الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: معجزات حسية

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

تاسعا ـ طاقات

1 ـ الوحي

2 ـ الاستبصار

3 ـ التسخير

تاسعا ـ طاقات

في اليوم التاسع.. جاءني بولس، واعتذر لي عن عدم مجيئه في اليومين السابقين، وقال لي: لقد اشتقنا إلى التبشير بالمسيح.. وسنتحدث اليوم عن نوع من معجزات المسيح لم يحصل إلا للمسيح.

قلت: تقصد ما كان للمسيح من طاقات..

قال: نعم.. لقد تجلت في المسيح جميع القدرات العجيبة التي لا تكون إلا لإله، أو لأقنوم لإله.

سرت معه، ولم نبتعد كثيرا حتى رأينا جمعا من الناس يلتفون حول رجل يسير فوق الزجاج من غير أن يؤذى، وقد ملأهم العجب.

وكان أجير بولس حاضرا، ويعلم ما يقول في هذا الموقف، فما إن رأى بولس، حتى صاح: ألا تريدون أن تسمعوا ما هو أعجب من هذا الذي يمشي على الزجاج؟

قالوا: وما ذاك؟

قال: من يمشي على الماء؟

قالوا: وهل حصل ذلك؟

هنا تدخل بولس، وقال: أجل.. ذلك هو المسيح.. وسأقص عليكم قصة سيره على الماء [1]..

لقد كان المسيح يصلي على الجبل وحده في الليل، بينما كان تلاميذه في السفينة، عندما وقع اضطراب في البحيرة، إذ هاج البحر من ريح عظيمة، وكانت السفينة معذبة من الأمواج لأن الريح كانت مضادة، لم يكن التلاميذ قد نسوا ما علمه المسيح في النوء قبل هذا الوقت بنحو نصف سنة، ولكنه كان وقتها معهم في السفينة، أما الآن فيخيفهم غيابه، فهل ظنوا يا ترى أن الذي يشفي العليل بكلمة، وعن بُعْد، يستطيع أن يحفظ ويعطي السلامة عن بُعْد أيضاً؟

ظلوا يصارعون الأمواج إلى قرب الصباح، دون أن يتمكنوا من عبور البحيرة، وعرف المسيح بعذابهم، وهو في مخدع الصلاة الهادئ على الجبل، وهو المحب الذي لا يريد عذابهم إلا بمقدار ما يؤول لخيرهم، فلما رأى اضطرابهم والخطر عليهم، نزل من الجبل ومشى على البحر الهائج معتلياً أمواجه في هبوطها وارتفاعها، كأنها اليابسة، وهو مسرع للإفراج منهم.

هذا هو الكلمة (الذي كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ) (يوحنا 1: 3)، وقد وصفه بقوله: (اٰلْبَاسِطُ اٰلسَّمَاوَاتِ وَحْدَهُ وَاٰلْمَاشِي عَلَى أَعَالِي اٰلْبَحْرِ) (أيوب 9: 8)

رفقاً بهم لم يتجه فوراً إلى السفينة لئلا يخيفهم، بل مرّ بقربهم كأنه يتجاوزهم.

لا شك أنهم اعتادوا القصص الخرافية الدارجة في كل عصر، عن ظهور أشباح روحية مزعجة، والآن يشاهدون لأول مرة في حياتهم روحاً أو خيالاً، فصرخوا مرتعدين لعلهم أرادوا أن يخيفوا هذا الخيال ليبتعد عنهم.

ولكن أتى صدى صراخهم خلافاً لما انتظروا، لأن هذا الخيال أجابهم بصوت لا يُشتبه به، وبكلام مطمئن حبي قال:( تشجعوا، أنا هو، لا تخافوا)

ولا زال هذا الصوت الحنون المشجع يُسمع حينما يوجد مؤمن مضطرب من جراء هموم ومخاوف الحياة، ولا سيما متى كان انزعاجه نتيجة لثقل خطاياه ومخاوف الابتعاد الأبدي عن الله.

فلما اقترب المتكلم وعرفوه، تمنى بطرس الجسور أن يتشبّه بسيده في المشي على الماء، فصرخ: (يا سيد إن كنت أنت هو، فمُرْني أن آتي إليك على الماء )، فهل يسمح له بما طلب، رغم قوله: (إن كنت أنت هو ) خصوصاً بعد أن قال سيده: (أنا هو) نعم، إذا كان بذلك يقدر أن يُري تلاميذه أن كل شيء مستطاع عند الله، فمتى شاء يمكّن الإنسان من فعل المستحيلات.

نجح بطرس في أول الأمر لأنه نزل من السفينة ومشى على الماء ليأتي إلى المسيح، لما كان فكره ونظره متجهيْن إلى المسيح لم يكن خائفاً، واستطاع أن يفعل المستحيل.

لكن نجاحه أدّى إلى فشله، لأنه ابتدأ يفكر بذاته ويفتخر بعمل لم يسبقه إليه أحد، فحوَّل فكره ونظره من المسيح إلى نفسه، فابتدأت الأمواج الهائجة ترعبه، وحالاً أخذ يغرق، ولم تفِدْه معرفته بالسباحة، وصار يحسد رفقاءه في السفينة، بعد أن كانوا هم يحسدونه لما مشى على الماء. صرخ: (يا رب نجني ). ففي الحال مدّ المسيح يده وأمسك به ونشله، ثم وبخه بقوله: (يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟). فصحَّ فيه كلام داود النبي: (نَشَلَنِي مِنْ مِيَاهٍ كَثِيرَة) (مزمور 18: 16).

نجا بطرس من الغرق لأن المسيح أمسك به، وهكذا نجاة الخاطئ عندما تكلُّ يداه وتغمض عيناه ويرتخي تمسكه بالمخلّص، فلا يرى أمامه إلا الهلاك، ولكن متى أدرك أن المخلص المقتدر الذي لا ينام يمسك به يحلُّ الرجاء عنده مكان اليأس.

لما ظن التلاميذ في السفينة أنهم رأوا خيالاً، صرخوا ليبعدُوه عنهم. أما الآن فقبلوا أن يدخل السفينة، فصعد إليهم، وبمجرد دخوله إليها سكنت الريح وللوقت صارت السفينة إلى أرض جنيسارت، التي كانوا ذاهبين إليها.

ويذكر الإنجيل أن التلاميذ (لم يفهموا بالأرغفة، إذ كانت قلوبهم غليظة) فلما رأوا هذه المعجزة الثانية في اليوم الواحد بُهتوا وتعجبوا جداً مع أن المسيح أسكت هذا البحر من أجلهم منذ بضعة أشهر، وحالما وصلوا إلى الشاطئ تقدموا وسجدوا له سجودهم الأول كجماعة قائلين: (بالحقيقة أنت ابن الله )

لم أكن أتصور أن عبد القادر كان حاضرا في ذلك المحل، فقد توجه للجمع بعد انتهاء بولس من حديثه قائلا: ليس الشأن أن نخالف ما وضعه الله فينا من قدرات، بل الشأن أن نخرق من أنفسنا ما يملؤها بالكدورات.

لقد حصل لكثير من الصالحين من جميع الأمم ما ذكره هذا الرجل من المشي على الماء، أو الطيران في الهواء، ولكنهم لم يكونوا يبالون بكل ذلك.

لقد حدث أبو الحسين النوري عن ذلك، فقال: كان في نفسي شيء من هذه الكرامات، فأخذت قصبة من الصبيان وقمت بين زورقين، ثم قلت: وعزّتك إن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقنّ نفسي، قال: فخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال، فبلغ ذلك الجنيد فقال: كان حكمه أن تخرج له أفعى تلدغه.

وقيل لأبي يزيد: فلان يمشي في ليلة إلى مكة! فقال: الشيطان يمشي في ساعة من المشرق إلى المغرب في لعنة الله.

