الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: النبي المعصوم

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

تاسعا ـ حروب

1 ـ شرعية الحرب

الكتاب المقدس:

القرآن الكريم:

2 ـ أسباب الحرب

سرية سيف البحر:

سرية رابغ‏:‏

سرية الخرار:

غزة الأبواء‏:‏

غزوة بواط‏:‏

غزوة سفوان:

غزوة ذي العشيرة‏:‏

سرية نخلة‏:‏

غزوة بدر:

غزوة بني سليم:

غزوة السويق:

غزوة ذي أمر:

غزوة بحران:

سرية القُردة:

غزوة بني قينقاع:

غزوة أحد:

غزوة حمراء الأسد:‏

سرية أبي سلمة‏:

بعث عبد الله بن أُنَيس‏‏:

بعث الرَّجِيع‏:

بئر مَعُونة‏:

غزوة بني النضير:‏

غزوة ذات الرّقاع:

غزوة بدر الثانية‏‏:

غزوة دُوَمة الجندل‏:

غزوة بني المصطلق:

غزوة الأحزاب:

غزوة بني قريظة:

سرية القرطاء:

غزوة بني لحيان:

غزوة ذي قرد:

سرية الغمر:

سرية ذي القَصَّة:

 

سرايا لزيد بن حارثة:

سرية عبد الرحمن بن عوف:

سرية بني سعد بن بكر:

سرية أم قرفة:

سرية عبد الله بن عتيك:

سرية عبد الله بن رواحة:

سرية كُرز بن جابر الفهري:

سرية الخبط:

صلح الحديبية:

غزوة خيبر:

غزوة وادي القرى:

سرية أبَان بن سعيد:‏

سرية غالب بن عبد الله الليثي:

سرية عمر بن الخطاب:

سرية بني مرة:

سرية غالب بن عبد الله الليثي:

سرية بشير بن سعد الأنصاري:

سرية أبي حَدْرَد الأسلمي:

سرية الأخرم:

سرية غالب بن عبد الله الليثي:

سرية شجاع بن وهب الأسدي:

سرية كعب بن عمير الغفاري:

سرية مؤتة:

سرية ذات السلاسل:

سرية أبي قتادة:

فتح مكة:

غزوة حنين:

غزوة الطائف:

بعث قيس بن سعد إلى صُدَاء:

سرية عيينة بن حصن الفزاري:

سرية قطبة بن عامر:

سرية علقمة بن مجزز المدلجي:

سرية علِيّ بن أبي طالب:

غزوة تبوك:

سرية خالد بن الوليد:

بعث عليّ بن أبي طالب:

3 ـ أخلاق الحرب

دوافع:

1 ـ الدفاع:

2 ـ الخلاص:

وسائل:

1 ـ الوفاء:

2 ـ النبل:

3 ـ الإنسانية:

4 ـ الرحمة:

تاسعا ـ حروب

في مساء اليوم التاسع.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل دوج مارلت[1].. الرسام.. بوجه لم يصعب علي أن أتبين ما فيه من تغير.

ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟

لم يجبهم بشيء.. بل ألقى بين أيديهم القرص الذي سجل فيه حواره التجريبي، ثم قال: هو ذا التسجيل بين أيديكم.. وهو سيجيبكم أفضل مني.. فأنا إلى الآن لا أكاد أعرف شيئا.

ابتدر أخي.. ووضع القرص في القارئ.. وبدأ شريط الأحداث:

رأينا دوج يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: هل تعرفون محمدا؟

قال أحدهم: ومن لا يعرف محمدا، وهو الشمس التي نستقي من دفئها، ونتنور من نورها.. ولولاها ما كانت للكون ألوانه التي نراها[2].. ولا كان لنا السكينة التي نحياها.

قال آخر: ومن لا يعرف محمدا.. وهو النبيل المتسامح الرحيم اللطيف الودود..

وقال غيرهما أوصافا مثل هذه..

لم يجبهم دوج بشيء.. بل نزع ـ في ثقة عجيبة ـ الغلاف عن لوحة كبيرة كان يحملها، وهي تحمل صورة رجل يحمل سيوفا كثيرة يقتل بها كل شيء يجده أمامه، ثم قال: هذا هو محمد.. إن هذه الصورة تمثل الإرهاب [3] الذي  كان يمارسه محمد.. ألا ترون كثرة السيوف التي تمتلئ بها هذه اللوحة.. إن كل سيف منها يمثل معركة من المعارك الكبرى التي خاضها محمد إما بنفسه.. أو بالمرتزقة الذين أغراهم بالجنة ليقوموا بأشنع المعارك في تاريخ الإنسانية.

قال ذلك، ثم أشار إلى سيف من السيوف، وقال: هذا السيف ـ مثلا ـ يمثل غزوة سيف البحر.. لاشك أنكم لم تسمعوا بها.. إنها من المعارك الكبرى التي خاضها محمد مع المرتزقة الذين صاحبوه.

أشار إلى سيف آخر، ثم قال: وهذه غزوة رابغ.. وهذه بواط العشيرة.. وهذه سفوان وتسمى غزوة بدر الأولى.. وهذه غزوة بدر الكبرى.. وهي من الحروب الكبرى التي خاضها محمد.. وهذه غزوة بني سليم.. وهذه غزوة بني قينقاع.. وهذه غزوة السويق.. وهذه غزوة قرقرة الكدر.. وهذه غزوة غطفان.. وهذه غزوة بحران بالحجاز.. وهذه غزوة أحد.. وهذه غزوة حمراء الأسد.. وهذه غزوة بني النضير.. وهذه غزوة ذات الرقاع.. وهذه غزوة بدر الأخيرة وهي غزوة بدر الموعد.. وهذه غزوة دومة الجندل.. وهذه غزوة بني المصطلق.. وهذه غزوة الخندق.. وهذه غزوة بني قريظة.. وهذه غزوة بني لحيان.. وهذه غزوة الحديبية.. وهذه غزوة ذي قُرُد.. وهذه غزوة خيبر.. وهذه غزوة وادي القرى.. وهذه غزوة عمرة القضاء.. وهذه غزوة فتح مكة.. وهذه غزوة حنين.. وهذه الطائف.. وهذه غزوة تبوك.

لقد بلغت غزوات محمد التي غزا فيها بنفسه تسعاً وعشرين غزوة.. أما سراياه.. أي الغزوات التي لم يقُدها بنفسه، بل أرسل إليها بعض أصحابه، فعددها تسع وأربعون. وقيل إنها تزيد على سبعين[4]..

هل يمكن لنبي أن يفعل هذا.. هل يمكن لنبي أن يخوض كل هذه الحروب..!؟

تأملوا حياة المسيح المتسامح.. وقارنوها بحياة هذا النبي المقاتل.. بل الذي لا يهدأ عن الحرب.

عودوا إلى الكتاب المقدس ذلك الكتاب المملوء بالسلام .. وأحرقوا تلك المصاحف التي كتبها لكم محمد، ليأمركم من خلالها أن تقاتلوا الناس كافة.

قام بعض الجمع غاضبا، وهو لا يكاد يسمع صوت الحكيم الذي أمرهم بالهدوء، فقام دوج يحتمي بالحكيم، ويقول: إن ما تفعلونه هو الإرهاب.. فمحمد الذي تتبعونه.. وتركتم له عقولكم هو الذي جعلكم إرهابيين تريدون أن تقمعو الفن النبيل بالسلاح الذي لم يعلمكم محمد غيره.. لأنه لم يكن لديه إلا السلاح.. ولم يكن يمارس في حياته غير الإرهاب.

قال الحكيم: مهلا ـ يا أخي ـ لا ينبغي أن تصب الزيت في النار، فتحرقهم، وتحرق نفسك.

قال دوج: بل ينبغي أن أصبها حتى أحرق ذلك الذوبان في محمد.. والذي جعلهم يمارسون الإرهاب بكل أصنافه.

قال الحكيم: ألا ترى أن ما تمارسه الآن نوع أخطر من الإرهاب نفسه؟

قال دوج: لا.. أنا فنان مبدع.. وقد استطعت بريشتي أن أصور الحقيقة التي عجزت جميع أسفار الدنيا أن تصورها.

قال الحكيم: إنك تصور ما توهمته حقيقة.. ونحن لا نعتب عليك وهمك.. ولكن نعتب عليك إصرارك عليه.

نحن وإياك نشبه مدعيا ومتهمين.. فأنت المدعي ونحن المتهمون.. فهل ترى من العقل والأدب أن تتهم شخصا، ثم لا تسمح له أن يغضب لأنك تتهمه من دون بينة.. ثم لا تعطي له بعد ذلك الفرصة لأن يدافع عن نفسه، ويدفع التهم التي تكلها له؟

سكت دوج، فقال الحكيم: هذا نوع من الإرهاب.. إنك ـ يا أخي ـ تقيم بتصرفك هذا محاكمة عسكرية، ليس فيها شهود ولا محامون..

قال: ولكن محمدا مات.. ولا حرج علي أن أرسمه بأي صورة أشاء.

قال الحكيم: أرأيت لو أن رساما لا يقل عنك إبداعا انتظر حتى تموت أمك، ثم رسمها بصورة مومس بغي.. هل تقبل ذلك؟.. أم هل تعتبر ذلك من الحرية؟

قال دوج: لا شك أني لا أقبل.. ولكن هي أمي..

قال الحكيم: وهذا محمد.. وهو بالنسبة لكل مسلم أعظم حرمة من أبيه وأمه وأخيه وزوجه وولده.. إنه بالنسبة للمسلمين أحب إليهم من أنفسهم.. إنه بالنسبة لهم العين التي بها يبصرون.. والأذن التي بها يسمعون.. والروح التي بها يحيون..

وأنا أقول لك بكل صراحة.. لو أنك رسمت هذه الصورة.. وقلت للناس: هذه صورة فلان من الناس من المسلمين.. ربما لو قلت ذلك لن يهتم أحد.. ولن يبالي أحد حتى من رسمته لا يبالي.. أما محمد.. فهو القداسة بعينها.. ولا ينبغي للقداسة ان تلطخ.

قال دوج: ولكني ذكرت لكم أدلتي.. ألم تر كل تلك السيوف.. إن كل سيف منها دليل قائم بذاته.. إن كل سيف منها لم يضعه محمد حتى ملأه دماء.

انتفضت الجماعة غاضبة، فقال الحكيم: مهلا ـ يا جماعة ـ إن هذا الرجل ـ على ما يبدو ـ طالب حق.. وقد ذكر لنا من خلال صورته هذه الشبه التي تحيك في نفسه، وتحول بينه وبين محمد r.. والأدب الذي أدبنا رسول الله r يدعونا لأن نحل له الإشكالات التي وقع فيها، ونجيبه عن الشبه التي جعلته يعتقد في نبينا هذا.

قال دوج: لا.. أنا لست واقعا في أي شبهة.. بل أنا متأكد من كل ما فعلته مصر عليه غاية الإصرار.

قال الحكيم: لا بأس.. ولكن المنطق العلمي يدعوك لأن تسمع لنا، ثم تجيبنا بعد ذلك بما تشاء أن تجيبنا به.

قال دوج: وهل لأمثالكم منطق علمي حتى يمكن أن نسمع له؟

قال الحكيم: لا بأس.. سنعرض عليك ما عندنا.. ولك الحرية بعد ذلك أن تقبله أو أن ترده.

قال دوج: أنا فنان مبدع.. وليس للفنان المبدع أن يضيع وقته مع أمثالكم.

قال الحكيم: لا بأس.. اعتبرنا مادة لفنك.. اسمع لنا.. ثم صور ما تشاء مما نقوله بما تشاء من ألوانك.

سكت دوج، فقال الحكيم: إن ما ذكرته من شبه يستدعي البحث العلمي في ثلاثة أمور:

أما أولها.. فهو في شرعية الحرب من خلال مصادركم ومن خلال مصادرنا، باعتبار المصادر هي الأساس الذي نتلقى منه أفكارنا وسلوكنا وحياتنا.

وأما الثاني.. فهو النظر في أسباب الحروب التي مارسها رسول الله r.. ونقارنها بالحروب التي مارسها رجال الكتاب المقدس وغيرهم على امتداد تاريخ البشرية.

وأما الثالث.. فهو النظر في الأخلاق التي صاحبت حروب محمد.. والتي صاحبت حروبكم.

نظر إلى الجماعة، وقال: أظن أن هذه الأمور الثلاثة التي نقارن فيها بيننا وبين الآخر تكفي للدلالة على حقيقة الحروب التي مارسها محمد r.

قال دوج: لا بأس.. سأستمع لك.. ولكن ذلك لا يعني أنني أوافقك.

قال الحكيم: أنا لا يهمني أن توافقني أو تخالفني.. بل يهمني شيء واحد هو أن أذكر لك ما عندي من الحقائق، وترد عليك بما لديك منها لنصل إلى الحقيقة.. فليس لنا من هدف في هذه الحياة إلا الوصول إلى الحقيقة.

1 ـ شرعية الحرب

قال رجل من الجمع: فلنبدأ من الأول.. من شرعية الحرب من خلال مصادرهم، ومن خلال مصادرنا.

قال الحكيم: أما مصادرهم، فكثيرة، منها ما يرجع إلى فلسفاتهم ومذاهبهم وتصوراتهم للحياة.. وهذه لا يمكن أن نجد فيها إلا استباحة سفك الدماء لأي سبب من الأسباب.. ولذلك سنستبعد هذه المصادر.

وسنكتفي بأنظف مصادرهم وأقدسها.. وهي المصادر التي فخر علينا بها هذا الفنان الآن.. وهي أسفار الكتاب المقدس.

الكتاب المقدس:

أخرج من محفظته نسخة من الكتاب المقدس، ثم قال: لدي نسخة من الكتاب المقدس.. أنا لا أكف عن مطالعتها.. وسأذكر لكم منها موقف هذا الكتاب من الحروب.. ثم نقارن هذا الموقف بما تقوله مصادرنا.. لنرى من خلال هذه المقارنة مدى شرعية الحرب بين مصاردهم ومصادرنا.

سنكتفي من الكتاب المقدس بهذه الأسفار: التكوين ـ العدد ـ التثنية ـ يوشع ـ القضاة ـ صموئيل الأول ـ الملوك الثانى ـ حزقيال.

أما فى سفر العدد، فنرى موسى بعد خروجه بقومه من مصر يرسل رسلا يتحسسون أمر أرض كنعان ـ فلسطين ـ ليستقروا فيها.. ففيه:( فساروا حتى أتوا موسى وهارون وكل جماعة بنى إسرائيل إلى برية فاران إلى قادش، وردوا إليهما خبرًا وإلى كل الجماعة، وأروهم ثمر الأرض وأخبروه، وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التى أرسلتنا إليها، وحقا إنها تفيض لبناً وعسلاً وهذا ثمرها غير أن الشعب الساكن فى الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جداً وأيضا قد رأينا بنى عناق هناك) ( العدد: 13 / 26-29)

وجاء فى سفر صموئيل الأول:( فأجاب نابال عبيد داود وقال: من هو داود ومن هو ابن يسى قد كثر اليوم العبيد الذين يقحصون كل واحد من أمام سيده، أآخذ خبزى ومائى وذبيحى الذى ذبحت لجارى وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم؟ فتحول غلمان داود إلى طريقهم ورجعوا وجاءوا وأخبروه حسب كل هذا الكلام، فقال داود لرجاله: ليتقلد كل واحد منكم سيفه وتقلد داود سيفه وصعد وراء داود نحو أربعمائة رجل ومكث مائتان مع الأمتعة ) (صموئيل الأول: 25/10-14)

وفى سفر الملوك الثانى:( وكان ميشع ملك موآب الثانى صاحب مواش، فأدى لملك إسرائيل مائة ألف خروف ومائة ألف كبش بصوفها، وعند موت آخاب عصى ملك موآب على ملك إسرائيل وخرج الملك يهورام فى ذلك اليوم من السامرة وعد كل إسرائيل وذهب وأرسل إلى يهو شافاط ملك يهوذا يقول: قد عصى على ملك موآب، فهل تذهب معى إلى موآب للحرب؟)( الملوك الثانى: 3/4 - 8)

وفى سفر حزقيال:( وكان إلى كلام الرب قائلا: يا ابن آدم اجعل وجهك نحو أورشليم وتكلم على المقادس وتنبأ على أرض إسرائيل وقل لأرض إسرائيل هكذا قال الرب هأنذا عليك وأستل سيفى من غمده فأقطع منه الصديق والشرير من حيث إنى أقطع منك الصديق والشرير فلذلك يخرج سيفى من غمده على كل بشر من الجنوب إلى الشمال فيعلم كل بشر أنى أنا الرب سللت سيفى من غمده لا يرجع أيضاً) (حزقيال:21 /1 - 5)

وفى سفر يوشع:( وأنتم قد رأيتم كل ما عمل الرب إلهكم هو المحارب عنكم انظروا: قد قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين ملكاً حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التى قرضتها والبحر العظيم نحو غروب الشمس والرب إلهكم هو ينفيهم من أمامكم ويطردهم من قدامكم فتملكون أرضهم كما كلمكم الرب إلهكم) (يوشع: 23/3-5)

وفى سفر القضاة:( وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوا بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل وسكان الجنوب والسهل) ( القضاة: 18/27-30)

وفيه:( فأما هم فقد أخذوا ما صنع ميخاً والكاهن الذى له وجاءوا إلى لايش إلى شعب مستريح مطمئن فضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار ولم يكن مَنْ ينقذ لأنها بعيدة عن صيدون ولم يكن لهم أمر مع إنسان وهى فى الوادى الذى لبيت رحوب فبنوا المدينة وسكنوا بها ودعوا اسم المدينة دان باسم دان أبيهم الذى ولد لإسرائيل ولكن اسم المدينة أولا: لايش )

وفى سفر صموئيل الأول:( وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب ونزلوا عند حجر المعونة، وأما الفلسطينيون فنزلوا فى أفيق واصطف الفلسطينيون للقاء إسرائيل واشتبكت الحرب فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضربوا من الصف فى الحقل نحو أربعة آلاف رجل ) ( صموئيل الأول: 4/1-4)

وفى سفر التكوين:( فحدث فى اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابنى يعقوب شمعون ولاوى أخوى دينة أخذ كل واحد منهما سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف لأنهم بخسوا أختهم، غنمهم وبقرهم وكل ما فى المدينة وما فى الحقل أخذوه وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما فى البيوت) ( التكوين: 34/25-29)

وفى سفر التكوين:( فلما سمع إبرام أن أخاه سبى جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر وتبعهم إلى دان وانقسم عليهم ليلاً هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى حوبة التى من شمال دمشق واسترجع كل الأملاك واسترجع لوطاً أخاه أيضاً وأملاكه والنساء أيضاً والشعب) (التكوين: 14/14 – 16)

وفى سفر العدد:( فقال الرب لموسى لا تخف منه لأنى قد دفعته إلى يدك مع جميع قومه وأرضه فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الساكن فى حبشون فضربوه وبنيه وجميع قومه حتى لم يبق لهم شارد وملكوا أرضه) ( العدد: 21/34-35)

وفى سفر العدد:( ثم كلم الرب موسى قائلا ضايقوا المديانيين واضربوهم لأنهم ضايقوكم بمكايدهم التى كادوكم بها) (العدد: 25/16)

وفيه نرى نرى أن الله قد أمر موسى ـ عليه السلام ـ أن يشن حرباً على أقوام قد عبدوا غير الله.. ففيه:( وكلم الرب موسى فى عربات مو آب على أردن أريحا قائلا: كلم بنى إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم) (العدد: 33/ 50-53)

ومثل ذلك ما ورد فى سفر صموئيل:( فقال داود للفلسطينى: أنت تأتى إلى بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتى إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم.. فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل) ( صموئيل:45- 47)

وفى سفر صموئيل الأول:( فذهب داود ورجاله إلى قعيلة وحارب الفلسطينيين وساق مواشيهم وضربهم ضربة عظيمة وخلص داود سكان قعيلة)(صموئيل الأول: 23/6)

وفى سفر المزامير:( يسبح داود الرب ويمجده لأنه يعطيه القوة على محاربة أعدائه: الذى يعلم يدى القتال فتحنى بذراعى قوس من نحاس.. أتبع أعدائى فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم أسحقهم فلا يستطيعون القيام، يسقطون تحت رجلى تمنطقنى بقوة للقتال تصرع تحتى القائمين على وتعطينى أقفية أعدائى ومبغضى أفنيهم) ( المزامير: 18/35-41)

هذه بعض النصوص التي تدل على مشروعية الحرب والقتال، فالحرب ـ حسب هذه النصوص ليست شيئا مكروها.. بل هي دائما تتم بمباركة الرب ومعونته، وكأن الرب ـ حسب تعبير التوراة ـ قد استل سيفه من غمده فلا يرجع، كما في سفر ( حزقيال:21/5)

قال دوج: أنت ترجع للعهد القديم.. ولكن العهد الجديد يقول:(من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر)

قال الحكيم: وهو يقول كذلك:( لا تظنوا أنى جئت لأرسى سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسى سلاماً، بل سيفاً، فإنى جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها والكنة مع حماتها، وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته ) (إنجيل متى: 10/34-36)

القرآن الكريم:

قال رجل من القوم: فحدثنا عن موقف القرآن من الحرب.

قال الحكيم: لنعرف موقف القرآن الكريم من الحرب لا بد أن نقرأ القرآن الكريم جميعا لنرى فيه مدى حرمة الإنسان.. حرمة الإنسان بكل ما يرتبط به من نفس ومال وعرض وحرية.. وغيرها.

لقد ذكر القرآن من الأمور المنكرة التي ذكرتها الملائكة متعجبة منها (سفك الدماء)، قال تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30)

وذكر القرآن الكريم قصة ابني آدم، وأثنى كل الثناء على الابن الذي تعفف عن قتل أخيه، فقال تعالى:﴿  وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) (المائدة)

وذكر الله تعالى قصة قتل موسى للقبطي، وكيف ندم على ذلك، مع كونه لم يقتله متعمدا، فقال:﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) (القصص)

أرأيتم ندم موسى ـ عليه السلام ـ على قتله، مع كونه كان ظالما.. بل اعتبر ذلك من عمل الشيطان.. ثم استغفر الله.. واعتبر نفسه ظالما بفعله ذلك!؟

قارنوا هذا بما ورد في التوراة من نفس الحادث.. حيث لا يبدي فيه موسى أي ندم على فعله.. لتروا مدى ما يحمله الكتاب المقدس من مشروعية لسفك الدماء.

قال دوج: أنت تنتقي من القرآن ما يحلو لك.. لماذا لا تقرأ الآيات القرآنية الكثيرة التي تحتوي على كلمة (قتال)..

لقد قرأت كتب العالم المقدسة.. فلم أجد لفظا مستعملا بهذه الكثرة التي استعمل بها القرآن كلمة (القتال) وما في معناها.. إنها تزاحم كلمة الصلاة.. بل تكاد تفوق عليها.

قال الحكيم: صدقت.. لقد وردت كلمة القتال في القرآن كثيرا.. ولكن العبرة ليس بكثرتها، وإنما بنوع الأوامر المرتبطة بها.

قال دوج، وهو يضحك بصوت عال: القتل هو القتل.. ولا يفوح من هذه المادة إلا روائح الدماء.

قال الحكيم: دعنا من هذا الأسلوب.. ولنتحدث حديث العقلاء.. إن المنطق العلمي يستدعي النظر في كل جملة أو آية وردت فيها كلمة القتال في القرآن لنحلل المراد منها.. ثم نرى بعد ذلك ما نوع القتال الذي يطلب القرآن من المسلمين القيام به.. هل هو قتال إرهابيين ظلمة.. أم هو قتال أهل الحق دفاعا عن حقهم.

التفتت الجماعة إلى دوج، وقالت: صدق الرجل.. وقد ألزمك الحجة.. ولا مناص لك من أن تذكر له هذه المواضع التي ورد فيها لفظ القتال لنرى المراد منها.

قال دوج: أول ما يصادفك في القرآن هذه الآية التي نسخت جميع ما ورد في القرآن من الأمر بالسلام:﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً )(التوبة: من الآية36) [5]

قال الحكيم: أنت تقص الآية، وتقطعها عن سياقها.. فالآية لا تأمر إلا بقتال المقاتلين.. لقد جاء فيها:﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً )(التوبة: من الآية36)

ثم إن الله تعالى لم يأمر المؤمنين بالقتال كافة إلا بعد أن أمرهم بالدخول في السلم كافة، فقال:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:208)

وليس في القرآن ناسخ ومنسوخ.. كل ما في القرآن محكم.. فكلام الله:﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت:42)

ثم لماذا تعتبر الآية منسوخة، ولا تعتبرها ناسخة؟

قال دوج: هذا ما ذكره المفسرون.

قال الحكيم: أنت تنتقي من المفسرين من تشاء، كما تنتقي من القرآن ما تشاء.. وهو منهج لا علاقة له بالعلم ولا بالمنطق.

قال دوج: فإذا عزلنا المفسرين، فمن يعبر عن القرآن؟

قال الحكيم: القرآن .. القرآن هو الوحيد الذي له الحق في التعبير عن نفسه.. ألا ترى أني حينما أذكر لك الكتاب المقدس لا أذكر لك قول أي شارح ولا أي مفسر؟

قالت الجماعة: نعم.. لاحظنا ذلك.. فالمسلمون في حوارهم لا يستخدمون إلا النصوص المقدسة.

قال الحكيم: لأنه لا يحق لأحد أن يملي على الله ما يقصد.. ثم إن الله الذي علم كل شيء كيف ينطق وكيف يفهم غيره لا يعجز عن أن يفهمنا مراده من غير حاجة إلى من يعقب عليه[6].

قال دوج: لا بأس.. لن أذكر لك كلام أحد من المفسرين.. سأقتصر على القرآن.. إن معي مصحفا.. وسأقرأ عليكم منه ما يفند ما يدعيه هذا الرجل.

قال الحكيم: كل القرآن حديث عن السلام.. حتى الآيات التي توهمتها تدعوا للحرب هي في أصلها تنطلق من حب السلام.. ومن البحث عن السلام..

اقرأ علي ما شئت منها  لتعرف من خلالها أن القرآن لم يأذن بالقتال إلا للضرورة القصوى التي استدعت ذلك وفي حدود ضيقة جدا.. ولولا ذلك لظلت الحرب، وظل معها سفك الدماء جريمة من الجرائم الكبرى التي تتنافى مع وظيفة الخلافة التي أنيطت بالإنسان في الأرض.

فتح دوج المصحف، وقد وضع فيه علامات محددة على المواضع التي يريد قراءتها، ثم قال: لقد ورد في القرآن.. في (البقرة:190):﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ

قال الحكيم: واصل قراءة الآية، فهي تجيبك.

واصل دوج:﴿.. الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة:190)

قال الحكيم: أرأيت.. لقد حددت الآية الصنف الذي تجب مقاتلته، وهو من يقاتلهم دون من عداهم.. ومع ذلك لم تكتف بذلك.. بل نهت عن الاعتداء بأبلغ الصيغ.. وهي الإخبار بأن الله لا يحب المعتدين.. وهذه الكلمة تمثل عند المؤمنين الصادقين قمة أنواع الزجر.. لأن كل مؤمن صادق لا يهتم في حياته بشيء كاهتمامه بحب الله له، ورضاه عنه.. فإذا علم أن الله لا يحب من تصرف تصرفا أو سلك سلوكا معينا كان أبعد الناس عنه.

نظر إلى دوج، ثم قال: هل ترى سلاما أعظم من السلام الذي دعت له هذه الآية؟

قال دوج: ولكنها أمرت بالقتال!؟

قال الحكيم: وهل ترى من الحكمة والعقل والسلام أن يسلم أهل الحق رقابهم لأعدائهم ليستأصلوها كما يشاءون!؟ .. هل هذا هو السلام!؟

سكت دوج، فقال الحكيم: لو كان هذا هو السلام لما بقي على وجه الأرض إلا المجرمون.

فتح دوج المصحف على موضع آخر، وراح يقرآ:﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ(البقرة: من الآية191)

قال الحكيم: واصل قراءة الآية.. ما بالك تقطعها.

واصل دوج:﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َ) (البقرة:191)

قال الحكيم: ألا ترى أن الآية الكريم تدعو إلى معاملة المعتدين بالمثل.. ثم تعلل ذلك للنفوس المؤمنة الكارهة لسفك  الدماء بأن الفتنة التي يوقعها هؤلاء المجرمون أعظم من القتل.

فتح دوج المصحف، وراح يقرأ:﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة:193).. ألا ترون أن هذه الآية تأمر بالقتال لأجل نشر الدين؟

قال الحكيم: لا.. إنها لا تأمر بالقتال لنشر الدين.. وإنما تأمر به لحفظ الدين.

قال دوج: كلاهما سواء.

قال الحكيم: لا.. بل هما مختلفان.. فالقتال لنشر الدين إكراه.. وقد حرم الإكراه، وقد قال تعالى:﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ )(البقرة: من الآية256).. أما القتال لحفظ الدين، فهو قتال ضد الذين توجهوا برماحهم وسيوفهم للدين ليستأصلوه.

لقد ذكر القرآن ذلك، فقال تعالى مبينا علة الإذن بالقتال:﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) (الحج)

ومع ذلك.. فقد جعل القرآن لذلك القتال المضطر إليه غاية ينتهي إليها، وهي انتهاء المعتدين عن عدوانهم، فقال تعالى:﴿  فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ وقد وضعت الآية بذلك شعار المؤمنين في قتالهم.. وهو أنهم لا يقاتلهم إلا الظالمين.. أما من عداهم، فلا يجوز بحال من الأحوال سفك دمائهم.

قرأ دوج قوله تعالى:﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216)، ثم قال: ألا ترون هذه الآية كيف تحض على القتال؟

قال الحكيم: في قوله تعالى:﴿ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ دليل على أن الإسلام لم يحضهم على القتال إلا للضرورة..ومع ذلك، فإن المسلم لا يقاتل من يقاتله حبا في سفك الدماء، وإنما لأنه لا يمكن أن يدافع عن نفسه وعن دينه إلا بذلك.

قرأ دوج قوله تعالى:﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة:194)

قال الحكيم: أنت ترى الآية تأمر بالمعاقبة بالمثل.. وعدم تجاوز المثل.

قال دوج: وهذه نقطة الاختلاف الكبرى بين المسيحية والإسلام.. فالمسيح أمرنا بالتسامح وبمحبة أعدائنا لا بمجازاتهم بالمثل.

قال الحكيم: لكل شيء ميزانه المحدد.. فقد يصلح التسامح في أحوال معينة، ومع بعض الناس.. ولكنه لا يصلح في كل الأحوال، ولا مع كل الناس.

ولهذا، فإن القرآن بالنسبة للأفراد، وفي الأحول الخاصة التي لا ترتبط بها المصالح العامة يحض على العفو والحلم ومقابلة الإساءة بالإحسان، كما قال تعالى:﴿ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34)

ولكن مع ذلك، فإن المعاملة بالمثل حق من الحقوق لا يلام فاعله، قال تعالى:﴿  وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)

هذا كله في المصالح الخاصة.. أما المصالح العامة فإن التشدد في الحفاظ عليها شريعة عادلة لا يختلف العقلاء في اعتبارها.

قال دوج: التسامح لا يتجزأ.

قال الحكيم: ولكنك إن تسامحت مع المجرم أخذت حق البريء.. وإن تسامحت مع القاتل ظلمت المقتول.. وإن تسامحت مع المتكبر اعتديت على المستضعف.

قال دوج: كيف ذلك؟

قال الحكيم: أرأيت لو أن قانون العقوبات نص في بلد من البلدان على تكريم اللصوص، وعدم عقوبتهم..ماذا سيحصل؟

لم يجب دوج، فنطق أحد الحاضرين، وقال: حينها ستصبح كل البلدة لصوصا.

قال الحكيم: فهذا ما يطلبه هذا الفنان المبدع من الإسلام.. إنه يطلب أن يستسلم أهل الحق لأهل الباطل، ويدعوا لهم البلاد والعباد، ليتصرف المستكبرون بما تهواه نفوسهم، وكل ذلك من أجل شيء واحد، وهو أن لا يصفهم المستكبرون بالإرهاب..

إنه يطلب من جهة المستضعفين أن تلقي أسلحتها، بينما لا يتجاسر أن يقول كلمة واحدة لأولئك المستكبرين الذين ملأوا الأرض أسلحة ودمارا.

لم يجب دوج بشيء، بل فتح المصحف، وراح يقرأ:﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217)

ثم قال: ألا ترون القرآن كيف يحض على القتال في الأشهر الحرم.. وهي الأشهر التي اتفق العرب على ألا قتال فيها؟

قال الحكيم: إن القرآن يكره النفاق، ويكره أساليب المنافقين.

قال دوج: وما علاقة هذا بالنفاق؟

قال الحكيم: إن هؤلاء المشركين يشبهون أولئك المستعمرين الجشعين الذين يقتلون العباد، وينهبون البلاد، ثم يسنوا بعد ذلك من القوانين ما شاءوا، فإن خالفها بعضهم رموه  بما شاءت لهم أهواؤهم أن يرموه به.

إن هؤلاء المشركين الذين بدا لهم أن يعظموا الأشهر الحرم نسوا أن يعظموا الحرم نفسه.. الحرم الذي عذبوا فيه المؤمنين.. بل الحرم الذي أرادوا أن يقتلوا فيه رسول الله r.

ولهذا، فإن القرآن يذكر المبررات التي تبيح استعمال السلاح في هذه المواقف، وهي مبررات لا يمكن لعقل سليم أن يرفضها.

قرأ دوج قوله تعالى:﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146)

ثم قال: ألا ترون القرآن كيف يعتبر القتال سنة من سنن الأنبياء والصالحين؟

قال الحكيم: لولا الأسلحة التي ووجه بها الصالحون ما اضطروا للقتال.. وفي الآية دليل على شدة العناء الذي لاقاه هؤلاء من أعدائهم.

قرأ دوج قوله تعالى:﴿  وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) (آل عمران).. وفي القرآن:﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111)

ثم قال: ألا ترون هذا الإغراء الذي يغري به القرآن من قاتل في سبيل الله؟

قال الحكيم: إن تقييد القرآن للقتل بهذه الكلمة العظيمة:﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دليل على شرف هذا القتال وشرف القضية التي يحملها.. فهؤلاء لم يقاتلوا من أجل مصالحهم المحدودة، بل قاتلوا من أجل الحق الذي وهبوا أنفسهم له.

قال دوج: وهو نشر الإسلام.

قال الحكيم: لقد ذكرت لك أن الإسلام لا يمكن أن ينشر بالسيف.. لأن الإسلام هو تسليم النفس لله.. وتسليم النفس لله لا يكون إلا عن طواعية مطلقة.

قال دوج: فلم يقاتلون إذن؟

قال الحكيم: لنصرة المستضعفين وإزالة الحواجز التي تقف بينهم وبين حريتهم.. وسترى في الآيات التي ستقرؤها هذا المقصد القرآني الشريف الذي يميز الجهاد في الإسلام عن كل قتال في الدنيا.

قرأ دوج قوله تعالى:﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران:195)

قال الحكيم: أنت ترى في هذه الآية الكريمة كيف ذكر الله تعالى عذر هؤلاء المقاتلين الذي دفعهم للقتال.. فقد أخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيل الله.

ولو أن أعداءهم لم يفعلوا هذا بهم ما قاتلوهم ولا قتلوهم ولا عرضوا أنفسهم للقتل بسبب ذلك.

قرأ دوج قوله تعالى:﴿  فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:74)

ثم قال: ألا ترون في هذه الآية كيف يأمر القرآن بقتل من يهتمون بالحياة الدنيا ويعمرونها؟

قال الحكيم: أخطأت في فهمك لكلام الله.. فهؤلاء الذين يشرون الحياة الدنيا الذين أمر المؤمنون بقتالهم إنما يشرونها بالظلم والاستبداد والاستعمار.. ولو أنهم اشتروها بالطرق المشروعة لما عرض لهم أحد.

قرأ دوج قوله تعالى:﴿ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (النساء:75)

قال الحكيم: هذه الآية هي سيدة آي الباب.. وهي الحكم الذي يرجع إليه في فهم كل ما يرتبط بالقرآن الكريم من آيات القتال والجهاد.

قال دوج: ولكن مثل هذا الأمر بالقتال لا نجده في المسيحية.

قال الحكيم: لأن المسيحية لم تكن في يوم من الأيام.. هي ولا سائر الأديان.. دين الخلاص..

غضب دوج، وقال: كيف تقول ذلك.. والمسيحية هي دين الخلاص؟

قال الحكيم: الخلاص بمفهومه الشامل الذي يعني الحياة بجميع أركانها لم يكتمل إلا في الإسلام.. فإن كان المسيحي ومثله كل متدين بأي دين من الأديان، يسعى لخلاص نفسه.. فإن المسلم مطالب بأن يخلص كل المستضعفين.. ولهذا فإن الجهاد في الإسلام لا ينسخ أبدا ما دام هناك من يكتوي بنيران الظلم والعبودية والقهر.

فإن وجد من يريد أن ينسخ الجهاد فعليه أن يخلص الأرض من المستكبرين المستبدين الظالمين.. وحينذاك، فلن يرفع مسلم سلاحا في وجه أحد.. فإن رفعه قتل به.

قرأ دوج قوله تعالى:﴿  إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (النساء:90)

قال الحكيم: هذه الآية كذلك مرجع من المراجع الكبرى التي يفهم بها معنى الجهاد.. فالقتال لا يوجه إلا للمقاتلين.. فإن اعتزل الظالمون أو طلبوا السلام وجب على المسلمين أن يجيبوهم له.

وقد صرحت بذلك آية أخرى يقول فيها الله تعالى:﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (لأنفال:61) 

انتفض دوج، وقال: أين تجد هذا في واقع المسلمين.. وأعداؤهم يطلبون منهم السلام، وهم يأبون إلا الحرب؟

ابتسم الحكيم، وقال: أرأيت لو أن رجلا غصب أرضك، واستولى على أملاكك، فإن غضبت وثرت، أرسل لك بكبرياء من يطالبك بالسلام، فإن شرطت عليه أن يرجع لك حقوقك أولا رفض، وقال: ليس عندي إلا السلام.

فهل تراك تقبل؟

سكت دوج، فقال الحكيم: هذا ما حصل مع المسلمين في كل معاركهم مع أعدائهم.. استعمروا أرضهم، ونهبوا ثرواتهم.. فإذا ما قام أحد منهم يطالب بحقه اعتبر إرهابيا، واعتبر المعتدي مسالما.

قرأ دوج قوله تعالى:﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (لأنفال:17)

ثم قال: ألا ترون كيف يحرض إله المسلمين المسلمين على القتال؟

قال الحكيم: القتال من أجل الحق شرف.. لأن السكوت عن الظلم والهوان والذلة مهانة وذلة وضعف.. والله لا يعين أمثال هؤلاء.

قرأ دوج قوله تعالى:﴿  وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (لأنفال:39)

قال الحكيم: لقد علل الأمر بالقتال في هذه الآية بسد ذرائع الفتنة، والفتنة هي الصد عن سبيل الله وقهر المستضعفين والاستيلاء على حقوقهم.

قرأ دوج قوله تعالى:﴿  وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(48) (الأنفال)

قال الحكيم: هذه الآية تبين جنس الذين يقوم المؤمنون بقتالهم.. فهم قوم مستكبرون طاغون ظالمون.. لا يحترمون الإنسان ولا يبالون بسفك الدماء.. وهم فوق ذلك حلفاء للشياطين.

قرأ دوج قوله تعالى:﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ (التوبة: من الآية5)

قال الحكيم: واصل قراءة الآية والآيات التي بعدها.. فلا يمكن أن تفهم أي كلام بتقطيعه كما تشتهي.

نظر دوج إلى الحكيم، ثم راح يقول: سأقرأ ما تشتهي إلى أن توقفني.. ولكنك لن تشم في هذه الآيات إلا روائح الدماء.

أخذ يقرأ:﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)(التوبة)

أوقفه الحكيم، وقال: هل هناك كتاب في الدنيا يتكلم عن أعدائه ـ الذين استعملوا كل الأساليب الخسيسة لاستئصاله ـ بهذا الأسلوب!؟

إنه يتحدث عن حقوق أعدائه الكثيرة.. ويطلب من المسلمين الذين أصابهم ما أصابهم من أعدائهم أن يوفوهم بها في لحظات نصرهم.

إنه يطلب من المسلمين أن يجيروا المشركين الذين لم يكن لهم إلا شعار واحد هو استئصال المؤمنين.

وهو عندما يأمر بالقتال يقصره على أئمة الإجرام دون غيرهم من العامة والبسطاء.

ثم هو يأمر المرة بعد المرة بالتسامح مع هؤلاء وقبولهم إخوانا في الله إن تابوا عن سلوكهم الذي كانوا يسلكونه.

هنا انتفض دوج، وقال: هذا هو الإكراه بعينه.

قال الحكيم: لا.. ليس هذا إكراها.. لقد جاء الإسلام في بيئة جاهلية وثنية تمتلئ بالكهانة والسحر ووأد البنات وظلم المرأة والعبيد.. فلذلك لم يرض من هؤلاء إلا الإسلام، بعد أن أتاح لهم فرصة التفكير فيه.

أما غيرهم من أهل الكتاب، فلم يتعرض لهم عربا كانوا أو غير عرب.

قال دوج: أليس هذا إكراها؟

قال الحكيم: وهل فرض الدولة للقيم الحضارية على الشعب إكراه .. هل إذا أمرته بالنظاقة والنظام والحفاظ على حقوق الآخرين ظلم وإكراه.

قال دوج: ولكن الإسلام ليس هذا فقط؟

قال الحكيم: بل هذا هو الإسلام.. الإسلام هو القيم النبيلة التي لو بحثت في جميع أسفار العالم المقدسة وغير المقدسة.. فلن تجد أنبل منها ولا أكرم منها ولا أشرف منها.

قال دوج: هكذا أنتم ـ معشر المسلمين ـ لا تعرفون غير الفخر.

قال الحكيم: المسلمون لا يفخرون بأنفسهم.. بل يعترفون بقصورهم عن تمثيل الإسلام في صورته المثلى.. ولكنهم يعتقدون أن الله الذي خلق هذا الكون ووفر له جميع أسباب الهداية لم يضيع هذا البشر.. بل أرسل له من أنوار الهداية ما يرفع عنه كل ظلمة، ويملؤه بكل حقيقة.

قال دوج: دعنا من هذا.. وأجبني: ألم يحو القرآن كلمة الإرهاب؟

ابتسم الحكيم، وقال: أجل.. لقد وردت مادة (رهب) ومشتقاتها في القرآن الكريم في اثني عشر موضعا..

انتفض فرحا، وهو يقول: أرأيتم.. لقد ذكرت لكم بأن القرآن هو كتاب الإرهاب.. إنه يذكر الإرهاب اثني عشر مرة.

التفت الجمع إلى الحكيم، وفي عيونهم تساؤلات كثيرة، فقال: سأقرؤها عليكم واحدة واحده:

أما الأولى.. فهي قوله تعالى:﴿ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة:40)[7]، والرهبة هنا تعني الخوف من الله.. فالخوف هو السوط الذي يكسر نوازع الشر في الإنسان.

وأما الثانية، فقوله تعالى:﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (المائدة:82)[8]، فالرهبان الصادقون هم الذين حملهم الخوف من الله إلى اعتزال كل ما يبعدهم عنه أو ما يغضبه عليهم.

وأما الثالثة، فقوله تعالى حكاية عن السحرة:﴿  قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (لأعراف:116)[9]، فالسحرة استعملوا سلاح سحرهم للتاثير في بث الرعب في الحاضرين.

وأما الرابعة، فقوله تعالى:﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (لأعراف:154)، وهي تتحدث عن تأثير مخافة الله في السلوك الصالح.

وأما الخامسة، فقوله تعالى:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60)

انتفض دوج قائلا: هذه هي الآية التي أريدها.. إنها الآية التي تشرع الإرهاب، وتأمر المؤمنين به.

ابتسم الحكيم، وقال: بل هذه آية السلام.. فهي تشرع للسلام.. وتأمر المؤمنين بالإعداد له.

قال دوج: كيف ذلك، وهي تنص صراحة على إرهاب الأعداء؟

قال الحكيم: ألم تفهم من الآيات السابقة أن الخوف جند من جند الله التي يقمع بها الله نوازع الشر في الإنسان؟

قام رجل من الجمع، وقال: هذا صحيح.. وأنا عالم نفس.. وأعلم أن الخوف الذي يستعمل استعمالا صحيحا له تأثير كبير في حياة صاحبه..

ولهذا، فإن المتهور ـ الذي نزع الخوف من نفسه ـ قد يقع في المهالك التي لا يقع فيها من تسلح بسلاح الخوف.

قال الحكيم: تصور لو أن دولة من الدول رفعت كل ما يملؤها بالهيبة في نفوس أعدائها.. فلم يكن لها جيش ولا شرطة ولا أمن يحفظ شوارعها وحدودها.. هل يمكن لهذه الدولة في عالم يمتلئ بالذئاب أن يبقى لها وجود؟

قالت الجماعة: لا.. بل ستصبح هذه الدولة ورعيتها مطمعا لكل طامع.

قال الحكيم: فلذا كان في تسلحها بأنواع القوة ردعا لأعدائها، فلا يفكر أحد ـ مجرد تفكير ـ في المساس بها.

قالت الجماعة: ذلك صحيح.

قال الحكيم: وبذلك يكون الإرهاب هو السلام.. فالقوة لا تداويها إلا القوة، ولهذا فإن الله تعالى قال في بيان الحكمة من تشريع القصاص:﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179).. فبالقصاص تتحقق الحياة.

قال دوج: ولكن لم اعتبر القرآن إعداد العدة هو وسيلة السلام؟

قال الحكيم: لأن من البشر من لا يخاف إلا السلاح.. فهو لا يخاف الله.. ولذلك يحتاج إلى سلاح يردعه.. لقد ذكر القرآن ذلك، فقال:﴿ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (الحشر:13)

2 ـ أسباب الحرب

أغلق دوج المصحف، وقال: لا طاقة لي بجدالك في هذا.. فالقرآن قد وضع لكم المخارج التي تجادلون بها عنه.. ولهذا سأنزل بك إلى الواقع.. وسأقتصر منه على واقع محمد.. ذلك الواقع الذي لم يكن فيه إلا القتال.

لقد قرأت سير المصلحين والأنبياء.. فلم أجد واحدا منهم حمل من السيوف ما حمل محمد..

أشار إلى اللوحة، وقال: لقد سجلت في هذه اللوحة تلك المعارك الكثيرة التي خاضها محمد، والتي لازال المسلمون يتباهون بها إلى اليوم.

قال الحكيم: وحق لهم أن يتباهوا.. فليس هناك حرب في الدنيا أنظف من الحرب التي خاضها المسلمون..

