الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: النبي المعصوم

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

ثانيا ـ استبداد

1 ـ احترامه للرعية

المخالطة:

المشاركة:

المواساة:

الخدمة:

2 ـ استشارته للرعية

الناحية التوقيفية:

الناحية الاختيارية:

ثانيا ـ استبداد

في مساء اليوم الثاني.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (نيكولاس إيلمنسكي)[1].. الرجل الذي تقلب في السياسة، وقلبته السياسة.. بوجه متغير حاول بابتسامته الدبلوماسية العريضة أن يخفي تغيره، لكنه لم يطق.

ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟

نظر إليهم بابتسامته العريضة، وقال: طبعا.. هناك نتائج إيجابية.. ولا يمكن إلا أن تكون هناك نتائج إيجابية.. لقد فزت في جميع جولاتي الدبلوماسية، فكيف لا أفوز في هذه.

أطرق قليلا، ثم قال: نعم.. لقد كانت الحرب مستميتة بيني وبين من يدعونه حكيما.. لقد كان مجادلا بارعا، ومحاميا قويا.. ولكن الحق كان معي.. وسيظل معي.. ولا ينبغي أن يكون إلا معي.

ابتدر أخي ليأخذ القرص، ليضعه في القارئ، فقال نيكولاس: أرى أن تتركوا الفرصة لأحدثكم أنا بدل رؤية القرص.. فليس هناك رواية أحسن من رواية الشفاه..

ثم ابتسم لهم، وقال: نعم هذا أسلوب قديم.. ولكني أرى أنه الأفضل.

قال رجل من الجماعة: أرى أن السياسة قد أثرت فيك يا نيكولاس.. فدعنا نسير بالطريقة التي اجتمعنا لنسير عليها.

سكت نيكولاس على مضض.. فابتدر أخي.. ووضع القرص في القارئ.. وبدأ شريط الأحداث:

رأينا نيكولاس يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: هل تعرفون محمدا؟

قال رجل من الجمع: منا من يعرفه.. ومنا من لا يعرفه.. ولكنا نتفق جميعا ـ من يعرفه ومن لا يعرفه ـ في أنا نحب أن نعرفه، أو نستزيد من معرفته.. فإن كان لديك شيء منها، فأنبئنا.. فكلنا آذان صاغية.

قال نيكولاس: هل تعرفون لينين؟

قالوا: أجل.. ولكنه مستبد آثم.

قال نيكولاس: وهل تعرفون فرعون وأتاترك وهتلر؟

قالوا: أجل.. وهم لا يختلفون عن لينين.

قال رجل من الجماعة: نحن نبحث عن محمد.. ونريد أن نعرف محمدا.. ولا حاجة لنا بمعرفة هؤلاء المستبدين الظالمين.

قال نيكولاس: من عرف هؤلاء فقد عرف محمدا.. بل إن محمدا أسوأ منهم.. فإن أحدا منهم لم يقل: إني مستبد يوحي إلي، ولكن محمدا قالها.

هنا ظهر الحكيم بطلعته البهية، ونوره الساطع، وصاح من بعيد: في أي سورة ورد ما ذكرته؟

ثم أضاف: لقد قرأت القرآن.. وربما قرأت الآية خطأ، فالآية تقول:﴿ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾ (الكهف: من الآية110).. وليس في القرآن آية تدعو للاستبداد، أو تحث عليه، أو تشرع له.. بل إنه ليس هناك كتاب في الدنيا يدعو إلى الثورة على الاستبداد كالقرآن.

سكت قليلا، ثم قال: ربما تتصور أن ذلك حديثا.. ليس هناك حديث في الدنيا يحث على الاستبداد أو يشرع له[2].

قال نيكولاس: ربما يكون ما ذكرته صحيحا.. ونحن لا نتحدث عنه هنا.. نحن نبحث في حياة محمد.. وحياة محمد عنوان للاستبداد بجميع أشكاله.. وإلا لما تسنى له أن يقيم أي دولة، أو ينشئ أي مجتمع.

قال الحكيم: لست أدري هل أنت صاحب شبهة تبحث عن التحقيق.. أم أنك صاحب هوى تبحث عن الجدل؟

قال رجل من الجمع: لا.. لا نظنه إلا صاحب شبهة، فإن كان لديك ما يرفعها عنه، فاذكره له.. ونحن هنا لنرى أنصع الحجج.. حجتك أو حجته.. لنتبعها.

قال الحكيم: يسرني ذلك.. ولست أدري هل يرضى صاحبنا بذلك أم لا؟

لم يجد نيكولاس إلا أن يجيب بالإيجاب..

حينذاك قال الحكيم: أليس المستبد هو الذي يحتقر الرعية، ويتكبر عليها، ويستولي على جميع أمورها، بحيث يفرض رأيه على كل أحد، ولا يسمع لأي أحد؟

قالوا: بلى.. هذا هو المستبد.. وكل مظاهر الاستبداد تنطلق من هذا.

قال الحكيم: فإذا أثبت لكم أن محمدا r كان يحترم كل من يحيط به، بل كل من ولي أمره من المسلمين، وأنه فوق ذلك كان يستشيرهم في الصغير والكبير، والحقير والجليل.. هل أكون بذلك قد دفعت شبهته؟

قال الجمع: لا نرى الصواب إلا فيما ذكرت.

التفت الحكيم إلى نيكولاس، وقال: هل تقر بهذا الأصل أم أنك تخالف فيه؟

قال نيكولاس: ليس الشأن في التعرف على الأصول إنما الشأن في إثباتها.

قال الحكيم: فاسمع مني ما يثبتها لك.

 

1 ـ احترامه للرعية

استجمع الحكيم أنفاسه، ثم قال: لو تأملتم حياة جميع الزعماء والقادة والمصلحين وعلاقتهم بمن يحيط بهم لن تجدوا رجلا في سماحة محمد r ولا تواضعه ولا احترامه.

ضحك نيكولاس، وقال: وأستطيع أن أقول في المقابل: لو تأملتم جميع حياة المستبدين والمتكبرين والظالمين، فلن تجدوا رجلا مثل محمد.

قال الحكيم: ما دام كل منا له دعواه.. فليقدم كل واحد منا ما عنده من إثباتات.

قال نيكولاس: حسبي من الإثباتات أنه كان يفرض عليهم أي حكم، فلا يجدون مناصا من تنفيذه.

قال الحكيم: وكل الحكام يفعلون ذلك.. أم ترى أنه يستسلم لأهوائهم لتضع في الدين ما تشاء؟

سكت نيكولاس، فقال الحكيم: أما أنا.. فسأذكر لكم أربعة أدلة تعرفون من خلالها أن محمدا r كان يحترم من ولي عليهم أعظم احترام، ولا يمكن لمن يكون له كل ذلك الاحترام أن تكون فيه ذرة من استبداد.

المخالطة:

قال رجل من الجمع: فما الدليل الأول؟

قال الحكيم: الدليل الأول هو مخالطة النبي r لأصحابه ورعيته وعدم احتجابه عنهم بأي نوع من أنواع الحجاب.. بل إنه كان يعتبر الحجاب نوعا من الاستبداد، لقد قال r يحذر من الاحتجاب عن الرعية:( من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة)[3] 

ومن هذا المنطلق كان أسهل شيء على أي أحد من الناس مقابلة رسول الله r والجلوس معه..

فقد قال الحسن ـ رضي الله عنه ـ يصف رسول الله r:( والله ما كان رسول الله r تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبى الله r لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده)[4]

ووصفه حمزة بن عبيد الله بن عتبة قال: كانت في رسول الله خصال ليست في الجبارين، كان لا يدعوه أحمر، ولا أسود، إلا أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى فيه، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان يركب الحمار عريا، ليس عليه شئ)[5]

وذات مرة لقيه رجل تصور أنه مثل كل القادة والزعماء.. وقد حدثنا حديثه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فذكر أن رسول الله r كلم رجلا فأرعد، فقال: (هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديدة )[6]

وفي حديث آخر عن عبد الله بن بسر، قال: أهديت إلى رسول الله r شاة فجثا على ركبتيه، فأكل، فقال أعرابي: يا رسول الله ما هذه الجلسة؟ فقال:( إن الله عزوجل جعلني عبدا كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا)[7] 

وقد أشفق الصحابة على رسول الله r مما يصيبه من تلك المخالطة، فطلبوا منه أن يتخذوا له محلا خاصا، فأبى، ففي الحديث:  قال العباس ـ رضي الله عنه ـ: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله r:( لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم)[8] 

وكان من تواضعه r أنه لم يكن يتميز بشيء عن سائر الناس حتى أن من الناس من لا يعرفه كما روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: مر النبي r بامرأة تبكي عند قبرٍ فقال: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي! ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي r، فأتت باب النبي r، فلم تجد عنده بوابين[9]، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى[10].

وكان r يسلم على كل من لقيه صغيرا كان أو كبيرا، يعرفه أو لا يعرفه، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أنه مر على صبيان، فسلم عليهم وقال: كان النبي r لى الله عليه وسلم يفعله[11].

وعن هند بن أبي هالة ـ رضي الله تعالى عنه وعن أمه ـ قال: كان رسول الله  r  يبدأ من لقيه بالسلام[12].

وكان r يسير مع أي أحد يعرفه أو لا يعرفه، عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي r، فتنطلق به حيث شاءت[13].

وكان r يركب الحمار كما يركبه سائر العوام، عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله  r  يركب الحمار، ويعود المريض، ويشهد الجنازة، ويأتي دعوة المملوك، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف، على إكاف من ليف[14].

بل كان r يردف خلفه.. وقد ذكر العلماء أسماء من ردفهم النبي r وهم نحو الخمسين أفرد أسماءهم الحافظ أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب ابن الحافظ الكبير ابن عبد الله بن مندة في جزء لطيف وأضيف إليهم غيرهم.

وقد نظم أسماءهم بعضهم فقال:

وإردافه جم غفير فمنهم  علي [15]   وعثمان[16] سويد[17] وجبريل

أسامة[18] والصديق[19] ثم ابن جعفر[20]    وزيد[21] وعبد الله[22] ثم سهيل[23]

معاوية قيس بن سعد[24] صفية[25]         وسبطاه[26] ماذا عنهم سأقول

معاذ[27] أبو الدرد[28] بريدة عقبة         وآمنة إن قام ثم دليل

وأولاد عباس [29] كذا قال شارح     أسامة [30] والدوسي فهو نبيل

كذلك خوات [31] حذيفة سلمة [32]       كريم وأما وجهه فجميل

كذا بنت قيس خولة وابن أكوع           وقدرهم في العالمين جليل

كذالك غلمان ثلاث [33] وزاد أبا     إياس[34] وحسبي الله فهو وكيل

كذلك زيد جابر [35] ثم ثابت           فعن جبهم والله لست أحول

وقد ذيلها بعضهم فقال:

هناك رجال لم يسموا حذيفة                 غفارية [36] فاعلمه ثم أقول

صدي بن عجلان [37] سويد أبو ذر [38]  فذلك حاز الفضل وهو جزيل

كذاك أبو هر[39] رووه فكن له                سميعا رواة النقل ثم عدول

وعقبة بن عامر لم يروا له                     عليك بها يدعى لدي نبيل

وهم أكثر من أن يحصوا ـ كما روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r إذا سافر، وغزا أردف كل يوم رجلا من أصحابه [40].

وكان r يلبس لباسا بسيطا كسائر الناس، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: خرج رسول الله r وقد عقد عباءة بين كتفيه فلقيه أعرابي، فقال: لم لبست هذا يا رسول الله؟ فقال: (ويحك، إنما لبست هذا لأقمع به الكبر)[41]

وكان r يأكل مع كل الناس حتى من عافهم الناس أو خافوا من عدواهم، فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r أخذ بيد مجذوم، فأدخله معه في القصعة، ثم قال له: (كل باسم الله، وثقة بالله، وتوكلا عليه)[42]

وكان r يجيب كل من دعاه، ولأي شيء دعاه، حتى لو كان حقيرا، فعن ابن عباس وأنس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان رسول الله r يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك، زاد أنس: ويقول: (لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت)[43]، وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r يجيب دعوة العبد إلى أي طعام دعا، ويقول: (لو دعيت إلى كراع لأجبت)[44] 

المشاركة:

قال رجل من الجمع: عرفنا الدليل الأول.. وعرفنا قوته.. فما الدليل الثاني؟

قال الحكيم: لم يكن رسول الله r يكتفي بمخالطة الناس مجرد مخالطة ليقتنص ودهم كما يفعل بعض الزعماء والقادة.. وإنما كان يشاركهم في حياتهم وأعمالهم.. بل كان r لرحمته لهم يستأثر بأشقها.

فمن مشاركته لمن كان معه r مشاركتهم في الأعمال التي يقومون بها:

ومما روي في ذلك مشاركته r لهم في بناء المسجد بعد هجرته إلى المدينة المنورة بالرغم من العناء الكبير الذي لاقاه في هجرته، عن الحسن قال: لما قدم النبي r المدينة قال: ابنوا لنا مسجدا، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: عرش كعرش موسى، ابنوا لنا بلبن، فجعلوا يبنون ورسول الله r يعاطيهم اللبن على ما دونه ثوب، وهو يقول: 

اللهم إن العيش عيش الآخرة    فاغفر للانصار والمهاجرة

فمر عمار بن ياسر فجعل النبي r ينفض التراب عن رأسه، ويقول: ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية[45].

وعن يعقوب بن يزيد قال: كان رسول الله  r  يتبع غبار المسجد بجريدة[46].

