الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: قلوب مع محمد

الناشر: دار الكتاب الحديث

 

عاشرا ـ الأعداء

الخاتمة

عاشرا ـ الأعداء

فتحت دفتر البابا على فصله العاشر، فوجدت عنوانه (الأعداء)، فقلت: ألا ترى من التناقض أن يوضع هذا العنوان في كتاب يبحث في القلوب التي تعلقت بمحمد r ؟

قال: لا.. ليس ذلك من التناقض.. فأكمل الناس من أجبر أعداءه على احترامه، ومحبته.. وقد كان محمد r أكمل من فعل ذلك.

قلت: لقد نطق القرآن بمثل هذا، فالله تعالى يقول:﴿ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ  (فصلت:34)

قال: وقد كانت حياة رسول الله r نموذجا كاملا لهذا الخلق الرفيع.. فقد كان له صدر واسع يحول الأعداء أصدقاء.. والحاقدين محبين.. والهاجين مادحين.

قلت: صدقت.. وقد ذكرتني بما رويته لي في رحلتك التي تعرفت فيها على معجزات النبي r الحسية من تحول المعادين إلى محبين مخلصين[1].

قال: وأولهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، فقد كان في جاهليته شديد العداوة للإسلام ولمحمد r، وقد ذكرت إحدى السابقات للإسلام، وهي أم عبد الله بنت أبي حثمة، وكانت زوج عامر بن ربيعة، كيف كان المسلمون الأوائل يستبعدون إسلامه قبل أن يسلم، فقالت: إنا نرحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر لبعض حاجته، إذ أقبل عمر وهو على شركه حتى وقف علي.

وكنا نلقي منه البلاء أذى، وشدة فقال: أتنطلقون يا ام عبد الله؟ قالت: قلت: نعم والله، لنخرجن في أرض الله فقد آذيتمونا، وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجا.

قالت: فقال صحبكم الله، قالت: فلما عاد عامر أخبرته، وقلت له: لو رأيت عمر، ورقته، وحزنه علينا! قال: أطمعت في إسلامه؟قلت: نعم، فقال: لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب لما كان يرى من غلظته، وشدته على المسلمين.

ولكن الله هداه فأسلم في موقف عدائي شديد لرسول الله r:

وقصة ذلك كما يرويها المؤرخون، وكما يحكيها هو نفسه، هي أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت تحت سعيد بن يزيد بن عمرو العدوي، وكانا مسلمين يخفيان إسلامهما من عمر، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة يقرأها القرآن فخرج عمر يوما ومعه سيفه يريد النبي r، والمسلمين وهم مجتمعون في دار الأرقم عند الصفا، وعنده من لم يهاجر من المسلمين في نحو أربعين رجلا، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا الذي فرق أمر قريش، وعاب دينها، فأقتله.

فقال نعيم: والله لقد غرتك نفسك، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض، وقد قتلت محمدا !؟ أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟

فقال عمر: وأي أهلي !؟  قال: ختنك، وابن عمك سعيد بن زيد، واختك فاطمة، فقد أسلما.

فرجع عمر إليهما، وعندهما خباب بن الأرت يقرئهما القرآن.

فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب، وأخذت فاطمة الصحيفة، وألقتها تحت فخذيها،وقد سمع عمر قراءة خباب.

فلما دخل قال: ما هذه الهينمة؟! قالا: سمعت شيئا؟قال: بلى، قد أخبرت أنكما تابعتما محمدا.

وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته لتكفه، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له اخته: قد أسلمنا، وآمنا بالله، ورسوله، فاصنع ما شئت.

ولما رأى عمر ما باخته من الدم ندم، وقال لها: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون فيها الآن حتى أنظر إلى ما جاء به محمد، قالت: إنا نخشاك عليها، فحلف أنه يعيدها.

ثم قالت له ـ وقد طمعت في إسلامه ـ: إنك نجس على شركك، ولا يمسها إلا المطهرون، فقام، واغتسل، فأعطته الصحيفة وقرأ فيها: طه، وكان كاتبا فلما قرأ بعضها قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.

فلما سمع خباب ذلك خرج إليه وقال: أبشر يا عمر، فإنني أرجو أن تكون دعوة رسول الله r لك ليلة الخميس: اللهم أعز الاسلام بعمر بن الخطاب، أو بعمرو بن هشام.

فقال عمر عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم.

فدله خباب فأخذ سيفه، وجاء إلى النبي r، وأصحابه فضرب عليهم الباب فقام رجل منهم فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا سيفه، فأخبر النبي r بذلك.

فقال حمزة: إئذن له، فإن كان يريد خيرا بذلناه له، وإن أراد شرأ قتلناه بسيفه.

فأذن له فنهض إليه النبي r حتى لقيه، فأخذ بمجامع ردائه، ثم جذبه جذبة شديدة، وقال: ما جاء بك؟ما أراك تنتهي حتى ينزل الله عليك قارعة.

فقال عمر: يارسول الله جئت لأؤمن بالله، وبرسوله، فكبر رسول الله r تكبيرة عرف من في البيت أن عمرا أسلم.

