقول ذلك.
قال عبد القادر: لذلك حديث آخر.. فتلك معجزة أخرى،
وسأحدثكم عنها غدا ـ إن شاء الله ـ لمن شاء منكم أن يحضر.
قال الرجل: وكيف لا نشاء.. إن حديثك عن محمد ينفخ فينا من
روح الثبات والعزيمة ما كنا نفتقده.
قال عبد القادر: فموعدنا غدا إن شاء الله في هذا المحل.
قال ذلك، ثم انصرف، فلاحظت بولس ينصرف متخفيا متغير
الوجه، وكأنه يهم بشيء، أو يخطط لشيء.
أما أنا، فانصرفت، ومعي بصيص جديد من النور اهتديت به بعد
ذلك إلى شمس محمد r.
([9]) رواه البيهقي،
وقال: روي في غزوة ذات الرقاع قصة أخرى، مثل هذه، فان كان الواقدي قد حفظ ما ذكر
في هذه الغزوة فكانت قصتان.
([13]) رواه أبو
يعلى وابن حبان والحاكم، وصححه ابن مردويه، والبيهقي، وابن
أبي شيبة والدارقطني وأبو نعيم.
([15]) رواه الطبراني
وابن المنذر وابو نعيم عن ابن عباس وابن جرير وابو الشيخ عن ابن زيد والبيهقي عن
ابن اسحاق.
([26]) يشير إلى قوله تعالى:﴿
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ
يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
(174)﴾(آل عمران)
([52]) رواه البخاري
ومسلم عن أنس، وأحمد، وابن سعد، وأبو نعيم عن ابن عباس، والدارمى، والبيهقي عن
جابر، والبيهقي بسند صحيح - عن عبد الرحمن بن كعب ابن مالك، والطبراني عنه عن
أبيه، والبزار والحاكم، وأبو نعيم عن أبي سعيد، والبيهقي عن أبي هريرة والبيهقي عن
ابن شهاب.
.
([61]) رواه البلاذري، وذكر
أبو نعيم بسند ضعيف عن ابن عباس أنه لما ربض به حماره أو البغلة لدغ، فمات مكانه
([69]) رواه البيهقي
وابو نعيم عن أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه، والبيهقي عن قتادة وأبو نعيم وابن
عساكر عن عروة عن هبار بن الاسود، وابو نعيم عن طاوس، وابن اسحاق وابو نعيم عن
محمد بن كعب القرظي، يزيد بعضهم على بعض.
([72]) رواه ابن
جرير عن عكرمة وبرير بن أبي زياد وعبد الحميد عن مجاهد وابن اسحاق عن عاصم بن عمر،
وابن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، وابو نعيم والبيهقي عن الزهري وعروة بن الزبير.
([81]) انظر: الكامل
في التاريخ: 2 / 84 - 85 - 86 - 87، نور الابصار: ص 54، الرياض النضرة: 1 / 272 -
276 ترجمة عمر.