وفي غزوة الخندق.. بعد أن أحاطت الأحزاب بالمدينة المنورة.. وفي ذلك الموقف الشديد الذي تزلزلت له القلوب.. والذي يكتفي فيه القادة بالجلوس في غرفهم المكيفة للتخطيط وإلقاء الأوامر.. كان النبي r مع أصحابهم يشاركهم في كل صغيرة وكبيرة..

قالت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ: ما نسيت يوم الخندق، وهو يعاطيهم اللبن، وقد اغبر شعره، تعني النبي r [47].

وعن البراء ـ رضي الله عنه ـ قال: لقد رأيت رسول الله r يحمل التراب على ظهره، حتى حال التراب بيني وبينه وإني لانظر إلى بياض بطنه[48].

قال محمد بن عمر: وكان رسول الله r من شدة اجتهاده في العمل يضرب مرة بالمعول ومرة يغرف بالمسحاة التراب، ومرة يحمل التراب في المكتل، وبلغ منه التعب يوما مبلغا فجلس، ثم اتكأ على حجر على شقه الايسر فنام: فقام أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على رأسه ينحيان الناس عنه، أن يمروا به، فينبهوه، ثم استيقظ ووثب فقال: أفلا أفزعتموني! وأخذ الكرزن يضرب به ويقول:

اللهم إن العيش عيش الاخرة  فاغفر للانصار والمهاجرة

اللهم العن عضلا والقارة    فهم كلفوني أنقل الحجارة

وعمل المسلمون في الخندق حتى أحكموه.

بل كان r في هذا الموقف الشديد يتكفل بكل عمل شاق يتوقفون عنده، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن المسلمين عرض لهم في بعض الخندق كدية عظيمة شديدة بيضاء مدورة، لا تأخذ فيها المعاول، فكسرت حديدهم، وشقت عليهم، فشكوا ذلك لرسول الله r وهو في قبة تركية فقال: أنا نازل، ثم قام، وبطنه معصوب بحجر من الجوع، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن دعو به، ثم نضح من ذلك الماء عليها، فيقول من حضرها: والذي بعثه بالحق إنها عادت كالكثيب المهيل ما ترد فأسا ولا مسحاة[49].

ولم يكن r في ذلك الموقف الشديد يكتفي بالعمل فقط.. بل كان يسليهم ويرتجز بما يرتجزون، ويضحك كما يضحكون:

قال ابن إسحاق وابن عمر: وارتجز المسلمون في الخندق برجل يقال له (جعيل) أو جعالة بن سراقة، وكان رجلا دميما صالحا، وكان يعمل في الخندق، فغير رسول الله r اسمه يومئذ فسماه عمرا، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:

سماه من بعد جعيل عمرا  وكان للبائس يوما ظهرا

وجعل رسول الله r لا يقول شيئا من ذلك، إلا إذا قالوا: عمرا، وإذا قالوا: ظهرا، قال: ظهرا.

وعن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: رأيت رسول الله r ينقل التراب يوم الخندق حتى وارى التراب بياض بطنه[50]، وكان كثيف الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات لابن رواحة:

والله لولا ما اهتدينا    ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا    وثبت الاقدام إن لاقينا

والمشركون قد بغوا علينا  إذا أرادوا فتنة أبينا

ورفع بها صوته: أبينا أبينا[51].

وعن سلمان ـ رضي الله عنه ـ: أن رسول الله r ضرب في الخندق وقال:

باسم الاله وبه هدينا  ولو عبدنا غيره شقينا

يا حبذا ربا وحب دينا[52]

وكان r في ذلك الموقف الشديد يدعو الله لهم، ويشجعهم بكل ما أطاق أن يشجعهم به، عن سهل بن سعد وأنس رضي الله عنهما قالا: جاءنا رسول الله r ونحن نحفر في الخندق، وننقل التراب على أكتادنا[53] في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك، فلما رأى ما هم فيه من النصب والجوع قال:( اللهم لا عيش إلا عيش الاخرة، فاغفر للانصار والمهاجرة)، فقالوا مجيبين له:

نحن الذين بايعوا محمدا  على الجهاد ما بقينا أبدا

قال أنس: ويؤتونه بملء كفي شعير، فيصنع لهم بإهالة سنخة[54]، توضع بين يدي القوم، وهم جياع وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتن.

ومما كان يشجعهم به ما روي في الحديث من ضربه على تلك الكدية وما كان فيها من معجزات، فقد ورد في الحديث: فأخذ المعول من سلمان، وقال:( بسم الله)، وضرب ضربة فكسر ثلثها، وبرقت برقة فخرج نور من قبل اليمن فأضاء ما بين لابتي المدينة حتى كأن مصباحا في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله r وقال:( أعطيت مفاتيح اليمن، إني لابصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة، كأنها أنياب الكلاب)، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، وبرق منها برقة فخرج نور من قبل الروم فأضاء ما بين لابتي المدينة فكبر رسول الله r وقال: أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لابصر قصورها الحمر من مكاني الساعة.

ثم ضرب الثالثة، فقطع بقية الحجر وبرق برقة من جهة فارس أضاءت ما بين لابتي المدينة، فكبر رسول الله r وقال:( أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لابصر قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب من مكاني هذا، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا بالنصر.

فاستسر المسلمون، وقالوا: الحمد لله موعد صادق، بأن وعدنا النصر بعد الحصر، وجعل يصف لسلمان، فقال سلمان: صدقت يا رسول الله r، هذه صفته، أشهد أنك رسول الله.

ثم قال رسول الله r:( هذه فتوح يفتحها الله تعالى بعدي يا سلمان، لتفتحن الشام، ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته، وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد، وليفتحن هذا المشرق، ويقتل كسرى فلا يكون كسرى بعده)، قال سلمان: فكل هذا قد رأيت[55].

ومن مشاركته r لأصحابه ـ التي هي رعيته ـ أنه كان يذوق من الجوع ما يذوقون، بل يذوق أعظم مما يذوقون[56]، ففي غزوة الخندق قال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله r الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله r عن حجرين.

وكان r آخر من يأكل إذا ما دعوا إلى أي أكل، فعن أبن عباس ـ رضي الله عنه ـ: أن جابرا رأى رسول الله r يوم الخندق عاصبا بطنه بحجر من الجوع وأنهم لبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا.

قال جابر: فاستأذنت رسول الله r إلى المنزل فأذن لي، فذهبت فقلت لامرأتي: إني رأيت رسول الله r خمصا شديدا، ما في ذلك صبر، فعندك شئ؟ قالت: عندي صاع من شعير وعناق، فأخرجت إناء فيه صاع من شعير، وذبحت العناق، وطحنت الشعير، وجعلنا اللحم في البرمة، فلما انكسر العجين وكادت البرمة أن تنضج وأمسينا، وأراد رسول الله r الانصراف ـ قال: وكنا نعمل نهارا، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهلنا ـ قالت لي: لا تفضحني برسول الله r ومن معه.

فأتيت رسول الله r فساررته فقلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان.

فشبك أصابعه في أصابعي وقال: كم هو؟ فذكرت له، فقال: كثير طيب، لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجئ، وصاح رسول الله r:( يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سورا فحي، هلا بكم)، وصار رسول الله r يقدم الناس، ولقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وقلت: جاء الخلق، والله إنها للفضيحة على صاع من شعير وعناق، فدخلت على امرأتي فقلت: ويحك! جاء النبي r بالمهاجرين والانصار ومن معهم، فقالت: أنت دعوتهم أو هو؟ قلت: بل هو دعاهم، قالت: دعهم، الله ورسوله أعلم، نحن قد أخبرناه بما عندنا، فكشفت عني.

فدخل رسول الله r وقال:( ادخلوا عشرة عشرة، ولا تضاغطوا)، فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك، فقال لنا:( اخبزوا واغرفوا وغطوا البرمة، ثم أخرجوا الخبز من التنور، وغطوا الخبز)، ففعلنا، فجعلنا نغرف ويغطي البرمة، ثم يفتحها فما نراها نقصت شيئا، ويخرج الخبز من التنور، ثم يغطيه فما نراه نقص شيئا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويقرب إلى أصحابه ويقول لهم:( كلوا)

فإذا شبع قوم قاموا، ثم دعا غيرهم حتى أكلوا وهم ألف، وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو، فقال:( كلوا واهدوا، فإن الناس أصابتهم مجاعة شديدة)

فلم نزل نأكل ونهدي يومنا ذلك أجمع، فلما خرج رسول الله r ذهب ذلك[57].

وفي حديث آخر عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع. ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر بي النبي r فتبسم حين رآني، وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم قال: أبا هر قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق ومضى فاتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي فدخلت، فوجد لبناً في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلانٌ - أو فلانةٌ - قال: أبا هر قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهلٍ، ولا مالٍ، ولا على أحدٍ، وكان إذا أتته صدقةٌ بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هديةٌ أرسل إليهم، وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة! كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربةً أتقوى بها، فإذا جاؤوا وأمرني فكنت أنا أعطيهم؛ وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله، صلى الله عليه وسلم بدٌ، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا واستأذنوا، فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت قال: يا أبا هرٍ قلت: لبيك يا رسول الله قال: خذ فأعطهم قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي r، وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: أبا هرٍ قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب فقعدت فشربت، فقال: اشرب فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً! قال: فأرني فأعطيته القدح، فحمد الله تعالى، وسمى وشرب الفضلة[58]. 

المواساة:

قال رجل من الجمع: عرفنا الدليل الثاني.. واقتنعنا به.. فما الدليل الثالث؟

قال الحكيم: لقد كان رسول الله r بالإضافة إلى ذلك كله يتعامل مع من ولي أمرهم تعامل الأصحاب لا تعامل السلطان.. بل كان r يسمي من استظل بظل ولايته صاحبا، حتى لو كان له عدوا.

فإنه لما قال رأس المنافقين ابن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فبلغها زيد بن أرقم  رسول الله r، وجاء ابن أبي يعتذر ويحلف ما قال، فسكت عنه رسول الله r، فأنزل الله تصديق زيد في سورة المنافقين، فأخذ النبي r بأذنه فقال: أبشر فقد صدقك الله، ثم قال: هذا الذي وفى لله بأذنه فقال له: عمر يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه فقال r:( فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)[59]

وهكذا r كان مع سائر الناس.. فقد كان يسير مع كل أحد ليقضي حاجته، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كانت امرأة في عقلها شئ قالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال:( يا أم فلان انظري أي الطرق شئت أقضي لك حاجتك)، فقام معها يناجيها، حتى قضت حاجتها[60].

وفي حديث آخر عنه قال: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجئ فتأخذ بيد رسول الله r، فما ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة الحاجة[61].

وعن عبد الله بن أبى أوفى ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r  يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف، ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي لهما حاجتهما[62].

وعنه قال: كان رسول الله r لا يستنكف أن يمشي مع الضعيف، والأرملة، فيفرغ لهم من حاجاتهم[63].

وقد استدل عدي بن حاتم بهذا السلوك على نبوته r، فقد روي أنه أتى رسول الله r فإذا عنده امرأة وصبيان، أو صبي، فذكر قربهم من النبي r، قال: فعرفت أنه ليس ملك كسرى وقيصر[64].

وكان r يعود مرضى المسلمين، ويهتم بهم، فعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أخبره أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله  r  بمرضها، وكان رسول الله  r  يعود المساكين، ويسأل عنهم[65].

وكان r يجيب أي دعوة لا يهمه ما كانت، ولا ممن كانت:

فعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: إن كان الرجل من أهل العوالي ليدعو رسول الله r نصف الليل على خبز الشعير فيجيبه[66].

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال: لو دعيت إلى ذراع أو كراع لاجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت[67].

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r يجيب دعوه المملوك[68].

بل كان r لا يفرق في إجابة الدعوة بين مسلم وكافر، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن يهوديا دعا رسول الله r إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه[69].

لقد وصف بعضهم سلوك رسول الله r فقال:( وكان r يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره ويجيب دعوة الحر والعبد والامة والمسكين ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر، قال أنس: ما التقم أحد أذن النبي r فينحى رأسه حتى يكون الرجل هو الذى ينحى رأسه، وما أخذه بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخذ.

ولم ير مقدما ركبتيه بين يدى جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم ير قط مادا رجليه بين أصحابه حتى يضيق بهما على أحد يكرم من يدخل عليه وربما بسط له ثوبه ويؤثره بالوسادة التى تحته ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى ويكنى أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه، وروى أنه كان لا يجلس إليه أحد وهو يصلى إلا خفف صلاته وسأله عن حاجته فإذا فرغ عاد إلى صلاته[70]، وكان أكثر الناس تبسما وأطيبهم نفسا ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب، قال عبدالله بن الحارث: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله r )[71]

الخدمة:

قال رجل من الجمع: عرفنا الدليل الثالث.. واقتنعنا به.. فما الدليل الرابع؟

قال الحكيم: لقد كان رسول الله r لا يكتفي بمجرد المشاركة والمواساة ولا الخلطة المجردة عن أي عمل إيجابي.. بل كان فوق ذلك كله، ومع ذلك كله، يبادر لأي خدمة سواء شورك فيها أو لم يشارك، وسواء كانت في بيته أو خارج بيته، لا يسأل على ذلك أجرا ولا شكرا.

عن أنس قال: ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى النبي r يوم ولد، والنبي r في عباءة يهنأ بعيرا له[72].

وقد وصفت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ما كان يصنع r في بيته، فقالت:( كان بشرا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخيط ثوبه، ويخدم نفسه، ويخصف نعله، ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم، ويكون في مهنة أهله، يعني خدمة أهله، فإذا سمع المؤذن خرج إلى الصلاة)[73]

وعنها ـ أيضا ـ قالت: كان رسول الله r يعمل عمل أهل البيت وأكثر ما يعمل للخياطة [74].

