الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: النبي المعصوم

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

سادسا ـ أمراض

1 ـ أمراض عصبية

الصرع الأصغر:

الصرع الأكبر:

الصرع البؤري:

2 ـ أمراض نفسية

3 ـ أمراض روحانية

الشيطان:

السحر:

سادسا ـ أمراض

في مساء اليوم السادس.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (جيري فاينز)[1].. الطبيب النفسي.. بوجه لم يصعب علي أن أتبين ما فيه من تغير.

لقد خرج في الصباح يحمل حقيبته الطبية بثقة عظيمة.. فهو ـ نتيجة غلوه في الدراسات النفسية ـ صارت له قدرة عجيبة على أن يلصق أي مرض نفسي أو عصبي بمن يشاء.. ولهذا كان المرشحون في الحملات الانتخابية يحضرونه ليدرس خصومهم، لا لينتفعوا بما يذكره عنهم للعلاج، وإنما ليجعلوا تلك القوائم العريضة من الأمراض وسيلة للإشهار بخصومهم.

وهو ـ لسبب لا أعرفه ـ لا يهتم إلا بالمشاهير، أو من أنجزوا إنجازات ضخمة، بل إنه بقدر عظمة المنجزات تكون في تصوره كثرة الأمراض.. ولهذا لا يسلم شخص من تهمه إلا إذا كان مغمورا خاملا لا علاقة له بالحياة، ولا علاقة للحياة به.

عندما دخل ذلك المساء بذلك الوجه المتغير.. ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟

صاح فيهم مثلما يصيح المجانين: لقد بعثتموني إلا مارستان مجانين، ولم تبعثوني إلى ساحة الحرية.. إن كل من فيها مريض.. ويستحيل على جميع أطباء الدنيا أن يشخصوا أدواء أولئك المرضى.. فكيف أستطيع أنا لوحدي علاجهم؟

قال ذلك، ثم وضع كلتا يديه على رأسه، لا يسمع لما نحدثه به، أو لا يهتم بجوابنا.. ابتدر أخي.. ووضع القرص في القارئ.. وبدأ شريط الأحداث:

رأينا جيري فاينز يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: أنا طبيب نفسي.. ولدي إلمام كبير بكل ما يرتبط بالأمراض النفسية والعصبية.. ولذلك سأحاول أن أخدمكم في هذا الجانب.

ثم ابتسم ابتسامة عريضة، وقال: لا تخافوا.. لن أسلب من أموالكم فلسا واحدا.. فخدماتي التي أقدمها هنا خدمات مجانية.

سكت قليلا، وكأنه يعطيهم الفرصة للحديث، لكنه ما إن رأى الأفواه تبادر إلى سؤاله حتى قطعها قائلا: لا بأس.. ما دمتم لم تسألوا فسأفيدكم أنا من واقع اختصاصي.. بل سأعطيكم جرعة تقيكم كل مخاطر الأمراض النفسية والعصبية.

ظهر السرور على الجماعة المحيطة به، فابتدر ذلك السرور قائلا: أتعلمون أن في الأرض أكثر من مليار.. بل من مليار ونصف من السكان مصابون بأخطر الأمراض النفسية من غير أن يشعروا؟

ظهر العجب على الجماعة، فاستحثه ذلك ليقول: لا شك أنكم لستم منهم.. فأنتم في بقعة من العالم لم يصبها ذلك الداء الذي أصابهم..

تنفست الجماعة الصعداء، فقال: ولكن مع ذلك.. فإن عدوى هذا الداء قد تصيب جميع أركان العالم..

عاد الخوف للجماعة المحيطة به.. فاستغل ذلك الخوف ليقول: لم تسألوني عن البلاد التي تستوطن بها هذه الأدواء النفسية الخطيرة.

سأله رجل من الجماعة، فقال: لم نسمع ببلاد تختص بأمراض نفسية دون غيرها من البلاد!؟

قال جيري فاينز: لك الحق في أنك لم تسمع.. ذلك أن أكثر الأطباء بخلاء، ولا يهمهم إلا ما يدخل في جيوبهم من أموال، فلذلك لا ينصحون المرضى، ولا يهتمون بصحتهم.

قال آخر: لقد أخفتنا.. فحدثنا حديثا صريحا من دون مقدمات.

قال جيري فاينز: شكرا على هذه الملاحظة.. هل تعرفون البلاد التي يسكنها المسلمون؟

قالوا: وكيف لا نعرفها؟.. نحن على أرض واحد، وتظللنا سماء واحدة.

قال جيري فاينز: فتلك البلاد هي موطن أخطر الأمراض النفسية.

قالوا: لم؟

قال جيري فاينز: لقد عرفت من خلال خبرتي الطويلة مع المرضى أن كل من يصدق مريضا نفسيا أو يعجب به يصاب بنفس أمراضه.. فعدوى الأمراض النفسية تختلف عن عدوى الأمراض العضوية، فتلك تنتقل بالجراثيم والفيروسات، وهذه تنتقل بالمحبة والتأثر والميلان والذوبان..

قالوا: فمن هذ الذي أحبوه حتى مرضوا بحبه؟

قال جيري فاينز: ومن غير محمد؟

قالوا: إنا نسمع أحاديث طيبة عن محمد.. ولم نسمع أن به مرضا نفسيا..

قال جيري فاينز: مرض نفسي واحد!؟.. بل إن كل أمراض الدنيا النفسية والعصبية اجتمعت فيه..

هنا ظهر الحكيم بنوره المشرق، وصاح في جيري فاينز: هل دخل محمد عيادتك في يوم من الأيام؟

ضحك جيري فاينز ضحكا شديدا، وقال: لا شك أن معلومات هذا الرجل المسكين في التاريخ معلومات هزيلة.

قال الحكيم: وما علاقة التاريخ بالطب؟

قال جيري فاينز: كيف يدخل محمد عيادتي، وقد مات منذ مئات السنين؟

قال الحكيم: فكيف عرفت أنه مريض، وأنه اجتمعت فيه جميع الأمراض النفسية، بل والعصبية؟

قال جيري فاينز: ذلك ليس صعبا لمن هو في مثل اختصاصي، فمن السهل أن تدرس سلوك أي كان لتحكم عليه بعد ذلك بالصحة أو المرض.

قال الحكيم: فهل عرفت من خلال سلوك محمد r وحياته ما أصيب به من أمراض نفسية؟

قال جيري فاينز: أجل.. وقد اعتمدت في ذلك على أدق الدراسات، وأكثرها موضوعية.. لاشك أنك تعرف ذلك العلامة الباحث المدقق جولد تسيهر[2].. لقد كانت أبحاثه القيمة أهم مراجعي، لقد قال في كتابه (العقيدة والشريعة فى الإسلام) عن محمد:( وفى خلال النصف الأول من حياته اضطرته مشاغله إلى الاتصال بأوساط استقى منها أفكاراً أخذ يجتريها فى قرارة نفسه، وهو منطو فى تأملاته أثناء عزلته، ولميل إدراكه وشعوره للتأملات المجردة، والتى يلمح فيها أثر حالته المرضية، نراه ينساق ضد العقلية الدينية والأخلاقية لقومه الأقربين والأبعدين)[3]

قال الحكيم: فما هي الأمرض التي استخلصتها من خلال دراستك لمحمد r من هذه المراجع؟

قال جيري فاينز: قائمة طويلة من الأمراض منها ما سبقت إلى معرفته، ومنها ما كان لي براءة اكتشافه..

أما ما سبقت إليه، فقد سبقني شبرنجر[4] وجوستاف فايل[5] وغيرهم إلى أنه كان مصاباً بحالات من الصرع، يغيب فيها عن الناس وعما حوله، ويظل ملقى على أثرها بين الجبال لمدة طويلة، يسمع له على إثرها غطيط كغطيط النائم، ويتصبب عرقاً، ويثقل جسمه، وتعتريه التشنجات، وتخرج منه الرغوة، فإذا أفاق ذكر أنه أوحى إليه، وتلا على أتباعه ما يزعم أنه وحى من الله[6].

وسبقني بعضهم إلى اعتبار حالته حالة هستيريا، وتهيج عصبي، يظهر عليه أثرها فى مزاجه العصبى القلق، ونفسه كثيرة العواصف بشكل غامض، حتى كان يصل به الأمر أن لا يفرق بين تعاقب الليل والنهار، وقد هزل على إثرها جسمه، وشحب لونه، وخارت قواه[7].

وسبقني آهرون إلى أن به نوعا من الهوس.. لقد قال بعضهم معبرا عن ذلك:( ونرى محمداً الثاقب النظر من الناحية العلمية من ذوى الهوس، كما هو شأن أكثر مؤسسى الديانات)[8]

قال الحكيم: فما الذي أضفت أنت إلى ما ذكروه؟

قال جيري فاينز: لقد نسيت أن أخبركم بأني ـ بالإضافة إلى تخصصي الطبي ـ رجل دين.. لا تستغربوا ذلك.. ففي المسيحية يمكنك أن تجمع بين كونك عالما وبين كونك رجل دين..

قال الحكيم: فما الذي أفادك كونك رجل دين في التعرف على أمراض محمد r؟

قال جيري فاينز: بفضل كوني رجل دين عرفت السر الذي تاه فيه الناس والذي يفسر جميع أمراض محمد.

قال الحكيم: فما هو؟

قال جيري فاينز: الشيطان.. إن محمدا مصاب بأمراض شيطانية.. البعض يسميها أمراض روحانية، وأنا أسميها أمراضا شيطانية.

قال الحكيم: فهذه هي قائمة الأمراض التي نسبتها لمحمد؟

قال جيري فاينز: وهل تستهين بكل هذه القائمة؟

قال الحكيم: لا.. ولكني أردت فقط أن أحصيها.

قال جيري فاينز: فهذه هي الأمراض.. ويمكنك أن تحصرها في ثلاثة أنواع من الأمراض: أمراض عصبية.. وأمراض نفسية.. وأمراض روحانية.

قال الحكيم: لقد سمعت لتحاليلك.. فهل تأذن لي في أن أجيبك؟

قال جيري فاينز: عم تجيبني؟

قال الحكيم: أنتم ـ معاشر الأطباء ـ تختلفون أحيانا في وصف مريض ببعض الأمراض، أو عدم وصفه؟

قال جيري فاينز: ذلك صحيح.

قال الحكيم: فلذلك سأستعرض من خلال حياة محمد r ما يبين وجه الحق فيما ذكرته.. فنعرف إن كان حقيقة مريضا أم لا.

قال جيري فاينز: قل ما تشاء.. فلي صدر أوسع من المحيط.

1 ـ أمراض عصبية

قال الحكيم: فلنبدأ بالأمراض العصبية.. فقد ذكرت بأن هناك من اعتبر النبي r مصابا بالصرع[9]..

قال جيري فاينز: ذلك صحيح.. ولقوله الدلائل الكثيرة في حياة محمد.

قال الحكيم: قبل أن أجيبك بما يقتضيه المنطق أجيبك بما ذكره بعض قومك، اسمع لما يقول المستشرق الطبيب ماكس مايرهوف[10] الذي قال ردا على من نسب هذا المرض لمحمد r:( أراد بعضهم أن يرى فى محمد رجلاً مصاباً بمرض عصبى أو بداء الصرع، ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره، ليس فيه شئ يدل على هذا، كما أن ما قام به فيما بعد من التشريع والإدارة يناقض هذا القول)[11]

ومثله قال ( بودلي) في كتابه ( الرسول حياة محمد ) مفندا هذا الزعم:( لا يصاب بالصرع من كان في مثل الصحة التي كان يتمتع بها محمد حتى قبل وفاته بأسبوع واحد[12]، وإن كان ممن تنتابه حالات الصرع كان يعتبر مجنونا، ولو كان هناك من يوصف بالعقل ورجاحته، فهو محمد)

بعد هذا أجبني.. هل كان قوم محمد حريصين على تتبع كل ثغرة يمكنهم من خلالها نشر الفضائح التي تشوه محمدا r؟

قال جيري فاينز: أجل.. ذلك صحيح.. وأنا لا أعتبرها فضائح، بل أعتبرها حقائق.

قال الحكيم: فهل سجل التاريخ أنهم رموه بهذا الداء الذي كان معروفا عندهم[13]، كما كان معروفا عند جميع شعوب العالم؟

قال جيري فاينز: لكنهم رموه بالجنون؟

قال الحكيم: الرمي بالجنون مختلف عن الرمي بالصرع.. وأنت وهم وجميع العالم تعلمون أن تصرفات محمد r أبعد التصرفات عن تصرفات المجانين.