قال عمر: لما أسلمت أتيت باب أبي جهل بن هشام، فضربت عليه بابه، فخرج إلي وقال: مرحبا يا بن أخي! ما جاء بك؟قلت: جئت لاخبرك أني قد أسلمت، وآمنت بمحمد r، وصدقت ما جاء به.

قال: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك الله، وقبح ما جئت به [2].

وقد حدث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ نفسه عن سبب إسلامه، فقد خاطب مرة بعض الصحابة، فقال: أتحبون أن أعلمكم كيف كان بدو إسلامي؟قلنا: نعم، قال: كنت من أشد الناس على رسول الله r، فبينا أنا يوما في يوم شديد الحر بالهاجرة، في بعض طرق مكة، إذ لقيني رجل من قريش فقال: اين تذهب يابن الخطاب؟ أنت تزعم أنك هكذا، وقد دخل عليك هذا الامر في بيتك قال: قلت: وما ذاك؟قال: اختك قد صبأت قال: فرجعت مغضبا.

وقد كان رسول الله r يجمع الرجل، والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوة فيكونان معه، ويصيبان من طعامه، وقد كان ضم إلى زوج أختي رجلين.

قال: فجئت حتى قرعت الباب فقيل من هذا؟قلت: ابن الخطاب.

قال: وكان القوم جلوسا يقرؤن القرآن في صحيفة معهم، فلما سمعوا صوتي تبادروا، واختفوا، وتركوا، أو نسوا الصحيفة من أيديهم، فقامت المرأة ففتحت لي.

فقلت: يا عدوة نفسها، قد بلغني أنك صبوت، قال: فأرفع شيئا في يدي فأضربها به قال: فسال الدم: قال: فلما رأت المرأة الدم بكت، ثم قالت: يابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت.

قال: فدخلت، وأنا مغضب، فجلست على السرير، فنظرت فإذا بكتاب في ناحية البيت، فقلت: ما هذا الكتاب؟أعطينيه.

فقالت: لا اعطيك لست من أهله، أنت لا تغتسل من الجنابة، ولا تطهر، وهذا ﴿ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة:79)

قال: فلم أزل بها حتى أعطتنيه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، فلما مررت بالرحمن الرحيم، ذعرت، ورميت بالصحيفة من يدي.

قال: ثم رجعت إلي نفسي، فإذا فيها:﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الحديد:1)

قال: فكلما مررت باسم من أسماء الله عزوجل ذعرت، ثم ترجع إلي نفسي حتى بلغت:﴿ وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (الحديد:8)، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله[3].

ولما أسلم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: أي أهل مكة أنقل للحديث فقالوا: جميل بن معمر، فخرج عمر، حتى أتاه فقال: يا جميل هل علمت أني أسلمت؟ فو الله ما راجعه الكلام حتى قام يجر رداءه، وخرج عمر يتبعه، حتى إذا قام على باب مسجد الكعبه صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش إن عمر قد صبا.

ومنهم أبو سفيان بن الحارث أخو النبي r من الرضاع، فقد كان يألف النبي r أيام الصبا وكان له تربًا، فلما بُعث النبي r عاداه أبو سفيان عداوةً لم يعادها أحدًا قط، وهجا رسول الله r وهجا أصحابه، ثم شاء الله أن يكفي رسوله r لسان أبي سفيان وهجاءه، لا بإهلاكه، وإنما بهدايته.

وحدث أبو سفيان عن نفسه، فقال: ثم إن الله ألقى في قلبي الإسلام، فسرت وزوجي وولدي حتى نزلنا بالأبواء، فتنكرت وخرجت حتى صرت تلقاء وجه النبي r، فلما ملأ عينيه مني أعرض عنّي بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى.

قالوا: فما زال أبو سفيان يتبعُهُ، لا ينزلُ منزلاً إلا وهو على بابه ومع ابني جعفر وهو لا يكلمه، حتى قال أبو سفيان: والله ليأذنن لي رسول الله r أو لآخذن بيد ابني هذا حتى نموت عطشًا أو جوعًا، فلما بلغ ذلك رسول الله r رق لهما فدخلا عليه.

 ومنهم شيبة بن عثمان، فقد خرج من بيته يريد قتل رسول الله r، فلم يرجع إلا بحبه والإيمان به.

وقد حدث عن قصة ذلك، فقال: لما كان عام الفتح دخل رسول الله r مكة، وغزا حنينا، قلت أسير مع قريش إلى هوازن، فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة، وتذكرت أبي وقتله حمزة، وعمي وقتله علي بن أبي طالب، فقلت: اليوم أدرك ثاري من محمد، وأكون أنا الذي قمت بثار قريش كلها، وأقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ما تبعته أبدا، فكنت مرصدا لما خرجت له، لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة.