وكان خارج بيته في أي شغل أو خدمة يحتاجها المسلمون، لا يستكبر عن أي عمل:

وكان أخطر أعماله وأهمها تعليم الناس، يصبر في ذلك أيما صبر، عن أبي رفاعة تميم بن أسيدٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: انتهيت إلى رسول الله r وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجلٌ غريبٌ جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ فأقبل علي رسول الله r، وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتي بكرسيٍ، فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته، فأتم آخرها[75].

وكان r لا يترك هذه الوظيفة حتى وهو منشغل بحاجاته الأساسية، عن أنسٍ رضي الله عنه أن رسول الله r كان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث قال: وقال: إذا سقطت لقمة أحدكم، فليمط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان وأمر أن تسلت القصعة. قال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة[76].

بل كان r يعلمهم حتى ما يرتبط بحياتهم من معايش، فقد روي أنه مر مرة بغلام  يسلخ شاة، فقال له رسول الله r:( تنح حتى أريك، فإني لا أراك تحسن تسلخ)، فأدخل رسول الله  r  يده بين الجلد واللحم، فدخس بها حتى ترادت إلى الإبط، ثم قال:( يا غلام هكذا فاسلخ)[77]

وكان r إذا نام الناس يشتغل حارسا لهم، فيهب عند كل فزعة،  عن محمد بن الحنفية ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r أشجع الناس، وقال: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله r راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا، ما وجدت من شئ، وقال للفرس: وجدناه بحرا، وإنه لبحر، قال: وكان فرسه بطيئا فيه قطاف فما سبق بعد[78].

وكان r عند الغزو هو الترس الذي يتترسون به، عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله r، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه[79].

وروى عنه أيضا قال: لما كنا يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله r، وكان أشد الناس بأسا يومئذ، وما كان أحد أقرب من المشركين منه.

وعن البراء سأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله r يوم حنين؟ فقال البراء: ولكن رسول الله r لم يفر، كانت هوازن ناسا رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، وأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله r على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)[80]

زعن عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ قال: ما لقي رسول الله r كتيبة إلا كان أول من يضرب[81].

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: هذه بعض الدلائل على ما كان عليه رسول الله r من احترام لرعيته الذين ولي أمرهم.. ولو قعدت أفصل لك ما يدل على هذه الأدلة ما خرجنا من هنا[82].

ثم التفت إلى الجمع، وقال: هل يكفيكم ما ذكرنا من أدلة؟

قال رجل من الجمع: لقد كان يكفينا أقل مما ذكرت.. وقد صدقت، فلم نر زعيما في الدنيا مهما كان متواضعا، يبلغ به تواضعه لمن يتزعم عليهم إلى تلك الدرجة.

2 ـ استشارته للرعية

لم يجد نيكولاس في ذلك الموقف إلا أن قال: لا ينفي ما ذكرته من احترام محمد لمن تولى عليهم كونه مستبدا.. ذلك أن المستبد قد يفعل ذلك من باب كسب القلوب، ثم هو بعد ذلك يمارس ما يمليه عليه استبداده من تصرفات.

قال الحكيم: فما الذي ينفي استبداده؟

قال نيكولاس: رجوعه للرعية واستشارته لها.. وأن لا يبت أمرا إلا بعد استئذانها.

قال الحكيم: كلامك صحيح.. وسأشرح لك وللجمع ما يثبت لك أن محمدا r هو الوحيد الذي استطاع أن يجمع ذلك كله في منتهى كماله.

قال نيكولاس: كيف تقول ذلك.. وهو يملي عليهم الأوامر.. ويزعم أنها تأتيه من السماء.. فلا يملكون إلا تنفيذها.

قال الحكيم: إن في حياة رسول الله r ناحيتين، لكل منهما حكمه الخاص: أما الناحية الأولى.. فهي كونه نبيا يوحى إليه من الله.. وأما الناحية الثانية، فهي كونه بشرا وضع له من حرية الاختيار ما يمكنه من التصرف كما يشاء، أو كما تشاء الحكمة.

لقد أشار إلى هاتين الناحيتين أحد الصحابة، وهو الحباب بن المنذر في غزوة بدر عندما رأى مكانا آخر أهم من المكان الذي اختاره رسول الله r، فذهب.. وهو الجندي البسيط.. إلى رسول الله r، وقال بأدب: يا رسول الله.. أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال r: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم ـ أي جيش المشركين ـ فننزله ونغور ـ نخرب ـ ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا، فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم, فنشرب ولا يشربون.

فأعجب النبي r هذا الاقتراح، ونهض بالجيش إلى أقرب ماء من العدو فنزل عليه, ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار.

أنت ترى أن هذا الرجل الممتلئ أدبا لم يقدم مشورته إلا بعد أن علم أن المسألة من الأمور التي يمكن أن تقدم فيها الآراء المختلفة.

الناحية التوقيفية:

قال نيكولاس: ففي الناحية الأولى لا مجال للشورى إذن؟

قال الحكيم: يمكنك أن تقول ذلك.. ففي هذه الناحية لا يتنازل محمد r عن شيء أمر به.. أو نهي عنه.. بل نهى المؤمنين أن يقفوا موقف الاختيار في هذا الجانب، قال تعالى:﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36)، وقال:﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)

بل إنه حذر من مخالفة أمره، فقال:﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور: من الآية63)

بل إنه نهى أن يتبع محمد r آراء أحد من الناس مقابل الهدي الذي جاء به، قال تعالى:﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)(المائدة: من الآية48)، وقال تعالى:﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49)

قال نيكولاس: فهل تركت هذه النصوص للاستبداد شيئا؟

قال الحكيم: أرأيت لو ذهبت إلى طبيب من الأطباء، هو خبير في ميدانه، فوصف لك شيئا من الأدوية أنت أحوج الناس إليه.. أتراك تجادله في ذلك؟

قال نيكولاس بقوة: نعم قد أجادله.. وقد حصل ذلك كثيرا.. فأنا لست إمعة تحركني الرياح حيث شاءت.

قال الحكيم: ولكنك بعد جدالك له لا تجد إلا أن تسلم له، ثم تتناول الأدوية التي وصفها لك.

سكت نيكولاس، فقال الحكيم: ما ذكرت صحيح.. ولذلك فإن الله برحمته يذكر لنا ـ عند ذكره لأصناف الأدوية الربانية ـ الحكم منها، لتقبل عليها العقول والقلوب عن بينة.. وفي ذلك منتهى الرحمة والحكمة والعدالة.. فالله برحمته لا يفرض علينا فرائضه كما يفرضها الملوك الذين يشتهون التسلط على غيرهم.. بل إن الله يأمرنا بما يرحمنا به، وبما ينفي وصول مضرة لنا.

لقد ذكر القرآن الكريم كثيرا هذا، فقد ذكر مثلا حكمة اعتزال النساء في المحيض وذكر أنها دفع الأذى قال تعالى:﴿ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة:222)

وذكر حكمة تحريم الخمر، وأنه مع ما فيها من المنافع المتوهمة تحوي أضرارا أخطر من منافعها، قال تعالى:﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا )(البقرة: من الآية219)، ثم فصل في ذكر المضار الكثيرة التي استدعت تحريمها، فقال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة:90-91)

وذكر حكمة تحريم الزنا، وأنها فحشه وسوء سبيله، ومفاسد مآله، فقال تعالى:﴿ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) (الاسراء:32)

وذكر حكمة تشريع الزواج وأنها السكن والمودة والرحمة وإعمار الكون، فقال تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21)

قال نيكولاس: ولكن هذه التشريعات تجعل الإنسان في دائرة ضيقة لا تقل عن الدائرة التي يرسمها المستبدون.

ابتسم الحكيم، وقال: حتى ولو لم تتحكم فيه هذه الدائرة التي تتصور ضيقها، فستتحكم فيه دوائر أخرى شاء أم أبى.. حتى الخمر ـ التي تتصور أن تحريمها استبداد ـ لو تحرر أي شخص من استبداد تحريمها، فسيقع في استبداد شربها.. لعلك تعرف الإدمان، وتعرف المخاطر التي يجلبها لصاحبه.

ومع ذلك.. فإن الشريعة التي جاء بها الإسلام تقوم على التوسعة ورفع الحرج ليعيش الإنسان حياته الطبيعية على حسب ما تتطلبه الفطرة السليمة.

ولذلك ترى من قواعد الشريعة هذه القاعدة الذهبية (المشقة تجلب التيسير)، وقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، و(والضرورة تقدر بقدرها )، و( العادة محكمة )

قال نيكولاس: أنا لي رأي في هذه القواعد التي ذكرتها.

قال الحكيم: يسرني سماعه.

قال نيكولاس: أرى أن الفقهاء الذين لاحظوا ضيق الشريعة وتشددها وعدم تناسبها مع الحاجات المختلفة للإنسان هم الذين راحوا ينسخون أحكامها بمثل هذه القواعد، كما فعل بولس عندنا في المسيحية.. أرى أن كلاهما مارس نفس السلوك.

ابتسم الحكيم، وقال: ما كان لفقهائنا أن يفعلوا هذا.. ولن يتركهم أحد لو فعلوه.. إن ما ذكرته لك هو ما دلت عليه النصوص المقدسة من الكتاب والسنة.

لقد قال تعالى يقرر تلك القواعد:﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(المائدة: من الآية6)، وقال تعالى:﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:78)، وقال تعالى:﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:173)، وقال تعالى:﴿ قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام:145)

وبمثل ذلك قال r يقرر تلك القواعد:( ( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة)[83]

فهذا الحديث يقرر قواعد كثيرة توهمت أنت أنها من صنع الفقهاء، فهو يقرر التيسير ( إن الدين يسر ).. ويقرر منع التشدد والمبالغة من غير موجب:( ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ).. ويقرر ملازمة السداد والوسطية، أي الصواب من غير إفراط ولا تفريط: ( فسددوا ).. ويحث على بلوغ الكمال: ( وقاربوا )، أي اعملوا بما يقرب من الأكمل.. زيحث على دوام العمل وزيادته: ( واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة )

وقد كان r ـ الذي تصفه بالاستبداد لا يختار من الأمور إلا أيسرها ـ قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (ما ضرب رسول الله r بيده خادما قط ولا امرأة ولا شيئا إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا انتقم لنفسه من شئ يؤتى به إليه حتى تنتهك محارم الله فيكون هو ينتقم لله عزوجل، ولا خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما حتى يكون إثما فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الاثم)[84]، فهذا الحديث ينص على أن المختار في الشريعة هو التيسير والرفق والتخفيف في الأمور كلها ما لم يكن إثما[85].

سكت الحكيم قليلا، ثم قال: ومع ذلك كله، فإن الدين الذي أمر به محمد r لم يأمر به كما أمر به لينين..

هنا لاحظت وجه نيكولاس، وقد تغير تغيرا شديدا، وكأنه كان يقصده.

قال الحكيم ذلك، ثم التفت إلى نيكولاس، وقال: لعلك تعرفه.. لا أظن إلا أنك تعرفه.. فإن شئت ذكرت لك بعض جرائمه وجرائم إخوانه من الذين تصوروا أنهم رحمة نزلت من السماء لتحمي الإنسان.

لقد وقع حوالي (60-65) مليونا من المسلمين تحت وطأة الثورة البلشفية، وهؤلاء المسلمون ينتشرون على أرض مساحتها أكثر من (15) مليون ميل مربع (أكثر من مساحة إفريقيا).

وبعد أن انتصر الشيوعيون ـ بأفكارهم التي أرادوا فرضها فرضا ـ حصدوا كل من خالفهم من المسلمين حصدا مريعا.. في تركستان الشرقية التي احتلتها الصين سنة (1934م) ـ بمساعدة الجيش الأحمر الروسي ـ قتل (ربع مليون مسلم) من المفكرين والعلماء والشباب.

وعندما قامت الثورة الصينية سنة (1952م) قتلت (122) ألفا من المسلمين.

وفي يوغسلافيا أباد تلميذ لينين المخلص تيتو بعد الحرب العالمية من المسلمين (24) ألفا.

وفي القرم، أبيد سنة (1921م) (مائة ألف)، وهجر (خمسين ألف) في عهد بيلاكون، وكان عدد مساجدها قبل احتلالنا لها زمن كاترينا الثانية (1554) مسجدا، وعدد سكانها (5) ملايين، فما زالت تهجر وتقتل وتنفي إلى سيبريا حتى بقي منهم (3) مليون وبقي من المساجد (700) مسجد.

وعندما ذهب إليها الشيوعيون سنة (1920م) أغلقوا المساجد، وشنوا على أهل القرم حرب التجويع.. لقد نشرت الأزفستيا في (15) يوليو سنة (1922م) تقريرا للرفيق (كالينين) عن مجاعة القرم يقول:( بلغ عدد الذين أصابتهم محنة الجوع في يناير (302090) مات منهم (14413)، وارتفع عددهم في مارس إلى (379000) مات منهم (12574))[86]

وفي سنة (1946م) كان قد بقي من شعب القرم نصف مليون نفاهم ستالين إلى سيبريا[87]. 

وفي القفقاس، بلاد الشيشان والشركس، نفى ستالين إلى سيبريا وأذربيجان جميع الشعبين: (800) ألف من الشيشان، و(300) ألف من شعب كارة شاي و(250) ألفا من شعب كالموك.

ولم يبق في جمهورية الشيشان كلها مسجد واحد.. لقد هدموا المساجد وحولوها إلى اصطبلات ودور للسينما ومراكز للحزب ودور للترفيه ونوادي..

أما المساجد الباقية في المناطق الأخرى، فقد أجبرت على أن تدفع ضرائب للدولة، فمسجد لينين جراد الباقي للسياحة، يدفع عنه المسلمون ضريبة سنوية قيمتها (24 ألف) روبل.