لعلك سمعت بالوليد بن المغيرة.

قال جيري فاينز: وكيف لا أسمع به، وقد كان من العقلاء الذي رفعوا ألوية المعارضة ضد محمد؟

قال الحكيم: ما دمت قد أقررت بعقله، فاسمع لشهادته، لقد حدث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن الوليد ابن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قول بعضكم بعضا، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقوم به، فقال: بل أنتم فقولوا لأسمع فقالوا: نقول كاهن فقال: ما هو بكاهن لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسحره فقالوا: نقول مجنون فقال: وما هو بمجنون ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قال: فنقول شاعر قال: فما هو بشاعر قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قال: فنقول: ساحر قال: فما هو ساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده فقالوا: ما تقول با ابا عبد شمس قال: والله ان لقوله لحلاوة وان أصله لمعذق وأن فرعه لجنى فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل وأن أقرب القول لأن تقولوا ساحر فتقولوا هذا ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه وبين المرء وبين أخيه وبين المرء وبين زوجته وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عند ذلك، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره[14].

التفت إلى جيري فاينز، وقال: أنت ترى قومه قد احتاروا فيما ينسبوه إليه مما يصرف الناس عنه، فلو علموا أنه كان يصرع ويصيبه المصروع من تخبط يسكتون عن هذا.. خاصة وأنهم كانوا يعتبرون الصرع من الأمراض الشيطانية المنفرة؟

قال جيري فاينز: لعل قومه لم تكن لديهم معرفة مفصلة بالصرع، فلذلك توقفوا عن رميه به.

قال الحكيم: ولكنهم كانوا يعرفونه؟

قال جيري فاينز: ربما كانوا يعرفون نوعا واحدا.. فللصرع أنواع كثيرة.

قال الحكيم: فصفها لي لنرى مدى انطباقها على محمد r.

قال جيري فاينز: منها الصرع الأصغر، ومن أعراضه: السرحان.. وفقدان الذاكرة.. وفقدان الكلام، أو الكلام غير المفهوم.. وتوقف الجسم عن أي حركة تليها رمشات في العينين.. و+فقدان النشاط العادي.

ومنها الصرع الأكبر، ومن أعراضه تصلب في الجسم.. واحتقان في الوجه.. وهزات متكررة في الجسم كله.. ولعاب كثيف في الفم.. وعض للسان.

ومنها الصرع البؤري، ويكون المريض فيه في كامل وعيه، وقد يتذكر ما حصل له خلال النوبة، ومن أعراضه تشنجات حركية.. وتشنجات حسية.. وتخيلات مرئية أو سمعية أو شميه (هلاوس).. وإحساس داخلي بالخوف.

قال الحكيم: أرى أن المنهج العلمي يستدعي أن نبحث من خلال ما ورد في حياة النبي r عما ينطبق على ما ذكرت من أعراض.

قال جيري فاينز: وذلك ما نفعله نحن.

الصرع الأصغر:

قال الحكيم: فلنبدأ بالصرع الأصغر، فقد ذكرت من أعراضه السرحان.. وفقدان الذاكرة.. وفقدان الكلام، أو الكلام غير المفهوم.. وتوقف الجسم عن أي حركة تليها رمشات في العينين.. وفقدان النشاط العادي.

قال جيري فاينز: ذلك صحيح.

قال الحكيم: فهل يمكن لرجل يتسم بكل هذا الضعف أن يؤسس أمة لا يزال لها وجود إلى اليوم؟

وهل يمكن لمن كان عاجزا عن الكلام، أو كان كلامه غير مفهوم أن يترك من التعاليم الممتلئة بالحكمة ما لم تزده الأيام إلا إثباتا؟

وهل يمكن لمن كان شارد الذهن أن تحمل حياته.. بل دقائق حياته وثوانيها.. من الأحمال ما تنوء به الجبال؟

إن الذي ذكرت لا ينجح في حياته البسيطة العادية، فكيف برجل حمل كل الأثقال، وتحمل كل المتاعب والمشاق، ولم تكن له في حياته لحظة من السكون والراحة.

لقد قال ربه يأمره بالتفرغ إليه في حال الراحة:﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)﴾ (الشرح)

وقال يخبره عن ليله:﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ )(المزمل: من الآية20)

وقال يخبر عن عظم الأمانة التي تحملها:﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل:5)

فهل يمكن لمن حمل كل هذه الأثقال، فحملها خير حمل أن يكون بذلك الضعف والقصور؟

الصرع الأكبر:

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: أرى أن قومك ممن يرمون محمدا بالصرع يقصدون الصرع الأكبر، الذي ذكرت من أعراضه تصلب الجسم.. واحتقان الوجه.. وهزات متكررة في الجسم كله.. ولعاب كثيف في الفم.. وعض للسان.

قال جيري فاينز: أجل.. وأدل دليل على ذلك ما تسمونه بالوحي.. فما الوحي في نظرنا ـ معشر الأطباء ـ سوى نوبة من نوبات الصرع الأكبر.

قال الحكيم: إن هذا يستدعي النظر في هيئة الوحي الذي كان يعرض للنبي r، ومقارنة ذلك بما وصفت من أعراض الصرع الأكبر.

قال جيري فاينز: ذلك صحيح.

قال الحكيم: لقد ورد في النصوص ذكر أربعة أنواع من الوحي، وسنرى مدى علاقة هذه الأنواع بما ذكرت من أعراض.

قال جيري فاينز: فما النوع الأول؟

قال الحكيم: الرؤيا الصادقة، فقد روي أنها كانت مبدأ وحيه r، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:( أول ما بدئ به رسول الله  r   من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)[15]

وواضح من قولها ـ رضي الله عنها ـ:( أول أول ما بدئ به رسول الله  r   من الوحى) أن الرؤيا الصالحة كيفية من كيفيات الوحى.

بل قد ورد التصريح بذلك، ففي الحديث عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله  r  :( رؤيا الأنبياء وحى)[16]

بل قد نص القرآن على هذا عند ذكره لرؤيا إبراهيم u فى المنام من ذبح ولده إسماعيل u، قال تعالى:﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)﴾ (الصافات)

ومن الرؤى التي رآها رسول الله r، وقص علينا القرآن الكريم قصتها ما نص عليه قوله تعالى:﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (لأنفال:43)، ففى غزوة بدر واجه المسلمون المشركين فى أول واقعة حربية حاسمة، وكان المشركون ضعف عدد المسلمين، وقد وقعت رؤيا لرسول الله  r   شاهد فيها المشركين قلة قليلة، فأخبر أصحابه يومئذ بذلك، فكان ذلك تثبيتاً لهم.

ومن الرؤى التي قصها القرآن الكريم ما نص عليه قوله تعالى:﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:27، فقد أخبر الرسول  r   صحابته فى العام السادس للهجرة بأنه رأى المسلمين داخلين المسجد الحرام فى أمن تام مؤدين المناسك.

ولما سار المسلمون، ووصلوا إلى الحديبية لم يشك جماعة منهم أن الرؤيا النبوية تتحقق عامهم ذلك، وحين وقع ما وقع من صلح الحديبية تساءل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال r: بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به[17].

وقد حصل تحقيق هذه الرؤية فى العام السابع، ففى ذى القعدة أدى الرسول r والمسلمون عمرة القضاء، ودخلوا مكة معتمرين.

التفت إلى جيري فاينز، وقال: هل ترى في هذا النوع من الوحي أي عرض من أعراض الصرع؟

سكت جيري فاينز، فقال: لا.. ولا يمكنك إلا أن تقول ذلك، وإلا لكان كل الخلق مصابين بالصرع..

قال رجل من القوم: فحدثنا عن النوع الثاني.

قال الحكيم: النوع الثاني من الوحي هو الإلهام والقذف فى القلب من غير رؤية ملك، وذلك بأن يلقى الله أو الملك الموكل بالوحى فى قلب النبي r ما يريد، مع تيقنه r أن ما ألقى إليه وحي من قبل الله تعالى.

وقد أشار إلى هذه الكيفية قوله تعالى:﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً ﴾ (الشورى: من الآية51)

ومن الوحي المتنزل بهذه الصورة ما نص عليه قوله r:( ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، ولا يستبطئن أحد منكم رزقه، إن جبريل u ألقى فى روعى أن أحداً منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس، وأجملوا فى الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا ينال فضله بمعصية)[18]

التفت إلى جيري فاينز، وقال: هل ترى في هذا النوع من الوحي أي عرض من أعراض الصرع؟

سكت جيري فاينز، فقال: لا.. ولا يمكنك إلا أن تقول ذلك، فكل إنسان يجد في ذهنه ـ أحيانا كثيرة ـ من الخواطر والأفكار ما لم يكن يخطر له على بال.

قال جيري فاينز: ولكني لا أسلم أن ذلك وحي من الله.

قال الحكيم: لا يهمني أن تسلم أو لا تسلم.. فتلك مسألة أخرى.. وهي تستدعي بحثا آخر.. فنحن الآن نناقش علاقة أنواع الوحي بالصرع الذي تذكره.

قال رجل من القوم: فحدثنا عن النوع الثالث.

قال الحكيم: النوع الثالث هو تكليم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب، وهو ما نص عليه قوله تعالى:﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾  (الشورى:51)

وهو نفس الوحي الذي حصل لموسى r كما قال تعالى:﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً)(النساء: من الآية164)

وقد حصل هذا النوع من الوحي لنبينا محمد  r   ليلة الإسراء والمعراج[19]، حيث كلمه ربه كفاحاً، وفرض عليه الصلاة، وقد دل على هذا قوله تعالى:﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (لنجم:10)

التفت الحكيم إلى جيري فاينز، وقال: هل ترى في هذا النوع من الوحي عرضا من أعراض الصرع؟

قال جيري فاينز: نعم.. فقد يرى المصروع أشياء قبل حصول صرعه.

قال الحكيم: فقد كان ما حصل لموسى u إذن نوع من الصرع.. فقد ورد حديث الله مع موسى u في التوراة.. سأقرأ عليك ما ورد من ذلك، فأنت كما ذكرت تؤمن بالكتاب المقدس، وتجمع بين الطب والدين في ذلك.

أخرج الحكيم الكتاب المقدس من جيبه، وراح يقرأ من (سفر الخروج: 3/1-14):( وكانَ موسى يرعى غنَمَ يَثرونَ حَميِّهِ كاهنِ مِديانَ، فساقَ الغنَمَ إلى ما وراءَ البرِّيَّةِ حتى وصَلَ إلى جبَلِ اللهِ حوريبَ. فتَراءى لَه مَلاكُ الرّبِّ في لَهيبِ نارٍ مِنْ وسَطِ العُلَّيقَةِ. ورأى موسى العُلَّيقَةَ تتوقَّدُ بالنَّارِ وهيَ لا تحتَرِقُ. فقالَ في نفْسِه: ( أميلُ وأنظرُ هذا المَشهدَ العظيمَ. ما بالُ العُلَّيقَةِ لا تحتَرِقُ؟) ورَأى الرّبُّ أنَّهُ مالَ ليَنظُرَ، فناداهُ مِنْ وسَطِ العُلَّيقَةِ: (مُوسى، مُوسى). فقالَ: (نعم). قالَ: (لا تقتَرِبْ إلى هُنا. إخلَعْ حِذاءكَ مِنْ رِجلَيكَ، لأنَّ المَوضِعَ الَّذي أنتَ واقِفٌ علَيهِ أرضٌ مُقَدَّسَةٌ)، وقالَ: (أنا إلهُ آبائِكَ. إلهُ إبراهيمَ وإسحَقَ ويعقوبَ). فستَرَ موسى وجهَهُ خوفًا مِنْ أنْ يَنظُرَ إلى اللهِ. فقالَ لَه الرّبُّ: (نَظَرْتُ إلى مُعاناةِ شعبي الذينَ في مِصْرَ، وسَمِعْتُ صُراخهُم مِنْ ظُلْمِ مُسَخريهِم وعَلِمتُ بِعَذابِهِم، فنَزَلْتُ لأُنقِذَهُم مِنْ أيدي المِصْريِّينَ وأُخرِجهُم مِنْ تِلكَ الأرضِ إلى أرضٍ رَحْبةٍ تَدرُّ لَبَنًا وعسَلاً، إلى موطِنِ الكنعانيِّينَ والحِثِّيِّينَ والأمُوريِّينَ والفَرِزِّيِّينَ والحِوِّيِّينَ واليَبوسيِّينَ. والآنَ ها صُراخ بَني إِسرائيلَ وصَلَ إليَ ورَأيتُ كيفَ يَجورُ المِصْريُّونَ علَيهِم، فتَعالَ أُرسِلُكَ إلى فِرعَونَ لِتُخرِج شعبي بَني إِسرائيلَ مِنْ مِصْرَ). فقالَ موسى للهِ: (مَنْ أنا حتى أذهبَ إلى فِرعَونَ وأُخرِج بَني إِسرائيلَ مِنْ مِصْرَ؟) قالَ: (أنا أكونُ معَكَ، وهذِهِ علامَةٌ لكَ على أنِّي أنا أرسَلتُكَ: إذا أخرَجتَ الشَّعبَ مِنْ مِصْرَ، فاَعبُدوا اللهَ على هذا الجبَلِ) فقالَ موسى للهِ: (إذا ذهَبْتُ إلى بَني إِسرائيلَ وقلتُ لهُم: إلهُ آبائِكُم أرسلَني إليكُم، فإنْ سألوني ما اَسمُهُ؟ فماذا أُجيبُهُم؟) فقالَ اللهُ لِموسى: (أنا هوَ الذي هوَ. هكذا تُجيبُ بَني إِسرائيلَ: هوَ الذي هوَ أرسلَني إليكُم)

التفت إلى جيري فاينز، وقال: فهل تعتبر ما حصل لموسى u نوبة من نوبات الصرع؟

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: إن لم تعتبره من الصرع، فلا يحق لك أن تعتبر ما حصل لنبينا r من الصرع.