وقيل له: فلان يمشي على الماء، ويطير في الهواء، فقال: الطير يطير في الهواء، والسمك يمر على وجه الماء.

وقال سهل بن عبد الله: أكبر الكرامات أن تُبدل خُلقاً مذموماً من أخلاقك.

وكان رجل يقال له عبد الرحمن بن أنس يصحب سهل بن عبد الله، فقال له يوماً: ربما أتوضأ للصلاة فيسيل الماء بين يدي قضبان ذهب وفضة، فقال سهل: أما علمت أن الصبيان إذابكوا يعطون خشخشة ليشتغلوا بها؟

هنا قام أجير بولس ببلاهته المعهودة، وقال: أراك تقول هذا، لأنه لم يكن لنبيكم شيء من الطاقات.. لقد كان مجرد بشر كسائر البشر.. يحمل ضعف البشر، وفقر البشر.

قال عبد القادر: نعم.. لقد كان نبينا كذلك كما كان سائر الأنبياء ـ عليهم السلام ـ فالله تعالى اختار بحكمته أن يرسل للبشر بشرا مثلهم، وقد قال ردا على من طلب أن ترسل لهم ملائكة:﴿ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ (الأنعام:8-9)

ولهذا، فليس هناك من حرج في كون النبي بشرا كسائر البشر، بل إن من مهمته أن ينبه الناس إلى كونه مثلهم، قال تعالى:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ (الكهف:110)، وقال تعالى:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ (فصلت:6)

بل إن النبي r اختار أن يكون كسائر الناس بسيطا متواضعا عبدا، فقد روي أن رسول الله r بينما هو جالس، ومعه جبريل u، إذ انشق أفق السماء، فأقبل جبريل يدنو من الأرض، ويدخل بعضه في بعض، ويتضاءل فإذا ملك [2]  قد مثل بين يدي رسول الله r، فقال:( السلام عليك يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، أنا رسول ربك إليك، أمرني أن أخيرك: إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا )، فنطرت إلى جبريل عليه السلام كالمستشير، فأشار إلي جبريل بيده، أن تواضع، فقلت:( بل نبيا عبدا، يا عائشة لو قلت: نبيا ملكا، ثم شئت لسارت معي الجبال ذهبا )، قالت عائشة: وكان رسول الله r بعد ذلك يأكل متكئا ويقول:( آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد )[3]

وعن حمزة بن عبيد الله بن عتبة قال: كانت في رسول الله خصال ليست في الجبارين، كان لا يدعوه أحمر، ولا أسود، إلا أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى فيه، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان يركب الحمار عريا، ليس عليه شئ[4].

وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r أخذ بيد مجذوم، فأدخله معه في القصعة، ثم قال له:( كل باسم الله، وثقة بالله، وتوكلا عليه )[5]

وعن عبد الرحمن بن جبر الخزاعي قال: بينما رسول الله r يمشي مع أصحابه إذ أخذ رجل منهم، فستره بثوب فلما رأى ما عليه، رفع رأسه، فإذا هو علاه قبلي ستر، فقال:( مه )، فأخذ الثوب، فوضعه، وقال:﴿ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾ (الكهف: من الآية110)[6]

وعن أبي المثنى الأملوكي ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r، ومن قبله من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ يمشون على العصا، يتوكئون عليها، تواضعا لله عز وجل[7].

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r يركب الحمار، ويردف بعده، ويجيب دعوة المملوك[8].

وعن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويعقل الشاة، ويأتي مدعاة الضعيف[9].

وعن عبد الله بن أبى أوفى ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف، ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي لهما حاجتهما[10].

عن ابن عباس، وأنس ـ رضي الله عنهما ـ قالا: كان رسول الله r يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك، ويقول:( لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت )[11]

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r يركب الحمار، ويعود المريض، ويشهد الجنازة، ويأتي دعوة المملوك، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف، على إكاف من ليف[12].

وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ قال: والله ما كان رسول الله r تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبى الله r لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده[13].

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r كلم رجلا فأرعد، فقال:( هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديدة)[14]

وعن عبد الله بن بسر قال: أهديت إلى رسول الله r شاة فجثا على ركبتيه، فأكل، فقال أعرابي: يا رسول الله ما هذه الجلسة؟ فقال:( إن الله عزوجل جعلني عبدا كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا )[15] 

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجئ فتأخذ بيد رسول الله r، فما ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة[16].

وقد روي أن رسول الله r مر بغلام يسلخ شاة، فقال له رسول الله r:( تنح حتى أريك، فإني لا أراك تحسن تسلخ )، فأدخل رسول الله r يده بين الجلد واللحم، فدخس بها حتى ترادت إلى الإبط، ثم قال:( يا غلام هكذا فاسلخ )[17]

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r إذا صلى الغداة جاءه خدم أهل المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاءوه في الغداة الباردة، فيغمس يده فيها[18].

قام أجير بولس، وقال: ما أراك تقول هذا الكلام إلا هربا من الحقيقة.

قال عبد القادر: ما الحقيقة التي أهرب منها؟

قال أجير بولس: الحقيقة المعروفة عند الجميع .. وهي أن نبيكم لم تخرق له أي عادة، ولم تكن له أي طاقة.

قال عبد القادر: كأني بك تستفزني للحديث عن ذلك.. فإن شاء الجمع أن أحدثهم عن بعض الطاقات العظيمة التي حبا الله بها نبيه r ليؤدي الرسالة التي كلف بها حدثتهم.

أشار الجمع بالإيجاب، وقد لاحظت سرورا على وجه بولس كان يحاول إخفاءه.

1 ـ الوحي

نظر عبد القادر إلى الجمع الملتف حوله، وقال: أول طاقة حبا الله بها أنبياءه، بما فيهم المسيح ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ طاقة تلقي الوحي..

إن هذه الطاقة طاقة عظيمة لا يمكن تصورها.. إنها اتصال الإنسان الضعيف القاصر بالعالم الآخر..

ولهذا عبر القرآن الكريم عن ثقل الوحي، فقال تعالى:﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ (المزمل:5)

وقد ذكر القرآن الكريم أن كلام الله لعبادة لا يتم إلا من خلال ثلاثة أمور، فقال تعالى:﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الشورى:51)

ومعنى الوحي أن يلقي الله المعنى في القلب، أي أن الله تعالى يقذف فى روع النبى r شيئا لايمارى فيه أنه من الله تعالى،كما قال r: إن روح القدس نفث فى روعى أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله واجملوا فى الطلب[19].

والثاني تكليمه من وراء حجاب، كما كلم الله موسى u، فقد سمع النداء من وراء الشجرة، قال تعالى:﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (القصص:30)

والثالث نزول أمين الوحى جبريل u، كما روي في الحديث عن عائشة ـ رضي الله عنه ـ أن الحارث بن هشام سأل رسول الله r، فقال: يارسول الله: كيف يأتيك الوحى؟ فقال: أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس، وهو أشده على، فيفصم عنى  ـ أى يقلع ـ وقد وعيت عنه ماقال ـ أى حفظت ـ وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فاعى مايقول[20].

وقد كان هذا النوع الأخير هو النوع الذي تنزل به القرآن الكريم، وقد كان أثقل الوحي على رسول الله r، وإنما كان كذلك لأنه انسلاخ من البشرية واتصال بالروحانية.

أما الثانية فأخفها؛ لأنها انتقال ملك الوحى من الروحانية إلى البشرية بسهولة ويسر، بإذن من الله تعالى.

وقد وصف المعايشون لرسول الله r كيف كان يأيته هذا النوع من الوحي، وهو بحد ذاته دليل على أنه حقيقة ملموسة لا علاقة لها بأي مرض كما يشيع المرجفون.