وفي تركستان الغربية كان مجموع ما قتل من المسلمين فيها(6) ملايين مسلم سنة (1919م)، هرب منها مليونان ونصف، وسنة (1934م) قتل مائة ألف مسلم.. وفي سنة (1937-1939م) أعدم ونفي إلى سيبريا نصف مليون مسلم.. وفي سنة (1934م) نفي منها 9300 ألف مسلم.. وفي سنة (1950م) قتل منها (7) آلاف مسلم.. وفي سنة (1932-1934م) مات جوعا 3 ملايين مسلم، أخذت محاصيلهم وقدمت إلى الصين.. وفي سنة (1951م) اعتقل منهم (13565) مسلما.. وفوق هذا ثبت بالإحصائيات الروسية أن ستالين قتل وحده 11مليونا من المسلمين [88].

قارن هذا مع الطريقة التي دعا بها محمد r إلى دينه، والحرية التي أتاحها في تقبله، لقد قال الله تعالى موضحا دور الرسول r:﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾ (الغاشية)

إن هذه الآيات الكريمة تبين دور الرسول r ودور كل مسلم في نشره لدينه ودعوته إليه.. إن دوره قاصر على التذكير والتنيبه والموعظة.. أما ما عدا ذلك فلله، فالله هو الهادي وهو المحاسب وهو المعاقب.. فهو وحده رب الدين.

لقد قال الله تعالى يبين للمسلمين أسلوب نشر الحقائق التي لا ينبغي أن تكون محل اختيار:﴿  ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ (النحل:125)

فالآية تأمر المؤمن بأن يقدم رأيه مدعما بما يراه من أدلة، ثم يترك الحرية للآخر بالاقتناع بقوله أو عدم الاقتناع.

سأنقل لك نموذجا عن أسلوب رسول الله r في الدعوة إلى الدين الذي جاء به لتقارن بين استبداد المستبدين وجدلهم وبين سلام رسول الله r وحكمته وعدله..

حدث جابر بن عبد اللّه ـ رضي الله عنه ـ قال: اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد: فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد اللّه؟ فسكت رسول اللّه r، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول اللّه r فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى يسمع قولك، إنا واللّه ما رأينا سِخَلَةً قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا وشتّت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، واللّه ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، حتى نتفانى، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً )، فقال رسول اللّه r:( فرغت؟)، قال:( نعم)، فقال رسول اللّه r:﴿ بسم اللّه الرحمن الرحيم حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ (فصلت:2) حتى بلغ:﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ (فصلت:13)، فأمسك عتبة على فيه، وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله[89].

ليس ذلك فقط.. فالقرآن يخاطب المخالفين ليقول لهم بعد مناقشة طويلة في الأدلة على وحدانية الله:﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ (سـبأ:24)

فهو في حواره مع المخالفين يعتبرهم مع المسلمين سواء في الهداية أو الضلال، ثم يضيف على الفور في تنازل كبير:﴿ قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (سـبأ:24)، فيجعل اختياره هو بمرتبة الإجرام على الرغم من أنه هو الصواب، ولا يصف اختيار الخصم بغير مجرد العمل.

أما عن سلوكه r مع المخالفين.. بل مع من لا يكتفون بالمخالفة المجردة، بل يضيفون إليها تدبير المكايد لحرب الإسلام، مما يعتبر في عصرنا خيانة عظمى، فسأذكر لك ثلاثة نماذج مختلفة عنها، لترى كيف كان r متسامحا.. ولا يمكن أن يكون المستبد متسامحا.

أما النموذج الأول، فهو تعامله r مع المنافقين، ونختار للدلالة على ذلك رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول، قد كان عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وإليه يجتمعون، وكان في محل بحيث يخاف أي زعيم من أن ينقلب عليه.. فعندما قدم النبي r المدينة وعبد الله بن أبي سيد أهلها لا يختلف عليه اثنان، لم يجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره حتى جاء الإسلام.

بل كان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه، ثم يملكوه عليهم، فجاءهم الله عز وجل برسوله r وهم على ذلك فما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن، ورأى أن رسول الله r قد استلبه ملكا.. فلما أن رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن.

وهو الذي أطلق تهديده في غزوة بني المصطلق، فقال:﴿  لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ )(المنافقون: من الآية8)[90] 

وهو الذي نزلت فيه سورة كاملة تبين خصال المنافقين ومواقفهم.. ومع ذلك، فإن النبي r لم يقدم على قتله، ولا اغتياله كما يفعل ذلك كل الزعماء بمختلف الأساليب.

لقد جاءه جمع من الناس يطلبون أن يقتلوه لخيانته.. لكنه لم يأذن لواحد منهم.

قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: لما كان من أمر ابن أبي ما كان جئت رسول الله r وهو في فئ شجرة عنده غلام أسود يغمز ظهره، فقلت: يا رسول الله كأنك تشتكي ظهرك! فقال: تقحمت بي الناقة الليلة، فقلت: يا رسول الله ائذن لي أن أضرب عنق ابن أبي، فقال رسول الله r:( أو كنت فاعلا؟) قلت: نعم والذي بعثك بالحق.

فقال رسول الله r:( إذن لارعدت له آنف بيثرب كثيرة، لو أمرتهم بقتله قتلوه، قلت: يا رسول الله فمر محمد بن مسلمة يقتله، قال: لا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي)

بل إن ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي تقدم طالبا أن يقتل أباه إن أمر بذلك رسول الله r، فقد جاء إلى رسول الله r فقال:( يا رسول الله، إن كنت تريد أن تقتل أبي فيما بلغك عنه فمرني به، فوالله لاحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، والله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالديه مني، وما أكل طعاما منذ كذا وكذا من الدهر ولا شرب شرابا إلا بيدي، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأدخل النار.. وعفوك أفضل، ومنك أعظم)

فقال رسول الله r:( يا عبد الله ما أردت قتله ولا أمرت به، ولنحسنن له صحبته ما كان بين أظهرنا)

ولم يكتف هذا الابن المؤمن بهذا، بل عجل بعد ما أطلق أبوه تهديده، فأناخ بجامع طرق المدينة ودخل الناس حتى جاء أبوه عبد الله بن أبي فقال: وراءك، فقال: مالك ويلك؟ قال: والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله r ليعلمن اليوم من الأعز من الأذل.

 فرجع حتى لقي رسول الله r، فشكا إليه ما صنع ابنه، فأرسل إليه النبي r أن خل عنه حتى يدخل ففعل.

وعندما حضرت هذا المنافق الخائن الموت دخل عليه رسول الله r، فجرى بينهما كلام، فقال له عبد الله بن أبي: قد أفقه ما تقول، ولكن من علي اليوم وكفني بقميصك هذا وصل علي.. فكفنه رسول الله r بقميصه وصلى عليه[91].

وفي ذلك نزل قوله تعالى:﴿ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة:84)

التفت إلى نيكولاس، وقال: أنت ترى أن الآية لم تأمر بشيء مما يأمر به المستبدون.. لقد اكتفت بذكر الأحكام الشرعية التعبدية المحضة.. والتي يتصور هؤلاء أنها لا تضرهم ولا تنفعهم.

بل إن النبي r في هذه النواحي الأخروية تعامل معهم برحمة لا نظير لها، فقد روي أنه لما نزل قوله تعالى فيهم:﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:80) قال النبي r:( أسمع ربي قد رخص لي فيهم، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم)[92] 

وحينذاك  نزل قوله تعالى:﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (المنافقون:6)

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: هل ترى هذا المنطق، وهذه النفس الطاهرة نفس مستبد؟

سكت نيكولاس، وقد تغير وجهه تغيرا شديدا، فقال الحكيم: أما النموذج الثاني، فهم اليهود.. ولاشك أنك تعرف اليهود، وتعرف ما أصابهم من إخوانك المسيحيين في جميع فترات التاريخ..

أما مع محمد r، فقد أتيح لهم من الحرية ما لم يكونوا يحلمون به، فلذلك راحوا يفعلون ما يحلوا لهم، ويقولون ما يحلو لا يخشون في ذلك لومة لائم[93].

لقد روى المفسرون بأسانيدهم في تفسير قوله تعالى:﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (آل عمران:181) أن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ دخل بيت المدراس بعد نزول قوله تعالى:﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة:245)، فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء، وكان من علمائهم وأحبارهم.

فقال أبو بكر: ويلك يا فنحاص: اتق الله عز وجل وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة.

فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا.

فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك أي عدو الله.

فذهب فنحاض إلى رسول الله  r  فقال: يا محمد، انظر ما فعل بي صاحبك.

فقال رسول الله  r  لأبي بكر:( ما حملك على ما صنعت؟)، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما.. إنه زعم أن الله عز وجل فقير، وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه.

فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك.

فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ:﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (آل عمران:181)، ونزل في أبي بكر الصديق، وما بلغه في ذلك في الغضب:﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران:186)[94]

ورووا في تفسير قوله تعالى:﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (الأنعام:91) أن رجلا من اليهود ـ يقال له مالك بن الضيف ـ جاء ومعه جماعة فخاصموا النبي r، وقالوا له: يا أبا القاسم، ألا تأتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا؟

فأنزل الله عز وجل:﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً﴾  (النساء:153)، فقال له النبي r:( أنشدك الله بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟) وكان حبرا سمينا.. فغضب، وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ.

فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا على موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ، فأنزل الله تعالى الآية[95].

التفت إلى نيكولاس، وقال: ها أنت ترى أن كل ما كان يجري بين محمد r هو مجرد محاورات.. وبالرغم من سلاطة لسانهم، وبالرغم من قدرته r على استئصالهم في أي لحظة، لكنه لم يفعلوا إلى أن وصل الأمر إلى الحد الذي لا يصبر عنه.. لأن الصبر عنه سيؤدي إلى زوال الأمة التي أسسها محمد r [96].

سكت قليلا، ثم قال: أما النموذج الثالث، فهو تعامله r مع من وقع في أخطاء كبرى من أصحابه، مما يعتبر في عصرنا خيانة عظمى.

ونختار لذلك نموذج حاطب بن أبي بلتعة.. وقصة ما وقع من خيانته حدثنا بها علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال: بعثني رسول الله r وأبا مرثد والزبير  وكلنا فارس، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله  r، فقلنا: الكتاب؟ فقالت: ما معنا من كتاب، فأنخناها، فالتمسنا، فلم نر كتاباً، فقلنا: ما كذب رسول الله  r ؛ لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزتها  وهى محتجزة بكساء، فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله  r فقال عمر: يا رسول الله ؛ قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال النبي  r: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله r، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال r: صدق، ولا تقولوا إلا خيراً. فقال عمر: إنه قد خان الله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال: أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة  ـ أو: فقد غفرت لكم ـ فدمعت عينا عمر وقال:( الله ورسوله أعلم)[97]

التفت إلى دوج، وقال: هل ترى أن المستبد يمكن أن يقف مثل هذا الموقف.

إن المستبد يقتل بمجرد الظنة والاتهام، وأنت ترى أن محمدا r مع كونه نبيا يوحى إليه لم يستدعه حتى ثبت له في الواقع وبالدليل القطعي ما صنعه.

والمستبد لا يترك الفرصة لمن يتهمه، وأنت ترى محمدا r كيف استمع له.

والمستبد أسرع الناس إلى السيف، وأنت ترى محمدا r كيف عفا عنه.

والمستبد ينكر كل جميل قدم له، وأنت ترى أن محمدا r كيف لم ينس فضل حاطب ـ مع خيانته ـ في موقفه من غزوة بدر.

وهكذا.. فهذه المواقف التي هي مجرد نماذج تحيل أن يكون في محمد r ذرة مما في نفوس المستبدين.

الناحية الاختيارية:

قال رجل من الجمع: وعينا هذه الناحية، وأدركنا مدى العدالة التي تحويها.. وأدركنا السر الذي دعا إلى عدم استشارتنا فيها.. وأدركنا مدى الحرية التي أعطيت لنا خلالها.. فحدثنا عن الناحية الثانية.

قال الحكيم: لقد نص القرآن الكريم على وجوب الشورى في هذه الناحية، وأمر بها، فقال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى:38).. لقد قرن الله تعالى الشورى في هذه الآيات بأمور كلها واجبة، بل كلها من أصول الواجبات، كالصلاة والزكاة والاستجابة لله.

بل إن الله تعالى في هذه الآية الكريمة فصل بين الصلاة والزكاة مع أن العادة هي الجمع بينهما، وقد فصل بينهما بالأمر بالشورى، لأنه لا يمكن أن تؤدى الزكاة أو أي شيء له علاقة بالمجتمع إلا بعد الشورى، حتى يمحص المحتاج من غير المحتاج.

قال نيكولاس: نحن لا نتحدث عن الإسلام.. بل نتحدث عن سلوك محمد.. فقد يأمر أحد من الناس غيره بالشورى من غير أن يمارسها.

قال الحكيم: إن كان هناك أحد في الدنيا يمكن وصفه بأنه أكثر الناس استشارة لغيره، فلن يكون ذلك إلا محمد r..

فمع أن الله أغناه بما يوحى إليه[98] إلا أنه كان يشاور في الصغير والكبير تنفيذا لما دعاه الله إليه في قوله تعالى:﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ )(آل عمران: من الآية159) الامر) الاية (آل عمران 159).

وقد ذكر أبو هريرة  ـ رضي الله عنه ـ كثرة استشارة النبي r لأصحابه، فقال: ما رأيت من الناس أحدا أكثر مشورة لاصحابه من رسول الله r [99].