قال جيري فاينز: ولكن موسى كان نبيا.

قال الحكيم: ونحن نعتبر محمدا r كذلك نبيا..

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: لننتقل إلى النوع الرابع من أنواع الوحي، وهو نزول الملك وتكلمه مع رسول الله r..

وفي هذه الحالة إما أن يتمثل له الملك فى صورة رجل، فيكلمه كما يكلم البشر بعضهم بعضا، كما حصل للأنبياء قبله r، فقد ذكر الله تعالى عن إبراهيم u أن الملائكة قدموا عليه، فقدم لهم عجلاً حنيذاً، ولم يعرف أنهم ملائكة إلا حين أفصحوا له عن حقيقة أمرهم، قال تعالى:﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)﴾ (الذاريات)

وأخبر تعالى أن الملائكة ـ عليهم السلام ـ أتوا لوطا u فى صورة شباب حسان، قال تعالى:﴿ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) (هود:77)

وأخبر تعالى أن الله أرسل إلى مريم البتول ـ عليها السلام ـ جبريل u فى صورة بشر سوى يبشرها باصطفائها واصطفاء وليدها، قال تعالى:﴿ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً) (مريم:17)

وعلى هذا الأسلوب من أساليب الوحي كان جبريل u يتنزل على محمد r  متخذا صورة رجل، بحيث يراه النبى r  وحده ويكلمه بما أراد فيعى عنه ما يقول، ويدل على ذلك قوله  r، لما سئل كيف يأتيك الوحى؟ قال:( وأحياناً يتمثل لى الملك رجلاً فيكلمنى فأعى ما يقول)[20]

وقد يظهر الملك المتشكل فى صورة رجل للعيان، فيراه الناس ويسمعون كلامه للنبى  r، كما ورد فى الحديث أن جبريل u جاء للنبي r، وسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة، وفي نهايته قال r :( يا عمر! أتدرى من السائل؟) قلت: الله ورسوله أعلم. قال:( فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)[21]

ومن الأحوال النادرة لهذا النوع من الوحي أن يأتى جبريل u للنبي r فى صورته التى خلقه الله عليها، وقد ورد في النصوص ذكر مرتين فقط لهذه الحالة[22].. والتي رأى فيها النبى  r   جبريل u على صورته الملائكية التى خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، كل جناح قد سد الأفق. مرتين:

أما المرة الأولى، فكانت فى الأرض، كما روي في الحديث عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله  r   قال ـ عند حديثه عن فترة الوحى ـ:( بينما أنا أمشى إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصرى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت، فقلت: دثرونى، وصبوا على ماء بارد، وأنزل الله على:﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)﴾ (المدثر)

وقد أشار إلى هذه الصورة قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (التكوير:23)

أما المرة الثانية، فقد حصلت في السماء عند سدرة المنتهى ليلة المعراج، وقد نص عليها قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)﴾(النجم)

أما الحالة الثالثة المرتبطة بهذا النوع من الوحي، فهي أن يأتى جبريل u على صورته الملائكية من غير أن يرى، أى أنه يأتى خفية فيتلبس بالنبى  r   ويتغشاه.

ويصحب مجيئه في هذه الحالة شدة يراها كل من حضر الوحي، ويكون مجئ الملك بصوت يشبه صلصلة الجرس، فيوحى إليه بما شاء الله وحيه، وقد دل على ذلك قوله  r   لما سئل كيف يأتيك الوحى؟ قال:( أحياناً يأتينى مثل صلصلة الجرس، وهو أشده على فيفصم عنى، وقد وعيت عنه ما قال)[23]

وفى رواية: سئل  r   هل تحس بالوحى؟ فقال:( أسمع صلاصل، ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسى تقبض)[24]

ووصفت عائشة ـ رضي الله عنها ـ حاله عند نزول الوحي، فقالت:( ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً)[25]

التفت الحكيم إلى جيري فاينز، وقال: أظن أن هذا هو ما كنت تبحث عنه.

قال جيري فاينز: أجل.. فهذه الحالة لا أتصور إلا أنها صورة من صور الصرع، أو عرض من أعراضه.

قال الحكيم: قبل أن أناقشك في هذا اسمح لي أن أقرأ عليك ما ورد في الإنجيل عن المسيح u.. فقد جاء فيه:( ثُمَّ انْطَلَقَ وَذَهَبَ كَعَادَتِهِ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، وَتَبِعَهُ التَّلاَمِيذُ أَيْضاً. وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَكَانِ، قَالَ لَهُمْ: صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ وَابْتَعَدَ عَنْهُمْ مَسَافَةً تُقَارِبُ رَمْيَةَ حَجَرٍ، وَرَكَعَ يُصَلِّي قَائِلاً: يَاأَبِي، إِنْ شِئْتَ أَبْعِدْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ، لِتَكُنْ لاَ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَتُكَ. وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ ليقويه. وَإِذْ كَانَ فِي صِرَاعٍ، أَخَذَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ إِلْحَاحٍ؛ حَتَّى إِنَّ عَرَقَهُ صَارَ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ) (لوقا  22: 43)

أنت ترى في هذا النص المسيح u يظهر له الملاك، وأن عرقه صار ينزل كقطرات الدم.. ألا ترى أن هذا وصف مقارب للوحي الذي كان ينزل على رسول الله r؟

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: لن أحدثك كرجل دين.. بل سأحدثك كطبيب، فأجبني.. أليست الحمى عرضا من أعراض التهاب اللوزتين؟

قال جيري فاينز: بلى.. ما تقوله صحيح.

قال الحكيم: أرأيت لو أن طبيبا كسولا راح يقيس حرارة كل من يأتي إليه من المرضى، فإذا وجد حرارة أي مريض مرتفعة اعتبره مريضا بالتهاب اللوزتين.. ووصف له دواء ذلك؟

قال جيري فاينز: هذا طبيب جاهل.. فالحمى عرض لأمراض كثيرة.. ولا يمكن أن يعرف أحد نوع المرض إلا بعد التشخيص الدقيق.

قال الحكيم: فأخبر جميع الأطباء الذين نسبوا لرسول الله r ما نسبوا من الأمراض عن جهلهم.. فقد استدلوا بالعرض وحده من غير أن يقوموا بأي تشخيص.

قال جيري فاينز: أنى لهم أن يقوموا بالتشخيص.. ومحمد ليس بينهم.

قال قال الحكيم: فكيف حكموا عليه إذن.. أم أنكم تعالجون في بلادكم المرضى غيابيا.

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: لا بأس.. فلنعتبر كل ما تذكره صحيحا، ولنحاول أن ننظر فيما يصدر من المصروعين.. وندرسه دراسة متأنية، ونقارنه بما جاء به محمد r.. هل ترى هذا المنهج صحيحا؟

قال جيري فاينز: نعم.. هذا منهج صحيح.. ونحن نمارسه في كل بحوثنا ودراساتنا.

قال الحكيم: ألست تعلم أن المريض في حالة الصرع تمر بذهنه ذكريات أو أحلام مرئية أو الاثنان معا.

قال جيري فاينز: أجل، ونحن نسميها بالهلاوس.

قال الحكيم: ألم يثبت الطب أن الذكريات التي تمر بالمريض لابد أن يكون قد عاش فيها المريض نفسه حتما.

قال جيري فاينز: أجل.. فالنوبة الصرعية ما هي إلا تنبيه لصورة أو صوت مر بالإنسان ثم احتفظ به في ثنايا المخ، وقد أمكن طبيا أجراء عملية التنبيه هذه بوساطة تيار كهربائي صناعي سلط على جزء خاص في المخ، فشعر المريض بنفس الهلاوس التي تنتابه في أثناء نوبة الصرع، وكلما تكررت نوبة الصرع تكررت نفس الذكريات أو الهلاوس فهذا مريض يسمع أغنية أو قطعة من شعر، أو حديثا من أي نوع كان في نوبة صرعه، ويتكرر سماعه لها في كل نوبة، ولابد أن يكون ما سمعه في النوبة قد سمعه يوما في طفولته. أو شبابه، أو قبل مرضه، وكذلك إذا كانت النوبة تثير منظرا لابد أن يكون قد مر عليه.

قال الحكيم: بتطبيق ما ذكرته مما توصل إليه الطب الحديث في حقائق الصرع على ما يعتري النبي r نجده يردد آيات لا يمكن إطلاقا أن يكون قد سمعها من قبل في حياته.

فهل رأيت مصروعا في الدنيا نطق ـ في حال صرع ـ بما نطق به محمد من الكلام الذي لا زالت الدنيا محتارة في أسرار إعجازه؟

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: أنت تعلم أن كل مصروع ينسى ما حدث له أثناء النوبة [26]..

قال جيري فاينز: وقد يذكره.

قال الحكيم: إذا ذكره، فإنه يتألم لذكره.. ويتمنى لو شفي من حالته.. بل يبذل أمواله من أجل ذلك [27]..

أما محمد r، فكان أحب الأشياء إليه رؤية ملاك الوحي، وقد روي أن رسول الله r قال لجبريل u:( ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟)، فنزل قوله تعالى:﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾ (مريم:64)

الصرع البؤري:

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: أرى أن هذا النوع من الصرع كان أبعد الأمراض عن محمد r.. وكان r أبعد الناس عنه.. فلننتقل إلى النوع الثالث من أنواع الصرع.. والذي سميته الصرع البؤري، وذكرت أن المريض فيه يكون في كامل وعيه، وقد يتذكر ما حصل له خلال النوبة، ومن أعراضه تشنجات حركية.. وتشنجات حسية.. وتخيلات مرئية أو سمعية أو شميه (هلاوس).. وإحساس داخلي بالخوف.

والرد على هذا مثل الرد على ما سبق.. فهذه حالة مرضية، أما ما كان يعرض للنبي r، فقد كان من أعلى مظاهر الصحة والكمال.. فقد كان r أكمل البشر عقلاً، وأشدهم فطنة، وأصوبهم قولاً، وأحكمهم فعلاً، وقد تحدى الله المشركين الذين عرفوه وعايشوه وخبروا حاله أن يثبتوا عليه جنوناً أو اختلال عقل، فلم يفعلوا، ولو وجدوا ما سكتوا قال تعالى:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سـبأ:46)

فهذه الآية الكريمة تقول لجميع أعداء محمد r في جميع فترات التاريخ:( ها هو ذا تاريخ محمد  r   وأحاديثه، وسننه، وآدابه، وأخلاقه، وشريعته، تحت أنظاركم فانظروا وتفكروا من غير هوى ولا عصبية فى جوانب ذلك كله، واستخرجوا منه ـ ولن تستطيعوا ـ ما يقيم عوج دعاواكم، وأفك أباطيلكم، ولكنكم علمتم أن محمداً  r   معصوم بعصمة الله عز وجل، الذى أرسله ليقوض بنيان الكفر والنفاق، ويهدم صرح الإلحاد)[28]

2 ـ أمراض نفسية

قال رجل من القوم: لقد أجبته عن شبهة الأمراض العصبية، فأجبه عن شبهة الأمراض النفسية.

