الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: النبي المعصوم

الناشر: دار الكتاب الحديث

من القرآن الكريم

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)﴾ (الأنعام)

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾(سـبأ:46)

﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)﴾ (يونس)

﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾ (النجم)

﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)﴾ (النجم)

المقدمة

في صباح اليوم السابع من زيارة البابا لي، كنت ممتلئا أشواقا للحديث الذي سيحدثني عنه، فقد ذكر أنه سيروي لي رحلته إلى رسول الله r.. وهي رحلة لا مثلها رحلة.. وهو حديث لا مثله حديث..

فخير ما شنف الأسماع.. وخير ما وعته القلوب.. وخير ما اطمأن إليه الضمير.. وخير ما انطوت عليه الجوانح.. حديث يكون فيه رسول الله r.. ذلك الذي تزينت به الأرض.. واستبشرت به السماء.. وتعطرت به الأكوان.

كنت أسير في غرفتي أنتظر بشغف شديد تلك اللحظات التي أدخل فيها على البابا، لندخل جميعا إلى حضرة الحبيب، ونقبل تلك العتبات المقدسة التي وطئتها قدماه.

لكني.. وفجأة من غير ميعاد.. أصابني اكتئاب شديد، دونه كل اكتئاب، وحطت علي آلام دونها كل الآلام..

لقد تذكرت تلك الحرب الشعواء التي اجتمع لها كل الشياطين ليشوهوا جمال الشمس التي تتفتح بإشراقتها الأزهار، وتغرد بإطلالتها الأطيار، وتتمسح بأشعتها الأنهار والمحيطات والبحار والأشجار..

تذكرت تلك الأوصاف الكثيرة التي خطط لها شياطين دار الندوة.. فراحوا ـ بكل ما امتلأت به قلوبهم من أحقاد ـ يصفون رسول الله r بالساحر والكاهن والمجنون.. ويصفون الأنوار التي أشرقت بإشراقته بالدجل والخرافة وأساطير الأولين.

ولم يكتفوا بذلك.. بل راحوا يشيعون هذا في كل زمان.. وفي كل مكان.

فتلقفه من أفواههم مبشرون ومستشرقون ومستغربون وملحدون ووجوديون ودهريون.. كلهم صار ينطق بلسان أبي جهل، ويلقي خطب أبي لهب، ويحاكي أساطير النضر بن الحرث..

وتلقفه من هؤلاء رسامون راحوا يسخرون من معلم السلام ليحولوه إلى قائد عصابة.

وتلقفه منهم روائيون راحوا يسخرون من معلم العفاف والزهد ليحولوه إلى زير نساء.

وتلقفه منهم سياسيون راحوا يحولون من معلم العدالة والشورى والحرية ليرسموا بدله صورة نيرون ولينين وأتاترك.

وتلقفه منهم رجال دين، طرحوا وقارهم، ورموا صلبانهم وكتبهم المقدسة، ليحولوا من المعراج الذي يعرج به إلى الله، ومن المرآة التي تتجلى فيها حقائق الأزل، ومن النور الذي يهتدى به.. إلى دجال ينصب الشراك، ويضع الأساطير، ويملأ الدنيا بالكفر والإلحاد والظلمات..

وتلقفه منهم رجال دنيا أصحاب بطون منتفخة.. راحوا يسقطون صور جشعهم وحرصهم واستغلالهم على رسول الله r، ليحولوا من الزاهد الكريم الراغب في الله إلى حريص بخيل راغب في جيوب الناس.

وتلقفه منهم جامدون راحوا يصفون رسول الله r بالجمود..

وتلقفه منهم منغلقون راحوا يصفون رسول الله r بالانغلاق..

وتلقفه منهم مستكبرون راحوا يصفون رسو الله r بالاستكبار..

ولا زال المتلقفون يتلقفون.. ولا زالت الأقلام المملوءة بالحبر المدسوس في محبرة النفوس المدنسة يسيل.. ولا زالت الخطب.. ولا زالت الأفواه المنجسة بهجاء الشمس..

لا زال كل هؤلاء.. ولا زال هناك من يمدهم بكل شيء..

وضعت يدي على رأسي.. وقد ركبتني الهموم على هذه البشرية التي لا تتقن شيئا كما تتقن سب الشمس..

بينما أنا كذلك إذا بي أسمع ولدي في الغرفة المجاورة يردد قصيدة لأبي العتاهية، يقول فيها:

أرى الناسَ قد أُعْروا ببغْيٍ وريبةٍ
 

وغيٍ إِذا ما ميزَ الناسَ عاقلُ
  

وقد لزموا معنى الخِلافِ فكلهمْ
 

إِلى نحوِ ما عابَ الخليفةَ مائلُ
  

إِذا ما رَأَوا خَيراً رَمَوهُ بظنةٍ
 

وإِن عاينوا شراً فكُلُّ مناضلُ
  

وإِن عاينوا حَبْراً أديباً مهذباً
 

حَسيباً يقولوا إِنه لمُخاتِلُ
  

وإِن كانَ ذا ذِهْنٍ رَمَوه ببدْعَةٍ
 

وسَمَّوهُ زنديقاً وفيه يُجادلُ
  

وإِن كانَ ذا دينٍ يسموه نَعجةً
 

وليس له عَقْلٌ ولا فيه طائلُ
  

وإن كانَ ذا صمتٍ يقولون صُورةٌ
 

ممثلة بالعَيِّ بل هو جاهلُ
  

وإِن كانَ ذا شرٍ فويلٌ لأمهِ
 

لما عنهُ يَحْكي من تَضُمُّ المحافلُ
  

وإِن كانَ ذا أصلٍ يقولون إِنما
 

يفاخرُ بالموتى وما هو زائلُ
  

وإِن كانَ ذا مَجهولاً فذالك عندهم
 

كبيضِ رمالٍ ليس يُعرفُ عاملُ
  

وإِن كان ذا مالٍ يقولون مالهُ
 

من السُّحْتِ قد رابني وبئسَ المآكلُ
  

وإِن كانَ ذا فقرٍ فقد ذَلَّ بينهم
 

حقيراً مهيلاً تَزْدريهِ الأرذالُ
  

وإِن قنعَ المسكينُ قالوا لقِلةٍ
 

وشحةِ نفسٍ قد حَوَتْها الأناملُ
  

وإِن هو لمك يقنعْ يقولون: إِنما
 

يطالبُ من لم يُعْطهِ ويُقاتلُ
  

وإِن يكسبْ مالاً يقولوا: بهيمةٌ
 

أتاها من المقدور حَظٌ ونائلُ
  

وإِن جادَ قالوا: مُسْرِفٌ ومبذرٌ
 

وإِن لم يَجُدْ قالوا: شَحيحٌ وباخلُ
  

وإِن صاحبَ الغِلْمانَ قالوا: لريبةٍ
 

وإِن أجمعوا في اللفظِ قالوا: مباذلُ
  

وإِن هَوِيَ النسوانَ سموه فاجراً
 

وإِن عَفَّ قالوا: ذاك خُنْثى وباطلُ
  

وإِن تابَ قالوا: لم يَتُبْ، منه عادةٌ
 

ولكن لإِفلاسٍ وما تَمَّ حاصلُ
  

وإِن حَجَّ قالوا: ليس للّهِ حَجَّهُ
 

وذاكَ رياءٌ أنتجتْه المحافلُ
  

وإِن كان بالشطرنجِ والنردِ لاعباً
 

ولاعبَ ذا الآدابِ قالوا: مُداخلُ
  

وإِن كانَ في كُلِّ المذاهبِ نابزاً
 

وكان خفيفَ الرُوحِ قالوا: مُثافلُ
  

وإِن كان مِغراماً يقولون: أهوجٌ
 

وإِن كان ذا ثَبْتٍ يقولون: باطلُ
  

وإِن يَعْتَلِلْ يوماً يقولون: عُقوبةٌ
 

لشَرَّ الذي يأتي وما هو فاعِلُ
  

وإِن ماتَ قالوا: لم يَمُتْ حَتْفَ أنفهِ
 

لمات هو من شَرَّ المآكلِ آكلُ
  

وما الناسُ إِلا جاحدٌ ومُعانِدٌ
 

وذو حَسَدٍ قد بانَ فيه التخاتلُ
  

كان لإنشاد ولدي لهذه القصيدة وقعا طيبا في نفسي.. وكأن الله ألهمه أن يقرأها في تلك الساعة ليسري عني ما أصابني من ألم.

نهضت نشيطا، وقلت: فليقولوا ما يشاءون.. ولينحجبوا بما يشاءون..

دعِ الناسَ لا ترجُ الرضى عنكَ منهم
 

فليس لإِرضاءِ العبيدِ سَبيلُ
  

إِذا كنتَ مِقْداماً يقولونَ أَحْمقٌ
 

وإِن لم تكنْ فظاً يُقالُ ذليلُ
  

وإِن كنتَ جواداً يقولون مُسْرِفٌ
 

وإِن أنتَ لم تُسْرِفْ يقالُ بخيلُ
  

ولا تتهيبْ شرَّ ما أنتَ حاذٌق
 

ولا تترقبْ خيرَ ما أنت آملُ
  

فخوفُكَ لا يقصي الذي هو قادمٌ
 

وشَوْقُكَ لا يُدْني الذي هو راحلُ
  

لكن الحزن عاد من جديد.. ولكن لا على هؤلاء.. ولا على الحبيب الذي أشرقت به الأكوان، وتعطرت به الأزمان.. فهو كالبحر لا تكدره الدلاء.. وإنما على أولئك البسطاء الذين لم يتح لهم أن يسمعوا إلا للأصوات المكدرة بسب الحبيب، ولم يتح لهم أن يقرأوا إلا ما يحجب عنهم الشمس التي لا حياة لهم إلا بها.

في غمرة تلك الأحزان التي ألمت بي، ولم أجد ما يرفعها عني سمعت صوت البابا يناديني.. فأسرعت أحث خطاي إليه.. وفي وجهي من الكدورة ما لم أستطع أن أمسحه.

لما رآني، وتفرس في وجهي تلك الكدورة، قال: ما بالك.. لقد حسبتك مشتاقا إلى الأحاديث التي سنتحدث عنها في رحلتنا إلى الحبيب المصطفى r.

قلت: أجل.. ومن لا يفرح بالحديث عن الحبيب.

قال: فما بال الحزن يكسو وجهك!؟

قلت: لقد تذكرت أبا جهل وأبا لهب..