فقد وصفت عائشة ـ رضي الله عنه ـ شدة الوحي على رسول الله r، فقالت: إن كان ليوحى إلى رسول الله r وهو على راحلته، فتضرب بجرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه وتلت الآية[21].

وقالت: لقد رأيته ـ تعني النبي r ـ ينزل على الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا[22].

وقالت: كان رسول الله r إذا أنزل عليه الوحي يغط في رأسه ويتربد وجهه ويجد بردا في ثناياه ويعرق حتى لينحدر منه مثل الجمان [23].

وقال زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ: أنزل على رسول الله r وفخذه على فخذي، فكادت فخذه ترض فخذي[24].

وقال أبو أروى الدوسى ـ رضي الله عنه ـ: رأيت الوحي ينزل على رسول الله r، وإنه على راحلته، فترغو وتفتل يديها حتى أظن أن ذراعها تنقصم، فربما بركت وربما قامت موتدة يديها حتى يسرى عنه عن ثقل الوحي، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان[25].

وقال عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه: كان رسول الله r إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه وغمض عينيه[26].

وقال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: كان رسول الله r إذا أوحي إليه لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى يقضى الوحي[27].

وقالت أسماء بنت يزيد ـ رضي الله عنه ـ: كنت آخذة بزمام ناقة رسول الله r حين أنزلت عليه سورة المائدة فكاد ينكسر عضدها من ثقل السورة [28].

وقال ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ: أنزلت على رسول الله r سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها.

وقال: سألت رسول الله r فقلت: يا رسول الله هل تحس بالوحي؟ فقال رسول الله r: أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك، فما مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض[29].

وكان يعلى بن أمية يقول: ليتني أرى رسول الله r حين ينزل عليه الوحي، فلما كان النبي r بالجعرانة وعليه ثوب قد أضل عليه، ومعه ناس من أصحابه فيهم عمر، إذ جاءه رحل متضمخ بطيب، فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعد ما تضمخ بطيب فنظر رسول الله r، ثم سكت، فجاءه الوحي، فأشار عمر: أن تعال، فجاء يعلى، فأدخل رأسه، فإذا هو محمر الوجه يغط، ما يغط البكر، كذلك ساعة ثم سري عنه، الحديث[30].

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: كان رسول الله r إذا أنزل على الوحي تربد لذلك جسده ووجهه وأمسك عن أصحابه ولم يكلمه أحد منهم[31].

قال أجير بولس: ألا ترون ـ أيها الجمع ـ إلى هذه الخرافات التي يلقيها هذا الرجل.. كيف يمكن لعقل أن يقبل باتصال محمد ذلك البدوي الأمي بالسماء.. كيف يمكن أن يحصل منه هذا الاتصال بالعالم الآخر؟

ابتسم عبد القادر، وقال: لاشك أنك مسيحي، ومخلص للمسيحية.

قال أجير بولس: لو لم يهدني عقلي إليها ما آمنت بها.

قال عبد القادر: لقد ورد في الكتاب المقدس اتصال الله بكثير من أنبيائه.. بل ليس هناك نبي إلا واتصل بالله، ونزل عليه وحي من الله.. أم أنك تنكر ذلك.

فإن كنت تنكر ذلك.. فإن كل النبوءات التي على أساسها تقيم إيمانك بالمسيح غير صحيحة..

وإن كنت تنكر أن يختص الله محمدا بالنبوة لكونه عربي، فأنت لا تختلف عن الشيطان الذي قال لآدم u:﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ (لأعراف: من الآية12)

فالشيطان هو الذي أراد أن يحجر على الله فضله على عباده، وعلى دربه سار الإسرائيليون الذين تتلقون عنهم الدين حين جعلوا فضل الله محصورا في نسل معين من بني إسرائيل امتلأ بالكبر والغرور.

أما نحن المسلمين، فنعتقد أن هذا الفضل يمن الله به على من يشاء من عباده، ونعتقد فوق ذلك ما قاله القرآن الكريم من أنه لم تخل أمة من الأمم من وحي الله، كما قال تعالى:﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر:24)

ولكن مع ذلك.. فسأجيب عن سؤالك لا باعتبارك مسيحيا مخلصا في مسيحيته، بل باعتبارك رجلا صاحب عقل، يتصور أن عقله يمنعه من الإيمان بالوحي [32].

أننا ـ اليوم ـ نستطيع أن نفهم هذه المسألة بسهولة تامة بفضل الحقائق المعلومة.

إن هناك وقائع كثيرة جدا تجري من حولنا في كل لحظة، ونحن نعجز عن إدراكها، أو سماعها، أو الإحساس بها بوساطة أجهزتنا العصبية، وقد استطاع العلم الحديث أن ييسر لنا إدراكها بفضل الأجهزة العلمية التي اخترعناها.

وهذه الأجهزة تستطيع أن تدل علي صوت ذباب طائر علي بعد بضعة أميال، وكأنه يطير عند أذنك.

ومن الأجهزة العلمية ما وصل التقدم فيه إلى حد أنها تسجل صدام الأشعة الكونية في الفضاء.

لقد اخترعناه آلات كثيرة أثبتت أنها تستطيع إدراك كثير من الأحداث التي لا يمكننا سماعها بالطرق السمعية التقليدية.

وهذه الطاقة غير العادية للسماع لا تخص الآلات العلمية الحديثة، وإنما وهبها الله لبعض الحيوانات أيضا.

ومما لا شك فيه أن جهاز سماع الإنسان محدود جدا، ولكن أجهزة بعض الحيوانات تختلف كل الاختلاف ؛ فالكلب، مثلا، يستطيع أن يشم ريح الحيوان الذي مر من الطريق، ومن ثم استغلت الكلاب في البحث عن الجرائم والمجرمين.

وهناك حيوانات كثيرة تسمع أصواتا تخرج عن نطاق أسماعنا، وقد أثبتت البحوث في هذا الميدان أن بعض الحيوانات يتمتع بقوة (الإشراق) Telepathy. فلو أنك وضعت حشرة مما يطلق عليه (Moth)، أو (العثة)، وهي حشرة مجنحة-علي نافذة مفتوحة، فستحدث صوتا يسمعه زوجها علي مسافة بعيدة جدا، ولسوف يجيبها هذا الزوج أيضا بطريقته.

وهناك نوع خاص من هذه الحشرات يدعي (الجندب)، يحك رجليه وجناحيه ويصوت بطريق غير عادية، ويسمع علي مبعدة نصف ميل وهو يحرك في هذه العملية ستمائة طن من الهواء، ليدعو زوجه وهذه الزوج ترسل أيضا وهي ساكنة بلا حراك جوابا لا نعرفه، إنما يعرفه الجندب الذكر ثم يلحق بها أينما كانت.

وقد أثبتت البحوث أيضا أن (أبو النطيط) العادي Grasshoper لديه قدرة خارقة علي السماع حتى إنه يستطيع أن يسمع ويحس الحركة التي تحدث في نصف قطر من ذرة الهيدروجين.

وهناك أمثلة أخري كثيرة، تؤكد إمكان وجود وسائل غير مرئية لدي ذوي الحواس الخاصة.

وإذا كان الأمر كذلك فما وجه الغرابة في ادعاء إنسان أنه يسمع صوتا من لدن ربه، لا يدركه عامة الناس ما دام من الممكن أن توجد في هذا العالم حركات وأصوات لا تسمعها آذان الإنسان، ولكن تسجلها الآلات؟ وما دامت هناك رسائل تدركها حيوانات دون أخرى؟

إن الله تعالي- لحكمة يعلمها- يرسل رسائله بوسائل خافتة خفية إلي الإنسان المختار للرسالة بعد أن يودع فيه صلاحية التقاطها وفهمها، فليس هناك من تصادم في الحقيقة، بين مشاهداتنا وتجاربنا العلمية، فهو واقع من الوقائع الكثيرة التي نشاهدها ونجربها في أمكنة وطرق مختلفة فالوحي إمكان وجدناه في شكل الواقع بعد التجربة.