بل إنه كان يستشيره حتى في شؤونه الخاصة، فقد روي أن قيصر أهدى لرسول الله  r  جبة من سندس، فاستشار أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فقالا: يا رسول الله، نرى أن تلبسها، يكبت الله بها عدوك، ويسر المسلمين، فلبسها، وصعد المنبر فخطب وكان جميلا يتلألأ وجهه فيها، ثم نزل فخلعها، فلما قدم عليه جعفر وهبها له.

أما في الشؤون العامة، فلم يترك الشورى في أي موقف من المواقف.. بل إنه كان يتوجه بطلب الشورى للناس جميعا لا لمجلس معين، ولا لناس مخصوصين.. وفوق ذلك يتنازل في أحيان كثيرة لما يراه غيره مع مخالفته لرأيه.

ففي غزوة بدر، وهي أول معركة يخوضها النبي r ضد المشركين تجلت الشورى بأعمق صورها وفي جميع مجالاتها.

ففي البداية استشارهم r في دخول المعركة، وعدم دخولها [100].. ثم استشارهم في المحل الذي ينزلون فيه.. ثم استشارهم فيما نتج عن المعركة من الأسرى:

أما الأول، فقد روي أنه لما علم r بخبر مسير قريش، ليمنعوا عيرهم، استشار الناس، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، وكان منهم أبو بكر الذي قام، فقال فأحسن.

ثم قام عمر بن الخطاب فقال: إنها قريش وعزها، والله ما ذلت منذ عزت ولا أمنت منذ كفرت، والله لتقابلنك، فأهب لذلك أهبته، وأعد لذلك عدته.

ثم قام المقداد بن الاسود، ققال: يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله ما نقول لك كما قال قوم موسى لموسى:﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)(المائدة: من الآية24)، ولكن اذهب أنت ربك، فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، عن يمينك وشمالك، وبين يديك وخلفك، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه.

وقد كان بإمكان رسول الله r أن يكتفي بهذا.. فقد سكت الجميع بعد أن تكلم هؤلاء، وحصل بسكوتهم الإجماع السكوتي، وهو إجماع معتبر عند الجميع، لكن النبي r لم يكتف به، بل راح يستشيرهم، ففهمت الانصار أنه يعنيهم، فقام سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا رسول الله، كأنك تعرض بنا.

وكان r إنما يعنيهم لانهم بايعوه على أن يمنعوه من الاحمر والاسود في ديارهم، فاستشارهم ليعلم ما عندهم، فقال سعد: يا رسول الله قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض لما أردت، ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الانصار ترى عليها ألا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لامرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان[101] لنسيرن معك، والله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقي عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقربه عينك، ولعلك خرجت لأمر فأحدث الله غيره، فسر بنا على بركة الله، فنحن عن يمينك وشمالك، وبين يديك وخلفك، ولا نكونن كالذين قالوا لموسى:﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)(المائدة: من الآية24)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون)

فأشرق وجه رسول الله r، وسر بقول سعد، وحين رأى r موافقة الجميع، أعلن بدء الحرب، فقال:( سيروا على بركة الله، وأبشروا، فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم)[102]

انتفض نيكولاس قائلا: ولكن.. ألم تسمع بأن هناك مخالفين رغبوا في العير، ولم يرغبوا في النفير.

قال الحكيم: صدقت.. لقد ذكرهم أبو أيوب، فقال: لما سرنا يوما أو يومين قال لنا رسول الله r:( ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟)، فقلنا: والله ما لنا طاقة بقتال القوم، ولكن أردنا العير، ثم قال: ما ترون في قتال القوم؟ فقلنا مثل ذلك، وذكر الحديث فأنزل الله تعالى:﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) (لأنفال:5)[103]

قال نيكولاس: فكيف سار محمد إذن وخالف ما ذهب إليه هؤلاء؟

قال الحكيم: إن رسول الله r لم يفرض على أي أحد من الناس الخروج.. حتى هؤلاء الذين لم يعجبهم ذلك، لم يقهرهم رسول الله r عليه.. ولم يقل لهم بعد أن وافقت الأغلبية العظمى على الخروج: اخرجوا معي.. بل ترك لهم حرية الاختيار.. ولم يفعل ذلك في ذلك الوضع الصعب غير محمد r.

قال رجل من الجمع: عرفنا استشارته للخروج للمعركة، فكيف استشارهم في خطتها؟

قال الحكيم: عندما ارتحل رسول الله  r  وحل بمكان ظن أنه المكان المناسب، جاءه رجل من عامة المسلمين، هو الحباب بن المنذر، وقال بأدب: يا رسول الله.. أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال r: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم ـ أي جيش المشركين ـ فننزله ونغور ـ نخرب ـ ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا، فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم, فنشرب ولا يشربون.

فأعجب النبي r هذا الاقتراح، ونهض بالجيش إلى أقرب ماء من العدو فنزل عليه, ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار.

قال رجل من الجمع: لقد سبق أن ذكرت هذا.. فكيف استشارهم فيما نتج عن الغزوة؟

قال الحكيم: أنتم تعلمون أن الله نصر المسلمين في غزوة بدر، وقد كان من مظاهر انتصار المسلمين في تلك الغزوة أن الله أمكنهم من كثير من أعدائهم الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب.. وكان في إمكان محمد r لو كان يفكر تفكير مستبد أن يبت فيهم بأمره، أو أن يقتلهم ليشفي غليله منهم، ولكنه لم يفعل.. بل استشار المسلمين في شأنهم..

روي أنه لما جئ بالأسرى استشار رسول الله  r  الناس، فقال: ما ترون في هؤلاء الأسرى؟ إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس.

فقال أبو بكر: يا رسول الله أهلك وقومك، قد أعطاك الله الظفر ونصرك عليهم، هؤلاء بنو العم والعشيرة والاخوان استبقهم، وإني أرى أن تأخذ الفداء منهم، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم بك، فيكونوا لك عضدا.

فقال رسول الله r:( ما تقول يا بن الخطاب؟)

فقال عمر: يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر، فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان  أخيه  حتى يضرب عنقه، حتى ليعلم الله تعالى أنه ليست في قلوبنا مودة للمشركين، هؤلاء صناديد قريش وأئمتهم وقادتهم فاضرب أعناقهم، ما أرى أن يكون لك أسرى، فإنما نحن راعون مؤلفون.

وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا.

فدخل رسول الله r البيت، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج فقال:( إن الله تعالى ليلين قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله تعالى ليشد قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة، ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم قال:﴿ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(ابراهيم: من الآية36)، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى بن مريم إذ قال:﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:118)، ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل ينزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله تعالى، ومثلك في الأنبياء مثل نوح إذ قال:﴿ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً)(نوح: من الآية26)، ومثلك في الأنبياء مثل موسى، إذ قال:﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ)(يونس: من الآية88)، لو اتفقتما ما خالفتكما، أنتم عالة فلا يفلتن منكم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق)

فقال عبد الله بن مسعود: يا رسول الله إلا سهيل ابن بيضاء، فإني سمعته يذكر الاسلام، فسكت رسول الله  r  فقال عبد الله: فما رأيتني في يوم أخاف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله r:( إلا سهيل بن بيضاء)

فلما كان من الغد غدا عمر إلى رسول الله r، فإذا رسول الله r  وأبو بكر، وهما يبكيان، فقال: يارسول الله ما يبكيكما؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله r:( إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة) لشجرة قريبة منه، وأنزل الله تعالى:﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لأنفال:67)[104]

بل قد ورد في الحديث أن النبي r استشار من الصحابة بعدد الأسرى، فعن علي قال: قال رسول الله r في أسارى يوم بدر: (إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء، واستشهد منكم بعدتهم)، قال: فكان آخر السبعين ثابت بن قيس، قتل يوم اليمامة[105].

سكت قليلا، ثم قال: وفي غزوة أحد شاور النبي r أصحابه، ونزل عن رأيه إلى رأى أكثريتهم، مخالفا لرأيه، مع أنهم تنازلوا بعد ذلك عما ذهب إليه من رأي مراعاة لرأي رسول الله r.

فقد روي أنه لما قصد أبو سفيان وأصحابه المدينة يريدون حرب رسول الله r، قال رسول الله r لأصحابه: (إني رأيت في المنام سيفي ذا الفقار انكسر، وهي مصيبة[106]، ورأيت بقرا تذبح، وهي مصيبة، ورأيت علي درعا وهي مدينتكم لا يصلون إليها، إن شاء الله تعالى)[107]

وبعد أن قص عليهم ما رأى من الرؤيا قال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، ونجعل النساء والذرية في الآطام، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم في الأزقة فنحن أعلم بها منهم، ورموا من فوق الصياصي والآطام)، وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن.

وكان هذا الذي ذكره رسول الله r رأي الاكابر من المهاجرين والأنصار، وكان عبد الله بن أبي المنافق يرى رأي رسول الله r.

لكن جماعة من المسلمين غالبهم أحداث لم يشهدوا بدرا، وطلبوا الشهادة وأحبوا لقاء العدو، وأكرمهم الله تعالى بالشهادة يوم أحد قالوا: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم، فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله أقم بالمدينة، ولا تخرج، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم الصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.

فقال حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك في طائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل، فظفرك الله تعالى عليهم، ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله تعالى به، فساقه الله تعالى إلينا في ساحتنا.

وقال إياس بن أوس بن عتيك: نحن بنو عبد الأشهل، إنا لنرجو أن نكون البقر المذبح.

وقال غيره: هي إحدى الحسنيين: الظفر أو الشهادة، والله لا تطمع العرب في أن تدخل علينا منازلنا.

وقال حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة.. وكان يوم الجمعة صائما ويوم السبت صائما.

وقال النعمان بن مالك: يا رسول الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها، فقال رسول الله r:( لمه؟) قال: لأني أحب الله تعالى ورسوله، ولا أفر يوم الزحف، فقال رسول الله r:( صدقت)[108]

وحث مالك بن سنان الخدري وإياس بن عتيك وجماعة على الخروج للقتال.

فلما رأى r رغبتهم في القتال خارج المدينة، صلى r الجمعة بالناس ـ وكان ذلك اليوم يوم جمعة ـ ثم وعظهم، وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، ففرح الناس بالشخوص إلى عدوهم، وكره ذلك المخرج بشر كثير.

ثم صلى رسول الله r العصر بالناس وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ورفعوا النساء في الآطام.

ودخل رسول الله r بيته ومعه أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فعمماه وألبساه، وقد صف الناس له بين حجرته إلى منبره، ينتظرون خروج رسول الله r، فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، فقالا للناس: استكرهتم رسول الله r، وقلتم له ما قلتم، والوحي ينزل عليه من السماء، فردوا الأمر إليه، فما أمركم به فافعلوه، وما رأيتم له فيه هوى ورأيا فأطيعوه.

فبينما هم على ذلك إذ خرج رسول الله r وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطه بمنطقة من حمائل سيف من أدم، واعتم، وتقلد السيف.

وندم الناس على إكراهه، فقالوا: يا رسول الله استكرهنا، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد، فقال رسول الله r:( قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذ لبس لامته أن يضعها، حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه.. انظروا ما أمركم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله تعالى، فلكم النصر ما صبرتم)[109]

التفت الحكيم إلى نيكولاس، وقال: ها أنت ترى رسول الله r كيف يتنازل في هذا الأمر الخطير إلى رأي أصحابه مع يقينه بما لرأيه من مصداقية.

بل إنك ترى كيف أنه ـ مع تنازلهم عن آرائهم لرأيه ـ لم يتحين الفرصة، فيمضي رأيه.

سكت قليلا، ثم قال: وفي غزوة الأحزاب تلك الغزوة التي تعرض فيها المسلمون إلى أخطر ما تعرضوا له.. فقد كادت الأحزاب تستأصلهم.. أراد رسول الله r مصالحة غطفان لما بلغه نقض بني قريظة العهد.

وقد أرسل ـ لأجل ذلك ـ إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان، فلما جاءا في عشرة من قومهما قال لهما رسول الله r:( أرأيتما إن جعلت لكما ثلث تمر المدينة أترجعان بمن معكما، وتخذلان بين الأعراب؟)، فقالا: تعطينا نصف تمر المدينة، فأبى رسول الله r أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك، فأحضر رسول الله r الصحيفة والدواة، وأحضر عثمان بن عفان، فأعطاه الصحيفة، وهو يريد أن يكتب الصلح بينهما، وعباد بن بشر قائم على رأس رسول الله r، مقنع في الحديد، فأقبل أسيد بن حضير إلى رسول الله r، ومعه الرمح، ولا يدري بما كان من الكلام، فلما جاء إلى رسول الله r، وعيينة بن حصن ماد رجليه بين يدي رسول الله r، وعلم ما يريدون قال: يا عين الهجرس اقبض رجليك، أتمدهما بين يدي رسول الله r؟ والله لولا رسول الله r لقتلتك بهذا الرمح!

ثم أقبل على رسول الله r، فقال: يا رسول الله إن كان أمرا من السماء فامض له، وإن كان غير ذلك، فوالله لا نعطيهم إلا السيف، متى طمعوا بهذا منا؟

فسكت رسول الله r، فدعا سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فاستشارهما في ذلك وهو متكئ عليهما، والقوم جلوس، فتكلم بكلام يخفيه، وأخبرهما الخبر.

فقالا: يا رسول الله، إن كان الأمر من السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر به ولك فيه هوى فامض له سمعا وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف.

وأخذ سعد بن معاذ الكتاب، فقال رسول الله r:( إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما)

فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله تعالى ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة واحدة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله تعالى بالاسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا!؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم.

فقال رسول الله r: أنت وذاك.

فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا[110].