قال: لقد دفنا في طي النسيان.. ولم يبق إلا الحبيب الذي اشتغلا بسبه.. فتحقق بذلك تأويل قوله تعالى:﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (الكوثر:3)

قلت: لكن الأمر لم يقتصر عليهما.. ولا على من عاصرهما.. لقد ولد في كل جيل من الأجيال من يخلفهما في الوظيفة القذرة التي تولوها.. ألم تسمع بسلمان رشدي.. أو برسامي الرسوم الكاريكاتورية.. أو أولئك الذين ملأوا مدرجات الجامعات بمحاضرات تلبست بلباس العلم لتصور الشمس بصورة المستنقعات والسموم والقمامات.. أو أولئك الذين تركوا سماحة المسيح ونور المسيح ومحبة المسيح ليشتغلوا بسب محمد!؟

قال: لقد سمعت بهم.. بل كنت في يوم من الأيام أمارس هذه الوظيفة القذرة.. وأنت تعلم قصتي..

شعرت بالحياء من ذكري لهذا، فقلت: أعتذر إليك.. لم أكن أقصدك، فأنت أرفع شأنا.. ولكني أقصد أولئك الذين لا يبالون بما يقولون، ولا يندمون على ما يقولون، ولا يرجعون عما يقولون.

قال: فهم لا يؤذون إلا أنفسهم..

قلت: بل يؤذون غيرهم.. فما ذنب أولئك البسطاء الذين لم يسمعوا إلا خطبهم، ولم يقرأوا إلا كتبهم، ولم يتفرجوا إلا على صورهم؟

قال: أصدقك القول.. من صدق وجد.. وقديما قال أولياء الله: جد صدقا، تجد مرشدا.

قلت: ما تقصد؟

قال: الحق عزيز.. فلذلك توضع في طريقه العقبات.

قلت: لم؟

قال: ليتميز الصادق من الكاذب، والمخلص من المنافق، والراغب من النافر.. ألم تسمع قوله تعالى، وهو يشير إلى هذه السنة من سنن العدالة الإلهية:﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:2 ـ 3)؟

قلت: أعلم أن الفتن هي نار الله الحارقة التي يتميز بها الخبيث من الطيب.. وأنها أسئلة الاختبار التي يفلح المكلف على أساسها أو يخسر.. وأنها المقياس الذي يحدد أنواع القلوب وطبائعها.

قال: فلذلك كان لابد لتمييز الطيب من الخبيث من الفتنة.. والذي ينكر الفتن كالذي ينكر الامتحان نفسه، لأنه لا امتحان بدون أسئلة.

ولهذا كانت الفتن هي المحددة لحقيقة الإنسان كما قال تعالى على لسان نبيه موسى:﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء (لأعراف: من الآية155)، فالفتن حسب هذه الآية، وحسب ما ورد في النصوص المقدسة ليست شرا محضا، بل هي خير محض لمن عرف كيف يتعامل معها، كما أن أسئلة الامتحان خير محض لمن أتقن الإجابة عليها.

قلت: لقد ذكرتني بعمر.. فقد كان له فهم في كتاب الله.. وقد سمع مرة رجلا يتعوذ من الفتنة، فقال له:( اللهم إني أعوذ بك من ألفاظه، أتسأل ربك أن لا يرزقك أهلا ومالا وولدا؟)، ثم نبهه  إلى ما ينبغي أن يقال، فقال:( أيكم استعاذ من الفتنة فليستعذ من مضلاتها)

بل روي أن أم سلمة قالت:( استيقظ النبي r ذات ليلة، فقال:( سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن؟.. وماذا فتح من الخزائن؟.. أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة )

قال: أرأيت.. لقد جمع رسول الله r في هذا الحديث بين الفتن والخزائن، ولم يحدد الحديث نوع الخزائن المفتوحة لتشمل جميع ما يتصور من خزائن الثواب والعقاب، ولهذا دعا رسول الله r إلى إيقاظ أصحاب الحجر اغتناما لفرصة هذه الفتن لنيل أكبر نصيب من الثواب.

ارتدت إلي نفسي، وتلك الظلمة التي كانت تملأ علي جوانحي، فصحت بلسان الاعتراض من غير شعور: ولكن لم!؟

قال: أرأيت تلك الإعلانات التي تعلنها جهات متعددة عن فتح مسابقات ترفع الناجح فيها إلى ما تهفو إليه نفسه من مناصب ودرجات؟

قلت: أجل.. وكم رأيت الأبصار تتطلع إليها؟

قال: ألا تحوي تلك المسابقات على ما تتيه العقول في فك ألغازه.. أم تراها تأتي وحلها معها؟

قلت: لو كان الأمر كذلك ما كانت المسابقة مسابقة.. ولما كان الامتحان امتحانا.

قال: فهكذا الفتن.. إنها نوع من تلك المسابقات.. ليتميز الصادق فيها من الكاذب.. ويتميز المحب المخلص من المنافق الدجال.. ويتميز بائع نفسه لله من بائعها للشياطين.

قلت: فهل لهذا صلة بذاك؟

قال: أجل.. فلو رأى الناس.. جميع الناس.. الحقائق بصورتها الكاملة التي يشتهونها ما بقي أحد في الدنيا إلا وتعلق بها.

ثم التفت إلي، وقال: هل تراهم يختلفون في التنافس على الحسناء التي تسفر عن كل جمالها؟

قلت: لا شك أنهم لا يختلفون.

قال: ولكنها إن حجبت بعض محاسنها.. أو ظهرت بصورة قد لا ترضي أهواءهم تراهم يرغبون عنها.. بل قد يرمونها بالحجارة.

قلت: أجل.. فلا يبقى عند الامتحان إلا الصادقون.. وقد سبق أن قال الشاعر يعبر عن هذا:

وفي الأحبابِ مختصٌ بوَجْدٍ
 

وآخرُ يدعي معها اشتراكا
  

إِذا اشتبكَتْ دموعٌ في خدودٍ
 

تبَّينَ من بَكَى ممن تَباكا
  

قال: فطبق هذا المثال على الفتن التي فتن الله بها عباده ليمحص الصادقين من الكاذبين والطيبين من الخبيثين.

قلت: علمني كيف أطبق هذا المثال.. فلا زلت أرى الحقائق ولا أعيشها.

قال: أترى من العجب أن يتخذ الله بشرا رسولا يجعله واسطة بينه وبين عباده ليكون سفيرا يوصل لهم حقائق الأزل؟

قلت: لا أرى عجبا في ذلك.. فلا يمكن أن يصبح كل البشر رسلا.. ولو أصبحوا كلهم رسلا لما بقي هناك تكليف.

قال: ولكن هذا كان فتنة لكثير من الناس.. لقد عموا عن كمالات الرسل بشيء توهموه عيبا، وهو كون الرسول بشرا مثلهم.

قلت: لقد ذكر الله تعالى هذا عن أقوام من الناس منذ بدأ الناس، فقد حكى الله تعالى عن قوم نوح ذلك، فقال:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)(هود)

قال: فبم أجابهم نوح؟

قلت: لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:﴿ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (هود:28)

قال: فقد اعتبر أن ما حصل له من فضل الله رحمة من الله.. ولكنها عميت عليهم.. أو أنهم عموا عنها.. لأنهم احتجبوا بمظاهر البشرية عن خصائص الخصوصية.

إنهم يشبهون تلك الحسناء الجميلة التي قد تتنقب بنقاب لا يرضاه المغرورون، فيحجبون بالنقاب عن الجمال الذي تغير منه الشموس.

قلت: ولكن هناك من يقبل أن يكون البشر رسولا؟

قال: لله من الحجب ما لا يمكن لعقل أن يدرك منتهاه.. فمن لا يحجب بالبشرية قد يحجب بالعنصرية التي حجب بها اليهود وقومنا حين زعموا أن الله لا يحق له أن يتخذ رسولا من غير بني إسرائيل.

قلت: فمن لا يحجب بهذا؟

قال: قد يحجب بالبساطة التي كان يعيشها رسول الله r.. حين كان يأكل كما يأكل الناس، ويتسوق كما يتسوق الناس.

قلت: صحيح ذلك.. فقد حجب أقوام بهذا، كما قال الله تعالى:﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) (الفرقان)

قال: فقد حجب هؤلاء بمسير رسولهم في الأسواق، أو بأكله للطعام.

قلت: هناك كثيرون لا يحجبون بهذا.. بل يعتبرونه من الكمالات.. فالبساطة تقرب المرء من الناس.. فيشعر بما يشعرون.. ويعيش ما يعيشون.. فإذا تكلم تكلم عن بينة.. وإذا دعا دعا عن بصيرة.

قال: ولكن هؤلاء أيضا قد يحجبون.

قلت: فما الذي يحجبهم؟

قال: ألم أذكر لك أن لله من الحجب ما له من الأبواب.. بل إن كل باب من الأبواب حجاب من الحجب.. فمن انفتح له الحجاب جاوز الأبواب.. ومن لم ينفتح له الحجاب أغلقت في وجهه الأبواب؟

قلت: صدقت.. وقد ذكرتني بقوله تعالى:﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً (الاسراء:60)

فمع أن هذا الإخبار لا يحوي أي غرابة بالنسبة للعقل الذي يعلم قدرة الله التي لا تحدها الحدود إلا أنه كان فتنة كبيرة للعقول البسيطة المحدودة، وقد روي أنه لما لما نزلت الآيات التي ذكرت شجرة الزقوم[1] قال كفار قريش:( ما نعرف هذه الشجرة، فقدم عليهم رجل من إفريقية فسألوه )، فقال:( هو عندنا الزُبد والتمر )، فقال ابن الزبعري:( أكثر الله في بيوتنا الزقوم )، فقال أبو جهل لجاريته:( زقمينا ) ؛ فأتته بزبد وتمر، ثم قال لأصحابه:( تزقموا؛ هذا الذي يخوفنا به محمد؛ يزعم أن النار تنبت الشجر، والنار تحرق الشجر )

قال: ومثل هذا الفتن الكثيرة التي تجعل من الحقائق شبهات عظيمة ينظر إليها الغافلون بأعينهم المحجوبة عن الحق، فلا يرون إلا الظلمات.

قلت: أبهذا تبرر وجود الفتن التي تقف العقول دون إدراك أسرارها؟

قال: أجل.. ولكن هذا ليس تفسيري.. بل هو تفسير الله.. فالله هو الذي يختبر عباده ليتميز الخبيث من الطيب.. لقد ذكر الله ما فتن به ثمودا، فقال:﴿ إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (القمر:27)

فقد كانت الناقة التي عمقت إيمان المؤمنين فتنة للجاحدين.. فتميز الخبيث من الطيب.

قلت: فالاختبار واحد إذن..لكن المؤمن يستقبله استقبال الطيبين، والكافر يستقبل استقبال الخبيثين!؟

قال: أجل.. وقد ذكر الله تعالى ذلك، منبها عباده إلى هذه الأنواع من الفتن، حتى يدخلوا كل شيء عن بينة، قال تعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (الحج:11)

قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى عن عدة الملائكة:﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) (المدثر:31)

فقد أخبر الله تعالى أن في إخباره عن عدد الملائكة الموكلين بجهنم كان فتنة للخلق، وكان تأثير هذه الفتنة مختلفا على حسب قابلية كل شخص وتعامله مع إخبارات الله.