وقد تبين أن تجارب الإشراق أو الانكشاف ومعرفة الغيب لا تخص الحيوانات، وإنما توجد في الإنسان (بالقوة)، يقول الدكتور ألكسيس كريل: إن حدود الفرد في إطار الزمان والمكان هي مجرد افتراض، فيستطيع عامل الإشراق أن يجعلك تنام، وتضحك أو تبكي، كما يستطيع أن ينقل إليك كلمات أو خواطر، ليست علي علم بها. إنها عملية لا تستعمل فيها أية وسائل ولا يشعر بها غير عامل الإشراق وصاحبه.

كيف يستحيل وقوع هذه العملية نفسها بين العبد وربه؟ إننا بعد الإيمان بالله، والإطلاع علي هذه التجارب الكثيرة بما ذلك الإشراق، لا نجد أساسا لإنكار الوحي والإلهام.

وقد حدث سنة 1950 أن المسئولين في (بافاريا) رفعوا قضية ضد أحد النمسويين، واسمه (فرنتر ستروبيل)، بتهمة التدخل في برامج الإذاعة عن طريق الإشراق.

وكان فرنتر ستروبيل يستعرض أعماله في فندق ريجينا، بميونيخ، عندما ناول أوراق لعب الكوتشينة إلي أحد المتفرجين، وطلب إليه اختيار ورقة ما، وادعي أنه سوف ينقل اسم تلك الورقة واسم الفندق مع ترتيبهما، كما هما في ذهن المتفرج، إلي المذيع الذي كان يقرأ الأخبار من إذاعة ميونيخ المحلية، ذلك دون أن يعرف المذيع نفسه شيئا من هذا.

بعد ثوان سمع الناس صوت مذيع مرتعش، هو يقول: (فندق ريجينا- بنت البستوني) وكان الترتيب واسم الورقة صحيحين، كما أراد المتفرج.

وكان الارتعاش والرهبة واضحين في صوت المذيع ولكنه واصل قراءة الأخبار.

استغرب الكثيرون من المستمعين من سكان ميونيخ، واتصل مئات منهم تليفونيا بالإذاعة يستفسرون عن السر الغامض، فكان من الصعب عليهم إدراك علاقة الأخبار (بفندق ريجينا- بنت البستوني): وحضر طبيب الإذاعة للكشف علي المذيع، فوجده في حالة اضطراب خطيرة، وأدلي المذيع ببيانه قائلا: (إنني شعرت بصداع شديد في رأسي، ولا أعرف ماذا حدث بعد ذلك!)

وقد عرض العلماء نظريات عديدة لشرح هذه الصور من عملية الإشراق، ومنها أن أمواجا تصدر من المخ وتنتشر في العالم أجمع بسرعة فائقة، ولذلك سموها بنظرية الموجة المخية Brain Wave Theory

فإذا كان الإنسان ـ كما يرى هؤلاء العلماء ـ يستطيع تحويل الأفكار بأكملها إلي إنسان آخر، علي بعد غير عادي، وبدون استعمال أي واسطة مادية ظاهرية، فلماذا تستحيل نفس العملية بين الإله وعباده؟

إن هذا المظهر من كفاءة قوى الإنسان، وأمثلته كثيرة لا تحصي، ليس إلا قرينة تجريبية تجعلنا نفهم علاقة الألفاظ والمعاني التي تربط العبد بالإله عندما يرسل رسالاته.

إن الإشراق أمر معروف لدى الناس، وهو يدلنا علي فهم ذلك النظام الإشراقي العظيم بين الإله والعباد.

قال رجل من الجمع: ولكن الوحي أخطر بكثير من هذه الأمثلة الإشراقية التي ذكرتها..

قال عبد القادر: ليس هناك شيء لدي أي شخص من الناس يشبه الوحي.. لأن الوحي خاص بالأنبياء ـ عليهم السلام ـ

سكت قليلا، ثم قال: لقد ورد في السيرة بأسانيد كثيرة ما يدل على أن محمدا r هيئ جسميا لهذا الوحي، كما هيئ للوظائف الكبرى التي يقوم بها.

وهذه التهيئة هي ما يسمى حادثة شق الصدر.

فقد تكرر شق صدره الشريف r ـ كما يذكر علماء السيرة ـ أربع مرات:

أما الأولى، وهو r صغير في بني سعد، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأهذه فصرعه فشق عن قلبه واستخرج لقلب ثم شق القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه فأعادة مكانه.

وجعل الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعني ظئره حليمة ـ فقالوا: إن محمدا قد قتل فجاءوه وهو منتقع اللون.

قال أنس: فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره r [33].

وعن عتبه بن عبد السلمي ـ رضي الله عنه ـ، أن رسول r قال: كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زادا فقلت: يا أخي اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا.

فانطلق أخي ومكثت عند البهم فأقبل إلي طائران كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني للقفا فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين فقال أحدهما لصاحبه: إيتني بماء ثلج فغسلا به جوفي، ثم قال: إيتني بماء برد فغسلا به قلبي، ثم قال: إيتني بالسكينة فذراها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه حصه، فحاصه وختم عليه بخاتم النبوة، وذكر الحديث[34].

أما المرة الثانية، فقد حصلت له r وهو ابن عشر سنين، فعن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ أن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: يا رسول الله ما أول ما ابتدئت به من أمر النبوة؟ قال: إني لفي صحراء أمشي ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسي يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال نعم.

فأخذاني فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط وأرواح لم أرها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلى يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مسا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه.

فأضجعاني لا قصر ولا هصر وفي لفظ: فقلباني لحلاوة القفا ثم شقا بطني [35].

فخوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب، والآخر يغسل جوفي، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره فإذا صدري فيما أرى مفلوقا لا أجد له وجعا.

ثم قال: شق قلبه فشق قلبي فقال: أخرج الغل والحسد منه، فأخرج شبه العلقة فنبذ به، ثم قال: أدخل الرأفة والرحمة في قلبه، فأدخل شيئا كهيئة الفضة، ثم أخرج ذرورا كان معه فذره عليه ثم نقر إبهامي ثم قال: اغد واسلم، فرجعت بما لم أغد به من رحمتي للصغير ورأفتي للكبير[36].

أما المرة الثالثة، فعند المبعث، فعن عائشة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r نذر أن يعتكف شهرا هو وخديجة، فوافق ذلك شهر رمضان فخرج ذات ليلة، فسمع: السلام عليك.

قال: فظننت أنها فجاءة الجن، فجئت مسرعا حتى دخلت على خديجة فقالت: ما شأنك؟ فأخبرتها فقالت: أبشر فإن السلام خير.

ثم خرجت مرة أخرى فإذا أنا بجبريل على الشمس له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، فهلت منه فجئت مسرعا، فإذا هو بيني وبين الباب، فكلمني حتى أنست منه، ثم وعدني موعدا، فجئت له فأبطأ علي فأردت أن أرجع فإذا أنا به وبميكائيل قد سد الأفق فهبط جبريل وبقي ميكائيل بين السماء والأرض، فأخذني جبريل فألقاني لحلاوة القفا، ثم شق عن قلبي، فاستخرجه ثم استخرج منه ما شاء الله أن يستخرج ثم غسله في طست من ماء زمزم ثم أعاده مكانه مكانه ثم لأمه ثم أكفأني كما يكفأ الإناء ثم ختم في ظهري حتى وجدت مس الخاتم في قلبي، وذكر الحديث[37].