فلما اختلط الناس، اقتحم رسول الله r عن بغلته، وأصلت السيف، ودنوت منه، أريد ما أريد، فجئته من عن يمينه، فإذا العباس قائم عليه درع بيضاء، قلت: عمه لن يخذله، فجئته من عن يساره، فإذا بابي سفيان بن الحارث فقلت: ابن عمه لن يخذله، فجئته من خلفه، فلم يبق إلا أن أسورة سورة بالسيف إذ رفع إلي فيما بيني وبينه شواظ من نار كانه برق، فخفت أن يتمحشني، فوضعت يدي على بصري، خوفا عليه، ومشيت القهقرى، وعملت أنه ممنوع.

فالتفت إلى، وقال:« يا شيب أدن مني »، فدنوت منه، فوضع يده على صدري وقال:« اللهم أذهب عنه الشيطان »، فرفعت إليه رأسي وهو أحب إلي من سمعي وبصري وقلبي، ثم قال:« يا شيبة قاتل الكفار »

فتقدمت بين يديه أحب ـ والله ـ أن أقيه بنفسي كل شئ، فلما انهزمت هوازن رجع إلى منزله ودخلت عليه فقال:« الحمد لله الذي أراد بك خيرا مما أردت »، ثم حدثني بما هممت به r [4].

ومنهم النضير بن الحارث[5] الذي حدث عن نفسه، فقال: الحمد لله الذي أكرمنا بالاسلام ومن علينا بمحمد r، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، فذكر حديثا طويلا، ثم قال: خرجت مع قوم من قريش، هم على دينهم بعد أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، ونحن نريد إن كانت دبرة على محمد أن نغير عليه فيمن يغير، فلما تراءت الفئتان ونحن في حيز المشركين حملت هوازن حملة واحدة، ظننا أن المسلمين لا يجبرونها أبدا، ونحن معهم وأنا أريد بمحمد ما أريد.

وعمدت له فإذا هو في وجوه المشركين واقف على بغلة شهباء حولها رجال بيض الوجوه، فأقبلت عامدا إليه، فصاحوا بي: إليك، فأرعب فؤادي وأرعدت جوارحي، فقلت: هذا مثل يوم بدر، إن الرجل لعلي حق، وإنه لمعصوم، وأدخل الله تعالى في قلبي الاسلام وغيره عما كنت أهم به.

فما كان حلب ناقة حتى كر أصحاب رسول الله r كرة صادقة، وتنادت الانصار بينها: الكرة بعد الفرة: يا للخزرج، يا للخزرج، فحطمونا حطاما، فرقوا شملنا، وتشتت أمرنا، وهمة كل رجل نفسه.

فتنحيت في غبرات الناس حتى هبطت بعض أودية أوطاس فكمنت في خمر شجرة لا يهتدي إلي أحد إلا أن يدله الله ' علي، فمكثت فيه أياما وما يفارقني الرعب مما رأيت، ومضى رسول الله r إلى الطائف، فاقام ما أقام، ثم رجع إلى الجعرانة، فقلت: لو صرت إلى الجعرانة، فقاربت رسول الله r ودخلت فيه المسلمون، فما بقي فقد رأيت عبرا، وقد ضرب الاسلام بجرانه، ولم يبق أحد، ودانت العرب والعجم لمحمد r فعز محمد لنا عز، وشرفه لنا شرف.

فو الله إني لعلى ما أنا عليه إن شعرت إلا برسول الله r يلقاني بالجعرانة كنة لكنة فقال:« النضير ؟»  قلت: لبيك، فقال:« هذا خير لك مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه »

فأقبلت إليه سريعا، فقال:« قد آن لك أن تبصر ما أنت فيه توضع »، قلت: قد أرى أن لو كان مع الله تعالى إلها غيره لقد أغنى شيئا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله.

فقال رسول الله r:« اللهم زده ثباتا »، قال النضير: فو الله الذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجر ثباتا في الدين وبصيرة في الحق، وذكر الحديث[6].

ومنهم صفوان بن أمية الجمحي، الذي حدث عن نفسه، فقال: ما زال رسول الله r يعطيني من غنائم حنين، وهو أبغض الخلق إلي حتى ما خلق الله ' شيئا هو أحب إلي منه[7].

وقال محمد بن عمر: يقال إن صفوان طاف مع رسول الله r يتصفح الغنائم إذ مر بشعب مملوء إبلا مما أفاء الله به على رسوله r فيه غنم وإبل ورعاؤها مملوء، فاعجب صفوان وجعل ينظر إليه، فقال رسول الله r:« أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب ؟»  قال: نعم، قال:« هو لك بما فيه »، فقال صفوان: أشهد أنك رسول الله r  ما طابت بهذا نفس أحد قط إلا نبي.

وقد كان سلوك رسول الله r مع هؤلاء هو السر في كل ذلك التحول الذي انتقلوا به من حربه وسبه إلى الإيمان به ومحبته.

وسأضرب لكم مثالا على هذا بصفوان بن أمية ـ الذي حدثتكم حديثه ـ فقد خرج بعد فتح مكة يريد جدة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب: يا نبي الله  إن صفوان بن أمية سيد قومي، وقد خرج هاربا منك، ليقذف نفسه في البحر، فأمنه r قال:« هو آمن »

فخرج عمير حتى أدركه، وهو يريد أن يركب البحر، وقال صفوان لغلامه يسار ـ وليس معه غيره ـ: ويح! أنظر من ترى؟ قال: هذا عمير بن وهب، قال صفوان: ما أصنع بعمير بن وهب، والله ما جاء إلا يريد قتلي، قد ظاهر علي محمدا، فلحقه فقال: يا أبا وهب جعلت فداك، جئت من عند أبر الناس، وأوصل الناس، فداك أبي وأمي الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله r قد جئتك به.