 

سكت قليلا، ثم قال: وفي حصاره الطائف.. وبعد أن مضت خمس عشرة من حصارها، استشار رسول الله r نوفل بن معاوية الديلي، فقال:( يا نوفل ما ترى في المقام عليهم)، فقال: يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك[111].

وقد أخذ رسول الله r برأيه، ومر الناس بالرجوع.

قال ذلك، ثم التفت إلى نيكولاس، وقال: ها أنت ترى أن محمدا r لا يبت أمرا من أمور الحرب، والتي هي أخطر الأمور، إلا استشار فيه، بل يتنازل عن رأيه لما يراه غيره.. فهل يمكن لمستبد أن يفعل مثل هذا؟

سكت قليلا، ثم قال: لم يقتصر الأمر على الحرب.. بل تعداه إلى غيرها مما له علاقة بالدين نفسه.

لا شك أنك تعرف الأذان الذي يؤذن به المسلمون لصلاتهم.

قال نيكولاس: أجل.. وكيف لا أعرفه.. وهو لا يزال يدفع الناس إلى الدين دفعا!؟

قال الحكيم: فهذا الأذان كان من بركات استشارة رسول الله r لأصحابه، فقد روي[112] أن رسول الله r حين قدم المدينة كان يجمع للصلاة حين مواقيتها بغير دعوة، فلما كثر الناس اهتم النبي r كيف يجمع الناس للصلاة؟ فاستشار الناس.

وكان من المقترحات التي اقترحت عليه أن قيل له: انصب راية عند حضور الصلاة إذا رأوها أعلم بعضهم بعضا.

وكان منها القنع [113] ( يعني شبور اليهود)[114]، فلم يعجبه ذلك وقال:( هو من أمر اليهود)

وكان منها الناقوس فقال:( هو من أمر النصارى)

وكان منها أن قالوا: لو رفعنا نارا، فقال:( ذلك للمجوس)

فقال عمر: أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله r:( يا بلال قم فناد بالصلاة)

فانصرف عبد الله بن زيد، وهو مهتم لما اهتم له رسول الله r، فأري الأذان في منامه، قال: طاف بي وأنا نائم رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده فقلت له: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قلت: بلى، فقال: تقول:( الله أكبر، الله أكبر،  أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمد رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)

قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: تقول إذا أقيمت الصلاة: الله اكبر، الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.

فلما أصبحت أتيت رسول الله r فأخبرته بما رأيت، ولولا أن يقول الناس، لقلت إني كنت يقظانا غير نائم.

وقد أري نفس الرؤيا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ولكنه قال: إذا أصبحت أخبرت رسول الله r، وأما الأنصاري فطرق رسول الله r ليلا، فأخبره.

فقال رسول الله r:( إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى)، ثم قال له:( لقد أراك الله خيرا، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت)، وفي رواية:( فمر بلالا فليؤذن، فإنه أندى منك صوتا) فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به.

فسمع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فخرج يجر رداءه وهو يقول:( والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل الذي رأى)[115]

هنا انتفض نيكولاس، وكأنه وجد فريسة يريد أن يصطادها، وقال: على ذكر عمر.. لقد سمعت بما لهذا الرجل مما تسمونه موافقات، وأنا أسميه تأسيسات، فالرجل كان يملي على نبيكم ما يفعله.

ابتسم الحكيم، وقال: عجبا لكم.. عجبا لكم.. لقد كنت قبل حين تتهم محمدا بالاستبداد، وأنه يملي عليهم، فلا يجدون إلا أن ينفذوا ما يملى عليهم.

قال نيكولاس: فاعتبرني مخطئا في ذلك، وأجبني عن هذه الشبهة[116].

قال الحكيم: إن ما روي من موافقات عمر ـ رضي الله عنه ـ لا يدل إلا على شيء واحد.

قال نيكولاس: هو ما قصدته لك من اشتراكه مع محمد في تأسيس الدين.

قال الحكيم: لا.. إنه يدل على أنه تلميذ نجيب استوعب الدروس التي يلقيها عليه أستاذه محمد r، فراح بما له من فطرة نقية، وذكاء حاد، وإدراك لمقاصد الإسلام يتحدث بما يعتبر سبقا، وليس في الحقيقة إلا نتيجة لمقدمات عرفها من الإسلام.

قال نيكولاس: لم أفهم ما تقصد.

قال الحكيم: ألا ترى الأستاذ العبقري الذي يقدم لتلاميذه جميع المقدمات العلمية التي يحتاجونها يتيح لهم بعد ذلك الفرصة ليستنتجوا من المقدمات ما يرونه من نتائج؟

قال نيكولاس: ذلك صحيح.

قال الحكيم: فهذا هو التفسير الوحيد لتلك الموافقات.. فهي لا تدل إلا على العبقرية التي كان يمارس بها محمد r وظيفته التعليمية[117].

سكت قليلا، ثم قال: سأذكر لك بعض النماذج عن تلك الموافقات لترى انسجامها مع ما ذكرته لك.. وهي بعد ذلك من الأدلة التي تنقض ما رميت به نبينا من استبداد.

من تلك الموافقات، قوله: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت:﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً ﴾(البقرة: من الآية125)

أتدري ما الدرس الذي حفظه عمر ـ رضي الله عنه ـ والذي جعله ينطق بهذا قبل أن ينزل حكمه.

قال نيكولاس: ما هو؟

قال الحكيم: لقد علم ارتباط المناسك الشرعية بآثار الخليل إبراهيم u.. فكل مناسك الحج مرتبطة به من الصفا والمروة وعرفة والطواف بالبيت وغيرها.. ثم رأى أن المقام خال من أي شعيرة، فلذلك ذكر هذا.. وكان ما ذكره عين ما كان سينزل على رسول الله r.. فعمر هو الذي وافق الله.. لا الله هو الذي وافق عمر[118].

سكت قليلا، ثم قال: ومن تلك الموافقات قوله: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب.

أتدري ما الدرس الذي حفظه عمر ـ رضي الله عنه ـ والذي جعله ينطق بهذا؟

سكت نيكولاس، فقال الحكيم: لقد رأى عمر ـ رضي الله عنه ـ حرص الإسلام على العفاف، وعلى تحصين المجتمع من كل ما يقرب من الفواحش، فلذلك ذكر هذا، ووافق به ما أتى به الحكم الشرعي.

أو أن المجتمع ترقى إلى أن يتقبل هذا الحكم الشرعي، فتنزل هذا الحكم، فالأحكام الشرعية تراعي التدرج حرصا على عدم التشديد الذي قد يؤدي إلى النفور.

قال نيكولاس: لقد وعيت هذا، وتقبلته، ولكن ألا ترى نبيكم يستشير الرجل فقط، ولا يعتبر النساء.. ألستم تقولون:( شاوروهن وخالفوهن)[119]؟

ابتسم الحكيم، وقال: إن كان أحد من الناس قال هذا، فإن محمدا r لم يقله.. وكيف يقوله، وهو الذي لم يفرق بين رجل وامرأة في أي شيء؟

وكيف يقوله، وقد كان r يستشيرهن، ويقبل مشورتهن، ففى (الحديبية ) شاور أم سلمة في امتناع أصحابه عن التحلل من إحرامهم بعد الصلح، فقد عز عليهم ذلك بعد نية العمرة، فأشارت عليه أم سلمة أن يخرج إليهم، ويتحلل من إحرامه أمامهم دون أن يتكلم، فما أن رأوه فعل ذلك، حتى بادروا إلى الاقتداء به.

سكت نيكولاس، فقال الحكيم: وأزيدك شيئا ـ قد لا يستطيع عقلك أن يهضمه، ولكني أقوله لتعرف شمول الشورى التي كان يمارسها رسول الله r ـ فقد روي في الحديث أن رسول الله  r  قال:( إن الله سبحانه تعالى أرسل إلي ملكا من الملائكة حجزته تساوي الكعبة، ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل عليه السلام، فقال: (السلام عليك يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، أنا رسول ربك إليك، أمرني أن أخيرك: إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا)، فنطرت إلى  جبريل عليه السلام كالمستشير، فأشار إلي جبريل بيده، أن تواضع، فقلت، (بل نبيا عبدا، يا عائشة لو قلت: نبيا ملكا، ثم شئت لسارت معي الجبال ذهبا)، قالت عائشة: وكان رسول الله  r  بعد ذلك يأكل متكئا ويقول: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد)[120] 

ومثل ذلك ما روي في معراجه من قبوله لما اقترحه موسى u من أمر الصلاة.

بعد أن لم يجد نيكولاس ما يعترض به على الشورى التي كان يمارسها رسول الله r في جمع المجالات راح يقول: ولكن ممارسة الشورى وحدها لا تنفي الاستبداد، فقد يشاور المستبد مستبدين مثله، فيمارس من خلالهم ما تهواه نفسه من الاستبداد.

قال الحكيم: صدقت في هذا.. جزاك الله خيرا..

كان لهذا الدعاء تأثيره الشديد في نفس نيكولاس الذي أشرق وجهه بعد أن كان كالحا.

واصل الحكيم حديثه يقول: نعم.. لقد ذكر القرآن الكريم أن المستبدين قد يتخذون وزراء يعينونهم على استبدادهم.. وقد ذكر القرآن من نماذج ذلك فرعون الذي قال له ملؤه الذين كانوا مستشاريه:﴿ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ )(لأعراف: من الآية127)

قال نيكولاس: فأنت توافقني فيما أقول إذن؟

قال الحكيم: لو وافقتك حقائق التاريخ لوافقتك.. فهلم جميعا نسأل التاريخ عن موقف رسول الله r من العدالة التي هي نقيض الاستبداد[121].

لقد ذكر رسول الله r سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أتدري من أولهم؟

سكت نيكولاس، فقال الحكيم: لقد ذكره رسول الله r فقال:( إمامٌ عادلٌ)، وذكر r (أن المقسطين عند الله على منابر من نورٍ: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)[122]، فأنت ترى رسول الله r كيف يعمم معنى العدالة لتشمل كل شيء.

وأخبر r أن أهل الجنة ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ مقسطٌ موفقٌ، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلمٍ، وعفيفٌ متعففٌ ذو عيالٍ[123].

فهل يمكن لنبي يدعو إلى مثل هذا، ويأمر بمثل هذا أن يجور!؟

سكت نيكولاس، فقال الحكيم: شيء آخر كان يفعله r كثيرا، وهو دليل من دلائل انتقاض ما ترميه به من استبداد، وهو تخييره r لرعيته بين الاحتمالات المختلفة، ثم قبول ما تختاره منها، أو يترك لكل شخص ما اختاره منها.

وسأقتصر لك من التاريخ مثلين أختم بهما:

أما الأول، فهو أنه r لما غنم غنائم بني النضير دعا ثابت بن قيس بن شماس، فقال: ادع لي قومك، قال ثابت: الخزرج يا رسول الله؟ قال رسول الله r:( الانصار كلها)، فدعا له الأوس والخزرج، فتكلم رسول الله r، فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الانصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وإيثارهم على أنفسهم، ثم قال:( إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله تعالى علي بن بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم)

فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ـ رضي الله عنهما ـ وجزاهما خيرا، فقالا:( يا رسول الله بل تقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا)

ونادت الانصار ـ رضي الله عنهم وجزاهم خيرا ـ: رضينا وسلمنا يا رسول الله.

فقال رسول الله r:( اللهم ارحم الانصار، وأبناء الانصار)[124]

وقد نزل في ذلك قوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:9)

أما النموذج الثاني فإنه بعد غزوة هوازن، وبعد أن أراد رسول الله r أن يرد السبي إلى أهله عرض على الناس المسألة، وخيرهم في ذلك، فعن المسور ومروان: أن رسول الله r قام في المسلمين، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:( أما بعد فان إخوانكم قد جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أراد عليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول فئ يفيئه الله علينا فليفعل)، فقال الناس: قد طبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم رسول الله r:( إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم)، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم[125].

قال ابن إسحاق: وقال رسول الله r:( أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم)، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لله ولرسوله، وقالت الانصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله.

فقال الاقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا.

وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا.

وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنوا سليم فلا.

فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله r، فقال العباس بن مرداس: وهنتموني، فقال رسول الله r:( من كان عنده منهن شئ فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك، ومن أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فئ يفيئه الله)، فرد المسلمون الى الناس نساءهم وأبناهم، ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن فإنه أخذ عجوزا فأبى أن يردها.

***

بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (نيكولاس إيلمنسكي) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..

التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.

أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



([1]) أشير به إلى (نيكولاس إيلمنسكي)( ق 20 م )، وهو مبشر روسي، رسم سياسة تنصيرية للتتار بجذبهم إلى المسيحية عن طريق الدمج الديني والثقافي، فكان يهدف إلى (تنشئة نخبة مثقفة من المواطنين يعتنقون المذهب الأرثوذوكسي لكن ثقافتهم تترية ويستخدمون اللغة التترية القازانية المكتوبة بالأحرف الروسية)، وقد ارتد عن الإسلام بفعل هذه السياسة في عهد ألسكندر الثاني قرابة مائة ألف (000. 100 ) مسلم والتحقوا بطائفة كرياشن (ألكسندر بينيغسن وشانتال لوميرييه كيلكجاي: المسلمون المنسيون في الاتحاد السوفييتي - ص 27، ونجيب العقيقي: المستشرقون: ص 26 )

([2]) لدينا رسالة خاصة بالاستبداد، اسمها (أوتاد الاستبداد)، أو (حوار مع الطواغيت)، وفيها رد مفصل على موقف الإسلام من الاستبداد بأنواعه.

([3])رواه أبو داود، والترمذي.

([4]) رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر ـ وقال: هذا حديث مرسل ـ وقد جاء معناه في الأحاديث المسندة.

([5]) رواه ابن سعد.

([6]) رواه ابن ماجه.