أما المرة الرابعة، فليلة الإسراء، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r: أتيت وأنا في أهلي فانطلق بي إلى زمزم فشرح صدري، ثم أتيت بطست من ذهب ممتلئا حكمة وإيمانا فحشي بهما صدري، قال أنس والنبي r يرينا صدره، فعرج بي الملك إلى سماء الدنيا، وذكر حديث المعراج[38].

وعن مالك بن صعصعة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r حدثهم عن ليلة أسري به قال: بينما أنا في الحطيم مضطجعا إذ أتاني آت فجعل يقول لصاحبه: الأوسط من الثلاثة، فأتاني فشق ما بين هذه إلى هذه يعني من ثغره نحره إلى شعرته، فاستخرج قلبي، فأتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا وحكمة فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار[39].

فهذه الروايات كلها تدل على أن النبي r هيئ جسميا لتلقي الرسالة وما يرتبط بها من وحي وغيره، فثقل الوحي يستدعي طاقات خاصة.

2 ـ الاستبصار

نظر عبد القادر إلى الجمع الملتف حوله، فرأى فيهم اهتماما كبيرا لما يقول، فقال: هناك طاقة أخرى من الطاقات القريبة من الوحي، ولو أنها لم تكن تحتاج تنزل ملك.

قالوا: ما هي هذه الطاقة؟

قال عبد القادر: هي طاقة الاستبصار.. فالنبي r كان يبصر أشياء لا طاقة لغيره بإبصارها، ويسمع أشياء لا طاقة لغيره بسماعها.

قالوا: حدثنا عن ذلك.

قال: من ذلك رؤيته الفتن، فعن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ  قال: أشرف رسول الله r على أطم من آطام المدينة، فقال:( هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع المطر )[40]

وعن بلال ـ رضي الله عنه ـ  قال: رفع رسول الله r بصره الى السماء، فقال:( سبحان الذي يرسل عليهم الفتن ارسال القطر )[41]

ومن ذلك رؤيته الدنيا وسماع كلامها، فعن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ  قال: كنت مع رسول الله r فرأيته يدفع عن نفسه شيئا، ولم أر معه أحدا، فقلت: يا رسول الله، ما الذي تدفع؟ قال: هذه الدنيا مثلت لي، فقلت لها: اليك عني، ثم رجعت فقالت: ان أفلت مني فلن ينفلت مني من بعدك[42].

ومن ذلك قوله r:( أتتني الدنيا خضرة حلوة ورفعت لي رأسها وتزينت لي، فقلت: لا أريدك، فقالت: إن انفلت مني لم ينفلت مني غيرك )[43] 

ومن ذلك رؤيته الجمعة والساعة، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ  قال: قال رسول الله r:( أتاني جبريل، وفي يده مرآة بيضاء فيها نكتة سوداء، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الجمعة، يعرضها عليك ربك، لتكون لك عيدا ولقومك، قلت: ما هذه النكتة السوداء فيها؟ قال: هذه الساعة )[44]

ومن ذلك ما اطلع عليه من أحوال البرزخ والجنة والنار، فعن الحسين بن علي ـ رضي الله عنه ـ  قال: لما توفي القاسم ابن رسول الله r قالت خديجة ـ رضي الله عنه ـ وددت لو كان الله أبقاه حتى يستكمل رضاعه، فقال رسول الله r:( إن تمام رضاعه في الجنة )، قالت: لو أعلم ذلك يا رسول الله يهون علي أمره، قال:( إن شئت دعوت الله عز وجل يسمعك صوته )، قالت: بل أصدق الله ورسوله[45].

ومن ذلك ما روي عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ  قال: بينما رسول الله r في حائط بني النجار على بغلة له، ونحن معه إذ جادت به فكادت تلقيه، وإذا بقبر ستة أو خمسة، فقال:( من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟)، فقال رجل: أنا، فقال: قوم هلكوا في الجاهلية فقال:( إن هذه الامة تبتلى في قبورها، فلولا أن تدافنوا لدعوت الله عز وجل أن يسمعكم من عذاب القبر )[46]

ومن ذلك ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: مر رسول الله r على قبرين، فقال:( إنهما ليعذبان، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس )[47]

ومن ذلك ما روي عن أسماء ـ رضي الله عنها ـ قالت: كسفت الشمس، فصلى رسول الله r ثم حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:( ما من شئ لم أكن رأيته الا رأيته في مقامي هذا حت الجنة والنار )[48] 

ومن ذلك ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله r فصلى، ثم انصرف، فقالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت قال:( إني رأيت الجنة، فتناولت عنقودا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ورأيت أكثرها النساء )[49]

ومن ذلك ما روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ  قال: صلى رسول الله r ذات ليلة صلاة، فمد يده ثم أخرها فسألناه، فقال:( إنه عرضت علي الجنة، فرأيت قطوفها دانية، فأردت أن أتناول منها شيئا، وعرضت علي النار فيما بينكم وبيني كظلي وظلكم فيها )[50]

وعنه، قال: بينا رسول الله r وبلال يمشيان فقال:( يا بلا، هل تسمع ما أسمع؟)، قال: لا والله يا رسول الله، ما أسمع شيئا، قال:( ألا تسمع أهل القبور يعذبون؟)[51]

ومن ذلك ما روي عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ  قال: أتى رسول الله r بقيع الغرقد، فوقف على قبرين ثريين، قال:( أدفنتم هاهنا فلانا وفلانة؟)[52]  قالوا: نعم، قال:( قد أقعد فلان الآن يضرب)، ثم قال:( والذي نفسي بيده، لقد ضرب ضربة سمعها الخلائق إلا الثقلين ولولا تمريج قلوبكم وتزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع)، ثم قال:( الآن يضرب هذا )، ثم قال:( والذي نفسي بيده، لقد ضرب ضربة ما بقي منه عظم الا انقطع )، وقال:( تطاير قبره نارا )، قالوا: يا رسول الله، وما ذنبهما؟ قال:( أما هذا فانه كان لا يستبرئ من البول، وأما هذا فكان يأكل لحوم الناس )[53]

ومن ذلك ما روي عن عمران بن الحصين وعبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله r قال:( اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الضعفاء والفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء)[54]

ومن ذلك ما روي عن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ  قال: صليت مع رسول الله r يوما فأطال القيام، وكان إذا صلى لنا خفف، فرأيته أهوى بيده ليتناول شيئا ثم ركع بعد ذلك، فلما سلم رسول الله r قال:( علمت أنه راعكم طول صلاتي وقيامي )، قلنا: أجل، يا رسول الله، وسمعناك تقول:( أي رب، وأنا فيهم؟)، فقال رسول الله r:( والذي نفسي بيده، ما من شئ وعدتموه في الآخرة إلا قد عرض علي في مقامي هذا حتى عرضت علي النار، فأقبل منها حتى حاذى خبائي هذا فخشيت أن تغشاكم فقلت: أي رب، وأنا فيهم؟ فصرفها الله تعالى عنكم، فأدبرت قطعا كأنها الزرابي فنظرت نظرة، فرأيت عمر بن حرثان بن الحارث أحد بني غفار متكئا في جهنم على قوسه، ورأيت فيها الحميرية صاحبة القطة التي ربطتها، فلا هي أطعمتها ولا هي سقتها )[55]

ومن ذلك ما روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله r:( رأيت جهنم يحطم بعضها على بعض ورأيت عمرا بن عامر الخزاعي يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب)[56]