فقال: ويحك، أغرب عني فلا تكلمني، فقال عمير: أي صفوان فداك أبي وأمي.. أفضل الناس وأبر الناس وخير الناس ابن عمك، عزه عزك، وشرفه شرفك وملكه ملكك.

فقال صفوان: إني أخافه على نفسي، فقال عمير: هو أحلم من ذلك وأكرم، قال: ولا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها، فقال: امكث مكانك حتى آتيك بها.

فرجع عمير إلى رسول الله r  فقال: إن صفوان أبى أن يأنس لي حتى يرى منك أمارة يعرفها، فنزع رسول الله r عمامته فأعطاه اياها، وهي البرد الذي دخل فيه رسول الله r معتجرا به برد حبرة.

فرجع معه صفوان حتى انتهى إلى رسول الله r وهو يصلي بالمسلمين العصر في المسجد، فلما سلم رسول الله r صاح صفوان: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني ببردك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فان رضيت أمرا وإلا سيرتني شهرين، فقال r:« انزل أبا وهب »، قال: لا والله حتى تبين لي قال:« بل لك تسيير أربعة أشهر »

فنزل صفوان، ولما خرج رسول الله r إلى هوازن وفرق غنائمها فرأى رسول الله r صفوان ينظر إلى شعب ملآن نعما وشاء ورعاء، فأدام النظر إليه، ورسول الله r يرمقه فقال:« يا أبا وهب يعجبك هذا الشعب؟»  قال: نعم قال:« هو لك وما فيه »

فقبض صفوان ما في الشعب، وقال عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأسلم مكانه[8].

ومنهم سهيل بن عمرو، وقد كان سيدا من سادات قريش.. بل كان خطيبها المفوه، وكان يؤلب الناس على المسلمين ويحاربهم بكل ما أوتى من قوة، وكانت حرارة كلماته تصل إليهم، فتؤذيهم مما دفع عمر بن الخطاب ـ حين رأى سهيلا فى الأسر يوم بدر ـ يشير على النبى r قائلا:« دعنى أنزع ثَنِيَّتى سهيل، فلا يقوم علينا خطيبًا »، فقال r:« دعها، فلعلها أن تسُرَّك يومًا »

وعاش سهيل يحارب بسلاحي السيف واللسان حتى كان دورهُ الأكبر يوم الحديبية إذ جاء سهيل بن عمرو رسولاً من قِبَلِ قريش، فقال النبي r متفائلاً:« لقد سهل لكم أمركم »، وقال:« قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل »

وكانت قريش قد قالت لسهيل بن عمرو: ائت محمدًا فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدًا.

فلما انتهى إلى رسول الله r تكلم فأطال الكلام، وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح.

وعندما بدأ الرسول r في إملاء شروط الصلح على الصحابى الجليل علي بن أبي طالب، كاتب الصحيفة، اعترض سهيل على كتابة كلمة (الرحمن) في البسملة، وأراد بدلاً عنها أن يكتب (باسمك اللهم)، لأنها عبارة الجاهليين، ورفض المسلمون ذلك، ولكن الرسول r وافق على اعتراض سهيل.

ثم اعترض سهيل على عبارة (محمد رسول الله)، وأراد بدلاً عنها عبارة: ( محمد بن عبد الله)، فوافقه أيضًا على هذا الاعتراض.

وعندما قال الرسول r: (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) اعترض سهيل قائلاً: لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة قهرًا، ولكن ذلك في العام المقبل، فنخرج عنك فتدخلها بأصحابك فأقمت فيها ثلاثًا معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب. فوافق الرسول r على هذا الشرط.

ثم قال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله!كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟!

فبينما هو كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي r: (إنا لم نقض الكتاب بعد)، فقال سهيل: والله إذًا لم أصالحك على شيء أبدًا.

وألح الرسول r على سهيل أن يستثني أبا جندل، فرفض وتمسك بذلك، ولم يجد الرسول r بدًا من إمضاء ذلك لسهيل.

ثم بعد هذا تم الاتفاق على بقية الشروط وهي: ( على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وأن بينهم عيبة مكفوفة، فلا إسلال ولا إغلال، وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه).

وظل سهيل على موقفه تجاه الإسلام إلى يوم فتح مكة، ولما فتح رسول الله r مكة دخل البيت، ثم خرج فوضع يده على عضادتى الباب، فقال:« ماذا تقولون ؟»

فقال سهيل بن عمرو: نقول خيرًا، ونظن خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقدرت.