قال جيري فاينز: أجل.. فإن سهل عليك أن تجيب عن ذلك النوع من الأمراض، فإنه يستحيل عليك أن تجيب عن هذا النوع منها.

 فإن طلبت الدليل، فلن يعز علي طلب الدليل.. لقد قال المستشرق بروكلمان[29]ـ وهو الخبير العارف بالتاريخ ـ عن علاقة محمد بهذا النوع من الأمراض:( بينما كان بعض معاصرى النبى، كأمية بن أبى الصلت[30]، شاعر الطائف، وهى بلدة بحذاء مكة، يكتفون بوحدانية عامة، كان محمد يأخذ بأسباب التحنث والتنسك، ويسترسل فى تأملاته حول خلاصة الروحى، ليالى بطولها فى غار حراء قرب مكة، لقد تحقق عنده أن عقيدة مواطنيه الوثنية فاسدة فارغة، فكان يضج فى نفسه هذا السؤال، إلى متى يمدهم الله فى ضلالهم، مادام هو عز وجل قد تجلى، آخر الأمر، للشعوب الأخرى بواسطة أنبيائه؟ وهكذا نضجت فى نفسه الفكرة أنه مدعو إلى أداء هذه الرسالة، رسالة النبوة، ولكن حياءه الفطرى حال بينه وبين إعلان نبوته فترة غير قصيرة، ولم تتبد شكوكه إلا بعد أن خضع لإحدى الخبرات الخارقة فى غار حراء، ذلك بأن طائفاً تجلى له هنالك يوماً، هو الملك جبريل، على ما تمثله محمد فى ما بعد، فأوحى إليه أن الله قد اختاره لهداية الأمة، وآمنت زوجه فى الحال برسالته المقدسة، وتحرر هو نفسه من آخر شكوكه بعد أن تكررت الحالات التى ناداه فيها الصوت الإلهى وتكاثرت، ولم تكد هذه الحالات تنقضى حتى أعلن ما ظن أنه قد سمعه كوحى من عند الله) [31]

ابتسم الحكيم، وقال: إن ما ذكره هذا المؤرخ لا يختلف كثيرا عما رمى به القرشيون محمدا r.. فقد اعتبروا النبى  r  رجلاً ذا خيال واسع وإحساس عميق، فهو إذن شاعر، ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيراً على حواسه، حتى يخيل إليه أنه يرى ويسمع شخصاً يكلمه؛ وما ذاك الذى يراه ويسمعه إلا صورة أخليته ووجد آناته، فهو إذن الجنون أو أضغاث الأحلام.

قال جيري فاينز: إن ما تقوله لا يزيد ما قاله بروكلمان وإخوانه المستشرقون إلا تأكيدا.

قال الحكيم: إن هذا الاعتراض يمكن أن يوجه لأي نبي من الأنبياء الذي تؤمن بنبوتهم.. فموسى u كان رجلا يحلم بإنقاذ قومه.. فلذلك تخيل ذلك الوحي.. ثم انطلق منه ليدعي النبوة، ويصبح نبيا لبني إسرائيل.

والمسيح كان يسمع في الأحياء اليهودية اسم المسيح يردد صباح مساء.. فحلم بأن يصير مسيحا، فصار مسيحا..

قال جيري فاينز: ولكن من ذكرتهم أيدوا بمعجزات خارقة دلت على صدق دعواهم.

قال الحكيم: ومحمد r أيد بأضعاف ما أيدوا به.. بل لا تزال الدلائل الدالة عليه حية ناضجة بالحياة..

قال جيري فاينز: فلنفرض أني تخليت عن المسيح وموسى وسائر الأنبياء.. فخاطبني كطبيب لا كرجل دين.

قال الحكيم: هل رأيت في حياتك.. أو في حياة البشر جميعا.. رجلا أميا في بيئة أمية حلم بأن يصير عالما يبز كل العلماء بعلمه، فتحقق له حلمه من غير أي سبب اكتسبه، ولا حيلة احتالها؟

قال جيري فاينز: لم يحدث ذلك..

قال الحكيم: فقد اشتمل الوحى الإلهى الذى بلغه رسول الله r ـ سواء كان قرآناً أو سنة ـ على أسرار فى الكون والأنفس والآفاق، ما كانت تخطر على بال بشر قط ولم يظهر تأويلها إلا بعد تقدم العلوم والمعارف فى العصر الأخير، فكيف تكون هذه الأسرار من داخل نفس النبى  r، وهى لم تخطر له على بال[32].

ثم.. هل كان الدين الذى جاء به محمد r بعقائده وتشريعاته فى العبادات والمعاملات، والحدود، والجنايات، والاقتصاد، والسياسة، والأخلاق والآداب، وأحوال السلم والحرب، مركوزاً فى نفسه  r  كل تلك المدة لم يبح به حتى بلغ تلك السن.. مع العلم أن كل ما جاء به r  وما بلغه من وحى الله من المعارف يعتبر مناقضاً لكل ما كان سائداً فى العالم حينئذ، من عقائد، كالوثنية، والمجوسية، والتأليه، والتثليث، والصلب، وإنكار البعث، واليوم الآخر.

ثم.. هل يمكن للأحلام النفسية أن تصنع التاريح.. وهل يمكن لأحد أن يقول: إن التاريخ يمكن وضعه بإعمال الفكر، ودقة الفراسة؟.. أم أنك ترى أن محمداً قد عاصر تلك الأمم الخالية، وتنقل فيها قرناً قرناً، فشهد هذه الوقائع مع أهلها شهادة عيان أو أنه ورث كتب الأولين، فعكف على دراستها حتى أصبح من الراسخين فى علم دقائقها؟

سكت قليلا، ثم قال: لقد رد القرآن الكريم على هذه الشبهة،  فبين أن الوحي ليس نابعاً من نفس النبي r، بل هو أمانة حملها جبريل u من عند الله إليه، قال تعالى:﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)﴾(الشعراء)، وقال تعالى:﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)﴾ (التكوير)

التفت إلى جيري فاينز، وقال: إن هذه الآيات الكريمة تخاطبكم بكل الدلائل، فهي تذكر أن ما رآه محمد r ملاك حقيقي أرسله الله إليه ليبلغ وحيه..

حلل تلك النصوص بما شئت من صنوف التحليل، فلن تجد فيها إلا الصدق والحقيقة.

قال جيري فاينز: وما أدرانا.. ونحن لم نر ولم نسمع.

قال الحكيم: إنك بهذا المنطق تقضي على كل المعارف والعلوم.. أليس مبدأ التعامل في كل شيء هو الثقة.. أليس الذي ذهب إلى القمر، ووطئت قدماه على القمر ثلة محدودة من الناس.. ولكنا نصدقهم في كل ما ذكروه ابتداء من صعودهم وانتهاء بمشاهداتهم.

قال جيري فاينز: ولكن الصور التي قدموا بها أكبر دليل على صدقهم.

قال الحكيم: أنت ترى أن مصانع الفنون تبدع من الصور ما يحيل الخيال حقيقة.. فهل تصدق كل ما ذكرته تلك المصانع.

قال جيري فاينز: ولكن تلك المصانع لم تدع أن ما صنعته حقائق.. بل هي تحذر من اعتبارها حقائق.

قال الحكيم: فلم اعتبرت ما ذكره رواد الفضاء حقائق، وما ذكره صانعو الأفلام خيالا؟

قال جيري فاينز: لقد صدقت كليها فيما ذكره عن نفسه.

قال الحكيم: فقد رجع الأمر إذن إلى أنك وثقت في الطرفين؟

قال جيري فاينز: ذلك صحيح.

قال الحكيم: فاستعمل نفس الأسلوب مع نبينا محمد r..

قال جيري فاينز: ولكنه لم يأت بأي صور.

قال الحكيم: لقد أتانا بحقائق أعظم بكثير من الصور.. وهي حقائق لا يمكن لأي ذكي في الدنيا أن يجتنيها بذكائه، ولا لأي محتال أن يقتنصها بحيلته.

سكت جيري فاينز، فقال الحكيم: ومن الردود التي رد بها القرآن الكريم على هذه الشبهة ذكره لعدم استشراف النبي r للنبوة.. فالنبي r لم يكن يستشرف للنبوة، وما كان يرجوها، ولم يطمع فى حصولها له، بل لم يرد فى الأخبار الصحيحة أنه r  يرجو أن يكون هو النبى المنتظر الذى يتحدث عنه علماء اليهود والنصارى قبل البعثة، ولو ثبت ذلك عنه لما ترك المحدثون تدوينه، وقد دونوا ذلك عن أمية بن أبى الصلت، لما كان يتوقع أن يكون نبياً.

قال تعالى مقررا هذه الحقيقة:﴿ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ) (القصص:86)، فما كان  r   يظن أن الوحى قبل إنزاله عليه، ينزل عليه، وإنما أنزله الله رحمة به وبالعباد، فهو نعمة من الله وفضل.

قال جيري فاينز: واختلاؤه  بغار حراء؟

قال الحكيم: ذلك شيء آخر.. وذلك شيء لا يمكن لأحد في الدنيا أن يعرف سره.. فالله تعالى أعد نبيه إعدادا خاصا لهذه الوظيفة العظيمة التي تنوء بحملها الجبال.

ألا ترى كيف مهد الله لتربية نبيه موسى u بأن فر بنفسه، ورعى الغنم، وحصل له من البلاء ما حصل.. ليكون كل ذلك زادا يعينه في الوظيفة التي أعد لها؟

لم يجد جيري فاينز ما يجيب به، فأخرج ورقة صغيرة من جيبه، طالعها بسرعة، ثم قال: نعم.. نعم.. لقد نسيت أن أذكر لك الدليل الذي ينهار أمامه كل ما ذكرت من أدلة..

إن الثابت علميا أن المنتحر لا ينتحر إلا بعد تعرضه لمرض نفسي خطير كالاكتئاب ونحوه.. وبما أن محمدا حاول الانتحار مرات عديدة، فهذا دليل على أنه مصاب بمرض نفسي.

ابتسم الحكيم، وقال: ومن أين عرفت أنه حاول الانتحار، ومن تدخل لينقذه من محاولة انتحاره؟

قال جيري فاينز: لقد روي هذا عن محمد.. لقد حدث الزهرى بلاغاً عن فترة الوحي، فقال: وفتر الوحى فترة حتى حزن النبى  r ـ فيما بلغنا ـ حزناً غدا منه مراراً، كى يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل، لكى يلقى منه نفسه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له: مثل ذلك[33].

ابتسم الحكيم، وقال: ليس كل ما يروى في التاريخ يصح قبوله.

قال جيري فاينز: وليس كل ما يروى في التاريخ يمكن رفضه.

قال الحكيم: فلنحتكم إلى أهل التاريخ أنفسهم لنرى مدى صدق هذه الرواية.

إن راوي هذه الرواية يقول:( حزن النبى  r، فيما بلغنا)، والقائل (فيما بلغنا) هو الإمام الزهرى.. ولم يكن من أصحاب النبي r.. وإنما كان يتلقى حديثه ممن صحبوه أو من التابعين، وقد قال فيه يحيى بن سعيد القطان: مرسل الزهرى شر من مرسل غيره، لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمى سمى! وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه.. وهذه الزيادة من هذه القبيل، حيث أنها منقطعة قد رواها الزهرى بلاغاً، وهو من صغار التابعين، وجل روايته عن كبار التابعين، وأقلها عن صغار الصحابة، فكيف بالكبار منهم، لاسيما من شهدوا بدء الوحى إلى رسول الله r.

وبناء على ذلك، فلا سند يعتمد عليه، ولعل البخارى وغيره ممن أخرج هذه الزيادة أرادوا بذلك التنبيه إلى مخالفتها لما صح من حديث بدء الوحى الذى لم تذكر فيه هذه الزيادة، وخصوصاً أن البخارى لم يذكر هذه الزيادة فى بدء الوحى، ولا التفسير، وإنما ذكرها فى التعبير.

ويؤيد ما سبق، أن الأئمة الحفاظ يذكرون عقب هذه الزيادة حديث جابر الصحيح فى فترة الوحى إلى الزهرى بنفس السند الذى يروونه عنه فى حديث عائشة الأول، ويفهم من صنيعهم ذلك: أن الزهرى نفسه كان يحدث بحديث جابر عقب حديث عائشة.