ومن ذلك ما روي عن جابر بن عبد الله وأبي بن كعب ـ رضي الله عنهما ـ قالا: بينما نحن صفوفا خلف رسول الله r في الظهر أو العصر إذ رأيناه يتناول شيئا بين يديه في الصلاة ليأخذه، ثم يتناوله ليأخذه ثم حيل بينه وبينه، ثم تأخر وتأخرنا ثم تأخر الثانية وتأخرنا فلما سلم، قال أبي بن كعب: يا رسول الله، رأيناك اليوم تصنع في صلاتك شيئا لم تكن تصنعه، قال:( إني عرضت لي الجنة بما فيها من الزهرة والنضرة، فتناولت قطفا منها لاتيكم به، ولو أخذته لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه فحيل بيني وبينه، ثم عرضت علي النار فلما وجدت حر شعاعها، تأخرت، وأكثر من رأيت فيها النساء اللاتي إن ائتمن أفشين، وإن سئلن أخفين، وإن أعطين لم يشكرن، ورأيت فيها لحي بن عمرو يجر قصبه في النار وأشبه من رأيت به معبد بن أكتم )، قال معبد: أي رسول الله يخشى على من شبهه فانه والد، قال:( لا، أنت مؤمن وهو كافر، وهو أول من جمع العرب على عبادة الاصنام )[57]

3 ـ التسخير

قام رجل من الجمع، وقال: لقد أعطي سليمان طاقات كثيرة، فقد كان يسمع منطق الطير، بل ورد في القرآن أنه كان يسمع صوت النمل، ويضحك من حديثها.

ابتسم عبد القادر، وقال: ذاك سليمان u، وقد عاش في واقع تطلب أن يكون بتلك المواصفات، ولذلك دعا ربه أن يهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده[58]، فقال تعالى:﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (صّ:35)

وقد راعى رسول الله r هذه الدعوة، فقد روي بأسانيد مختلفة[59]أن رسول الله - r كان يصلي صلاة الصبح، فقرأ فالتبست عليه القراءة، قال أبو الدرداء: قام رسول الله r فسمعناه يقول:( أعوذ بالله منك )، ثم قال:( ألعنك بلعنة الله ثلاثا )، وبسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من صلاته، قلنا يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، قال:( إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي )

فلما فرغ من صلاته قال:( لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين الإبهام والتي تليها، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية، حتى تصبحوا وتنظروا إليه، فذكرت قول أخي سليمان:﴿ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ (صّ: من الآية35)، فرده الله تعالى خائبا، ولو لا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سوراي المسجد تتلاعب به صبيان المدينة.

قام أجير بولس، وقال: فلم يرو عن محمد شيء مما يرتبط بطاقات سليمان من تسخير الأشياء له، وسماعه أصواتها.

قال عبد القادر: لا.. بل روي الكثير من ذلك..

قال بولس: تقصد قصة الحمار يعفور[60].

قال عبد القادر: ومن الحمار يعفور؟

قال بولس: لقد حدث أبو منظور قال: لما فتح الله على نبيه r خيبراً أصاب من سهمه أربعة أزواج من البغال وأربعة أزواج خفاف، وعشر أواق ذهب وفضة، وحمار أسود ومكتل.

قال: فكلم النبي r الحمار، فكلمه الحمار، فقال له: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدي ستين حماراً كلهم لم يركبهم إلا نبي، لم يبق من نسل جدي غيري، ولا من الأنبياء غيرك، وكنت أتوقع أن تركبني، قد كنت قبلك لرجل يهودي، وكنت أعثر به عمداَ، وكان يجيع بطني ويضرب ظهري، فقال النبي r: سميتك يعفور، يا يعفور! قال: لبيك، قال تشتهي الإناث قال: لا.

فكان النبي r يركبه لحاجته، فإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرجل، فيأتي الباب فيقرعه برأسه فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله r، فلما قبض النبي r جاء إلى بئر كان لأبي التيهان فتردى فيها، فصارت قبره جزعاً منه على الرسول.

ابتسم عبد القادر، وقال: هذه قصة مكذوبة على رسولنا.. وأنت تعلم أكثر مني أن كل دين يتعرض للكذابين الذين يريدون تشويهه بما يختلقون من الأكاذيب.

فإن كذبتني في هذا، فعليك تصديق كل الكتب المقدسة التي رمتها مجامعكم بحجة كونها مكتوبة من كذبة لا كتبة.

قال بولس: ومن قال لك بأن هذا الحديث مكذوب؟

قال عبد القادر: المحدثون الذي يعرفون الرواة، ويميزون بين الصادقين منهم والكاذبين.

لقد ذكر ابن الأثير أن القصة ضعيفة لا أصل لها، فقال:( هذا حديث منكر جداً إسناداً ومتناً لا أحل لأحد أن يرويه عني إلا مع كلامي عليه )[61] 

وأورد الحافظ الكبير ابن حجر العسقلاني  في كتاب لسان الميزان، باب من اسمه  محمد بن مزيد هذه القصة كمثال الى الكذب الذي يرويه محمد بن مزيد، وأورد كلام الحافظ ابن حبان، فقال:( محمد بن مزيد أبو جعفر: عن أبي حذيفة النهدي ذكر ابن حبان أنه روى عن أبي حذيفة هذا الخبر الباطل  )

ثم ذكر ابن حجر القصة كاملة، وقال: قال ابن حبان: هذا خبر لا أصل له، وإسناده ليس بشيء. وقال ابن الجوزي: لعن الله واضعه.

قال ذلك، ثم التفت إلى بولس مبتسما، وقال: لاشك أن الذي اختلق هذه القصة متأثر بالكتاب المقدس.

قال بولس: كيف عرفت ذلك؟

قال عبد القادر: لقد ورد فيه حديث أتان بلعام، وأنا أحفظ النص، وسأسمعك إياه:( فَلَمَّا رَأَتِ الأَتَانُ مَلاَكَ الرَّبِّ رَبَضَتْ تَحْتَ بَلْعَامَ. فَثَارَ غَضَبُ بَلْعَامَ وَضَرَبَ الأَتَانَ بِالْقَضِيبِ. عِنْدَئِذٍ أَنْطَقَ الرَّبُّ الأَتَانَ، فَقَالَتْ لِبَلْعَامَ: (مَاذَا جَنَيْتُ حَتَّى ضَرَبْتَنِي اْلآنَ ثَلاَثَ دَفَعَاتٍ؟) فَقَالَ بَلْعَامُ: (لأَنَّكِ سَخَرْتِ مِنِّي. لَوْ كَانَ فِي يَدِي سَيْفٌ لَكُنْتُ قَدْ قَتَلْتُكِ). فَأَجَابَتْهُ الأَتَانُ: (أَلَسْتُ أَنَا أَتَانَكَ الَّتِي رَكِبْتَ عَلَيْهَا دَائِماً إِلَى هَذَا الْيَوْمِ؟ وَهَلْ عَوَّدْتُكَ أَنْ أَصْنَعَ بِكَ هَكَذَا؟) فَقَالَ: (لاَ).

وقد قال كاتب رسالة بطرس الثانية (2: 16):( إِنَّ الْحِمَارَ الأَبْكَمَ نَطَقَ بِصَوْتٍ بَشَرِيٍّ، فَوَضَعَ حَدّاً لِحَمَاقَةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ! )

سكت قليلا، ثم قال: لقد ورد في النصوص أحاديث كثيرة تشير إلى ما سخر الله لرسوله r من أشياء من الحيوانات وغيرها، سأسوق لكم بعضها كشواهد على ذلك:

فمن ذلك ما روي عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ  قال: سرنا مع رسول الله r حتى إذا نزلنا واديا أفيح فذهب رسول الله r يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر فلم ير شيئا يستتر به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله r إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال:( انقادي علي بإذن الله )، فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده حتى أتى إلى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها، وقال:( انقادي علي بإذن الله تعالى )، فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده كذلك، حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما لأم بينهما ـ يعني جمعهما ـ: فقال:( التئما علي بإذن الله )، فالتأمتا.