لقد كانوا ثلة قليلة مستضعفة سامها أعداؤها الخسف.. ولكن الله من عليها، وأعطاها من القوة بحيث استطاعت أن تنتصر على جميع أعدائها وفي مرحلة وجيزة هي أقرب إلى الإعجاز منها إلى الواقع.

ألم يزل الأوروبيون يرددون ـ ومثلهم كل البشر ـ يرددون بافتخار ما حصل في تاريخهم من انتصاراتهم؟

سكت دوج، فقال: فأنتم تفخرون بانتصارات وهمية كان أكثرها لمصالح محدودة، ثم تريدون من المسلمين أن يستحوا من المعارك التي انتصر فيها الحق على الباطل، والقيم النبيلة على الجاهلية..

قال دوج: فأنت تقر بأن دعوة محمد كانت دعوة قتال لا دعوة سلام؟

قال الحكيم: السلام الشامل يستدعي أن تقهر المعتدين وتردهم إلى صوابهم.. إنه مثل العملية الجراحية التي تستأصل بها الأدواء.. فلا يمكن للجسم أن يظل سليما مسالما، وتلك الأدواء تنهشه، وتقتله.

توجه دوج إلى الجمع، وقال: ولكن ألا ترون من العجب أن يخوض نبي من الأنبياء في فترة وجيزة كل تلك الحروب!؟

انظروا هذه السيوف الكثيرة التي تمتلئ بها هذه اللوحة.

ابتسم الحكيم، وقال: إنك تكاد تحول من لوحتك وثيقة تاريخية..

ثم توجه إلى الجمع، وقال: فلنسكت عن الكلام المجرد.. ولنبحث في حقائق التاريخ عن هذه الغزوات لنرى حقيقتها وأسبابها ودوافعها وما نتج عنها لنحكم بعد ذلك.

قال دوج: إن التاريح ينقضي دون الانتهاء من ذكر هذه التفاصيل التي تريد أن نذكرها.

قال الحكيم: لا مناص لطالب الحق أن يعرف التفاصيل.. وقد كان من علامات صدق المسلمين أن سجلوا تاريخهم حرفا حرفا وكلمة كلمة.. وبسطوا حياة نبيهم بجميع تفاصيلها ليرى الكل مدى الصفاء والطهر والقداسة التي كان يسلكها محمد r في حياته.

قال دوج: كيف تقول ذلك.. وقد قام بكل تلك الحروب؟

قال الحكيم: قبل أن أحدثك عن بعض تفاصيل تلك الحروب أريد أن أضع بين يديك عدد القتلى الذين سقطوا في تلك الحروب جميعا.. ثم قارنها بعد ذلك بما شئت من حروب الدنيا.

لقد ذكر المؤرخون أن عدد القتلى الذين سقطوا في جميع الحروب التي مارسها المسلمون في عهد رسول الله r ـ سواء كانت غزوات أو سرايا أو مناوشات ـ والتى ابتدأت فى السنة الثانية للهجرة ودامت حتى السنة التاسعة ـ أى ما يقرب من ثمان سنوات ـ لم يزد عدد المقتولين من الفريقين ـ المسلم وغير المسلم ـ على ألف وثمانية عشر نفساً ( 1018 ).. المسلمون منهم 259 شهيداً.. وغير المسلمين 759 قتيلاً.

قارن هذا العدد بما سقط في الحرب العالمية الأولى من قتلى.. فبين سنة 1914 – 1918 م بلغ عدد القتلى سبعة ملايين، والمصابون واحد وعشرون مليون نفس.

أما الحرب في العالمية الثانية، سنة 1939م، فعدد المصابين لا يقل عددهم عن خمسين مليون نفساً.

لاشك أنكم نيستم هذه الحروب العالمية التي خضتموها.. ونسيتك تلك القنابل التي دككتم بها البيوت على أهليها.. ولم تذكروا إلا دفاع محمد r عن نفسه، وعن القيم النبيلة التي أرسله الله ليقيمها.

بالإضافة إلى هذا.. فإن حروب محمد حروب صاحب رسالة ومبدأ.. أما الحروب العالمية التي خضتموها، فلم تكن تحمل إلا نفسا جشعة بشعة حريصة سفاكة للدماء..

التفت للجمع، وقال: سننظر في هذه المعارك التي خاضها رسول الله r معركة معركة.. ولننظر حقيقتها وأسبابها.. لنكتشف الحقيقة من الواقع بعد أن عرفناها من خلالها مصدرها المقدس [10].

سرية سيف البحر:

التفت إلى دوج، وقال: أرني أول سيف من السيوف التي سلها محمد على أعدائه.

أشار دوج إلى سيف من السيوف، وقال: هذا.. إنه يرمز إلى سرية (سيف البحر)

قال الحكيم: لقد وقعت هذه السرية في رمضان من سنة الأولى للهجرة (الموافق مارس سنة 623م)، وقد أمر رسول الله r على هذه السرية حمزة بن عبد المطلب، وبعثه في ثلاثين رجلاً من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل، فلبغوا سيف البحر من ناحية العيص، فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجني ـ وكان حليفاً للفريقين جميعاً ـ بين هؤلاء وهؤلاء حتى جحز بينهم فلم يقتتلوا‏.‏

التفت إلى دوج، وقال: ما تنقم على هذه السرية.. وأنت ترى أنه لم يسفك فيه دم؟

قال دوج: أنقم على إرسالها.. فكيف يرسل نبي سرية لتعترض قافلة؟.. إن هذا سلوك قاطع طريق لا سلوك نبي.

قال الحكيم: لا ينبغي للعاقل ان يستعجل في إرسال أحكامه.. فلنسأل التاريخ عن دوافع هذه السرية.. ولك أن تقارن بعد ذلك موقف محمد r بأي موقف تصفه بالنبل أو الحضارة.

أولا.. أنت تعلم أن محمدا r خرج من مكة المكرمة مكرها بعد أن كاد له أعداؤه كل المكايد لقتله..

ومثل ذلك خرج أصحابه من غير أن يأخذوا معهم دينارا ولا درهما..

لا شك أنك تعرف قصة صهيب.. لقد حدث ابن عباس، وأنس وغيرهما في قوله تعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة:207) قالوا: نزلت في صُهيب بن سنَان الرومي، وذلك أنَّه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة، منعه الناس أن يهاجر بماله، وإنْ أحب أن يتجرّد منه ويهاجر، فَعَل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرّة. فقالوا: رَبح البيع، فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أنّ الله أنزل فيه هذه الآية. ويروى أن رسول الله r قال له: (ربِح البيع صهيب، ربح البيع صهيب)[11]

هذا مثال واحد عن رجل من المسلمين.. وقس به سائر المسلمين الذين استولى المشركون على أموالهم وبيوتهم وكل ما يملكون.

ومع ذلك، فإن المسلمين لم يحركوا ساكنا في مواجهة أعدائهم إلا بعد أن جاءهم الإذن الإلهي بحقهم في استرداد حقوقهم.. قال تعالى:﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40)(الحج)

التفت للجمع، وقال: هل ترون نبلا أعظم من هذا النبل الذي تحمله هذه الآيات..

وهل يمكن لقاطع طريق أن يكون دافعه ما تدعو إليه هذه الآيات!؟ 

التفت إلى دوج، وقال: ومع ذلك.. لم يكن هذا هو الدافع الوحيد..

اقرأ التاريخ.. وستجد فيه تلك المكايد التي ظل المشركون يدبرونها للمسلمين غير مكتفين بما سلبوهم من أموال، وما مارسوه قبل ذلك بهم من أنواع الأذى.

لقد ذكر المؤرخون بأسانيد كثيرة لا تقل عن الأسانيد التي نقلت بها أحداث المعارك التي ترمون بها محمدا r تلك المؤامرات الدنيئة التي كانت تدبر لرسول الله r.

ومن ذلك أنهم كتبوا إلى عبد الله بن أبي سلول، بصفته رئيس الأنصار قبل الهجرة، يقولون له:( إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم‏ )

وبمجرد بلوغ هذا الكتاب قام عبد الله بن أبي ليمتثل أوامر المشركين من أهل مكة،  وقد كان يحقد على النبي r لما يراه أنه استبله ملكه.

يقول عبد الرحمن بن كعب‏:‏ فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله r، فلما بلغ ذلك النبي r لقيهم، فقال‏:‏ ‏(‏لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر ما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقالوا أبناءكم وإخوانكم‏)‏، فلما سمعوا ذلك من النبي r تفرقوا‏[12].‏

لقد امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن القتال إذ ذلك، لما رأى خوراً أو رشداً في أصحابه، ولكن يبدو من تصرفاته أنه كان متواطئاً مع قريش، فكان لا يجد فرصة إلا وينتهزها لإيقاع الشر بين المسلمين والمشركين، وكان يضم معه اليهود، ليعينوه على ذلك.

ومع ذلك، فإن النبي r ـ وقد بلغته كل هذه الأنباء ـ لم يدبر أي مؤامرة لقتل هؤلاء مع أنهم كانوا معه في المدينة، وكان من السهل استئصالهم.

ليس هذا فقط.. بل إن قريشاً كانت تعتزم على شر أشد من هذا، وتفكر في القيام بنفسها للقضاء على المسلمين ‏.‏

وقد فطن لهذا الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فلذلك كانوا يحرسون رسول الله r، ويبالغون في حراسته، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏ سهر رسول الله r مقدمه المدينة ليلة فقال‏:‏ ‏(‏ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة‏)‏، قالت‏:‏ فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال‏:‏ ‏(‏من هذا ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله r ‏:‏ ‏(‏ما جاء بك‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ وقع في نفسي خوف على رسول الله r، فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله r، ثم نام[13]‏.‏

ولم تكن هذه الحراسة مختصة ببعض الليالي، بل كان ذلك أمراً مستمراً، فقد روى عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏ كان رسول الله r يحرس ليلاً حتى نزل قوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (المائدة: من الآية67)‏، فأخرج رسول الله r رأسه من القبة، فقال‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس، انصرفوا عني فقد عصمني الله عز وجل‏)‏‏[14]

ولم يكن الخطر مقتصراً على رسول الله r، بل كان يحدق بالمسلمين كافة، فقد روى أبي بن كعب، قال‏:‏ لما قدم رسول الله r وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه‏.‏

التفت إلى الجمع، وقال: لم يمارس المشركون هذه المكايد فقط.. بل راحوا يحرمون سكان المدينة التي آوت رسول الله r من حقهم في زيارة الكعبة التي كانت مباحة للعرب جمعيا..

فقد روي أن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمراً، فنزل على أمية بن خلف بمكة، فقال لأمية‏:‏ انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف البيت، فخرج به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال‏:‏ يا أبا صفوان، من هذا معك‏؟‏ فقال‏:‏ هذا سعد، فقال له أبو جهل‏:‏ ألا أراك تطوف بمكة آمناً وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، فقال له سعد ورفع صوته عليه‏:‏ أما والله لئن منعتني هذا لأمنعك ما هو أشد عليكم منه‏:‏ طريقك على أهل المدينة‏.‏

التفت إلى دوج، وقال: قارن هذا بما يحدث في العالم من أنواع المظالم بسبب الحفاظ على الأمن القومي..

قارن هذا بما فعله الأمريكان الذين تعتبرونهم مثلكم الأعلى بالمستضعفين في العالم بسبب شيء بسيط حصل لهم.

قال دوج: كيف تسميه بسيطا.. وقد قتل فيه الآلاف؟

قال الحكيم: ولكن المجرمين انتقموا لهم بمئات الآلاف.. لقد دمرت لهم بناية واحده.. لسنا ندري من دمرها إلى الآن.. فراح المجرمون ـ بما امتلأوا به من إجرام ـ يدمرون بلادا كاملة.. بلادا آوت الحضارة لآلاف السنين..

راح المجرمون الذين يلبسون لباس الحضارة يمحونها بجرة قلم، ثم يسبون محمدا والقيم النبيلة التي جاء بها محمد.

سرية رابغ‏:‏

طأطأ الجمع رأسه أسفا، لكن دوج حاول أن يبدل الموضوع، فأشار إلى سيف من السيوف، وقال: هذا سيف يشير إلى سرية رابغ.

قال الحكيم: لقد وقعت هذه السرية في  شوال سنة 1 من الهجرة (الموافق أبريل سنة 632م)[15]، وقد بعث لها رسول الله r عبيدة بن الحارث بن المطلب في ستين رجلاً من المهاجرين، فلقى أبا سفيان - وهو في مائتين - على بطن رابغ، وقد ترامي الفريقان بالنبل، ولم يقع قتال [16] ‏.‏

وفي هذه السرية انضم رجلان من جيش مكة إلى المسلمين، وهما المقداد بن عمرو البهراني، وعتبه بن غزوان المارني، وكانا مسلمين خرجا مع الكفار ليكون ذلك وسيلة للوصول إلى المسلمين، وكان لواء عبيدة أبيض، وحامله مسطح بن أثاثة.‏

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: أنت ترى أن هذا السيف الثاني الذي عددته من جملة السيوف لم يقتل أحدا.. وفي عصرنا لا يعتبر مثل هذا حربا.. ولا تعتبر مثل هذه المعركة معركة.. إنها لا تختلف عن أي دورية بسيطة يقوم بها بعض الجنود لحماية الثغور.. ولكنكم لا تريدون إلا أن تهولوا، فتعتبروا كل حركة يقوم بها النبي r ليؤمن الجو لدعوته، ولمجتمع دعوته معارك لا تقل عن المعارك التي تمارسونها بما جبلتم عليه من حب للصراع.

سرية الخرار:

سكت دوج، فأشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا يشير إلى سرية الخرار.. وقد وقعت في ذي العقدة سنة 1 هـ، (الموافق مايو سنة 623م)، وقد بعث لها رسول الله r سعد بن أبي وقاص في عشرين رجلا يعترضون عيراً لقريش، وعهد إليه ألا يجاوز الخرار، فخرجوا مشاة يكمنون بالنهار، ويسيرون بالليل، حتى بلغوا الخرار صبيحة خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس‏.‏

التفت إلى دوج، وقال: هذهلا تختلف عن سابقتها.. إنها دورية تفقدية، وليست معركة.

غزة الأبواء‏:‏

أشار الحكيم  إلى سيف آخر، وقال: هذا يشير إلى غزة الأبواء.. وقد وقعت في صفر سنة 2 هـ، (الموافق أغسطس سنة 623م).. وقد خرج رسول الله r فيها بنفسه في سبعين رجلاً من المهاجرين خاصة يعترض عيراً لقريش، حتى بلغ ودان، فلم يلق كيداً، واستخلف فيها على المدينة سعد بن عبادة رضى الله عنه‏.‏

وفي هذه الغزوة عقد معاهدة حلف مع عمرو بن مخشى الضمري، وكان سيد بنى ضمرة في زمانه، وهذا نص المعاهدة‏:‏ ‏(‏هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمره، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا دين الله، ما بل بحر صوفة، وأن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه‏)‏‏.‏

وهذه أول غزوة غزاها رسول الله r، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.

قال دوج: ألا تعجبون من نبي يغزو؟

قال الحكيم: إن هذا من دلائل كمال النبي r وصدقه.. فهو لم يكن يجلس في برج عاج يرمي الأوامر لأصحابه، وهو بمعزل عنها، بل كان يخوض معهم المعارك، ويتعرض معهم لجميع الأخطار التي يتعرضون لها.

غزوة بواط‏:‏

سكت دوج، فأشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا يشير إلى غزوة بواط، وقد وقعت في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ (الموافق سبتمبر سنة 623م)، وقد خرج فيها رسول الله r في مائتين من أصحابه، يعترض عيراً لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمئة بعير، فبلغ بواطا من ناحية رضوى، ولم يلق كيدا‏.‏

غزوة سفوان:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا يشير إلى غزوة سفوان.. وقد وقعت في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ، (الموافق سبتمبر سنة 623م)، وسببها أن كرز بن جابر الفهري أغار في قوات خفيفة من المشركين على مراعي المدينة، ونهب بعض المواشي فخرج رسول الله r في سبعين رجلاً من أصحابه لمطاردته، حتى بلغ وادياً يقال له‏:‏ سفوان من ناحية بدر، ولكنه لم يدرك كرزاً وأصحابه، فرجع من دون حرب، وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الأولى‏.‏

التفت إلى دوج، وقال: ألا ترى الأذى الذي كان يتعرض له المسلمون، مع أن أعينهم لم تكن تنام، فكيف لو تركوا سيوفهم!؟

إنهم ـ حينها ـ يصبحون لقمة سائغة لأعدائهم الذين كانوا يتحينون أي فرصة للانقضاض عليهم.

لقد ذكر القرآن الكريم ذلك الجو المخيف الذي كان يعيش فيه المؤمنون، فقال:﴿ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً (النساء: من الآية102).. أفتريدون من المسلمين أصحاب الرسالة المقدسة المخلصة أن يختبئوا كما اختبأ الحواريون، أو تريد منهم أن يسلموا محمدا للصلب كما سلم المسيح[17] حتى تعتبروه صاحب سلام!؟

غزوة ذي العشيرة‏:‏

سكت دوج، فأشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا سيف يشير به هذا الفنان المبدع إلى غزوة ذي العشيرة‏، وقد وفعت في جمادى الأولى، وجمادى الآخرة سنة 2 هـ، (الموافق نوفمبر وديسمبر سنة 623هـ)، وقد خرج فيها رسول الله r في خمسين ومائة ـ ويقال‏:‏ في مائتين ـ من المهاجرين، ولم يكره أحداً على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيراً يعتقبونها، يعترضون عيراً لقريش، ذاهبة إلى الشام، وقد جاء الخبر بفصولها من مكة، فيها أموال لقريش فبلغ ذا العشيرة، فوجد العير قد فاتته بأيام، وهذه هي العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام، فصارت سبباً لغزوة بدر الكبرى‏.‏

وفي هذه الغزوة عقد رسول الله r معاهدة عدم اعتداء مع بنى مدلج وحلفائهم من بنى ضمرة‏.‏

سرية نخلة‏:‏

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا سيف يشير إلى سرية نخلة‏، وقد وقعت في رجب سنة 2 هـ، (الموافق يناير سنة 624م)، وقد بعث فيها رسول الله r عبد الله بن جحش، وكتب له كتاباً، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه،.‏ فسار عبد الله، ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه‏:‏ ‏(‏إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكلة والطائف، فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم‏)‏‏

فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله r أن أمضي إلى بطن نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منها بخبر، وقد نهى أن استكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها، فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأنا ماض لأمر رسول الله r.

فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم، فسلك الطريق على الحجاز حتى إذا كان ببعض الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، فتخلفا عن رهط عبد الله بن جحش ليبحثا عن البعير ومضى الستة الباقون.

حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرت عير لقريش تحمل تجارة، فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون، فقتلت السرية عمراً ابن الحضرمي وأسرت اثنين وفر الرابع وغنمت العير، وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة، فإذا هي في اليوم الأول من رجب ـ وقد دخلت الأشهر الحرم ـ التي تعظمها العرب، وقد عظمها الإسلام وأقر حرمتها.

هنا انتفض دوج، وكأنه قد ظفر بضالته التي ظل يبحث عنها، وقال: أرأيتم كيف يحطم المسلمون شعائر السلام.. فيقاتلون في الأشهر الحرام[18]؟

ابتسم الحكيم، وقال: ما شاء الله.. إنك تردد كلمات أبي سفيان وأبي جهل وعبد الله بن أبي.. أولئك الذين لا يعرفون الحرمات إلا عندما ترتبط بمصالحهم.

إنك الآن تكرر نفس موقف المشركين.. فإن قريشا قالت حينها: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال.

وقد استغلت اليهود هذه الفرصة، فراحت تقول: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله.. عمرو عمرت الحرب.. والحضرمي: حضرت الحرب.. وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب.

أتدري.. لقد كانت هذه الغزوة لمن تأمل فيها دليلا على السلام العظيم الذي كان يحمله رسول الله r ويحمله معه أصحابه الطاهرون.

لقد روى المؤرخون أنه لما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله r قال:( ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام)، ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً.

وهو نفس موقف سائر المسلمين..

هل ترى هذا موقف مسالمين، أم مواقف محاربين!؟

قال دوج: ولكنهم قبلوا الغنيمة بعد ذلك.

قال الحكيم: لقد كان من سماحة رسول الله r أن أطلق سراح الأسيرين.. ولم يكتف بذلك، بل  ‏أدى دية المقتول إلى أوليائه‏.‏

قال دوج: ولكن القرآن برر ما فعله المؤمنون.. وفي ذلك خطر عظيم.

قال الحكيم: بل في ذلك صدق عظيم.. وتربية عظيمة.. فالسلام لا يعني البلاهة والخمود والرضوخ.. بل يعني المقاومة والحياة والبقاء..

ولهذا فإن القرآن الكريم اعتبر ما يفعله المشركون من حرب الحق وأهل الحق أعظم من القتل الذي استنكروه على المسلمين.

لقد نزل في ذلك الموقف الحرج قوله تعالى:﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة:217)

وقد فند هذه الآية كل قول، وفصلت في الموقف بالحق، فقد صرحت بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله.

ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم‏؟‏ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة‏؟‏

ثم إن المسلمين لم يبدأوا القتال، ولم يبدأوا العدوان.. بل إن المشركين هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله، والكفر به وبالمسجد الحرام.. لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله:

لقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون، وقد كفروا بالمسجد الحرام، وانتهكوا حرمته؛ فآذوا المسلمين فيه، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة، وأخرجوا أهله منه، وهو الحرم الذي جعله الله آمناً، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته.

وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام.. وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل.. وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام.

ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات؛ الذين يتخذون منها ستاراً حين يريدون، وينتهكون قداستها حين يريدون! وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم، لأنهم عادون باغون أشرار، لا يرقبون حرمة، ولا يتحرجون أمام قداسة، وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة!

لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل. وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي.. وهم المعتدون ابتداء، وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء [19].

قال دوج: ولكن.. ألم تكن هناك حلول أخرى؟

قال الحكيم: بلى.. لقد كانت هناك حلول كثيرة.

قال دوج: فلماذا لم يستعملها محمد.. واستعمل السيف بدلها.

قال الحكيم: لقد استعمل محمد طيلة ثلاثة عشر سنة كل الحلول مع قومه.. لكنهم أبوا.. فتركهم وطلب منهم أن يتركوه، فأبوا.. وظلوا لا يكتفون بالإباء، بل يأبون وينهون.. ولا يكتفون بالنهي، بل يشرعون جميع أسلحتهم ضده.

فهل من الحكمة أن يستسلم لهم أم يواجههم؟

فإذا استسلم لهم يموت دينه وتموت دعوته.. أو يقوم بين أصحابه من يمثل دور بولس ليصبح الخلاص الذي جاء به محمد خلاصا كهنوتيا أقرب إلى الأسطورة منه إلى الواقع.

أم يواجههم.. وهذا الذي اختاره محمد r..

إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه، ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان!

وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد.. إنه يحرم الغيبة.. ولكن لا غيبة لفاسق.. فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه.

وهو يحرم الجهر بالسوء من القول، ولكنه يستثني إلا من ظلم.. فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول، لأنه حق، ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه!

ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلا مستوى الأشرار البغاة، ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة.. إنه فقط يدفع المسلمين إلى الضرب على أيديهم، وإلى قتالهم وقتلهم، وإلى تطهير جو الحياة منهم.

وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات.. حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة، كما أرادها الله[20].

سكت دوج، فقال الحكيم: لقد كان من رحمة الله أن آتت تلك السرايا التي أرسلها رسول الله r أكلها..

فقد علمت قريش، ومعها كل من كان يتربص بالمسلمين الدوائر أن للمسلمين من اليقظة ما يجعل أعداءهم أبعد الناس عن الطمع فيهم.

وبعد سرية عبد الله بن جحش ـ على الخصوص ـ تحقق خوف المشركين وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريباً، ثم يقلتوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم، لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم، ويأخذوا طريق الصلاح والموادعة ـ كما فعلت جهينة وبنو ضمرة ـ ازدادوا حقداً وعيظاً، وصمم صناديدهم وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل‏ من إبادة المسلمين في عقر دارهم.

وفي تلك الأيام الشديدة التي قرر فيها الأعداء هذه القرارات الخطيرة خرج حكم الجهاد من الإذن الذي يدل على الإباحة إلى الوجوب الذي يجعله لا يختلف عن الصلاة وغيرها من شعائر الدين..

هنا انتفض دوج، وقال: أرأيتم.. ها هو محمد يحول الإرهاب إلى ركن من أركان الدين كالصلاة.

قال الحكيم: وهل يمكن لشخص من الناس أن يقيم الصلاة، وهو لا يأمن على نفسه وأهله ودينه.. إن المسلم عندما يحمل سيفه ليجاهد به يحمله لأشرف غرض يمكن أن يحمل من أجله سيف.

إنه يحمله من أجل حماية التوجه لله بالعبودية.. حتى لا تتسلط الشياطين على هذه الأرض، ليحولوها ماخورا من مواخير الرذيلة.

التفت إلى دوج، وقال: أخبرني عن جنود الحضارة.. ماذا فعلوا بسيوفهم وبنادقهم ومدافعهم وأسلحتهم التي تنشر الدمار في كل مكان!؟

إن كنت لا تعرف الإجابة، فاذهب إلى كل مكان وطئه الاستعمار لترى الإرهاب الحقيقي..

أمن المنطق أن تعتبر الذي يحمل السلاح ليدافع به عن نفسه وعن حريته وعن دينه وعن المستضعفين إرهابيا، ولا تعتبر المعتدي الظالم إرهابيا.. إن هذا المنطق لا يمكن أن يحمله إنسان يحترم عقله وإنسانيته.

سكت دوج، فقال الحكيم: لقد أنزل الله تعالى في ذلك الظرف الخطير قوله:﴿  وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة‏:‏190‏:‏ 193‏)

لقد نزلت هذه الآيات بعد وقعة سرية عبد الله بن جحش في شهر شعبان سنة 2 هـ..

قاطعه دوج، وقال: أرأيتم.. ها هو الإسلام يتبدل كما تتبدل الحرباء.. ففي مكة حاول أن يظهر بمظهر المسالم اللطيف.. وحاول محمد حينها أن يتقمص شخص المسيح.. ولكنه ما إن وجد العصابة التي تلتف حوله حتى راح يتخلى عن جميع مبادئه، ليظهر بصورته الحقيقية[21].

ابتسم الحكيم، وتوجه له قائلا: هل ترى من العقل أن تلبس معطف الشتوي الذي يلبسه أهل القطب الشمالي في الصيف.. وفي صحراء إفريقيا.

ضحكت الجماعة، فقال الحكيم: لو فعلت ذلك أو فعله أحد من الناس لا شك أنه يرمى بالجنون..

قال دوج: ما الذي تقصد بهذا؟

قال الحكيم: لا شك أن كل عقل يلبس لكل حالة لبوسها.. فما يصح لبسه في الصيف لا يصح لبسه في الشتاء.. وما يصح في ألاسكا لا يصح في الكاميرون.

قال دوج: فهمت.. أنت تريد أن المدينة ليس مكة.

قال الحكيم: المدينة ومكة كلها بلاد الله.. ولكن الظروف المختلفة.. والعقول المختلفة هي التي تملي على العاقل التصرفات المناسبة..

هل ترى من الحكمة أن يزج محمد بكل من يتبعه بصدق في الهاوية!؟

وهل ترى من العقل أن يقبل محمد أن يوضع أتباعه في مثل تلك الأخاديد التي وضع فيها المسيحيون الذي صدقوا في اتباعهم للمسيح!؟

إن الإسلام لو قبل ذلك لكان دين موت لا دين حياة.. فلذلك أمر أتباعه بأن يحملوا السلاح.. ولكن يحملوه بحقه.. وحقه أن لا يعتدوا به على الناس.. بل يكتفوا بتوجيهه لمن يريد أن يقضي عليهم أو يقضي على دينهم أو يقضي على حقوق المستضعفين الذين وكل المسلمون بحمايتهم.

غزوة بدر:

سكت دوج، فقالت الجماعة: حدثنا عن سيف آخر.. من السيوف التي استعملها محمد ضد أعدائه.

أشار الحكيم ـ ساخرا ـ إلى سيف من السيوف، وقال: لست أدري.. ربما كان أخونا.. هذا الفنان المبدع.. يريد بهذا السيف غزوة بدر.. فإن كان يريدها.. فسأحدثكم عنها.. فإن في أحاديثها ما ينسخ تلك الوساوس التي تملأ بها الشياطين عقول من ألغوا عقولهم.

أما سبب هذه الغزوة، فقد ذكرنا في حديثنا عن غزوة ذي العشيرة أن عيراً لقريش أفلتت من النبي r في ذهابها من مكة إلى الشام، فلما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله r طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال ليقوما باكتشاف خبرها، فوصلا إلى الحوراء، ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير، فأسرعا إلى المدينة وأخبرا رسول الله r الخبر‏.‏

التفت دوج إلى الجمع ضاحكا، وقال: هذا عقل محارب.. وتفكير محارب.. لا تفكير نبي!؟

قال الحكيم: صدقت في الأولى.. ولم تصدق في الثانية.. لقد كان لمحمد r من العبقرية في القيادة ما يدل على أنه ليس بشرا عاديا.. ولكن ذلك ـ عند العقلاء ـ لا يلغي دعوى النبوة، بل يؤيدها ويقويها..

إن السبب الذي جعلكم لا تقبلون هذا النوع من التفكير هو تصوركم الحقير للدين ولرب الدين وللمتدين.. فأنتم لا ترونه إلا بصورة المتماوت الميت الذي لا يفعل في حياته إلا أن يدير خده الأيسر لمن يضربه على خده الأيمن..

أما المفهوم الذي جاءنا به الإسلام، فهو يختلف عن ذلك تماما..

الإسلام جاءنا بالقوة بجميع معانيها.. قوة النفس، وقوة الروح، وقوة الاتصال بالله، وقوة الحفاظ على حقوق عباد الله.. وغيرها من القوى القوى الكثيرة التي تجعل المؤمن إنسانا إيجابيا لا سلبيا.. فاعلا لا مفعولا.. صانعا للظروف لا خاضعا لها.

سكت دوج، فقالت الجماعة: عد بنا إلى بدر.. فإنك قد شوقتنا إليها.

قال الحكيم: لقد كانت تلك العير التي أراد المسلمون أن يلاقوها تحمل ثروات طائلة لكبار أهل مكة ورؤسائها.. فهي تحمل ألف بعير موقرة بأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي.. ولم يكن معها من رجال الحرب إلا نحو أربعين رجلا‏.‏

لقد كانت هذه فرصة ذهبية للمسلمين، ليستردوا بعض حقوقهم التي سلبهم إياها أهل مكة.. وهي كذلك فرصة ذهبية للمسلمين ليفرضوا بها وجودهم في تلك الغابة التي تمتلئ بالذئاب.

في ذلك الحين نادى رسول الله r في أصحابه قائلا: ‏(‏هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها‏)

وقد ترك رسول الله r لهم مطلق الحرية في الخروج.. فلم يعزم على أحد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، وذلك لأنه لم يكن يتوقع عند هذا الانتداب أنه سيصطدم بجيش مكة ـ بدل العير ـ ذلك الاصطدام العنيف في بدر[22].

ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة، وهم يحسبون أن مضى رسول الله r في هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه في السرايا والغزوات الماضية؛ ولذلك لم ينكر رسول الله r على أحد تخلفه في هذه الغروة‏.‏

واستعد رسول الله r للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً[23].. ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالا بليغا، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرس أو فرسان[24]، وكان معهم سبعون بعيرا يعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وكان رسول الله r وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيراً واحد[25]‏.‏

في طريقهم إلى بدر.. وبعد أن علم المسلمون ما ينتظرهم من بأس قريش.. التحق أحد المشركين راغبًا بالقتال مع قومه، فرده الرسول r، وقال: (ارجع فلن أستعين بمشرك)، وكرر الرجل المحاولة، فرفض الرسول r مع حاجته الشديدة، حتى أسلم الرجل والتحق بالمسلمين.

قال دوج: أليست هذه عنصرية؟

قال الحكيم: لا.. هذا من حرص رسول الله على صفاء الدين.. فلم يكن يهمه الانتصار بقدر ما يهمه نوع الانتصار.

قال دوج: وهل للانتصار أنواع؟

قال الحكيم: لقد علمنا ديننا أن كل انتصار لا يكون شريفا هزيمة.. ولذلك، فإن هذا المشرك قد يشوه صورة انتصار المسلمين حين يتخلق في الحرب بأخلاق المشركين لا بأخلاق المسلمين.

قال دوج: وما علاقة الأخلاق بالحرب؟

قال الحكيم: كل شيء في ديننا له علاقة بالخلق، بل إن الخلق هو روحه التي يستمد منها حقيقته والجزاء المعد له.

قالت الجماعة: عد بنا إلى ما كنا فيه.

قال الحكيم: لقد مثل رسول الله r في هذه الغزوة مثال القائد الصادق المتواضع ليكون عبرة لكل قائد مسلم يسير على طريقه.. ومن ذلك ما رواه ابن مسعود قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير, كان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله r قال: وكانت عقبة رسول الله, قال: فقالا: نحن نمشي عنك. فقال:( ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما)

ومن أخلاق القائد العظيمة التي تجلت في هذه الغزوة في رسول الله r كثرة استشارته لأصحابه [26]..

ومن ذلك أنه لما بلغ النبيَّ r نجاةُ القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال النبي r استشار أصحابه في الأمر, فأبدى بعض الصحابة عدم ارتياحهم للمواجهة الحربية مع قريش، حيث إنهم لم يتوقعوا المواجهة ولم يستعدوا لها، ولذلك حاولوا إقناع الرسول r بوجهة نظرهم، وقد صور القرآن الكريم، موقفهم وأحوال الفئة المؤمنة في ذلك الحين، فقال:﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) (الأنفال)

هنا انتفض دوج، وقال: أرأيتم.. كيف يزعم هذا الرجل أن محمدا محب للسلام، وها هو يختار القتال.. بل هو قرآنه يأتي ليأمر بالقتال؟

ابتسم الحكيم، وقال: أرأيت لو أن هذا الموقف وقفه أي زعيم من زعماء العالم الغيورين على أقوامهم.. ماذا ستراه يفعل؟

سكت دوج، فالتفت الحكيم إلى الجمع، وقال: فلنفرض أن عدوا من الأعداء داهم بلادنا هذه.. وفي نيته أن يستأصلنا من جذورنا.. ماذا سترى لزعيمنا المخلص أن يفعل.. هل يسلم بلاده ورقاب رعيته، أم أنه يحضهم على المقاومة؟

قال الجمع: خائن هو إن لم يدعهم إلى المقاومة.. وجبناء هم إن انتظروا حتى يأمرهم.

قال الحكيم: وهذا ما حصل مع المسلمين.. فالصادقون من المسلمين وأهل السبق منهم خصوصا لم يرتابوا في ضرورة مواجهة العدو..

وقد كان للمقداد بن الأسود في ذلك الموقف موقف لا ينساه له التاريخ.. لقد قال عبد الله بن مسعود عنه: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عُدلَ به.. أتى النبي r وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى:﴿ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)(المائدة: من الآية24)، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك, وبين يديك وخلفك. فرأيت الرسول r أشرق وجهه وسرَّه[27].

لكن الرسول r لم يكتف بقوله ذلك.. بل راح يقول:(أشيروا عليَّ أيها الناس).. وقد كان يقصد الأنصار بذلك؛ لأنهم غالبية جنده، ولأن بيعة العقبة الثانية لم تكن في ظاهرها ملزمة لهم بحماية الرسول r خارج المدينة.

وقد أدرك سعد بن معاذ، وهو حامل لواء الأنصار، مقصد النبي r من ذلك فنهض قائلاً: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟.. فقال r:( أجل)، فقال سعد: (لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله)[28]

فلما قال سعد ذلك سُرَّ النبي r، وقال:( سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)

بعد أن رأى النبي r مدى استعداد جنده للمقاومة والجهاد نظمهم كما ينظم كل قائد جنوده، وعقد اللواء الأبيض وسلَّمه إلى مصعب بن عمير، وأعطى رايتين سوداوين إلى سعد بن معاذ، وعلي بن أبي طالب، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة.

ثم قام ومعه أبو بكر يستكشف أحوال جيش المشركين، وبينما هما يتجولان في تلك المنطقة لقيا شيخا من العرب، فسأله رسول الله r عن جيش قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه r من أخبارهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما، فقال له رسول الله r:( إذا أخبرتنا أخبرناك)، فقال: أو ذاك بذاك؟ قال: نعم، فقال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به جيش المسلمين، وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه جيش المشركين فعلاً، ثم قال الشيخ: لقد أخبرتكما عما أردتما، فأخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله r:(نحن من ماء)، ثم انصرف النبي r وأبو بكر عن الشيخ، وبقي هذا الشيخ يقول: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟

ضحكت الجماعة، فاغتاظ دوج، وقال: ألا تعجبون من نبي يخادع؟

التفت له الحكيم، وقال: وهل تريد من محمد r أن ينشر إعلانا للمشركين عن جيشه وخطته ليضربوه كما يحلو لهم!؟.. إن أي حرب في الدنيا تستدعي أمرين كلاهما حرص عليه رسول الله r في كل غزواته:

تستدعي أولا التكتم الشديد حرصا على حياة الجيش وتحقيق الانتصار، وقد أرشد القرآن الكريم المسلمين إلى أهمية هذا، فقال:﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83)، وقد تحلى رسول الله r بصفة الكتمان في عامة غزواته، فعن كعب بن مالك قال: (ولم يكن رسول الله r يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها..)[29]

وتستدعي ثانيا التعرف على قدرات الخصم.. ليخطط للمعركة بحسبها، فقد كان من هدي النبي r في غزواته حرصه على معرفة جيش العدو والوقوف على أهدافه ومقاصده؛ لأن ذلك يعينه على رسم الخطط الحربية المناسبة لمجابهته وصد عدوانه [30].

لا أرى أن أحدا من العقلاء ينكر مثل هذا السلوك.. فإن أنكره فإن عقله ليس عقل محارب.. ولا ينبغي لمثل هذا أن يقود أمة تكتنفها أعداؤها.. فغن قادها لم يقدها إلا إلى حتفها.

التفت إلى الجمع، وقال: ومع ذلك، فإن رسول الله r في ذلك الموقف الذي يجوز فيه الكذب حرصا على مصلحة الجيش.. ولا أحد في جواز هذا النوع من الكذب.. ومع ذلك فإن رسول الله r اكتفى بالتعريض عن الكذب..  فالنبي يستحيل أن يكذب.

قالت الجماعة: عد بنا إلى ما كنا فيه.

قال الحكيم: في مساء ذلك اليوم الذي خرج فيه رسول الله r وأبو بكر، أرسل r علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يتسقطون له الأخبار عن جيش قريش، فوجدوا غلامين يستقيان لجيش المشركين فأتوا بهما إلى رسول الله r، فقال لهما: (أخبراني عن جيش قريش(  فقالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما رسول الله r: (كم القوم؟) قالا: كثير، قال: (ما عدتهم؟) قالا: لا ندري، قال الرسول r: (كم ينحرون كل يوم؟) قالا: يومًا تسعًا ويومًا عشرًا، فقال رسول الله r:(القوم ما بين التسعمائة والألف)، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ فذكرا عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا جهل وأمية بن خلف في آخرين من صناديد قريش، فأقبل رسول الله r إلى أصحابه قائلا: (هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها)[31]

قال رجل من الجماعة: إن سلوك هذا النبي يستدعي الإعجاب..

قال آخر: لكأن القيادة لم  تخلق إلا له.

قال الحكيم: بعد أن جمع رسول الله r ما احتاج إليه من معلومات عن قوات قريش سار مسرعًا، ومعه أصحابه إلى بدر ليسبقوا المشركين إلى ماء بدر، ليَحُولوا بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عند أدنى ماء من مياه بدر مكتفيا بذلك.

لكن بعض الصحابة.. هو الحباب بن المنذر.. رأى أن هناك مكانا آخر أهم من ذلك المكان، فذهب.. وهو الجندي البسيط.. إلى رسول الله r، وقال بأدب: يا رسول الله.. أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال r: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم ـ أي جيش المشركين ـ فننزله ونغور ـ نخرب ـ ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا، فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم, فنشرب ولا يشربون.

فأعجب النبي r هذا الاقتراح، ونهض بالجيش إلى أقرب ماء من العدو فنزل عليه, ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار.

انتفض دوج، وقال: أليست هذه دناءة.. كيف يمنع المقاتلون من الماء؟

ابتسم الحكيم، وقال: حتى يصير الماء سببا لحياتهم.. وحياة المسلمين.. وسببا لتحقيق السلام الذي جاءوا لتهديمه.

قال دوج: كيف ذلك؟

قال الحكيم: أليسوا هم الذين قدموا للقتال عازمين على استئصال المسلمين؟

قال دوج: بلى..

قال الحكيم: ففي إمكانهم أن يرجعوا إذن.. وفي عطشهم ما قد يجعلهم يرجعون، فيحفظوا حياتهم وحياة المسلمين.

قال دوج: ولكنهم لم يرجعوا.. أفيحرمون من الماء؟

قال الحكيم: أفتريد من رسول الله r أن يحضر لهم الطعام إذا جاعوا.. ثم يضمد جراحهم إذا جرحوا..

ضحك الجمع، فقال الحكيم: هذه حرب.. ومع أن الأخلاق هي التي تحكم حروب المسلمين.. فإن العاقل لا يرى في هذا أي مساس بالخلق النبيل العالي.. فهؤلاء الذين استفزهم الشيطان بما استفزهم به ينبغي أن يصرفوا بأي وسيلة.. ولو بتعريضهم للعطش.

نظر الحكيم إلى دوج، وقال: أتدري كيف كان هؤلاء الذين تدافع عنهم.. لقد وصف القرآن الكريم كيفية خروجهم، فقال:﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (لأنفال:47)

ووصف المؤرخون بعض ذلك، فذكروا أن أبا جهل وأصحابه الخارجين يوم بدر لنصرة العير, خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة بعث خُفاف الكناني, وكان صديقا لأبي جهل، بهدايا إليه مع ابن عم له، وقال: إن شئت أمددتك بالرجال، وإن شئت أمددتك بنفسي مع ما خف من قومي، فقال أبو جهل: إنا كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فوالله ما لنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرًا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرًا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم، حتى تسمع العرب بمخرجنا؛ فتهابنا آخر الأبد[32].

وقد وصف القرآن الإصرار العظيم الذي قدم به المشركون لحرب رسول الله r متعصبين لما هم فيه من الباطل، فقال تعالى:﴿ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (لأنفال:19)

ذكر عبد الله بن ثعلبة ـ في تفسير هذه الآية ـ أن أبا جهل قال حين التقى القوم في بدر:(اللهم أقطعُنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه ـ أي أهلكه ـ الغداة، فكان المستفتح)[33]

وفي ذلك الجمع المستكبر لم يكن هناك بعض العقلاء.. ولكنهم غلبوا على أمرهم، فاستسلموا للطائشين من قومهم.. والذين أوردوهم المهالك.

حدث ابن عباس قال: (لما نزل المسلمون وأقبل المشركون، نظر رسول الله r إلى عتبة بن ربيعة وهو على جمل أحمر، فقال: (إن يكن عند أحد من القوم خير فهو عند صاحب الجمل الأحمر, إن يطيعوه يرشدوا) وهو يقول: يا قوم أطيعوني في هؤلاء القوم فإنكم إن فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم, ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه وقاتل أبيه، فاجعلوا حقها برأسي وارجعوا، فقال أبو جهل: انتفخ والله سحره, حين رأى محمدًا وأصحابه، إنما محمد وأصحابه أكلة جزور لو قد التقينا. فقال عتبة: ستعلم من الجبان المفسد لقومه، أما والله إني لأرى قومًا يضربونكم ضربًا، أما ترون كأن رؤوسهم الأفاعي وكأن وجههم السيوف..)[34]

وقد حدث حكيم بن حزام عن يوم بدر، وكان في صفوف المشركين قبل إسلامه، فقال: خرجنا حتى نزلنا العدوة التي ذكرها الله عز وجل، فجئت عتبة بن ربيعة، فقلت: يا أبا الوليد، هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟

قال: أفعل ماذا؟ قلت: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي[35]، وهو حليفك فتحمل ديته وترجع بالناس، فقال: أنت وذاك وأنا أتحمل ديته، واذهب إلى ابن الحنظلية ـ يعني أبا جهل ـ فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك؟ فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن ورائه، وإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه وهو يقول: قد فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي إلى بني مخزوم، فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة: هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمك بمن معك؟ قال: أما وجد رسولا غيرك؟ قلت: لا، ولم أكن لأكون رسولاً لغيره.

قال حكيم: فخرجت مبادرًا إلى عتبة، لئلا يفوتني من الخبر شيء، فهذا عتبة بن ربيعة وهو في القيادة من قريش لا يرى داعيًا لقتال محمد، وقد دعا قريش بترك محمد فإن كان صادقًا فيما يدعو إليه فعزه عز قريش وملكه ملكها، وستكون أسعد الناس به، وإن كان كاذبًا فسيذوب في العرب وتنهيه.

ولكن كبرياء الجاهلية حالت بينهم وبين اتخاذ القرار السليم مع أن كل واحد منهم كان يشعر في قرارة نفسه بمدى القدرة التي يحملها محمد r وأصحابه.

فهذا عمير بن وهب الجمحي أرسلته قريش ليحرز لهم أصحاب محمد، فاستجال حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني أنظر أللقوم كمين أو مدد، قال: فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئًا، ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا, نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يُقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فُروا رأيكم.

وهذا أمية بن خلف رفض الخروج من مكة ابتداء خوفًا من الموت، فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذا غلبتني، فوالله لأشترين أجود بعير بمكة، ثم قال أمية: يا أم صفوان جهزيني. فقالت له: أبا صفوان وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ تقصد سعد بن معاذ عندما قال له: سمعت رسول الله يقول: إنهم لقاتلوك، قال: لا، ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبًا, فلما خرج أمية أخذ لا يترك منزلاً إلا عقل بعيره، فلم يزل بذلك حتى قتل ببدر.

قالت الجماعة: لقد شوقتنا.. فحدثتنا عن المعركة.. كيف بدأت، وإلام انتهت؟

قال الحكيم: بعد نزول النبي r والمسلمين معه على أدنى ماء بدر من المشركين ـ كما أشار الحباب ـ اقترح بعض الصحابة، وهو سعد بن معاذ على رسول الله r بناء عريش له يكون مقرًا لقيادته ويأمن فيه من العدو، وكان مما قاله في اقتراحه: (يا نبي الله ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام, يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك) فأثنى عليه رسول الله r خيرًا ودعا له بخير، ثم بنى المسلمون العريش لرسول الله r على تل مشرف على ساحة القتال، وكان معه فيه أبو بكر, وكانت ثلة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون عريش رسول الله r[36].