فقال r: (أقول كما قال أخى يوسف: لا تثريب عليكم اليوم ) [9]

ومع هذا الموقف العظيم من رسول الله r ظل سهيل على كفره.. فأرسل إلى ابنه عبد الله (أبي جندل) ليستأمن له رسول الله r فأمنه فخرج إلى حنين مع رسول الله r وهو على شركه حتى أسلم بمنطقة تسمى الجعرانة، فأعطاه رسول الله r يومئذٍ مائة من الإبل من غنائم حنين[10]. 

ولكنه ما إن لامس الإسلام شغاف قلبه حتى امتلأ به، وامتلأ بمحبة النبي r.. وقد شهد له الصحابة ومن بعدهم قائلين فى حقه:( لم يكن أحد من كبراء قريش الذين تأخر إسلامهم فأسلموا يوم فتح مكة، أكثر صلاة ولا صومًا ولا صدقة ولا أقبل على ما يعنيه من أمر الآخرة، من سهيل بن عمرو، حتى إن كان لقد شحب لونه. وكان كثير البكاء رقيقًا عند قراءة القرآن. لقد رُئى يختلف إلى معاذ بن جبل حتى يقرئه القرآن وهو بمكة، فقال له رجل: تذهب إلى معاذ ؟!

أفلا ذهبت الى رجل من أهل قريش يعلمك؟

فقال سهيل: هذا الذى صنع بنا ما صنع حتى سبقنا كل السبق، أى لعمرى اختلف إليه لقد وضع الإسلام أمر الجاهلية، ورفع الله بالإسلام قومًا كانوا لا يُذكرون فى الجاهلية فليتنا كنا مع أولئك فتقدمنا) 

وقد أمضى ما بقي من حياته في تعويض ما فاته من صحبة النبي r، وقد اشتهر عنه قوله: ( والله لا أدع موقفًا وقفته مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقةً أنفقتها مع المشركين إلا أنفقتُ على المسلمين مثلها، لعل أمرى أن يتلو بعضه بعضًا)[11]

ولما مات النبى r وأخذت القبائل ترتد عن الإسلام، فأراد أهل مكة أن يحاكوا هذه البلاد المرتدة، قام سُهيل بن عمرو يثبت قومه وقال لهم: يا أهل مكة كنتم آخر الناس دخولا فى دين محمد، فلا تكونوا أول الناس خروجًا منه.. ثم قال لهم: ( مَنْ كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومَنْ كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت)[12]

وظل سهيل على الخير والإيمان كثير الصلاة والصيام والصدقة حتى خرج بجماعته الى الشام مجاهدًا.

وظل مرابطًا بأرض الشام متذكرًا قوله r: (مقام أحدكم فى سبيل الله ساعة من عُمره خيرٌ من عمله عمره فى أهله ) قال سهيل: فإنما أرابط حتى أموت، ولا أرجع إلى مكة، فلم يزل مقيمًا بالشام حتى مات فى طاعون عمواس[13]، وقد قال r: (الطاعون شهادة لكل مسلم)[14]

ومنهم الحارث بن هشام.. والذي ظل محاربًا للمسلمين حتى يوم فتح مكة، إذ علم أنه من أوائل المطلوبين، فاستجار بأم هانئ بنت أبى طالب فأجارته فأراد أخوها قتله فذكرت ذلك للنبى قائلة: زعم فلان- تقصد أخاها - ألا إجارة لى، فقال r:« قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ »

وكانت دهشته لا تقدر إذ صعد بلال بن رباح فوق الكعبة قارعًا أذانهم بقوله: جاء الحق وزهق الباطل.. إن الباطل كان زهوقا.

وكان الحارث يقول: يا ليتنى مت قبل هذا ولم أشهد هذا اليوم.

ولما قيل للحارث بن هشام: ألا ترى ما يصنع محمد من كسر الآلهة ونداء هذا العبد الأسود على الكعبة ؟!

فقال الحارث: إن كان الله يكره هذا، فسيغيره..

وأخذت قلوب أئمة الكفر تفكر فى الإسلام خاصة، وأن النبى r عفا عنهم وأعطى الكثير منهم الأمان فى داره وفى المسجد.

وكان الحارث ممن أسلم يومذاك، ثم كانت غزوة حنين بعدها فتألف النبى e قلوب هؤلاء القوم فأعطاهم حتى رضوا.

وأعطى للحارث يومها مائة من الإبل، فكُسرت شوكة العداء والعناد فى قلبه، ثم أخذت تعاليم الإسلام تشق طريقها الى قلبه فنما زرع الإيمان فى قلبه فحسن إسلامه.

ثم هاجر إلى الشام فى عهد عمر، فلم يزل مجاهدا، حتى كان يوم اليرموك فقال عكرمة بن أبى جهل: من يبايع على الموت فبايعه مائتان من الرجال على الشهادة فى سبيل الله.

وكان من بين هؤلاء الحارث بن هشام الذي استشهد باليرموك.

وقد ذكر له الرواه موقفًا عظيمًا فى الإيثار قبل موته، إذ جاءه رجل يريد أن يسقيه ماءً ـ وهو فى النزع الأخير ـ فسمع أنين عكرمة، فآثره على نفسه، وقال: اذهبوا الى عكرمة. فذهبوا إلي عكرمة بالماء فسمع أنين عياش بن ربيعة، فأشار أن اذهبوا الى عياش، فذهبوا الى عياش فوجدوه قد فارق الحياة، ثم رجعوا الى عكرمة فوجدوه قد فارق الحياة، ثم رجعوا الى الحارث فوجدوه قد مات.