قال جابر: فخرجت أحضر مخافة أن يحس رسول الله r بقربي، فيبتعد، فجلست أحدث نفسي، فحانت مني لفتة، فإذا أنا برسول الله r مقبلا، وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيت رسول الله r وقف وقفة، فقال برأسه هكذا يمينا وشمالا[62].

ومن ذلك ما حدث به ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ  قال: كنا مع رسول الله r في غزوة خيبر، فأراد أن يقضي حاجته، فقال:( يا عبد الله، انظر هل ترى شيئا)، فنظرت، فإذا شجرة واحدة، فأخبرته، فقال:( انظر هل ترى شيئا؟)، فنظرت شجرة أخرى متباعدة عن صاحبتها فأخبرته، فقال:( قل لهما: رسول الله r يأمركما أن تجتمعا )، فقلت لهما، فاجتمعتا ثم أتاهما فاستتر بهما ثم قام، فانطلقت كل واحدة منهما إلى مكانها[63].

ومن ذلك ما حدث به غيلان بن سلمة الثقفي قال: خرجنا مع رسول الله r فرأينا منه عجبا، مررنا بأرض فيها إشات متفرق فقال:( يا غلام، ائت هاتين الاشاءتين فمر إحداهما تنضم إلى صاحبتها )، فانطلقت، فقمت بينهما، فقلت: إن نبي الله r يأمر إحداكما أن تنضم إلى صاحبتها، فنزل فتوضأ خلفهما، ثم ركب، وعادت تخد في الارض إلى موضعها[64].

ومن ذلك ما حدث به أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله r قال له في حجة الوداع:( انظر هل ترى من نخل أو حجارة؟)، فقلت: رأيت شجرات متفرقات ورضخا من حجارة، قال:( انطلق إلى النخلات فقل لهن: إن رسول الله r يأمركن أن تدانين لمخرج رسول الله r، وقل للحجارة مثل ذلك، فأتيتهن، فقلت لهن ذلك، فوالذي بعثه بالحق لقد جعلت أنظر إلى النخلات يخددن الارض خدا حتى اجتمعن، وإلى الحجارة يتقافزن حتى صرن رضخا خلف النخلات، فلما قضى رسول الله r حاجته، وانصرف قال:( عد للنخلات والحجارة، فقل لهن: إن رسول الله r يأمركن أن ترجعن إلى مواضعكن)[65]

ومن ذلك ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: جاء أعرابي إلى رسول الله r فقال: بم أعرف أنك رسول الله r؟ قال:( أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله r، قال: نعم، فدعا العذق، فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط على الارض، فأقبل إليه، وهو يسجد ويرفع ويسجد ويرفع حتى انتهى إلى رسول الله r ثم قال له:( ارجع )، فرجع إلى مكانه، فقال: والله لا أكذبك بشئ تقوله بعد أبدا أشهد أنك رسول الله، وآمن[66].

ومن ذلك ما وري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: أتى النبي r رجل من بني عامر فقال: يا رسول الله، أرني الخاتم الذي بين كتفيك فإني من أطيب الناس، فقال له رسول الله r:( ألا أريك آية؟)، قال: بلى، قال: فنظر إلى نخلة، فقال: ادع ذلك العذق، قال: فدعاه، فأقبل يخد الارض، ويسجد، ويرفع رأسه حتى وقف بين يديه فقال رسول الله r:( ارجع ) فرجع إلى مكانه، فقال: أشهد أنك رسول الله وآمن[67].

ومن ذلك ما روي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنا في سفر، فأقبل أعرابي فلما دنا منه قال له رسول الله r:( أين تريد؟)، قال: إلى أهلي، قال:( هل لك في خير؟)، قال: وما هو؟ قال:( تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله )، قال: هل لك من شاهد على ما تقول؟ قال:( هذه الشجرة )، فدعاها رسول الله r وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد الارض خدا فقامت بين يدي رسول الله r فاستشهدها ثلاثا، فشهدت أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها.

ورجع الاعرابي إلى قومه، وقال لرسول الله r: إن يتبعوني آتك بهم، وإلا رجعت إليك فكنت معك[68].

ومن ذلك ما روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ  قال: جاء جبريل إلى النبي r ذات يوم وهو جالس حزين قد خضب بالدماء ضربه بعض أهل مكة، فقال له: مالك؟ فقال رسول الله r:( فعل بي هؤلاء وفعلوا )، فقال له جبريل: كم تحب أن أريك آية؟ فقال:( نعم)، فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، فقال: ادع تلك الشجرة فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: مرها فلترجع، فأمرها، فرجعت إلى مكانها، فقال رسول الله r:( حسبي )[69] 

ومن ذلك ما روي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: سألت مسروقا من آذن النبي r بالجن ليلة استمعوا القرآن، فقال: حدثني أبوك، قال: آذنته بهم شجرة[70].

عن يعلى بن مرة ـ رضي الله عنه ـ  قال: بينما نحن نسير مع رسول الله r فنزلنا منزلا، فنام رسول الله r فجاءت شجرة استأذنت تشق الارض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له ذلك، فقال:( هي شجرة استأذنت ربها عز وجل أن تسلم علي فأذن لها[71])

ومن ذلك ما روي عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ  قال: جاء أعرابي إلى رسول الله r فقال: يا رسول الله قد أسلمت فأرني شيئا أزداد به يقينا، قال:( ما الذي تريد؟)، قال: ادع تلك الشجرة، فلتأتك، قال:( اذهب فادعها )، فأتاها الاعرابي، فقال: أجيبي رسول الله r فمالت على جانب من جوانبها، فقطعت عروقها، ثم مالت على الجانب الاخر فقطعت عروقها حتى أتت رسول الله r فقالت: السلام عليك يا رسول الله، فقالت:( بم تشهدين، يا شجرة؟)، قالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله، قال:( صدقت )

فقال الاعرابي: حسبي حسبي، مرها فلترجع إلى مكانها، فقال:( ارجعي إلى مكانك، وكوني كما كنت )، فرجعت إلى حفرتها، فجلست على عروقها في الحفرة، فوقع كل عرق مكانه الذي كان فيه، ثم التأمت عليها الارض، فقال الاعرابي: أتأذن لي يا رسول الله أن أقبل رأسك ورجليك، ففعل، ثم قال: أتأذن لي أن أسجد لك؟ فقال:( لا يسجد أحد لاحد )[72]

ومن ذلك ما روي عن تنكيس الاصنام حين أشار إليها r، ومما روي في ذلك:

أن النبي r لما دخل مكة وجد بها ثلثمائة وستين صنما، فأشار إلى كل صنم بعصا، فقال:﴿ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ (الاسراء: من الآية81) ﴿ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ (سـبأ: من الآية49)

فكان لا يشير إلى صنم إلا سقط من غير أن يمسه بعصا[73].

وفي رواية: دخل رسول الله r يوم فتح مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنما، فأخذ بقوسه، فجعل يهوي إلى صنم صنم وهو يهوي حتى مر عليها كلها.

وفي ذلك يقول تميم بن أسد الخزاعي:

وفي الاصنام معتبر وعلم       لمن يرجو الثواب أو العقابا

ومن ذلك ما روي عن سفينة مولى رسول الله r قال: ركبت سفينة في البحر فانكسرت، فركبت لوحا منها، فأخرجني إلى أجمة فيها أسد فأقبل الاسد، فلما رأيته قلت: يا أبا الحارث، أنا سفينة مولى رسول الله r فأقبل إلي فدفعني بمنكبه حتى ضربني بجنبه كأنا سمعت صوتا أهوى إليه ثم أقبل يمشي إلي جنبي حراقا حتى أقامني على الطريق ثم همهم ساعة، فرأيت أنه يودعني[74].