ففى مصنف عبد الرزاق بعد فراغه من حديث عائشة: قال معمر، قال الزهرى، فأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله r، وهو يحدث عن فترة الوحى، فقال فى حديثه: (بينما أنا أمشى سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسى، فإذا الذى جاءنى بحراء جالساً على كرسى بين السماء والأرض، فجُئِثْتُ[34] منه رعباً، ثم رجعت، فقلت: زملونى، زملونى، ودثرونى، فأنزل الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)﴾ (المدثر)

وكذلك البخارى ذكر حديث عائشة فى بدء الوحى عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة إلى قولها: ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحى، ثم قال عقبة: قال ابن شهاب: وأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصارى قال… فذكر الحديث بنحو رواية عبد الرزاق، غير أنه زاد فى آخره: (فحمى الوحى وتتابع)[35]

وقد علق الحافظ ابن حجر على هذا بقوله: (قال ابن شهاب: وأخبرنى أبو سلمة) إنما أتى بحرق العطف، ليعلم أنه معطوف على ما سبق، كأنه قال: أخبرنى عروة بكذا، وأخبرنى أبو سلمة بكذا، وأخطأ من زعم أن هذا معلق، وإن كانت صورته صورة التعليق، ولو لم يكن فى ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنها دالة على تقديم شئ عطفته ـ  وهو حديث عائشة المتقدم ـ ثم قال ابن شهاب ـ أى بالسند المذكور ـ وأخبرنى أبو سلمة بخبر آخر، وهو حديث جابر عن فترة الوحى)[36]

وكذلك فعل أحمد فى مسنده، مع أنه قد جمع فى مسنده مرويات كل صحابى على حده، دون الالتزام بالوحدة الموضوعية للأحاديث، لكنه لما روى حديث عائشة المتقدم عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى، قال: فذكر حديثاً لعله يشير إلى حديث جابر الذى أخرجه قبل ذلك فى المسند[37].

وكذلك صنع مسلم، وابن حبان فى صحيحيهما عقب إخراجهما لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ فدل هذا كله، على أن ابن شهاب الزهرى كان يحدث بالحديثين معاً، كما روى عنه غير واحد مما سبق بيانه، وأن الصواب فى رواية حديث عائشة بدون تلك الزيادة، كما أخرجه مسلم، والبخارى فى بعض مواضعه، وغيرهما.

قال جيري فاينز: فلنسلم بما ذكرت من حديث الزهري، فهو تابعي قد لا يكون الحديث بلغه بصورة صحيحة.. فما تقول فيما روى عن ابن عباس من قوله:( مكث النبى r أياماً بعد مجئ الوحى لا يرى جبريل، فحزن حزناً شديداً حتى كان يغدو إلى ثبير مرة، وإلى حراء أخرى، يريد أن يلقى نفسه)

قال الحكيم: هذا الحديث غير مسلم تاريخيا مثل ذاك.

قال جيري فاينز: أتشكك في كون ابن عباس صحابيا؟.. لو سمعك الغلاة في الصحابة لطعنوك بسيوفهم.

قال الحكيم: أنا لا أشكك في صحبة ابن عباس، فهو حبر هذه الأمة وعالمها، ولكني أشكك فيمن روى عن ابن عباس.. فالحديث الذي ذكرته من رواية الواقدى[38]، وهو معروف بالضعف، لا يقبل الجهابذة من المحدثين روايته إلا إذا اعتضدت بروايات الثقات.

قال جيري فاينز: فلنسلم بما ذكرت من ضعف الرواية عن ابن عباس، ولكن ما تقول في القرآن.. وما تقول في هذه الآية التي تخبر عن محاولة محمد الانتحار بسبب تكذيب قومه له.. لقد جاء فيها:﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء:3)، وفي آية أخرى:﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف:6)؟

ابتسم الحكيم، وقال:  هاتان الآيتان لا تشيران أبداً إلى معنى الانتحار، بل هما تعبير أدبي عن شدة حزن النبي r بسبب صدود قومه عن الإسلام، وإعراضهم عن الإيمان؛ وهما تبينان كيف كان اهتمام الرسول الكريم r بدعوة الناس إلى الله، وحرصه الشديد على إخراج الكافرين من الظلمات إلى النور.

وهذا خاطر طبيعي للنبي الإنسان البشر الذي يعلن القرآن على لسانه r اعترافه بأنه بشر في قوله ـ رداً على ما طلبه منه بعض المشركين ـ:﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)﴾(الإسراء)

انظر.. لقد أمر النبي r بأن يرد عليهم متعجبا مما طلبوه ومؤكداً أنه بشرٌ لا يملك تنفيذ مطلبهم:﴿ هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾

 

3 ـ أمراض روحانية

قال رجل من القوم: لقد أجبته عن شبهة الأمراض العصبية والنفسية، فأجبه عن شبهة الأمراض الروحانية.

قال جيري فاينز: أجل.. فإن سهل عليك أن تجيب عن ذلك النوع من الأمراض، فإنه يستحيل عليك أن تجيب عن هذا النوع منها.

 فإن طلبت الدليل، فلن يعز علي طلب الدليل.. ولن أستشهد هنا بما قال المستشرقون.. لا بروكلمان.. ولا غير بروكلمان.. بل سأستشهد بتاريخ محمد نفسه.. التاريخ الذي روي في كتب التفسير.

الشيطان:

لقد روى المفسرون أنه بعد نزول:﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (لنجم:19) ألقى الشيطان في قلب محمد ـ نتيجة تمنيه ألا ينزل عليه ما يغضب قومه من قريش، لأنه كان يطمع بإسلام بعض وجهائهم ـ بعض الكلمات، فاعتقد أنها من الوحى، فطلب من كتبه الوحى تسجيلها وكتابتها فى نص القرآن، وكانت تلك الكلمات هي:( أفرأيتم اللات والعزى، تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)[39]

وقد روى هؤلاء المفسرون أن القرشيين من المشركين سروا بذلك، وسجدوا مع محمد فى الصلاة، ولكن بعد فترة نزل جبريل، وعاتب الرسول، وصحح الآية، ناسخاً ما ألقى الشيطان.

ومما يدلك على صدق هذه الرواية ما ورد في القرآن من نهي محمد عن الوقوع في الشرك الذي تسلط الشيطان به عليه.. ففي القرآن:﴿ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (القصص:87)، وفيه:﴿ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) (يونس:106)، وفيه:﴿ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص:88

وهذا ليس خاصا بهذه الحادثة.. فقد ذكر القرآن أن الشيطان يمكن أن يتسلط على الأنبياء.. ففيه:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(الحج:52)

قال الحكيم: هذه قصة مكذوبة على نبينا.. ولا يصح لباحث عن الحقيقة أن يعتمد على الأكاذيب في التعرف عليها.

قال جيري فاينز: وما يثبت لنا كذبها؟

قال الحكيم: أمور كثيرة تثبت كذبها.. وأولها القرآن الكريم نفسه.. فهو أكبر دليل على على بطلانها.

قال جيري فاينز: ليس من المنهج العلمي أن تبرهن على بطلانها من القرآن.

قال الحكيم: بل هو عين المنهج العلمي.. فالمنهج العلمي القديم والحديث يعتمد على تحليل الوثائق المختلفة ليتبين من خلالها المواقف المختلفة.

قال جيري فاينز: ولكن الشخص قد يقول اليوم قولا، ثم يتراجع عنه غدا.

قال الحكيم: ولذلك سأكتفي بقراءة السورة التي نزل فيها ما توهمته من آيات.. تلك السورة هي سورة النجم.. وهي تبدأ ببيان عصمة رسول الله r من الهوى ومن الغواية، وأنه لذلك يستحيل أن يصل الشيطان إليه لينطق على لسانه بما يخالف الحقيقة التي كلف بتبليغها.

اسمع معي الآيات التي وردت قبل ما ذكرت من قصة الغرانيق، قال تعالى:﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾ (النجم)

إن كل حرف من هذه الآيات يشير إلى عصمة رسول الله r، وأنه يستحيل عليه أن يكذب في رؤاه أو في سمعه أو في قوله، فكيف ينتظم هذا مع نطقه  في نفس السورة عن الهوى.. بل وترديده ما يلقيه إليه الشيطان، على أنه آيات قرآنية إلهية.

ثم إنه ورد في نفس السورة قوله تعالى ـ بعد الموضع الذى زعموا أنه ذكرت فيه تلك الفرية العظيمة ـ:﴿ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)﴾ (النجم)

فلو كانت القصة صحيحة لما كان هناك أي تناسب بينها، وبين ما قبلها وما بعدها، ولكان النظم بذلك مفككاً، والكلام متناقضاً.. وكيف يطمئن إلى هذا التناقض السامعون، وهم أهل اللسان والفصاحة، وأصحاب عقول لا يخفى عليها مثل هذا، ولاسيما أعداؤه الذين يلتمسون له العثرات والزلات.

فلو أن ما روى كان واقعاً لشغب عليه المعادون له، ولارتد الضعفاء من المؤمنين، ولثارت ثائرة مكة، ولاتخذ منه اليهود بعد الهجرة متكئاً يستندون إليه فى الطعن على النبى  r، والتشكيك فى عصمته، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن.

بل إن القرآن الكريم ينص على الوعيد الشديد المتعلق بالنبي r إذا ما فكر في إضافة حرف واحد لم يتنزل عليه، قال تعالى في سورة الحاقة، وهي سورة نزلت بعد سورة النجم:﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)﴾(الحاقة)

قال جيري فاينز: ولكن آية من القرآن تشير إلى أن محمدا قد تعرض لفتنة.. وأنه كاد يقع فيها في حبائل المشركين.

قال الحكيم: تقصد قوله تعالى:﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)﴾ (الإسراء)

قال جيري فاينز: أجل.. ألا ترى أن فيها إشارة واضحة لتلك الحادثة؟

قال الحكيم: لا.. بل أرى فيها دليلا من أدلة تفنيد تلك الحادثة.. فالله تعالى في هذه الآيات يخبر عن تأييد رسوله r وتثبيته، وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه، في مشارق الأرض ومغاربها[40].

ثم إن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه، ولولا أن ثبته لكاد يركن إليهم، وذلك يدل على أن الفتنة لم تقع، وأن الله عصمه وثبته حتى لم يكن يركن إليهم، فقد انتفى قرب الركون فضلاً عن الركون.. فالأسلوب القرآنى جاء على أبلغ ما يكون فى تنزيه ساحته r  عن ذلك، فكيف ينسجم هذا مع مدح آلهتهم؟

قال جيري فاينز: إن كل ما ذكرته من استنادك للقرآن مجرد استنتاجات.. والعبرة في التاريخ بالأحداث لا بالاستنتاجات.

قال الحكيم: صدقت.. وسنحتكم للتاريخ.. لا للاستنتاجات.

قال جيري فاينز: فالتاريخ يؤيد ما ذكرت.

قال الحكيم: أرأيت لو أن مؤرخا جاء بتاريخ مخالف لجميع المؤرخين.. فذكر ـ مثلا ـ أن دولتنا هذه ألمانيا، والتي لا يجهل أحد منا تاريخها.. وفي سنة 2000..  قامت بحرب حقيقية مع جيرانها.. فهل يمكن لأحد أن يقبل هذه الحادثة بحجة أن راويها مؤرخ؟

قال جيري فاينز: لا.. لا يمكن ذلك.. ومثل هذا لا يقبل مؤرخا.. ولن يسمع كلامه أحد من الناس.

قال الحكيم: فلماذا تسمعون كلام كل من يتفوه بكلمة ترضيكم إذا تعلق الأمر بمحمد r، بل وتعتبرونه مؤرخا، ولو خالف جميع المؤرخين.. بل خالف العقل والنقل.

قال جيري فاينز: ولكن كلامه مؤيد بإسناد.

قال الحكيم: من السهل على أي أفاك أن يضع ألف إسناد من أجل نشر أي إفك يريد نشره.. فهل ترى من الحكمة أن نتيح له الفرصة؟

قال جيري فاينز: لا..

قال الحكيم: وهذا ما مارسه المؤرخون المسلمون الذين وضعوا منهجا علميا يميز الصادق من الكاذب ليحموا دينهم مما تعرضت له سائر الأديان من ألوان التحريف.