قال دوج: ألا ترون إلى هذا الرجل كيف يتناقض فيما بينه وبين نفسه.. لقد زعم الساعة بأن محمدا لم يتميز في شيء عن أصحابه.. ولكنا نراه هنا يتميز بذلك العريش الذي خص به من دونهم.. فهم يخوضون المعركة بينما هو في عريشه.

قال الحكيم: لا ينبغي أن يتكلم في مثل هذه المسائل إلا من لهم علاقة بالقيادة والمعارك..

قال دوج: وهل لك علاقة بذلك؟

قال الحكيم: لا أزعم لنفسي ذلك.. ولكني أعلم أني إذا ما رأيت رأسي معرضا للأذى حميته بيدي.. فتجرح دونه.

قال دوج: كلنا نفعل ذلك.. فما فيه مما نحن فيه؟

قال الحكيم: إن القائد في المعركة هو رأس الجيش المفكر والمدبر والمنظم والآمر والناهي.. بالحفاظ عليه يحفظ الجيش، وبالتفريط فيه يتضرر جميع الجيش..

ولهذا قبل النبي r بالعريش.. وهو لم يقترحه ابتداء.. ولكنه رأى المصلحة فيه.

وهي مصلحة لا ترتبط بشخصه.. بل لا ترتبط بذلك الجيش فقط.. بل ترتبط بالدعوة الإسلامية جميعا..

بالإضافة إلى شيء هام قد لا تفطن له أنت.. وهو مكان رسول الله r من قلوب الصحابة وقلوب جميع محبيه.. فلذلك كان لحياته بينهم ونظره إليهم أثره العميق في انتصارهم..

ولذلك عمد المشركون في غزوة أحد إلى بث إشاعة مقتل رسول الله r ليؤثروا في أصحابة.

سكت قليلا، ثم قال: سأقص عليك من واقع هذه الغزوة قد تدلك على العاطفة العظيمة التي كانت تربط هذا القائد العظيم بجنده:

كان r في بدر يعدل الصفوف، ويقوم بتسويتها، وكان بيده سهم لا ريش له يعدل به الصف، فرأى رجلاً اسمه سواد بن غزية، وقد خرج من الصف، فطعنه r في بطنه، وقال له:(استوِ يا سواد) فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله r عن بطنه وقال: (استقد) فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: (ما حملك على هذا يا سواد) قال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله r بخير.

قالت الجماعة: لا نشك فيما ذكرت.. وليس هناك قائد عاقل يرمي نفسه في أتون المعركة.. لأنه لا مصلحة له ولا لجيشه في ذلك.

قال الحكيم: ومع ذلك.. فقد كان رسول الله r يشارك في المعارك بكل ما أوتي من قوة.

قالت الجماعة: فحدثنا كيف بدأت المعركة.. وإلام انتهت [37]؟

قال الحكيم: لقد ابتكر الرسول r في قتاله مع المشركين يوم بدر أسلوبًا مهما في مقاتلة المعتدين يسمى بـ (نظام الصفوف)[38]

وهو تطبيق لقوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف:4)

وصفة هذا الأسلوب: أن يكون المقاتلون على هيئة صفوف الصلاة, وتقل هذه الصفوف أو تكثر تبعًا لقلة المقاتلين أو كثرتهم.. فتكون الصفوف الأولى من أصحاب الرماح لصد هجمات الفرسان, وتكون الصفوف التي خلفها من أصحاب النبال، لتسديدها من المهاجمين على الأعداء.

وقد كان لهذا الأسلوب ثماره العظيمة.. فقد أثر في إرهاب الأعداء الذين هالهم ذلك النظام العجيب الذي لم يتعودوه.

بالإضافة إلى هذا، فقد جعل في يد رسول الله r قوة احتياطية عالج بها المواقف المفاجئة في صد هجوم معاكس, أو ضرب كمينٍ غير متوقع، واستفاد منه في حماية الأجنحة من خطر المشاة والفرسان.

ويعد تطبيق هذا الأسلوب لأول مرة في غزوة بدر سبقًا عسكريًا تميزت به المدرسة العسكرية الإسلامية على غيرها[39].

وليس عنصر المفاجأة خاصا ببدر.. بل إن النبي r كان يباغت خصومه كل مرة بأسلوب قتالي جديد.. ليحقق الانتصار بأقل عدد من الخسائر.

قال رجل من القوم: أنا رجل لي علاقة بهذا الموضوع.. وما ذكرته صحيح.. بل إن ما ذكرته يجعلني ممتلئا بالإعجاب بشخص نبيكم..

أنا مسيحي.. نعم.. ولا أنكر ذلك.. ولكني في هذا المجال أسلم لمحمد أكثر من تسليمي للمسيح.. فلا ينبغي للقائد إلا أن يكون جندي ميدانه.. فيعرف كيف يحمي جنده والمبادئ التي يحملها جنده.. وإلا كان خائنا لهم.

قال الحكيم: بورك فيك.. وقد ذكر المؤرخون من أساليب رسول الله r في قيادة المعركة ما يدل على براعته العسكرية:

ومن ذلك أن رسول الله r اتبع أسلوب الدفاع، ولم يهاجم قوة قريش.. بل كانت توجيهاته التكتيكية التي نفذها جنوده بكل دقة سببًا في زعزعة مركز العدو، وإضعاف نفسيته، وبذلك تحقق النصر الحاسم بتوفيق الله على العدو برغم تفوقه.

وكان r يتصرف في كل موقف حسب ما تدعو إليه المصلحة؛ وذلك لاختلاف مقتضيات الأحوال والظروف، وقد طبق الرسول r في الجانب العسكري أسلوب القيادة التوجيهية في مكانها الصحيح.

ومن ذلك أمره r الصحابة برمي الأعداء إذا اقتربوا منهم، فقال:(إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل).. وسر ذلك هو أن الرمي يكون أقرب إلى الإصابة في هذه الحالة.

ومن ذلك نهيه r عن سل السيوف إلى أن تتداخل الصفوف، قال r: (ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم)

ومن ذلك أمره r الصحابة بالاقتصاد في الرمي، قال r:(واسْتَبْقُوا نَبْلَكم)[40]

بالإضافة إلى ذلك كله، فإن النبي r لم يضييع أي فرصة يمكنه الاستفادة منها في كسب المعركة، فهو r لم يهمل حتى فرصة الاستفادة من الظروف الطبيعية أثناء قتال العدو، ومن ذلك ما فعله r قبل بدء القتال يوم بدر، يقول المقريزي: وأصبح r ببدر قبل أن تنزل قريش, فطلعت الشمس وهو يصفهم فاستقبل المغرب وجعل الشمس خلفه فاستقبلوا الشمس.

وهذا يدل على حسن تدبيره r واستفادته حتى من الظروف الطبيعية لما يحقق المصلحة لجيشه، وإنما فعل ذلك لأن الشمس إذا كانت في وجه المقاتل تسبب له عَشا البصر، فتقل مقاومته ومجابهته لعدوه.

قال دوج: لقد تخلى محمد إذن عن ربانيته ونبوته في هذه الغزوة ليلبس لباس القائد العسكري.

قال الحكيم: إن كل لباس يلبسه محمد r هو لباس ناتج عن نبوته.. فالنبوة لا تعني ما تتصوره من السلبية أو الأسطورية أو الارتباط المجرد بعالم الغيب.. النبوة أكمل من ذلك بكثير..

فالنبي هو الإنسان الذي أهله الله لأن يصير نموذجا للإنسان الكامل الذي يريده الله[41].

وبما أن من البشر قادة وجنودا.. فالله تعالى بحكمته يعرض النبي لهذه المواقف جميعا حتى يكون نموذجا تطبيقيا للكمال في هذه الجوانب.

سأذكر لك ما يدل على ربانية النبي وصدقه في ذلك الموقف العظيم..

لما قام رسول الله r بما يقوم به كل قائد من تنظيم الجيش، وإعطاء الأوامر، والتحريض على القتال، رجع إلى العريش يدعو ربه، ويناشده النصر الذي وعده، ويقول في دعائه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تُعبد في الأرض أبدًا)

وبقي رسول الله r يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر ورده على منكبيه، وهو يقول: يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه منجز لك ما وعدك[42], فأنزل الله تعالى في ذلك الموقف قوله:﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ )(لأنفال: من الآية9)

وفي رواية: قال النبي r يوم بدر: (اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد) فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك الله، فخرج r وهو يقول:﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (القمر:45)[43]

وفي حديث آخر أنه r قال: (اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني)[44]

وبعد أن دعا r ربه في العريش، واستغاث به خرج من العريش، فأخذ قبضة من التراب، وحصَبَ بها وجوه المشركين وقال: (شاهت الوجوه)، ثم أمر r أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها، ففعلوا، فأوصل الله تعالى تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبقَ أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله.

لقد سجل القرآن الكريم تلك الرمية المباركة، فقال:﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى )(لأنفال: من الآية17)

قال الجمع: لقد ملأت نفوسنا شوقا إلى أحاديث هذه الغزوة.. فأخبرنا كيف بدأت.. عسى لصاحبنا من الشبهات ما يريد إثارته عنها؟

سكت دوج، فقال الحكيم: لقد بدأت المعركة.. كما كانت تبدأ المعارك في ذلك الحين.. وقد كان البادئ في بدايتها هم المشركون.. ليخرس ذلك كل لسان يزعم أن محمدا r كان هو المعتدي..

لقد ذكر المؤرخون بأسانيدهم التي لا ترد أن أفرادا من جيش المشركين هم عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد قاموا في وجه المسلمين يطلبون منهم المبارزة.

التفت إلى دوج، وقال: ما رأيك في هذا الموقف الذي بدأت هذه الغزوة التي تتخذونها سخريا.. هل ترون من الحكمة أو من العقل أو من السلام أن يجبن المسلمون، ويستسلموا لعدوهم ليملوا عليهم بعد ذلك من شروط.. أو ترون من الحكمة أن يخرجوا لهم؟

سكت دوج، فقالت الجماعة: إن هذا لا يجادل فيه عاقل.. فحدثنا ماذا فعل المسلمون؟

قال الحكيم: حين قال المشركون ذلك يتحدون المسلمين خرج إليهم ثلاثة من الأنصار.. لكن الرسول r أرجعهم؛ لأنه أحب أن يبارزهم بعض أهله وذوي قرباه، ليكون أول المضحين عن هذه الدعوة قرابة رسول الله r وآل بيته.. لقد أشار رسول الله r إلى بعض أهله، فقال: (قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي)

فبارز حمزة شيبة فقتله، وبارز علي الوليد وقتله، وبارز عبيدة بن الحارث عتبة فضرب كل واحد منهما الآخر بضربة موجعة، فكر حمزة وعليَّ على عتبة فقتلاه، وحملا عبيدة وأتيا به إلى رسول الله r، ولكن ما لبث أن استُشهد متأثرا من جراحته وقد قال عنه r: (أشهد أنك شهيد)

وبذلك يكون أول شهيد في هذه المعركة من أهل رسول الله وقرابته حتى يخرس كل لسان..

لقد نزل في هؤلاء الستة قرآن جاء فيه:﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) (الحج)

هذه بداية المعركة.. وأنتم ترون أنها انطلقت من جيش المشركين..

وهكذا استمرت.. فعندما شاهد المشركون قتل الثلاثة الذين خرجوا للمبارزة استشاطوا غضبًا وهجموا على المسلمين هجومًا عامًا، صمد له المسلمون، وهم واقفون موقف الدفاع، يكتفون برميهم بالنبل كما أمرهم النبي r, وكان شعار المسلمين: أَحَد أَحَد.

ثم أمرهم النبي r بالهجوم المضاد محرضًا لهم على القتال وقائلا لهم: (شدوا) وواعدًا من يقتل صابرًا محتسبًا بأن له الجنة.

قال الجمع: هذه بداية المعركة.. فكيف كانت نهايتها؟

قال الحكيم: لقد أنجز الله وعده، فغلبت الفئة القليلة المستضعفة الفئة الكثيرة المستكبرة.. وكان قتلى المشركين سبعين رجلا، وأسر منهم سبعون، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا، منهم ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.

ولما تم الفتح وانهزم المشركون أرسل r  عبد الله بن رواحة وزيدا بن حارثة ليبشرا المسلمين في المدينة بنصر الله للمسلمين وهزيمة المشركين.

وكان من حكمة رسول الله r في هذه المعركة كحكمته في سائر المعارك أنه بقي في موقع المعركة ثلاثة أيام، فعن أنس أنه r كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال.

وفي ذلك الموقف قام رسول الله r بدفن قتلى المشركين, ثم وقف يخاطبهم، ويقول: (بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس)

ثم خاطبهم يسميهم قائلا: (يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا)، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال: (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب)[45]

غزوة بني سليم:

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: هذا هو سيف بدر الذي ملأتم الدنيا بسببه ضجيجا.. هل يملك أحد في تاريخه معركة أشرف من هذه المعركة؟.. وهل يملك أحد من الأسباب أشرف من تلك الأسباب التي خاض بها المسلمون هذه المعركة؟

سكت دوج، فأشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: سننتقل إلى سيف آخر.. وهو سيف يسميه المؤرخون (غزوة بني سُلَيم)

قال دوج: ألم يكتف محمد بانتصاره.. وبالهيبة التي كان يبحث عنها.. حتى يعود إلى إشهار سيفه من جديد؟

قال الحكيم: ما كان لنبي أن يدع سيفه قبل أن يأمره الله بذلك.. إن النبي صاحب رسالة.. وصاحب مبدأ.. ولا راحة له إلا بتأدية ما كلف به.

ولذلك، فإن النبي r.. وهو رسول الله المعصوم.. لم يغتر بالنصر الذي نصره الله به.. فلذلك بقي يرسل استخباراته لتخبره ما يكيد له الأعداء..

وكان أول ما نقلت استخبارات المدينة إلى النبي r بعد بدر أن بني سليم وبني غَطَفَان تحشد قواتها لغزو المدينة، فلذلك استفاد r من عنصر المفاجأة، فباغتهم في مائتي راكب في عقر دراهم، وبلغ إلى منازلهم في موضع، يقال له‏:‏ الكُدْر‏.‏ ففر بنو سليم، وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استولي عليها جيش المدينة، وقسمها رسول الله r بعد إخراج الخمس، فأصاب كل رجل بعيرين، وأصاب غلاما يقال له‏:‏ ‏(‏يسار‏)‏ فأعتقه‏.‏

وأقام النبي rفي ديارهم ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة‏.‏

وكانت هذه الغزوة في شوال سنة 2 هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام.

قال دوج: إن هؤلاء بدو.. وليسوا من أعدائه من قريش.. فما الذي جعله يلتفت لهم!؟

قال الحكيم: التفاتهم له هو الذي جعله يلتفت لهم.. ومكايدهم له هي التي جعلته يكيد لهم..

لقد كانت معركة بدر أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين، وكانت معركة فاصلة أكسبت المسلمين نصراً حاسماً شهد له العرب قاطبة.. ولكنها كانت في نفس الوقت مثار سخط من كثيرين:

أولهم المشركون الذين منوا بخسائر فادحة مباشرة.. ويليهم اليهود الذين كانوا يرون عزة المسلمين وغلبتهم ضرباً قاصماً على كيانهم الديني والاقتصادي.. ويليهم المنافقون الذين اشتد خوفهم من انتصار هذا الدين الذي يمتلئون له بغضا.

وكان رابع هؤلاء البدو الضاربون حول المدينة، والذين ورد ذكرهم في قوله تعالى:﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) (التوبة:101).. وهؤلاء كانوا أصحاب سلب ونهب، فاستبد بهم القلق، واضطربوا لهذا الانتصار، وخافوا أن تقوم في المدينة دولة قوية تحول بينهم وبين اكتساب قوتهم عن طريق السلب والنهب، فجعلوا يحقدون على المسلمين ‏.‏

أنت ترى أن الانتصار في بدر كما كان سبباً لشوكة المسلمين وعزهم وكرامتهم كان سبباً لحقد جهات متعددة، وكان للحكيم العاقل أن يلبس لكل حالة لبوسها.

غزوة السويق:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا سيف يشير إلى غزوة السويق.. ويسرني أن أحدثكم.. فليس في حياة نبينا ما يستحيا من ذكره.

كان سبب هذه الغزوة أن أبا سفيان قدم بمائتي فرس من مكة، وسلك طريق النجدية حتى نزلوا حي بني النضير، وهم من اليهود ليلا، واستقبلهم سلام بن مشكم سيد بني النضير، فأطعمهم وسقاهم، وكشف لهم عن أسرار المسلمين، وتدارس معهم إحدى الطرق لإيقاع الأذى بالمسلمين.

ولم يكن ذلك وحده ما فعله أبو سفيان.. بل قام بمهاجمة ناحية العُريض، وهو وادٍ بالمدينة في طرف حرة واقم، فقتل رجلين وأحرق نخلاً وفر عائدًا إلى مكة.

وأنت تعلم أن رسول الله r يشعر بمسؤوليته على الرعية التي وكلت إليه حمايتها، فلذلك تعقبه رسول الله r في مائتي رجل من المهاجرين والأنصار.

لكنه لم يتمكن من إدراكهم؛ لأن أبا سفيان ورجاله قد جدوا في الهرب، وجعلوا يتخففون من أثقالهم، ويلقون السويق[46]التي كان يحملونها لغذائهم، وكان المسلمون يمرون بهذه الجرب فيأخذونها، حتى رجعوا بسويق كثير، لذا سميت هذه الغزوة بغزوة السويق، وعاد رسول الله r إلى المدينة بعد أن غاب عنها خمسة أيام دون أن يلقى حربا[47].

قهقه دوج بصوت عال، وقال: ألم يكفهم ما غنموه من السويق؟

قال الحكيم: ومع ذلك لا يستحي قومك.. فيضعون هذه الغزوة التي سد فيها المسلمون بعض جوعهم في نفس الخانة التي يضعون فيها حروبهم الطاحنة التي تقتل العباد، وتحرق البلاد.

غزوة ذي أمر:

سكت دوج، فنظر الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا سيف يشير به فناننا المبدع إلى غزوة ذي أمر.. وما أدراك ما غزوة ذي أمر[48]؟

قالوا: فحدثنا عنها..

قال الحكيم: لقد جاءت الأخبار من قِبَل الرجال الذين جعلهم رسول الله r عيونا تحفظ المدينة.. بأن رجال قبيلتي ثعلبة ومحارب تجمعوا بذي أمر بقيادة دُعثور بن الحارث المحاربي، يريدون حرب رسول الله r، والإغارة على المدينة، فاستعمل النبي r على المدينة عثمان بن عفان، وخرج في أربعمائة وخمسين من المسلمين بين راكب وراجل، فأصابوا رجلا بذي القصة يقال له جبار من بني ثعلبة، كان يحمل أخبارًا عن قومه أسرَّ بها إلى رسول الله r، وقد دخل في الإسلام وانضم إلى بلال ليتفقه في الدين.

أما المشركون من بني ثعلبة ومحارب، فما لبثوا أن فروا إلى رؤوس الجبال عند سماعهم بمسير المسلمين، وبقي رسول الله r في نجد مدة تقارب الشهر دون أن يلقى كيدًا من أحد وعاد بعدها إلى المدينة.

وفي هذه الغزوة أسلم دعثور بن الحارث الذي كان سيدًا مطاعًا بعد أن حدثت له معجزة على يدي رسول الله r، فقد أصاب المسلمين في هذه الغزوة مطرٌ كثيرٌ فابتلت ثياب رسول الله r فنزل تحت شجرة ونشر ثيابه لتجف، واستطاع دُعثور أن ينفرد برسول الله r بسيفه، فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ قال: (الله)، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله r فقال: (من يمنعك مني) قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعًا أبدًا، فأعطاه رسول الله r سيفه، فلما رجع إلى أصحابه فقالوا: ويلك، ما لك؟ فقال: نظرت إلى رجل طويل فدفع صدري فوقعت لظهري, فعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعًا، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام[49].

وقد نزل في شأن هذه الغزوة قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (المائدة:11)

 التفت الحكيم إلى دوج، وقال: ألا ترى كيف كان للرعب تأثيره النفسي في حفظ هذه القبيلة التي قصدها رسول الله r.. فلولا انتصارات رسول الله r السابقة لغامر هؤلاء بأنفسهم.. ولكن القوة التي تمتع بها المسلمون هي التي حفظتهم.

ثم ألا ترى في موقف رسول الله r من هذا الذي يريد قتلك ما يدلك على نبوته.

تغيرت لهجة الحكيم فجأة، وقال محاطبا دوج بقوة: هل ترى أن هذا الرجل الذي حصل منه كل هذا بشرا عاديا!؟

هل ترى من هذا الرجل العظيم الذي يهب عند كل حاجة ليحمي المسلمين بنفسه رجلا ظالما قاتلا مستبدا إرهابيا؟

سكت دوج، فقال الحكيم: لو بحثت في جميع قادة الدنيا.. فلن تجد قائدا له هذه الروح.. وهذه الأخلاق.. وهذا الإيمان.

غزوة بحران:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا السيف يشير به فناننا المبدع إلى غزوة بحران.. وقد وقعت هذه الغزوة في شهر جمادى الأولى من السنة الثالثة للهجرة، وقد خرج النبي r في ثلاثمائة من المسلمين حتى بلغ بحران بين مكة والمدينة يريد قتال بني سليم, فوجدهم قد تفرقوا، فانصرف عنهم، وعاد إلى المدينة بعد أن أمضى خارجها عشر ليالٍ.

قال دوج: أنا لا أرى سببا لهذه الغزوة، ولهذا فهي نوع من الإرهاب.

قال الحكيم: إذا أردت بالإرهاب بث الرعب في الظالم حتى لا يظلم، وفي السارق حتى لا يسرق، وفي المعتدي حتى لا تحترق نفسه، ويحرق غيره بنيران العداوة، فذلك صحيح.. فإن محمدا r كان بين قوم ممتلئين بقيم الاعتداء.. ولم يكن يردعهم إلا قوة تردهم إلى رشدهم.

سرية القُردة:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل فناننا المبدع يشير بهذا السيف إلى سرية القردة..

وسبب هذه الغزوة أن قريشا لما تيقنت أن طريق الشام من جهة المدينة قد أُغلق في وجه تجارتها، ولا يمكنهم الصبر عنها لأن بها حياتهم، أرسلوا عِيراً إلى الشام من طريق العراق، وكان فيها جمع من قريش منهم أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، فجاءت أخبارهم لرسول الله r، فأرسل لهم زيدبن حارثة في مائة راكب يترقبونهم، وكان ذلك في جمادى الآخرة، فسارت السرية حتى لقيت العِير على ماء اسمه القَرْدَة بناحية نجد، فأخذت العِير وما فيها، وهرب الرجال، وقد خمَّس الرسول r هذه الغنائم ـ التي بلغت قيمتها مائة ألف درهم ـ حينما وصلت له.

التفت إلى الحكيم، وقال: أنت ترى أن أكثر هذه الغزوات يمر بدون أي ضحايا، فكيف تشير إليها بالسيوف.

قال دوج:ولكنها نهبت أموالا.

قال الحكيم: لقد كانت تلك الأموال أحد أمرين: إما حقوق مضاعة من حقوق المسلمين أكلها المشركون، فهم يدعونها عبر هذه السرايا.

وإما ردع للمشركين عن عدوانهم.

ثم أضيف لك شيئا مهما قد تكون غفلت عنه.. كما غفل عنه الكثير، وهو أن المشركين كان في إمكانهم أن يوقفوا هذه السرايا، وأن يأمنوا على نفوسهم وقوافلهم لو أرادوا.. ولكنهم لم يريدوا.

قال دوج: تقصد إسلامهم!؟

قال الحكيم: بل أقصد إقامتهم لهدنة أو صلح بينهم وبين المسلمين.. لقد كان في إمكانهم ذلك.. وسيجدون رسول الله r يقبل ذلك .. ولكنهم لم يفعلوا.. فكانوا بذلك هم المعتدين.

قال دوج: ومن أخبرك بأن محمدا سيقبل لو عرضوا عليه ذلك؟

قال الحكيم: لقد عرضوا عليه ذلك.. وبشروط مجحفة.. وفي وقت كان فيه أقوى من هذه الفترة.. ومع ذلك قبل رسول الله r حرصا على السلام.

غزوة بني قينقاع:

التفت الحكيم إلى دوج مشيرا إلى سيف من السيوف، وقال: ألست تقصد بهذا السيف غزوة بني قينقاع..!؟

لم ينتظر أن يجيبه، بل قال: نعم.. لا أظنك إلا تقصدها.. فإن كنت تقصدها، فهي أول غزوة ترتبط باليهود .. قتلة الأنبياء.. الذين امتلأتم لهم حبا واحتضانا مع اعتقادكم بأنهم قتلوا المسيح.. وليس ذلك إلا لسبب وحيد هو أنهم من أشد الناس لنا بغضا.. وكم يقرب البغض من أباعد.

قال الجمع: حدثنا عن هذه الغزوة.

قال الحكيم: ربما سمعتم ببنود المعاهدة[50] التي عقدها رسول الله r مع اليهود في أول مقدمه للمدينة، وقد كان رسول الله r حريصاً فيها كل الحرص على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهدة.

ولم يأت من المسلمين ما يخالف هذه المعاهدة في حرف من حروفها.. ولكن اليهود الذين ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود، لم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والاضطراب في صفوف المسلمين‏.‏

ومن الأمثلة على ذلك أن شاس بن قيس ـ وكان شيخاً ‏يهودياً‏ قد عسا، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم ـ مر على نفر من أصحاب رسول الله r من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون، فغاظه ما رأي من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال‏:‏ قد اجتمع ملأ بني قَيْلَةَ بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتي شاباً من يهود كان معه، فقال‏:‏ اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بُعَاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه‏:‏ إن شئتم رددناها الآن جَذَعَة ـ يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم ـ وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا‏:‏ قد فعلنا، موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة‏:‏ الحَرَّة ـ السلاح السلاح، فخرجوا إليها، ‏وكادت تنشب الحرب‏‏.‏

فبلغ ذلك رسول الله r، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال‏:‏ ‏(‏يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم‏)‏

فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله r سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس‏.‏

ومن ذلك أنهم كانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار، ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشك في قلوب الضعفاء.

وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مإلى، فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء، وإن كان له عليهم يأكلونـه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه، وكانوا يقولون‏:‏ إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت، فليس لك علينا من سبيل‏.‏

كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر على رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول الله r، وكان رسول الله rوأصحابه يصبرون على كل ذلك؛ حرصاً على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة‏.‏

لكنهم لما رأوا أن الله قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في بدر، وأنهم قد صارت لهم عزة وشوكة وهيبة في قلوب الناس‏ تميزت قدر غيظهم، وكاشفوا بالشر والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذي‏.‏

وكان أعظمهم حقداً كعب بن الأشرف[51].. كما أن شر طائفة من طوائفهم الثلاث هم يهود بني قينقاع، كانوا يسكنون داخل المدينة ـ في حي باسمهم ـ وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحرب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود‏.‏

فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذي كل من ورد سوقهم من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم‏.‏

وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله r، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدي، وحـذرهم مغـبة البغـي والـعدوان، ولكن ذلك لم يزدهم إلا شرا‏.‏

وقد صبر رسول الله r والمؤمنون إلى أن حصل منهم ما لا يمكن أن يصبر مؤمن عليه:

لقد حدث المؤرخون أن أن امرأة من العرب قدمت بجَلَبٍ لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فَعَمَد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ـ وهي غافلة ـ فلما قامت انكشفت، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ـ وكان يهودياً ـ فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع‏.‏

ولما وصل الأمر إلى هذه الدرجة خرج رسول الله r إليهم، فلما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2 هـ، ودام الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله r في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم رسول الله r فكتفوا‏.‏

وحينئذ قام عبد الله بن أبي بن سلول ـ وقد كان رسول الله r يعلم نفاقه ـ فألح على رسول الله r أن يصدر عنهم العفو، فقال‏:‏ يا محمد، أحسن فـي موإلى ـ وكـان بنـو قينـقاع حلفـاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول الله r فكرر ابن أبي مقالته فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول اللَّّه r ‏:‏(‏أرسلني‏)‏، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً، ثم قال‏:‏ ‏(‏ويحك، أرسلني‏)‏‏،‏ ولكن المنافق مضى على إصراره وقال‏:‏ لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالى أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة ‏؟‏ إني والله امرؤ أخشي الدوائر‏.‏

وعامل رسول الله r هذا المنافق ـ الذي لم يكن مضي على إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب ـ بالحسنى،‏ فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذْرُعَات الشام‏.‏

وبهذه العقوبة الرادعة لاذت القبائل اليهودية بالصمت والهدوء فترة من الزمن..

قال دوج: ألا تعتبر هذا إرهابا؟

قال الحكيم: لا.. بل فعل بهم رسول الله عين العدل والحكمة والرحمة..

قال دوج: أي عدل وأي حكمة وأي رحمة هذه التي تتحدث عنها؟

قال الحكيم: أما العدل.. فإن كل مجرم لابد أن ينال عقوبته ليستتب الأمن.. وهؤلاء الذين لم يرحموا امرأة يمكن أن يصدر منهم أي شيء بعد ذلك.

قال دوج: والحكمة!؟

قال الحكيم: لولا أن رسول الله r تعامل بحزم مع هذه الأمور وأمثالها لما استطاع أن يؤسس ذلك المجتمع الفاضل الذي أسسه.. ولا استطاع أن ينشر تلك القيم الرفيعة التي نشرها.. فالحكمة تقتضي تقديم المصالح العليا على كل شيء.

قال دوج: والرحمة!؟

قال الحكيم: لقد رحمهم رسول الله r، فاكتفى بإخراجهم.. وكان يمكنه أن يفعل أكثر من ذلك.

غزوة أحد:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل فناننا المبدع يشير بهذا السيف إلى (غزوة أحد)

انتفض دوج فرحا، وقال: أجل.. تلك هي الغزوة التي انتقم الله فيها من محمد وأصحاب محمد.

ابتسم الحكيم، وقال: بل هي تلك الغزوة التي نصر الله فيها محمدا وأصحاب محمد[52]..

قال دوج: كيف تقول ذلك.. والكل يتفق على أن محمدا مني فيها بهزيمة أسقطت هيبته، وجعلته عرضة لكل طامع!؟

قال الحكيم: وذلك بعض النصر الذي تحقق بهذه الغزوة.

قال دوج: إنك تحيرني.. أو أنك تتناقض مع نفسك..كيف يتحول طمع الأعداء فيك إلى نصر؟

قال الحكيم: عندما تتوفر لأعدائك الفرص لأن يظهروا طمعهم فيك.. ثم ينصرك الله عليهم يكون سبب نصرك الأول عليهم هو طمعهم فيك.. فلولا طمعهم ما تحقق نصرك.

قال دوج: لم أفهم ما الذي تقصد بالضبط.

قال الحكيم: بالنسبة لرسول الله r تحول ما يتصوره الناس هزيمة إلى نصر.. فالحكيم العاقل لا تتصرف فيه الظروف، بل هو الذي يتصرف فيها، وهو الذي يحولها بعد ذلك كما شاء[53].

قال دوج: لا أزال أنتظر دليلا على ذلك.

قال الحكيم: لا يمكنني أن أذكر لك ذلك إلا بعد أن يعرف الجمع أحداث هذه الغزوة وما تلاها ليستنتجوا بعد ذلك ما ذكرته لك من تحول الهزيمة إلى نصر.

قال الجمع: نعم.. ذلك صحيح.. فنحن نسمع بهذه الغزوة.. ولكنا لم نتشرف بعد بمعرفة تفاصيلها.

قال الحكيم: لقد كانت هذه الغزوة إفرازا من إفرازات الأحقاد التي كانت تمتلئ بها قلوب المشركين من قريش منذ أعلن رسول الله r دعوته فيهم، فقد قابلوا الإسلام منذ ابتدأ بالمواجهة.. لقد كانوا ينفقون أموالهم في الصد عن سبيل الله، وإقامة العقبات أمام الدعوة الإسلامية، ومنع الناس في الدخول في الإسلام، ثم بعد ذلك سعوا إلى القضاء على الإسلام والمسلمين ودولتهم الناشئة.

قال تعالى يصور جهودهم المتواصلة لاستئصال الإسلام:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (لأنفال:36)

وقد ازدادت هذه الأحقاد بعد هزيمتهم في غزوة بدر، ولذلك شرعوا في جمع المال لحرب رسول الله r بمجرد عودتهم من بدر, قال ابن إسحاق: (لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فُلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيرهم فأوقفها بدار الندوة، وكذلك كانوا يصنعون، فلم يحركها ولا فرقها، فطابت أنفس أشرافهم أن يجهزوا منها جيشا لقتال رسول الله r, فمشى عبد الله بن ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن أمية في رجال ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة من قريش، فقالوا: إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم, فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منها، فقال أبو سفيان: أنا أول من أجاب إلى ذلك.

وبعد أن استكملت قريش قواها في شوال من السنة الثالثة من الهجرة, عبأت جيشها المكون من ثلاثة آلاف مقاتل، ومعها من تبعها من القبائل العربية المجاورة، خرجت لحرب رسول الله r مصطحبين معهم النساء والعبيد.

وقد سبقت هذه التعبئة حملة إعلامية ضخمة تولى كبرها أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي، وعمرو بن العاص، وهبيرة المخزومي، وابن الزَّبَعْرَى وقد حققت نتائج كبيرة, وبلغت النفقات الحربية لجيش قريش خمسين ألف دينار ذهبًا.

وقد علم رسول الله r بما تفعله قريش من استعدادها لحرب المسلمين.. وقد علم بذلك عن طريق عمه العباس الذي كان يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي r، ضمنها جميع تفاصيل الجيش،، وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة وجد في السير, حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة، التي تبلغ مساحتها خمسمائة كيلومتر، في ثلاثة أيام وسلم الرسالة إلى النبي r وهو في مسجد قباء.

لقد كان النبي r يتابع أخبار قريش بدقة بواسطة عمه العباس، قال ابن عبد البر: (وكان العباس يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله r, وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب أن يقدم على رسول الله فكتب إليه رسول الله r: أن مقامك في مكة خير)[54]

وقد كانت المعلومات التي قدمها العباس لرسول الله r في غاية الدقة، فقد جاء في رسالته: (أن قريشًا قد أجمعت المسير إليك, فما كنت صانعًا إذا حلوا بك فاصنعه، وقد توجهوا إليك وهم ثلاثة آلاف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير, وأوعبوا من السلاح)

ومع ذلك، فإن النبي r لم يكتف بمعلومات المخابرات المكية، بل حرص على أن تكون معلوماته عن هذا العدو متجددة مع تلاحق الزمن، ولذلك أرسل الحباب بن المنذر إلى قريش يستطلع الخبر، فدخل بين جيش مكة وحزر عَدَده وعُدَده ورجع, فسأله رسول الله r: (ما رأيت؟)، قال: رأيت ـ أي رسول الله ـ عددًا، حزرتهم ثلاثة آلاف يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا، والخيل مائتي فرس، ورأيت دروعًا ظاهرة حزرتها سبعمائة درع، قال:( هل رأيت ظعنًا؟) قال: رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار[55].

فلما أخبره بذلك قال رسول الله r:( أردن أن يحرضن القوم ويذكرونهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم لا تذكر من شأنهم حرفًا, حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول)[56]

كما أرسل r أنسًا ومؤنسًا ابني فضالة يتنصتان أخبار قريش، فألفياها قد قاربت المدينة، وأرسلت خيلها وإبلها ترعى زروع يثرب المحيطة بها، وعادا فأخبراه بخبر القوم.

وبعد أن تأكد من المعلومات التي وصلته عن استعداد قريش وخروجها لحربه حرص r على حصر تلك المعلومات على المستوى القيادي, خوفًا من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات المسلمين قبل إعداد العدة، ولذلك حين قرأ أبي بن كعب رسالة العباس أمره r بكتمان الأمر، وعاد مسرعًا إلى المدينة.

وبعد أن جمع r المعلومات الكاملة عن جيش كفار قريش جمع أصحابه وشاورهم في البقاء في المدينة والتحصن فيها أو الخروج لملاقاة المشركين، وكان رأي النبي r البقاء في المدينة، وقال:( إنا في جنة حصينة)، فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها[57]، وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله r إلا أن رجالاً من المسلمين ممن كان فاته بدر، قالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا[58].

قال ابن إسحاق: فلم يزل الناس برسول الله r الذي كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله r بيته، فلبس لأمته، فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبي الله r بأمر وعرضتم بغيره، فاذهب يا حمزة فقل لنبي الله r: (أمرنا لأمرك تبع) فأتى حمزة فقال له: (يا نبي الله إن القوم تلاوموا، فقالوا: أمرنا لأمرك تبع)، فقال رسول الله r: (إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل)

قال دوج: كيف يفعل محمد هذا.. ألم يكن له من الحكمة ما يجعله يعمل رأيه ما دام قد أرى بأنه الصواب؟

قال الحكيم: لقد أراد رسول الله r من هذا أمرين:

الأول: أن يعلمنا أن المستشير ينبغي أن يحترم رأي من يستشيره، فيعمله إذا اقتضى المقام ذلك.

والثاني: أن رسول الله r عندما عزم على الخروج بسبب إلحاحهم، ثم عادوا فاعتذروا إليه، أراد أن يعلمهم درسًا آخر ـ هو من أهم صفات القيادة الناجحة ـ وهو عدم التردد بعد العزيمة والشروع في التنفيذ، لأن من آثار ذلك أنه ييزعزع الثقة بها ويغرس الفوضى بين الأتباع.

سكت الحكيم، فقالت الجماعة: ثم ماذا؟

قال الحكيم: لقد اشتد رسول الله r في تلك الأيام في التجهير للقتال وحراسة المدينة.. فصار كل واحد من الصحابة يصحب سلاحه ولا يفارقه، حتى عند نومه، وأمر r بحراسة المدينة، واختار خمسين من أشداء المسلمين ومحاربيهم بقيادة محمد بن مسلمة.

واهتم الصحابة بحراسة رسول الله r، فبات سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وسعد بن عبادة في عدة من الصحابة ليلة الجمعة مدججين بالسلاح في باب المسجد يحرسون رسول الله r.

وقد اختار رسول الله r لخروجه الوقت المناسب، فقد تحرك بعد منتصف الليل، حيث يكون الجو هادئًا، والحركة قليلة، وفي هذا الوقت بالذات يكون الأعداء، غالبا, في نوم عميق لأن الإعياء ومشقة السفر قد أخذا منهم مجهودًا كبيرًا.

قال الواقدي: ونام رسول الله r حتى أدلج, فلما كان في السحر قال:( أين الأدلاء؟)

ثم إنه r اختار الطريق المناسب الذي يسلكه حتى يصل إلى أرض المعركة، وذكر صفة ينبغي أن تتوافر في هذا الطريق وهي السرية، حتى لا يرى الأعداء جيش المسلمين، فقال r لأصحابه: (من رجل يخرج بنا على القوم من طريق لا يمر بنا عليهم؟)، فأبدى أبو خيثمة استعداده قائلا: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم، حتى سلك به في مال لربعي بن قيظي، وكان رجلاً منافقًا ضرير البصر، فلما أحس برسول الله r ومن معه من المسلمين، قام يحثو في وجوههم التراب، وهو يقول: إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي، وقد ذكر أنه أخذ حفنة من تراب بيده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد، لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال لهم: لا تقتلوه, فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر، وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني الأشهل قبل نهي رسول الله r عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه.

قال رجل من الجمع: إن جسارة رجل في هذا الموقف الشديد على سب محمد.. وترك محمد له من غير عقوبة.. لا يدل إلا على حلم عظيم، وسعة لا يمكن أن تكون في صدر إرهابي أو مستبد.

قال الحكيم: لم يكتف المنافقون بذلك فقط.. بل إنهم ـ كموقفهم في جميع الغزوات ـ لم يكن لهم دور إلا التثبيط، ومع ذلك فإن النبي r لم يمس أحدا منهم بسوء.

في ذلك اليوم الشديد..وعندما وصل جيش المسلمين الشواط ـ وهو اسم بستان بين المدينة وأحد ـ انسحب المنافق ابن سلول بثلاثمائة من المنافقين، وهم ثلث الجيش، بحجة أنه لن يقع قتال مع المشركين، ومعترضًا على قرار القتال خارج المدينة قائلا: (أطاع الولدان ومن لا رأي له، أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا)

لقد كان هدف المنافقين من هذا بث الهزيمة النفسية في قلوب المؤمنين وتحطيم معنوياتهم.. ولكن الله علمهم أن من رحمة الله بهم أن لا يدخل هؤلاء ساحة المعركة.

لقد اقتضت حكمة الله أن يمحص الله الجيش ليظهر الخبيث من الطيب، حتى لا يختلط المخلص بالمغرض، والمؤمن بالمنافق، قال تعالى:﴿  مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) (آل عمران)

في ذلك الموقف الشديد تميز المخلصون من المنافقين.. في ذلك الموقف حاول عبد الله بن حرام إقناع المنافقين بالعودة فأبوا، فقال: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه.

وفي هؤلاء المنخذلين نزل قول الله تعالى:﴿  وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) (آل عمران)

قال رجل من الجمع: إن ما تذكره من عدم حصول نزاع داخلي بين المسلمين مع توفر جميع دواعيه يدل على أن كل النزاعات التي تحصل الآن بين المسلمين ليس لها أصل في الإسلام.

قال الحكيم: أجل.. فإن المسلمين في ذلك الحين كانوا يسمعون المنافقين بل كانوا يرون منهم ما لو حصل بين بعض هذه الجماعات الآن لاعتبروه من مبررات سفك الدماء.. ولكن المسلمين الذين رباهم رسول الله r على حرمة الدماء كانوا أوسع صدرا من أن يقعوا في هذا.

قال دوج: ولكن أمر الرجوع لم يخص ابن أبي ابن سلول وحده.. بل إني أعلم أن بني سلمة، وبني حارثة قررتا أن ترجعا.. وفي ذلك دليل على تضعضع المسلمين.

قال الحكيم: لقد حصل بعض ما ذكرت.. لا كل ما ذكرت.. فقد ثبت الله هاتين القبيلتين وعصمهما، ونزل في ذلك قوله تعالى:﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) (آل عمران)

وهذا لا يفهم منه ما استنتجت.. وإنما يفهم منه شيء واحد هو ما تسمونه أنتم الآن بالديمقراطية..

لقد وفر r لأصحابه ورعيته من الحرية ما لم يوفرها زعيم من زعماء الدنيا.. فهل ترى زعيما من الزعماء يترك طائفة من جيشه، وهو أحوج ما يكون إليها؟

ألا تعتبرون ذلك في عرفكم خيانة عظمى ليس لها من عقوبة إلا القتل؟.. ولكن رسول الله r لم يقتل أحدا بهذا السبب وكان في إمكانه أن يفعل؟

قالت الجماعة: حدثنا عن المعركة.. كيف بدأت؟.. وإلام انتهت؟.. وكيف زعمت انتصار المسلمين فيها؟

قال الحكيم: لما تجمع المسلمون للخروج، رأى الرسول جماعة من اليهود يريدون أن يخرجوا مع عبد الله بن أبي بن سلول ـ قبل انسحابه بجيشه ـ للخروج مع المسلمين، فقال الرسول: (أو قد أسلموا؟) قالوا: لا يا رسول الله، قال: (مروهم فليرجعوا؛ فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين)

قال دوج: فهي حرب دينية إذن.

ابتسم الحكيم، وقال: إن أردت بالدينية أنها تحكم القيم الدينية، فذلك صحيح، فقيم الحرب الدينية في الإسلام تختلف عنها في اليهودية … أما إن أردت بالدينية الحرب التي تسعى لنشر الدين، فأنت تعلم، وكل الناس يعلمون أن النبي r في هذه الغزوة لم يخرج إلا مكرها للدفاع عن المجتمع الذي أسسه.

سكت قليلا، ثم التفت إلى الجمع، وراح يواصل حديثه عن أحداث غزوة أحد، قال: في منتصف الطريق انخذل عن المسلمين عبد الله بن أبي بن سلول ومعه ثلاثمائة من المنافقين ـ كما ذكرت لكم ذلك من قبل ـ فبقي عدد المسلمين سبعمائة رجل فحسب، ثم مضى الرسول r حتى وصل إلى ساحة أحد، فجعل ظهره للجبل ووجهه للمشركين، وصف الجيش، وجعل على كل فرقة منه قائدا، واختار خمسين من الرماة، على رأسهم عبد الله بن جبير الأنصاري ليحموا ظهر المسلمين من التفاف المشركين وراءهم، وقال لهم: (احموا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، وارشقوهم بالنبل؛ فإن الخيل لا تقوم على النبل، إنا لا نزال غالبين ماثبتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم)

وقال لهم في رواية أخرى: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم أو ظاهرناهم وهم قتلى، فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم)

ثم ابتدأ القتال، وكان النصر الكامل حليف المسلمين في البداية.. حيث قتل المسلمون عددا من الكفار، حتى اضطروا إلى أن يولوا الأدبار.

لكن بعض المسلمين اغتروا بذلك، فراحوا ينغمسون في أخذ الغنائم التي وجدوها في معسكر المشركين، ورأى ذلك من وراءهم من الرماة، والذين كلفوا بحماية ظهر المسلمين، فقالوا: ماذا نفعل وقد نصر الله رسوله؟ ثم فكروا في ترك أمكنتهم لينالهم نصيب من الغنائم، فذكرهم رئيسهم عبد الله بن جبير بوصية الرسول r، فأجابوا بأن الحرب قد انتهت، ولا حاجة للبقاء حيث هم، فأبى عبد الله ومعه عشرة آخرون أن يغادروا أمكنتهم.

قال دوج مقاطعا الحكيم: أرأيتم المسلمين، وشوقهم للغنائم؟

قال الحكيم: المسلمون بشر.. وفيهم من شهوات البشر وحرصهم ما فيه، ودور الدين هو أن يضبطهم ويربيهم لا أن يقمعهم أو يقمع ما جبلوا عليه من فطرة.

وقد كان هذا الحدث على الخصوص من تقدير الله الذي يرتبط بتربية المسلمين في كل الأجيال عبر تربيته لذلك الجيل.