([7]) رواه ابن ماجه.

([8]) رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.

([9]) ولا يعارض هذا بما ورد في بعض النصوص من الاستئذان عليه r كما

([10]) رواه البخاري ومسلم.

([11]) رواه البخاري ومسلم.

([12]) رواه الترمذي  وصححه  والبيهقي.

([13]) رواه البخاري.

([14]) رواه الترمذي.

([15])كما روي عرفة بن الحارث قال: شهدت رسول الله r في حجة الوداع، وأتي بالبدن فقال: (ادعوا لي أبا الحسن)، فدعى علي ـ رضي الله عنه ـ فقال: خذ بأسفل الحربة، وأخذ رسول الله r بأعلاها، فطعن بها البدن، فلما فرغ ركب البغلة، وأردف عليا ـ رضي الله عنه ـ.

وروى عن عمرو بن رافع المزني قال: رأيت رسول الله r يخطب بعد الظهر على بغلة، ورديفه علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ.

([16])كما روى ابن مندة عن خالد الزياد عمن أخبره أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه تلقى رسول الله r بالروحاء عند مقدمه من بدر فأخرج رسول الله r رجله من غرز الركاب، وقال لعثمان: (اركب فردفه)، فنفخ عثمان، فقال رسول الله r: (اسكت)، قال يوسف البهلول أحد رواته أي اسكت، فإن الله تعالى زوجك أختها.

([17]) هو الشريد بن سويد الثقفي أبو عمرو رضي الله تعالى عنه، كما روى البخاري في الأدب عنه قال: أردفني رسول الله r فقال: (أما تروي لأمية بن أبي الصلت) قلت: بلى قال: (هيه).

([18]) هو أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ كما روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله r أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلة مردفا أسامة بن زيد وذكر الحديث.

وروى أحمد والشيخان عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r ركب على حمار عليه إكاف تحته قطيفة فركبه، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود عبادة بن الصامت في بني الحارص من الخزرج - الحديث.

([19])كما روى أحمد والبخاري عن محمد بن يحيى بن عمر وابن أبي شيبة عن أنس قال: أقبل رسول الله r إلى المدينة، وهو مردف أبا بكر فذكر حديث الهجرة.

([20]) هو عبد الله بن جعفر ـ رضي الله عنه ـ كما روى أحمد، ومسلم وأبو داود، وابن ماجه عنه قال: أردفني رسول الله r ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثا، لا أحدث به أحدا من الناس.

([21]) هو زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما قال: خرج رسول الله r وهو مردفني إلى نصب من الأنصاب وركب رسول الله r  ناقته، وهو مردفني خلفه، فلما كان بأعلى مكة لقيه زيد بن عمرو بن نفيل فذكر الحديث.

([22]) هو  عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ عن أبي مليكة أن ابن الزبير قال لعبد الله بن جعفر ـ رضي الله عنه ـ: أتذكر يوم تلقانا رسول الله r  فحملني وتركك.

([23]) هو سهيل بن بيضاء ـ رضي الله عنه ـ كما روي أحمد والطبراني في الكبير، وابن أبي شيبة، وابن مندة، وعبد بن حميد وابن حبان عنه قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله r، وأنا رديفه فقال رسول الله r: (يا سهيل بن بيضاء) ورفع صوته مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يجيبه سهيل، فسمع الناس صوت رسول الله r فظنوا أنه يريدهم فحبس من كان يسن يديه، ولحقه من كان خلفه حتى إذا اجتمعوا قال رسول الله r: (إنه من شهد أن لا إله إلا الله حرمه الله عزوجل على النار، ووجبت له الجنة)

([24]) هو قيس بن سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ قال: أتى النبي r دار سعد فقام على بابها فسلم فرد سعد وخافت، ثم سلم فرد سعد وخافت، ثم سلم فرد سعد وخافت، فلما رأى رسول الله r ذلك انصرف راجعا، وخرج سعد يسعى في أثره، فقال: بأيي أنت وأمي يا رسول الله، ما منعني أن أرد عليك إلا لتكثر لنا من السلام، فأدخل يا رسول الله فدخل فوضع له ماء يستبرد به، فاغتسل، ثم جلس فقال: (اللهم صلي على الأنصار، وعلى ذرية الأنصار، وعلى ذرية ذرية الأنصار)، فلما أراد أن يرجع أتي بحمار وجعلت عليه قطيفة - ما هي بخز - وقرام عربي فأرسل ابنه معه ليرد الحمار، قال: (احمله بين يدى)، فقال: سبحان الله يا نبي الله أحمله بين يديك؟ قال: (نعم، هو أحق بصدر حماره)، قال: هو لك يا رسول الله قال: (احمله إذا خلفي).

([25]) هي صفية بنت حييي ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي r روى عن أنس قال: إقبلنا من خيبر، وأقبل رسول الله r بصفية بنت حييي قد حازها، وكنت أراه يجري، وأراه بعباءة، أو بكساء، ثم يردفها.

وروي عنه: أنه كان مع رسول الله r هو وأصحابه فعثرت برسول الله r ناقته وصفية رديفة رسول الله r، فوثب أبو طلحة فقال: (أضررت؟ فقال: (لا)، عليك بالمرأة)، قال: فألقيت على وجهي ثوبا، فألقيته عليها.

([26]) روى ابن أبي شيبة، وابن مندة عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله r إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل بيته، وأنه قدم من سفر فسبق بي إليه، فحملني بين يديه ثم جئ بأحد ابني فاطمة، فأردفه خلفه فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة.

وروى مسدد عن مورق عن مولى لهم أن رسول الله r قدم من سفره فاستقبله عبد الله بن جعفر، والحسين بن علي، فحمل أكبرهما خلفه، وحمل أصغرهما بين يديه.

([27]) هو معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ كما روى البزار بسند رجاله ثقات عن أبي هريرة، وأحمد، والشيخان عن أنس، وأحمد، والشيخان، والترمذي عن معاذ ـ رضي الله عنه ـ أن معاذا كان ردف رسول الله r على حمار يقال له عفير، ليس بينه، وبينه شئ إلا مؤخرة الرحل، فقال: (يا معاذ) فقال: لبيك يا رسول الله r وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: (يا معاذ بن جبل): قال لبيك يا رسول الله، وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: (يا معاذ بن جبل): فقال: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: هل تدري ما حق الله تعالى على العباد؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن حق الله عز وجل على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا)، ثم سار ساعة ثم قال: (يا معلذ بن جبل) قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: (هل تدري ما حق العباد على الله؟) قال: الله أعلم قال: (حق العباد على الله عز وجل ألا يعذبهم) قال: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: (لا تبشرهم فيتكلوا)، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما.

([28]) هو أبو الدرداء عويمر بن مالك، قال: كنت ردف رسول الله r فقال: (يا أبا الدرداء، من شهد إن لا إله إلا الله مخلصا وجبت له الجنة).

([29]) هم: الفضل بن العباس ـ رضي الله عنه ـ كما روى أحمد عن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال: لما كان في حجة الوداع قام رسول الله r وهو مردف الفضل بن العباس، فقال: (يا أيها الناس خذوا مني العلم، قبل أن يقبض العلم، أو قبل أن يرفع العلم)

وروى الأئمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: مان الفضل بن العباس رديف رسول الله r فجاءته امرأة من خثعم الحديث.

وعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ كما روى أحمد قال: أردفه رسول الله r على دابته، فلما استوى عليها كبر رسول الله r ثلاثا، وحمد ثلاثا، وسبح ثلاثا، وهلل الله تعالى واحدة.

وقثم بن عباس  ـ رضي الله عنه ـ كما روى أحمد، والشيخان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أتى رسول الله r، وقد حمل قثما بين يديه، والفضل خلفه، وروى ابن المبارك في الزهد عن عكرمة قال: ركب رسول الله r دابة وأركب قثما بين يديه وأردف الفضل خلفه.

وعبيد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت رديف رسول الله r وأتله رجل فقال: يا رسول الله أن أمه عجوز كبيرة إن حرمها خشى أن يقتلها، وإن حملها لم تستمسك فأمره رسول الله r أن يحج عنها.

([30]) هو أسامة بن عمير الهذلي رضي الله تعالى عنه، روى الطبراني، برجال الصحيح، عنه قال: كنت رديف رسول الله r، فعثر بعيرنا فقلت: تعس الشيطان فقال: (لا تقل تعس الشيطان، فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت، ويقول: بقوتي صرعته ولكن قل: باسم الله، فإنه يصير مثل الذباب).

([31]) هو خوات بن جبير الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ، قال ابن منده: كان ردف رسول الله r لما خرج إلى بدر، فرده من الروحاء لأنه اشتكى.

([32]) هو سلمة بن عمرو بن وهب بن سنان، وهو الأكوع الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: أردفني رسول الله r على ناقته حتى دخلنا المدينة.

وروى الطبراني، برجال ثقات، عن سلمة رضي الله تعالى عنه قال: أردفني رسول الله r مرارا، ومسح رأسي مرارا، واستغفر لي، ولذريتي عدد ما بيدي من الأصابع.

([33]) منهم غلام من بني عبد المطلب، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما قدم رسول الله r مكة يوم الفتح استقبله غلامان من بني عبد المطلب، فحمل أحدهما بين يديه والآخر خلفه.

([34]) كما روى ابن منده، والحارث بن أبي أسامة رضي الله تعالى عنه قال: كنت ردف رسول الله r فقال: (قل)، فقلت: ما أقول؟ فقال: (قل هو الله أحد) حتى ختمها، وقال: (قل أعوذ برب الفلق) وقال: (قل أعوذ برب الناس) ثم قال: (يا أبا إياس ما قرأ الناس بمثلهن).

([35]) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ـ رضي الله عنه ـ روى عنه قال: أردفني رسول الله r خلفه، فجعلت فمي على خاتم النبوة، فجعل ينفخ علي مسكا، ولقد حفظت منه تلك الليلة سبعين حديثا، ما سمعها أحد معي.

([36]) هي امرأة من بني غفار ـ رضي الله عنها ـ كما روى أحمد وأبو داود عنها رضي الله تعالى عنها قالت: أردفني رسول الله r على حقيبة رحله، فوالله لا نزل رسول الله r إلى الصبح فأناخ وتوليت من حقيبة رحله وإذا بها دم، وكانت أول حيضة حضتها قالت: فتقبضت إلى الناقة، واستحيت، فلما رأى رسول الله r ما بي ورأى الدم، قال: (لعلك نفست؟) قلت: نعم، قال: (فأصلحي من شأنك، ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمر كبك)، قالت: فلما فتح رسول الله r خيبر وهب لنا من الفئ.

([37]) هو أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: كنت ردف النبي r، وقال: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث، الولد للفراش وللعاهر الحجر، وحسابهم على الله عز وجل).

([38]) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: ركب رسول الله  r  حمارا وأردفني خلفه رواه أحمد ومسلم.

([39]) كما ذكر المحب الطبري في سيرته أن رسول الله r ركب حمارا عربا إلى قباء، وأبو هريرة معه، فقال: (يا أبا هريرة أحملك؟) فقال: ما شئت يا رسول الله، قال: (اركب)، فوثب أبو هريرة ليركب فلم يقدر، فاستمسك، برسول الله r، فوقعا جميعا، ثم ركب رسول الله r، ثم قال: (يا أبا هريرة أحملك؟) فقال: ما شئت يا رسول الله، قال: (اركب)، فوثب أبو هريرة ليركب، فلم يقدر أبو هريرة على ذلك، وتعلق برسول الله r فوقعا جميعا، ثم قال: (يا أبا هريرة أحملك؟)، فقال: لا، والذي بعثك بالحق نبيا، لا أرميك ثلاثا.

([40]) رواه أحمد والبخاري وأبو يعلى.

([41]) رواه ابن عدي.

([42]) رواه أبو داود والترمذي.

([43]) رواه أبو الشيخ، وابن سعد.

([44]) رواه الخطيب في الرواية عن مالك.

([45]) رواه ابن عساكر.

([46]) رواه ابن أبي شيبة.

([47]) رواه أحمد برجال الصحيح وأبو يعلى.

 

([48]) رواه محمد بن عمر.

([49]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([50])وفي لفظ: حتى أغمر بطنه، أو قال اغبر بطنه، وفي لفظ: حتى وارى الغبار جلده.

([51]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([52]) رواه البيهقي.

([53])  جمع كتد، وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفي لفظ: أكتافنا، وفي لفظ عن متوننا.

([54]) الاهالة: الودكة، والسنخة: المتغيرة الريح الفاسدة الطعم.

([55]) سبق تخريج الحديث بتفاصيله، وانظر رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.

([56]) سنرى تفاصيل ذلك في محلها.

([57]) رواه اليخاري ومسلم، وانظر تفاصيل أكثر في (معجزات حسية)

([58]) رواه البخاري.

([59]) رواه ابن إسحق وغيره.

([60]) رواه أحمد ومسلم.

([61]) رواه أبو بكر بن أبي شيبة.

([62]) رواه الدارمي.

([63]) رواه الخرائطي.

([64]) رواه البخاري في الأدب، وروي عبد بن حميد عن عدي بن حاتم قال: أتينا رسول الله r، وهو جالس في المسجد فقال القوم: هذا عدي، وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلما دفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي قال: فقام معي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا: لنا إليك حاجة، فقام معهما، حتى قضى حاجتهما.

([65]) رواه أبو ذر الهروي في دلائله.

([66]) رواه الطبراني، ورواه مسدد مرسلا برجال ثقات.

([67]) رواه البخاري.

([68]) رواه ابن ماجه.

([69]) رواه أحمد وابن سعد وابن شيبة.