قال جيري فاينز: فما قال هؤلاء في هذه الحادثة؟

قال الحكيم: لقد اتفقوا على تكذيبها.. لا بالأسلوب الذي كذبناها به، وإنما بأسلوب المؤرخين المعتمد على نقد الأسانيد وتمحيصها.

سكت قليلا، ثم قال: سأذكر لك بعض نقدهم للحادثة لتعلم علم اليقين أنه يستحيل على محمد r أن يصل إليه الشيطان.. وتعلم قبل ذلك أن الله الرحيم بعباده يستحيل أن يترك الشيطان يعبث بمن جعله شمسا لهداية عباده.

من أكبر ما يبين لك عظم المغالطة التي وقع فيها من وضع هذه القصة هو أن تاريخ السيرة العطرة يؤكد أن المعراج وقع بعد السنة العاشرة من البعثة باتفاق، أما قصة الغرانيق هذه فإن رواياتها تبين أنها كانت فى السنة الخامسة للبعثة، إبان الهجرة الأولى للحبشة، وفى رمضان منها؛ وهذا مما يؤكد بطلان تلك المرويات.

قال جيري فاينز: وما علاقة المعراج بسورة النجم التي نزلت فيها تلك الآيات؟

قال الحكيم: لأن سورة النجم تحمل الحديث عن المعراج، وتصل ما حصل ليلة المعراج من أحداث..

أضف إلى ذلك ما ذكرته السيرة العطرة من أن الرسول r  قبل إسلام عمر ـ رضي الله عنه ـ ما كان يصلى عند الكعبة جهاراً نهاراً آمناً أذى المشركين له، حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه، وإنما كان يصلى إذا خلا المسجد منهم.

قال جيري فاينز: فمتى أسلم عمر هذا؟

قال الحكيم: لقد ذكر المؤرخون الذين تعتمد عليهم أنه أسلم فى السنة السادسة، بينما الحادثة ـ كما رواها من ذكرت من المؤرخين ـ وقعت في الخامسة[41].

قال جيري فاينز: لا يكفي كل هذا لتفنيد الحادثة.

قال الحكيم: مع أنك تخالف المنهج العلمي بقولك هذا إلا أني سأذكر لك ما قال المحدثون في نقدهم لهذه الحادثة [42] ..

لقد ذهب جماهير العلماء من المحدثين، ومن المحققين إلى إنكار القصة، والجزم بوضعها واختلاقها:

قال القاضى عياض:( إن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون، المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم… ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين التابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها، ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث ابن عباس، وضعفه الأئمة أيضاً)[43]

وقال الحافظ البزار:( هذا الحديث ـ أى فرية الغرانيق ـ لا نعلمه يروى عن النبى  r بإسناد متصل يجوز ذكره إلا بهذا الإسناد وهو: (يوسف بن حماد، عن أمية بن خالد، عن شعبة، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال ابن جبير: فيما أحسبه)، وقد ضعفه الإمام البزار بما يلى:

1. تفرد أمية بن خالد بنقل هذا الحديث مسنداً عن شعبة عن أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وغير أمية بن خالد يرويه مرسلاً عن سعيد بن جبير عن النبى  r، ومن غير ذكر ابن عباس.

2. وقوع الشك فى حديث شعبة، فسعيد بن جبير، وإن كان معتمداً لكن تردد أن النبى r  كان بمكة فى هذه القضية، أو بغيرها.

3. رواية الكلبى لهذا الحديث عن أبى صالح عن ابن عباس، مضعفة أيضاً بأن الكلبى غير ثقة، وأن أبا صالح لم يسمع من ابن عباس، ففيها انقطاع، والمنقطع من أقسام الضعيف، فلا يحتج به [44].

وقال القاضى بكر بن العلاء المالكى:( لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون، مع ضعف نقلته واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته: فقائل يقول إنه فى الصلاة، وآخر يقول: قالها فى نادى قومه، حيث أنزلت عليه السورة؛ وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة، وآخر يقول: بل حدث نفسه فسها، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبى r  لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؛ وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبى r قرأها؛ فلما بلغ النبى r   ذلك قال: والله ما هكذا نزلت؛ إلى غير ذلك من اختلاف الرواة)[45]

وقال ابن حزم:( وأما الحديث الذى فيه (وإنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى) فكذب بحت موضوع، لأنه لم يصح قط من طريق النقل، فلا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد)[46]

وقال الإمام الرازى:( أهل التحقيق قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، ونقل عن الحافظ ابن خزيمة، أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة، وصنف فيه كتاباً، كما حكى عن الإمام البيهقى قوله: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم فى أن رواة هذه القصة مطعون فيهم)[47]

وقال الشوكانى:( ولم يصح شئ من هذا،ولا ثبت بوجه من الوجوه)[48]

ومن المعاصرين قال الشيخ محمد الصادق عرجون بعد أن فند الروايات التى ذكرها الإمام السيوطى فى تفسيره:( ليس فى روايات فرية الغرانيق، رواية قط متصلة الإسناد على وجه الصحة، ولم يذكر فى جميع الروايات صحابى قط على وجه موثق، وما ذكر فيه باسم ابن عباس، فكلها ضعيفة واهية خلا رواية سعيد بن جبير على الشك فى إسنادها إلى الحبر ابن عباس، والشك يوهيها)[49]

سكت قليلا، ثم قال: بالإضافة إلى هذا كله كيف يغفل المحدثون الكبار عن رواية هذه القصة مع أهميتها.. إن مثلها يحتاج ـ على الأقل ـ إلى إسناد التواتر، خاصة وأنه ارتبط بها حادث تاريخي هام هو عودة المسلمين من الحبشة.

قال جيري فاينز: ولكن الحديث رواه البخاري.. أم أنك لم تقرأ البخاري؟

قال الحكيم: إن راوية البخاري للحادثة تبين وجه الحق فيها.. ففيه عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن النبى r قرأ النجم وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون، والجن، والإنس.. وفى رواية للبخارى عن ابن مسعود قال:( أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم)، قال: فسجد رسول الله r، وسجد من خلفه، إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً، وهو أمية بن خلف)[50]

فأنت ترى أن البخارى اقتصر على هذا الجزء الصحيح من القصة، وليس فيه فرية الغرانيق.

قال جيري فاينز: فكيف سجد المشركون مع أنهم يرفضون السجود لله.. لقد ذكر القرآن مدى نفورهم من السجود، فقال:﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً) (الفرقان:60)؟

قال الحكيم: أحيانا تغفل نفس الإنسان عن نفسها، أو يغفل الشيطان عن النفوس فلا تملك إلا أن تسجد.. ألم تسمع قصة السحرة مع موسى u الذين لم يملكوا إلا أن يسجدوا؟

قال جيري فاينز: أولئك لاحظوا العصا.. والمعجزات التي تحملها؟

قال الحكيم: وهؤلاء لاحظوا القرآن.. والقرآن كلام الله.. وهو لمن تأمله وعاشه يحمل من المعجزات أضعاف ما تحمله العصا.

قال جيري فاينز: ولكن السحرة ثبتوا على سجودهم إلى أن ماتوا في سبيله؟

قال الحكيم: وهؤلاء عادوا إلى عنادهم الذي اعتادوه..

قال جيري فاينز: فقد وقع الفرق بينهما إذن؟

قال الحكيم: لا.. ليس هذا فرقا.. فقد يقر المجرم بإجرامه، ثم يتراجع عنه.

قال جيري فاينز: دعنا من هذا.. فلن أصل معك فيه إلى أي نتيجة.. وهلم بنا إلى الأسانيد التي زعمت أنها أسانيد واهية.. فإن كنت استدللت بمن استدللت به على ضعفها، فإن معي من يقويها[51].. لقد قال ابن حجر، وهو العالم المتبحر المحقق في الصناعة الحديثية:( لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما: ما أخرجه الطبرى عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والثانى: عن أبى العالية)

وقال:( وقد تجرأ أبو بكر بن العربى كعادته فقال: ذكر الطبرى فى ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها، وهو إطلاق مردود عليه)

وقال:( وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلاً، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهى مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله:( ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى)، فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه r، أن يزيد فى القرآن عمداً ما ليس منه، وكذا سهواً، إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته)[52]

قال الحكيم: فقد رجع كلام الحافظ ابن حجر إلى ما ذكرنا، وهو أن القصة في أصلها صحيحة.. ومن أكبر دلائل صحتها أن البخاري رواها..

قاطعه جيري فاينز قائلا: فلم تناقشني كل تلك المناقشات في صحتها؟

قال الحكيم: أنا لا أناقشك في صحة الحادثة.. ولكني أناقشك فيما التصق بها من الإفك والبهتان على رسول الله r .. ذلك أن الكاذب لا يكذب من فراغ، وإنما يعتمد على أصل صحيح ليبني عليه كذبه [53]..

بالإضافة إلى هذا.. فإن كلام ابن حجر لا يقبل على علاته.. فقاعدة (الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلت على أن موضوع الروايات له أصل) ليست على عمومها، ففى باب العقائد لا يقبل إلا النص الصحيح المقطوع بصحته، وفى غير أبواب العقائد من الأحكام الفرعية، فإن هذه القاعدة مقيدة، كما قال المحدثون. بالضعف الذى يزيله ما يجبره، وذلك إذا كان الضعف ناشئاً عن ضعف حفظ الراوى، أما الضعف الذى لا يزول لقوته، وتقاعد الجابر عن جبره ومقاومته فلا وزن له، ولو جاء من سبعين طريقاً متباينة المخارج، وذلك كالضعف الذى ينشأ من كون الراوى متهماً بالكذب ـ  كما فى بعض روايات أقصوصة الغرانيق التى جاءت من طريق الكلبى، وهو كذوب ولا تجوز الرواية عنه ـ ومثل ذلك كون الحديث شاذاً.

أما ذكره للاحتجاج بالمراسيل، فلا يسلم له.. لأن الخلاف فى الاحتجاج بالمرسل إنما هو فى أحكام الفروع، ولا يمكن أن يكون جارياً فى أصول العقائد، لأنها لا تثبت إلا بدليل صحيح، والمرسل ضعيف عند جمهور المحدثين كما قال مسلم:( إن المرسل من الروايات فى أصل قولنا، وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة)[54]

وقال ابن الصلاح:( ثم اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه من وجه آخر، وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل، والحكم بضعفه هو المذهب الذى استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث، ونقاد الأثر)[55]

قاطع جيري فاينز الحكيم قائلا: دعنا من كل هذا.. واذكر لي ما تقول في الآية التي تقول:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج:52)

قال الحكيم: أولا.. هذه الآية الكريمة من سورة الحج.. وسورة الحج مدنية باتفاق العلماء.. ولا يمكنك أن تجادلني في ذلك، فقد ورد فيها الأمر بالأذان فى الناس بالحج، والأمر بالقتال، والأمر بالجهاد، وذكر فيها الصد عن المسجد الحرام، وكل ذلك إنما كان بعد الهجرة، وبعضه أتى بعدها بعدة سنوات، وهذا يعنى أن هذه الآية قد نزلت بعد الغرانيق بسنوات عديدة، لأن قصة الغرانيق ـ كما يذكر من أرخها ـ قد حصلت فى السنة الخامسة من البعثة، فكيف أخر الله تسلية وتهدئة خاطر الرسول r  هذه السنين الطويلة.

ثم إن هذه الآية بعد ذلك ليس فيها دلالة على شئ من فرية الغرانيق.. فالتمنى هو تشهى حصول أمر محبوب ومرغوب فيه، فالرسول r كان يتشهى ويتمنى ما يتناسب مع وظيفته كرسول، وهى ظهور الحق والهدى، وطمس الباطل والضلال، فيلقى الشيطان بغوايته للناس ما يشوش هذه الأمنية، ويكون فتنة للذين فى قلوبهم مرض، كما ألقى فيما بين أمة موسى من الغواية ما ألقى، فينسخ الله بنور الهدى غواية الشيطان، ويظهر الحق للعقول السليمة.

قال جيري فاينز: ولكن العلماء ذكروا أن المراد بالتمنى هو القراءة والتلاوة.

قال الحكيم: ذلك معنى غريب، يخالف ظاهر اللفظ، والأصل في الألفاظ دلالتها على ظواهرها.. ومع ذلك، فإن معنى الآية لو فسرنا التمني بالقراءة لا ينسجم مع الفرية التي ذكرتها..