لقد رأى خالد بن الوليد، وكان قائد ميمنة المشركين خلو ظهر المسلمين من الرماة،  فكرَّ عليهم من خلفهم، فما شعر المسلمون إلا والسيوف تناوشهم من هنا وهناك، فاضطرب حبلهم، واختلفوا فرقا بحسب ما لكل منهم من نضج في الإيمان والسلوك، فقد كانت هذه الغزوة ـ بتقدير الله محكا لذلك ـ:

فمنهم طائفة لم تهمها إلا نفسها، حيث أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها،  وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل.

ومنهم طائفة اختلطت بالمشركين، والتبس العسكران فلم يتميزا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض.. وقد حدثت عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أي عباد الله أخراكم ـ أي احترزوا من ورائكم ـ فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله أبي أبي. قالت: فوالله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم. قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله[59].

وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضي، وتاه منها الكثيرون؛لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح: إن محمداً قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقي بأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان.

قال دوج، والفرح باد على وجهه: هكذا تكون الهزيمة، وإلا فلا.

قال الحكيم: بل هكذا يكون النصر، وإلا فلا.

قال دوج: ماذا تقصد؟

قال الحكيم: عندما انتصر المسلمون في بدر ظهر كثير من المغرضين.. لاشك أنك تعرفهم.. فإن لم تكن تعرفهم فإن أصحاب المبادئ من رؤساء الأحزاب يعرفونهم.

فقد يبدأ رئيس الحزب حزبه بطائفة من المبادئ الفاضلة، فلا يستجيب له إلا نفر قليل، فإذا ما أرى المغرضون نجاحه في بعض الانتخابات انضموا إليه بما نفوسهم من أغراض خسيسة قد تسيء إلى المبادئ التي انطلق منها ذلك الزعيم.

وفي ذلك الحين يكون الفشل في الانتخابات انتصارا للمبادئ في وجه المغرضين.

قال دوج: ربما أفهم هذا.. ولكن ما علاقته بالنصر؟

قال الحكيم: لقد كان المسلمون في تلك المرحلة مقبلون على انتصارات كثيرة، وعلى تأسيس جميع مؤسسات المجتمع الإسلامي، وكان لابد أن يمحص الناس حتى يظهر الصادقون المضحون الثابتون من غيرهم.. وكانت هذه الغزوة سببا لذلك.

قالت الجماعة: ثم ماذا حصل؟

قال الحكيم: لقد أشيع أن الرسول قد قتل، ففر بعضهم عائدا إلى المدينة، واستطاع المشركون أن يصلوا إلى الرسول، فأصابته حجارتهم حتى وقع[60]وأغمي عليه، ودخلت حلقتان من المغفر في وجنته r وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه في حفرة

وفي ذلك الموقف الشديد احتضنه طلحة بن عبيد الله، حتى استوى قائماً، وانتزع أبو عبيدة عامر بن الجراح الحلقتين اللتين كانتا غاصتا في وجنته r وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه، فكان ساقط الثنيتين، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته r ثم ازدرده.

ولما أصيب رسول الله r قالوا: لو دعوت عليهم، فقال: (إني لم أبعث لعاناً ولكن بعثت داعياً ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) فاعتذر عنهم وتضرع إلى الله أن يمهلهم حتى يكون منهم أو من ذريتهم من يؤمن وهذا غاية الحلم.

قال دوج: ألا تعجبون من رجل يدعي أن الملائكة تتنزل بنصره، وقد حصل له من الهوان في هذا المحل ما حصل؟

قال الحكيم: والعجب منكم أكثر، فأنتم تزعمون أن المسيح.. وهو ابن الله في تصوركم.. لم يكتف أعداؤه بجرحه.. بل صلبوه وأهانوه إهانة عظيمة.

قال دوج: ذلك ليفدي البشر من الخطيئة.

قال الحكيم: وهذا ليعلم كل قائد كيف يكون القائد الحقيقي.. فالقائد في المفهوم الإسلامي هو الذي يصيبه ما يصيب جنوده من أنواع الأذى.. لا الذي يقبع في قصره يلقي الأوامر، وينتظر النياشين.

قال دوج: لقد زعمت بأن المسلمين انتصروا.. وها نحن نرى محمدا نفسه يكاد يقتل.

قال الحكيم: إن عدم قتله مع توفر الدواعي لذلك أكبر انتصار..

قالت الجماعة: فهل ثبت محمد في ذلك الموقف الشديد؟

قال الحكيم: أجل.. ومن يثبت إن لم يثبت محمد r بأبي هو وأمي.. لقد ثبت وثبت معه رجال لا تزال الأمة تسبح بالثناء عليهم.. فهم قدوة كل جيل في التضحية والفداء والإيثار..

منهم أبو دجانة، الذي تترس على الرسول r ليحميه من نبال المشركين، فكان النبل يقع على ظهره.

ومنهم سعد بن أبي وقاص الذي رمى يومئذ نحو ألف سهم.

ومنهم نسيبة أم عمارة الأنصارية، التي تركت سقاء الجرحى، وأخذت تقاتل بالسيف، وترمي بالنبل، دفاعا عن رسول الله r حتى أصابها في عنقها، فجرحت جرحا عميقا، وكان معها زوجها وابناها، فقال لهم الرسول r: (بارك الله عليكم أهل بيت) فقالت له نسيبة: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: (اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة) فقالت ـ رضي الله عنها ـ بعد ذلك: (ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا) وقد قال r في حقها: (ما التفت يمينا وشمالا يوم أحد، إلا ورأيتها تقاتل دوني) وقد جرحت يومئذ اثني عشر جرحا، ما بين طعنة برمح وضربة بسيف.

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: إن بروز مثل هذه النماذج.. والتي لو لم يحصل ذلك الموقف ما ظهرت.. دليل على أن النصر الذي تحقق في أحد نصر لا يمكن تصور حدوده.. لقد ظلت هذه المواقف وغيرها درسا يستفيد كل من يقدم روحه في سبيل الله لنصرة الحق والدفاع عن المستضعفين.

قالت الجماعة: فماذا فعل محمد؟

في ذلك الموقف الشديد، أعطى رسول الله r اللواء لعلى بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بعد مقتل حامله مصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ

ثم استطاع رسول الله r أن يشق الطريق إلى جيشه الذي طوقه المشركون من كل جانب، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته‏:‏ يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله r، فأشار إليه r أن يصمت حتى لا يعرف موضعه المشركون.. لكن ذلك الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فأسرعوا إليه حتى تجمع حوله حوالى ثلاثين رجلاً من الصحابة‏.‏

وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله r في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم لعرقلة الانسحاب إلا أن بسالة المسلمين لم تمكنهم من ذلك‏.‏

في ذلك الموقف الحرج تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة، وهو أحد فرسان المشركين إلى رسول الله r وهو يقول‏:‏ لا نجوت إن نجا،‏ وقام رسول الله r لمواجهته، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصِّمَّة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله r ‏.‏

وعطف عبد الله بن جابر، وهو فارس من فرسان مكة على الحارث بن الصِّمَّة، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه‏.‏

وهكذا.. إلى أن بلغت هذه الكتيبة إلى شعب الجبل، وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل.

في ذلك الموقف جاء أبي بن خلف مسرعا نحو رسول الله r وهو يقول‏:‏ أين محمد‏؟‏ لا نجوتُ إن نجا،‏ فقال القوم‏:‏ يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا‏؟‏ فقال رسول الله r ‏:‏‏‏(‏دعوه‏)‏، فلما دنا منه تناول رسول الله r الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله وأبصر تَرْقُوَتَه من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدحرج منها عن فرسه مراراً.

 فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم، قال‏:‏ قتلني والله محمد، قالوا له‏:‏ ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال‏:‏ إنه قد كان قال لي بمكة‏:‏‏‏(‏أنا أقتلك‏، فوالله لو بصق على لقتلني)[61]، فمات بسَرِف وهم قافلون به إلى مكة‏.‏

نظر دوج إلى الجماعة وقال متهكما: ألا تعجبون من نبي يفعل هذا؟

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: وكيف لا يفعله؟.. وهل ترى من الحكمة في ذلك الموقف أن يسلم محمد r نفسه للقتل أم يدافع عن نفسه؟

سكت دوج، فقال الحكيم: فأخبر قومك أن هذا الرجل من المشركين هو الوحيد الذي قتله رسول الله r في جميع حياته.. ولا تنس أن تخبرهم عن سبب قتله..

قال رجل مسلم من الجماعة: فهل ظل المسلمون في تماسكهم في ذلك الموقف الشديد؟.. ألم يحاول المشركون اختراقهم؟

قال الحكيم: بلى.. لقد كان هدف المشركين هو القضاء على الإسلام.. ولم يكن هدفهم ذلك النصر المحدود.. لذلك استمروا في تتبعهم لرسول الله r والمؤمنين، وقاموا بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد، فقال رسول الله r:‏ ‏‏(‏اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا‏)‏

ثم كلف أصحابه بأن يقفوا في وجه هذا الهجوم..

وكان منهم عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين ـ رضي الله عنهم ـ حتى أهبطوهم من الجبل‏.‏

وكان منهم سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ فقد قال له رسول الله r حينها‏:‏‏‏(‏اجْنُبْهُمْ‏)[62]، فقال‏:‏ كيف أجْنُبُهُمْ وحدي ‏؟‏ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعد سهماً من كنانته، فرمي به رجلاً فقتله، قال‏:‏ ثم أخذت سهمي أعرفه، فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت‏:‏ هذا سهم مبارك، فجعلته في كنانتي‏، فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه‏.‏

ولما يئس المشركون من مواصلة المعركة وتحقيق الهزيمة الكاسحة بالمسلمين لجأوا إلى الشهداء يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف ويبقرون البطون‏.. وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خَدَماً ـ خلاخيل ـ وقلائد‏.‏

في ذلك الموقف الشديد كان نساء المؤمنين يقفون موقفا مختلفا تماما، قال أنس‏:‏ لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وإنهما لمشمرتان ـ أري خَدَم سوقهما ـ تَنْقُزَانِ القِرَبَ على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم ‏.‏ وقال عمر‏:‏ كانت ‏أم سَلِيط ـ من نساء الأنصار ـ تزفر لنا القرب يوم أحد ‏.‏

وكان في هؤلاء النسوة المجاهدة البطلة أم أيمن، لما رأت طوائف المنهزمين من المسلمين أخذت تحثو التراب في وجوههم، وتقول لهم‏:‏هاك المغزل، وهلم سيفك..  ثم سارعت إلى ساحة القتال، فأخذت تسقي الجرحي، فرماها بعض المشركين بسهم، فوقعت وتكشفت، فأغرق المشرك في الضحك، فشق ذلك على رسول الله r، فدفع إلى سعد بن بي وقاص سهماً لا نصل له، وقال‏:‏‏‏(‏ارم به‏)‏، فرمي به سعد، فوقع السهم في نحر حبان، فوقع مستلقياً حتى تكشف، فضحك رسول الله r حتى بدت نواجذه، ثم قال‏:‏‏‏(‏استقاد لها سعد، أجاب الله دعوته‏)‏ ‏.‏

ولما استقر رسول الله r في مقره من الشِّعب خرج على بن أبي طالب حتى ملأ دَرَقَته ماء من المِهْرَاس[63] فجاء به إلى رسول الله r ليشرب منه، فوجد له ريحاً فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول‏:‏ ‏‏(‏اشتد غضب الله على من دَمَّى وجه نبيه‏)‏ ‏‏

وقال سهل‏:‏ والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله r، ومن كان يسكب الماء، وبما دُووِي ‏؟‏ كانت فاطمة ابنته تغسله، وعلى بن أبي طالب يسكب الماء بالمِجَنِّ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها فاستمسك الدم‏.‏

وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ، فشرب منه النبى r ودعا له بخير،‏ وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح، وصلى المسلمون خلفه قعوداً‏.‏

وفي آخر المعركة، وعندما يئس المشركون من القضاء على المسلمين أشـرف أبو سفـيان على الجبل، فـنادي أفيكم محمد‏؟‏ فلم يجيبوه.. فقال‏:‏ أفيكم ابن أبي قحافة‏؟‏ فلم يجبيبوه.. فقال‏:‏ أفيكم عمر بن الخطاب‏؟‏ فلم يجيبوه ـ وكان النبي r منعهم من الإجابة ـ فقال‏:‏ أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال‏:‏ يا عدو الله، إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقي الله ما يسوءك،‏ فقال‏:‏ قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني‏.‏

ثم قال‏:‏ أعْلِ هُبَل‏.‏

فقال النبي r ‏:‏ ‏‏(‏ألا تجيبونه‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏فما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏‏(‏قولوا‏:‏ الله أعلى وأجل‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ لنا العُزَّى ولا عزى لكم‏.‏

فقال النبي r ‏:‏ ‏‏(‏ألا تجيبونه‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ ما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏‏(‏قولوا‏:‏الله مولانا، ولا مولي لكم‏)‏‏.‏

ثم قال أبو سفيان‏:‏ أنْعَمْتَ فَعَال، يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال‏.‏

فأجابه عمر، وقال‏:‏ لاسواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار‏.‏

ثم قال أبو سفيان‏:‏ هلم إلى يا عمر، فقال رسول الله r ‏:‏ ‏‏(‏ائته فانظر ما شأنه‏؟‏‏)‏ فجاءه، فقال له أبو سفيان‏:‏ أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً‏؟‏ قال عمر‏:‏ اللهم لا،‏ وإنه ليستمع كلامك الآن‏.‏ قال‏:‏ أنت أصدق عندي من ابن قَمِئَة وأبر‏.‏

ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادي‏:‏ إن موعدكم بدر العام القابل، ‏فقال رسول الله r لرجل من أصحابه‏:‏ ‏‏(‏قل‏:‏ نعم، هو بيننا وبينك موعد‏)‏‏.‏

ثم بعث رسول الله r على بن أبي طالب، فقال‏:‏ ‏‏(‏اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون‏؟‏ وما يريدون‏؟‏ فإن كانوا قد جَنَبُوا الخيل، وامْتَطُوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة‏،‏ والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم‏)،‏ قال على‏:‏ فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووَجَّهُوا إلى مكة‏.‏

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: أنت تبحث عن سر نصر أحد.. فهذا سر من أسراره..

لقد جاء المشركون ليقضوا على الإسلام، وليدخلوا المدينة وينهبوها.. ولكنه لم يحصل شيء من ذلك..

كل ما حصل هو أن عدد شهداء المسلمين كان أكبر من عدد شهداء المشركين[64].. وليس ذلك هو مقياس النصر أو الهزيمة.. فمقياس النصر والهزيمة هو تحقيق أحد الطرفين للغاية التي دخل بها المعركة.

وقد دخل النبي r المعركة بنية الحفاظ على كلمة الله أن تظل عليا.. ودخل المشركون بنية القضاء على الإسلام.. ولم يتحقق شيء مما قصده المشركون.. وتحقق كل شيء قصده رسول الله r..

لقد قال المستشرق جيورجيو ـ مناقشاً آراء المؤرخين الإسلاميين كباحث عسكري، انطلاقاً من مفهوم النصر والخسارة في الحرب ـ:( يذكر المؤرخون الإسلاميون أن المسلمين خسروا في معركة أحد، وهذا الرأي يحتاج إلى مناقشة. ولو أننا تحدثنا مع متخصص حربي في مسألة خسارة المعركة، وسألناه: ما هي علامة الخسارة الحربية؟،  لأجاب إن كان جيش الخصم المنتصر احتل البلاد،  وأزال جيش العدو، عد عندئذ منتصراً، أما أن احتل دولة ما ولم يتمكن من أبادة جيشها فلا تعتبر الدولة خاسرة. فألمانيا في الحرب العالمية احتلت روسيا كلها، ووصلت جيوشها حتى شواطيء نهر الفولغا، ولأنها لم تستطع دحر جيش روسيا دحراً كاملاً فإن ألمانيا لم تعتبر منتصرة تماماً. فالدولة تعتبر ظافرة بشرطين: أولهما احتلال الدولة المغلوبة، وثانيهما إخماد حركة الجيش.

والمشركون في معركة أحد لم يستطيعوا احتلال المدينة،  كما لم يوفقوا إلى إفناء جيش محمد، فمع أنهم شتتوا جيش المسلمين،  فإن فلوله عادت فتجمعت في اليوم الثاني، فعندما عاد محمد إلى مدينه (كما سنذكر ) كان تحت سيادته جيش منظم. فعن وجهة نظر محارب متخصص - برأيي- لم يخسر المسلمون في معركة أحد، إنما وقعوا في تجربة مفاجئة وحسب، لأن جيش مكة لم يفن جيش المسلمين،  كما لم يحتل المدينة)[65]

وفوق ذلك.. فإن الشهداء الذين تصور المشركون أنهم بقتلهم انتصروا لم تكن دماؤهم إلا رايات لنصر عظيم ظل يتشرف به المسلمون كل حين..

اسمعوا ـ أيها الجمع ـ إلى هذا الانتصار الذي رسمه سعد بن الربيع بدمائه الزكية، قال زيد بن ثابت‏:‏ بعثني رسول الله r يوم أحد أطلب سعد بن الربيع‏.‏ فقال لي‏:‏ ‏‏(‏إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له‏:‏ يقول لك رسول الله r ‏:‏ كيف تجدك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ فجعلت أطوف بين القتلي، فأتيته وهو بآخر رمق، فيه سبعون ضربة ؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت‏:‏ يا سعد، إن رسول الله يقرأ عليك السلام، ويقول لك‏:‏ أخبرني كيف تجدك‏؟‏ فقال‏:‏ وعلى رسول الله r السلام، قل له، يا رسول الله، أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار‏:‏ لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله r وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته‏.‏

أرأيتم النصر العظيم الذي رسمه هذا الرجل العظيم بشهادته..

التفت إلى دوج، وقال: لا شك أنك توافقني في أن هذه الميتة الشريفة نصر عظيم.. إنها لا تقل عن ذلك الموقف الثابت الذي نسبتموه للمسيح وهو على خشبة الصليب.

سكت قليلا، ثم قال: لم يكن ذلك هو الموقف الوحيد.. كان ذلك اليوم كله مواقف لا يزال يتزين بها التاريخ.. ولا زالت تملأ قلوب الأحرار..

عندما كان المسلمون يتفقدون الجرحي وجدوا الأُصَيرِِم ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا‏:‏ إن هذا الأصيرم ما جاء به‏؟‏ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه‏:‏ ما الذي جاء بك، أحَدَبٌ على قومك، أم رغبة في الإسلام‏؟‏ فقال‏:‏ بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله r حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله r، فقال‏:‏ ‏‏(‏هو من أهل الجنة‏)‏‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ ولم يُصَلِّ لله صلاة قط ‏.‏

وكان في القتلي رجل من يهود بني ثعلبة، قال لقومه‏:‏ يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق،.‏قالوا‏:‏إن اليوم يوم السبت‏.‏ قال‏:‏لا سبت لكم.. ‏فأخذ سيفه وعدته، وقال‏:‏ إن أصبت فمإلى لمحمد،‏ يصنع فيه ما شاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل‏.‏فقال رسول الله r ‏:‏ ‏‏(‏مُخَيرِيق خير يهود‏)‏‏

بعد هذه المواقف النبيلة من الجرحى والشهداء أشرف رسول الله r على الشهداء فقال‏:‏ ‏‏(‏أنا شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يُجْرَح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة، يَدْمَي جُرْحُه، اللون لون الدم، والريح ريح المِسْك‏)‏

سكت قليلا، ثم قال: بعد كل هذه المواقف النبيلة انصرف رسول الله  r راجعاً إلى المدينة، وفي الطريق مر بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد، فلما نعوا لها قالت‏:‏ فما فعل رسول الله r ‏؟‏ قالوا‏:‏ خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت‏:‏ أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير إليها حتى إذا رأته قالت‏:‏ كل مصيبة بعدك جَلَلٌ.

وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو، وسعد آخذ بلجام فرسه، فقال‏:‏ يا رسول الله، أمي، فقال‏:‏ ‏‏(‏مرحباً بها‏)‏، ووقف لها، فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ،‏ فقالت‏:‏ أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت المصيبة ـ أي استقللتها ـ ثم دعا لأهل من قتل بأحد، وقال‏:‏ ‏‏(‏يا أم سعد، أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً‏)‏‏.‏ قالت‏:‏ رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا‏؟‏ ثم قالت‏:‏ يا رسول الله، ادع لمن خلفوا منهم، فقال‏:‏ ‏‏(‏اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخَلفَ على من خُلِّفُوا‏)‏

وعندما عاد رسول الله r في مساء ذلك اليوم ـ يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ ـ إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال‏:‏ ‏‏(‏اغسلي عن هذا دمه يا بنية، فوالله لقد صدقني اليوم‏)‏، وناولها على بن أبي طالب سيفه، فقال‏:‏ وهذا أيضاً فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم، فقال رسول الله r ‏:‏ ‏‏(‏لئن كنت صدقت القتال، لقد صدق معك سهل بن حُنَيف وأبو دُجَانة‏)‏ ‏

 في تلك الليلة بات المسلمون في المدينة يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها، ولكن المشركين اكتفوا بما حققوه، ولم يطمعوا في المزيد.

غزوة حمراء الأسد:‏

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: هذا هو سيف أحد.. وهو السيف الذي ملأ نفوسكم سرورا، وملأتم الدنيا بعدها ضجيجا.. ولكنكم لو فطنتم إلى بذور النصر التي كان يحملها هذا السيف لما تجرأتم على قول كلمة واحدة.

سكت دوج، فأشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: سننتقل إلى سيف آخر.. وهو سيف يسميه المؤرخون (غزوة حمراء الأسد)، وهي دليل آخر.. بل هي من أكبر الأدلة على أن أحدا يوم من أيام نصر الله لرسوله، لا يوم من أيام الهزيمة.

لقد حدثت هذه الغزوة مباشرة بعد أحد، إذ وقعت غزوة أُحد يوم السبت، وهذه الغزوة وقعت يوم الأحد.. وقد وقعت في حمراء الأسد، وهي موضع على ثمانية أميال من المدينة.

لقد حدثنا الواقدي عن سببها وأحداثها، فقال: باتت وجوه الأنصار على بابه r فلما طلع الفجر وأذن بلال بالصلاة جاء عبد الله بن عمرو المزني، فأخبر النبي r أنه أقبل من عند أهله بملل[66] ـ إذا قريش قد نزلوا ـ فسمعهم يقولون: ما صنعتم شيئاً، أصبتم شوكة القوم وحدهم ثم تركتموهم ولم تبيدوهم، قد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا نستأصل من بقي، وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم ويقول: لا تفعلوا فإن القوم قد غضبوا وأخاف أن يجتمع عليكم من تخلف من الخزرج، فارجعوا والدولة لكم فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم، فقال r:( أرشدهم صفوان وما كان برشيد، والذي نفسي بيده لقد سوّمت لهم الحجارة ولو رجعوا لكانوا كالأمس الذاهب)

 ولما صلى رسول الله r الصبح ندب الناس وأذن مؤذن رسول الله r بالخروج، وأمر ألا يخرج أحد إلا من حضر غزوة أحد[67]، تعظيما لمن شهد أحدا، ورفعا لمعنوياتهم.

وكعادة رسول الله r، فقد بعث ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم، فلحق اثنان منهم القوم بحمراء الأسد، فبصروا بالرجلين فقتلوهما، ومضى رسول الله r ودليله ثابت بن الضحاك بن ثعلبة بن الخزرج حتى عسكر بحمراء الأسد، فوجد الرجلين فدفنهما، وكان رسول الله r مجروحاً، وفي وجهه الحلقتين فقال رسول الله r لطلحة: (يا طلحة لن ينالوا منا مثلها حتى يفتح الله علينا مكة)، وقال لعمر بن الخطاب: (يا ابن الخطاب إن قريشاً لن ينالوا منا مثل هذا حتى نستلم الركن)

وفي ذلك المحل أقام رسول الله r الاثنين والثلاثاء والأربعاء، وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار حتى تُرى من المكان البعيد، وذهب صوت معسكرهم ونيراهم في كل وجه فكبت الله بذلك عدوهم.

 عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب بعد الذي كان منه يوم أُحد، فرجع إلى مكة.

وقد روي أن ركبا من عبد القيس يريد المدينة مر بأبي سفيان، وهو فار بجيشه إلى مكة، فقال‏:‏ هل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة، وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فأبلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الكرة ؛ لنستأصله ونستأصل أصحابه‏.‏

فمر الركب برسول الله r وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبرهم بالذي قال له أبو سفيان، وقالوا:﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ )(آل عمران: من الآية173)، وقد أخبر الله تعالى عن موقف المؤمنين من هذا التحذير، فقال:﴿ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(آل عمران: من الآية173)‏، ثم ذكر ما من الله به عليهم بعد هذا الموقف، فقال:﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران:174)

وفي هذه الغزوة ظفر r بأبي عزة الشاعر الذي أسر ببدر، وقد منّ عليه رسول الله r حينها من غير فداء لأجل بناته وأخذ عليه عهداً ألا يقاتله ولا يكثر عليه جمعاً ولا يظاهر عليه أحداً، فنقض العهد وخرج مع قريش لأُحد وصار يستنفر الناس ويحرّضهم على قتاله r بأشعاره، فدعا رسول الله r ألا يفلت فأسر فقال: يا محمد أقلني وامنن عليّ ودعني لبناتي وأعطيك عهداً ألا أعود لمثل ما فعلت، فقال رسول الله r:( لا والله لا تمسح عارضيك بمكة تجلس بالحجر تقول خدعت محمداً، اضرب يا زيد عنقه لا يلدغ المؤمن جحر مرتين)، فضرب عنقه وحمل رأسه إلى المدينة وهذا المثل الذي ضربه رسول الله r لم يسمع من غيره.

ثم رجع رسول الله r بأصحابه ووصلوا المدينة يوم الجمعة، وقد غاب خمساً وظفر r عند رجوعه إلى المدينة بجاسوس من جواسيس مكة، وهو معاوية بن المغيرة بن أبي العاص؛ وذلك أنه لما رجع المشركون يوم أحد جاء معاوية هذا إلى ابن عمه عثمان بن عفان فاستأمن له عثمان رسول الله r، فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتله،‏ فلما خلت المدينة من الجيش الإسلامي أقام فيها أكثر من ثلاث يتجسس لحساب قريش، فلما رجع الجيش خرج معاوية هارباً، فأمر رسول الله r زيد بن حارثة وعمار بن ياسر، فتعقباه حتى قتلاه ‏.‏

انتفض دوج، وقال: ما أسهل أن يأمر نبيكم بالقتل؟

قال الحكيم: لقد كان من سنة رسول الله r في التعامل مع أعدائه هو القضاء على رؤوس الكفر الذين لا يكتفون بأن يبقوا على كفرهم، بل يضموا إليه التحريض والقتال واستعمال كل الوسائل للصد عن الدين، لأنه إذا قضي على هؤلاء أتيح للأذناب أن يتبصروا الحق، ويتبعوه.. وفي ذلك كل المصلحة وكل السلام.

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، كما أشار إليه الكتاب المقدس، فقد قال تعالى:﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ )(البقرة: من الآية251)، فقتل داود جالوت ـ الذي هو رأس العدو ـ هزيمة كبرى للعدو قدمت للانتصار الذي حققته الثلة المؤمنة.

سرية أبي سلمة‏:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، ثم قال: لعل صديقنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية أبي سلمة..

سكت دوج، فقال الحكيم: لقد كان من آثار النصر الخفي الذي وهبه الله للمؤمنين في أحد أن أبرز الحاقدون للإسلام عن أنيابهم.. وكان منهم بنو أسد بن خزيمة.. وكان لذلك إرسال هذه السرية.

لقد نقلت استخبارات المدينة لرسول الله r أن طلحة وسلمة ابني خويلد يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله r.‏

فسارع رسول الله r إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلاً من المهاجرين والأنصار، وأمر عليهم أبا سلمة، وعقد له لواء،‏ فباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وأصاب المسلمون إبلا وشاء لهم فاستاقوها، وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حرباً‏.‏

قال دوج: فقد عاد المسلمون إلى النهب.

قال الحكيم: هذا ليس نهبا.. بل هو من الغنائم المشروعة في الحروب.. وليس الغرض منها إلا ردع الوساوس التي قد لا يردعها إلا حرصها على الحياة والمال.

بعث عبد الله بن أُنَيس‏‏:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى بعث عبد الله بن أُنَيس‏‏.. لا أظن إلا أنه يشير إليه..

وفي اليوم الخامس من المحرم سنة 4 هـ أخبر رسول الله r بأن خالد بن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبي r عبد الله ابن أنيس ليقضي عليه‏.‏

وظل عبد الله بن أنيس غائباً عن المدينة ثماني عشرة ليلة، ثم قدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم، وقد قتل خالداً وجاء برأسه، فوضعه بين يدي النبي r فأعطاه عصا وقال‏:‏ ‏‏(‏هذه آية بيني وبينك يوم القيامة‏)‏، فلما حضرته الوفاة أوصي أن تجعل معه في أكفانه‏.‏

 بعث الرَّجِيع‏:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى بعث الرجيع .. لا أظن إلا أنه يشير إليه..

إن هذا البعث دليل على الخيار الصعب الذي اختاره رسول الله r..

لقد كان بين قوم لا يرعون حرمة، ولا يوفون بعهد.. بل يستعملون كل الوسائل لتحقيق المآرب التي يصبون إليها.

في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة قدم على رسول الله r قوم من عَضَل وقَارَة، وذكروا أن فيهم إسلاماً، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم نفرا من أصحابه[68]، وأمر عليهم مَرْثَد بن أبي مَرْثَد الغَنَوِي أو عاصم بن ثابت، فذهبوا معهم، فلما كانوا بالرجيع[69] غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلاً ليعينوهم على قتلهم، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، فأخذ عاصم ومن معه أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا: إنا والله لا نريد قتلكم، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم، وقالوا ذلك لأنهم يريدون أن يسلموهم لكفار قريش، ويأخذوا في مقابلتهم أجراً لعلمهم أنه لا شيء أحب إلى قريش من أن يأتوا بأحد من أصحاب محمد r يمثلون به ويقتلونه بمن قُتل منهم ببدر وأُحد، فأبوا أن يقبلوا منهم.

 فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهداً، وقاتلوا حتى قُتلوا.

وأما زيد وخبيب وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا، فأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق، ثم أخذ واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وأما خبيب بن عدي وزيد بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فباعوهما.

وكان شراؤهما في ذي القعدة، فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرام، فقتلوا زيداً، وأما خبيب فقد مكث أسيراً حتى خرجت الأشهر الحرام ثم أجمعوا على قتله، وكانوا في أول الأمر أساءوا إليه في حبسه فقال لهم: ما يصنع القوم الكرام هكذا بأسيرهم، فأحسنوا إليه بعد ذلك وجعلوه عند امرأة تحرسه وهي ماوية مولاة حجير، وقد قالت ماوية: كان خبيب يتهجد بالقرآن فإذا سمعه النساء بكين ورققن عليه، فقلت له: هل لك من حاجة؟ قال: لا إلا أن تسقيني العذب ولا تطعميني ما ذُبح على النصب وتخبريني إذا أرادوا قتلي، فلما أرادوا ذلك أخبرته فوالله ما اكترث بذلك.

ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه قال: ذروني أصلِّ ركعتين، فتركوه فصلى ركعتين، ثم قال خبيب: لولا أن يقولوا جزعَ لزدت، وما أبالي على أي شِقَّي كان لله مصرعي ثم قال:

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

ثم أخذ يدعو عليهم قائلا:( اللهم أحصهم عدداً وخذهم بدداً)، ثم خرج به أبو سروعة بن الحارث فضربه فقتله ـ رضي الله عنه ـ

وعن عروة بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ قال: لما أرادوا قتل خبيب ووضعوا فيه السلاح والرماح والحراب وهو مصلوب نادوه وناشدوه: أتحبّ أنّ محمداً مكانك؟ قال: والله ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه، وقيل: إن زيد بن الدثنة قالوا له ذلك أيضاً عند قتله فأجابهم بمثل ذلك، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمداً محمداً.

وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أُحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحف رأسه الخمر فمنعه الزنابير، فلما حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه فبعث الله سيلاً، فاحتمل عاصماً فذهب به، وكان عاصم قد أعطى الله عهداً ألا يمسه مشرك أبداً ولا يمس مشركاً أبداً تنجساً منه، فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته:( عجباً لحفظ الله العبد المؤمن.. كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً في حياته، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته)

بئر مَعُونة‏:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى ما حصل في بئر معونة.. فإن كان يقصده، فهو من أكبر الأدلة على نجاعة الأسلوب الذي اختار رسول الله r أن يتعامل به مع أولئك الأجلاف الغلاظ.

في ذلك الشهر نفسه الذي وقعت فيه مأساة الرَّجِيع وقعت مأساة بئر مَعُونة.. وهي مأساة أشد وأفظع من الأولى.

وقد بدأت هذه المأساة عندما قدم أبا براء عامر بن مالك المدعو بمُلاَعِب الأسِنَّة على رسول الله r المدينة، فدعاه إلى الإسلام، فلم يسلم، ولم يبعد، فقال ‏:‏ يا رسول الله، لو بعثت أصحابك إلى أهل نَجْد يدعونهم إلى دينك لرجوت أن يجيبوهم، فقال‏:‏ ‏‏(‏إني أخاف عليهم أهل نجد‏)‏، فقال أبو بََرَاء ‏:‏ أنا جَارٌ لهم، فبعث معه نفرا كثيرا من أصحابه[70]، وأمر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة، وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم، فساروا يحتطبون بالنهار، يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن ويصلون بالليل، حتى نزلوا بئر معونة، فنزلوا هناك، ثم بعثوا حرام بن مِلْحَان أخا أم سليم بكتاب رسول الله r إلى عامر بن الطُّفَيْل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم، قال حرام ‏:‏ الله أكبر، فُزْتُ ورب الكعبة‏.‏

ثم استنفر هذا الرجل الماكر لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عُصَيَّة ورِعْل وذَكَوان، فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله r، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد بن النجار، فإنه ارْتُثَّ من بين القتلي، فعاش حتى قتل يوم الخندق‏.‏

وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر، فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من مُضَر جَزَّ عامر ناصيته، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه‏.‏

ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي r حاملاً معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين.

وقد تألم النبي r لأجل هذا الغدر ألما شديدا حتى دعا على هذه القبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال ‏:‏ دعا النبي r على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحاً، يدعو في صلاة الفجر على رِعْل وذَكْوَان ولَحْيَان وعُصَية، ويقول‏:‏‏‏(‏عُصَية عَصَتْ الله ورسوله‏)

غزوة بني النضير:‏

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى غزوة بني النضير.. فإن كان يشير إليه، فسأحدثكم عنها.

هذه مواجهة أخرى بين رسول الله r وبين اليهود..

لاشك أنكم تعلمون مقدار الحقد الذي كان يحمله اليهود للمسلمين.. ولكنهم لضعفهم لم يكن لهم وسيلة يحققون بها أحقادهم سوى المؤامرات والدسائس..

وشاء الله أن يكون ما حصل في أحد سببا من أسباب طمعهم في المسلمين.. وشاء الله كذلك أن لا يبقى في جوار رسول الله r هؤلاء الخادعون.

بدأت قصة هذه الغزوة عندما خرج إليهم رسول الله r في نفر من أصحابه، طالبا منهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْرِي [71] ـ وكان ذلك واجبا عليهم حسب بنود المعاهدة ـ فقالوا ‏:‏ نفعل يا أبا القاسم، اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك‏.

فجلس رسول الله r إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه أبو بكر وعمر وعلى وطائفة من أصحابه‏.‏

وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، فتآمروا بقتله r، وقالوا‏:‏ أيكم يأخذ هذه الرحي، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها‏؟‏‏‏ فقال عمرو بن جحاش‏:‏ أنا،‏ فقال لهم سَلاَّم بن مِشْكَم‏:‏ لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه.. ولكنهم أبوا إلا أن ينفذوا ما عزموا عليه‏.‏

وفي ذلك الوقت أخبر الله تعالى رسوله r بما هموا به، فنهض مسرعاً وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه، فقالوا ‏:‏ نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما هَمَّتْ به يهود[72].‏

وما لبث رسول الله r أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم ‏:‏ ‏‏(‏اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه‏)

ولم يجد يهود مناصاً من الخروج، فأقاموا أياماً يتجهزون للرحيل، بيد أن رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بعث إليهم أن اثبتوا وتَمَنَّعُوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونك،م وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان‏..

وقد نص القرآن الكريم على مقولته، فقال:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾(الحشر:11)

وهناك عادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله r يقول ‏:‏ إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك‏.‏

لقد كان الموقف شديد الحرج للمسلمين بعد أن تبنى أعداؤهم هذا الأسلوب الخطير أسلوب الاغتيال والخداع..

ولذلك لم يجد رسول الله r بدا من الخروج إليهم.. فلذلك ما إن وصله جواب حيي بن أخطب حتى كبر وكبر أصحابه، ثم نهض لمناجزة القوم، فاستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وسار إليهم، وعلى بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهي إليهم فرض عليهم الحصار‏.‏

والتجأ بنو النضير إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك، فأمر r بقطعها وتحريقها، وفي ذلك أنزل الله تعالى قوله:﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) (الحشر:5)

وبعد خمسة عشر يوما، وبعد أن اعتزلتهم قريظة فلم تُعنهم، وخذلهم ابن أُبي وحلفاؤهم من غطفان، فأيسوا من نصرهم، قالوا: نخرج عن بلادك، فقال: لا أقبله اليوم، ثم قال لهم: أخرجوا منها، ولكن دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة، فرضوا بذلك ونزلوا عليه.

 فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عما استحسن من خشبه كبابه وكنجاف به، فيضعه على ظهر بعيره، فينطلق به فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام.

ولما أيقن بنو النضير بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل وقد كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها ويحملونها على الإبل[73].

غزوة ذات الرّقاع:

‏أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة ذات الرِّقَاع[74].. فإن كان يشير إليها، فهي من الغزوات التي توجه بها r إلى أولئك الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخري‏.‏

ولما كان هؤلاء البدو لا تجمعهم بلدة أو مدينة، ولم يكونوا يقطنون الحصون والقلاع، كانت الصعوبة في فرض السيطرة عليهم وإخماد نار شرهم تمامًا تزداد بكثير عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر؛ ولذلك لم تكن تجدي فيهم إلا حملات التأديب ولهذا قام المسلمون بمثل هذه الحملات مرة بعد أخرى‏.‏

ومن ذلك هذه الغزوة التي قصد بها رسول الله r فض اجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للإغارة على أطراف المدينة، وقد خشي رسول الله r أن ينقضوا على المدينة بعد خروجه لبدر الثانية.

قال ابن إسحاق: (ثم أقام رسول الله r بالمدينة بعد غزوة بني النضير[75] شهري ربيع وبعض شهر جمادى، ثم غزا نجداً يريد بني محارب وبني ثعلبة من غَطَفَان نخل وهي ذات الرقاع، فلقي بها جمعاً من غطفان فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب وقد خاف الناس بعضهم بعضاً حتى صلى رسول الله r صلاة الخوف ثم انصرف المسلمون، وكانت أول صلاة للخوف صلاها رسول الله)

وقد حدث جابر ـ رضي الله عنه ـ عن بعض ما حصل في هذه الغزوة، فقال::‏ كنا مع النبي r بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي r، فنزل رسول الله r فتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله r تحت شجرة فعلق بها سيفه‏.‏ قال جابر‏:‏ فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين‏:‏ فاخترط سيف رسول الله r، فقال‏:‏ أتخافني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، قال‏:‏ فمن يمنعك مني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الله‏)‏‏.‏ قال جابر‏:‏ فإذا رسول الله r يدعونا، فجئنا، فإذا عنده أعرابي جالس‏.‏ فقال رسول الله r ‏:‏ ‏(‏إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا‏.‏ فقال لي‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ قلت‏:‏ الله، فها هو ذا جالس‏)‏، ثم لم يعاتبه رسول الله r

‏ وفي رواية‏:‏ فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله r، فقال‏:‏ ‏(‏من يمنعك مني‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ كـن خـير آخـذ، قال‏:‏ ‏(‏تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله‏؟‏‏)‏ قال الأعرابي‏:‏ أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال‏:‏ فخلي سبيله، فجاء إلى قومه، فقال‏:‏ جئتكم من عند خير الناس‏.‏

غزوة بدر الثانية‏‏:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، ثم قال: لعل هذا السيف يشير إلى غزوة بدر الثانية[76]، وهذه الغزوة دليل آخر من أدلة ما نصر الله به نبيه من النصر الخفي يوم أحد.

لا شك أنكم تذكرون ذلك الموعد الذي ضربه أبو سفيان للمسلمين بالالتقاء في بدر بعد سنة من غزوة أحد.

قال الجمع: أجل.. نذكر ذلك.. فما الذي حصل؟

قال الحكيم: أما المسلمون.. وعلى رأسهم رسول الله r، فقد حضروا أنفسهم لذلك الموعد خير تحضير، فبعد أن خضدوا شوكة الأعراب، وكفكفوا شرهم، أخذوا يتجهزون لملاقاة قريش عدوهم الأكبر.

ففي شعبان سنة 4هـ خرج رسول الله r لموعده في ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه على بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وانتهي إلى بدر، فأقام بها ينتظر المشركين‏.‏

وأما أبو سفيان فخرج في ألفين من مشركي مكة، ومعهم خمسون فرساً، حتى انتهي إلى مَرِّ الظَّهْرَان على بعد مرحلة من مكة فنزل بمَجَنَّة، وهو ماء في تلك الناحية‏.‏

وقد كان في خروجه متثاقلاً خائفا من عقبي القتال مع المسلمين، فلما نزل بمر الظهران خار عزمه، فاحتال للرجوع، وقال لأصحابه‏:‏ يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا‏.‏

وقد تبعه جيشه الذي لم يكن له أي طاقة معنوية بقتال المسلمين.

وكان أبو سفيان قد بعث ـ قبل ذلك ـ إلى المدينة شخصاً اسمه نُعَيْم ليرجف أصحاب رسول الله r بكثرة العدو ليحملهم على عدم الخروج، وذلك ليكون له عذر في الرجوع إلى مكة، ولكن رسول الله r لم يبال بما سمع من كثرة عدد الجيش وتثبيط همة الناس، فقال: (والذي نفسي بيده لو لم يخرج معي أحد لخرجت وحدي)

وأقام r ببدر ثمانية أيام ينتظر العدو، وباع المسلمون ما معهم من التجارة فربحوا بدرهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة، وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم، وتوطدت هيبتهم في النفوس، وزالت كل آثار ما حصل يوم أحد‏.‏

غزوة دُوَمة الجندل‏:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى غزوة دُوَمة الجندل.. فإن كان يريد ذلك، فهذه الغزوة من الغزوات التأديبية التي أراد بها رسول الله r أن يملأ المنطقة التي تحيط به أمنا، فلا حياة مع الخوف.

لقد مكث رسول الله r بعد بدر الصغري في المدينة ستة أشهر، ثم جاءت إليه الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل[77] تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها، وأنها قد حشدت جمعاً كبيرا تريد أن تهاجم المدينة، فاستعمل رسول الله r على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين لخمس ليال بقين من ربيع الأول سنة 5هـ، وأخذ رجلاً من بني عُذْرَة دليلاً للطريق يقال له‏:‏ مذكور‏.‏

وقد كان r يسير بالليل ويكمن النهار حتى يفاجئ أعداءهم وهم غارون، فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ما شيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب‏.‏

أما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحداً، وأقام رسول الله r أياماً، وبث السرايا وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحداً، ثم رجع إلى المدينة، ووادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن‏.‏

وبهذه الغزوة استطاع المسلمون بقيادة رسول الله r أن يقفوا في وجه كل من تحدثه نفسه بزرع الرعب في نفوس الآمنين.

غزوة بني المصطلق:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع[78].. فإن كان يريدها، فهي من الغزوات التي فرضت على المسلمين فرضا.

وقد بدأت عندما جمع الحارث بن ضرار الخزاعي الجموع لمحاربة النبي r، فخرج رسول الله r وخرج معه كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزوة قط مثلها، وكان معه ثلاثون من الخيل، عشرة للمهاجرين وعشرون للأنصار.

وعندما بلغ رسول الله r المُرَيْسيع من ناحية قديد إلى الساحل وصف أصحابه للقتال حمل المسلمون على المشركين فقتلوا عشرة وأسروا باقيهم، وكانوا أكثر من سبعمائة، وسبوا الرجال والنساء والذرية وساقوا النعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد وهو هشام بن صبابة وقد قتل خطأ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت، وهو يرى أنه من العدو.

 وقد كتب الله أن يكون من جملة السبي: جُوَيرية بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق، وكانت زوجة لمسافع بن صفوان الذي قتل في هذه الغزوة.

وقد كان زواج هذه المرأة الفاضلة من رسول الله r سببا فيما حصل لقومها من الخير.. قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: لما قسم رسول الله r سبايا بني المصطلق[79] وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة مُلاّحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله r تستعينه في كتابتها، قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهتها، وقلت: يرى منها ما قد رأيت، فلما دخلت على رسول الله r قالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، وقد كاتبت على نفسي فأعني على كتابتي، فقال رسول الله r:( أو خير من ذلك أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك)، فقالت: نعم، ففعل رسول الله r فبلغ الناس أنه زوجها، فقال: أصهار رسول الله r، فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق، فلقد أعتق بها مائة من أهل بيت بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة منها على قومها، ولما تزوجها رسول الله r حجبها وقَسم لها.

وبسبب زواجها هدى الله أكثر بني المصطلق إلى الإسلام، ثم أسلم الحارث، ومن هنا تظهر حكمة رسول الله r في زواجها[80].

غزوة الأحزاب:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة الأحزاب.. فإن كان يريدها.. فهي من الغزوات التي تبرر الخيار الذي اختاره رسول الله r بالمواجهة الشديدة مع هؤلاء الذي لا يقنعهم سوى المنطق الذي تفرضه السيوف.

وقد كان الهدف المعلن من هذه الغزوة ـ التي خطط لها جميع أعداء رسول الله r من المشركين واليهود والمنافقين ـ هو القضاء على الإسلام قضاء كليا.

وقد بدأت المؤامرة[81] بخروج عشرين رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير[82] إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول r، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، وكانت قريش قد أخلفت موعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها‏.‏

ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَفَان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي r والمسلمين‏.‏

وقد حدث أنه لما دعت اليهود قريشاً لمحاربة النبي r وقالوا لهم: سنكون معكم حتى نستأصله، ارتابوا في أمرهم، لأن دين اليهود قريب من الإسلام وبعيد عن عبادة الأصنام كل البعد وقريش عباد أصنام، ولذلك قالوا لهم: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟

قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا واستعدوا للحرب.