أما المؤمنون فزادتهم إيمانا إلى إيمانهم، وعرفوا أن قدرة الله التي لا يعجزها شيء لا تعجز عن مثل هذا، بل اعتبروا هذا من دلائل القدرة التي تزيدهم إيمانا إلى إيمانهم.

أما السطحيون البسطاء في تفكيرهم الغارقون في أوحال التشبيه، فاعتبروا ذلك سندا شرعيا لكفرهم.

وقد ورد في السيرة ذكر بعض آثار هذه الفتنة على الكافرين، قال ابن عباس:( لما نزل قوله تعالى:﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (المدثر:30) قال أبو جهل لقريش:( ثكلتكم أمهاتكم! أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدهم - أي العدد - والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم! )

وقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي:( لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة ) ؛ يقولها مستهزئا.

وقال آخر:( أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين )

وقال آخر:( أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟)

قال: فقس هذا على كل ما ذكره أحفاد أبي جهل وأبي لهب..

قلت: أمر هؤلاء أخطر بكثير..

قال: وما خطره؟

قلت: لم يكن لأبي جهل قناة فضائية، ولم يكن لأبي لهب موقعا إليكترونيا، ولم يكن لهما ولا لغيرهما ما لأهل عصرنا من الطاقات التي تحتار فيها الشياطين.

قال: ولم يكن لرسول الله r ولا لمحبيه في ذلك الوقت شيء من ذلك..

قلت: ماذا تقصد؟

قال: إن عدل الله الذي وضع الحجب حتى لا يدخل دار الطيبيبن إلا الطيبون صحبته رحمة الله.. فلذلك لم يترك للشر المجال وحده.. بل وضع مع الشر خيرا كثيرا لينسخه ويمسخه.. فمن التفت إليه غلب خيره شره، ومن لم يلتفت إليه حجب بالشر عن الخير.

قلت: ولكن الحملة في عصرنا شعواء.. والحرب مريرة.. لقد وضعوا أطهر خلق الله في قفص الاتهام.

قال: هم لا يفعلون إلا ما فعله المشركون والكفار في زمن رسول الله r وفي كل زمان.. ألم يحك الله عن المشركين تلك الشبهات الكثيرة التي طرحوها ووضعوا الخطب الطويلة في إثباتها؟

قلت: بلى.. فقد قال تعالى:﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (التوبة:61)

وقال تعالى:﴿  أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (يونس:2)

وقال تعالى:﴿  فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ (هود:12)

وقال تعالى:﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (الحجر:6-15)

قاطعني، والدموع تفيض من عينيه قائلا: أرأيت.. إن ربي يخاطبني، ويخاطب كل تلك الجموع التي راحت تشوه الحقائق التي نطقت بها كل دلائل الأكوان.. إن هؤلاء الجاحدين لو فتحت لهم أبواب السماء.. فعرجوا إليها.. ورأوا جمالها.. لارتدوا يكذبون أبصارهم .. ويكذبوا الحقائق التي رأوها رأي العين.

قلت: نعم.. فمع أن حياة رسول الله r تمثل قمة الزهد وقمة العفاف نجد من قومنا من يرمونه بالجاري وراء شهواته.. وهو الذي لم تستقر به أرض.. وهو الذي تفطرت قدماه من السجود.. واغبرتا من السير في سبيل الله.. وأدميتا من الأذى في سبيل الله.

وهو الذي عصب الحجر على بطنه من الجوع.. ولم يعرف الفنادق التي يعرفونها، ولا الليالي الحمراء التي يعيشونها.. فليله قيام، ونهاره جهاد وصيام وطاعة تقصر عنها الجبال.

قال: إن الشياطين التي تملأ عليهم قلوبهم حجبتهم عن كل ذلك.. فلم يروا إلا زوجاته..

قلت: ولكن ألا ترى في ذلك فتنة؟

قال: قد أخبرتك بأن الله تعالى جعل من حكمته اختبار عباده بمثل هذه الفتن.. ألم تسمع قوله تعالى لرسول الله r في أمر زينب بنت جحش، فقد قال له معاتبا:﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً   (الأحزاب:37).. أتدري لم خشي رسول الله r؟

قلت: لقد خشي على أن يفتن قومه، فيقولوا: تزوج ببنت متبناه.

قال: ولكن الله تعالى نهاه أن يخضع لتلك المخاوف.. لأن الله تعالى هو واضع الأسئلة.. وليس على رسول الله r إلا البلاغ.

قلت: لقد وعيت هذا.. فبورك فيك.. ولكن ألا يستطيع هؤلاء المحجوبون بهذه الفتن أن يحتجوا يوم القيامة في محكمة العدل التي لا تضيع مثاقيل الذر؟

قال: فما يقولون؟

قلت: يقولون: يا ربنا.. لو أن نبيك لم يتزوج تسعة نساء.. ولم يتزوج عائشة البكر الصغيرة.. ولم يغز بضعا وعشرين غزوة.. لكنا اتبعناه.

قال: فهل ترى في هذا حجة؟

قلت: هم يتصورون بينهم وبين أنفسهم أن في ذلك حجة.

قال: ليس الشأن في تصوراتهم.. بل الشأن في الحقيقة.. فالمتهم قد يرى نفسه بريئا.. ولكن الحقائق والبينات التي لدى القاضي هي التي تحدد البريء من المجرم.

قلت: فهل على هؤلاء أن يسحبوا اتهاماتهم حتى يتبصروا الحقائق؟

قال: إنهم إن لم يسحبوها بنور الحقائق.. فسيقفون يوم القيامة في تلك المحكمة التي لا تسمع إلا الحقائق.. ليقال لهم: إن الله الذي بعث محمدا.. أيده بكل تلك المعجزات.. ونصره كل ذلك النصر.. وأنطق كل الحقائق لتدل عليه.. هو الذي أباح له.. بل هو الذي أمره أن يتزوج بأولئك النسوة.. وأن يغزو تلك الغزوات.. فهل ستراهم يخاصمون الله؟

قلت: لا يمكنهم ذلك فالله:﴿ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (الانبياء:23)

قال: ومع ذلك.. فإن الله ـ بعدله ـ لو سألوه لأجابهم.. ولقال لهم: ألا ترون حكامكم يسلمون قصورا خاصة.. وتتاح لهم حصانة خاصة.. وتعطى لهم من الصلاحيات ما لا يعطى لغيرهم.. ثم ترون كل ذلك طبيبعيا لا شبهة فيه؟

قلت: لا شك أنهم يجيبون بالإيجاب.. فكل حكام العالم.. وكل ملوكه.. لهم ما وصفت.. بل لهم من الدنيا ما لم تر عين، أو تسمع أذن، أو يخطر على قلب بشر.

قال: فلم يحجرون على رسول الله r أن يزوجه الله من يشاء ومتى يشاء؟

سكت، فقال: إن العقول هي التي تحاسب.. ولذلك ستواجه بأنواع الحجج.

قلت: أترى المنطق الذي نعيش به في الدنيا هو نفسه الذي يحكم أحكام الآخرة؟

قال: أجل.. فالله هو الذي وضع برامج العقول.. وهي برامج لا تتخلف، فلا تبديل لكلمات الله.

قلت: فأنت ترى أن يخاطب هؤلاء بالعقل..!؟

قال: بالعقل المؤيد بالنقل.. لتقام عليهم الحجة.. ثم هم بعد ذلك وما يشاءون.. إن شاءوا أن يحكموا عقولهم.. وإن شاءوا حكموا الشياطين التي تملي على عقولهم كيف تفكر.

***

ما وصل البابا من حديثه إلى هذا الموضع حتى شعرت براحة تملأ أقطار نفسي.. ولكن سرعان ما شعرت بالألم يعتريني من جديد.. فقد كنت أبحث عن فك رموز الشبهات.. وكنت ـ كعهدي بنفسي دائما ـ لا يقنعني الإجمال.. فلا يرضي همتي إلا التفاصيل التي أتبصر بها الحقائق.

طالع البابا ـ بما أعطاه الله من بصيرة ـ ما في نفسي، فقال: أعلم ذلك.. أنت تحب التفاصيل.. ولا يقنعك الإجمال.

قلت: لقد آتاك الله فراسة.. ولكني مع ذلك لن أشغلك عن حديثك عن رحلتك إلى الإسلام.. فلندع هذا الموضوع إلى نهاية رحلتك إلى شمس محمد r.

قال: بل هذه هي مقدمة هذه الرحلة.. فرحلتنا اليوم إلى (النبي المعصوم).. ولا يصلح مقدمة لهذا إلا هذا.. ولا يجيب عن شبهاتك إلا رحلتي هذه.. فقد كنت ممتلئا شبهات تضيق بها أركان نفسي.. وكنت في بيئة لا تنفخ في نفسي إلا شياطين الشبهات.

قلت: فهل وقاك الله شرها؟

قال: أجل.. ففضل الله واسع.. وقد كنت كلما محوت شبهة حل محلها نور وشعاع جديد من أشعة شمس محمد r.

قلت: فكيف بدأت رحلتك؟.. وهل التقيت في بدايتها معلمي (معلم السلام) كما تعودت أن تلتقي به؟

قال: أجل.. ولكن قبل ذلك حصلت أحداث.. سأحكي لك ما نحتاج إليه منها في رحلتنا هذه.

***

 اعتدل البابا في جلسته، وحمد الله، وصلى وسلم على نبيه، ممتلئا في كل ذلك خشوعا ووقارا ملأني منه هيبة، ثم قال: لقد ذكرت لك في رحلاتي السابقة أن أخي ترقى في مراتب الكنيسة، ليصل إلى الفاتيكان، ليحقق حلمنا في ذلك الكرسي الذي عشنا حياتنا من أجله.

وذات يوم دخلت إلى غرفتي فإذا بي أجد أخي يطالع دفتري الذي وضعته عن القلوب التي تعلقت بمحمد r.. لكنه ما إن رآني حتى أسرع، فأغلقه، ثم قال لي: هذا دفتر مهم.. وقد أوحى لي نظري فيه مشروعا.. إن حققناه بنجاح، فسيتاح للمسيحية من الانتشار ما لم يتحقق لها في جميع تاريخها.

قلت: المسيحية تنتشر بقوة.. ولا تحتاج إلى أي مشاريع.

قال: ذلك صحيح.. ولكنها تنتشر ببذل المال[2] .. وهي بذلك قد أصبحت عبئا ثقيلا على المحسنين.

قلت: هل تريد أن تنشرها بغير مال.. إن ذلك مستحيل؟

قال: وما وجه الاستحالة؟

قلت: أنت تعلم وجوه الاستحالة.. وقد جرب غيرنا من قبل ما ذكرته، فلم نحصل على شيء.