فالآية ـ حينذاك ـ إعلام من الله تعالى لرسوله r بأن من أرسل قبله من الرسل كان إذا تلا ما يؤديه إلى قومه، حرفوا عليه، وزادوا فيما يقوله ونقصوا، كما فعلت اليهود فى الكذب على أنبيائهم قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:41)، وقال تعالى:﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:46)، وقال تعالى:﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة:75)، وقال تعالى:﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:102)

لقد ذكر أبو حيان للآية تفسيرا حسنا قال فيه:( ذكر الله تعالى مسلاة لنبيه، باعتبار من مضى من الرسل والأنبياء، وهو أنهم كانوا حريصين على إيمان قومهم، متمنين لذلك، مثابرين عليه، وأنه ما منهم أحد إلا وكان الشيطان يراغمه بتزيين الكفر لقومه، وبث ذلك إليهم، وإلقائه فى نفوسهم، كما أنه r كان من أحرص الناس على هدى قومه، وكان فيهم شياطين كالنضر بن الحارث، يلقون لقومه، وللوافدين عليه شبهات يثبطون بها عن الإسلام، ولذلك جاء قبل هذه الآية:﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (الحج:51)، وسعيهم بإلقاء الشبه فى قلوب من استمالوه، ونسب ذلك إلى الشيطان؛ لأنه هو المغوى والمحرك شياطين الإنس للإغواء لما قال:﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(صّ: من الآية82) ومعنى:﴿ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ)(الحج: من الآية52) يزيل تلك الشبه شيئاً فشيئاً حتى يسلم الناس كما قال:﴿ )َرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً) (النصر:2) ﴿ ثم يحكم الله آياته ﴾  معجزاته يظهرها محكمة لا لبس فيها ﴿ ليجعل ما يلقى الشيطان ﴾ من تلك الشبه وزخارف القول ﴿ فتنة ﴾ لمريض القلب ولقاسية، وليعلم من أوتى العلم أن ما تمنى الرسول والنبى من هداية قومه، وإيمانهم هو الحق. وهذه الآية ليس فيها إسناد شئ إلى رسول الله r، إنما تضمنت حالة من كان قبله من الرسل والأنبياء إذا تمنوا)[56]

السحر:

قال جيري فاينز: لا بأس.. فلنسلم بأن تلك الحادثة حادثة مزورة مكذوبة.. ولكن.. ما تقول فيما روي من سحر نبيكم؟.. لا يمكنك أن ترد هذا فقد روي في الصحيح.. بل رواه البخارى ومسلم جميعا.

قال الحكيم: أجل.. فقد حدثا عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سحر رسول الله r  يهودى من يهود بنى زُريق، يقال له: لبيد بن الأعصم، قالت: حتى كان رسول الله  r، يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، دعا رسول الله r، ثم دعا، ثم دعا، ثم قال: يا عائشة أَشَعَرْتِ أن الله أفتانى فيما استفتيته فيه؟ جاءنى رجلان[57] فقعد أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى، فقال الذى عند رأسى، للذى عند رجلى، أو الذى عند رجلى، للذى عند رأسى: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب[58] قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم قال: فى أى شئ؟ قال: فى مشط[59] ومشاطة [60] وجب[61] طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: فى بئر ذى أروان[62] قالت: فأتاها رسول الله r فى أناس من أصحابه، ثم قال: يا عائشة! والله! لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين، قالت: فقلت: يا رسول الله! أفلا أحرقته؟ قال: لا. أما أنا فقد عافانى الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً، فأمرت بها فدفنت[63].

قال جيري فاينز: فها أنت تقر بالحديث ولا تنكره كما أنكره من أنكره[64].

قال الحكيم: أقر بالحديث.. ولكني لا أقر بفهمك له.

قال جيري فاينز: فأنت تقر بأن اليهود تمكنوا من سحر نبيكم؟

 قال الحكيم: وأنت تقر بأن اليهود تمكنوا من صلب نبيكم؟

قال جيري فاينز: فرق كبير بينهما.. فالصلب تضحية وفداء وكفارة للخطايا، وأما السحر فنوع من الجنون.

قال الحكيم: لقد كان ما حصل للنبي r من السحر نوع من التضحية..

قال جيري فاينز: كيف ذلك؟

قال الحكيم: لقد كان الناس في ذلك الحين كما في كل الحين يبالغون في شأن السحر، ويعظمونه، ويخافون منه، وقد جاء القرآن مبينا أن السحر لا يعدو خيالات سرعان ما تنهار أمام حقائق الذكر والاستعاذة والقرآن.

قال جيري فاينز: فلم لم يكتف القرآن بهذا.. ولم وضع نبيكم في التجربة؟

قال الحكيم: لا.. نبينا لم يوضع في التجربة.. بل انتدب ليقضي بنفسه على أسطوة السحر المرعبة كما قضى على أسطورة التبني.

قال جيري فاينز: كيف هذا؟

قال الحكيم: لقد كان التبني شائعا إلى درجة أن الناس بقي في نفوسهم شيء من الزواج بزوجة المتبنى حتى لو ذكرت لهم إباحته، فلذلك انتدب r ليقضي على هذا النوع من الورع الذي لا مبرر له.

قال جيري فاينز: أكذلك الأمر بالنسبة للسحر؟

قال الحكيم: أجل.. فالسحر في كل الشعوب من الأمور الشائعة.. والتي لها آثار النفسية والاجتماعية الخطيرة، فلذلك انتدب r ليرد بسلوكه على هذا.

قال جيري فاينز: فكيف يرد عليه؟

قال الحكيم: لقد أنزل الله برحمته المعوذتين، وقد ذكر أن هذا هو سبب نزلهما، فكانا بذلك رحمة تكفيان الأمة عن كل تعويذة، وعن اللجوء لأي راق.

قال جيري فاينز: ولكن.. ألا يمكن أن يكون من القرآن الذي تقرأونه بعض آثار ذلك السحر؟

قال الحكيم: يستحيل ذلك.. فالسحر الذي تعرض له النبي r ـ في حالة صحة الحادثة ـ لم يكن يعدوا بعض الخيالات المرتبطة بالدنيا مما لا علاقة له بالرسالة ولا بحياته r [65].

إن يشبه كثيرا ما حصل لموسى u من تأثير سحر سحرة فرعون، فقد قال الله تعالى عنه:﴿ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (طـه:66)

بل إن القرآن الكريم ذكر أن الخوف دب إلى موسى u بسبب سحرهم، قال تعالى:﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) (طـه:67)

***

بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (جيري فاينز) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..

التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.

أما أنا، فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد.

 



([1])  أشير به إلى (جيري فاينز) راعي كنيسة في ( جاكسونفيل فلوريدا ) والتي يصل عدد أتباعها إلى 25 ألف شخص، وهو من أبرز المتحدثين في المؤتمر السنوي للكنائس المعمدانية الجنوبية، والذي يعد أكبر مؤتمر ديني يعقد في كل عام، وقد قام كلينتون وبوش الابن بمدح هذا القسيس وعده من المتحدثين بصدق عن دينهم، ومن أقواله التي جعلتنا نختاره لهذا الفصل قوله عن رسول الله r ـ في الاجتماع السنوي للكنيسة المعمدانية الذي عقد في سانت لويس في ميسوري الأمريكية ـ:(.. شاذ يميل للأطفال، ويتملكه الشيطان)

([2]) مستشرق مجرى يهودى، رحل إلى سورية وفلسطين ومصر، ولازم بعض علماء الأزهر، له تصانيف باللغات الألمانية، والإنجليزية، والفرنسية، ترجم بعضها إلى العربية، قال الدكتور السباعى: عرف بعدائه للإسلام، وبخطورة كتاباته عنه، وهو من محررى دائرة المعارف الإسلامية، كتب عن القرآن والحديث، ومن كتبه: تاريخ مذاهب التفسير الإسلامى، والعقيدة والشريعة فى الإسلام، وغير ذلك مات سنة 1921م.

([3]) العقيدة والشريعة فى الإسلام ص112.

([4]) هو ابن كرستوفر شبرنجر، مستشرق نمسوى، يجيد كثيراً من اللغات، له إلمام بالأدب الشرقى مات سنة 1893م، من آثاره: حياة محمد، وقد نشر بعض الكتب العربية مثل: الإصابة فى تمييز الصحابة، والإتقان فى علوم القرآن.

([5]) مستشرق ألمانى، له كتاب مدخل تاريخى نقدى إلى القرآن، مات سنة 1889م. ينظر: آراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره 1/229.

([6]) الإسلام والمستشرقين لنخبة من العلماء ص2.2.

([7]) مقدمة القرآن لمونتجمرى وات ص17، 18، ومقدمة القرآن لبل ص29، 3.

([8]) الوحى القرآنى فى المنظور الاستشراقى ونقده للدكتور محمود ماضى ص1.9، 123.

([9]) الصرع مرض عضوي عصبي يظهر على هيئة نوبات تصيب الشخص، وفيها يفقد الوعي ويسقط أرضاً ثم تظهر لدية حركات تشنجية منتظمة في أجراء مختلفة من جسمه أو أعراض أخرى.

وللصرع أسباب متعددة منها التغيرات التي تظهر على شكل إفرازات كهربائية غير طبيعية في المخ، والعوامل الوراثية، ووجود عيوب خلقية بالمخ، وقد تؤدي إصابات الرأس والتهابات المخ إلى الصرع في جميع الأعمار.

([10])مستشرق ألمانى، من كبار أطباء العيون العالميين، وفى طليعة مؤرخى الطب العربى، تعد اكتشافاته فيه، وكتابته عنه، بالفرنسية والإنجليزية والألمانية، مرجعاً دقيقاً وافياً، سكن مصر، وانتخب نائباً لرئيس المعهد المصرى، والجمعية الطبية المصرية. توفى بالقاهرة سنة 1945م. انظر: الأعلام للزركلى 5/256، 257.

([11]) الإسلام والرسول فى نظر منصفى الشرق والغرب، أحمد بوطامى ص162.

([12])كان النبي r أصح الناس بدنا وأقواهم جسما، وأوصافه التي تناقلها الرواة تدل على البطولة الجسمانية. وقد بلغ من قوته أنه صارع ركانة بن عبد يزيد فصرعه، وكان ركانة هذا مصارعا ماهرا، ما قدر أحد أن يأتي بجانبه إلى الأرض، ولما عرض عليه النبي r الدعوة قال: صارعني فإن أنت غلبتني آمنت أنك رسول الله، فصارعه الرسول فغلبه، فقيل إنه أسلم عقب ذلك( التاريخ الكبير رقم 1146) والمصاب بالصرع لا يكون على هذه القوة.

([13]) من الأدلة المثبتة لمعرفتهم به ما ورد في الحديث عن عطاء بن أبى رباح قال قال لى ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبى r قالت إنى أصرع وإنى أتكشف فادع الله لى. قال إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. قالت أصبر. قالت فإنى أتكشف فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها (رواه البخاري ومسلم)

([14]) رواه ابن اسحاق والبيهقي.

([15]) رواه البخاري.

([16]) رواه ابن أبى حاتم فى تفسيره مرفوعا، ورواه موقوفاً على ابن عباس، الحاكم فى المستدرك، وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبى، ورواه الطبرانى بإسناد رجاله ثقات سوى شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبى مريم فهو ضعيف كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 7/176.

 

([17]) رواه البخاري ومسلم.

([18]) رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبى، ورواه الشافعى فى الرسالة وأبو نعيم فى الحلية.

([19]) ذكر بعضهم هنا التكليم في المنام، واستدل له بحديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r   تأخر عنهم ذات غداة، فخرج عليهم وصلى وتجاوز فى صلاته، فلما سلم قال:( كما أنتم على مصافكم)، ثم أقبل إلينا فقال:( إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة، فقال: يا محمد أتدرى فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت: لا أدرى يا رب… الحديث( رواه أحمد والترمذى وقال: حسن صحيح، سألت البخاري عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح)

وهذا النوع يدخل فيما ذكرناه من الوحي عن طريق الرؤى المنامية.

أما الحديث الذي استدلوا به، فنرى التوقف في صحته، فلم نر نصا واحدا صحيحا يثبت ما أثبته هذا النص من التشبيه، فإما أن يكون الحديث صحيحا تصرف الرواة في ألفاظه، وإما أن لا يكون صحيحا أصلا.. والله أعلم.

([20]) رواه البخاري ومسلم.

([21]) رواه البخاري ومسلم.