وقد نزل في ذلك قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ﴾ (النساء:50)

وقد كان هذا القول من علماء اليهود داعية لألم الأستاذ ولفنسون الذي قال:( والذي يؤلم كل مؤمن بإله واحد من اليهود والمسلمين على السواء، إنما هو تلك المحادثة التي جرت بين نفر من اليهود وبين قريش الوثنيين حيث فضل هؤلاء النفر من اليهود أديان قريش على دين صاحب الرسالة الإسلامية)[83]

ولكن الأحقاد التي كانت تملأ قلوب اليهود هي التي كانت تحكم ذلك الوقت لا العلم ولا المنطق.

بعد أن مهدت التربة، واجتمعت الأحزاب خرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة في بني فزارة والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة ومسعود بن رُخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع.

فلما سمع رسول الله r بتحزبهم وخروجهم لمحاربته أمر بحفر الخندق حول المدينة في الجهات التي لم تكن حصينة لتعوق العدو المهاجم.

وقد أشار عليه r بحفره سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ اقتداء بما كان الفرس يفعلونه للدفاع في الحرب، قال سلمان: يا رسول الله كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا.

وقد اشتغل رسول الله r بحفر الخندق بنفسه ليقتدي به المسلمون، وليشجعهم على العمل، فاشتغل المسلمون معه، أما المنافقون فكانوا يتوانون وينصرفون بدون إذن رسول الله r ويستثقلون العمل ويثبطون العزائم وتباطأ رجال من المنافقين وصار الواحد منهم ينصرف إلى أهله من غير استئذان.

 ولينظم رسول الله r العمل بين أصحابه خط الخندق، ثم قطعه أربعين ذراعاً بين كل عشرة، فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلاً قوياً، فقالت الأنصار: سلمان منا، وقالت المهاجرون: سلمان منا، فقال رسول الله r:( سلمان منا أهل البيت)

وبينما جماعة من المسلمين يعملون في حفر الخندق في الجزء المخصص لهم ومعهم سلمان الفارسي إذ ظهرت صخرة بيضاء مَرْوَة، فكسرت حديد معاولهم وشقت عليهم، فقالوا: يا سلمان ارق إلى رسول الله r، فأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب، وإما أن يأمر فيها بأمره، فإنا لا نحب أن نجاوز خطه.

فرقي سلمان حتى أتى رسول الله r وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا، خرجت صخرة بيضاء من الخندق مروة، فكسرت حديدنا، وشقت علينا حتى ما نحيكُ فيها قليلاً ولا كثيراً، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك.

فهبط رسول الله r مع سلمان في الخندق، وأخذ المعول من سلمان، فقال:( باسم الله)، ثم ضربها، فنثر ثلثها وخرج منها نور أضاء ما بين لابتيها يعني لابتي المدينة، فقال:( الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة من مكاني)

ثم ضرب الثانية، فقطع ثلثاً آخر، فبرقت برقة من جهة فارس أضاءت ما بين لابتيها، فقال:( الله أكبر أُعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن فأبشروا بالنصر)، فسُرَّ المسلمون.

ثم ضرب الثالثة وقال:( باسم الله)، فقطع بقية الحجر وخرج نور من قبل اليَمَن فأضاء ما بين لابتي المدينة حتى كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فقال:( الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة)

وفي حديث آخر عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاءوا النبي r فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال:( أنا نازل) ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً فأخذ النبي r المعول فضرب في الكدية فعادت كثيباً أهيل.

ولما فرغ رسول الله r من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من دومة بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غَطَفَان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نَقَمَى بجانب أُحد.

وفي هذا الموقف الحرج الذي اجتمعت فيه كل هذه الجموع على حرب المسلمين نقضت قريضة عهدها..

وقصة ذلك أن كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة كان قد وادع النبي r على قومه وعاقده على ذلك، فذهب إليه حُيَيّ بن أخطب النضري، وهو أحد الذين حزبوا الأحزاب، فلما سمع كعب حُيَيّ بن أخطب أغلق دونه باب حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فألح عليه ابن أخطب ففتح له وما زال يستميله ويغريه حتى نقض كعب عهده وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله r وصار هو وقومه وبنو قريظة مع الأحزاب على رسول الله r، وعلم بذلك رسول الله r، وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وانتهز المنافقون هذه الفرصة لتثبيط العزائم، وهمّ بالفشل بنو حارثة وبنو سلمة معتذرين بأن بيوتهم عورة خارج المدينة، ثم ثبتهم الله، ودام الحصار على المسلمين قريباً من شهر ولم يكن بينهم غير الرمي بالنبال، وكان لدى المسلمين من المؤونة ما يكفيهم أكثر من عام.

لقد صور الله تعالى تلك المخاوف التي كانت تملأ قلوب المسلمين، فقال:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)﴾ (الأحزاب)

وقد ذكر موقف المؤمنين بجنب هذه الشدائد، فقال:﴿ وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الأحزاب:22)

في ذلك الموقف الشديد خرجت فوارس من قريش على خيلهم بعد أن تهيأوا للقتال حتى وقفوا خارج الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم يمموا مكاناً من الخندق ضيقاً، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم السبخة بين الخندق وسلع وخرج عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي اقتحموها، وخرج عمرو بن عبد ود، وطلب المبارزة، فبارزه عليّ بن أبي طالب فقتله.

وفي ذلك الموقف الشديد الذي كان فيه رسول الله r يعصب الحجر على بطنه من الجوع أرسل المشركون إلى رسول الله r يشترون جيفة عمرو بعشرة آلاف، فقال رسول الله r:( هو لكم.. ولا نأكل ثمن الموتى)

وقد خرجت خيله منهزمة، حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة، ومن بني مخزوم نوفل بن عبد الله بن المغيرة وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة فقال: يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه فنزل إليه عليّ فقتله، ومن الذين كانوا يناوشون المسلمين خالد بن الوليد وعمرو بن العاص.

ورُمِي سعد بن معاذ يومئذ بسهم فقال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعد: عرّق الله وجهك في النار، فأصاب الأكحل منه فقطعه، فقال سعد: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، ونقل سعد وهو مجروح إلى خيمة رُفيدة، وقد كانت امرأة تداوي الجرحى في المسجد.

وكما استعمل رسول الله r الخندق وسيلة لحماية المدينة.. فقد استعمل أسلوبا آخر لعله لا يرضي صاحبنا الفنان.. إنه أسلوب الخدعة الذي قال فيه r:( الحرب خدعة)

انتفض دوج قائلا: ألا تعجبون من نبي يقول هذا.. ألا تعجبون من نبي يخادع، ويدعو إلى الخدعة؟

قال الحكيم: إذا كانت الخدعة وسيلة لحقن الدماء وإحلال السلام كانت أسلوبا مشروعا.. بل كانت أسلوبا واجبا.. وليس هناك من أمة في الدنيا إلا وتلجأ إليها إذا لم تجد غيرها.

قال الجمع: فكيف حصل ذلك؟

قال الحكيم: لقد جاء جاء نُعيم بن مسعود إلى رسول الله r فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله r:( إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة)

فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية، فقال لهم: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد، وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتكم، البلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وإن قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم وبلدهم بغيره فليسوا كهيئتكم إن رأوا نُهْزَة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت برأي ونصح.

ثم خرج حتى أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان ومن معه من رجال قريش: يا معشر قريش قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً، وقد بلغني أمر رأيت حقاً عليّ أن أبلغكموه نصحاً، فاكتموا عليّ، قالوا: نفعل ذلك، قال: فاعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم، فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعث إليكم يهود يلتسمون منكم رهناً من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.

ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليَّ ولا أراكم تتهمونني، قالوا: صدقت، قال: فاكتموا عليّ، قالوا: نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم.

فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس، وكان ما صنع الله عز وجل لرسوله r أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفرٍ من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: تعلمون والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن أنتم تريدون القتال، فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كانوا غير ذلك تشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم وخَذل الله بينهم، وبذلك نجحت الخدعة.

وبعد توفير المؤمنين كل أسباب النصرة الممكنة أرسل الله الريح في ليال شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنيتهم، وأصيبوا بالبرد، وماتت مواشيهم، فلما انتهى إلى رسول الله r ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً، وكان حذيفة صاحب سر رسول الله r قال حذيفة: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً، كما قال تعالى:﴿ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ (الأحزاب: 9).

وقد وصف حذيفة ذلك الموقف الشديد، فذكر أن أبا سفيان بن حرب قام فقال:( يا معشر قريش لينظر امرؤ جليسه)، قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان:( يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل)، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه، فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم.

هذه خطبة أبي سفيان في الجيش، وكان قائدهم ولا بقاء للجند بعد رجوع القائد ونصيحته لهم بالعودة، ولا شك أنهم سئموا الإقامة ولم يروا فائدة من الانتظار أكثر مما انتظروا، وقد ساءت حالهم بسبب اشتداد البرد وهبوب الريح وعدم رغبة بني قريظة في القتال، وقد كانوا يؤملون دخول المدينة، فكان الخندق عقبة في سبيلهم بالرغم من كثرة عددهم.

ولما سمعت غطفان بما فعلت قريش تشمروا راجعين إلى بلادهم تاركين ما استثقلوا من متاعهم فغنمه المسلمون، وانصرف المسلمون عن الخندق ورجعوا إلى المدينة ووضعوا السلاح بعد أن حاصرهم المشركون خمسة عشر يوماً، وانصرف r من غزوة الخندق، وقد قال بعد انصراف الأحزاب:( لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا)، وقد كان كما أخبر r، فقد كانت هذه الغزوة آخر محاولة من أعداء رسول الله r من قريش ومن حالفهم للقضاء على الإسلام.

 ومع عظم الجيش المعد لهذه الغزوة ـ التي كان يمكن أن تقضي على الإسلام في مهده لولا حنكة رسول الله r ـ إلا أن خسائر الطرفين فيها لم تكن كبيرة، فقد ذكر ابن إسحاق أنه استشهد من المسلمين يوم الخندق ستة لا غير: ثلاثة من الأوس وهم: سعد بن معاذ، وأنس بن أوس، وعبد الله بن سهيل، وثلاثة من الخزرج وهم: الطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة، وكعب بن زيد.

 أما عدد قتلى المشركين فثلاثة: منبه بن عبد العبدري أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله المخزومي، وعمرو بن عبد وُدّ.

غزوة بني قريظة:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لا شك أن صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة بني قريظة.

قال دوج: أجل.. إن هذه الغزوة أكبر وصمة عار في تاريخ المسلمين.. ولن تستطيع مهما حاولت أن تغسل هذه الوصمة.

قال الحكيم: اصبر علي.. فما كان لك أن تستعجل الحكم قبل أن تسمع القضية ومواطن الاحتمال فيها.. لنرى ما يقول العقل والمنطق والحكمة.

لقد وقعت هذه الغزوة مباشرة بعد غزوة أحد[84] وكانت متوجهة لبني قريظة[85]، لا شك أنكم تعلمون جريمتهم الكبرى التي فعلوها في غزوة الأحزاب.. لقد كان مصير الإسلام والمسلمين بين أيديهم، ولولا ما قدره الله من الفتنة بينهم ما بقيت للمسلمين باقية.. لقد كانوا بمثابة الباب الذي فتح على حصن المسلمين.. 

ولذلك ما إن انصرف رسول الله r من الخندق ودخل المدينة هو وأصحابه ووضعوا السلاح.. وجاء وقت الظهيرة حتى أتى جبريل u رسول الله r معتجراً بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوَقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال:( نعم)، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم.

فأمر رسول الله r مؤذناً، فأذن في الناس من كان سامعاً مطيعاً، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.

 وقدم رسول الله r عليّ بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة وابتدرها الناس، وكان عدد من خرج إلى القتال ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثين فرساً.

دنا عليّ ـ رضي الله عنه ـ من الحصن، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار وغرز اللواء عند أصل الحصن، فسمع من بني قريظة مقالة قبيحة في حقه r وحق أزواجه فرجع حتى لقي رسول الله r بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك ألاّ تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: لِمَ؟ أظنك سمعت لي منهم أذى، قال: نعم يا رسول الله، لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً، فلما دنا رسول الله r من حصونهم قال:( يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟)، قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولاً.

 ومرّ رسول الله r بنفرٍ من أصحابه بالصوْرَين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال:( هل مرّ بكم أحد؟)، قالوا: يا رسول الله قد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة، عليها قطيفة ديباج فقال رسول الله r:( ذلك جبريل بُعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم)

وحاصرهم رسول الله r[86] حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وكان طعام الصحابة التمر يرسل به إليهم سعد بن عبادة.

وقد كان حُيَيّ بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا أن رسول الله r غير منصرف عنهم حتى يقاتلهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر اليهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً، فخذوا أيّها شئتم، قالوا: وما هن؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد كان تبين لكم أنه لنبيٌّ مرسل، وإنه للذي كنتم تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً، ولا نستبدل به غيره.

قال: فإذا أبيتم عليَّ هذه، فهَلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مُصْلتين بالسيوف، ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك، نهلك ولم نترك وراءنا نسلاً نخشى عليه، وإن نظفر فلعمري لنجدن النساء والأبناء.

قالوا: نقتل هؤلاء المساكين، فما خير العيش بعدهم؟

قال: فإذا أبيتم هذه عليَّ، فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمِنوا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غِرَّة.

قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه من المسخ ما لم يخف عليك.

قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً.

ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله r أن ابعث إلينا أبا لُبابة أخو بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله r إليهم، فلما رأوه، قام إليه الرجال وأسرع إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه من شدة المحاصرة، فرق لهم، وقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه (إنه الذبح)، قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنتُ الله ورسوله بإذاعة سره.

 ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله r حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى أموت أو يتوب الله عليَّ مما صنعت وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبداً، وقال: لا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً، فلما بلغ رسول الله r خبره وأبطأ عليه وكان قد استبطأه قال:( أما لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذا فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه)

ثم إن توبة أبي لبابة أنزلت على رسول الله r وهو في بيت أم سلمة فبشرت أبا لبابة بذلك ثم أطلقه رسول الله r.

فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله r، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت، وقد كان رسول الله r قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له، فلما كلمه الأوس قال رسول الله r:( ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟)، قالوا: بلى، قال:( فذاك إلى سعد بن معاذ)، وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله r في خيمة امرأة من المسلمين يُقال لها رُفَيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب نفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وقد قال رسول الله r لقومه حين أصابه السهم بالخندق:( اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب)

وقد كان حكم سعد في بني قريظة معروفاً، لأنه لما أصيب في غزوة الخندق قال:( اللهم لا تمتني حتى تقرّ عيني في بني قريظة)، وقد بقي مجروحاً إلى أن استدعاه رسول الله r ليحكم في بني قريظة، فأتاه قومه فاحتملوه على حمار، وأقبلوا معه إلى رسول الله r وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله r إنما ولاك ذلك لتُحسن فيهم، فلما أكثروا عليه، قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه.

فلما انتهى سعد إلى رسول الله r والمسلمين، قال رسول الله r:( قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، فقال رسول الله r:( احكم فيهم)، قال:( فإني أحكم فيهم أن تقتل مُقاتِلتُهم، وأن تُسبى ذراريُّهم، وأن تُقسم أموالهم)، فقال رسول الله r:( لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله)، فأمر رسول الله r أن تكون النساء والذرية في دار ابنة الحارث امرأة من بني النجار، وأمر بالأسارى أن يكونوا في دار أسامة بن زيد، ثم خرج رسول الله r إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم أمر بقتل كل المقاتلين، فبعث إليهم فجاءوا إليه أرسالاً تضرب أعناقهم، ويلقون في تلك الخنادق، وكان فيهم عدو الله الأكبر حُييّ بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم[87].

ولم يقتل من النساء إلا امرأة واحدة، هي بنانة امرأة الحكم القُرَظي، وقد كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد، فقتلته.

قال دوج: أترى أن هذا التصرف يمكن أن يقوم به نبي؟

قال الحكيم: نعم.. فالنبي هو الحكيم العدل الذي يضع الأمور في مواضعها الصحيحة.. إنه يمثل عدالة الله وحكمته، كما يمثل رحمته وفضله.

وحكمة الله وعدله تقتضي المعاقبة على الجرائم..

قال دوج: وقد تقتضي العفو عنها.

قال الحكيم: للعفو مواضعه، وللعقوبة مواضعها.. لقد رأينا عفو النبي r عن بني النضير واكتفائه بإجلائهم عن المدينة.. فماذا فعلوا؟

قال رجل من الجماعة: لقد كانوا سببا في تأليب الأحزاب على رسول الله r.

قال الحكيم: فالحكمة تقتضي ـ إذن ـ أن يظهر القائد من الحزم ما يحمي به من يقوده.

سكت قليلا، ثم التفت إلى دوج، وقال: أرأيت لو دخلت الأحزاب على المسلمين من جهة بني قريظة ماذا يمكن أن يحصل؟

سكت دوج، فقال الحكيم: لقد كان أهل المدينة جميعا ـ وهم آلاف مؤلفة ـ عرضة للذبح والقتل والأسر.. فكيف تستنكر عقوبة من عرض هؤلاء لهذا؟

ثم لماذا تستنكرون هذا، والقنبلة الواحدة من قنابلكم تلقونها على المدن والقرى.. فتحصد من البشر بل من المدنيين أضعاف هذه الأعداد.. مع أن النبي r لم يقتل إلا المحاربين.

سكت قليلا، ثم قال: ومع ذلك فقد كان بين يدي القرظيين سبل كثيرة للنجاة، ولكنهم ـ لكبرهم وعنادهم ـ أبوا أن يسلكوها، وآثروا القتل عليها، بل تكبروا حتى على الاعتذار لرسول الله r عن الجريمة الكبيرة التي اقترفوها.

لقد روي أنه لما أتى بحييّ بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله r قال: أما والله ما لمتُ نفسي في عداوتك، ولكنه من يَخذل الله يُخذل، ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره وملحمة قد كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه وضربت عنق كعب بن أسد سيد بني قريظة.

فأنت ترى إصرار هذا الرجل على عناده وكبره إلى آخر لحظة.

ومثله ما روي أن ثابت بن قيس استوهب الزبير بن باطا وأهله وماله ـ وكانت للزبير يد عند ثابت ـ فوهبهم له رسول الله r، فقال له ثابت بن قيس‏:‏ قد وهبك رسول الله r إلى، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك‏،‏ فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه‏:‏ سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود ‏.‏

وعلى خلاف هؤلاء رفاعة بن سموأل القرظي الذي استوهبته أم المنذر سلمي بنت قيس النجارية، فوهبه لها فاستحيته، فأسلم وله صحبة‏.‏

وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم‏.‏

وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدي ـ وكان رجلاً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله r ـ فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي، فخلي سبيله حين عرفه، فلم يعلم أين ذهب‏.‏

سكت قليلا، ثم توجه لدوج قائلا: ألا ترى من العدل أن يحكم الغالب المغلوبين بما ارتضوه من قوانين؟

قال دوج: ذلك صحيح..

قال الحكيم: فقد حكم سعد بإقرار رسول الله r على بني قريظة بما نصت عليه قوانينهم، بل بما نص عليه كتابهم المقدس.

قال دوج: كيف ذلك؟

قال الحكيم: لقد جاء في سفر التثنية:( حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريماً)(التثنية: 20/1)

لقد علق مولانا محمد علي، على هذا النص بقوله:( وهكذا حكم سعد وفقا للشريعة الموسوية بقتل ذكور بني قريظة وبسبي نسائهم وأطفالهم وبمصادرة ممتلكاتهم.. ومهما بدت هذه العقوبة قاسية، فقد كانت على درجة الضبط للعقوبة التي كان اليهود ينزلونها- تبعاً لتشريع كتابهم- بالمغلوبين من أعدائهم، فأي اعتراض على قسوة هذه العقوبة هو في الواقع انتقاد لا شعوري للشريعة الموسوية، وتسليم بأن شريعة أكثر إنسانية يجب أن تحل محلها، وأيما مقارنة بالشريعة الإسلامية في هذا الصدد خليق بها أن تكشف ـ في وضوح بالغ ـ أي قانون رفيق عطوف رحيم قدمه الإسلام إلى الناس)[88]

 

سرية القرطاء:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى سرية القرطاء..

لقد كانت هذه السرية أول سرية بعد الفراغ من الأحزاب وقريظة، وكان عدد قوات هذه السرية ثلاثين راكباً.. وكان هدفها تأديب بطن بني بكر بن كلاب‏ بالقرطاء ناحية ضَرِيَّة بالبَكَرات من أرض نجد، وكان بينها وبين المدينة سبع ليال، وقد تحركت هذه السرية لعشر ليال خلون من المحرم سنة 6 هـ.

‏ فلما أغارت عليهم هربوا، فاستاق المسلمون نعما وشاء، وقدموا المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعهم ثُمَامَة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، كان قد خرج متنكراً لاغتيال النبي r بأمر مسيلمة الكذاب، فأخذه المسلمون، فلما جاءوا به ربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي r فقال‏:‏ ‏(‏ما ذا عندك يا ثمامة‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تعط منه ماشئت، فتركه، ثم مرّ به مرة أخري ؛ فقال له مثل ذلك، فرد عليه كما رد عليه أولاً، ثم مر مرة ثالثة فقال ـ بعد ما دار بينهما الكلام السابق‏:‏ ‏(‏أطلقوا ثمامة‏)‏، فأطلقوه، فذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم جاءه فأسلم، وقال‏:‏ والله، ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إلى من دينك، فقد أصبح دينك أحب الأديان إلى، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبشره رسول الله r، وأمره أن يعتمر، فلما قدم على قريش قالوا‏:‏ صبأت يا ثمامة، قال‏:‏ لا والله، ولكني أسلمت مع محمد r، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله r‏.‏ وكانت يمامة ريف مكة، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة، حتى جهدت قريش، وكتبوا إلى رسول الله r يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامـة يخلي إليـه حمل الطعـام، ففعـل رسـول الله r ‏.‏

غزوة بني لحيان:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى غزوة بني لحيان..

لقد وقعت هذه الغزوة في أول شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة (يونيه - يوليه سنة 627 م)

أما سببها، فلعلكم تذكرون مأساة الرجيع.. تلك المأساة التي ذهب ضحيتها عشرة من أصحاب النبي r غدرا وعدوانا.. لقد كان بنو لحيان هم الذين غدروا بهؤلاء العشرة وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة،‏ ولم يكن رسول الله r يرى ـ من الحكمة ـ أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم، واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأي أن الوقت قد آن ليطبق حكم العدالة على هؤلاء الغادرين ليكونوا عبرة لغيرهم.

فخرج إليهم في مائتين من أصحابه، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهي إلى بطن غُرَان ـ واد بين أمَجَ وعُسْفَان ـ حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم، وسمعت به بنو لحيان فهربوا في قمم الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُرَاع الغَمِيم لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة،‏ وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة‏.‏

غزوة ذي قرد:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة ذي قرد.. فإن كان يشير إليها، فإن سببها يدل على الجو الذي كان يحيط برسول الله r والذي كان يفرض عليه أن يظهر بمظهر القائد الحازم لتنعم الرعية بالأمن الذي كانت تفتقده.

لقد وقعت هذه الغزوة في ذي قرَد، وهو ماءٌ على نحو بريد من المدينة، مما يلي بلاد غطفان، وقد حصلت في ربيع الأول سنة ست (يوليه سنة 627 م)[89] 

أما سببها، فهو أن رسول الله r لما قدم المدينة لم يقم إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينةُ بن حصن بن بدر الفزاري في خيل لغطفان على لقاح رسول الله r بالغابة، وكانت عشرين لقحة، وفيها رجل من بني غفار وامرأته، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح.

والرجل الذي قتلوه هو ابن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ واسمه ذر، وكان يرعى الإبل، وامرأته التي أسروها اسمها ليلى، وقد نجت لأنهم أوثقوها وكانوا يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانطلقت وركبت ناقة للنبي r ليلاً على حين غفلتهم، فانطلقت ولما علموا بها طلبوها فأعجزتهم[90].

ولما أغاروا على اللقاح في يومهم ذلك جاء الصريخ فنادى: الفزع الفزع، ونودي يا خيل الله اركبي.. فركب رسول الله r في خمسمائة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم كعادته، وخلف سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ في 300 رجل يحرسون المدينة، وعقد لواء للمقداد ـ رضي الله عنه ـ في رمحه، وقال: امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على إثرك.

وكانت نتيجة هذه الغزوة أنهم أدركوا العدو فهزموه وقتلوا رؤساءه واستنقذوا اللقاح، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد وهو محرز بن نضلة، وسار رسول الله r حتى بلغ ذا قرد في اتجاه خيبر فالتجأ العدو إلى بني غطفان، وقد أبلى في هذه الغزوة سلمة بن الأكوع بلاءً حسناً وكان رامياً.

سرية الغمر:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية الغمر [91].. أو سرية عكاشة بن محصن الأسدي.

لقد أرسل رسول الله r هذه السرية في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة.. وكانت تتكون من أربعين رجلاً يتزعمهم عكاشة بن محصن الأسدي ـ رضي الله عنه ـ فنذر به القوم، فهربوا فنزلوا على بلادهم فوجدوا ديارهم خالية لهربهم، فبعث المسلمون طليعة، فرأوا أثر النعم قريباً فقصدوها، فأصابوا رجلاً منهم فأمنوه فدلهم على نعم لبني عم لهم فأغاروا عليها فاستاقوا 200 بعير وأطلقوا الرجل وقدموا بالإبل على رسول الله r ولم يلقوا حرباً.

قال دوج: أليس هذا استيلاء على أموال الناس بغير حق؟

قال الحكيم: لا.. وإلا لكانت المحاكم التي تفرض الضرائب الضخمة على المجرمين محاكم لصوص.

قال دوج: كيف ذلك؟ وما العلاقة بينهما؟

قال الحكيم: لقد عرفت البيئة التي كان يعيشها المسلمون.. ولم يكن يردعها إلا هذا ومثله، ولهذا سلك رسول الله r معهم هذا السلوك التأديبي الذي آتي ثماره في فترة قصيرة جدا.. فما هي إلا أيام معدودات حتى استتب الأمن في الجزيرة جميعا، وتحقق بذلك تأويل قوله r لبعض أصحابه:( والله ليتمن الله هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف الا الله والذئب على غنمه)[92]

سرية ذي القَصَّة:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية ذي القَصَّة.. فإن كان يشير إليها، فقد أرسل رسول الله r هذه السرية في شهر ربيع الأول (الموافق شهر أغسطس سنة 627 م)

وكان سببها هو ما بلغ المسلمين من أن بني ثعلبة وأنمار أجمعوا على أن يغيروا على سرح المدينة، وهي ترعى بهيفاء.

وقد أرسل رسول الله r في بادئ الأمر محمد بن مسلمة ومعه عشرة إلى بني ثعلبة، فورد عليهم ليلاً بمن معه، وقد كمن لهم المشركون لشعورهم بمجيئهم إليهم، فتركوا محمد بن مسلمة حتى نام هو وأصحابه، ثم أحدقوا بهم، فما شعر المسلمون إلا بالنبل قد خالطهم فوثب محمد بن مسلمة ومعه قوس فصاح في أصحابه: السلاح فوثبوا فتراموا بالنبل ساعة من الليل، ثم انحاز أصحاب محمد إليه وقد قتلوا من القوم رجلاً، ثم حمل القوم عليهم بالرماح فقتلوهم إلا محمد بن مسلمة فوقع جريحاً فحمله رجل من المسلمين حتى ورد به المدينة جريحاً.

ثم بعث رسول الله r أبا عبيدة عامر بن الجراح في ربيع الآخر في أربعين رجلاً إلى منازلهم، فأغار عليهم فلم يجد أحداً ووجد نعماً وشاء فساقه وأصاب رجلاً واحداً فأسلم فتركه وأخذ نعماً من نعمهم فاستاقه وشيئاً من متاعهم وقدم به المدينة.

سرايا لزيد بن حارثة:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم.. فإن كان ذلك كذلك.. فقد سارت هذه السرية في ربيع الآخر.. وقد من الله عليها بالتوفيق فيما أرسلت له، فأصابت نعماً وشاء ووجدت جماعة منهم فأسروهم.

وقد أرسل رسول الله r بعدها زيد بن حارثة إلى العيص، وكانت في جمادى الأولى سنة ست (سبتمبر سنة 627م)

 وذلك عندما بلغه أن عيراً قد أقبلت من الشام، فبعث زيد بن حارثة ومعه سبعون راكباً ليتعرض لها فأدركها وأخذها وما فيها وأخذ يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية بن خلف، وأسر منهم ناساً: منهم أبو العاص بن الربيع، وأم هالة بنت خويلد أخت خديجة، وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين تجارة ومالاً وأمانة، وهو زوج زينب بنت رسول الله r فدخلت زينب على رسول الله r فسألته أن يرد عليه ما أخذ منه فقبل.

ثم ذهب أبو العاص إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال ماله، ثم أسلم وخرج فقدم المدينة.. وكانت زينب هاجرت قبله إلى المدينة وتركته على شركه ثم بعد أن أسلم وهاجر ردها r إليه.

ثم أرسل رسول الله r زيدا بن حارثة حِسْمَى، وهي أرض ينزلها جزام وراء وادي القرى وذلك من جهة الشام وكانت في جمادى الآخرة سنة ست (أكتوبر سنة 627 م).

وسببها: أن رسول الله r كان قد أوفد دحية بن خليفة الكلبي بكتاب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، فأعطاه جائزة وكساه، فلقيه الهنيد بن عارض في الطريق وهو عائد فقطعوا عليه الطريق وأصابوا كل شيء كان معه عند حسمى، فسمع بذلك نفر من بني الضبيب رهط رفاعة بن زيد الجذامي ممن كان أسلم، فاستنقذوا ما كان في أيديهم وردوه على دحية.

وقد قدم دحية على رسول الله r فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة في 500 رجل، فكان زيد يسير بالليل ويكمن بالنهار، ومعه دليل من بني عذرة فأقبل بهم حتى هجموا على القوم، فأغاروا عليهم، وقتلوا الهنيد وابنه، وأخذوا ماشيتهم ونساءهم وصبيانهم.

ثم رحل رفاعة بن زيد الجذامي في نفر من قومه فدفع لرسول الله r كتابه الذي كان كتبه له ولقومه حين قدم عليه فأسلم، فلما قرىء الكتاب لرسول الله r قال: (كيف أصنع بالقتلى؟) فقال رفاعة: أنت أعلم يا رسول الله لا نحرّم عليك حلالاً ولا نحل لك حراماً، فأرسل رسول الله r علياً إلى زيد فرد عليهم كل ما أخذ منهم.

سرية عبد الرحمن بن عوف:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجَنْدَل[93]والتي وقعت في شعبان سنة ست (نوفمبر سنة 627 م)

لقد ذكر المؤرخون قصة ذلك.. فذكروا أن عبد الرحمن بن عوف أصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء، فأدناه رسول الله r منه، فأقعده بين يديه وعممه بيده، ثم أمر بلالاً أن يدفع إليه اللواء، ثم حمد الله وصلى على نفسه r ثم قال: (خذه يا ابن عوف اغزوا جميعاً في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم)

فأخذ عبد الرحمن اللواء، وبعثه رسول الله r إلى كلب بدومة الجندل وقال: إن استجابوا لك، فأسلموا فتزوج ابنة ملكهم، فسار عبد الرحمن بجيشه وكانوا 700 رجل حتى قدم دومة الجندل فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، وقد كانوا أبوا أول ما قدم عليهم أن يعطوا إلا السيف، ثم أسلم في اليوم الثالث الأصبغ بن عمرو الكلبي وكان نصرانياً، وكان ملكهم ورئيسهم وأسلم معه ناس كثير من قومه وأقام عبد الرحمن بقيتهم بالجزية[94]، وتزوج تماضر بنت الأصبغ وقدم بها المدينة وفازت بصحبة رسول الله r وهي أم ابنة أبي سلمة.

قال دوج: ألا ترى كيف يأمر نبيكم بزواج قائده من ابنة ملكهم مع كونه يحاربهم؟

قال الحكيم: الزواج في شريعتنا مبني على الرغبة التامة من الطرفين، ولا يمكن لعبد الرحمن ـ مهما كانت سلطته القيادية أن يتزوج من تلك المرأة إلا بعد إذنها وإذن أبيها.

قال دوج: فكيف أمره نبيكم بالزواج منها؟

قال الحكيم: أمره بالزواج منها يعني أمره بخطبتها على الطريقة الشرعية، فإن وافقت ووافق وليها تزوجها.. وفي ذلك حكم كبيرة.. فالنبي r أراد أن يقرب تلك القبيلة من المسلمين بالمصاهرة.. وهي أسلوب من الأساليب الذي لا يزال مستعملا إلى اليوم، ولأجله أبيح زواج المسلمين من أهل الكتاب.

سرية بني سعد بن بكر:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى السرية التي أرسل فيها r عليّا بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ إلى بني سعد بن بكر، ومعه (100) رجل إلى بني سعد بن بكر، في شعبان سنة ست.

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أنها تدخل ضمن حرص رسول الله r على تأمين كل ما يحيط به.. بل محاولة تأمين الجزيرة العربية جميعا.. تلك الجزيرة التي أهلكتها الحروب..

وسببها المباشر هو ما بلغه r من أن بني سعد بن بكر ساعون في جمع الناس لإمداد يهود خيبر.. وبذلك كانت هذه السرية تأديبًا لكل من تسول له نفسه مساعدة اليهود في بغيهم المتوقع، حيث علمت تلك القبائل أن عين المدينة يقظة لكل ما يدور حولها، وأن جميع التحركات كانت تحت المراقبة، وبذلك قطع الطريق على تجمع الأعداد الكبيرة بقطع الطريف على تجمع الإمدادات الصغيرة[95].

وقد نصر الله المؤمنين في هذه السرية.. ومن عليهم بغنائم عادوا بها إلى المدينة المنورة.

سرية أم قرفة:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى السرية التي أرسلها r إلى فزارة بقيادة زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ في رمضان سنة ست من الهجرة.

فإن ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو أن زيدا بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ خرج في تجارة إلى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي r.. وهذه أول مرة خرج فيها أحد من أصحاب رسول الله r في تجارة إلى الشام.. فلما كان بوادي القرى لقيه ناس من فزارة من بني بدر، فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم، وقدم على رسول الله r فأخبره فبعثه إليهم في جيش، فأحاطوا بمن وجدوه من بني فزارة فقتلوهم، وأخذوا (أم قرفة) وهي بنت ربيعة بن بدر الفزاري، وكانت ملكة رئيسة وذات شرف في قومها وكانت عجوزاً كبيرة فأسرها قيس بن المحسر، فقتلها.

قال دوج: ألا تعجبون من قتل امرأة؟

قال الحكيم: لقد كانت تجاهر بالعداوة لرسول الله r.. بل كانت تسبه علنا.. بل روي أنها جهزت ثلاثين راكباً من ولدها وولد ولدها، وقالت لهم: اغزوا المدينة واقتلوا محمداً.

قال دوج: لقد روى المؤرخون أن ذلك الصحابي قلتها قتلاً فظيعاً، بأن ربط رجليها بحبلين، ثم ربطهما إلى بعيرين حتى شقها، أليس هذا إرهابا؟

قال الحكيم: هذا مخالف لتعاليم الإسلام.. والأسانيد الصحيحة لا تقر مثل هذه الرواية.. زيادة على أن اسم قيس هذا الذي أسر أم قرفة اختلف فيه، فقيل: إنه ابن المحسر، وقيل: ابن سحل، وقيل: ابن المحسن.

ثم كيف لم يسمع هذا الصحابي بتلك التعاليم الكثيرة التي كان يتوجه بها رسول الله r إلى السرايا كل حين من النهى عن المثلة من مثل قوله:( اغزوا جَميعاً في سَبيلِ اللَّهِ فقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللَّهِ وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تُمَثِّلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيداً فَهذا عَهْدُ اللَّهِ وَسِيرَةُ نَبِيِّهِ فِيكُمْ)؟

سرية عبد الله بن عتيك:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى السرية التي أرسل فيها رسول الله r عبد الله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق في رمضان سنة 6هـ الموافق: ديسمبر سنة 627م[96].

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن أبا رافع سلام بن أبي الحقيق، وهو من يهود بني النضير كان كثير التحريض على المسلمين، حتى إنه جعل لغطفان ومن حولها من قبائل مشركي العرب الجعل العظيم إن هي قامت لحرب رسول الله r، وشاع أمر أبي رافع وانتشر، وكان ممن ألب الأحزاب على رسول الله r، وأصبح تحريضه على دولة الإسلام من الأخطار التي يجب أن يوضع لها الحد[97].

وقد بعث رسول الله r إلى هذا الرجل رجالا من حلفائه السابقين من الأنصار[98]، وأمر عليهم عبد الله بن عتيك..

وقد كان إرسالهم بناء على رغبتهم، فقد روي أن خمسة من الخزرج وهم: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، والأسود بن خزاعى، ومسعود بن سنان الأسلمي قدموا إلى رسول الله r، واستأذنوه في قتل سلام بن أبي الحقيق، وهو بخيبر لأن الأوس كانوا قد أصابوا كعب بن الأشرف، فأراد الخزرج أن لا يكون للأوس فضل عليهم عند رسول الله r.

فأمرهم r بقتله ونهاهم أن يقتلوا وليداً أو امرأة وأمّرَ عليهم عبد الله بن عتيك، فذهبوا إلى خيبر فكمنوا، فلمّا هدأت الرِجل والحركة جاءوا إلى منزله وكان في حصن مرتفع فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله بن عتيك: اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لَعَلّي أدخل الحصن، فأقبل حتى دنا من البواب ثم تقنع بثوبه ليخفي شخصه، كأنه يقضي حاجته مخافة أن يعرف فدخل واختبأ عند باب الحصن، ثم صعد إليه وكان عبد الله بن عتيك يتكلم اليهودية، فقدمه أصحابه ليتكلم بكلام أبي رافع، فاستفتح باب غرفته فرأته امرأته، فقالت: من أنت؟ قال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له، وقالت: ذاك صاحبك، فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بالسيف فسكتت، قال: فقلت: أبا رافع، لا أعرف موضعه، فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فضربته ضربة وأنا دهش فما أغنت شيئاً، ولم أقتله وصاح أبو رافع، فخرجت من البيت وكمنت غير بعيد، فقالت امرأته: يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك، قال: ثكلتك أمك وأين عبد الله بن عتيك؟ قال: ثم دخلت عليه كأني أغيثه وغيّرت صوتي، فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ قال: لأمك الويل إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف، فضربته ضربة أثخنته ولم أقتله، فصاح وقام أهله وصاحت امرأته ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى دخل في ظهره وسمعت صوت العظم فعرفت أني قتلته[99].

وفي رواية أنه ( لما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها السيف ثم يذكر نهي رسول الله r فيكف يده)[100]

 قال ابن عتيك: فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً حتى انتهيت إلى درجة، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة؛ وكان عبد الله بن عتيك سيّىء البصر ولما علم ابن عتيك أنه قتل أبا رافع أخبر رسول الله r.

سرية عبد الله بن رواحة:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى السرية التي أرسل فيها رسول الله r عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجي إلى أُسير بن رِزَام اليهودي بخيبر في شوال سنة ست من الهجرة (يناير سنة 628 م)

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن اليسير بن رزام هو أمير اليهود بخيبر بعد سلام بن أبي الحقيق، وقد أخذ في جمع يهود الشمال وتحريضهم على رسول الله r، ولم يكتف بذلك بل بدأ بتأليب قبائل غطفان وجمعها لقتال رسول الله r، وحين علم رسول الله r ما يبيته اليهود له من الخديعة والمكر رأى r أن يتأكد من ذلك قبل أن يقدم على أمر ما، فأرسل عبد الله بن رواحة في نفر من المسلمين روادًا يكتشفون ما تخبئه يهود ومن لف لفها من مشركي العرب[101].

وقد تأكدت المخابرات النبوية من أمر اليسير بن رزام، وكان هذا كافيًا لقيام النبي r ببعث سرية في ثلاثين راكبًا عليهم عبد الله بن رواحة، وفيهم عبد الله بن أنيس فأتوه فقالوا: أرسلنا إليك رسول الله r ليستعملك على خيبر، فلم يزالوا به حتى تبعهم في ثلاثين رجلاً مع كل رجل منهم رديف من المسلمين، وكان هو رديف عبد الله بن أنيس على بعيره، حتى إذا كانوا بقرقرة ثيار على ستة أميال من خيبر، ندم اليسير على مسيره إلى رسول الله r، فأهوى بيده على سيف رديفه ابن أنيس، ففطن له، فاقتحم به، ثم ضربه بالسيف، فقطع رجله وضربه اليسير بمخرش[102] في يده من شواحط[103]، فضرب به وجه عبد الله فأمه[104]، ومال كل رجل من المسلمين على رديفه من اليهود فقتله، إلا رجل واحد أفلت على رجليه، فلما قدم ابن أنيس على رسول الله r تفل على شجه، فلم تقح ولم تؤذه.

وفي رواية عن عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ:( وأهوى أسير بيده إلى سيفي ففطنت له (يتضح من ذلك أن أسيراً كان أعزل) فدفعت بعيري وقلت: غدراً أي عدو الله، مرتين، فنزلت فسقت بالقوم حتى انفرد لي أسير فضربته بالسيف فأندرت عامة فخذه وساقه فسقط عن بعيره ومال أصحاب النبي r على أصحابه فقتلوهم ولم يفلت منه غير رجل واحد ولم يصب من المسلمين أحد.

ثم قدموا على رسول الله r فحدثوه الحديث فقال: (حقاً قد نجاكم الله من القوم الظالمين)

سرية كُرز بن جابر الفهري:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية كرز بن جابر الفهري[105] ـ رضي الله عنه ـ التي وقعت في جمادى الأولى سنة ست.

فليعلم أن سببها هو أن أناساً من عكل وعُرَينة يبلغ عددهم نحو ثمانية قدموا على رسول الله r فبايعوه على الإسلام وتلفظوا بكلمة التوحيد وكانوا حين قدموا المدينة سقاماً مصفرة ألوانهم عظيمة بطونهم[106] فقالوا: يا رسول الله إنا كنا أهل ضرع (أي ماشية وإبل) ولم نكن أهل ريف وكرهنا الإقامة بالمدينة، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل فأمر لهم بذود من الإبل ومعها راع وأمرهم باللحوق بها ليشربوا من ألبانها وأبوالها[107] فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة وصحت أجسامهم باتباعهم إشارة رسول الله r كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي رسول الله r وكان عبداً له، اسمه يسار، وحين قتلوه مثلوا به فقطعوا يدهُ ورجله وجعلوا الشوك في عينيه واستاقوا الذود وحُمل يسار ميتاً إلى قباء فدفن هناك.

وقد كان جزاء هؤلاء المجرمين أن بعث رسول الله r في آثارهم خَيلاً من المسلمين قريباً من العشرين وأمّر عليهم كرز بن جابر الفهري ـ رضي الله عنه ـ فلقحهم فجاء بهم فأمر النبي r بقطع أيديهم وأرجلهم وسمّر أعينهم ولم يفلت منهم أحد وتركوا في ناحية الحرة في الشمس حتى ماتوا.

وقد أنزل الله في هؤلاء قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:33)

سرية الخبط:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية الخبط[108].. تلك السرية التي بعث فيها رسول الله r أبا عبيدة بن الجراح على رأس ثلاثمائة رجل إلى أرض جُهينة[109].

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أنها من السرايا التي قصد بها r إضعاف قريش ومحاصرتها اقتصاديًّا على المدى الطويل، لتكف عن كبريائها ومعاداتها للإسلام.

وقد بعث r أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة راكب قبل الساحل، ليرصدوا عيرًا لقريش، وعندما كانوا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع، فكان قدر مزود تمر، يقوتهم منه كل يوم قليلاً قليلاً، حتى كان أخيرًا نصيب الواحد منهم تمرة واحدة، يقول جابر ـ أحد أفراد هذه السرية: (كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل)، وقد سأل وهب بن كيسان جابرًا: ما تغني عنكم تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت.

وقد اضطر ذلك الجيش إلى أكل ورق الشجر، قال جابر: وكنا نضرب بعصينا الخبط[110]، ثم نبله بالماء فنأكله.

فبينما هم كذلك من الجوع والجهد الشديدين إذ زفر البحر زفرة أخرج الله فيها حوتًا ضخمًا، فألقاه على الشاطئ.

قال جابر بن عبد الله: وانطلقنا على ساحل البحر، فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، قال: قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله r وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليها شهرًا، ونحن ثلاثمائة حتى سمَّنا، قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب[111] عينيه بالقلال[112] الدهن، ونقتطع منه الفدر[113] كالثور، أو قدر الثور، فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعًا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله r فقال: (ما حبسكم؟ قلنا: كنا نتبع عيرات قريش، وذكرنا له من أمر الدابة، فقال:( هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا) قال: فأرسلنا إلى رسول الله r منه فأكله.

صلح الحديبية:

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: لقد رأيت أصحابك يذكرون في غزوات النبي r غزوة يسمونها (الحديبية[114])

قال دوج: أجل.. وذلك السيف يشير إليها.

قال الحكيم: فسأحدثك عنها إذن لتنسخ بحديثها كل ما يرمي به قومك نبينا من الشوق إلى الحرب أوالبحث عن أسبابها.

بعد تلك الغزوات والسرايا تكونت للمسلمين حرمة في نفوس تلك المجتمعات التي لم تكن تقيم حرمة إلا لمن يعرف كيف يحمل السيوف.

وقد انتهز النبي r هذه الفرصة ليفرض على قريش وغيرها من العرب الاعتراف بدينه، ليكون ذلك الاعتراف مقدمة للبحث فيه بحث المنصف لا بحث العدو.

وبما أن قصد البيت الحرام بالحج أو العمرة سبب من أهم أسباب هذا الاعتراف.. فقد أراد r في ذي القعدة 6 هـ (فبراير سنة 628 م) أن يخرج مع أصحابه لأداء عمرة.

في ذلك الشهر من الأشهر الحرم خرج r معتمرا لا يريد حرباً.. واستنفر العرب من البوادي ومن حوله من الأعراب ممن أسلم ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يتعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب خشية من قريش أن يحاربوه، فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق من العرب[115] وساق معه الهدي[116]، وأحرم بالعمرة بذي الحليفة بعد أن صلى بالمسجد الذي بها ركعتين ليأمن الناس حربه وليعلموا أنه إنما خرج زائراً للبيت ومعظماً له.