قال: ولكن الإسلام ينتشر من غير مال.. بل إنه ينتشر بقوة.. انظر ما كتبته هذه الجريدة من إحصائيات.. وما علقت عليها من تعاليق.

نظرت.. فوجدت فيها (في بريطانية يعتنق الإسلام أكثر من خمسة آلاف بريطاني كل عام.. وفي فرنسا بلغ الذين اعتنقوا الإسلام حتى الآن أكثر من 400 ألف فرنسي.. وفي الولايات المتحدة بلغ عدد المسلمين السود والبيض أكثر من مليونين.. وفي اليابان تجاوز الذين اعتنقوا الإسلام 15 ألف ياباني في عامين)

ثم رأيت تعقيبا على هذه الإحصائيات يقول: (وفق دراسات مركز ( رصد العقائد) في مدينة ( برن ) بسويسرا فإن الإسلام أكثر الأديان انتشارا في العالم.. وهذه الحقيقة قد أكدها دارسو الأديان، فالباحثة الكهنوتية الأمريكية كارول أنوي تقول: (الإسلام هو أسرع الأديان انتشاراً في أمريكا الشمالية)[3]، والدكتور هستون سميث يقول:( إن الإسلام في هذا العصر كما في العصور السابقة أسرع الأديان إلى كسب الأتباع المصدّقين)[4]، والمبشر جون تكل يقول:( الإسلام آخذ في الانتشار رغم أن الجهود التي تبذل في سبيله تكاد تكون في حكم العدم)[5]

فإذا علمنا أن الإسلام ينتشر بجهود فردية مبعثرة، وأنه لا يرصد في سبيله إلا نسبة ضئيلة جداً مما يرصد للتبشير بغيره من الأديان، إذا علمنا هذا علمنا يقيناً مدى الصدق الذي تحمله الصرخة البائسة التي أطلقها لورنس براون حين قال:( الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع، وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار)[6].. وأطلقها مثله المستشرق هاملتون جب حين قال: (إن أخطر ما في هذا الدين أنه ينبعث فجأة دون أسباب ظاهرة، ودون أن تستطيع أن تتنبأ بالمكان الذي يمكن أن ينبعث منه)[7]

أغلقت الجريدة، ثم نظرت إليه، وقلت: فأنت تريد أن تنتشر المسيحية بهذا الأسلوب..!؟

قال: وما الذي يمنعنا من ذلك؟

قلت: كل شيء يمنعنا من ذلك.. وأنت تعلم كل ذلك.. فكتابنا المقدس يختلف كثيرا عن كتابهم.. وليس في عقيدتنا من اليسر والوضوح والقوة ما في عقيدتهم.. وليس في شريعتنا ما في شرائعهم.

قال: ولكن المسيح لنا ومعنا.. وهو يغنينا عن كل ذلك.

قلت: وهم يؤمنون بالمسيح كما نؤمن به.. بل ويقدرونه أعظم من تقدير عوامنا وخواصنا له.

قال: وتلك ميزة تيسر علينا الدخول عليهم.. فسندخل عليهم من المسيح الذي يحبونه لنمحو من أذهانهم اسم (محمد)

لست أدري كيف شعرت بألم شديد، وهو يذكر محمدا r بهذا الأسلوب.. لقد اكتشفت في تلك اللحظة أن البذور التي نبتت منها محبة محمد r قد غرست في قلبي.. فلذلك آلمني ما قاله أخي.. لكني أمسكت لساني عن أن ينكر عنه ما قال.

قلت: فكيف نمحو اسم (محمد) الذي استقر في ضمائرهم، وامتلأت به جوانحهم؟

قال: بما يمحو به السياسيون بعضهم بعضا.

قلت: السياسيون يمحو بعضهم بعضا بالفضائح..

قال: فلنمارس هذا الأسلوب مع محمد.. إن محمدا ينال أكثر أصوات الناخبين، ليزاحم مسيحنا المقدس.. وإخلاصنا للمسيح يقتضي أن نمارس كل الأساليب حتى نحطم أخطر جبل يقف في وجه المسيحية.

قلت: ولكنا إن فعلنا ذلك وقعنا في كذب كثير.. ولم تعد لنا قداسة الأحبار.

قال: ومن ذكر لك بأن الذي يقوم بذلك نحن؟

قلت: ومن يقوم به؟

قال: هذا ما جئت لأحدثك عنه.. وهذا هو المشروع الذي لو قدر له أن ينجح، فسيكون فتحا عظيما في المسيحية لم يحصل مثله من قبل.

قلت: لم أفهم ما الذي ترمي إليه.

قال: ألا ترى الأحزاب الضعيفة كيف تتحالف، ثم كيف تتضخم مع ضعفها لتقضي على كل المنافسين؟

قلت: ذلك في السياسة ونحن في الدين.. وفي السياسة من التلاعب ما ليس في الدين.

قال: كل شيء سياسة..

قلت: فما السياسة التي تريد أن نمارسها لنوقف زحم الإسلام؟

قال: تشويه (محمد)..

لست أدري كيف نهضت من مكاني، وصحت في وجه أخي بقوة: لا.. لا.. ذلك ليس ممكنا.. لا ينبغي أن نفعل هذا.. إن كل شيء سيلعننا إن فعلنا ذلك.. إننا سنتحول إن فعلنا ذلك إلى شياطين أهل الندوة.

تعجب أخي من موقفي، وقال: ما بالك.. أراك تدافع عن محمد؟.. أرى سهام المسلمين المسمومة قد أثرت فيك؟

ارتدت إلي نفسي، فقلت: لا.. أنت لم تفهم موقفي.. لا يمكننا ـ ونحن في هذه المرتبة الرفيعة من مراتب الكنيسة ـ أن نفعل هذا.

قال: صدقت في هذا.. وهذا ما خططت له.

قلت: أرحني بذكر مخططك.. ولا تكثر من المقدمات.

قال: لقد فكرت في إجراء تحالف قوي للكنيسة مع كل من يبغض محمدا r سواء كان مسيحيا أو ملحدا.. حتى لو كان يكره المسيحية، ويكره المسيح، فيمكننا أن نتحالف معه لنقضي على (أسطورة محمد)

قلت: فكيف يتم هذا التحالف؟

قال: بأن نتفق جميعا فيما نقول، وفيما نفعل.

قلت: لا زال الجميع يسبون محمدا.. فما ميزة المشروع الذي جئت به؟

قال: التحالف.. فبالتحالف يصير الضعيف قويا، والجبان شجاعا..

قلت: ومن ترى أنه سيتحالف معك؟

قال: الجميع.. كلهم سيمدون أيديهم سواء كانوا ساسة أو اقتصاديين أو فلاسفة.. كل أصناف المجتمع يمكنها أن تمد يدها إلينا.

قلت: فهل أخبرت البابا عن عزمك هذا؟

قال: لا يمكنني أن أخبر البابا عنه إلا بعد أن ينجح..

قلت: كيف تعرف أنه نجح أو لم ينجح؟

قال: لقد كنت منذ مدة طويلة ـ بل في جميع فترات غيابك ـ أخطط لهذا، وقد كسبت عشرة رجال من مختلف المشارب، وكلهم يلبس عباءة بغض محمد.. وسنستثمرهم لنبدأ هذا المشروع.

ابتسمت ساخرا، وقلت: عشرة!؟.. أتريد بعشرة رجال أن توقف زحمم الإسلام، وتشوه شخص محمد!؟.. إن لدينا أساطيل من الجيوش.. وكلها لم تطق، فكيف يطيق عشرة.. أم أنك ستزود كل واحد منهم بقوة ( السوبرمان) ليتمكن من غسل جميع أدمغة المسلمين.

قال: أنت إلى الآن لم تفهمني..

قلت: فاشرح لي..

قال: هذا مشروع.. وكل مشروع في الدنيا يعتمد عينة.. ثم تعمم أحكام العينة على الجميع بعد ذلك.

قلت: فأنت تريد أن تختبر مدى صلاحية مشروعك بهؤلاء العشرة؟

قال: لقد فهمتني الآن.. فلا يمكنني أن أطرح على البابا هذا المشروع إلا موثقا بالبينات والإحصائيات.. ألا تعلم أن الكنيسة لم تعد تعتمد الأساليب التي مارسها أسلافها.. لقد أصبحت كنيسة علمية تعتمد كل أساليب البحث العلمي.

قلت: فكيف تسجل البينات؟

قال: بكل أنواع التسجيل.. التسجيل الإحصائي وبالصور.. بل بالكاميرا أسجل كل ما سيحصل.. وسنرى من تحليلنا لما نراه ما ينبغي أن نفعله.

قلت: إن هذا يحتاج أموالا..

قال: إن وظيفتي هنا ترتبط بهذا.. ولي ميزانية خاصة لا أسأل فيها عما أصرفه من أموال.. ولكني مع ذلك لن أصرف شيئا.. فقد ذكرت لك أني أريد أن أوقف زحف الإسلام من غير مال ولا سلاح.

قلت: فهل سنذهب إلى أدغال إفريقيا لنفعل ذلك؟

قال: أهل إفريقيا يروننا خبزا قبل أن يرونا كنيسة.. ولذلك لن نذهب إليهم.. ولا إلى جميع فقراء العالم.. بل لن نخرج من أوروبا..

قلت: أوروبا لن تحتاج إلينا.. فأهلها مسيحيون.

قال: سنذهب إلى أولئك الذين باعوا المسيحية بالإسلام.. وانتخبوا محمدا بدل المسيج.

قلت: فماذا نقول لهم؟

قال: لقد ذكرت لك أن مشروعي يهدف إلى استخدام كل الطاقات وجمعها لتتحول وجهة واحدة هي رمي محمد بالفضائح التي تحول القلوب عنه.. ولهذا سنذهب إلى هؤلاء.. أو ستذهب هذه الطاقات إلى هؤلاء لتريهم من صور محمد ما لم يروا.. وتسمعهم من أخبار محمد ما لم يسمعوا.

***

في ذلك المساء..

خرجت إلى الغابة التي كنت قد وصفتها لك من قبل[8].. وهناك استلقيت على عشبها، وفي قلبي آلام لست أدري سببها.

نظرت إلى السماء الزرقاء الجميلة.. ونظرت إلى أشعة الشمس الحنون وهي تسقي الحقول والأزهار والمياه.. وقلت لنفسي: يا ترى كيف تكون الدنيا لو وضعت الحجب على الشمس.. هل ستتفتح الأزهار.. وهل ستغرد الأطيار.. وهل ستبقى الألوان الجميلة التي يكتسي بها الكون!؟

بينما أنا كذلك إذا بي أسمع صوت صاحبك (معلم السلام)، وهو يقول: الشمس أقوى من أن تحجبها الأكف المشلولة.