قلت: ولا زالت الأيام تلد أمثال هؤلاء الذين لم يملكوا إلا أن يسلموا لرسول الله r وللإسلام..

قال: ذلك صحيح.. ولكنه لن يتم إلا إذا حرص المسلمون على أن يكون لهم من الجاذبية ما يحول أخس المعادن إلى أكرمها.

قلت: وأول ذلك سعة الصدر.

قال: أجل.. فلا ينبغي للمؤمن الذي يحمل صدرا يسع المحيطات العميقة أن يستفزه جاهل، أو يغلبه على حلمه أحمق.

قلت: لقد ذكرتني بحديثي معك أول ما التقينا.. فقد ذكرت لي شيئا من هذا.

قال: أجل.. فلولا أني رأيت في حياتي ناسا ذوي عقول راجحة.. ولولا أني لاقيت معلم السلام الذي ملأ صدري بالصفاء الذي لا تحركه الأعاصير لما تعرضت لكل تلك الأشعة التي شرفني الله بالتعرض لها.

***

 

وجدت بعض الأسماء في هذا الفصل في دفتر البابا، فأردت أن أقرأها، فقال: حسبك بما ذكرت لك.. فلا ينبغي أن نسمي أحدا في هذا الفصل.

قلت: ومن سميناهم؟

قال: أولئك كرام طيبون.. وقد أخلدوا إلى ربهم.. ولا يشك أحد في فضلهم، وأخاف إن ذكرت بعض ما كتبته هنا أن يتأثر لذلك المتأثرون.. فينسخوا المحبة بالعداوة.

قلت: صدقت.. ففي قومنا من ينسخ جبال الحسنات بالسيئة الواحدة.

 

 

 

 

 

الخاتمة

أخذ البابا الدفتر من يدي، واحتضنه، ثم قبله، وقال: لقد كان هذا الدفتر أنيسي عند كل وحشة.. ورفيقي عند كل ضيق.. ودوائي عند كل داء.

قلت: فما الذي جعلك تحن إليه؟

قال: حنيني إلى الحبيب الذي لا يعرف القلب غيره.. ألا تعلم أن حبيب الحبيب حبيب؟

قلت: أجل.. أعلم ذلك..

قال: ولهذا تراني أمتلئ محبة وعشقا لكل من أحب رسول الله r.. بل إني أشعر، وكأني أتقوت بكلمات الصدق التي يتفوه بها المخلصون.

قلت: ألم تخش على نفسك، وأنت في ذلك المحل الرفيع من سلم الكنيسة أن يتجسس عليك أحدهم.. فيلحظه معك.. فيشي بك وشاية تهدم كل أحلامك في كرسي البابوية؟

قال: وهل نسيت أخي؟

قلت: ومن أخوك؟

قال: أخي التوأم.. ما بالك.. إنه حصني الذي كنت به أتحصن.. كما كان الحجاب الذي به احتجبت عن شمس محمد r كل تلك المدة.

قلت: وأخوك.. ألم يلحظ هذا الدفتر؟

قال: بلى.. لقد لحظه.. فيستحيل أن يرى ما لا أرى، أو يسمع ما لا أسمع.. لقد نأن أن ااكان فخورا به غاية الفخر.. بل استعمله وسيلة يرتقي بها في معارج الكنيسة إلى الكرسي الذي ظللنا طول عمرنا نحلم به.

قلت: كيف هذا !؟.. هل أسلمت الكنيسة !؟.. إنك توقعني في حيرة لا تقل عن الحيرة التي أوقعتني فيها أول مرة.

قال: لقد كان أخي يأخذ هذا الدفتر، ويتدراسه مع رجال الكنيسة حرفا حرفا، وكلمة كلمة..

قلت: لم كل هذا الاهتمام؟

قال: لقد ذكرت لك بأن الكنيسة أرادت أن تدرس أسرار انتشار الإسلام، وأسرار تغلغله إلى العقول والقلوب..

قلت: أتفعل ذلك لتوفر لنفسها من الخصائص ما يجعلها مهوى للأفئدة؟

قال: إنها إن فعلت ذلك تكون كعجوز شمطاء سرقت مساحيق شابة جميلة لتنافسها في قلوب الرجال.. وذلك مستحيل.

قلت: فلم تبحث عن أسرار ذلك إذن؟

قال: أنت تعلم أن المنافس الأكبر للمسيحية هو الإسلام.. فلا يمكن للمسيحية أن تنتشر ما دام محمد يسكن العقول والقلوب.

قلت: أعلم هذا.. ويعلم الكل هذا.. فما فيه.

قال: لقد استخدمت الكنيسة.. أو رجال التدبير فيها.. وهم رجال اجتمعت لهم جميع حيل الشياطين على تحليل أسرار المحبة والإقبال لتقضي عليها واحدة.. فتحول من جمال الإسلام دمامة.. ومن حياته موتا.