ولم يخرج r معه بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف في القُرُب، فلما كان بعُسْفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال له: يا رسول الله هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم[117]، فقال رسول الله r:( يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة)

ثم قال:( من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟)

فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقاً وعراً، فخرجوا منه بعد أن شق عليهم وأفضوا إلى طريق سهامة عند منقطع الوادي، قال رسول الله r للناس:( قولوا نستغفر الله ونتوب إليه)، فقالوا ذلك، فقال:( والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها)

 ثم أمر رسول الله r الناس فقال:( اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض في طريق على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة)

فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا، رجعوا راكضين إلى قريش.

 ثم واصل رسول الله r سيره حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته القصواء فقال الناس خلأت، فقال:( ما خلأت وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها)

ثم قال للناس:( انزلوا)، فقالوا: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه، فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه[118] فنزل به في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن.

وقد ذكر البراء بن عازب ـ رضي الله عنهما ـ أنه r جلس على البئر، ثم دعا بإناء فمضمض ودعا ثم صبه فيها، ثم قال:( دعوها ساعة)، فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا[119].

وفي حديث جابر قال: عطش الناس يوم الحديبية وبين يدي رسول الله r ركوة يتوضأ منها فأقبل الناس نحوه فقال:( ما بالكم؟) قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلاّ ما في ركوتك، فوضع يده في الرّكوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا[120].

فلما اطمأن رسول الله r أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة فكلموه وسألوه ما الذي جاء به، فأخبرهم أنه لم يأت يريد حرباً وإنما جاء زائراً للبيت ومعظماً لحرمته، ثم قال لهم نحواً مما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش، فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت لقتال، إنما جاء زائراً لهذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم[121]، وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالاً فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً ولا تحدث بذلك عنا العرب.

وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله r مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئاً كان بمكة.

 ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص أخا بني عامر فلما رآه رسول الله r مقبلاً، قال:( هذا رجل غادر)، فلما انتهى إلى رسول الله r وكلمه قال له رسول الله r نحواً مما قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله r.

ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله r قال:( إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه)، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله r إعظاماً لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك، فغضب الحليس عند ذلك وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له، والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، فقالوا له: كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

 ثم بعثوا إلى رسول الله r عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، فخرج حتى أتى رسول الله r فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك[122] لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً.

وكان أبو بكر الصديق جالساً خلف رسول الله r فقال له: ( أنحن ننكشف عنه؟)، فقال عروة: مَن هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن قحافة، فقال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ولكن هذه بها [123].

وبعد أن قال عروة ما قال كلمه رسول الله r بنحو مما كلم أصحابه وأخبره أنه لم يأت يريد حرباً.

 فقام من عند رسول الله r ورجع إلى أصحابه بمكة وقد بهره ما رأى من احترام أصحابه r له، رأى أن رسول الله r لا يتوضأ إلا ابتدر أصحابه وضوءه ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه، يدلك به من وقع في يده وجهه وجلده ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له r فقال لقريش:( أي قوم، فوالله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله ما يبصق بصاقا إلا وقع في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده إجلالاً وتوقيراً وما يمدون النظر إليه تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً فروا رأيكم.. إني أخاف أن لا تُنصروا عليه)

 فلم يسمع القوم ما قاله عروة بن مسعود وما رغبهم فيه من الصلح، فانصرف هو ومن تبعه إلى الطائف، ثم أسلم عروة بعد ذلك لما انصرف رسول الله r عن ثقيف ثم قتل لما دعاهم إلى الإسلام.

ثم دعا رسول الله r خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يُقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا به جمل رسول الله r أرادوا قتله فمنعته الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله r.

وبعثت قريش أربعين أو خمسين رجلاً منهم ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً، فأخذوا أخذاً فأتى بهم رسول الله r فعفا عنهم وخلى سبيلهم وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله r بالحجارة والنبل.

ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال:( يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني: عثمان بن عفان)، فدعا رسول الله r عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحربهم وأنه إنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته، فرضي عثمان لأنه كان غائباً عن مكة، ولم يكن له أعداء بها، ثم إنه من بني أمية.

فخرج عثمان إلى مكة[124] فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله r فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله r ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله r إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله r واحتبسته قريش عندها.

فبلغ رسول الله r والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قُتل، فلما بلغ ذلك الخبر رسول الله r قال:( لا نبرح حتى نناجز القوم[125])

 ثم دعا رسول الله r المسلمين إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وأمر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن ينادي الناس إلى البيعة.

قال سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ: بايعناه وبايعه الناس على عدم الفرار وأنه إما الفتح وإما الشهادة، ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إلاّ الجد بن قيس من بني سلمة، فكان جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس[126].

وقد ذكر القرآن الكريم هذه البيعة، فقال:﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:18)

وقد كان تأثير هذه البيعة شديدا على قريش، فلذلك سمعت لما أشار أهل الرأي فيها بالصلح على أن يرجع ويعود من قابل فيقيم ثلاثاً معه سلاح الراكب، السيوف في القُرُب والقوس.

 فبعثت سهيل بن عمرو إلى رسول الله r وقالوا له: ائت محمداً فصالحه ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تحدّث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً.

فلما أقبل سهيل، قال رسول الله r:( قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل)، وطالت المراجعة بينه وبين النبي r.. وفي الأخير اتفقوا على هذه البنود الأربعة:

1‏.‏ الرسول r يرجع من عامه، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القُرُب، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض‏.‏

2‏.‏ وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض‏.‏

3‏.‏ من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق‏.‏

4‏.‏ من أتي محمداً من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه‏.‏

فلما انتهوا إلى هذه البنود، ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أوَلسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوَليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نعطي الدَّنِيَّة في ديننا، قال أبو بكر: الزم غَرْزَة فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى رسول الله r فقال: يا رسول الله أَلست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أوَلسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوَليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟ قال: أنا أعبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني، فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيراً.

ثم دعا رسول الله r عليّ بن أبي طالب فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف هذا أي الرحمن الرحيم، ولكن اكتب باسمك اللهم، فكتبها وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو شهدتُ أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أصدك عن البيت، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال رسول الله r: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رَدَّه عليهم ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا إسلال ولا إغلال، وإنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وإنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب: السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها)

وكتبت نسخة أخرى من هذا العقد لتبقى عند المسلمين، لأن سهيلاً قال يكون هذا الكتاب معي.

قال دوج: فها قد استسلم محمد أخيرا لأعدائه.

قال الحكيم: بل هكذا فتح لمحمد r من الفتح ما كان مقدمة لكل فتح.. وهكذا شاء الله أن يسد هذا الصلح كل مقولة ترمي الإسلام بالإرهاب، أو بالشوق إلى القتل.

أنت ترى أن محمدا r في هذا الصلح لان لكل شروط أعدائه، وذلك طلبا لشيء واحد هو تحقيق السلام.. لأنه لا يمكن أن يفكر الناس في قضايا الإيمان إلا بعد توفير السلام.

قال دوج: ولكن الشروط لم تكن في مصلحة محمد.

قال الحكيم: ذلك في النظر القاصر.. أما النظر المحقق الحكيم، فيرى أن كل ما في هذه المعاهدة من بنود هو في صف المسلمين[127].

فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف، بل كانت تهـدف استئصـال شأفتهم، وتنتظر أن تشهد يوماً ما نهايتهم، وكانت تحاول بأقصي قوتها الحيلولة بين الدعوة الإسلامية وبين الناس، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في جزيرة العرب، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين، وأن قريشاً لا تقدر على مقاومتهم.

والبند الثالث يدل بفحواه على أن قريشاً نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية، وأنها لاتهمها الآن إلا نفسها، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها، فلايهم ذلك قريشاً، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل‏.‏ أليس هذا فشلاً ذريعاً بالنسبة إلى قريش‏؟‏ وفتحا مبيناً بالنسبة إلى المسلمين‏؟‏

إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها ـ بالنسبة إلى المسلمين ـ مصادرة الأموال وإبادة الأرواح، وإفناء الناس، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الحــرية الكاملة للناس فـي العقيدة والدين لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات، وقد حصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين.

وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحاً كبيراً في الدعوة، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف‏.‏

أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب، وإنما بدأتها قريش، يقول الله تعالى:﴿ أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (التوبة:13)‏، أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل الله، وتعمل معهم بالمساواة، كل من الفريقين يعمل على شاكلته، فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد، ودليل على فشل من بدأ بالحرب وعلى ضعفه وانهياره‏.‏

أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام، وهو أيضاً فشل لقريش، وليس فيه ما يشفي قريشاً سوى أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط‏.‏

لقد أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط، وهي ما في البند الرابع، ولـكن تلك الخلة تافهة جداً، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلماً لا يفر عن الله ورسوله، وعن مدينة الإسلام، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهراً أو باطناً، فإذا ارتد فلا حاجة إليه للمسلمين، وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه، وهذا الذي أشار إليه رسول الله r بقوله‏:‏ ‏(‏إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله‏)‏‏،‏ وأما من أسلم من أهل مكة فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض الله واسعة، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئاً‏؟‏ وهذا الذي أشار إليه النبي r بقوله‏:‏ ‏(‏ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً‏)‏‏‏

والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ، وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش، لكنه في الحقيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخَوَرِهم، وعن شدة خوفهم على كيانهم الوثني، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جُرُف هار لا بد له من الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ‏،‏ وما سمح به النبي r من أنه لا يسترد من فرّ إلى قريش من المسلمين، فليس هذا إلا دليلاً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الاعتماد، ولا يخاف عليه من مثل هذا الشرط‏.‏

سكت الحكيم قليلا، ثم قال: ولأجل هذا سمى الله تعالى هذا الصلح فتحا، فقال:﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (الفتح:1)

وقد روي في الحديث عن مجمع بن جارية الأنصاري الأوسي قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها وجدنا رسول الله r عند كُرَاع الغَميم وقد جمع الناس وقرأ عليهم: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (الفتح:1)، فقال رجل: يا رسول الله أوَفتح هو؟ قال: (إي والذي نفسي بيده إنه لفتح)[128] 

وروي عن عروة بن الزبير قال: أقبل النبي r راجعاً، فقال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا ورد r رجلين من المؤمنين كانا خرجا إليه فبلغه r قول ذلك الرجل فقال:( بئس الكلام، بل هو أعظم الفتح قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان ولقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتوح، أنسيتم يوم أُحُد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟) فال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح، والله يا نبيّ الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وأمره منا[129].

 قال دوج بتهكم: فهل استطاع محمد أن يلتزم هذه المعاهدة، ويصبر عن الحرب.

قال الحكيم: لقد راعى رسول الله r تنفيذ هذه المعاهدة بدقة،

بل إنه ابتدأ تنفيذ هذه المعاهدة قبل أن يسري العمل بها.. فقد روي أنه بينما كان الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَنْدَل بن سهيل يَرْسُفُ في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمي بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل‏:‏ هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده فقال النبي r ‏:‏ ‏(‏إنا لم نقض الكتاب بعد‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ فوالله إذا لا أقاضيك على شيء أبداً،‏ فقال النبي r ‏:‏ ‏(‏فأجزه لي‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ما أنا بمجيزه لك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏بلى فافعل‏)‏، قال‏:‏ ما أنا بفاعل‏.‏ وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره ؛ ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته‏:‏ يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني‏؟‏ فقال رسول الله r ‏:‏ ‏(‏يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم‏)‏‏.‏

فوثب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول‏:‏ اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه، يقول عمر‏:‏ رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية‏.

وهكذا كان r في مدة الصلح يرد الرجال المهاجرين، ولا يرد النساء بعد الامتحان، وكان الامتحان أن تستحلف المرأة المهاجرة أنها ما هاجرت ناشزاً ولا هاجرت إلا لله ورسوله، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ (الممتحنة: من الآية10)، فلما هاجرت إليه أم كلثوم بنت عقبة بن معيط ـ رضي الله عنها ـ وكانت أسلمت بمكة وبايعت قبل أن يهاجر r ثم خرجت في مدة الصلح مهاجرة ماشية على قدميها من مكة إلى المدينة وصحبت رجلاً من خزاعة وهي أخت عثمان بن عفان لأمه لم يردها النبي r لأن الشرط يقضي برجوع الرجال فقط، ولما خرج أخوها عمارة والوليد في ردها بالعهد، أخبرهما رسول الله r بأن النساء المؤمنات لا يرجعن وأن الشرط في الرجال فقط، وأن النساء يمتحن فرجعا إلى مكة وأخبرا قريشاً بذلك فرضوا به.

 ورد رسول الله r أبا بصير، فذهب ـ بعد أن قتل خنيساً الذي كان جاء في طلبه ـ إلى محل في طريق الشام يمر به ذوو الميرة، واجتمع إليه جمع من المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة، فكانوا يتسللون إليه، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذي رده r يوم الحديبية، وخرج من مكة في سبعين راكباً أسلموا، فلحقوا بأبي بصير، وكرهوا أن يقدموا على رسول الله r في مدة الهدنة خوفاً من أن يردهم إلى أهلهم، وانضم إليهم ناس من غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب ممن أسلم حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل، فقطعوا مارة قريش لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمرّ بهم عير إلا أخذوها، حتى كتبت قريش له r تسأله بالأرحام إلا آواهم ولا حاجة لهم بهم، فكتب رسول الله r إلى أبي جندل وأبي بصير أن يقدما عليه، وأن مَن معهم من المسلمين يلحقون ببلادهم وأهليهم ولا يتعرضوا لأحد مرّ بهم من قريش ولا لعيرهم، فقدم كتاب رسول الله r عليهما وأبو بصير مشرف على الموت لمرض حصل له فمات وكتاب رسول الله r في يده يقرأه، فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجداً، وقدم أبو جندل على رسول الله r مع ناس من أصحابه ورجع باقيهم إلى أهلهم وأمنت قريش على عيرهم وتحقق قول رسول الله r يوم الحديبية:( سيجعل الله لأبي جندل وأصحابه فرجاً ومخرجاً)

ولما أمن الكفار القتال اختلطوا بالمسلمين، فأثر فيهم الإسلام فأسلم كثير منهم، وكان أبو بكر الصديق يقول: ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين محمد r وربه، والعباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.

سكت قليلا، ثم قال: وفي تلك الفترة التي سكتت فيها ألسنة السيوف أرسل رسول الله r رسلا إلى الملوك والأمراء المحيطين بالجزيرة العربية، وكان من نتيجتها:

1 - أنه r تمكن من معرفة سياسة هؤلاء الملوك والأمراء نحوه وميلهم إليه فكانت هذه الكتب بمثابة جس نبضهم.

2 - إسلام أمير اليمن ومن معه.

3 - أن المقوقس وإن كان لم يسلم إلا أنه أظهر الود بتلطفه مع رسول الله r وإرساله الهدايا.

4 - إسلام النجاشي على ما هو مشهور في كتب التاريخ وإن كان لم يستطع حمل شعبه على الإسلام.

5 - إسلام المنذر بن ساوى التميمي صاحب البحرين.

6 - إسلام مَلَكَيْ عُمان وإسلام خلق كثير معهما.

وقد علا صوت الإسلام بإرسال هؤلاء الرسل وعلا شأنه وصارت له مكانة دينية وسياسية بين الدول.. وكل ذلك تم قبل فتح مكة[130].

غزوة خيبر:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة خيبر[131]..

قال دوج: أجل.. لقد توجهت هذه الغزوة لأولئك اليهود البسطاء لتزرع فيهم الرعب.. وتنشر بينهم القتل.

قال الحكيم: أنت تعلم أن أولئك اليهود البسطاء هم الرأس المدبر للكثير من المؤامرات والدسائس التي أرادت أن تجهز على الإسلام.. وأنت تعلم أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافقين وبغطفان وأعراب البادية، وكانوا هم أنفسهم يتهيأون للقتال، فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متوصلة، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي r، وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة، وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين، مثل سلام بن أبي الحُقَيْق، وأسِير بن زارم، ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك، وإنما أبطأوا في القيام بهذا الواجب ؛ لأن قوة أكبر وأقوي وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت مجابهة للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين‏[132].‏

قال رجل مسلم من الجمع: لقد سمعنا كثيرا في خلال حديثك عن هؤلاء.. فحدثنا كيف تعامل معهم النبي r؟

قال الحكيم: لقد وقعت هذه الغزوة سنة سبع من الهجرة (أغسطس سنة 628 م) وذلك أن رسول الله r لما عاد من الحديبية أقام بالمدينة ذا الحجة وبعض المحرم من السنة السابعة، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر وكان معه 1600 من المسلحين، منهم 200 فارس.

وقد استنفر r من حوله ممن شهد الحديبية يغزون معه، وجاء المخلفون عنه في غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقال:( لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا).. لأن الله قد وعد رسوله r عند انصرافه من الحديبية في سورة الفتح بمغانم كثيرة بقوله تعالى:﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ﴾ (الفتح: من الآية20)

وقد روي أنه r لما أشرف على خيبر قال لأصحابه:( قفوا)، ثم قال:( اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها أقدموا بسم الله)

فلما أصبح خرجت اليهود إلى زروعهم بمساحيهم ومكاتلهم، ودفع رايته العقاب إلى الحباب بن المنذر، ودفع راية لسعد بن عبادة، ونزل بواد يقال له الرجيع بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم، وكانوا حلفاءهم ومُظاهرين لهم على رسول الله r وأن غطفان تجهزوا وقصدوا خيبر، فسمعوا حساً خلفهم فظنوا أن المسلمين خلفوهم في ذراريهم فرجعوا وأقاموا وخذلوا أهل خيبر، وكان أهل خيبر 10.000 مقاتل.

وكان يهود خيبر أدخلوا أموالهم وعيالهم في حصن الكتيبة، وجمعوا المقاتلة في حصن النطاة، وكان النبي r نزل قريباً من حصن النطاة فأشار عليه r الحباب بن المنذر بالتحول قائلاً: إن أهل النطاة لي بهم معرفة ليس قوم أبعد مدى منهم ولا أعدل رمية منهم وهم مرتفعون علينا وهو أسرع لانحطاط نبلهم ولا نأمن من بياتهم يدخلون في حمر النخل، فتحول رسول الله r وتحول الناس إلى موضع حائل بين أهل خيبر وغطفان وابتنى هناك مسجداً صلى فيه طول مقامه بخيبر، وأمر بقطع نخيل أهل حصون النطاة، فوقع المسلمون في قطعها حتى قطعوا 400 نخلة ثم نهاهم عن القطع، فما قطع من نخيل خيبر غيرها، وقاتل r يومه ذلك أشد القتال، وعليه درعان وبيضة ومغفر وهو على فرس يُقال له الظرب في يده قناة وترس وفي ذلك اليوم قُتل محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة برحى ألقيت عليه من حصن ناعم، ألقاها عليه مرحب اليهودي، وكان الحر في ذلك اليوم شديداً.

ومكث r سبعة أيام يقاتل أهل حصن النطاة يذهب كل يوم بمحمد بن مسلمة للقتال ويخلف على محل العسكر عثمان بن عفان، فإذا أمسى رجع إلى ذلك المحل ومن جرح من المسلمين يحمل إليه ليداوي جرحه، وكان اليهود كعادتهم يحاربون أمام الحصون لأنهم يخشون الحرب في الميدان، فإذا انهزموا عادوا إلى حصونهم وأغلقوها دونهم.

ولما كانت الليلة السادسة أتى رجل من يهود خيبر في جوف الليل إلى النبي r وأخبره أنه خرج من حصن النطاة من عند قوم يتسللون من الحصن في هذه الليلة ويذهبون إلى حصن يجعلون به ذراريهم ويتهيأون للقتال وأخبره أن في حصن الصعب من حصون النطاة، في بيت فيه تحت الأرض منجنيقاً ودبابات ودروعاً وسيوفاً فإذا دخل فيه رسول الله r أوقفه على أسراره.

وكان رسول الله r تأخذه الشقيقة في بعض تلك الأيام فيبعث أناساً من أصحابه فلم يكن فتح ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب.

 ثم قال r لمحمد بن مسلمة:( لأعطين الراية غداً لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا يولي الدبر يفتح الله عز وجل على يديه فيمكنه من قاتل أخيك)

وفي الغد بعث رسول الله r إلى عليّ ـ رضي الله عنه ـ، وكان أرمد شديد الرمد، فجيء به إلى رسول الله r وقد عصب عينيه فعقد له لواءه الأبيض وتفل في عينيه ودلكهما فبرأ حتى كأن لم يكن بهما وجع، وقال عليّ ـ رضي الله عنه ـ: فما رمدت بعد يومئذ، ثم دعا النبي r لعليّ ـ رضي الله عنه ـ بقوله:( اللهم اكفه الحر والبرد)، قال عليّ ـ رضي الله عنه ـ: فما وجدت بعد ذلك لا حراً ولا برداً، فكان يلبس في الحر الشديد القباء المحشو الثخين ويلبس في البرد الشديد الثوب الخفيف فلا يبالي البرد[133].

فلما أخذ عليّ الراية قال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال رسول الله r:( انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن لم يطيعوا لك بذلك فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)

فخرج عليّ ـ رضي الله عنه ـ حتى ركز الراية تحت الحصن، ثم خرج إليه أهل الحصن، وكان أول من خرج إليه منهم الحارث أخو مرحب وكان مشهوراً بالشجاعة فقتله عليّ وانهزم اليهود إلى الحصن (وهو حصن ناعم) ثم خرج إليه مرحب لابساً درعين ومتقلداً سيفين ومعتماً بعمامتين، ولبس فوقهما مغفراً وحجراً قد ثقبه قدر البيضة، ومعه رمح فبرز له عليّ ـ رضي الله عنه ـ ثم حمل مرحب على عَلِيّ وضربه فطرح ترسه من يده، فتناول عليّ ـ رضي الله عنه ـ باباً كان عند الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه الحصن، ثم إن علياً ضرب مرحباً فتترس فوقع السيف على الترس فقده وشق المغفر والحجر الذي تحته والعمامتين وفلق هامته حتى أخذ السيف بالأضراس.

ثم خرج ياسر أخو مرحب يطلب البراز، وكان أيضاً من مشاهير فرسان اليهود وشجعانهم، فخرج إليه الزبير ـ رضي الله عنه ـ وقتله، وعند ذلك قال له رسول الله r:( فداك عم وخال، لكل نبيّ حواريّ وحواريّ الزبير)

وكان أول حصن فتحه المسلمون وهو حصن الناعم من حصون النطاة على يد عليّ ـ رضي الله عنه ـ، ثم القموص، ولم يزل القتال ناشباً بين المسلمين واليهود، والمسلمون يفتحون حصونهم حصناً بعد حصن حتى أتموا فتحها جميعاً.

 وقد قُتل من اليهود في جميع هذه المعارك 93 واستشهد من المسلمين 15 رجلاً.

وقد فتحت الحصون كلها عنوة إلا حصن الوطيح وحصن سُلالم فقد مكث المسلمون على حصارها أربعة عشر يوماً فلم يخرج أحد منهم فهمّ رسول الله r أن يحمل عليهم وأن ينصب عليهم المنجنيق فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله r الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية والخروج من خيبر وأرضها بذراريهم وألا يصحب أحد منهم إلا ثوباً واحداً، فصالحهم على ذلك وعلى أن ذمة الله تعالى ورسوله بريئة منهم إن كتموه شيئاً، فتركوا ما لهم من أرض ومال، ووجد المسلمون في الحصنين المذكورين 100 درع و400 سيف و1000 رمح و500 قوس عربية بجعابها ووجدوا في أثناء الغنيمة صحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها فأمر رسول الله r بدفعها إليهم.

وقد أشاد الأستاذ ولفنسون بهذا التصرف من النبي r، فقال:( ويدل هذا على ما كان لهذه الصحائف في نفس الرسول من المكانة العالية ممَّا جعل اليهود يشيرون إلى النبيّ بالبنان ويحفظون له هذه اليد حيث لم يتعرض بسوء لصحفهم المقدسة ويذكرون بإزاء ما فعله الرومان حين تغلبوا على أورشليم وفتحوها سنة 70 ب.م، إذ أحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم وما فعله المتعصبون من النصارى في اضطهاد اليهود في الأندلس حيث أحرقوا أيضاً صحف التوراة، هذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممن ذكرناهم وبين رسول الإسلام)[134]

وقد قسم رسول الله r غنائم خيبر، فأعطى الراجل سهماً والفارس ثلاثة أسهم بعد أن خمسها خمسة أجزاء، ثم دفع r لأهل خيبر الأرض ليعملوا فيها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع وقال لهم: إنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، ثم استمر على ذلك إلى خلافة عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى أن وقعت منهم خيانة وغدْر لبعض المسلمين فأجلاهم إلى الشام بعد أن استشار في ذلك الصحابة.

وفي الطريق مر رسول الله r على فَدَك[135].. ولما علم أهلها بانهزام خيبر خافوا فبعثوا إلى رسول الله r يصالحونه على النصف من فدَك، فقدمت عليه رسلهم فقبل ذلك منهم، فكانت فدك لرسول الله r خالصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب يصرف ما يأتيه منها على أبناء السبيل، فكان ينفق منها ويعود منها على صغير بني هاشم ويزوج منها أيمهم.

غزوة وادي القرى:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة وادي القُرى[136]، وهي غزوة تابعة ـ في أصلها ـ لغزوة خيبر.

وقد حاصرهم r أربعة أيام، وهيأ أصحابه للقتال فقُتل منهم أحد عشر رجلاً وفتحها رسول الله r عنوة، وغنمه الله أموالهم، وقسّم رسول الله r ما أصابه على أصحابه وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود وعاملهم عليها، وولاها عمرو بن سعيد بن العاص.

وصالحه أهل تيماء[137] على الجزية لما بلغهم فتح وادي القُرى وولاها r يزيد بن أبي سفيان، وكان إسلامه يوم فتحها،، ثم رجع إلى المدينة بعد أن بسط نفوذه على القبائل اليهودية شماليَّ المدينة.

سرية أبَان بن سعيد:‏

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية أبَان بن سعيد[138].. فإن كان يشير إليها، فهي من السرايا التي كان يرسلها r للأعراب حتى لا تسول لهم أنفسهم غزو المدينة.

ذلك أن النبي r كان يعرف أن إخلاء المدينة تماما بعد انقضاء الأشهر الحرم ليس من الحزم قطعًا، بينما الأعراب ضاربة حولها، تطلب غرة من المسلمين للقيام بالنهب والسلب.. ولذلك أرسل سرية إلى نجد تحت قيادة أبان بن سعيد، بينما ذهب هو إلى خيبر، وقد رجع أبان بن سعيد بعد قضاء ما كان واجبًا عليه، فوافي النبي r بخيبر، وقد افتتحها‏.‏

سرية غالب بن عبد الله الليثي:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوَّح بُقدَيْد، والتي أرسلها r في صفر أو ربيع الأول سنة 7 هـ‏.‏

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن بني الملوح ـ الذين توجهت إليهم هذه السرية ـ كانوا قد قتلوا أصحاب بشير بن سُوَيْد، فبعثت هذه السرية لتأديبهم، فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا، وساقوا النعم، وطاردهم جيش كبير من العدو، حتى إذا قرب من المسلمين نزل مطر، فجاء سيل عظيم حال بين الفريقين،‏ ونجح المسلمون في بقية الانسحاب‏.‏

سرية عمر بن الخطاب:

 أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إلى تُرَبَة، والتي أرسلها r في شعبان سنة 7 هـ، ومعه ثلاثون رجلاً‏.‏

فإن كان ذلك كذلك.. فليعلم أنها من السرايا التأديبية التي توجهت للأعراب الذين لم يكن يردعهم عما تعودوه من السلب والنهب إلا مثل هذه السرايا.

وقد روي أن أهل هذه السرية كانوا يسيرون الليل ويستخفون في النهار، وأتي الخبر إلى هوازن، فهربوا، وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق أحداً، فانصرف راجعاً إلى المدينة‏.‏

سرية بني مرة:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية بشير بن سعد الأنصاري التي أرسلها رسول الله r إلى بني مرة بناحية فَدَك، والتي وقعت في شعبان سنة 7هـ في ثلاثين رجلاً‏.‏

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أنها من السرايا التأديبية.. وقد وقعت الهزيمة بهذه السرية، فقتلوا جميعاً إلا بشير، فإنه ارْتُثَّ إلى فدك، فأقام عند يهود حتى برأت جراحه، فرجع إلى المدينة‏.‏

سرية غالب بن عبد الله الليثي:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية غالب بن عبد الله الليثي، والتي أرسلها رسول الله r في رمضان سنة 7 هـ إلى بني عُوَال وبني عبد ابن ثعلبة بالمَيْفَعَة[139]، في مائة وثلاثين رجلاً.

فإن كان ذلك كذلك، فهي من الغزوات التأديبية الموجهة للأعراب، وقد نصر الله المؤمنين في هذه السرية.

وقد وقع في هذه السرية أن قتل أسامةُ بن زيد نَهِيكَ بن مِرْدَاس بعد أن قال‏:‏ لا إله إلا الله، فلما قدموا وأخبر النبي r، كبر عليه وقال‏:‏ ‏(‏أقتلته بعد ما قال‏:‏ لا إله إلا الله‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ إنما قالها متعوذاً قال‏:‏ ‏(‏فهلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب‏؟‏‏)‏‏

التفت إلى دوج، وقال: وبذلك تعلم أن كل ما يفعله أولئك الذين يقتلون إخوانهم المسلمين بسبب وغير سبب لا علاقة لما يفعلونه بالإسلام.. بل ما ذلك إلا أحقاد نسبوها إلى الإسلام، والإسلام منها بريء.

سرية بشير بن سعد الأنصاري:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية بشير بن سعد الأنصاري التي أرسلها r إلى يمن وجَبار[140] في شوال سنة 7 هـ في ثلاثمائة من المسلمين.

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو لقاء جمع كبير تجمعوا للإغارة على أطراف المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا، وأصاب بشير نعما كثيرة، وأسر رجلين، فقدم بهما المدينة إلى رسول الله r فأسلما‏.‏

سرية أبي حَدْرَد الأسلمي:

 أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية أبي حَدْرَد الأسلمي إلى الغابة.

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها أن رجلا من جُشَم بن معاوية أقبل في عدد كبير إلى الغابة، يريد أن يجمع قيسًا على محاربة المسلمين‏.‏ فبعث رسول الله r أبا حدرد مع رجلين ليأتوا منه بخبر وعلم، فوصلوا إلى القوم مع غروب الشمس، فكمن أبو حدرد في ناحية، وصاحباه في ناحية أخري، وأبطأ على القوم راعيهم حتى ذهبت فحمة العشاء، فقام رئيس القوم وحده، فلما مر بأبي حدرد رماه بسهم في فؤاده فسقط ولم يتكلم، فاحتز أبو حدرد رأسه، وشد في ناحية العسكر، وكبر، وكبر صاحباه وشدا، فما كان من القوم إلا الفرار، واستاق المسلمون الثلاثة الكثير من الإبل والغنم‏.‏

سرية الأخرم:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية الأخرم التي وقعت في ذي الحجة سنة سبع (أبريل سنة 629 م)

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها أن الأخرم خرج في خمسين رجلاً إلى بني سليم يدعوهم إلى الإسلام، فعلموا بخروجه فأمطروا المسلمين وابلاً من النبل، وأحاطوا بهم من كل ناحية حتى قُتل عامتهم وجُرح أميرهم، ثم تحامل حتى بلغ رسول الله r بالمدينة في أول صفر.

سرية غالب بن عبد الله الليثي:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بالكدِيد في صفر سنة ثمان (يونيه سنة 629 م)

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أنها من السرايا التأديبية التي كان يرسلها رسول الله r إلى البوادي المحيطة.. وقد خرج المسلمون في هذه السرية حتى إذا كانوا بقديد لقوا الحارث بن مالك الليثي المعروف بابن البرصاء، فأخذوه، فقال: إنه جاء يريد الإسلام، فأوثقوه وخلفوا عليه رجلاً وشنوا عليهم الغارة واستاقوا النعم، وحملوا ابن البرصاء، وعادوا إلى المدينة، وقد أسلم ابن البرصاء.

ولما رجع غالب بن عبد الله الليثي من سريته الأولى بعثه رسول الله r إلى موضع مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك، ومعه 200 رجل وذلك في شهر صفر سنة ثمان، وقد نجحت هذه السرية نجاحاً تاماً فقد قاتل المسلمون ساعة ووضعوا السيف وقتلوا منهم قتلى وأصابوا منهم نعماً وشاء فساقوها وعادوا إلى المدينة.

سرية شجاع بن وهب الأسدي:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى السرية التي أرسل فيها رسول الله r شجاع بن وهب الأسدي، ومعه أربعة وعشرون رجلاً، إلى جمع من هوازن يُقال لهم بنو عامر في شهر ربيع الأول سنة ثمان (يوليه سنة 629 م)

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أنها من السرايا التأديبية التي كان يرسلها رسول الله r إلى البوادي المحيطة.. وقد نصر الله هذه السرية، فأصابوا بعض الغنائم، واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، وكانت غيبتهم خمس عشرة ليلة.

سرية كعب بن عمير الغفاري:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى السرية التي أرسل فيها رسول الله r كعب بن عمير الغفاري بصحبة خمسة عشر رجلاً إلى ذات أطلاح من أرض الشام وراء ذات القرى في ربيع الأول سنة ثمان.

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أنها من السرايا التي كان يرسلها رسول الله r للدعوة إلى الله في النواحي المحيطة بالمدينة، وقد دعت هذه السرية إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل فقاتلهم الصحابة أشد القتال حتى قتلوا، ولم ينجح منهم غير رجل جريح في القتلى، فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى النبي r فأخبره الخبر فشق عليه ذلك وهم بالبعث عليهم لكن بلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر فتركهم.

سرية مؤتة:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية[141]  مؤتة[142] التي أرسلها r لحرب الروم في جمادى الأولى سنة 8 هـ (سبتمبر سنة 629 م)

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها أن رسول الله r كان قد أرسل الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى أمير بصرى من جهة هرقل وهو الحارث بن أبي شمر الغساني، فلما نزل مؤتة تعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، وهو من أمراء قيصر على الشام فقال: أين تريد لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم، فأوثقه وضرب عنقه، ولم يقتل لرسول الله r رسول غيره[143].

وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد ذلك على رسول الله r حين نقلت إليه الأخبار، فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب‏.‏

بالإضافة إلى ذلك، فقد أراد r بهذه السرية الكبيرة تأديب عرب الشام التابعين للدولة الرومانية، والذين دأبوا على استفزاز المسلمين وتحديهم وارتكاب الجرائم ضد دعاتهم.

وقد أمّر رسول الله r مولاه زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ على هذه السيرة وندب رسول الله r الناس وقال:( إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس، فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلاً من بينهم يجعلونه عليهم أميراً)

وعقد r لواء أبيض ودفعه إلى زيد، ولم يسبق لزيد تولي القيادة من قبل، وأوصاه أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا مَن هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله وقاتلوهم، فأسرع الناس بالخروج وعسكروا بالجرف.

 وقد قال رسول الله يوصي الجيش قبل خروجه:( أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً، اغزوا باسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا كبيراً فانياً ولا منعزلاً بصومعة ولا تقربوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناءً)

ولما فصل الجيش من المدينة سمع العدو بمسيرهم، وقام شرحبيل بن عمرو الغساني، فجمع أكثر من مئة ألف من الروم، وضم إليهم القبائل القريبة الموالية، فلما نزل المسلمون معان من أرض الشام بلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء، فأقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله r فنخبره بعدد عدونا؛ فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، فشجع الناسَ عبدُ الله بن رواحة على المضي فقال:( إن التي تكرهون للتى خرجتم لها، إياها تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا كثرة ولا قوة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فربما فعل، وإن تكن الأخرى فهي الشهادة وليست بشر المنزلتين)، فقال الناس: لقد صدق ابن رواحة.

 فمضوا إلى مؤتة، ووافاهم المشركون تحت إمرة إثيودور أخي هرقل فجاء منهم من لا قبل لأحد به من العدد الكثير الزائد على مئة ألف والسلاح والخيل وآلات الحرب مع من انضم إليهم من قبائل العرب المتنصّرة من بني بكر ولخم وجذام مئة ألف، فقاتل الأمراء الثلاثة يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل المسلمون معه بشجاعة على صفوفهم حتى قتل طعناً بالرماح، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فقاتل به وهو على فرسه فألجمه القتال وأحاط به فنزل عن فرس له شقراء فعقرها وقاتل حتى قتل، وإنما عقرها خوفاً أن يأخذها العدو فيقاتل عليها المسلمين ولما أخذ اللواء قاتل قتالاً شديداً فقطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره فقطعت يساره فاحتضنه وقاتل حتى قتل ووجد فيه بضع وسبعون جرحاً ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة وتقدم به وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم نزل عن فرسه وقاتل حتى قتل.

ثم أخذ اللواء ثابت بن أقرم العجلاني البلوي حليف الأنصاري وكان من أهل بدر فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل فاصطلحوا على خالد بن الوليد.

ثم نظر إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان، فقال: لا آخذه، أنت أحق به، أنت رجل لك سن، فقد شهدت بدرًا، فقال ثابت: خذه أيها الرجل فوالله ما أخذته إلا لك، فأخذه خالد بن الوليد، وأصبحت الخطة الأساسية المنوطة بخالد في تلك الساعة العصيبة من القتال، أن ينقذ المسلمين من الهلاك الجماعي، فبعد أن قدر الموقف واحتمالاته المختلفة قدرًا دقيقًا، ودرس ظروف المعركة درسًا وافيًا وتوقع نتائجها، اقتنع بأن الانسحاب بأقل خسارة ممكنة هو الحل الأفضل، فقوة العدو تبلغ (66) ضعفًا من قوة المسلمين، فلم يبق أمام هؤلاء إلا الانسحاب المنظم وعلى هذا الأساس وضع خالد الخطة التالية:

أولا ـ الحيلولة بين جيش الروم وجيش المسلمين، ليضمن لهذا الأخير سلامة الانسحاب.

ثانيا ـ لبلوغ هذا الهدف، لا بد من تضليل العدو بإيهامه أن مددًا ورد إلى جيش المسلمين فيخفف من ضغطه وهجماته، ويتمكن المسلمون من الانسحاب.

وصمد خالد حتى المساء عملا بهذه الخطة، وغير في ظلام الليل مراكز المقاتلين في جيشه، فاستبدل الميمنة بالميسرة، ومقدمة القلب بالمؤخرة، وفي أثناء عملية الاستبدال اصطنع ضجة صاخبة وجلبة قوية، ثم حمل على العدو، عند الفجر، بهجمات سريعة متتالية وقوية ليدخل في روعه إن إمدادات كثيرة وصلت إلى المسلمين.

ونجحت الخطة؛ إذ بدا للعدو صباحًا أن الوجوه والرايات التي تواجهه جديدة لم يرها من قبل، وأن المسلمين يقومون بهجمات عنيفة، فأيقن أنهم تلقوا إمدادات، وأن جيشًا جديدًا نزل إلى الميدان، وكان البلاء الحسن الذي أبلاه المسلمون قد فت في عضد الروم وحلفائهم، فأدركوا أن إحراز نصر حاسم ونهائي على المسلمين أمر مستحيل، فتخاذلوا وتقاعسوا عن متابعة الهجوم، وضعف نشاطهم واندفاعهم، فخف الضغط عن جيش المسلمين، وانتهز خالد الفرصة فباشر الانسحاب.

لقد كانت عملية التراجع التي قام بها خالد في أثناء معركة (مؤتة) من أكثر العمليات في التاريخ العسكري مهارة ونجاحًا، بل إنها تتفق وتتلائم مع التكتيك الحديث للانسحاب، فقد عمد خالد إلى سحب الجناحين بحماية القلب، ولما أصبح الجناحان بمنأى عن العدو، وفي مأمن منه، عمد إلى سحب القلب بحماية الجناحين، إلى أن تمكن وضمن سلامة الانسحاب كليًّا[144].. بل لقد ذكر المؤرخون أن خسارة المسلمين لم تتعد الاثني عشر قتيلا في هذه المعركة، وأن خالدًا قال: (لقد انقطع في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي إلا صفيحة يمانية)

ويمكن القول إن خالدًا بخطته تلك، قد أنقذ الله المسلمين به من هزيمة ماحقة وقتل محقق، وأن انسحابه كان قمة النصر بالنسبة إلى ظروف المعركة، حيث يكون الانسحاب في ظروف مماثلة أصعب حركات القتال، بل أجداها وأنفعها[145].

قال دوج: ولكن ما سعى المسلمون لتحقيقه في هذه الغزوة لم يتحقق.. لقد رضوا من الغنيمة بالإياب؟

قال الحكيم: لا.. لقد كانت هذه الغزوة من أكبر الانتصارات التي من الله بها على المؤمنين.. ذلك أن مجرد التفكير في مواجهة الروم في ذلك الوقت لا يخطر على بال أحد.. فلذلك كان لمجرد التصدي لهم تأثيره العميق في كل المحيطين بالمسلمين.. ولذلك كانت هذه الغزوة مقدمة لفتح مكة، وما تلاها من فتوح الإسلام.

قال دوج: ولكنهم لم يزيدوا على أن انهزموا وأثبتوا فشلهم.

قال الحكيم: ليس بهذا المنطق يحكم الخبراء على الانتصار والهزيمة.. تصور الحادثة لتعرف مقدار النصر الذي حازه المؤمنون.. لقد كانت الروم في ذلك الوقت أعظم قوة في الأرض.. وتصدي المسلمين لها، ومواجهتها له تأثيره الكبير في تلك القبائل التي أكلتها الحرب.. وفي قريش.. التي لانت بعدها لينا لا مثله لين.

ولهذا لما عاد جيش المسلمين إلى المدينة تصور الناس أنهم انهزموا[146]، فصاروا يقولون لهم:( أنتم الفرارون) لكن الرسول r صحح لهم ذلك، وقال:( بل هم الكرارون)

وقد أخبر النبي r أصحابه بما حدث في ساحة القتال قبل رجوع الجيش إلى المدينة ونادى في الناس الصلاة جامعة ثم صعد المنبر وعيناه تذرفان وقال:( يا أيها الناس باب خير، باب خير، أخبركم عن جيشكم هذا الغازي أنهم انطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد شهيداً فاستغفروا له، ثم أخذ الراية جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيداً فاستغفروا له، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة وأثبت قدميه حتى قتل شهيداً فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء وهو أمّر نفسه ولكنه سيف من سيوف الله فآب بنصره) فمن يومئذ سُمي خالد (سيف الله)

سرية ذات السلاسل:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية ذات السلاسل[147]، وهي السرية التي أرسل فيها رسول الله r عمرو بن العاص إلى بلاد بلي وعذرة.

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو أنه r بلغه أن جمعاً من قضاعة تجمعوا للإغارة على المسلمين، وأرادوا أن يدنوا من أطراف المدينة منتهزين فرصة انهزام المسلمين في مؤتة.

وقد سار عمرو بن العاص في جمادى الآخرة 8هـ (أكتوبر سنة 629م) في صحبة (300) من سراة المهاجرين والأنصار ومعهم (30) فرساً.

وقد عقد له r لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، فسار هو ومن معه وكان يكمن النهار ويسير الليل فلما قرب منهم بلغه أن جموع العدو كثيرة فبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله r يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح وعقد له لواء وبعث معه (200) من سراة المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وأمره أن يلحق بعمرو وأن يكونا جميعاً ولا يختلفا، فأراد أبو عبيدة أن يتولى القيادة، فقال عمرو: إنما قدمت عليّ مدداً وأنا الأمير، فقال أبو عبيدة: لا ولكن أنا على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه، وكان أبو عبيدة رجلاً سهلاً هيناً عليه أمر الدنيا فقال: يا عمرو إن رسول الله r قال لي: لا تختلفا وإنك إن عصيتني أطعتك، فأطاع له أبو عبيدة فكان عمرو يصلي بالناس وسار حتى وصل إلى العدو فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا مذعورين بعد أن اقتتلوا ساعة فهزمهم المسلمون ولم يغنموا شيئاً.

سرية أبي قتادة:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية أبي قتادة التي أرسلها r إلى خضرة في شعبان سنة 8 هـ.

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو أن بني غَطَفَان كانوا يتحشدون في خَضِرَة ـ وهي أرض مُحَارِب بنَجْد ـ فبعث إليهم رسول الله r أبا قتادة في خمسة عشر رجلاً، فقتل منهم، وسَبَي وغنم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة‏.

فتح مكة:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى فتح مكة..

قال دوج: أجل.. فكيف تجرأ على أن يدخل بجنوده إلى تلك المدينة المقدسة مع أنه كان قد صالح أهلها؟

قال الحكيم: أولا.. لقد كان محمد r من أهل مكة.. وكثير من الذين دخلوا مكة في هذا الفتح من أهلها الذين أخرجوا منها بغير حق.

وثانيا.. لقد كانت مكة محلا لانحرافات كثيرة.. وكان الدين الذي يشرع للاستبداد والظلم ينطلق من مكة.. أفترى في تطهير هذه البلاد من تلك الانحرافات إرهابا!؟

وثالثا.. لقد حاربت قريش رسول الله r منذ أرسله الله.. أفترى في نصر الله له عليهم إرهابا!؟

قال دوج: والصلح الذي عقدوه فيما بينهم؟

قال الحكيم: لقد كانوا هم البادئين بخرقه.. وسأحدثكم حديث ذلك.