قلت: أنت!؟.. ما الذي جاء بك إلى هنا؟

قال: الذي جاء بك إلى هنا.

قلت: الهم هو الذي جاء بي إلى هنا.. فقد قدر لي أن أعيش مع من لا شغل له غير سب الشمس، ووضع الحجب عليها.

قال: فقد أريد لك إذن أن ترى من الشمس ما لا يرى غيرك.. فأبشر.

قلت: كيف تبشر المتألم الحزين؟

قال: في كل شيء وضع الله الحزن والسرور.. فكل شيء يمكنه أن يملأك حزنا، وفي نفس الوقت يملؤك سرورا.

قلت: هذا تناقض.. فالحزن والسرور متناقضان لا يلتقيان إلا إذا التقى الخطان المتوازيان.

قال: هما لا يلتقيان.. ولكنهما يسيران في اتجاه واحد.. وهذا كاف لالتقائهما.

قلت: لم أفهم.

قال: أخبرني ما الذي يحزنك لأدلك على مواضع السرور فيه.. فيستحيل أن يكون هناك شيء محزن دون أن يضع الله فيه ما يملؤك سرورا.

قلت: فنلجرب ما تقول.. أنا حزين لأن أخي التوأم يريد أن يشوه الشمس.. وهو يطلب مني أن أشاركه في هذا.. وقد عقد لذلك حلفا شيطانيا أخاف على نفسي من لعناته.

قال: فأبشر..  فقد أراد الله أن يريك من جمال الشمس ما لم تكن ترى، ويعلمك من علومها ما لم تكن تعلم.

قلت: لم أفهم.

قال: إن أخطر ما يصاب به البشر هو الغفلة.. فالغفلة تعني احتقارك للأشياء وعدم شعورك بها.. فلذلك ينبهنا الله بالآلام والأحزان ليزيح عنا الغفلة..

نظر إلى عيني فوجدهما لا زالتا تبحثان عن تفسير، فقال: هل كان يمكن لك أن تعلم جمال الصحة لو لم تر آلام المرض؟

قلت: صحيح ما ذكرت.. فالصحة تاج على الأصحاء لا يراه إلا المرضى.

قال: وقد يراه الأصحاء إذا شفوا من أمراضهم.

قلت: صحيح ذلك.. فما علاقته بهذا؟

قال: إن ما ذكرت لي من هذا التحالف لا يختلف عن الفيروسات والجراثيم التي تغزو الأجسام لتنهك صحتها.. لكن الجسم القوي سرعان ما يقاومها.. فيكتسب بمقاومتها مناعة وصحة.

قلت: ولكنه قد يضعف.. فتقتله.

قال: لا خير في جسم ضعيف.. فلذلك لا تحزن عليه.. واطلب جسما أقوى.

قلت: فهمت.. لا ينبغي أن أفر إذن..

قال: إنك إن فررت تكون قد فررت من نفسك.. فليس في الخارج إلا صدى نفسك..

قلت: صدقت.. إني بيني وبين نفسي تعتريني شبه أجتهد اجتهادا مؤلما في صرفها.

قال: أنت تفر منها.. ولا يمكنك أن تفر من شيء يسكنك.. لأنها إن خرجت من قلبك ووعيك سكنت محلا من عقلك.. وما سكن محلا من عقلك يوشك أن تسقيه الأيام قوة ليسيطر على كل عقلك.

قلت: بدأت أفهم.. نعم.. صحيح ما تقول.. فما في الخارج صدى لما في نفسي.. إن نفسي تفر.. فلذلك ووجهت بما تفر منه.

نظر إلي نظرة حازمة ممتلئة عتابا كعتاب المحبين، ثم قال: لن ينجيك في هذه المفازة المملوءة بالأفاعي والسباع إلا حصن واحد.

قلت: ما هو؟

قال: العقل.. فلا يمكن لمن ألغى عقله أن ينجو في هذه المتاهة.

قلت: لا  يمكن لأحد أن يلغي عقله.

قال: كلهم يلغون عقولهم.. كلهم يلغون عقولهم..

قال ذلك، ثم انصرف وهو يردد ذلك.. طلبت منه أن يقف، فلم يقف.. بل سار حتى غيبه الأفق.

***

بعد أيام قليلة طلب مني أخي أن أصحبه ليريني مفاجأة سماها (مفاجأة العصر)، فسرت معه، وأنا ممتلئ مخافة من هذه المفاجأة التي يريد أن يريها لي.. فأنا أعلم أن ما في نفسه من أحقاد على محمد r لن يرشح منها أي خير.

وصلنا دارا واسعة محاطة بحديقة غريبة.. لقد كان ذوق أصحاب الدار عجيبا، حيث أنهم لم يرضوا لها إلا أن تزين بأفتك أنواع الأشجار الشوكية، حتى صارت تشبه دور السحرة كما تمثل في الأفلام الخيالية.

سألت أخي متعجبا عن تزيين الدار بمثل هذه الأشواك، فقال: هذه موضة جديدة.. والمصمم الذي صمم هذه الدار استوحى آخر التصاميم.

قلت: أتعرفه؟

قال: وكيف لا أعرفه.. وأنا الذي قصدته ليصممها؟

قلت: فهذه الدار ملكك إذن.. وهي المفاجأة التي تريد أن تريني إياها؟

قال: هذه الدار ملك لأجيال كثيرة من الناس.. وربما تصلح هذه الأيام أن تكون ملكا لنا.. أما المفاجأة التي أريد أن أريك إياها، فهي في داخل الدار.. فهلم معي إليها.

دخلنا الدار، وكان أول ما واجهنا لافتة مكتوب عليها (دار الندوة)، فدهشت، وقلت لأخي: ما هذا الاسم؟

قال أخي: هذا الاسم هو المفاجأة.

قلت: لم أفهم.

قال: لاشك أنك تعرف (دار الندوة) التاريخية.

قلت: أجل.. تلك الدار التي كان يجتمع فيها الملأ من قريش ليشوهوا محمدا ودين محمد.. ويحاربوا محمدا ودين محمد.

قال: فقد اجتمعت أنا والنفر الذين ذكرتهم لك.. وأحيينا تلك الدار من جديد، لتؤدي وظيفتها بأسلوب عصري يستخدم آخر تقنيات العصر.

قلت: ولكن تلك الدار التي كان يجتمع فيها الملأ من قريش كانت دارا مشؤومة، لم تنجز شيئا، ولم تستطع أن تصد زحف محمد ودين محمد.

قال: لأنهم اعتمدوا طرقا بدائية.. ثم إن خسارة معركة من المعارك لا تعني الهزيمة النهائية.

صحت في أخي: ولكن ألا تشعر بأنك تريد أن تدخل في المسيحية هرطقة لم تكن في أسلافها؟

لست أدري كيف خرج رجل من منفذ من منافذ تلك الدار، وكأنه خرج من بطن من بطون الكتب المبعثرة فيها، وقال: لا.. بل نريد أن نحيي سنة مسيحية لم تزل ولن تزال.. وليس لنا من دور هنا فقط إلا التجديد.

قلت: من أنت؟

قال أخي: هذا أحد أفراد جماعتنا، بل هو أهم أفراد جماعتنا، وهو رجل حفظ التاريخ عن ظهر قلب، ويستطيع أن يعد لك الآلاف من رجال الكنيسة الذين ملأوا في يوم من الأيام رحاب مثل هذه الدار.

قلت: إن لهجته غريبة، وهي تدل على أنه ليس من أهل هذه البلاد.

قال: ذلك صحيح.. ولكنه يتقن جميع اللغات.. بل تستطيع أن تطلق عليه قاموس لغات.

قلت: ومن أين هو؟

قال: لقد ذكر لي بعض من سكن هذه الدار بأنه من نجد.. وقد كان بعض سلفنا يطلق عليه لقب (الشيخ النجدي)[9]

قاطعنا الرجل، وقال: تعال أريك شيئا..

سرت معه، ففتح خزانة مملوءة بالمخطوطات القديمة، وقال: انظر هذه المخطوطات..  إنها جميعا حروب ساخنة ضد محمد ودين محمد.

قلت: من كتبها؟

قال: كثيرون هم.. منهم يوحنا الدمشقي، وتلميذه أبو قره، ويوحنا النقيوسي، ويحى بن عدي.. ومنهم ثيوفانس المعترف، ونيقتاس البيزنطي، وجرمانوس.. ومنهم ايزدور الأشبيلي، وأولوخيو، وبول الفارو.. ومنهم بدرودي الفونسو، وسان بدرو باسكوال، وريكولدو دي مونت كروس، ورامون مارتي، وريموندلول، ووليم الطرابلسي، ووليم الصوري، ووليم آدم، وجاكيوس دي فتري، وهامبرت الروماني، وفيد ينزو أوف بافيا.. وغيرهم كثير.

قال ذلك، ثم أخرج كتابا ضخما، وقال: انظر على سبيل المثال هذا الكتاب.. إنه يسمى المشروع الكلوني، وهو أول وأكبر مشروع استشراقي هدف بالدرجة الأولى إلى تفنيذ الإسلام.

إن هذا المشروع يصح أن يطلق عليه بأنه المشروع الغربي الأكبر لتشويه صورة الإسلام.

قلت: متى كان هذا، ومن تبناه؟

قال: لقد تأسس هذا المشروع سنة 1143 م، وهو يُنسب إلى دير كلوني في جنوب فرنسا ـ الذي تأسس سنة 910م ـ ومنه انبثقت حركة لإصلاح الحياة الرهبانية عُرفت في التاريخ الأوربي باسم (حركة الإصلاح الكلونية) التي لم تلبث أن أسهمت في تقوية الجهاز الكنسي في الغرب الأوربي.

وقد نال دير كلوني منزلة الحصانة تحت الحماية المباشرة للبابا في روما، والحق المطلق في أن ينشئ أديرة أخرى تابعة لهُ.

وخلال القرنين التاليين من تأسيسه نال دير كلوني تأثيراً كبيراً وثروة ضخمة، وأصبح في الواقع عاصمة للامبراطورية الديرية حيث يتبعه أكثر من ستمائة دير، وعشرات الآلاف من الرهبان في كل مكان من العالم الغربي.

بل ترقى رهبان ديركلوني إلى بابوات وكرادلة، وكثير من رؤسائه كانوا مستشارين للاباطرة والملوك.

لا شك أنك تعرف البابا جريجوري السابع، وتلميذه البابا أوربان الثاني.

قلت: ومن لا يعرفهما.. إنهما اللذان أطلقا الحروب الصليبية ضد المسلمين.

قال: فقد كان هذان الرجلان من رهبان دير كلوني.

لقد تم في سنة 1122 اختيار رئيس جديد لدير كلوني هو الراهب بيير موريس دي مونتبوسيير، الذي أطلق عليه معاصروه لقب بطرس المكّرم.