قلت: ومتى تبدأ تنفيذ هذه الخطة؟

قال: الأمة الآن تقع تحت أسرها.

قلت: أنحن الآن أسارى لهذا الخطة؟

قال: أجل.. لقد استعانت الكنيسة بكل القوى التي ينافسها الإسلام في حلف ليس له من هدف إلى تفريغ الإسلام من قيم الجمال التي يتزين بها.

قلت: حلف.. !؟

قال: أجل.. حلف يضم ساسة واقتصاديين وإعلاميين.. وغيرهم.

قلت: ولكنهم سيصطدمون بعقول متحجرة ترفض ما يملون عليها من أفكار.

قال: خطتهم هذه المرة خطة محكمة.. لأن جنودها ليسوا صليبيين.. بل مسلمين.

قلت: أي مسلم يرضى لنفسه أن يمثل هذا الدور؟

قال: كثيرون هم.. بل أكثرهم أسرع إلى ثكنات هذا الحلف ليسجل نفسه جنديا.

قلت: فهم يعطونهم أجورا مغرية إذن !؟

قال: لا.. أولئك الحمقى يتطوعون بمحض رغبتهم لتنفيذ ما يحلم به ذلك الحلف.

قلت: أنا إلى الآن لا أكاد أفهم.. إن كلماتك لا تزيدني إلا حيرة.. فلست أفهم شيئا.. فانتقل من التلميح إلى التصريح.. ومن الألغاز إلى الكلام الذي تعودته منك.

قال: سأضرب لك أمثلة تعظيك صورة عن هذا الجند المتطوع.

دققت بصري في عينيه لأعرف سر هذا الجند الخفي الذي يريد أن يستل محمدا من القلوب، فقال: ألم تر في كل الذي استهواهم الإسلام، وامتلأت قلوبهم بحب محمد r حبهم للسلام؟

قلت: بلى.. لقد لاحظت ذلك في الأتباع والأصدقاء.

قال:  فقد أراد هؤلاء أن يستلوا اسم السلام من الإسلام.. ليصبح دين السلام دين الإرهاب.. وقد تطوع لذلك بعض الأغبياء، فراحوا يقتلون الصغار والكبار.. والظالم والمظلوم.. والمستكبر والمستضعف.. ولسبب ولغير سبب.. وكأن الإسلام جاء ليقتل لا ليحيي.. فهم يستدركون على الله قوله:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (لأنفال: من الآية24) لينسخوا لآية بأهوائهم وفهومهم السقيمة، فيحولوا الحياة موتا، والأمن خوفا.

قلت: أعرف هذا.. وقد ساءني كما ساء كل مسلم.. لقد ذكر لي بعض أصدقائي في بلاد الغرب أنه كان مقصدا لكل سائل وباحث عن الحقيقة.. وكان إذا سار إلى أي محل تجتمع عليه الجموع لتسأله عن دينه.. وعن نبيه.. وعن ربه.

لكنه اليوم.. ما إن يدخل محلا حتى تنفض الجموع فارة فزعة.. وكأنه قنبلة موقوتة، أو كأنه مجذوم يفرون منه فرارهم من الأسد.

قال: فقد نجحوا في تحقيق ما لم يستطع أساطين العالم أن تحققه.

قلت: فاضرب لي مثالا آخر على هذه المخططات القذرة.

قال: ألم تر أن كل من أحبوا محمدا تحدثوا عن رحمته وحلمه وألفته ولطفه.. وغير ذلك من الخلال التي اجتمعت له، فاستحق بها شرف قوله ':﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)!؟

قلت: بلى.. ومن لا يمتلئ إعجابا بتلك الخلال التي أعطت النموذج الأكمل للإنسان الأكمل.

قال: فقد قدر الكائدون ومكروا.. فراحوا يستغلون بعض الحمقى ليختصروا رسول الله r  في لحية طويلة.. وجبة قصيرة.. وتقطيب جبين.. وغلظة دونها غلظة أكباد الإبل.

قلت: أعرف هذا.. وقد سمعت بعضهم يصف شيخا من هؤلاء يقول عنه: (رأيته وكأنه السنة تمشي) مع أنه لم ير منه إلا ما كان يراه الناس من أبي لهب وأبي جهل من لحية وقميص وسواك.

قال: فقد نجحوا في هذا أيضا.

قلت: فاضرب لي مثالا آخر.

قال: ألم تر الجميع من الأصدقاء والأتباع يمتلئون إعجابا بحرية الفكر التي أتاحها الإسلام، فاجتذب أصحاب العقول والأذواق.. واجتمع في حبه الأدباء والشعراء والفلاسفة والعلماء وأهل الدين وأهل الدنيا؟

قلت: بلى .. قد سمعت الكثير ممن يذكر ذلك، ويفخر به على الكنيسة التي طوقت العقول بأغلالها.

 قال: فقد انتدب بعض الحمقى ليحولوا من المسجد كنيسة لا ترسل المحبة.. بل ترسل الحرمان والتضليل والتبديع والتكفير..