([22]) وهاتان الحالتان لم تذكرا بصيغة الحصر، ولهذا لا نرى مانعا من أن يكون النبي r قد رأى جبريل u غير هاتين المرتين، وما روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ مرفوعاً:( لم أره على صورته التى خلق عليها إلا مرتين)، فهي إخبار منه r عن عدد المرات وقت حديثه بالحديث.

([23]) رواه البخاري ومسلم.

([24]) رواه أحمد.

([25])رواه البخاري ومسلم.

([26]) ورد في كتاب (الموسوعة العربية الميسرة) أن مريض الصرع يمكن أن يرى شبحاً، ويسمع صوتاً أو يشم رائحة ويعقب ذلك وقوع المريض صارخاً على الأرض، وفاقداً وعيه ثم تتملكه رعدة تشنجية تتصلب فيها العضلات، وقد يتوقف فيها التنفس مؤقتاً… ويعقب النوبة خور فى القوى، واستغراق فى النوم يصحو منه المريض خالى الذهن من تذكر ما حدث له (الموسوعة العربية الميسرة ليوسف إلياس سركيس)

([27]) يصاب مريض الصرع بآلام حادة في كافة أعضاء جسمه يحس بها إذا ما انتهت نوبة الصرع، ويظل حزينا كاسف البال بسببها، وكثيرا ما يحاول مرضى الصرع الانتحار من قسوة ما يعانون من آلام في النوبات فلو كان ما يعتري النبي r عند الوحي صرعا لأسف لذلك وحزن لوقوعه ولسعد بانقطاع هذه الحالة عنه، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك.

لقد فتر الوحي عن الرسول مدة فحزن لذلك حزنا شديدا، وكان يذهب إلى غار حراء وقمم الجبال عسى أن يعثر على الملك الذي جاء بحراء وبقي محزون النفس من هذه الحالة حتى سرى عنه ربه يوصل ما أنفصم من الوحي.

([28]) محاسن التأويل للقاسمى.

([29]) هو مستشرق ألمانى، تعلم اللغة العربية، وكان عالماً بتاريخ الأدب العربى، وعضو المجمع العربى. مات سنة 1956م من آثاره: تاريخ الأدب العربى، وتاريخ الشعوب الإسلامية، وغيرها.

([30]) هو أمية بن عبد الله بن أبى الصلت بن أبى ربيعة بن عوف الثقفى، شاعر جاهلى من أهل الطائف، فى شعره حكم، اطلع على الكتب القديمة، وقد لقى النبى  r، ولم يؤمن به، مات سنة 5هـ على خلاف فى ذلك.

([31]) تاريخ الشعوب الإسلامية ص36.

([32]) المدخل لدراسة القرآن للدكتور محمد أبو شهبة.. وانظر رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

([33]) رواه عبد الرزاق.

([34])فى بعض الروايات (فجثثت) بمثلثة بدل الهمزة، ومعناهما: فزعت منه، وخفت، وذعرت، وقيل: معناه: قلعت من مكانى. النهاية: 1/231، 225.

([35]) رواه البخاري.

([36]) فتح البارى: 1/37.

([37]) انظر: المسند: 3/232، 233.

([38]) هو: محمد بن عمر بن واقد الواقدى، قاضى العراق، رغم دقته فى المغازى وإمامته فيها إلا أنهم ضعفوه فى الحديث، قال الذهبى: الواقدى وإن كان لا نزاع فى ضعفه، فهو صادق اللسان، كبير القدر، وقال: ابن حجر: متروك مع سعة علمه، من أشهر مؤلفاته: المغازى، والردة، مات سنة 207هـ له ترجمة فى: لسان الميزان 9/531.

([39]) سنرى المصادر التي روت هذه الرواية بتفصيل عند مناقشتنا لسندها، وننبه إلى أنا كنا قد رددنا بإجمال على هذه الشبهة في (الكلمات المقدسة) فصل (الربانية)

([40]) ابن كثير: 5/100.

([41]) انظر: الفصول الزكية فى سيرة خير البرية للدكتور عبد الموجود عبد اللطيف ص284، 285.

([42]) الحادثة رواها الطبرى فى تفسيره:  17/186، وابن أبى حاتم فى تفسيره 8/25 وابن المنذر، ثلاثتهم من طرق عن سعيد بن جبير مرسلاً، ووصلها البزار فى مسنده، وكذا الطبرانى، وابن مردويه، والضياء فى المختارة من طريق آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال ابن جبير: فيما أحسب، شك فى أن القصة بمكة، وأخرجه النحاس بسند فيه الواقدى عن ابن عباس، وابن مردويه من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، وابن جرير فى تفسيره: 17/186 من طريق العوفى عنه، وعن محمد بن كعب القرظى، ومحمد بن قيس، وأبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبى العاليه، وكلها مرسلة، وابن أبى حاتم فى تفسيره 8/25.2 رقم 14..3، عن السدى، وموسى بن عقبة فى المغازى عن الزهرى، ومن طريق موسى بن عقبة أخرجه البيهقى فى دلائل النبوة 2/285، ورواها الطبرانى مرسلة عن عروة بن الزبير، وفى سنده ابن لهيعة، ولا يحتمل هذا منه، كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 7/72. وينظر: 6/32 – 34، والمعنى فى الروايات السابقة كلها للقصة واحد، كما قال الحافظ فى فتح البارى كتاب التفسير، باب سورة الحج 8/293، انظر: مناهل الصفا فى تخريج أحاديث الشفا للسيوطى ص221.

([43]) الشفا: 2/125، 126.

([44]) انظر: نسيم الرياض فى شرح الشفا للخفاجى 4/87، والشفا 2/126.

([45]) انظر: الشفا: 1/125.

([46])الفصل فى الملل والنحل 2/3.8، 3.9، 311.

([47]) التفسير الكبير 12/51.

([48]) فتح القدير 3/461.

([49]) محمد رسول الله  r   2/69.

([50]) رواه البخاري.

([51])للأسف فإن القصة مع الدلائل الكثيرة على وضعها ومنافاتها للنبوة ظهر من العلماء من يؤيدها أو يسكت على الأقل عن ذكر وضعها، ومن هؤلاء: ابن تيمية ( فى كتابه الفتاوى 10/170 – 172) حيث عمم الكلام فى إثبات القصة دون تحقيق منه.

ومنهم السيوطى فى الدر المنثور 6/65، ومناهل الصفا ص221، والقسطلانى فى المواهب اللدنية، والزرقانى فى شرحه على المواهب 2/19 – 26، وذلك فى نهاية كلامهما، بعد أن كانا فى فاتحته مع ما قاله القاضى عياض من رد القصة وإبطالها.

([52]) فتح البارى، كتاب التفسير، باب سورة الحج 8/293.

([53]) ويشير إلى هذا قوله r:( ذا قضى الله تعالى الامر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع في قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: للذي قال: الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقوا السمع ومسترقوا السمع هكذا واحد فوق آخر فربما لم أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذى يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى يلقوها إلى الارض فتلقي على فم الساحر فيكذب معها مائة كذبة فيصدق، فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقا للكلمة التى سمعت من السماء) رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة.

([54])مقدمة صحيح مسلم، باب صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن 1/163.

([55])علوم الحديث ص49.

([56])البحر المحيط 6/381.

([57]) أى ملكان فى صورة رجلين، دل على ذلك ما جاء فى مسند أحمد 6/63:( أتانى ملكان)، وكان ذلك مناماً.

([58]) أى مسحور،كنو بالطب عن السحر،تفاؤلاً بالبرء، كما كنوا بالسليم عن اللديغ. النهاية 3/101.

([59]) بضم الميم، ويجوز كسرها، هو الآلة المعروفة التى يسرح بها شعر الرأس واللحية.

([60]) هى: الشعر الذى يسقط من الرأس واللحية عند التسريح بالمشط. النهاية 4/284.

([61]) بالجيم والباء، وفى رواية: بالجيم والفاء، وهما بمعنى واحد، وهو الوعاء الذى يكون فيه ثمرة النخلة، سواء النخلة الذكر أو الأنثى، ولهذا قيده فى الحديث بأنه كان من نخلة ذكر، وهو الذى يكون فيه اللقاح. النهاية 1/227.

([62]) وهى بئر بالمدينة فى بستان بنى زريق. النهاية 2/148.

([63]) رواه البخاري ومسلم.

([64])وقف بعض العلماء موقف الإنكار لهذا الحديث بعلة منافاته للعصمة، ومنهم محمد عبده الذي قال في معرض إنكاره للحديث:( نعلم أن البخارى أصدق كتاب بعد كتاب الله، وأنا لا أشك أن البخارى سمع هذا من أساتذته، والبخارى يشترط فى أحاديثه المعاصرة واللقاء، إلا أننى أرى أن هذا لم يحدث مع النبى r، وإن كان قد دس من الإسرائيليات إلى مشايخ البخارى الذين أخذ منهم، وإلا فإننا إن قد صدقنا أن النبى  r، قد سحر فقد صدقنا كلام الظالمين الذى حكاه القرآن عنهم:﴿ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً)(الفرقان: من الآية8)، وإن صدقنا أن النبى r قد سحر، فقد كذبنا الله سبحانه وتعالى القائل فى كتابه الحكيم:﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾  (الشعراء:212)، وقال عز وجل:﴿ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً)(الجـن: من الآية9)

ثم قال:( وأما الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد، وعصمة النبى من تأثير السحر فى عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن المظنون على أى حال، فلنا بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث، ولا نحكمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبى r فى عقله ـ كما زعموا ـ جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئاً، وهو لم يبلغه، أو أن شيئاً نزل عليه، وهو لم ينزل عليه، والأمر هنا ظاهر لا يحتاج إلى بيان.

ثم ختم كلامه قائلاً:( أحب أن أكذب البخارى، من أن أنسب إلى رسول الله  r   أنه سحر) (تفسير جزء عم، ص18. – 183، ومجلة المنار: 12/697، و29/1.4)

ومنهم سيد قطب، فقد قال في تفسير سورة الفلق بعد إيراده لهذا الحديث:« ولكن هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأن كل فعل من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - وكل قول من أقواله سنة وشريعة، كما أنها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه مسحور، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من هذا الإفك. ومن ثم تستبعد هذه الروايات.. وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة. والمرجع هو القرآن. والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد. وهذه الروايات ليست من المتواتر. فضلا على أن نزول هاتين السورتين في مكة هو الراجح. مما يوهن أساس الروايات الأخرى » الظلال: 6/4008.

ولم يكن الأنكار قاصرا على المتأخرين.. بل ذهب إليه كثير من المتقدمين كما أشار إلى ذلك النووي في قوله:( وقد أنكر بعد المبتدعة هذا الحديث بسبب أنه يحط من مقام النبوة وشرفها، ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع) ( المنهاج شرح مسلم 7/43)

ونحن لا نسلم للنووي ـ رحمه الله ـ رميه لمن ذهب إلى هذا بأنه من المبتدعة وإلا لما استثنينا من البدعة عالما من العلماء بدءا بالأئمة الأربعة فمن بعدهم، فليس منهم أحد إلا وأنكر بعض نصوص الآحاد أو لم ير العمل بها.

زيادة على أن المضرة من المبالغين في رواية مثل هذه الأحاديث ونشرها بين العامة من دون تفسير للحقيقة المرادة منها أخطر بكثير من أنكارها.. وإلى هؤلاء يشير قوله r:( كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع)، بل ورد في روية أخرى:( كفى بالمرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع ) رواهما مسلم.

([65]) نقل ابن حجر عن بعضهم أن المراد بالحديث أنه كان r يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن، وهذا كثير ما يقع تخيله للإنسان في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة. انظر: فتح الباري: 10 / 227.

وقال القاضى عياض:( وقد جاءت راويات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده، وظواهر جوارحه، لا على عقله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله فى الحديث:( حتى يظن أنه يأتى أهله ولا يأتيهن)، ويروى:( يخيل إليه) بالمضارع كلها، أى يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن، ولم يتمكن من ذلك كما يعترى المسحور.

وقال:( وكل ما جاء فى الروايات من أنه يخيل إليه فعل الشئ ولم يفعله ونحوه، فمحمول على التخيل بالبصر، لا لخلل تطرق إلى العقل، وليس فى ذلك ما يدخل لبساً على تبليغه أو شريعته، أو يقدح فى صدقه لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، فلا مطعن لأهل الضلالة)( الشفا 2/180)