وقد أمضى هذا الراهب المحترم سنواته الأولى في تدعيم سلطة الدير ومكانته، وفي سنة 1142 قام برحلة إلى شمال الأندلس لزيارة الأديرة الكلونية في تلك البلاد، وهناك علم من بعض المترجمين بوجود رسالة لنصراني شرقي تدافع عن النصرانية وتهاجم الإسلام مكتوبة باللغة العربية، وعرف منهم مضمونها، فقرر القيام بمشروع ترجمتها وترجمة القرآن الكريم وبعض المصنفات الأخرى إلى اللاتينية بهدف دحض الإسلام والرد عليه.

عاد بطرس المكّرم إلى دير كلوني في فرنسا بعد أن اتفق مع خمسة مترجمين للقيام بالعمل لديه، وبيّن لهم أهدافه من المشروع وأجزل لهم العطاء لتنفيذه.

فتح المؤرخ الكتاب الضخم على جزء من أجزائه، وقال: هذا الجزء على سبيل المثال ترجمة للقرآن إلى اللغة اللاتينية، وهي احدى الترجمات الخمس التي أصبحت تُعرف في أوربا بإسم المجموعة الطليطلية، وقد قام بهذه الترجمة مترجم انجليزي يسمى روبرت أوف كيتون كان قد استقر في برشلونة في الأندلس منذ سنة 1136 وأتقن العربية واهتم بالمؤلفات العربية في علم الفلك والهندسة، وقد عَلِمَ روبرت أوف كيتون من بطرس المكرم أن هدفه تعريف الغرب المسيحي بالإسلام الذي يعتبره هرطقة من الهرطقات الكبرى التي هددت النصرانية، وأن بطرس المكرم ينوي الرد على الإسلام، لذلك قام روبرت أوف كيتون بترجمة ذكية لمعاني القرآن، كان لها تأثيرها الجيد في صياغة العقيدة الغربية الحاقدة تجاه محمد ودين محمد.

سأقرأ عليك بعض ما جاء في مقدمته لتلك الترجمة.. لقد أطلق عليها بذكائه الحاد اسم (تمهيد عن الخرافة الإسلامية المسماة بالقرآن).. اسمع..

أخذ يقرأ من المخطوط بصوت عال، وكأنه تقمص شخصية كاتبها:( أنا كشفت عن شريعة محمد بيديّ، وجلبتها إلى خزينة اللغة الرومانية، الأمر الذي سوف يساعد رسالة المسيح المخلّص على الانتشار وتخليص الجنس البشري من هذا الإثم ـ الإسلام ـ.. ذلك أن دكاترة الكنيسة أهملوا تلك الهرطقه الكبرى ـ يقصد الإسلام ـ لتصل وتصعد إلى شئ ضخم جداً ومفرط لمدة خمسمائة وسبع وثلاثين سنة، لأنها مهلكة وضارة، بسبب أن الزهرة من تلك العقيدة المتعصبة الفاسدة، مجرد غطاء فوق عقرب، تحول دون أن تلفت الأنتباه إليه، وتُحطِّم بالخداع قانون الدين المسيحي)

التفت إلي، وقال: اسمع أنه يقول مخاطباً بطرس المكرَّم:( ولذلك قمت بالعمل معك لما علمت أن نفسك مجتهدة في سبيل كل شيء صالح، وأنك تتوق إلى ردم المستتنقع غير الخصب للعقيدة الإسلامية.. لذلك أنا كشفت عن السُّبل والوسائل ـ بكل جهدي ـ للوصول إلى ذلك.. وهكذا أنا أحضرت الخشب والحجارة اللازمة لعمارتك الجميلة التي يجب أن تنتصب فوق الجميع خالدة، أنا كشفت الغطاء عن دخّان محمد الذي يجب أن يُخمد بواسطة منفاخك)

التفت إلي، وقال: سأضرب لك أمثلة عما قام به هذا الرجل الداهية المخلص:

انظر هنا.. لقد أعطى معنىً غامضاً لخطاب (يا أهل الكتاب) وجعله يبدو في معظم الأحيان وكأنه موجه للمسلمين.. وهو بذلك ـ وبذكاء حاد ـ يحول كل انتقادات القرآن لليهود والمسيحين إلى المسلمين أنفسهم.

فتح صفحات من الكتاب، وقال: انظر هنا.. لقد أضفى على كل الآيات المتعلقة بأحكام الزواج والطلاق معاني جنسية داعرة بحيث تبدو للقارئ الغربي لاسيما الرهبان مثيرة للاشمئزاز والنفور .. انظر ما يقول في الآية 230 من سورة البقرة.. (فإن طلقها فلا تحل له حتى يطأها رجل غيره)[10]

وانظر ما يقول في الآية 220 من سورة البقرة.. (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير، وإن تخالطوهم بأن تمارسوا معهم اللواط)[11]

وانظر ما يقول في الآية 223 من سورة البقرة.. ( نساؤكم حرث لكم فأتوا نساءكم في أدبارهن)[12]

وانظر ما يقول في الآية 50 من سورة الأحزاب.. (يا أيها النبي نحن نجيز لك أزواجك اللائي أتيتهن مهورهن، وجميع إيمائك اللائي أعطاكهن الله، وبنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك، اللائي اتبعنك، وكل امرأة مؤمنة إذا هي ترغب أن تقدّم جسدها أو نفسها للرسول، وإذا الرسول يرغب أن يضطجع معها فليفعل، وهذا خاص لك وليس للمؤمنين الآخرين)[13]

أرسل ضحكة عالية، وقال: أرأيت هذا الذكاء الحاد الذي اتسم به هذا المترجم.. إن هذه الترجمة التي قام بها روبرت أوف كيتون لحساب بطرس المكرم سنة 1143 هي أول ترجمة عرفتها أوربا.. وقد كان لها تأثير خطير على الفهم الأوربي للإسلام حتى القرن الثامن عشر، فقد ظلت تنتشر مخطوطاتها حتى قام عالمان سويسريان بطباعتها في بازل سنة 1543 وعن هذه الترجمة اللاتينية قام أريفابيني الإيطالي بترجمتها إلى الإيطالية سنة 1547 وعن هذه الترجمة الإيطالية قام سالمون اشفجر بترجمتها إلى الألمانية سنة 1616 وعن هذه الترجمة الألمانية تُرجمت إلى الهولندية سنة 1641.

فتح الشيخ النجدي ذلك الكتاب الضخم على جزء آخر منه، وقال: هذه هنا (رسالة النصراني الشرقي)، وهي الأخيرة في المجموعة الطليطلية، وتُعرف باسم (الرسالة الإسلامية والجواب المسيحي).. وقد كانت هذه الرسالة هي سبب المشروع الكلوني جميعه.

إن هذه الرسالة عبارة عن رسالة وجواب على الرسالة.. الرسالة مرسلة من رجل مسلم يُدعى عبدالله بن إسماعيل الهاشمي إلى صديق له مسيحي يدعى عبد المسيح بن إسحاق الكندي.

وقد صيغت رسالة الهاشمي بحيث يبدو قريباً للخليفة المأمون، بينما صيغ الجواب وكأن الكندي يعمل في بلاط الخليفة نفسه.

ابتسم، وقال: من الواضح أن كلا الاسمين مستعاران، وأن كاتب النصين عالم عربي مسيحي عاش في العراق في القرن العاشر الميلادي.. لقد كان هذا الكاتب في منتهى الذكاء والإخلاص.

لقد كلّف بطرس المكرم اثنين من المترجمين بترجمة هذا النص هما بطرس الطليطلي، وبطرس أوف بواتييه.

قلب الشيخ النجدي نظره في المخطوطة، ثم قال: تبدأ رسالة الهاشمي المزعوم بالسلام والرحمة على صديقه المسيحي، زاعماً أن ذلك سنة النبي في مخاطبته للناس بما فيهم المسيحيين، ثم يبدي الهاشمي المزعوم تعبيرات مختلفة من الاحترام لصديقه والإشارة إلى النسب الأصيل للكندي، والإشاده بتقواه وثقافته ومعرفته، ويدعوه إلى اعتناق الإسلام الذي هو دين الحنيفية، دين أبيهما الأول ابراهيم، وهو التوحيد الخالص لله تعالى، ثم يعرض أركان الإسلام الخمسة، والجهاد، ويسهب في ذكر نعيم الجنة لاغراء صديقه النصراني باعتناق الإسلام، وأنه إذا اعتنق الإسلام يمكنه الزواج بأربع زوجات ويطلق متى يشاء ويملك من الجواري ما يشاء، ويحصل على ترقية في بلاط الخليفة، وفي النهاية يعرض على صديقه أن يجيبه بكل صراحة على عرضه وأن يقول ما يحلو له في الدفاع عن دينه ويحثه على التخلي عن عبادة الثالوث.

وقد أجاب الكندي في 140 صفحة، أي أكبر بسبع مرات من رسالة الهاشمي، بحيث يترك جوابه الانطباع لدى القارئ المسيحي أنه نال الغلبة والقهر بالحجة والبرهان.

قلب الشيخ النجدي نظره في الكتاب، ثم قال: يبدأ الكندي المزعوم رسالته بالعرفان بالجميل لصديقه الهاشمي والدعاء للخليفة المأمون، ثم يدافع عن عقيدة الثالوث، ويذكر أن عقيدة الحنيفية التي يدعو إليها الهاشمي التي كان عليها إبراهيم إنما هي عبادة الأصنام، حيث يذكر أن إبراهيم ظل يعبدها لمدة سبعين سنة في حرّان مع آبائه.

وقد رد بأسلوب فلسفي قوي على عقيدة التوحيد.. ثم وجه هجومه على محمد، واتهمه بأنه تطلّع إلى المُلك، ولما كان يعرف أن نفوس قريش تأبى أن يصبح ملكاً عليها ادّعى النبوة للوصول إلى هدفه.

لا يتحدث جواب الكندي عن دعوة محمد في مكة، وإنما ينتقل فجأة إلى المدينة، حيث يذكر أن محمدا اغتصب مربد غلاميين يتيمين، وبنى عليه مسجده، وأنه اصطحب قوماً فراغاً لاعمل لهم وبدأ في شن الغارات وممارسة النهب والسلب وقطع الطريق وإخافة السبيل.

وهو يتهم محمدا أنه أمر باغتيال بعض الآمنين في بيوتهم.. ثم يشير إلى جروح محمد يوم أحد، ويرى أنه لو كان رسولاً لمنعه الله من الضرر، ثم يذكر أن محمدا لم يكن له هم إلا امرأة جميلة يتزوجها.. ويتهمه بالاستخفاف بالله في محاباة زوجاته، ويكرر حديث الإفك عن عائشة.