قلت: أعرف هذا.. وأتألم له.. فالحب الذي ربط قلوب الأمة أجيالا طويلة تحول إلى بغضاء.. والإسلام الذي اتسع للجميع ضاق على أتباعه، فصار ـ في منطق هؤلاء ـ يرفض كل من لم يلغ عقله وقلبه ومشاعره.

قال: فقد نجحوا في هذا أيضا.

قلت: فاضرب لي مثالا آخر.

قال: ألم تر إلى أولئك الأدباء الذين لهجوا بحب محمد r.. فراحوا يتغنون به آناء الليل وأطراف النهار.. وراح كل عندليب يغرد أشعارهم.. ويملأ القلوب أشواقا تمحي كل ظلمة، وتنشر كل سعادة؟

قلت: بلى.. فقد مررنا على الأدباء، واستمتعنا بتلك المدائح العذبة.

قال: لكن هؤلاء حرموا الخلق من تلك المتعة، فراحوا يحكمون بالشرك على كل من مدح حبيبه.. بل راحوا يفرضون على الشعراء أن يحذفوا كل استعارة وكناية وتشبيه ومحسنات بديعية.. وراحوا يكتمون على أنفاس الحناجر الرقيقة الممتلئة أشواقا، فماذا جرى؟

قلت: لقد انصرف الناس عن البردة والهمزية وقصائد البرعي وشوقي والبارودي.

قال: ففي أي حفرة وقعوا؟

قلت: صاروا يلهثون وراء البوب والروك والراي والجاز والأغاني العصرية الممتلئ بالرقص والمجون.

قال: ونسوا حبيبهم r..

قلت: للأسف لقد حصل كثير من ذلك.. فإن أولئك يفضلون الجاز والروك على البردة والهمزية.. فالأولى عندهم فسق والثانية كفر وشرك.

قال: ألا ترى أنهم قد نجحوا في هذا أيضا.

قلت: للأسف.. لقد نجحوا نجاحا دونه كل نجاح.. فاضرب لي مثلا آخر.

قال: سأكتفي بهذه الأمثلة ليعلم قومك مقدار الغفلة التي حاقت بهم، فجعلتهم ينفذون مخططات خصومهم من غير شعور.

قلت: إنك لم تزدني إلا ألما.. فهل من مخرج مما نحن فيه؟

قال: المخرج بأيديكم.. يمكنكم في أي لحظة أن تقفوا على أعتاب حبيبكم، وتقبلوا يديه وتعتذروا له.. وتعيشوا الإسلام الذي رباكم عليه.

قلت: أي إسلام؟

قال: إسلام السلام والمحبة والأشواق الرفيعة والحضارة الراقية والهمم العالية..

قلت: فكيف نصل إلى هذا السلام؟

قال: بالعودة إلى رسول السلام.. فقد شوهتم صورته ورسالته.

قلت: ومن أين نتعرف عليه؟

قال: من القرآن والسنة والسيرة..

قلت: نحن نقرأ كل ذلك.

قال: وتسيئون فهم ما تقرؤون.

قلت: فما المخرج؟

قال: تبحثون عمن عرفوا رسول الله r.. وصاحبوه.. وامتلأت قلوبهم بمحبتهم.. وامتلأت حياتهم بسنته.

قلت: فهل يمكن أن نجد هؤلاء؟

قال: لقد من الله علي، فوجدت كثيرا من هؤلاء..

قلت: فهل ستحدثني عنهم؟

قال: أجل.. سأحدثك عنهم في الرحلات الثلاث التالية.. فلم تكن الرحلات التي ذكرتها إلا فراشا أوصلنا لعتبات الحبيب.

قلت: ثلاث رحلات [15]..

قال: ثلاث رحلات إلى النبي r

قلت: فما الأولى؟

قال: إلى النبي المعصوم.

قلت: والثانية؟

قال: إلى النبي الإنسان.

قلت: والثالثة؟

قال: إلى النبي الهادي.

 

 

 

 



([1])  انظر: رسالة (معجزات حسية)، فصل (حماية) من هذه السلسلة.

([2])  انظر: الكامل في التاريخ: 2 / 84 - 85 - 86 - 87، نور الابصار: ص 54، الرياض النضرة: 1 / 272 - 276 ترجمة عمر.

([3])  اسد الغابة 4 / 54 - 55، الرياض النضرة: 2 / 277.

([4])  رواه ابن سعد وابن عساكر عن عبد الملك بن عبيد، وأبو القاسم البغوي، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، وابن عساكر عن عكرمة.

([5])  وهو غير النضر بن الحارث الذي مات على كفره.

([6])  رواه الواقدي في المغازي.

([7])  رواه البخاري.

([8])  رواه ابن إسحاق عن عروة بن الزبير، والبيهقي عن الزهري.

([9])  رواه البيهقي.

([10])  واه ابن سعد.

([11])  الإصابة للحافظ ابن حجر: 3/178.

([12])  رواه البيهقي.

([13])  الإصابة للحافظ ابن حجر: 3/178.

([14])  رواه البخاري ومسلم.

([15])  الأجزاء الثلاث التالية لهذه الرسالة تحاول التعرف بقدر الإمكان على النبي r من خلال المصادر الأصلية.