***

 ما وصل عبد القادر من حديثه إلى هذا الموضع حتى التف الجمع حوله يسألونه عن محمد r وعن الدين الذي جاء به.

أما أنا وبولس، فقد انصرفنا.. ومعي بصيص جديد من النور اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد.

 

 



([1])  هذا نص ما ورد من هذه المعجزة في إنجيل متى: « وَبَعْدَمَا صَرَفَ اٰلْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى اٰلْجَبَلِ مُنْفَرِداً لِيُصَلِّيَ. وَلَمَّا صَارَ اٰلْمَسَاءُ كَانَ هُنَاكَ وَحْدَهُ. وَأَمَّا اٰلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ قَدْ صَارَتْ فِي وَسَطِ اٰلْبَحْرِ مُعَذَّبَةً مِنَ اٰلأَمْوَاجِ. لأَنَّ اٰلرِّيحَ كَانَتْ مُضَادَّةً. وَفِي اٰلْهَزِيعِ اٰلرَّابِعِ مِنَ اٰللَّيْلِ مَضَى إِلَيْهِمْ يَسُوعُ مَاشِياً عَلَى اٰلْبَحْرِ. فَلَمَّا أَبْصَرَهُ اٰلتَّلامِيذُ مَاشِياً عَلَى اٰلْبَحْرِ اٰضْطَرَبُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ خَيَالٌ». وَمِنَ اٰلْخَوْفِ صَرَخُوا! فَلِلْوَقْتِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لا تَخَافُوا». فَأَجَابَهُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ، فَمُرْنِي أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى اٰلْمَاءِ». فَقَالَ: «تَعَالَ». فَنَزَلَ بُطْرُسُ مِنَ اٰلسَّفِينَةِ وَمَشَى عَلَى اٰلْمَاءِ لِيَأْتِيَ إِلَى يَسُوعَ. وَلٰكِنْ لَمَّا رَأَى اٰلرِّيحَ شَدِيدَةً خَافَ. وَإِذِ اٰبْتَدَأَ يَغْرَقُ صَرَخَ: «يَا رَبُّ نَجِّنِي». فَفِي اٰلْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: «يَا قَلِيلَ اٰلإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ؟» وَلَمَّا دَخَلا اٰلسَّفِينَةَ سَكَنَتِ اٰلرِّيحُ. وَاٰلَّذِينَ فِي اٰلسَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: «بِاٰلْحَقِيقَةِ أَنْتَ اٰبْنُ اٰللّٰهِ» (متى 14: 22-33)

([2])  وفي رواية: إن الله سبحانه تعالى أرسل إلى النبي r ملكا من الملائكة حجزته تساوي الكعبة، ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل عليه السلام، فقال: وأكمل الحديث.

([3])  رواه أبو نعيم وابن عساكر من طرق عن ابن عباس موقوفا، وابن سعد عن عائشة، وأبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا.

([4])  رواه ابن سعد.

([5])  رواه أبو داود والترمذي.

([6])  رواه ابن أبي شيبة وعلي بن عبد القدير البغوي.

([7])  رواه ابن الأعرابي.

([8])  رواه ابن سعد.

([9])  رواه الحاكم.

([10])  رواه الدارمي.

([11])  رواه أبو الشيخ عن ابن عباس، وابن سعد عن أنس.

([12])  رواه الترمذي.

([13])  رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر - وقال هذا حديث مرسل - وقد جاء معناه في الأحاديث المسندة.

([14])  رواه ابن ماجه.

([15])  رواه ابن ماجه.

([16])  رواه أبو بكر بن أبي شيبة.

([17])  رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، وقاسم بن ثابت، والطبراني عن أبي سعيد وغيره من الصحابة.

([18])  رواه مسلم.

([19])  رواه ابن حبان.

([20])  رواه البخارى.

([21])  رواه أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه.

([22])  رواه البخاري.

([23])  رواه ابن سعد.

([24])  رواه البخاري ومسلم.

([25])  رواه ابن سعد.

([26])  رواه مسلم.

([27])  رواه مسلم.

([28])  رواه أحمد والطبراني.

([29])  رواه أحمد.

([30])  رواه البخاري ومسلم.

([31])  رواه أبو داود الطيالسي.

([32])  انظر: الإسلام يتحدى، لوحيد الدين خان.

([33])  رواه أحمد ومسلم.

([34])  رواه أحمد والدارمي والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي وأبو نعيم.

([35])  وفي لفظ فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره.

([36])  رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند بسند رجاله ثقات، وابن حبان والحاكم وأبو نعيم وابن عساكر والضياء، في (المختارة).

([37])  رواه أبو داود الطيالسي والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما، والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل.

([38])  رواه مسلم.

([39])  رواه البخاري ومسلم.

([40])  رواه البخاري ومسلم.

([41])  رواه الطبراني.

([42])  رواه البيهقي والحاكم وصححه.

([43])  رواه أحمد في الزهد عن عطاء بن يسار مرسلا.

([44])  رواه البزار وأبو يعلى والطبراني وابن أبي الدنيا من طرق جيدة.

([45])  رواه ابن ماجه.

([46])  رواه مسلم.

([47])  رواه مسلم.

([48])  رواه البخاري.

([49])  رواه البخاري.

([50])  رواه الحاكم.

([51])  رواه الحاكم، ورواه أحمد برجال الصحيح بلفظ قال: صاحب القبر يعذب، فسئل عنه، فوجده يهوديا.

([52])  أو قال:« فلانا وفلانا؟»

([53])  رواه ابن خزيمة في كتاب السنة.

([54])  رواه احمد باسناد جيد عن عبد الله بن عمر والطبراني برجال ثقات عن عمران بن حصين، في رواية عمران: (النساء)، وفي رواية ابن عمرو: (الاغنياء)

([55])  رواه الطبراني باسناد جيد.

([56])  رواه البخاري.

([57])  رواه أحمد، ورواه أيضا عن أبي بن كعب.

([58])  حاولنا في رسالة (مفاتيح المدائن) من (رسائل السلام) أن نبين المعاني السامية التي يتضمنها هذا الدعاء، فانظره فيها.

([59])  رواه مسلم عن أبي الدرداء، وأحمد بسند حسن عن ابن أبي شيبة، وأبو داود عن أبي سعيد الخدري، وجابر والنسائي عن عائشة.

([60])  من الشبه الخطيرة التي يوردها المسيحيون في مواقعهم.

([61])  أسد الغابة:4 / 707.

([62])  رواه مسلم وأبو نعيم والبيهقي.

([63])  رواه أبو نعيم ورواه ابن سعد عن عطاء مرسلا.

([64])  رواه أبو نعيم وابن عساكر.

([65])  رواه أبو يعلى وأبو نعيم.

([66])  رواه البخاري في التاريخ والترمذي وصححه وأبو يعلى وابن حبان.

([67])  رواه أحمد والبخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححاه وأبو نعيم.

([68])  رواه الدارمي وابن حبان والحاكم وصححاه وقال الذهبي إسناده جيد.

([69])  رواه أحمد وابن ماجه بسند صحيح، ورواه ابن سعد عن عمر وفيه: فسلمت عليه، انظر: ابن كثير في البداية 6 / 142.

([70])  رواه البخاري ومسلم.

([71])  رواه أحمد والبيهقي وأبو نعيم.

([72])  رواه البزار وأبو نعيم.

([73])  رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود والامام أحمد وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس وابن إسحاق والبيهقي عن علي وأبو نعيم والبيهقي من طريق نافع عن ابن عمر.

([74])  رواه ابن سعد وأبو يعلى والبزار والحاكم وصححه والبيهقي.