وبعد ذلك يثير جواب الكندي موضوع النبوة وعلاماتها.. وهذا من أهم أجزاء هذه الرسالة.. وهو يذكر بذكاء حاد أن شروط النبوة لا تتوافر في محمد.. ذلك أن أهم علامات النبوة هي المعجزات، ومحمد لم يأت بشيء منها، وأنه أنكر أنه يستطيع أن يأت بآية كما جاء في القرآن، وأنه لا دليل لدى محمد على رسالته الإلهية..

وهو يذكر أن الإسلام انتشر بحد السيف، وأن نجاح الفتوح الإسلامية ليس دليلاً على إعجاز إلهي، لأنها يمكن أن تكون وسيلة من الله لمعاقبة الناس المذنبين.. وهو يذكر أن المسيحية انتشرت بالتبشير واستشهاد الحواريين، بينما الإسلام انتشر بالقهر والسيف.

وهو يذكر أن لغة القرآن ليست معجزة، ويعتبر لغة الشاعر امرئ القيس أقوى من لغة القرآن.

ويذكر أن الإغراء المادي والوعد بالملذات الحسية في جنة شهوانية هو الذي أغرى العرب المحرومين أن ينضموا إلى الإسلام وجيوشه، وأن جيوش المسلمين كانت مليئة بالمنافقين الذين انضموا إليها طلباً للغنائم.

وهو يهاجم شعائر الإسلام، ويعتبر الحج عملاً من أعمال الوثنية، ويرى أن الجهاد ليس إلا عملا شيطانيا.

وهو يذكر أن محمدا لم يكن يهدف مثلما هدف المسيح إلى أن يخلّص ويهذب الإنسان، وإنما هدف إلى ما هدف إليه الفاتحون الآخرون وهو أن يوسع مملكته.

وهو يذكر أن المسيحية هي الصراط المستقيم المذكور في سورة الفاتحة.

وهو يذكر أن الشرائع ثلاث: شريعة الكمال الإلهي وهي التي جاء بها المسيح، وشريعة العدل وهي التي جاء بها موسى، وشريعة الشيطان وهي التي جاء بها محمد.

وهو يذكر أن محمدا كان يتلقى قرآنه من راهب طُرد من الكنيسة، وذهب إلى إلى تهامة واسمه سرجيوس، وتسمى عند محمد باسم نسطوريوس، وأنه هو الذي كان يسميه محمد جبريل أو الروح القدس.

التفت إلي، وقال: هذه الترجمة الرئيسة في المشروع الكلوني نالت بين قومنا شعبية هائلة، وأصبحت بمثابة انجيل المبشرين والمستشرقين منذ ترجمتها وإلى اليوم، حيث اعتبروها أفضل دفاع عن المسيحية وأقوى هجوم على الإسلام.

وضع الشيخ النجدي الكتاب في الخزانة بلطف، ثم قال ـ وقد أخرج كتابين آخرين ـ: بعد أن انتهى بطرس المكرم من ترجمة هذا المشروع الذكي قام بتأليف ردين على الإسلام هما هذان الردان.. أما الأول فهو (المجمل الكامل عن الهرطقة الإسلامية).. وأما الثاني، فهو (الدحض)، وقد قسمه إلى كتابين، كل كتاب مكون من فصلين وكلاهما كتبه باللاتينية.

التفت إلي، وقال: سأقرأ عليك بعض ما ورد في هذا الرد..

أخذ الشيخ النجدي يقرأ بصوت عال:( إلى هذا الحد الفعلي علّم (محمد) القذر الشرير أتباعه إنكار جميع أسرار الدين المسيحي، وحكم تقريباً على ثلث الجنس البشري بعدم معرفة يوم الدينونة للرب، بواسطة حكايات مجنونه يهذي بما لم يُسمع بمثلها استجابة لأبليس والهلاك السرمدي)

إلى أن يقول:( هكذا كان (محمد) ناشطاً جداً في الشؤون العالمية، وذكيا إلى أبعد حد، هو انبثق من الأصل الوضيع والفقر إلى الغنى والشهرة، ونهض بنفسه إلى أعلى شيئاً فشيئاً، وتكراراً هاجم كل أولئك الذين كانوا بجواره، وكان بشكل بارز يضم إليه الأقرباء بالخداع، والسلب، والغزوات، قاتلاً أي شخص غيلة إن استطاع، هو ازداد رعباً بواسطة اسمه، وفي الوقت المناسب وصل إلى القمة بالنزاعات، ثم بدأ يطمح إلى منصب الملك على شعبه، ولما كان يدرك أنه لا يستطيع أن يحقق هذه الرغبة بسبب أصله الوضيع قرَّر أن يصبح ملكاً عن طريق السيف، وتحت قناع الدين وبواسطة الإسم رسول الله)

قلب صفحات من أحد الكتابين، وأخذ يقرأ:( هكذا عُلِّم محمد من جانب أحسن علماء اللاهوت البارزين، والمتهرطقين، فانتجوا قرآنه، ونسجوا معاً، في ذلك الشكل غير الفصيح، له كتاباً مقدساً شيطانياً، صُنِّف على حد سواء من الخرافات اليهودية والأغاني العابثة للهراطقة، كاذباً أن هذه المجموعة جُلبت إليه سورة وراء سورة بواسطة جبريل، الذي اسمه هو عرفه من الكتاب المقدس في ذلك الوقت، هو أفسد بسم مهلك ذلك الشعب الذي لم يعرف الرب، وفي سلوك هذا المفُسد أن جعل في حواف القدح المملوء بالعسل السم المهلك الذي يتسرب معه، هو ( محمد ) حطَّم، واحسرتاه، الأرواح والأجساد لذلك الشعب البائس، ذلك الرجل، أثنى على الشريعة المسيحية واليهودية، والشرير مع ذلك يقتبس منها ويرفضها في الوقت نفسه)

قلب صفحات من أحد الكتابين، وقال: بعد ذلك يتناول بطرس المكرَّم، الجنة والنار، والتعاليم الأخلاقية ويهاجم التصوير القراني للجنة والنار فيقول:( محمد يصف عذاب جهنم كأنها تسرهُ حتى يصفها، وكأنه كان ملائماً لرسول زائف كبير أن يخترع تلك الأوصاف، وهو يصور جنة ليست من مجتمع ملائكي، ولا من تجلى الرب، ولا من ذلك الخير الأعلى، الذي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. بل في هذه الطريقة هو وصفها مثلما هو رغبها أن تكون معدَّة لنفسه، هو يعد أتباعه هناك بالأكل من اللحم، وكل أنواع الثمرات، هناك أنهار من اللبن والعسل والمياه المتدفقة. هناك العناق والإشباع الشهواني من النساء العذارى الأجمل، فيها أشياء كثيرة، جنته كلها حسية)

ثم يتناول بطرس المكرم تعدد الزوجات في الإسلام باعتباره عملاً من أعمال الزنى.

ثم يعود بطرس المبجل للهجوم البذئ على محمد، فيقول:( وبالإضافة إلى كل هذه الأشياء، هو استطاع أن يجتذب إليه الرغبات الشهوانية للرجال، حيث أطلق لهم الأعنة للنهم والتلوث هو نفسه كان له في ذات الوقت ستة عشر زوجة.. مقترفاً الزنى كأنه شرط بواسطة الأمر الإلهي، وبذلك أضاف إلى نفسه عدداً ضخماً من الناس المحكوم عليهم بالهلاك السرمدي)

التفت إلي، وقال ـ وهو يشير إلى الكتابين ـ: لقد ضم هذان الردان للمشروع الكلوني..

ثم قال معقبا: لقد كان هذا المشروع هو الإنجيل الذي الذي غدا في متناول الرهبان للاعتماد عليه في كتاباتهم العدائية ضد محمد ودين محمد.

فهذا وليم الصوري أسقف صور ـ الذي عاصر الحروب الصليبية حتى عصر صلاح الدين الأيوبي وأرّخ للمملكة الصليبية في بلاد الشام وعلاقتها بالمسلمين ـ بدأ حديثه في تاريخه عن محمد فقال:( في زمن الامبراطور هرقل، وطبقاً للروايات والتواريخ الشرقية حققت معتقدات محمد الضارة موطئ قدم راسخ لها في الشرق، وهذا هو أول أبناء الشيطان المعُلِن بالكذب أنه رسول مرسل من الله، وبذلك أضل بلدان الشرق خصوصاً بلاد العرب، والبذرة السَّامة التي زرعها اخترقت إلى حد بعيد المناطق التي استخدم فيها خلفاؤه السيف والعنف بدلاً من التبشير والنصح، لاجبار الناس، مهما كانوا خاضعين، ليعتنقوا المعتقدات الخاطئة للرسول)

أما جاكيوس دي فتري اسقف عكا الذي شارك في الحملة الصليبية الخامسة 1217ـ1221 فقال:( إن محمداً أخذ جيرانه الذين كان يحسدهم في الخفاء، وذبحهم بغدر)

أما سان بدرو باسكوال وهو راهب إسباني عاش في القرن 13 فقد كتب عدة كتب ضد المسلمين، ومنها كتاب أطلق عليه (الفرقة المحمدية)، قال فيه:( ما الذي جاء به محمد غير الفسوق والسلب، القرآن على حد سواء وبتناقض أمر بالسبب والحرب، والحديث أكدّ هذا، حيث وُعِدَ المسلمون بمكافأة ضخمة من أجل الموت في الحرب، وأن جروحهم سوف تكون جميلة يوم البعث، ذلك أن محمداً أمر بأن الناس من غير المسلمين يجب أن يُقتلوا بواسطة الجهاد، وتُغتصب نساؤهم ويؤخذن سبايا مع الأطفال، وخيراتهم تُنهب وبلادهم تُحتل)

وقد ذكر سان بدرو باسكوال هذا أن محمداً أثنى ذات مرة على آلهة الوثنيين في آيات زعم أن المسلمين يسمونها الآيات الشيطانية.

التفت إلي، وقال: لقد كان هذا القول هو الذي أوحى لأحد زملائنا في هذا المشروع الذي أسسنا من أجله هذه الدار بكتابة روايته (الآيات الشيطانية)، كما أن باسكوال وفندينزو وريكولدو وغيرهم من كتّاب العصور الوسطى كانوا المصدر الرئيس لهذه الرواية.

لقد اخترع سان بدور باسكوال قصصاً وأساطير عجيبة تناول فيها جوانب من سيرة محمد، ونزول الوحي عليه وموقف خديجة..