لقد عرفتم أن من بنود معاهدة الحديبية أن من أحب أن يدخل في عقد محمد r وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق‏.‏

وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله r، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخرى، وقد كانت بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر ـ اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فخرج نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له‏ (‏الوَتِير)‏ فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر‏:‏ يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة‏:‏ لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم‏.‏ فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه‏؟‏

ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي، وإلى دار مولى لهم يقال له‏:‏ رافع‏.‏

وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله r المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال‏:‏

يا رب إني ناشد محمداً= حلفَ أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم ولداً وكنا والدَا= ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصراً أعتدا=وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا=إن سيم خَسفاً وجهه تربدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا=إن قريشاً أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا=وجعلوا لي في كداء رصدا

وزعموا أن لست أدعو أحداً=وهم أذل وأقل عددا

 هم بيتونا بالوتير هُجداً=وقتلونا ركعاً وسجدا

فقال رسول الله r‏:‏ ‏(‏نصرت يا عمرو بن سالم‏)‏، ثم عرضت له سحابة من السماء، فقال‏:‏ ‏(‏إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب‏)‏‏.‏

ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا على رسول الله r المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة‏.‏

بعد أن أحست قريش بغدرها، وشعرت بعواقبه الوخيمة، عقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها ليقوم بتجديد الصلح‏.‏

وقد أخبر رسول الله r أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ، ويزيد في المدة‏)‏‏.‏

وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان ـ وهو راجع من المدينة إلى مكة ـ فقال‏:‏ من أين أقبلت يا بديل‏؟‏ ـ وظن أنه أتي النبي r ـ فقال‏:‏ سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي‏.‏ قال‏:‏ أو ما جئت محمداً‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان‏:‏ لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوي، فأتي مبرك راحلته، فأخذ من بعرها، ففته، فرأى فيها النوي، فقال‏:‏ أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً‏.‏

وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله r طوته عنه، فقال‏:‏ يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني‏؟‏ قالت‏:‏ بل هو فراش رسول الله r، وأنت رجل مشرك نجس‏.‏ فقال‏:‏ والله لقد أصابك بعدي شر‏.‏

ثم خرج حتى أتي رسول الله r فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله r، فقال‏:‏ ما أنا بفاعل‏.‏ ثم أتي عمر بن الخطاب فكلمه، فقال‏:‏ أأنا أشفع لكم إلى رسول الله r ‏؟‏ فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به، ثم جاء فدخل على على بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن، غلام يدب بين يديهما، فقال‏:‏ يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال‏:‏ ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله r على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه‏.‏ فالتفت إلى فاطمة، فقال‏:‏ هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر‏؟‏ قالت‏:‏ والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله r ‏.‏

وحيئذ لم يجد أبو سفيان ما يفعل، فقال لعلى بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط‏:‏ يا أبا الحسن، إني أري الأمور قد اشتدت علي، فانصحني، قال‏:‏ والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك‏.‏ ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الْحَقْ بأرضك‏.‏ قال‏:‏ أو تري ذلك مغنياً عني شيئاً‏؟‏ قال‏:‏ لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك‏.‏ فقام أبو سفيان في المسجد، فقال‏:‏ أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق‏.‏

ولما قدم على قريش، قالوا‏:‏ ما وراءك‏؟‏ قال‏:‏ جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد على شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدني العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار على بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا‏؟‏ قالوا‏:‏ وبم أمرك‏؟‏ قال‏:‏ أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا‏:‏ فهل أجاز ذلك محمد‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا‏:‏ ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك‏.‏ قال‏:‏ لا والله ما وجدت غير ذلك‏.‏

وقد روي أن رسول الله r أمر عائشة ـ قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال‏:‏ يابنية، ما هذا الجهاز‏؟‏ قالت‏:‏ والله ما أدري‏.‏ فقال‏:‏ والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله‏؟‏ قالت‏:‏ والله لا علم لي، وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً، وارتجز‏ الأبيات،‏ فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل، ثم أبو سفيان، وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله r بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وقال‏:‏ ‏(‏اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها‏)‏‏.‏

وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله r سرية قوامها ثمانية رجال، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي، إلى بطن إضَم، فيما بين ذي خَشَب وذي المروة، على ثلاثة بُرُد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ ؛ ليظن الظان أنه r يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله r خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته‏.‏

ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8 هـ، غادر رسول الله r المدينة متجهاً إلى مكــة، في عشرة آلاف من الصحابة، واستخـلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري‏.‏

ولما كان بالجُحْفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، ثم لما كان رسول الله r بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذي والهجو، فقالت له أم سلمة‏:‏ لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك‏.‏ وقال على لأبي سفيان بن الحارث‏:‏ ائت رسول الله r من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف:﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) (يوسف:91)‏، فإنه لا يرضي أن يكون أحد أحسن منه قولاً‏.‏ ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله r:﴿ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف:92)

وواصل رسول الله r سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ الكُدَيْد ـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر، وأفطر الناس معه‏.‏ ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء، فأمر الجيش، فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله r على الحرس عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ

وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله r البيضاء، وخرج يلتمس، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحداً يخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله r قبل أن يدخلها‏.‏

وكان الله قد عمي الأخبار عن قريش، فهم على وَجَلٍ وترقب، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار‏.‏

قال العباس‏:‏ والله إني لأسير عليها ـ أي على بغلة رسول الله r ـ إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول‏:‏ ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً‏.‏ قال‏:‏ يقول بديل‏:‏ هذه والله خزاعة، حَمَشَتْها الحرب، فيقول أبو سفيان‏:‏ خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها‏.‏

قال العباس‏:‏ فعرفت صوته، فقلت‏:‏ أبا حَنْظَلَة‏؟‏ فعرف صوتي، فقال‏:‏ أبا الفضل‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ مالك‏؟‏ فداك أبي وأمي‏.‏ قلت‏:‏ هذا رسول الله r في الناس، واصباح قريش والله‏.‏

قال‏:‏ فما الحيلة فداك أبي وأمي‏؟‏، قلت‏:‏ والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله r فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه‏.‏

قال‏:‏ فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا‏:‏ من هذا‏؟‏ فإذا رأوا بغلة رسول الله r وأنا عليها قالوا‏:‏ عم رسول الله r على بغلته،‏ حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ وقام إلى، فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال‏:‏ أبو سفيان، عدو الله‏؟‏ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله r، وركضتُ البغلة فسبقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله r، ودخل عليه عمر، فقال‏:‏ يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله r فأخذت برأسه، فقلت‏:‏ والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت‏:‏ مهلاً يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا، قال‏:‏ مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلى من إسلام الخطاب، لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله r من إسلام الخطاب‏.‏

فقال رسول الله r‏:‏(‏اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به‏)‏، فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله r، فلما رآه قال‏:‏ ‏(‏ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك‏؟‏ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئاً بعد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله‏؟‏‏)‏، قال‏:‏ بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك‏:‏ أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيء‏.‏ فقال له العباس‏:‏ ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق‏.‏

قال العباس‏:‏ يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن‏)‏‏.‏

وفي صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ غادر رسول الله r مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خَطْمِ الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال‏:‏ يا عباس، من هذه‏؟‏ فيقول ـ مثلا ـ سليم، فيقول‏:‏ مإلى ولِسُلَيْم‏؟‏ ثم تمر به القبيلة فيقول‏:‏ يا عباس، من هؤلاء‏؟‏ فيقول‏:‏ مُزَيْنَة، فيقول‏:‏ ما لي ولمزينة‏؟‏ حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها، فإذا أخبره قال‏:‏ مالي ولبني فلان‏؟‏ حتى مر به رسول الله r في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يري منهم إلا الحَدَق من الحديد، قال‏:‏ سبحان الله‏!‏ يا عباس، من هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ هذا رسول الله r في المهاجرين والأنصار، قال‏:‏ ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة،‏ ثم قال‏:‏ والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلْكُ ابن أخيك اليوم عظيماً،‏ قال العباس‏:‏ يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال‏:‏ فنعم إذن‏.‏

وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له‏:‏ اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليـوم أذل الله قـريشاً‏.‏ فلما حـاذي رسول الله r أبا سفيان قال‏:‏ يا رسول الله، ألم تسمع ما قال سعد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وما قال‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ قال كذا وكذا‏.‏ فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف‏:‏ يا رسول الله، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله r ‏:‏ ‏(‏بل اليوم يوم تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً‏)‏ ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد‏.‏

ولما مر رسول الله r بأبي سفيان ومضي قال له العباس‏:‏ النجاء إلى قومك،‏ فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته‏:‏ يا معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به،‏ فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن،‏ فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت‏:‏ اقتلوا الحَمِيت الدسم الأخمش الساقين، قُبِّحَ من طَلِيعَة قوم‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ ويلكم، لاتغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏،‏ قالوا‏:‏ قاتلك الله، وما تغني عنا دارك‏؟‏ قال‏:‏ ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن‏.‏

فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، ووبشوا أوباشاً لهم، وقالوا‏:‏ نقدم هؤلاء، فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا،‏ فتجمع سفهاء قريش وأخِفَّاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو بالخَنْدَمَة ليقاتلوا المسلمين،‏ وكان فيهم رجل من بني بكر ـ حِمَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلاحاً، فقالت له امرأته‏:‏ لماذا تعد ما أري‏؟‏ قال‏:‏ لمحمد وأصحابه‏.‏ قالت‏:‏ والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء‏.‏ قال‏:‏ إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم.

أما رسول الله r فمضي حتى انتهي إلى ذي طوي ـ وكان يضع رأسه تواضعاً لله حين رأي ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل ـ وهناك وزع جيشه، وكان خالد بن الوليد على المُجَنَّبَةِ اليمني ـ وفيها أسْلَمُ وسُلَيْم وغِفَار ومُزَيْنَة وجُهَيْنَة وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال‏:‏ ‏(‏إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً، حتى توافوني على الصفا‏)‏‏.‏

وكان الزبير بن العوام على المُجَنَّبَةِ اليسري، وكان معه راية رسول الله r، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها ـ من كَدَاء ـ وأن يغرز رايته بالحَجُون، ولا يبرح حتى يأتيه‏.‏

وكان أبو عبيدة على الرجالة والحُسَّر ـ وهم الذيم لاسلاح معهم ـ فأمره أن يأخذ بطن الوادي حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله r ‏.‏

وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها‏.‏

فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه،‏ وقتل من أصحابه من المسلمين كُرْز بن جابر الفِهْرِي وخُنَيْس بن خالد بن ربيعة،‏ كانا قد شذا عن الجيش، فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً، وأما سفهاء قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالخَنْدَمَة فناوشوهم شيئا من قتال، فأصابوا من المشركين اثني عشر رجلاً، فانهزم المشركون، وانهزم حِمَاس بن قيس ـ الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين ـ حتى دخل بيته.

وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله r على الصفا‏.‏

وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله r بالحَجُون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله r ‏.‏

ثم نهض رسول الله r، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول‏:﴿ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ (الإسراء‏:‏81‏)‏، ﴿ ‏قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾ (سبأ‏:‏49‏)،‏ والأصنام تتساقط على وجوهها‏.‏

وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرماً يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت فدخلها، فرأى فيها الصور، ورأي فيها صورة إبراهيم، وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ يستقسمان بالأزلام، فقال‏:‏ ‏(‏قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط‏)،‏ ورأي في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت‏.‏

ثم أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف، وجعل عمودين عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه ـ وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ـ ثم صلي هناك‏.‏ ثم دار في البيت، وكبر في نواحيه، ووحد الله، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع‏؟‏ فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فقال‏:‏‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثُرَة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سِدَانَة البيت وسِقاية الحاج، ألاوقتيل الخطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولاد‏.‏

يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية‏:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ (الحجرات:13)

ثم قال‏:‏ ‏(‏يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم‏؟‏‏)‏

قالوا‏:‏ خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم.

قال‏:‏ (‏فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته‏:﴿ ‏لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ﴾ اذهبوا فأنتم الطلقاء‏)‏‏‏

ثم جلس رسول الله r في المسجد فقام إليه علي[148] ـ رضي الله عنه ـ ومفتاح الكعبة في يده فقال‏:‏ اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك،  فقال رسول الله r‏:‏ ‏(‏أين عثمان بن طلحة‏؟‏‏)‏‏.‏ فدعي له، فقال له‏:‏ ‏(‏هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء‏)‏[149]

وحانت الصلاة، فأمر رسول الله r بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب‏:‏ لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه‏.‏ فقال الحارث‏:‏ أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته‏.‏ فقال أبو سفيان‏:‏ أما والله لا أقول شيئًا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء‏.‏ فخرج عليهم النبي r فقال لهم‏:‏ ‏(‏لقد علمت الذي قلتم‏)‏ ثم ذكر ذلك لهم‏.‏

فقال الحارث وعتاب‏:‏ نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك‏.‏

ودخل رسول الله r يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها، وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله r ‏:‏ ‏(‏قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ‏)‏، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتها، وسألت النبي r فقال لها ذلك‏.‏

وأهدر رسول الله r يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر المجرمين، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم عبد العزى بن خطل، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن نفيل بن وهب، ومقيس بن صبابة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن الأخطل، كانت تغنيان بهجو النبي r، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وهي التي وجد معها كتاب حاطب‏.‏

فأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي r، وشفع فيه، فحقن دمه، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتد ورجع إلى مكة‏.‏

وأما عكرمة بن أبي جهل، ففر إلى اليمن، فاستأمنت له امرأته، فأمنه النبي r فتبعته، فرجع معها وأسلم وحسن إسلامه‏.‏

وأما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة، فجاء رجل إلى النبي r وأخبره، فقال‏:‏ ‏(‏اقتله‏)‏ فقتله‏.‏

وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدالله، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين‏.‏

وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله r بمكة، فقتله علي‏.‏

وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله r حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر هبار يوم مكة ثم أسلم‏.‏

وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى فأسلمت، كما استؤمن لسارة وأسلمت‏.‏

ممن أهدر دمه كعب بن زهير، وقصته مشهورة[150]، وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح.

ومنهم وحشي بن حرب، وهند بنت عتبة امرأه أبي سفيان، وقد أسلمت.

أما صفوان بن أمية، فلم يكن ممن أهدر دمه، لكنه بصفته زعيماً كبيراً من زعماء قريش خاف على نفسه وفر، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله r فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة، فلحقة عمير وهو يريد أن يركب البحر من جدة إلى اليمن فرده، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجعلني بالخيار شهرين‏.‏ قال ‏(‏أنت بالخيار أربعة أشهر‏)‏ ثم أسلم صفوان، وقد كانت امرأته أسلمت قبله، فأقرهما على النكاح الأول‏.‏

وكان فضالة رجلاً جريئا جاء إلى رسول الله r، وهو في الطواف؛ ليقتله، فأخبر الرسول r بما في نفسه فأسلم‏.‏

ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله r في الناس خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله r فقولوا‏:‏ إن الله أذن لرسولة ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده ولا تلتقط ساقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه‏)‏، فقال العباس‏:‏ يا رسول الله، إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال‏:‏ ‏(‏إلا الإذخر‏)‏‏.‏

وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجلا من بنى ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقال رسول الله r بهذا الصدد‏:‏ ‏(‏يا معشر خزاعة، ارفعو أيديكم عن القتل، فلقد كثر القتل إن نفع، ولقد قتلتم قتيالا لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله‏)‏‏.‏

ولما تم فتح مكة على الرسول r - وهي بلده ووطنه ومولده - قال الأنصار فيما بينهم‏:‏ أترون رسول الله r إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها - وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه - فلما فرغ من دعائة قال‏:‏ ‏(‏ماذا قلتم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال رسول الله r ‏: ‏(‏معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم‏)‏‏.‏

وحين فتح الله مكة على رسول الله r والمسلمين، تبين لأهل مكة الحق، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام، فأذعنوا له، واجتمعوا للبيعة، فجلس رسول الله r على الصفا يبايع الناس، وعمر بن الخطاب أسفل منه، يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا‏.‏

وقد روى أن النبي r لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر قاعد أسفل منه، يبايعهن بأمره، ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة، خوفاً من رسول الله r أن يعرفها؛ لما صنعت بحمزة، فقال رسول الله r:( ‏أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئا‏)‏، فبايع عمر النساء على ألا يشركن بالله شيئا فقال رسول الله r ‏:‏ ‏(‏ولا تسرقن‏)‏ فقالت هند‏:‏ إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أنا أصبت من ماله هنات‏؟‏ فقال أبو سفيان‏:‏ وما أصبت فهو لك حلال، فضحك رسول الله r وعرفها، فقال‏:‏ ‏(‏وإنك لهند‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏ولا يزنين‏)‏‏.‏ فقالت‏:‏ أو تزني الحرة‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏ولا يقتلن أولادهن‏)‏‏.‏ فقالت‏:‏ ربيناهم صغارا، وقتلناهم كبارا، فأنتم وهم أعلم ـ وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدرـ فضحك عمر حتى استلقى فتبسم رسول الله r ‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يأتين ببهتان‏)‏ فقالت‏:‏ والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏ولا يعصينك في معروف‏)‏ فقالت‏:‏ والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك‏.‏

ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول‏:‏ كنا منك في غرور‏.‏

وفي رواية: جاءت هند بنت عتبة فقالت‏:‏ يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يغزوا من أهل خبائك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وأيضا، والذي نفسي بيده‏)‏ قالت‏:‏ يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا أره إلا بالمعروف‏)‏‏.‏

وأقام رسول الله r بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالم الإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الآيام أمر أبا أسيد الخزاعي، فجدد أنصاب الحرم، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة، فكسرت كلها[151]، ونادى مناديه بمكة‏:‏ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره‏.‏

غزوة حنين:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة حنين[152]، تلك الغزوة التي قادها r في 10 شوال سنة ثمان من الهجرة (فبراير سنة 630م)

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو أنه لما فتح الله مكة على رسوله والمؤمنين، وخضعت له قريش، خافت هوازن وثقيف، وقالوا: قد فرغ محمد لقتالنا، فلنغزه قبل أن يغزونا، وأجمعوا أمرهم على هذا، وولوا عليهم مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه هوازن، وثقيف وبنو هلال، ولم يحضرها من هوازن كعب وكلاب.

بل قيل: إنهم كانوا يستعدون للقتال قبل فتح مكة، وذلك حين سمعوا بخروج رسول الله r من المدينة، وهم يظنون أنه إنما يريدهم فأسندوا الرياسة والقيادة إلى مالك بن عوف أحد بني نصر، فاجتمع إليه من القبائل جموع كثيرة منهم بنو سعد بن بكر وهم الذين كان رسول الله r مسترضعاً فيهم، ومعهم دُرَيد بن الصِّمَّة رئيس بني جُشَم وسيدهم وكان شجاعاً مجرباً لكنه كان شيخاً كبيرا قد عمي وصار لا ينتفع إلا برأيه وخبرته ومعرفته بالحروف، وكان قائد ثقيف كنانة بن عبد ياليل وقد أسلم بعد ذلك.

 وكان جملة من اجتمع من بني سعد وثقيف 4000 وانضم إليهم من سائر العرب جموع كثيرة وكان مجموعهم كلهم نحو 30.000 مقاتل، وقيل: 20.000 وكانت هوازن رماة.

 وكان مع النبي r 12.000 مقاتل، منهم 10.000 الذين جاءوا معه من المدينة لفتح مكة و2000 من الذين أسلموا في فتح مكة.

وروي أنه ذكر لرسول الله r عند عزمه على الخروج أن عند صفوان بن أمية دروعاً وسلاحاً فأرسل إليه فأعطاه مئة درع بما يكفيها من السلاح، وفي رواية 400 درع وسأله رسول الله r أن يكفيهم حملها إلى موضع القتال ففعل، واستعار أيضاً من نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عمه r 3000 رمح وقال: كأني أنظر إلى رماحك هذه تقصف ظهر المشركين.

وقد خرج رسول الله r من مكة يوم السبت لست خلون من شوال سنة ثمان من الهجرة (28 يناير سنة 630 م)، وأهل مكة معه ركباناً ومشاة حتى النساء ومن لم يكمل إسلامه، استعمل رسول الله r عَتّاب بن أسيد بن العيص على مكة أميراً، وكان شاباً وترك مُعاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي يعلِّم الناس الأحكام والشرائع.

ولما اقترب رسول الله r لى من مكان العدو رتب أصحابه وصفَّهم ووضع الألوية والرايات من المهاجرين والأنصار، ورتَّب قبائل العرب ووزع عليهم الألوية والرايات ولبس رسول الله r درعين والبيضة والمغفر وقدم سليماً من يوم خرج من مكة واستعمل عليهم خالد بن الوليد فلم يزل في مقدمته حتى ورد الجعرانة.

 وكان قد أرسل مالك بن عوف رئيس هوازن ثلاثة نفر من الجواسيس ينظرون إلى جيش المسلمين، فرجعوا خائفين ونصحوا بالعودة فرماهم بالجبن وحبسهم عنده خوفاً أن يشيعوا ذلك في جيشه فتثبط هممهم وتخور عزائمهم.

 وفي المقابل أرسل رسول الله r رجلاً من أصحابه وهو عبد الله بن أبي حَدْرد الأسلمي وأمره أن يدخل في جيش العدو ويسمع منهم ما أجمعوا عليه فمكث يوماً أو يومين، ثم أتى النبي r وأخبره أنه انتهى إلى خباء مالك بن عوف وعنده رؤساء هوازن فسمعه يقول لأصحابه: إن محمداً لم يقاتل يوماً قط قبل هذه المرة، وإنما كان يلقي قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب، فيظهر عليهم، فإذا كان السحر فصفوا مواشيكم ونساءكم وأبناءكم من ورائكم، ثم صفوا، ثم تكون الحملة منكم واكسروا أغماد سيوفكم فتلقونه بعشرين ألف سيف، واحملوا حملة رجل واحد واعلموا أن الغلبة لمن حمل أولاً.

 ولما كان رسول الله r بحنين وانحدر في الوادي، وذلك عند غبش الصبح خرج عليهم القوم، وكانوا قد كمنوا لهم في شعاب الوادي ومضايقه عملاً بإشارة دريد بن الصمة، فحمل عليهم المسلمون، فانكشفوا ثم انشغلوا بالغنائم، مثلما حصل في غزوة أُحد.

وفي هذه الغزوة لما انشغل المسلمون بالغنائم استقبلهم العدو بالسهام، فعادوا منهزمين لا يلوي أحد على أحد، وانكشفت خيل بني سليم مولِّية وكانت مع النبي r وأصحابه فتبعهم أهل مكة والناس فانهزموا، وكانت هوازن رماة.

وقد ثبت رسول الله r في هذه الموقف الشديد كما ثبت في غزوة أُحُد وكان ثباته سبباً في كسب الموقعة، فإنه انحاز ذات اليمين ومعه نفر قليل قيل: إنهم لم يبلغوا مئة وكان رسول الله r يركض وهو على بغلته نحو هوازن وهو يقول:( أنا النبيُّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)

وأخذ كفاً من تراب فرماه في وجوه العدو قائلاً:( شاهت الوجوه)، فانهزموا، وهذا الرمي وقع مثله في غزوة بدر وهو من معجزاته الحسية [153].

ولما ثبت رسول الله r ولم يبق معه إلا بعض أصحابه، قال لعمه العباس: اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السَّمُرَة، وكان العباس عظيم الصوت، وفي رواية: قال له: ناد يا أصحاب البيعة يوم الحديبية، يا أصحاب سورة البقرة، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنَت على أولادها فأمرهم أن يصدقوا الحملة على العدو، فاقتتلوا قتالاً شديداً فنظر إلى قتالهم فقال:( الآن حمي الوطيس)، فولى المشركون الأدبار والمسلمون يقتلون ويأسرون فيهم ويتبعون آثارهم وقتل بعض المسلمين ذرية العدو، فنهاهم رسول الله r عن قتل الذرية وقال:( من قتل قتيلاً فله سلبه)، وجُرح خالد بن الوليد جراحات أثقلت به، فتفل النبي r في جرحه فبرىء، ولما وقعت الهزيمة أسلم الناس من كفار مكة وغيرهم.

 ثم قدم وفد هوازن على النبي r وهم أربعة عشر رجلاً ورأسهم زهير بن صرد وفيهم أبو برقان عم رسول الله من الرضاعة وهو من بني سعد، وقد جاءوا مسلمين فسألوه أن يمن عليهم بالسبي، فرضي رسول الله r ورضي المسلمون بما رضي به رسول الله r وردّوا عليهم نساءهم وأبناءهم ولم يختلف منهم أحد غير عيينة بن حصن، وكان من الأعراب الجفاة، فإنه أبى أن يرد عجوزاً صارت في يده منهم، ثم ردها بعد ذلك ووفد عليه r مالك بن عوف رئيس هوازن فرد عليه أهله وماله وأعطاه مئة من الإبل وأسلم وحسن إسلامه واستعمله رسول الله r على من أسلم من قومه.

ولما رأت الأنصار ما أعطى رسول الله في قريش والعرب تكلموا في ذل وقالوا: حنَّ الرجل إلى أهله، فقال رسول الله:( يا معشر الأنصار أما ترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟) قالوا: رضينا يا رسول الله بك حظاً وقسماً، فقال رسول الله r:(اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)

وقد أنزل الله تعالى في هذه الموقعة قوله:﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جَزَآء الْكَفِرِينَ ﴾ (التوبة: 25، 26)

ولما فرغ رسول الله r من حُنين بعث أبا عامر الأشعري خلف الفارين من هوازن، وكان المنهزمون قد انقسموا ثلاث فرق: فرقة منهم لحقت بالطائف، وفرقة بنخلة، وفرقة بأوطاس، فانتهى إليهم أبو عامر فإذا هم مجتمعون فناوشوه القتال وقتل منهم أبو عامر تسعة مبارَزة بعد أن يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام، وأفلت منه العاشر، ثم استشهد أبو عامر، ثم خلف أبا عامر أبو موسى باستخلاف عمر له فأقره الناس فقاتل القوم حتى هزمهم وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا.

غزوة الطائف:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة الطائف، تلك الغزوة التي قادها r في شوال سنة ثمان من الهجرة (فبراير سنة 630 م)

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو أن مالك بن عوف وجمعاً من أشراف قومه لحقوا بالطائف عند انهزامهم في حنين، وقد كانت ثقيف رَمّوا حصنهم، وأدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم وأغلقوه عليهم، وتهيأوا للقتال، وكان معهم مالك بن عوف النضري.

وسار رسول الله r، فنزل قريباً من حصن الطائف وعسكر هناك، فرموا المسلمين بالنبل رمياً شديداً حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلاً.

فارتفع رسول الله r إلى موضع مسجد الطائف الذي أنشىء بعد ذلك، ودام حصار الطائف ثمانية عشر يوماً، ونصب عليهم المنجنيق ونثر الحسَك سقبين من عيدان حول الحصن ونادى منادي رسول الله r: أيما عبد نزل من الحصن وخرج لنا فهو حر، فخرج منهم بضعة عشر رجلاً فأعتقهم رسول الله r.

ثم أمر رسول الله r برفع الحصار، وكانت حكمته r في رفع الحصار واضحة؛ فالمنطقة المحيطة بها لم تعد تابعة لها، بل صارت ضمن سيادة المسلمين، ولم تعد تستمد قوتها إلا من امتناع حصونها، فحصارها ورفعه سواء أمام القائد المحنك، وقد استشار رسول الله r من حوله في عملية الحصار، فقال نوفل بن معاوية الديلي: ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك، فأمر رسول الله r ابن الخطاب فأذن في الناس بالرحيل، فضج الناس من ذلك وقالوا: نرحل، ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله r:( فاغدوا على القتال)، فغدوا، فأصبت المسلمين جراحات، فقال رسول الله r:(إنا قافلون غدا إن شاء الله)، فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله r يضحك، فلما ارتحلوا واستقلوا، قال:( قولوا: آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون)، وقيل: يا رسول الله، ادع الله على ثقيف، فقال:( اللهم اهد ثقيفًا وائت بهم)

وقد استعمل النبي r في حصاره للطائف أسلحة جديدة لم يسبق له أن استعملها من قبل.

منها المنجنيق، وهو من أسلحة الحصار الثقيلة ذات التأثير الفعال على من وجهت إليه، فبحجارته تهدم الحصون والأبراج، وبقنابله تحرق الدور والمعسكرات، وهذا النوع يحتاج إلى عدد من الجنود في إدارته واستخدامه عند القتال.

ومنها الدبابة، وهي من أسلحة الحصار الثقيلة التي استعملها الرسول r لأول مرة في حصار الطائف، وهي على شكل بيت صغير تعمل من الخشب وتتخذ للوقاية من سهام الأعداء، عندما يراد نقض جدار الحصن، بحيث إذا دخلها الجنود كان سقفها حرزًا لهم من الرمي.

ومنها الحسك الشائك، وهو من وسائل الدفاع الثابتة، ويعمل من خشبتين تسمران على هيئة الصليب، حتى تتألف منهما أربع شعب مدببة، وإذا رمى في الأرض بقيت شعبة منه بارزة تتعثر بها أقدام الخيل والمشاة، فتتعطل حركة السير السريعة المطلوبة في ميدان القتال.

بعث قيس بن سعد إلى صُدَاء:

 أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى بعث رسول الله r قيس بن عبادة الخزرجي إلى صداء[154] ناحية اليمن بعد انصرافه من الجعرانة.

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أنها من البعوث التي توجهت للدعوة إلى الله، وتوحيد الجزيرة العربية.

فقد أرسل رسول الله r قيسا في 400 رجل، وأمره أن يدعو قبيلة صُداء إلى الإسلام أو الطاعة، فقدم زياد بن الحارث الصدائي، فسأل عن ذلك البعث فأخبره به فقال: يا رسول الله أنا وافدهم إليك، فاردد الجيش وأنا أتكفل بإسلام قومي وطاعتهم، فقال: اذهب إليهم فردّهم، فقال: إن راحلتي قد كلت فبعث r إليهم فردهم ورجع الصدائي إلى قومه فقدموا بعد خمسة عشر يوماً فأسلموا.

وقيل: كتب إليهم فجاء وفدهم بإسلامهم فقال رسول الله r:( إنك مطاع في قومك يا أخا صداء)، فقال: بل الله هداهم، قال: ألا تؤمرني عليهم؟ قال: بلى ولا خير في الإمارة لرجل مؤمن، فتركها وأمره رسول الله r أن يؤذن في صلاة الفجر، فأذن فأراد بلال أن يقيم، فقال رسول الله: إن أخاً صداء ومن أذن فهو يقيم.

سرية عيينة بن حصن الفزاري:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى تميم في المحرم سنة تسع من الهجرة (أبريل سنة 630 م)

فإن كان كذلك، فليعلم أن سببها أن رسول الله r بعث بشر بن سفيان العدوي الكلبي إلى بني كعب من خزاعة لأخذ صدقاتهم، وكانوا مع بني تميم على ماء، فأخذ بشر صدقات بني كعب، فقال لهم بنو تميم وقد استكثروا ذلك: لم تعطونهم أموالكم؟ فاجتمعوا وانتهزوا السلاح ومنعوا بشراً من أخذ الصدقة، فقال لهم بنو كعب: نحن أسلمنا ولا بد في ديننا من دفع الزكاة، فقال بنو تميم: والله لا ندع بعيراً واحداً يخرج.

فلما رأى بشر ذلك قدم المدينة وأخبر النبي r بذلك، فبعث رسول الله عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم في خمسين فارساً من العرب ليس فيهم مُهاجري ولا أنصاري، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم في صحراء، فدخلوا وسرحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولّوا وأخذ منهم أحد عشر رجلاً ووجدوا في المحلة إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبياً فجلبهم إلى المدينة، فأمر بهم رسول الله r فوضعوا في دار رملة بنت الحارث، فقدم فيهم عدة من رؤسائهم[155]، فلما رأوهم بكى إليهم النساء والذراري، فعجلوا فجاءوا إلى باب النبي r وكلموه في شأن السبي فرد عليهم رسول الله r سبيهم.. وقد أسلموا وبقوا في المدينة مدة يتعلمون الإسلام.

سرية قطبة بن عامر:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية قطبة بن عامر التي أرسلها رسول الله r إلى خثعم في صفر سنة تسع من الهجرة.

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أنها من السرايا التأديبية التي أرسلها r ليوطد الأمن والوحدة في الجزيرة العربية.

وقد خرج قطبة في عشرين رجلاً على عشرة أبعرة يعتقبونها، فشن الغارة، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعاً، وقتل قطبة مع من قتل‏

سرية علقمة بن مجزز المدلجي:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية  علقمة بن مجزِّز المدلجي إلى الحبشة في شهر ربيع الأول سنة تسع من الهجرة (يوليه سنة 630 م)

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو أن رسول الله r بلغه أن أناساً من الحبشة ثار بهم أهل جدة، فبعث إليهم علقمة بن مجزز في ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة في البحر، وقد خاض إليهم البحر فهربوا منه.

فلما رجع تعجل بعض القوم إلى أهلهم قبل بقية الجيش، فأذن لهم فتعجل عبد الله بن حذافة السهمي فيهم فأمّره على من تعجل[156].

سرية علِيّ بن أبي طالب:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى السرية التي أرسل فيها r علِيّ بن أبي طالب إلى الفُلُس[157] ليهدمه، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة تسع من الهجرة.

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو ما قصده r من تطهير جميع بلاد العرب من جميع مظاهر الشرك.

وقد أرسله r في 150 رجلاً من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموا الفلس، وخرّبوه، وقدموا بسبي للمدينة، وكان فيه سَفانة بنت حاتم الطائي وأخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام.

ولما جـاءوا إلى المدينة استعطفت أخـت عـدي بـن حاتم رسول اللّه r، قائلـة‏:‏ يا رسول اللّه، غاب الوافد، وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة، ما بي من خدمة، فمُنَّ على، منّ اللّه عليك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏من وافدك‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ عدي بن حاتم،‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الذي فر من اللّه ورسوله‏؟‏‏)‏ ثم مضي، فلما كان الغد قالت مثل ذلك، وقال لها مثل ما قال أمس‏.‏ فلما كان بعد الغد قالت مثل ذلك، فمن عليها، وكان إلى جنبه رجل ـ تري أنه على ـ فقال لها‏:‏ سليه الحِمْلان فسألته فأمر لها به‏.‏

ورجعت أخت عدي بن حاتم إلى أخيها عدي بالشام، فلما لقيته قالت عن رسول الله r ‏:‏ لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، ائته راغباً أو راهباً، فجاءه عدي بغير أمان ولا كتاب‏.‏ فأتي به إلى داره، فلما جلس بين يديه حمد اللّه وأثني عليه، ثم قال‏:‏ ما يُفِرُّكَ‏؟‏ أيُفِرُّك أن تقول‏:‏ ‏(‏لا إله إلا اللّه‏؟‏ فهل تعلم من إله سوى اللّه‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لا‏.‏ ثم تكلم ساعة ثم قال‏:‏ ‏(‏إنما تفر أن يقال‏:‏ اللّه أكبر، فهل تعلم شيئاً أكبر من الله‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصاري ضالون‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فإني حَنِيف مسلم، فانبسط وجهه فرحاً، وأمر به فنزل عند رجل من الأنصار، وجعل يأتي النبي r طرفي النهار‏.‏

وفي رواية عن عدي‏:‏ أن النبي r لما أجلسه بين يديه في داره قال له‏:‏ ‏(‏إيه يا عدي بن حاتم، ألم تكن رَكُوسِيّا‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ بلي، قال‏:‏ ‏(‏أو لم تكن تسير في قومك بالمِرْبَاع‏؟‏‏)‏‏.‏قال‏:‏ قلت‏:‏ بلي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن ذلك لم يحل لك في دينك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ قلت أجل واللّه‏.‏ قال‏:‏ وعرفت أنه نبي مرسل، يعرف ما يُجْهَل‏.‏

وفي رواية ‏:‏ أن النبي r قال‏:‏ ‏(‏يا عدي، أسلم تسلم‏)‏‏.‏ فقلت‏:‏ إني من أهل دين‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أنا أعلم بدينك منك‏)‏‏.‏ فقلت‏:‏ أنت أعلم بديني مني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك‏؟‏‏)‏ فقلت‏:‏ بلي، قال‏:‏ ‏(‏فإن هذا لا يحل لك في دينك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فلم يعد أن قالها فتواضعت لها‏.‏

وروي عنه أنه قال‏:‏ بينا أنا عند النبي r إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال‏:‏ ‏(‏يا عدي، هل رأيت الحيرة‏؟‏ فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحداً إلا اللّه، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسري، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، ويطلب من يقبله فلا يجد أحداً يقبله منه‏‏‏)‏ الحديث.. قال عدي‏:‏ فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا اللّه‏.‏ وكنت فيمن افتتح كنوز كسري بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم r ‏:‏ ‏(‏يخرج ملء كفه‏)‏‏.‏

غزوة تبوك:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة تبوك[158].. أو غزوة العُسرة[159].. أو الغزوة الفاضحة[160].. والتي كانت في رجب سنة تسع من الهجرة (سبتمبر - أكتوبر سنة 630 م)

فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو أن الأنباء وصلت للنبي r من الأنباط الذين يأتون بالزيت من الشام إلى المدينة بأن الروم جمعت جموعا كثيرة، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من مستنصرة العرب، وجاءت في مقدمتهم إلى البلقاء، فأراد النبي r أن يسبقهم قبل أن يغزوه[161].

وليس في هذا السبب أي غرابة، فانضواء جزيرة العرب تحت لواء الإسلام، وبروز الرسول r كموحد للعرب وظهوره كحاكم  ديني وسياسي وعسكري،  وانتشار الإسلام كعقيدة سماوية انتشاراً واسعاً.. كل ذلك أخذ يقلق الإمبراطورية البيزنطية، فتحركت كوامن الغيرة الدينية والحسد لتك الانتصارات الباهرة.. لذلك رأت بيزنطة أن تهب مسارعة إلى القضاء على هذا الخطر الجديد قبل استفحاله، وأخذ قيصر الروم يعد العدة للقيام بحملة عسكرية على الجزيرة العربية عن طريق سورية بهدف القضاء على المسلمين.

وقد وصلت الرسول r أخبار عن تلك الحملة، وأن عدداً من القبائل المسيحية انضمت إلى الروم لقتال المسلمين، ولذا سارع إلى إعداد جيش لملاقاة العدو عند الحدود الفاصلة بين الجزيرة العربية وسورية، تم تجهيزه على جناح السرعة وقوامه 30 ألف مقاتل بينهم عشرة آلاف فارس، كما انضم إليه الكثير من القبائل العربية أثناء مسيرته، مما دفع الروم إلى العدول عن حرب المسلمين، كما فر رؤساء القبائل المسيحية حين يئسوا من وصول الحملة البيزنطية، وبعدها صالحوا الرسول، وأبدوا استعدادهم لدفع الجزية وعقد معاهدة معه، إذ أدركوا أن قوة الإسلام جعلت دولة الروم العظمى تخشى مواجهتها.

سرية خالد بن الوليد:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى السرية التي بعث فيها رسول الله r خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب بنجران في شهر ربيع الأول سنة عشر (يونية سنة 631 م)

فإن كان كذلك، فليعلم أنها من السرايا التي أرسلها r لنشر الدعوة، وإخضاع جميع الجزيرة العربية لقوانين العدالة التي جاء بها الإسلام.

وقد أرسل رسول الله r في هذه المهمة خالدا بعد أن امتنعت هذه القبيلة دون سائر القبائل من الانضمام تحت الواء المسلمين، وقد أمره r أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثاً، فإن استجابوا لك فاقبل منهم وأقم فيهم وعلمهم كتاب الله وسنّة نبيّه ومعالم الإسلام، فإن لم يفعلوا فقاتلهم..

انتفض دوج، وصاح: ها هو محمد إذن ينشر الإسلام بالقوة.

قال الحكيم: ما كان لمحمد r أن ينشره بالقوة، فيخالف قوله تعالى:﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256)

ويخالف بعدها كل القرآن الكريم الذي يعتبر الإيمان هبة من الله، ولا يمكن لأحد أن يستكره عليه.

قال دوج: فما معنى ما ذكرت؟

قال الحكيم: أنت تعلم أن الإسلام ينطوي على جانبين: قضايا عقدية، لا ينفع في الإيمان بها إلا اليقين الجازم من غير إكراه، ويتبع هذا النوع من القضايا كل التعبدات المرتبطة بها والمسلمة لها.

أما النوع الثاني، فهو القوانين المنطمة للحياة، ويدخل فيها جميع ما يشرع من قوانين ترتبط بالمجتمع والدولة.. وهذا ما أراد به r من إرسال الرسل.. فهي رسل تدعو إلى الخضوع إلى قوانين الإسلام، ونبذ تلك القوانين التي كانت تحكم تلك القبائل، والتي كانت تملأ حياتها بالخوف والاضطراب.

قال رجل من الجماعة: فما فعل خالد.. وهل نجح في مهمته؟

قال الحكيم: لقد خرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يدعون الناس إلى الإسلام، ويقولون: يا أيها الناس، أسلموا تسلموا، فأسلم الناس ودخلوا فيما دعاهم إليه، فأقام خالد فيهم يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنّة نبيّه، ثم كتب خالد إلى رسول الله r:( بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد النبي رسول الله r من خالد بن الوليد، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد يا رسول الله صلى الله عليك فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة، وأن أدعوهم إلى الإسلام، إن أسلموا قبلت منهم وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنّة نبيّه وإن لم يسلموا قاتلتهم، وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله r وبعثت فيهم ركباناً: يا بني الحارث أسلموا تسلموا فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم وآمرهم بما أمرهم الله به وأنهاهم عما نهاهم الله عنه وأعلمهم معالم الإسلام وسنّة النبي r حتى يكتب إليّ رسول الله r والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته)

فكتب إليه رسول الله r:( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد، سلام عليك، فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو: أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسلك بنجران أن بني الحارث قد أسلموا قبل أن يقاتلوا وأجابوا ما دعوتهم إليه من الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن قد هداهم الله بهداه فبشرهم وأنذرهم وأقبل وليقبل معك وفدهم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته)

فأقبل خالد بن الوليد إلى رسول الله r، وأقبل وفد بني الحارث بن كعب معه.

بعث عليّ بن أبي طالب:

أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى البعث الذي بعث فيه رسول الله r عليّ بن أبي طالب إلى إلى اليمن في شهر رمضان سنة عشر (ديسمبر سنة 631 م)

فإن كان كذلك، فليعلم أنها من السرايا التي أرسلها r لنشر الدعوة، وإخضاع إلى اليمن لقوانين الدولة الإسلامية الجديدة، وقد خرج عليّ ـ رضي الله عنه ـ في 300 فارس، فلما انتهى إلى تلك الناحية لقي جمعهم، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا المسلمين بالنبل والحجارة، وخرج منهم رجل من مَذْحِج يدعو إلى المبارزة، فبرز إليه الأسود بن خزاعي، فقتله الأسود، ثم صفَّ عليّ ـ رضي الله عنه ـ أصحابه ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان، فقتل منهم نحو عشرين رجلاً، فتفرقوا وانهزموا، فكف عن طلبهم قليلاً، ثم دعاهم إلى الإسلام، فأسرعوا وأجابوا وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام.

وقد كان رسول الله r بعث قبل ذلك علياً ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن سنة ثمان، وهو أول بعث إلى اليمن بعد فتح مكة، وبعثه إلى همدان، فأسلمت جميعاً فكتب عليٌّ إلى رسول الله r بإسلامهم، فلما قرىء الكتاب خرّ ساجداً، ثم رفع رأسه، وقال: السلام على همدان، أما البعث الثاني فكان في رمضان سنة عشر إلى مذ حج.

***

التفت الحكيم إلى دوج، وقال: هذه هي السيوف التي اضطر r إلى استعمالها لخدمة الأهداف الشريفة التي كلفه الله بالقيام بها.

قال دوج: ألا ترى كثرتها؟

قال الحكيم: لو أنك ذهبت إلى دوائر الشرطة في أي بلدة من بلاد العالم لوجدت كل يوم آلاف السرايا التي ترسل لتأديب المجرمين وبسط الأمن.. أم أنك تعتبر ما تمارسه الشرطه ـ من ذلك ـ إرهابا؟

قال دوج: فقد كان نبيكم شرطيا إذن لا نبيا؟

قال الحكيم: لقد شاء الله أن يجعل من محمد r نموذجا للإنسان الكامل الذي اجتمعت فيه كل خلال الرحمة والكرم والطيبة والإنسانية.. لقد كان رحمة مهداة..

قاطعه دوج قائلا: وهل للرحمة سيف؟

قال الحكيم: إذا وقف في وجه الرحمة المجرمون وقطاع الطرق لم يكن هناك بد من استعمال الرحمة للسيوف.. لأنه إن لم يستعمل أهل الرحمة السيف استعمله أهل القسوة، وملأوا به عباد الله هلاكا، وملأوا به بلاد الله دمارا.

قال دوج: لقد زعمت أن منبع إرسال تلك السيوف هو خلال محمد الطيبة.

قال الحكيم: أجل.. فقد كان في إمكانه أن يعيش حياة رخية في بيته، وبين أصحابه، ولكنه لم يفعل.. لقد ظل يجاهد في سبيل نشر قيم الرحمة والعدالة والإيمان إلى أن توفاه الله..

بل إنه ـ وهو في احتضاره ـ كان يجهز جيشا لتحرير المستضعفين في الشام من قهر البيزنطيين[162].

 ولولا ما قام به من تلك الجهود.. ولولا ما قام به أصحابه من بعده.. ما انتشرت في الأرض تلك القيم النبيلة التي وقف المستبدون حصونا منيعة دون انتشارها.

ولم يكن هناك بد من تقويض تلك الحصون، ليمنح للمستضعفين الحرية والأمن والسلام[163].

3 ـ أخلاق الحرب

أشاح الحكيم بوجهه عن اللوحة، وقال: دعنا من هذه اللوحة الآن.. فنحسب أنا شرحناها بما يكفي.. ولنبحث في الركن الثالث من الأركان التي أسسنا عليها حديثنا.. لعلكم تذكرونه.

قال رجل من الجمع: أجل.. لقد ذكرت أنه النظر في الأخلاق التي صاحبت حروب محمد.. والتي صاحبت حروب غيره.

قال الحكيم: أجل.. فالأخلاق عند أصحاب الفطر السليمة هي الأساس الذي يحكم من خلاله على الأشياء..

ويسرني قبل أن أبدا في ذكر الأخلاق التي انصبغت بها حروب محمد r أن أقرأ بعض النصوص من الكتاب المقدس.. ذلك الكتاب الذي يحاكمنا به هؤلاء القضاة.