([70])كما روي عن أنس بن مالك أن نبي الله r قال: أني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فاسمع بكاء الصبي فاتجوز في صلاتي مما اعلم من شدة وجد أمه من بكائه.

([71]) انظر: عيون الأثر: 2/423.

([72]) رواه أبو داود.

([73]) رواه البخاري ومسلم.

([74]) رواه ابن سعد.

([75]) رواه مسلم.

([76]) رواه مسلم.

([77]) رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، وقاسم بن ثابت، والطبراني عن أبي سعيد وغيره من الصحابة.

([78]) رواه ابن سعد، وهذا من جملة معجزاته r كونه ركب فرسا قطوفا بطيئا فعاد بحرا لا يسابق، ولا يجارى.

([79]) رواه أحمد، وابن ماجه.

([80]) رواه ابن أبي شيبة.

([81]) رواه أبو الشيخ.

([82]) سنرى أدلة أوفر على هذا في سائر السلسلة.

([83]) رواه البخاري.

([84]) رواه أحمد وعبد بن حميد وابن عساكر.

([85]) اختلف الفقهاء فيما إذا اختلف مفتيان عالمان كلاهما أهل للفتوى على قولين هل يأخذ بأيسرهما قولا، أم لا، على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه يأخذ بالأشد؛ لأنه أحوط وأبرأ للذمة.

القول الثاني: يأخذ بالأيسر؛ لأنه أقرب إلى مقاصد الشريعة؛ ولأن الأصل براءة الذمة، فلا يلزم عباد الله إلا بما نتيقن أن الله ألزمهم به.

القول الثالث: أنه يخير؛ لتعارض العلتين.

ولعل في الحديث الذي ذكرناه ما يرجح القول الثاني مع مراعاة مقاصد الشريعة، لأن التيسير في بعض المحال قد يتنافى مع المقاصد الشرعية، ويكون حينذاك من حظ نفس، مثل تهرب الغني إلى الأقوال الميسرة في الزكاة هربا من إخراجها.

([86])  انظر: الإسلام في وجه الزحف الأحمر لمحمد الغزالي ص(142).

([87])  انظر: مجلة البلاغ الكويتية العدد (478) نوفمبر سنة (1978م)

([88])  المسلمون في الإتحاد السوفياتي لكاتبين فرنسيين هما (شانتال كلكجي، الكسندر بينيغسن) تعريب د. إحسان حقي ص(267).

(1) رواه البغوي في تفسيره، وقد روي أن عتبة بن ربيعة لما سمع ذلك من رسول الله r لم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم، فقال أبو جهل:« يا معشر قريش واللّه ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك له إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فقال أبو جهل:« يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد »، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمد أبداً، وقال:« واللّه لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء واللّه ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب»

([90]) وقصة ذلك هي أنه بينما المسلمون على ماء المريسيع وقد انقطع الحرب، وهو ماء ظنون إنما يخرج في الدلو نصفه، أتى سنان بن وبر الجهني وعلى الماء جمع من المهاجرين والانصار، فأدلى دلوه وأدلى جهجاه بن مسعود الغفاري أجير عمر بن الخطاب، فالتبست دلو سنان ودلو جهجاه، وتنازعا فضرب جهجاه سنانا فسال الدم، فنادى سنان: يا للانصار، ونادى جهجاه: يا للمهاجرين، وفي لفظ: يا لقريش، فأقبل جمع من الحيين، وشهروا السلاح حتى كادت أن تكون فتنة عظيمة، فخرج رسول الله r فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟! فأخبر بالحال فقال:( دعوها فإنها منتنة، ولينصر الرجل أخاه ظالما كان أو مظلوما، فإن كان ظالما فلينهه، وإن كان مظلوما فلينصره)

وإن جماعة من المهاجرين كلموا عبادة بن الصامت، وجماعة من الأنصار كلموا سنانا فترك حقه، وكان عبد الله بن أبي جالسا مع عشرة مع المنافقين، منهم مالك، وسويد، وداعس، وأوس بن قيظي، ومعتب بن قشير، وزيد بن اللصيت وعبد الله بن نبتل، وفي القوم زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ وهو غلام لم يبلغ الحلم أو قد بلغ، فبلغ ابن أبي صياح جهجاه: يا آل قريش، فغضب ابن أبي غضبا شديدا، وقال: والله ما رأيت كاليوم قط، والله إن كنت لكارها لوجهي هذا، ولكن قومي غلبوني، أو قد فعلوها؟ لقد نافرونا وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا منتنا، والله ما صرنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: (سمن كلبك يأكلك)، والله لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفا يهتف بما هتف به جهجاه، وأنا حاضر لا يكون لذلك مني غير، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل.

ثم أقبل على من حضر من قومه، فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم: أنزلتموهم بلادكم فنزلوا، وأسهمتموهم في أموالكم حتى استغنوا، أما والله لو أمسكتم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، ثم لم يرضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا، فقتلتم دونه، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا.

فقام زيد بن أرقم بهذا الحديث كله إلى رسول الله r فوجد عنده نفرا من المهاجرين والانصار، فأخبره الخبر، وكره رسول الله r خبره وتغير وجهه، فقال رسول الله r: يا غلام لعلك غضبت عليه! قال: لا والله يا رسول الله، فقد سمعته منه، قال: لعله أخطأ سمعك، قال: لا والله يا رسول الله، قال: فلعله شبه عليك، قال: لا والله يا رسول الله.

وشاع في العسكر ما قال ابن أبي، وليس للناس حديث إلا ما قال، وجعل الرهط من الأنصار يؤنبون الغلام ويلومونه، ويقولون: عمدت إلى سيد قومك تقول عليه ما لم يقل، وقد ظلمت وقطعت الرحم! فقال زيد: والله لقد سمعت ما قال، والله ما كان في الخزرج رجل واحد أحب إلي من عبد الله بن أبي، ولو سمعت هذه المقالة من أبي لنقلتها إلى رسول الله r، وإني لأرجو أن ينزل الله على نبيه ما يصدق حديثي.

في ذلك الموقف قال أوس بن خولي: يا أبا الحباب، إن كنت قلته فأخبر النبي r فليستغفر لك، ولا تجحده، فينزل فيك ما يكذبك، وإن كنت لم تقله فأت رسول الله r فاعتذر له، واحلف له ما قلته.

فحلف بالله العظيم ما قال من ذلك شيئا.

ثم مشى ابن أبي إلى رسول الله r، فقال له رسول الله r: يا بن أبي إن كانت منك مقالة فتب، فجعل يحلف بالله ما قلت ما قال زيد، ولا تكلمت به.

فقال من حضر رسول الله r من الأنصار من أصحاب رسول الله r:( عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثة ولم يحفظ ما قال الرجل)، حدبا على ابن أبي ودفعا عنه، وكان شريفا في قومه عظيما، فظان يظن أنه قد صدق، وظان يظن به السوء.

([91]) رواه عبد بن حميد.

([92]) رواه ابن جرير.

([93]) سنرى التفاصيل المرتبطة بتعامل رسول الله r مع اليهود في فصل (حروب) من هذه الرسالة.

([94]) رواه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وابن جرير عن السدي، وابن جرير عن عكرمة.

([95]) رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي.

([96]) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في فصل (حروب) من هذه الرسالة.

([97]) رواه البخاري.

([98]) روى سعيد بن منصور ابن المنذر عن الحسن في الاية قال: قد علم الله أن ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد ليستن به من بعده.

([99]) رواه ابن أبي حاتم والخرائطي.

([100]) ذكر الحافظ في الفتح الروايات الواردة في هذا، ثم قال: ويمكن الجمع بأن النبي  r  استشارهم في غزوة بدر مرتين: الاولى: وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبي سفيان، وذلك بين في رواية مسلم، والثانية: بعد أن خرج كما في حديث ابن مسعود في الصحيح، وحيئذ قال سعد بن معاذ ما قال.

 

([101])  وفي رواية: برك الغماد من ذي يمن. 

([102]) انظر: البيهقي في الدلائل، وغيره.

([103]) رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه.

([104]) هذا نص مرويات مختلفة رواها أحمد عن أنس، وابن مردويه عن أبي هريرة، وابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، والطبراني، وغيرهم، عن ابن مسعود، وابن مردويه، عن ابن عباس، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم، عن ابن عمر.

وانظر تفاصيل موقف الإسلام من الأسرى، وسلوك رسول الله r نحوهم في فصل (حروب) من هذه الرسالة.

([105]) رواه البيهقي والحاكم وقال: على شرط الشيخين.

([106]) روى البيهقي عن ابن شهاب قال: يقول رجال: كان الذي رأى بسيفه الذي أصاب وجهه.

([107]) رواه الطبراني والبزار.

([108]) وقد استشهد يومئذ ـ رضي الله عنه ـ

([109]) رواه ابن عتبة وابن إسحاق وابن سعد وغيرهم.

([110])  رواه ابن إسحق وغيره، وقد روي أن غطفان هي التي طلبت المصالحة، فقد روى البزار والطبراني عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ  قال: جاء الحارث إلى رسول الله r، فقال: يا محمد ناصفنا تمر المدينة وإلا ملاتها عليك خيلا ورجالا، فقال: حتى أستأمر السعود: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود، فكلمهم رسول الله r في ذلك، فقالوا: لا، والله ما أعطينا الدينة في أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله تعالى بالاسلام، فرجع إلى الحارث فأخبره، فقال: غدرت يا محمد.

([111]) رواه محمد بن عمر، وانظر تفاصيل الحصار والحكمة من الرجوع في فصل (حروب) من هذه الرسالة.

([112]) هذه الأحداث مجموعة من نصوص مختلفة رواها البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر، وابن إسحاق، وإسحاق بن راهويه، وأبو داود بسند صحيح عن محمد بن عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، عن أبيه، وأبو داود بسند صحيح عن ابن عمر عن أنس بن مالك عن عمومة له من الأنصار، وإسحاق بن راهويه عن الشعبي مرسلا بسند حسن، وعبد الرزاق وأبو داود عن عبيد ابن عمير أحد كبار التابعين، وابن أبي شيبة، وأبو داود، وابن خزيمة، وأبو الشيخ، والدارقطني، والبيهقي، والطحاوي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى.

([113]) فسر في الحديث أنه الشبور، وهو البوق، هذه اللفظة قد اختلف في ضبطها، فرويت بالباء والتاء، والثاء والنون، وأشهرها وأكثرها النون، قال الخطابي: سألت عنه غير واحد من أهل اللغة فلم يثبتوه لي على شئ واحد، فإن كانت الرواية بالنون صحيحة فلا أراه سمي إلا لإقناع الصوت به، وهو رفعه، يقال: أقنع الرجل صوته ورأسه إذا رفعه.

ومن يريد أن ينفخ في البوق يرفع رأسه وصوته..قال الزمخشري: أو لأن أطرافه أقنعت إلى داخله: أي عطفت، وقال الخطابي: وأما (القبع) بالباء المفتوحة فلا أحسبه سمي به إلا لأنه يقبع فم صاحبه: أي يستره، أو من قبعت الجوالق والجراب: إذا ثنيت أطرافه إلى داخل.( انظر: النهاية 4 / 115 – 116)

([114]) الشبور: هو البوق، انظر النهاية 2 / 440.

([115])وفي حديث أبي عمير بن أنس أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ  كان رآه فكتمه عشرين يوما.

وفي حديث عبيد بن عمير:« فبينما عمر بن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى في المنام:( لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا)، فذهب عمر ليخبر النبي r بالذي رأى، وقد جاء الوحي فما راع عمر إلا بلال يؤذن.

قال عبد الله بن زيد: فقال رسول الله r لعمر:( ما منعك أن تخبرني؟)، فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت. رواه أبو داود.

([116]) هذه الشبهة من الشبه الخطيرة الكثيرة التي يترنم بها المبشرون والمستشرقون.

([117]) سنرى التفاصيل المرتبطة بهذه الوظيفة في رسالة ( النبي المعلم) من هذه السلسلة.

([118]) وهذا سر تعبير عمر ـ رضي الله عنه ـ عن موافقاته بأنه وافق ربه، فقد روى أبو داود الطيالسي، وابن أبي حاتم وابن مردوية وابن عساكر عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: وافقت ربي في أربع.. وغيرها من النصوص.

([119]) روي هذا الحديث، وهو موضوع باتفاق المحدثين، ومثله ما روي عند العسكري من حديث حفص بن عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال: قال عمر: خالفوا النساء، فإن في خلافهن البركة، بل يروى في المرفوع من حديث أنس: لا يفعلن أحدكم أمراً حتى يستشير، فإن لم يجد من يستشير، فليستشر امرأة، ثم ليخالفها، فإن في خلافها البركة، وقد أخرجه ابن لال، ومن طريقه الديلمي من حديث أحمد بن الوليد الفحام، حدثنا كثير بن هشام، حدثنا عيسى بن إبراهيم الهاشمي عن عمر بن محمد عنه به، وعيسى ضعيف جداً مع انقطاع فيه. (انظر: تذكرة الموضوعات: 128)

([120]) رواه أبو نعيم وابن عساكر من طرق عن ابن عباس موقوفا، وابن سعد عن عائشة، وأبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا.

([121]) سنرى التفاصيل المرتبطة بعدالة النبي r في الرسالة التالية لهذه الرسالة، وهناك رسالة خاصة بعدالة الإسلام.

([122]) رواه مسلم.

([123]) رواه مسلم.

([124]) فقسم رسول الله r ما أفاء الله تعالى عليه، وأعطى المهاجرين، ولم يعط أحدا من الانصار من ذلك الفئ شيئا إلا رجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف وأبا دجانة، وأعطى سعد بن معاذ رضي الله عنه سيف بن أبي الحقيق، وكان سيفا له ذكر عندهم.

([125]) رواه البخاري.