فمثلاً غزوة بدر يقدمها بهذا الشكل:( اصطحب محمد عصابة من اللصوص، وبعد ذلك سمع أن تجاراً كثيرين من مكة كانوا يقتربون من تلك المدينة من مناطق أخرى في طابور عظيم من البهائم المحملة بالأثقال، هو أختبأ في مكمن مع أصحابه وقتل سبعين من التجار وسائقي البغال من أهل مكة، وأخذ أكثر من سبعين أسيراً، ونهبوا القافلة بالكامل)

وعن قصة نزول الوحي يذكر أن محمدا تلبسَّه الشيطان، ويسب خديجة التي صدقته ويقول مخاطباً محمدا:( في الواقع أنا أقول لك يا محمد إن هذا الذي فعلته ليس نبوة، بل إنك قلت أشياء معينة مثلما تعوَّد العّرافون اليوم أن يقولونها عن طريق استحضار العفاريت بأي أسلوب، فهذا لن يكون مدهشاً لأنه سيوجد عرَّافون كثيرون في العالم يقولون حقائق قليلة وكذب كثير)

ويقول عن وفاة محمد:( إن محمداً عندما أوشك أن يموت حاول أن يعمِّد نفسه ـ أي يتنصَّر ـ لكن الشياطين منعته)

سرنا قليلا في القاعة، فرأينا صورة لرجل مشرقي يلبس ألبسة القرون الوسطى، وقد وضع على رأسه تاج مزين بالصلبان المذهبة، فقلت: أي ملك هذا؟

قال: هذا ملك من ملوك هذه الدار.. إنه يوحنا الدمشقي ( 55 ـ 131هـ / 675 ـ 749 م ) لاشك أنك تعرفه.. فيستحيل أن يدخل هذه الدار أحد لا يعرف يوحنا الدمشقي.. لقد كان من مسيحيي الشام، عاش في العصر الأموي، وتضلع في اللاهوت، وكتب كتباً كثيرة، ومن ضمنها كتاب كتبه باليونانية بعنوان الهرطقات.

لقد أفرد فيه فصلاً عن الإسلام أطلق عليه اسم (هرطقة الأسماعيليين) ويقصد بالإسماعيلين العرب من أبناء اسماعيل بن ابراهيم، وهذا الفصل شديد الطعن، اتهم فيه يوحنا العرب بالهرطقه والضلال والخرافة، واعتبرهم فرقة نصرانية متهرطقة، وزعم أن محمداً كان رسولاً زائفاً ادَّعى النبوة زمن الامبراطور هرقل، بعد أن قرأ العهد القديم والعهد الجديد وتعلّم من راهب أريوسي فتظاهر بالتقوى حتى استمال العرب إليه وأخبرهم أنه تلقى كتاباً من السماء، وقدّم فيه تلك الشرائع المضحكة التي تسمى بالإسلام.

ومما ذكره هذا الرجل ـ وهو دليل من أدلة ذكائه وإخلاصه ـ أن محمدا دخل إلى بيت زينب بنت جحش في غياب زوجها فافتتن، بها وخرج وهو يقول: سبحان مقلب القلوب..

لقد كتب كتابه هذا في بلاد الدولة البيزنطية ( دولة الروم ) واستخدمه الكتّاب البيزنطيون في هجماتهم الفكرية على الإسلام، ثم تُرجم إلى اللاتينية وأسهم في صياغة العقيدة الغربية تجاه الإسلام والمسلمين طوال العصور الوسطى وحتى العصر الحاضر.

سرنا قليلا، فرأينا صورة أخرى، فقال: هذه صورة الراهب الإيطالي (فيدينزو أوف بافيا) الذي جاء إلى بلاد الشام في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي..

لقد كتب هذا الرجل الفاضل وصفاً مختصراً لتشويه صورة محمد عند القراء الغربيين ومما قاله:( إن محمداً جمع حوله عبيداً آبقين، ورجالاً مؤذين مرتشين ومضطهدين للاخرين، من أصناف مختلفة، وعندما أطاعوه وأصبح أميرهم، أرسلهم إلى غابة ذات طرق فرعية وإلى قمم الجبال، وأخذوا يغيرون على الطرق التي يتردد عليها المسافرون، فيسلبون الناس، وينهبون بضائعهم ويقتلون كل من يُبدي مقاومة. وحل الخوف من محمد وأصحابه بجميع الناس الذين يقطنون بتلك البلاد)

وقد كان هذا الراهب أحد الكتّاب الغربيين الذين تلقّفوا القصة المختلقة على محمد مع زينب بنت جحش، والتي اخترعها يوحنا الدمشقي وصاغها بشكل داعر، ومما قاله فيدينزو:( كان هناك رجل معروف يُدعى سايدوس ـ زيد ـ وكان له زوجة تُدعى سيبيب ـ زينب ـ كانت من أجمل النساء الجميلات اللائي عشن على الأرض في أيامها، فسمع محمد بشهرة جمالها، واشتعل بالرغبة فيها، وأراد أن يراها، فجاء إلى منزل المرأة في غياب زوجها، وسأل عن زوجها. هي قالت: يارسول الله، ما ذا تريد، لماذا أنت هنا؟ زوجي ذهب إلى الخارج في العمل، هذا لم يكن مخفياً عن زوجها، هو عندما عاد إلى بيته، قال لزوجته: هل كان رسول الله هنا؟ هي أجابت: هو كان هنا، هو قال هل رأى وجهك؟ هي أجابت: نعم هو رآه، وهو أيضاً سهّرني وقتاً طويلاً، هو قال لها: أنا لا أستطيع أن أعيش معك وقتاً أطول من هذا.. )

نظر إلي، وقال: أرأيت ما أذكاه..

سرنا قليلا، فرأينا صورة أخرى، فقال: هذه صورة الراهب (ريكولدو أوف مونت كروس) المتوفى سنة 1320، وقد جاء إلى عكا سنة 1289 وانتقل منها إلى آسيا الصغرى، ومنها إلى الشرق حيث وصل إلى مراغة في رحلة تبشيرية، ثم جاء إلى الموصل وإلى بغداد. ثم عاد إلى دير مونت كروس.

وقد صنّف هذا الرجل الفاضل عدة كتب يهاجم فيها الإسلام منها كتاب سماه (دحض القرآن).. ومما جاء فيه قوله:( إن الإسلام مجرد خدعة شيطانية ابتدعها الشيطان كي يمهد الطريق لمجئ المسيح الدجّال، وذلك حين شعر الشيطان بعدم قدرته على إيقاف انتشار المسيحية، وأن الوثنيات بدأت تتهاوى أمام المسيحية، وأنه ليس في مقدوره دحض شريعة موسى وانجيل عيسى، فابتدع الشيطان ذلك الدين ليكون وسطاً بين المسيحية واليهودية.. والقرآن ليس قانون الله، نظراً لأن أسلوبه لا يطابق الأسلوب الإلهي، الذي لا يوجد فيه سجع ولا عبارات موزونة كتلك التي جاءت في الكتب المقدسة)

***

ما وصل الشيخ النجدي من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمعت الباب يدق بشدة.. فأصابني رعب شديد.. فقد كانت الدار بكل ما تحمله من تحف وصور ومخطوطات تشبه الديار التي لا تسكنها إلا الأشباح..

أسرع أخي، ففتح الباب، فدخل مجموعة رجال مختلفي المظاهر والمشارب، وكأن كل واحد منهم عالم قائم بذاته.

عرفني بهم أخي واحدا واحدا .. واتفقنا في ذلك المجلس على طريقة تنفيذ المشروع الذي أراد أخي أن يجربه في تلك المدينة..

وقد اتفقوا على اختيار ساحة في المدينة تسمى (ساحة الحرية)، فتحت خصيصا لكل من يريد أن يتكلم ما يشاء، وفيما يشاء.. فلا قمع فيها، ولا ردع.

وقد دعاهم إلى اختيارها ما رأوه من استغلال المسلمين لها لنشر إسلامهم.. وما رأوه كذلك من الإقبال المتزايد للناس على الإسلام فيها، وفي مثلها من المحال.

التفت البابا إلي، وقال: هذه قصة هذه الدار.. أما قصة النفر، وما يرتبط بشبهاتهم من وجوه الردود، فهي موضوع رحلتنا هذه.

 

 



([1])  كقوله تعالى:﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)﴾ (الصافات)، وقوله تعالى:﴿ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)﴾ (الدخان)

([2])  بسبب ما يملكه المبشرون من إمكانات ضخمة أوصلتهم إلى جميع الأماكن التي يريدونها والعمل فيها بكل قوة، وفي المقابل الإمكانات الضعيفة والشحيحة لدى الدعاة المسلمين هذا كله جعل التنصير عامل إعاقة قوي لانتشار الإسلام بين غير المسلمين. فقد توقف انتشار الإسلام في إفريقيا جنوبي الصحراء، فقد كان المسلمون عشرة أضعاف المسيحيين واليوم أصبح المسيحيون أضعاف المسلمين.

وفيما يلي بعض الحقائق عن الجهود التنصيرية وما يتوفر من إمكانات للتنصير في جنوب إفريقيا، وهذا على سبيل المثال لا الحصر:

 1600 مستشفى،   5112 مستوصف،  1050صيدلية،  120 ملجأ للمرضى،  905 دار لإيداع الأيتام والعجزة والأرامل،   88610 كتاب تنصير مطبوعة بعناوين مختلفة ونشر منها مئات الملايين، 24900 مجلة كنسية أسبوعية يوزع منها ملايين النسخ،  700000نشره يوزع منها عشرات الملايين،  2340محطة إذاعية وتلفازية تنشر تعاليم الإنجيل وخدمة التنصير،   120000معهد تنصير،   11000 روضة أطفال تلقنهم فيها التنصير،   112000000 نسخة توزع مجاناً من الإنجيل في العالم،   652 لغة ولهجة إفريقية ترجم لها الإنجيل على كاسيت للأميين.

ومع هذه الجهود الجبارة إلا أن التنصير بين المسلمين فيه صعوبة كبيرة جداً.

انظر:: التنصير طرقة وأساليبه ص(4)

([3])  سر إسلام الأمريكيات، كارول أنوي، ص180.

([4])  ديانات الإنسان، د. هستون سميث.

([5])  الغارة على العالم الإسلامي، ل.شاتلييه.

([6])  عن ( التبشير والاستعمار) د. عمر فروخ ومصطفى الخالدي، ص 148.

([7])  عن ( أمريكا والإسلام ) د.عبد القادر طاش، ص 133.

([8])  انظر مقدمة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

([9]) نريد بالشيخ النجدي هنا الشيطان الذي حضر اجتماع دار الندوة في الوقت الذي خطط فيه المشركون لقتل النبي r ففي الحديث عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: لما أجمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمره r غدوا في اليوم الذي اتعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بتلة فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها، قالوا: من الشيخ؟ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا، قالوا: أجل فادخل فدخل معهم.. الحديث رواه ابن إسحق وغيره.

([10]) يريد بذلك قوله تعالى:﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾ (البقرة: من الآية230)

([11]) يريد بذلك قوله تعالى:﴿ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ )(البقرة: من الآية220)

([12]) يريد بذلك قوله تعالى:﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ )(البقرة: من الآية223)

([13]) يريد بذلك قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الأحزاب:50)