لقد جاء فيه:( فَحَرَّمْنَاهَا كَمَا فَعَلنَا بِسِيحُونَ مَلِكِ حَشْبُونَ مُحَرِّمِينَ كُل مَدِينَةٍ: الرِّجَال وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَال. لكِنَّ كُل البَهَائِمِ وَغَنِيمَةِ المُدُنِ نَهَبْنَاهَا لأَنْفُسِنَا) (تثنية 3: 6- 7)

وفيه:( فَضَرْباً تَضْرِبُ سُكَّانَ تِلكَ المَدِينَةِ بِحَدِّ السَّيْفِ وَتُحَرِّمُهَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مَعَ بَهَائِمِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ تَجْمَعُ كُل أَمْتِعَتِهَا إِلى وَسَطِ سَاحَتِهَا وَتُحْرِقُ بِالنَّارِ المَدِينَةَ وَكُل أَمْتِعَتِهَا كَامِلةً لِلرَّبِّ إِلهِكَ فَتَكُونُ تَلاًّ إِلى الأَبَدِ لا تُبْنَى بَعْدُ) (تثنية 13: 15- 17)

وفيه:( حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِتُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا لِلصُّلحِ فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلى الصُّلحِ وَفَتَحَتْ لكَ فَكُلُّ الشَّعْبِ المَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لكَ. وَإِنْ لمْ تُسَالِمْكَ بَل عَمِلتْ مَعَكَ حَرْباً فَحَاصِرْهَا. وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي المَدِينَةِ كُلُّ غَنِيمَتِهَا فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ التِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. هَكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ المُدُنِ البَعِيدَةِ مِنْكَ جِدّاً التِي ليْسَتْ مِنْ مُدُنِ هَؤُلاءِ الأُمَمِ هُنَا. وَأَمَّا مُدُنُ هَؤُلاءِ الشُّعُوبِ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيباً فَلا تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَا بَل تُحَرِّمُهَا تَحْرِيماً.. (تثنية 20: 10- 18)

وفيه:( فَهَتَفَ الشَّعْبُ وَضَرَبُوا بِالأَبْوَاقِ. وَكَانَ حِينَ سَمِعَ الشَّعْبُ صَوْتَ الْبُوقِ أَنَّ الشَّعْبَ هَتَفَ هُتَافاً عَظِيماً, فَسَقَطَ السُّورُ فِي مَكَانِهِ, وَصَعِدَ الشَّعْبُ إِلَى الْمَدِينَةِ كُلُّ رَجُلٍ مَعَ وَجْهِهِ, وَأَخَذُوا الْمَدِينَةَ. وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ, مِنْ طِفْلٍ وَشَيْخٍ - حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْفِ.. وَأَحْرَقُوا الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ مَعَ كُلِّ مَا بِهَا. إِنَّمَا الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ وَآنِيَةُ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ جَعَلُوهَا فِي خِزَانَةِ بَيْتِ الرَّبِّ) (يشوع 6: 20- 24)

وفيه:( فَقَامَ الْكَمِينُ بِسُرْعَةٍ مِنْ مَكَانِهِ وَرَكَضُوا عِنْدَمَا مَدَّ يَدَهُ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَأَخَذُوهَا، وَأَسْرَعُوا وَأَحْرَقُوا الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ.. وَكَانَ لَمَّا انْتَهَى إِسْرَائِيلُ مِنْ قَتْلِ جَمِيعِ سُكَّانِ عَايٍ فِي الْحَقْلِ فِي الْبَرِّيَّةِ حَيْثُ لَحِقُوهُمْ, وَسَقَطُوا جَمِيعاً بِحَدِّ السَّيْفِ حَتَّى فَنُوا أَنَّ جَمِيعَ إِسْرَائِيلَ رَجَعَ إِلَى عَايٍ وَضَرَبُوهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. فَكَانَ جَمِيعُ الَّذِينَ سَقَطُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفاً, جَمِيعُ أَهْلِ عَايٍ. وَيَشُوعُ لَمْ يَرُدَّ يَدَهُ الَّتِي مَدَّهَا بِالْحَرْبَةِ حَتَّى حَرَّمَ جَمِيعَ سُكَّانِ عَايٍ. لَكِنِ الْبَهَائِمُ وَغَنِيمَةُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ نَهَبَهَا إِسْرَائِيلُ لأَنْفُسِهِمْ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ يَشُوعَ. وَأَحْرَقَ يَشُوعُ عَايَ وَجَعَلَهَا تَلاًّ أَبَدِيّاً خَرَاباً إِلَى هَذَا الْيَوْمِ. وَمَلِكُ عَايٍ عَلَّقَهُ عَلَى الْخَشَبَةِ إِلَى وَقْتِ الْمَسَاءِ. وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَمَرَ يَشُوعُ فَأَنْزَلُوا جُثَّتَهُ عَنِ الْخَشَبَةِ وَطَرَحُوهَا عِنْدَ مَدْخَلِ بَابِ الْمَدِينَةِ, وَأَقَامُوا عَلَيْهَا رُجْمَةَ حِجَارَةٍ عَظِيمَةً إِلَى هَذَا الْيَوْمِ. حِينَئِذٍ بَنَى يَشُوعُ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ فِي جَبَلِ عِيبَالَ) (يشوع 8: 18 – 30)

وكذلك فعل يشوع بالشعوب الآتية: مَقِّيدَةَ وأَرِيحَا ولِبْنَةَ ولَخِيشَ ولَخِيشَ وحَبْرُونَ ودَبِيرَ وضربهم بحد السيف، وكل نفس بها ولم يبق بها شارداً، بل حرَّم كل نسمة بها كما أمر الرب، ففيه:( فَضَرَبَ يَشُوعُ كُلَّ أَرْضِ الْجَبَلِ وَالْجَنُوبِ وَالسَّهْلِ وَالسُّفُوحِ وَكُلَّ مُلُوكِهَا. لَمْ يُبْقِ شَارِداً, بَلْ حَرَّمَ كُلَّ نَسَمَةٍ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ) (يشوع 10: 28-40)

( ثُمَّ رَجَعَ يَشُوعُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَخَذَ حَاصُورَ وَضَرَبَ مَلِكَهَا بِالسَّيْفِ.. وَضَرَبُوا كُلَّ نَفْسٍ بِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. حَرَّمُوهُمْ. وَلَمْ تَبْقَ نَسَمَةٌ. وَأَحْرَقَ حَاصُورَ بِالنَّارِ. أَخَذَ يَشُوعُ كُلَّ مُدُنِ أُولَئِكَ الْمُلُوكِ وَجَمِيعَ مُلُوكِهَا وَضَرَبَهُمْ بِحَدِّ السَّيْفِ. حَرَّمَهُمْ كَمَا أَمَرَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ) (يشوع 11: 10-12)

وفيه:( فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً, طِفْلاً وَرَضِيعاً, بَقَراً وَغَنَماً, جَمَلاً وَحِمَاراً.. وَأَمْسَكَ أَجَاجَ مَلِكَ عَمَالِيقَ حَيّاً, وَحَرَّمَ جَمِيعَ الشَّعْبِ بِحَدِّ السَّيْفِ. وَعَفَا شَاوُلُ وَالشَّعْبُ عَنْ أَجَاجَ وَعَنْ خِيَارِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمْلاَنِ وَالْخِرَافِ وَعَنْ كُلِّ الْجَيِّدِ, وَلَمْ يَرْضُوا أَنْ يُحَرِّمُوهَا. وَكُلُّ الأَمْلاَكِ الْمُحْتَقَرَةِ وَالْمَهْزُولَةِ حَرَّمُوهَا. وَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى صَمُوئِيلَ:( نَدِمْتُ عَلَى أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ شَاوُلَ مَلِكاً, لأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ وَرَائِي وَلَمْ يُقِمْ كَلاَمِي) (صموئيل الأول 15: 3 - 11)

وهكذا ينص الكتاب المقدس على أن الرب ندم عندما فوجىء بما حدث من شاول، وأنه عفا عن أجاج وعن الجيد من الغنم والبقر والحملان والخراف[164].

سكت قليلا، ثم قال: لعلك تقول بأن هذه النصوص من العهد القديم.. ومسيحية العهد الجديد تختلف كثيرا.. بل تختلف اختلافا جذريا.

إن قلت ذلك.. فإن جميع المسيحيين يقولون بأن الكتاب المقدس لم ينسخ ولا يمكن أن ينسخ … ويستشهدون بقول المسيح: (السموات والأرض تزولان وكلمتى لا تزول )

ومع ذلك، فلا نفتقر في العهد الجديد لمثل هذه النصوص، ففي رسالة بولس إلى العبرانيين يقول:( بِالإِيمَانِ سَقَطَتْ أَسْوَارُ أَرِيحَا بَعْدَمَا طِيفَ حَوْلَهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. بِالإِيمَانِ رَاحَابُ الزَّانِيَةُ لَمْ تَهْلِكْ مَعَ الْعُصَاةِ، إِذْ قَبِلَتِ الْجَاسُوسَيْنِ بِسَلاَمٍ. وَمَاذَا أَقُولُ أَيْضاً؟ لأَنَّهُ يُعْوِزُنِي الْوَقْتُ إِنْ أَخْبَرْتُ عَنْ جِدْعُونَ، وَبَارَاقَ، وَشَمْشُونَ، وَيَفْتَاحَ، وَدَاوُدَ، وَصَمُوئِيلَ، وَالأَنْبِيَاءِ، الَّذِينَ بِالإِيمَانِ قَهَرُوا مَمَالِكَ، صَنَعُوا بِرّاً، نَالُوا مَوَاعِيدَ، سَدُّوا أَفْوَاهَ أُسُودٍ، أَطْفَأُوا قُوَّةَ النَّارِ، نَجَوْا مِنْ حَدِّ السَّيْفِ، تَقَّوُوا مِنْ ضُعْفٍ، صَارُوا أَشِدَّاءَ فِي الْحَرْبِ، هَزَمُوا جُيُوشَ غُرَبَاءَ،  أَخَذَتْ نِسَاءٌ أَمْوَاتَهُنَّ بِقِيَامَةٍ. وَآخَرُونَ عُذِّبُوا وَلَمْ يَقْبَلُوا النَّجَاةَ لِكَيْ يَنَالُوا قِيَامَةً أَفْضَلَ. وَآخَرُونَ تَجَرَّبُوا فِي هُزُءٍ وَجَلْدٍ، ثُمَّ فِي قُيُودٍ أَيْضاً وَحَبْسٍ. رُجِمُوا، نُشِرُوا، جُرِّبُوا، مَاتُوا قَتْلاً بِالسَّيْفِ، طَافُوا فِي جُلُودِ غَنَمٍ وَجُلُودِ مِعْزَى، مُعْتَازِينَ مَكْرُوبِينَ مُذَلِّينَ) (عبرانيين 11: 30 – 36)

التفت الحكيم إلى الجمع، وقال: ألا ترون بولس يقر كل ما ورد في العهد القديم.. ألا ترونه يثني على كل ما فعله أولئك المجرمون من سفك دماء وجرائم حرب.. بل يعتبر كل ذلك تقوى وإيمان وخير…!؟

ليس ذلك فقط.. ففى العهد الجديد:( لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَماً بَلْ سَيْفاً. فَإِنِّي جِئْتُ لِأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ وَالاِبْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا) (متى 10: 34-40)

وفيه:( جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأَرْضِ … أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً. لأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنْقَسِمِينَ: ثَلاَثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ وَاثْنَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ. يَنْقَسِمُ الأَبُ عَلَى الاِبْنِ وَالاِبْنُ عَلَى الأَبِ وَالأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ وَالْبِنْتُ عَلَى الأُمِّ وَالْحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا وَالْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِهَا) (لوقا 12: 49-53)

وفيه:( أَمَّا أَعْدَائِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي) (لوقا 19: 27)

وفيه:( فَقَالَ لَهُمْ: (لَكِنِ الآنَ مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذَلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضاً هَذَا الْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَهُ انْقِضَاءٌ، فَقَالُوا: يَا رَبُّ هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ، فَقَالَ لَهُمْ: يَكْفِي!) (لوقا 22: 36-37)

وفيه:(لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟ وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ؟) (كورنثوس الثانية 6: 14-16)

هذا عن المسيحية.. أما عن الجرائم التي حدثت طيلة عهود التاريخ البشري، فلا يمكن حصرها..

فى مصر قتل جستنيان الأول عام 560م مائتي ألف فى الإسكندرية وحدها من أجل رفضهم اعتناق المسيحية.

وفى النرويج ذبح الملك (أولاف) كل من رفض اعتناق المسيحية.

وفى روسيا فرض فلاديمير عام 988م المسيحية على كل الروس بالقوة.

وفى الجبل الاسود قاد الأسقف الحاكم دانيال بيتروفيتش عملية ذبح غير المسيحيين ليلة عيد الميلاد عام 1703م.

ليس هذا سلوك برابرة تلك العصور فقط.. بل ما زال هذا هو سلوك أهل الحضارة إلى اليوم..

لقد شهد هذا القرن من الحروب التي قامت بها الدول المسيحية، ما شهدت تلك العصور الوسطى، بل وأشد وأقسى.

لقد كتب الأديبان الفرنسيان (كوليت) و(فرانسيس جانسون) يقولان:( لعل العبث بالدين الإسلامى كان المجال المفضل لدى القائد (روفيجو) فقد وقف هذا القائد الفاجر ونادى فى قومه: إنه يلزمه أجمل مسجد فى المدينة ليجعل منه معبداً لإله المسيحيين، وطلب إلى أعوانه اعداد ذلك فى أقصر وقت ممكن)

ووقع الاختيار على جامع كتشاوة، وهو أجمل مساجد الجزائر ويقع فى وسط المدينة وفى قلب الحى الأوروبى. وتحدد ظهر يوم 18 من ديسمبر 1832 لإنجاز هذا العمل وتحقيق رغبة القائد المسيحى.

ففى الميعاد المحدد تقدمت احدى فرق الجيش، وأخذت أهبتها للعمل فى ميدان السودان، وخرجت من بينها فرقة فهاجمت أبواب المسجد بالبلط والفئوس، وإذا داخل المسجد أربعة آلاف مسلم، قتلوا جميعاً، وفى الصباح كانت القرارات قد صدرت وصار المسجد الجامع (كاتدرائية الجزائر)

وما إن انتهى الجنود من هذا العمل حتى استداروا صوب (مسجد القصبة)، فدخله القواد والضباط والجنود، وأقاموا فيه شعائرهم الدينية، حتى إذا انتهى القداس، شرع القساوسة فى تمجيد إله الجيوش وترتيل نشيد الغفران.

وقد انضم القس سوشيه الوكيل العام لأسقف الجزائر إلى هؤلاء الجنود الجهلة وضباطهم العابثين دون أن يستنكر هذه الفعلة النكراء، بل مدح هذه الجرائم، فقد كتب سنة 1839 كتاباً أسماه (رسائل مفيدة ومشوقة عن الجزائر) وجه فيه الكلام إلى عاهل فرنسا، يمتدح فيه القاتل مسيو فاليه ويصفه بالرجل ذى الضمير الحى.

كما كتب الأديبان الفرنسيان (كوليت) و(فرانسيس جانسون) أيضاً وهم لا يرويان عن شاهد، وإنما من واقع تقارير لجان رسمية أو من رسائل مكتوبة بخط قادة أو ضباط يتركون أنفسهم على سجيتها وهم يتحدثون إلى زوجاتهم، أو ذوى قرباهم:

(بناء على تعاليم الجنرال (روفيجو) خرجت قوة من الجنود فى مدينة الجزائر ليلة السادس من أبريل سنة 1832، وانقضت قبيل الفجر على أفراد القبيلة وهم نيام تحت خيامهم، فبغتتهم جميعاً دون أن يستطيع أحد منهم الدفاع عن نفسه، وقد لقى الجميع حتفهم بلا نمييز بين رجل وطفل ولا بين رجل وامرأة، وعاد الفرنسيون من هذه الحملة وهم يرفعون رؤوس القتلى على أسنة رماحهم)

ويقول الجنرال شان جانييه: إن رجاله وجدوا التسلية فى جزر رقاب المواطنين من رجال القبائل الثائرة فى بلدتى (الحواش) و(بورقيقة)

كما جاء فى تقرير رسمى: (إن كل الماشية قد بيعت إلى قنصل الدنمارك، وعرض باقى الغنيمة فى سوق باب عزون، حيث كانت ترى أساور النساء محيطة بمعاصم مقطوعة، وأقراط تتدلى من قطع لحم أدمى، وقد بيعت هذه المصوغات ووزع ثمنها على ذابحى أصحابها، وفى ليل ذلك اليوم أصدر البوليس أوامره إلى أهل المدينة باضاءة الأنوار فى حوانيتهم علامة على الإبتهاج)

وقالت إحدى اللجان الرسمية الفرنسية فى تقرير لها كتبته بعد تحقيق أجرته أثر بعض هذه المذابح: (لقد ذبحنا أناساً كانوا يحملون تراخيصاً بالتنقل، كما قضينا على مناطق بأكملها اتضح فيما بعد أن ضحايانا فيها كانوا أبرياء، وقد حاكمنا رجالاً عرفوا بالقداسة بين عشيرتهم، وآخرين لا تنقصهم صفة الإحترام بين ذويهم لمجرد أنهم مثلوا أمامنا سائلين الرحمة بزملائهم)[165]

وقد كتب المارشال سانت أرنو إلى أهله يقول:( إن بلاد بنى منصر بديعة، وهى من أجمل ما رأيت فى أفريقية، فقراها متقاربة، وأهلها متحابون، لقد أحرقنا فيها كل شىء، ودمرنا كل شىء)

وقد حدث ذات مرة أن ثار الجزائريون أثناء الحرب العالمية الثانية مطالبين بحريتهم، فما كان من البوليس الفرنسى أن تبادل اطلاق النار مع الثائرين بصورة وحشية فى الثامن من مايو سنة 1945، فأعلنت الأحكام العرفية على أثر ذلك، وأقبل الطراد (ديجواى – تراون)، فأمطر مدينة (خزاطة) وابلاً من قنابله الثقيلة، وقامت قوات الجيش بالحملات التأديبية، وشنق الوطنيين من غير محاكمة، وكانت النتيجة أن قتل من الأوربيين 102 قتيلاً على وجه التحديد، أما عدد القتلى من العرب فقد قيل أولاً بصفة رسمية إنه 1500، غير أن الجيش أعلن أنه يتراوح بين 6000 و8000.. ثم جاءت إحصاءات أخرى تقول إن العدد الصحيح 000 20، وبعد إعادة النظر فى حقائق الأمور تبين أن العدد الصحيح هو 000 40 قتيل، وقد أيده القنصل الأمريكى ببيانات من عنده)

وعلى إثر هذه الجرائم الكبرى يأتي القساوسة لينصِّروا اليتامى من أبناء وبنات الشهداء  ـ مثلما حدث تماماً لأبناء وبنات مسلمى البوسنة والهرسك ـ وليقولوا لهم وهم يحشرونهم فى احدى الملاجىء المسيحية: (الله محبة.. وعلى الأرض السلام.. وللناس المسرة)

سكت قليلا، ثم قال: لقد ذكر النقيب الفرنسى (دى ليل) بعض جرائم الحرب التي كان يمارسها رجال الدين المسيحي، فقال:( رأينا غرفاً صغيرة فى حجم جسم الانسان، بعضها عمودى وبعضها أفقى، فيبقى سجين الغرف العمودية واقفاً على رجليه مدة سجنه حتى يموت، ويبقى سجين الغرف الأفقية ممدوداً بها حتى يموت. وتبقى الجثث فى السجن الضيق حتى تبلى. ويتساقط اللحم عن العظم وتأكله الديدان. ولكى تُصرَف الروائح الكريهة المنبعثة من جثث الموتى فتحوا نافذة صغيرة إلى الفضاء الخارجى. وقد عثرنا فى هذه الغرف على هياكل بشرية ما زالت فى أغلالها.

ثم انتقلنا إلى غرف أخرى، فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشرى. كانوا يبدؤون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجياً، حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوق، والدماء الممزوجة باللحم المفروم)

ويستطرد النقيب (دى ليل) قائلاً: ثم عثرنا على صندوق فى حجم رأس الانسان تماماً، يوضع فيه رأس الذى يريدون تعذيبه بعد أن يربطوا يديه ورجليه بالسلاسل والأغلال حتى لا يستطيع الحركة، وفى أعلى الصندوق ثقب تتقاطر منه نقط الماء البارد على رأس المسكين بانتضام، فى كل دقيقة نقطة، حتى يُجَن المعذَّب او يموت.

وآلة أخرى للتعذيب على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة، فكانوا يلقون المُعذَّب فى هذا التابوت، ثم يغلقون بابه المثبَّت فيه سكاكين وخناجر. فإذا أغلق باب التابوت مزَّق جسد المعذَّب وقطعه إرباً إرباً وهو ما زال على قيد الحياة!!

كما عثرنا على آلات كالكلاليب تغرز فى لسان المعذب، ثم تُشَدّ ليخرج اللسان معها، ليقص قطعة قطعة. وكلاليب تغرس فى أثداء النساء وتسحب بعنف حتى تتقطع الأثداء أو تبتر بالسكاكين!!

سكت قليلا، ثم قال: لقد استولت الحبشة على إريتريا المسلمة بتأييد من فرنسا وانجلترا، فماذا قعلت فيها؟ صادرت معظم أراضيها، وأسلمتها لإقطاعيين من الحبشة، كان الإقطاعى والكاهن مخولين بقتل أى مسلم دون الرجوع إلى السلطة، فكان الإقطاعى أو الكاهن يشنق فلاحيه أو يعذبهم فى الوقت الذى يريد ….

فتحت للفلاحين المسلمين سجوناً جماعية رهيبة، يجلد فيها الفلاحون بسياط أكثر من عشرة كيلو جرامات. وبعد إنزال أفظع أنواع العذاب بهم كانوا يُلقوْن فى زنزانات بعد أن تربط أيديهم بأرجلهم، ويتركون هكذا لعشر سنين أو أكثر، وعندما كانوا يخرجون من السجون كانوا لا يستطيعون الوقوف، لأن ظهورهم قد أخذت شكل القوس.

كل ذلك قبل استلام هيلاسيلاسى السلطة فى الحبشة، فلما أصبح امبراطور الحبشة وضع خطة لإنهاء المسلمين خلال خمسة عشر عاما، وتباهى بخطته هذه أمام الكونجرس الأمريكى.

لقد سن تشريعات لإذلال المسلمين منها أن عليهم أن يركعوا لموظفى الدولة وإلا يقتلوا.

وأمر أن تستباح دماؤهم لأقل الأسباب، فقد وجد شُرطياً قتيلاً قرب قرية مسلمة، فأرسلت الحكومة كتيبة كاملة قتلت أهل القرية كلهم وأحرقتهم مع قريتهم، ثم تبين أن القاتل هو صديق المقتول، الذى اعتدى على زوجته.

حاول أحد العلماء وهو الشيخ عبد القادر أن يثور على هذه الإبادة فجمع الرجال، واختفى فى الغابات، فجمعت الحكومة أطفالهم ونساءهم وشيوخهم فى أكواخ من الحشيش والقصب، وسكبت عليهم البنزين وأحرقتهم جميعاً.

ومن قبضت عليه من الثوار كانت تعذبه عذاباً رهيباً قبل قتله، من ذلك إطفاء السجائر فى عينيه وأذنيه، وهتك عرض بناته وزوجته وأخواته أمام عينيه، ودق خصيتيه بأعقاب البنادق.. وجره على الأسلاك الشائكة حتى يتفتت، وإلقاؤه جريحا قبل أن يموت لتأكله الحيوانات الجارحة، بعد أن تربطه بالسلاسل حتى لا يقاوم.

لقد أصدر هيلاسيلاسى أمراً باغلاق مدارس المسلمين، وأمر بفتح مدارس مسيحية، وأجبر المسلمين على إدخال أبنائهم فيها تمهيداً لتنصيرهم.

وفى بنجلاديش قتل الجيش الهندى الذى كان يقوده يهود عشرة آلاف عالم مسلم بعد انتصاره على جيش باكستان سنة 1971، وقتل مائة ألف من طلبة المعاهد الإسلامية وموظفى الدولة، وسجن خمسين ألفاً من العلماء وأساتذة الجامعات، وقتل ربع مليون مسلم هندى هاجروا من الهند إلى باكستان قبل الحرب، وسلب الجيش الهندى ما قيمته 30 مليار روبية من باكستان الشرقية من أموال الناس والدولة.

سكت قليلا يسترجع أنفاسه، وقد ملأت الدموع الطاهرة عينيه، ثم قال: هل تعلمون أيها الجمع المبارك أنه ـ قبل فترة قريبة ـ عُرِضَ اقتراح على هيئة الأمم المتحدة ضد التفرقة العنصرية بجنوب أفريقيا..

هل تتوقعون أن يرفض مثل هذا الاقتراح.. ومع ذلك وقفت هذه الدول المتحضرة التي تسخر من محمد r معارضة هذا الإقتراح[166]، بل وقفت تناصر التفرقة العنصرية، وتعلن العداء لحقوق الإنسان.

هل تعلمون ـ أيها الجمع المبارك ـ أن جزيرة مدغشقر ثارت بعد الحرب العالمية الثانية تطالب بحريتها، فكان جزاء الثائرين أن تحركت القوات الفرنسية، وقتلت من الآهلين ثمانين ألف نفس فى ضربة واحدة.

ونفس الشىء حدث لقبائل (الماو ماو) فى كينيا عندما ثارت تطالب بحريتها فقد أباد الإنجليز أهلها حتى لم يتبق من هذه القبائل سوى 250 أو 300 نفس على الأكثر.

لقد اشتركت الكنيسة الكاثوليكية فى صربيا مع قساوستها ورجال الإكليرك والرهبان وكذلك أعضاء منظمات الشباب الكاثوليك فى المذابح التى لاقاها الأرثوذكس من أهل الصرب فى معسكرات الاعتقال التى كان يشرف عليها القساوسة الكاثوليك وأسفرت عن مقتل 000 700 من الصرب الأرثوذكس و000 90 من اليهود والزيجويتر، على الرغم من علم البابا بما يحدث هناك تبعاً للتقرير المفصل الذى قدمه إليه (بوكون) فى الثامن من أكتوبر لسنة 1942.

يقول أيوجين روستو رئيس قسم التخطيط فى وزارة الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس جونسون لشؤون الشرق الأوسط حتى سنة 1967: يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هى خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية.

ويستطرد قائلاً: لقد كان الصراع محتدما ما بين المسيحية والإسلام من القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة بصورة مختلفة، ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب وخضع التراث الإسلامى للتراث المسيحى.

ويتابع قائلاً: إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هى جزء مكمل للعالم الغربى، فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقى الإسلامى، بفلسفته وعقيدته المتمثلة فى الدين الإسلامى، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف المعادى للإسلام وإلى جانب العالم الغربى والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر لغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها.

***

طأطأ دوج رأسه، ولم يجد ما يجيب، فقال رجل من الجمع متهكما: هلا تفضلت ـ حضرة الفنان البارع ـ فرسمت لنا صورة بالجرائم التي وقعت فيها هذه الأمم المتحضرة؟

ضحك آخر، وقال: ومن يملك ثمن اللوح الذي يرسم فيه صورة ذلك..؟

قال آخر: وبأي آلة يمكن أن يحملها..؟

قال آخر: وأي مداد هذا الذي يكفي لتصويرها؟

قال الحكيم: لقد نسي هؤلاء قول المسيح:( من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها بحجر).. فراحوا  ـ وهم الملطخون بجميع الجرائم ـ يرمون الطهر والنبل والكرم والسماحة بكل ما امتلأت به نفوسهم من أحقاد.

قال رجل من الجمع: حدثتنا عن أخلاقهم، فحدثنا عن أخلاق محمد في حروبه.

قال الحكيم: حتى نختصر حديثنا، فسنتحدث عن ناحيتين ترتبطان بكل حروب الدنيا، لنرى أنواع الأخلاق التي صاحبتهما في حروب محمد r، وفي حروب غيره.

وهما: الدوافع التي دفعت للحرب، والوسائل التي استعملت فيها.

دوافع:

قال رجل من الجمع: لقد حدثتنا بتفصيل عن الأسباب التي دفعت محمدا إلى حروبه.

قال الحكيم: يجمع كل ما ذكرناه من تفتصيل سببان:

1 ـ الدفاع:

أما السبب الأول، فهو الدفاع عن النفس، وقبلها عن المبادئ.. ولذلك كان المؤمنون يقدمون أنفسهم قرابين للمبادئ النبيلة التي يحملونها.

لقد ذكر القرآن الكريم هذا السبب، واعتبره مبررا لحمل السيوف، فقال:﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج:39)

التفت إلى دوج، وقال: اذهب.. وابحث ـ بعقل وحكمة ـ في أكثر الغزوات التي غزاها النبي r تجد هذا السبب هو الدافع الأساسي لخوض تلك الغزوات..

وعندما تفرض الحرب على إنسان، فهو بين أمرين:

إما الاستسلام.. وبالاستسلام تموت المبادئ، وينتصر الظلم والاستبداد.. ولو فعل محمد r ذلك لرحت ترسم لوحة بجبن المسلمين وخوفهم وتزلزل أقدامهم أمام أعدائهم.

وإما قبول الحرب المفروضة.. وهذا ما فعله المسلمون.. وقد كتب الله لهم النصر، لأنهم لم يكن لهم هدفهم في حروبهم إلا الدفاع ونصرة الحق الذي يحملونه، وقد شهد الله تعالى لهم بذلك، فقال:﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾ (النساء:76)

2 ـ الخلاص:

أما السبب الثاني، فهو الخلاص.. لقد كان الدافع الذي دفع المسلمون في حروبهم جميعا ـ حتى الدفاعية منها ـ هو تخليص المستضعفين من قيود المستكبرين.. لقد ذكر الله هذا الدافع، فقال:﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)﴾(النساء: 75)

لقد أراد رسول الله r من تلك الغزوات والسرايا كسر شوكة السلطات الطاغية والمتجبرة التي كانت تحكم تلك البلاد، وتحول بين شعوبها وبين الاستماع إلى هدي الإسلام.

لقد كانت تلك السلطات ترى أن لها الحرية في هذا الجانب، فلذلك لا تريد إلا أن يبقى الناس على دينها ومذهبها، ولا يفكر أحد في اعتناق دين آخر، ما لم يأذن له كسرى أو قيصر، أو الملك أو الأمير.

لقد عبر القرآن على لسان فرعون قديما حينما أسلم سحرته، وآمنوا برب موسى وهارون، فقال لهم:﴿ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)﴾(الأعراف)

لقد كان حكم الأكاسرة والقياصرة والملوك في ذلك الزمن حاجزا حصينا دون وصول الدعوة العالمية إليهم، ولهذا حينما بعث محمد برسائله إلى هؤلاء الأباطرة والملوك، يدعوهم إلى الإسلام حملهم ـ في حال عدم استجابتهم ـ إثم رعيتهم:

فقال لكسرى:( فإن لم تسلم، فعليك إثم المجوس )

وقال لقيصر:( فإن لم تسلم، فعليك إثم الإريسيين )

وقال للمقوقس في مصر:( فإن لم تسلم، فعليك إثم القبط )

ولهذا، فإن محمدا r لم يتوقف عن القتال بمجرد أن فتح الله عليه مكة.. بل ظل يبعث بالسرايا للأقاليم المجاورة حتى يحررها من استبداد المستبدين، ولتنعم بظل العدل والأمن والحرية التي جاء بها الإسلام.

التفت إلى دوج، وقال: لقد رأيت ـ عند سردنا للغزوات والسرايا ـ كيف كان r يؤمر على كل قرية يفتحها أميرا منهم.. وكيف أنه لم يكن يطلب منهم أي جباية تخصه، بل كل ما كان يطلبه منهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم لترد على فقرائهم.. ويكتفي منهم بذلك.

قارن ذلك بجشع المستعمرين من هذه الحضارة الطاغية الذين أسسوا حضارتهم على تخريب البلاد، وهلاك العباد.. ولم يكتفوا بنهب خيرات الشعوب التي استعمروها، ولا باستذلالها وتسخيرها في مصالحها.. بل راحوا ـ فوق ذلك ـ وبعد خروجهم منها ينشرون الفتن بين أهلها، ليكملوا ما بدأه المستعمر من خراب.

وسائل:

قال رجل من الجمع: عرفنا الدوافع، ولا يشك أحد من الناس في شرفها، فقد ظل محمد في جميع حياته كما هو إنسانا بسيطا أقرب إلى الفقر منه إلى الغنى.. وقد كان في إمكانه أن تبني له القصور، وينعم بما نعم به المترفون، ولكنه أبى كل ذلك.. وليس ذلك من خلق المستبد أو المستعمر أو الذي يغلب مصالحه على مصالح غيره.

قال آخر: اقتنعنا بهذا، فحدثنا عن الآخلاق التي صاحبت تنفيذ محمد لما تتطلبه هذه الدوافع الشريفة.. فقد تكون الدوافع شريفة، ولكن الطريق إليها خاطئ.

قال الحكيم: لقد عرفتم من خلال ما سردنا من آيات القرآن، ومن خلال ما سردنا من حوادث السيرة أن محمدا r اضطر إلى استعمال السلاح اضطرارا.. ومع ذلك، ومع أنه أبيح له هذا الاستعمال إلا أنه أبيح مقيدا بقيود كثيرة ترفعه إلى مستويات عالية لا نجد لها في تاريخ المبادئ مثيلا.

قال دوج: من السهل ادعاء مثل هذا.

قال الحكيم: ومن السهل إثبات مثل هذا.

قال رجل من القوم: فأثبت لنا وله ذلك.

قال الحكيم: سأذكر لكم أربع تشريعات مرتبطة بهذا.. وسأترك لكم كل الفرصة لتبحثوا في جميع حروب الدنيا لتجدوا نظيرا لها..

1 ـ الوفاء:

قال الحكيم: أما التشريع الأول، فهو حرص الإسلام على المعاهدات التي تحفظ السلام.. وهو ما يؤكد حرص الإسلام على السلام.

لقد رأيتم في عرضنا لغزوات النبي r ما وهبه الله من القوة بعد غزوة الأحزاب.. بل كان يمكنه بعد فترة وجيزة من صلح الحديبية أن يفتح مكة.. ولكنه لم يفعل حرصا على المعاهدة التي أقامها معها.

ونفس الشيء حصل مع جميع اليهود.. فلم يبدأهم r بالحرب حتى بدأوه.. ولم ينفذ فيهم بعد خيانتهم له إلا ما استوجبته قوانين العدالة التي يرتضونها، بل التي أسس عليها كتابهم المقدس.

ولمّا أسرت قريش حذيفة وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول الله r، وكانوا خارجين إلى بدر، فقال رسول الله r: (انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم)

وقد ردّ النبيُّ r أبا بصير للمشركين، وأبَى أن يقبله بعد أن عاد إليه وفاءً بالعهد الذي بينه وبين المشركين.

وعن سليم بن عامر، قال: كان بين معاوية وبين أهل الروم عهد، وكان يسير في بلادهم؛ حتى إذا انقضى العهد أغار عليهم، فإذا رجل على دابة أو على فرس، وهو يقول: الله أكبر، وفاء لا غدر، وإذا هو عمرو بن عبسة ـ وهو أحد أصحاب النبي r الذين لاحظوا سلوكه في غزواته ـ فسأله معاوية عن ذلك، فقال: سمعتُ رسول الله r يقول:( من كان بينه وبين قوم عهد؛ فلا يحلنَّ عهدًا، ولا يشدنَّه؛ حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء) قال: فرجع معاوية بالناس[167].

والمؤمنون مع رسول الله r في ذلك يتأدبون بما ورد في القرآن الكريم من الأمر بالوفاء بالعهود.. قال تعالى:﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل:91)، وقال تعالى:﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)(الاسراء: من الآية34)

وقد وصف الله تعالى الذين ينقضون العهد بالخسران، فقال:﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:27).. بل وصفهم بما هو أخطر من ذلك، فقال:﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25)

ولذلك، فإن القرآن الكريم يصف أعداء الإسلام بالخيانة، وذلك ليقرر في المؤمنين أن الخيانة ليست من أخلاقهم، ولا من دينهم، قال تعالى:﴿ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (لأنفال:56)

وفي مقابل هذا أمر المؤمنون بإتمام مدة العهد، قال تعالى:﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4)

وعلى هذا الميثاق القرآني كان النبي r يربي أصحابه، وسراياه التي كان يرسلها، وجيوشه التي كان يغزو بها، قال r: (لا دين لمن لا عهد له)[168]

وقد وصف رسول الله r ناقض العهد بالنفاق، قال r:( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)[169]

بل إنه r اعتبر خائن العهد خصما له، فقال:( من ظلم معاهدا أو انتقصه أوكلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)[170]

وأخبر عن بعض الجزاء الذي يعانيه الغادر، فقال:( لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به)[171]

وانطلاقا من هذه النصوص، فقد ورد الأمر بالتعامل مع كل من تربط بينهم وبين المسلمين أي علاقة أو أي ميثاق بمقتضى ما تمليه تلك المعاهدات، ولا يجوز خيانتها بحال من الأحوال إلا إذا ظهرت من العدو بوادر الخيانة[172]، قال تعالى:﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (لأنفال:58)[173]

وقال r يؤكد ذلك ويوضحه: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدا ولا يشدنه حتى يمضى أمده أو ينبذ إليهم على سواء)[174]

2 ـ النبل:

قال رجل من الجمع: حدثتنا عن الخلق الأول، أو التشريع الأول، فحدثنا عن التشريع الثاني، أو الخلق الثاني.

قال الحكيم: الخلق الثاني هو النبل.

قال الجمع: فما النبل؟

قال الحكيم: لا يعتبر في شريعتنا الجهاد جهادا إلا من النبلاء.. أولئك الذين يحملون نفوسا طيبة، وهمما رفيعة، وأرواحا يقدمونها هدايا لكل هدف نبيل.

لقد سئل رسول الله r عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَمِيَّة، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال:( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)[175]

التفت إلى دوج، وقال: أتدري ما معنى القتال حمية؟

قال نيورن: لا.. فما هو؟

قال الحكيم: هو ما تسمونه القتال من أجل القومية والوطنية.. وغيرها.

قال دوج: أفترى الإسلام محاربا لهذه القيم السامية؟

قال الحكيم: الإسلام يحترم القيم الإنسانية الرفيعة التي تضع البشر جميعا في محل واحد، فلا تفرق بين إنسان وإنسان، ولا بين شعب وشعب.. ولذلك يعتبر كل الحروب التي تقوم في سبيل رفعة وطن على حساب وطن، أو تسلب خيرات وطن لأجل وطن آخر قتال حمية يتنافى مع النبل الذي دعا له الإسلام.

إن فهمت هذا فهمت نبل المجاهد المسلم.

فهو ينطلق لأجل إعلاء كلمة الله.. وكلمة الله تعني القيم النبيلة من العدالة والرحمة ونصرة المستضعفين..

وهو في ممارسته للجهاد لا يمارسه إلا بذلك النبل الذي انطلق منه.. فجند الله رهبان بالليل فرسان بالنهار.. أصحاب عبادة وخلق.

قارن هؤلاء بجيوش العالم جميعا.. أولئك الجيوش الذين جعلوا من ثكناتهم مواخير للرذيلة والانحراف حتى أصبحت الجندية مرادفة للرذيلة والانحراف.

لقد استنبط بعضهم صفات المجاهد فى سبيل الله من النصوص المقدسة للمسلمين، فذكر أنه (ذلك الفارس النبيل الأخلاقى المدرب على أخلاق الفروسية العالية الراقية ؛ حتى يستطيع أن يمتثل إلى الأوامر والنواهى الربانية التى تأمره بضبط النفس قبل المعركة وأثناء المعركة وبعد المعركة، فقبل المعركة يجب عليه أن يحرر نفسه من كل الأطماع، وألا يخرج مقاتلا من أجل أى مصلحة شخصية، سواء كانت تلك المصلحة من أجل نفسه أو من أجل الطائفة التى ينتمى إليها، أو من أجل أى عرض دنيوى آخر، وينبغى أن يتقيد بالشروط التى أحل الله فيها الجهاد، وأن يجعل ذلك لوجه الله تعالى، ومعنى هذا أنه سوف يلتزم بأوامر الله، ويستعد لإنهاء الحرب فوراً، إذا ما فقدت الحرب شرطاً من شروط حلها أو سبباً من أسباب استمرارها، وسواء أكان ذلك الفارس منتصراً، أو أصابه الأذى من عدوه، فإن الله يأمره بضبط النفس، وعدم تركها للانتقام، والتأكيد على الالتزام بالمعانى العليا، وكذلك الحال بعد القتال، فإنه يجب عليه أن يجاهد نفسه الجهاد الأكبر ؛ حتى لا يتحول الفارس المجاهد إلى شخصٍ مؤذٍ لمجتمعه أو لجماعته أو للآخرين)[176]

قال دوج: كيف تقول هذا.. وكيف تصف هؤلاء بهذا النبل، وقد ورد القرآن يصفهم بالشدة والغلظة.

قال الحكيم: صدقت.. لقد قال الله تعالى آمرا المجاهدين في سبيله بالغلظة مع من يقاتلهم:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123)، وقال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73)

ولكن هذه الغلظة تمتلئ بالرحمة..

ضحك دوج ساخرا، وقال: كيف ذلك.. كيف تجتمع الغلظة مع الرحمة؟

قال الحكيم: لقد قال تعالى مبينا ذلك:﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (لأنفال:57).. لقد قال المفسرون في معنى هذه الآية:( معناه: غلِّظ عقوبتهم، وأثخنهم قتلاً؛ ليخاف من سواهم من الأعداء وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة)

قال دوج: فالآية تحث المؤمنين على استعمال أسلوب التخويف.

قال الحكيم: إذا كان التخويف هو وسيلة السلام الوحيدة فلا حرج من استعماله.. وليس هناك في الدنيا أمة من الأمم إلا وتستعمله.

تصور لو أن المجرمين لم تمتلئ قلوبهم من الإرهاب المعد لهم في السجون والمقاصل.. إنهم لو أتيح لهم قوانين رحمة كما يريدون لأصبحت الأرض جميعا ملكا لهم، يقتلون من يشاءون، ويحيون من يشاءون.

3 ـ الإنسانية:

قال رجل من الجماعة: فما الخلق الثالث؟

قال الحكيم: الإنسانية..

ضحك دوج، وقال: إن الحرب قتل للإنسان، فكيف تكون إنسانية؟

قال الحكيم: عندما يكون هدف المحارب هو قضيته فقط.. ولا يكون له أي غرض سواها.. وعندما تكون نفسه مشحونة بالإيمان الذي يطهرها من كل الأحقاد تكون الحرب إنسانية.

قال رجل من الجماعة: فما مظاهرها في جهاد المسلمين؟

قال الحكيم: مظاهرها كثيرة.. منها مثلا: رحمة القتيل بالإجهاز عليه، وعدم تركه لآلامه، كما أشار إلى ذلك قوله r:( إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)[177]، فقد أمر r في هذا الحديث بالإحسان في القتل، واعتبر إحداد الشفرة من إراحة الذبيحة.

وقد نص على هذا المظهر الإنساني قوله تعالى:﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ)(محمد: من الآية4)، فقد أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين بضرب الرقاب، وهي أقرب المناطق التي تيسر الموت الرحيم.

وبما أن المقاتل بين أن يقتل من يقاتله أو يأسره، فقد خص الله تعالى موضعين فقط للمقاتل، أما أولهما فضرب الرقاب، وأما الثاني فضرب البنان الذي هو رؤوس الأصابع، وذلك لمن يريد أسره حتى لا يبقي فيه عاهة مستديمة قال تعالى:﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (لأنفال:12)

التفت دوج، وقال للجمع: هل سمعتم مثل هذا.. إن القرآن يأمر بضرب الرقاب، إنه يقول بكل قسوة:﴿:﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ)(محمد: من الآية4)

ابتسم الحكيم، وقال: وما تريد منه أن يقول في هذا الموضع؟.. هل تريد أن يقول: فإذا لقيتم الذين كفروا فسلموهم رقابهم.. أو تراه يقول لهم:( فانثروا الورود والرياحين في وجوههم)

إن المقام مقام شدة، ولا يردع الشدة مثل الشدة.

لقد أدرك الشاعر الحكيم ذلك، فقال:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا   مضر كوضع السيف في موضع الندى

وقال آخر:

والشر إن تلقه بالخير ضقت به    ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم

وقال آخر:

والناس إن تركوا البرهان واعتسفوا  فالحرب أجدى على الدنيا من السلم

ومع ذلك، فالقرآن لم يأمر بالقتل فقط، بل أمر معه بالأسر..

انتفض دوج بشدة قائلا: ماذا تقول!؟.. ألا تتحرج من الحديث عن الأسر في الإسلام!؟.. إن الإسلام يأمر بقتل الأسرى، ولا يتعامل معهم بأي رحمة؟

ولن نستطيع أن تجادلني في هذا، فقد قال القرآن كلمته فيها، ففيه:﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لأنفال:67).. والآية واضحة، فهي تنهى عن الإبقاء على الأسرى، وتأمر بالقضاء عليهم.

ابتسم الحكيم، وقال: أنت تفهم من القرآن ما يحلو لك.. بل أنت تحمل من القرآن من المعاني ما لا يطيق.

سأزيل عنك هذا الوهم..

إن الآية التي ذكرتها لا تفهم إلا في ضوء قوله تعالى:﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)(محمد: من الآية4)

قال دوج: ألا يحتمل أن تكون هذه الآية منسوخة بتلك الآية؟

قال الحكيم: القرآن كله محكم ﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ (فصلت:42)

قال دوج: ولكن التعارض بينهما واضح.

قال الحكيم: التعارض واضح في الأذهان التي لم ترتقي لتفهم أسرار التعابير القرآنية.

فهاتان الآيتان تبينان أسلوبا من أساليب الحرب الدفاعية.

أما الآية التي ذكرتها، فتأمر بأن يبدأ المقاتلون بتحطيم قوة عدوهم وكسر شوكتهم، فإذا أثخنوا في قتل أعداءهم حتى يكون عندهم خوف ورعب.. وحينذاك ـ حين تنهار قوة العدو ـ يبدأ استعمال الأسلوب الثاني، وهو أسلوب الأسر، قال تعالى:﴿  حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ )(محمد: من الآية4)، فالأسر يكون بعد الإثخان وليس معه أو قبله، فليس ثمت نهي عن الأسر، وإنما أمر أن يكون الإثخان هو الأول، وبعده يأتي الأسر.

 

 

من مظاهرها التعامل الإنساني مع الأسير..

سكت الحكيم قليلا، ثم قال: سأذكر لك بعض مظاهرة إنسانية التعامل مع الأسير في الإسلام، ثم قارنها بما شئت[178].

فمن حقوق الأسير عدم إكراهه على ترك دينه، فلا يُكره على الدخول في الإسلام، وإنما يُدعى إلى الإسلام بالتي هي أحسن، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (لأنفال:70)، ففي الآية استمالة للأسرى، وتجديد الدعوة لهم، وفتح باب التوبة أمامهم، وترغيبهم بما يعوضهم عما دفعوا من الفداء، ويعدهم إن هم دخلوا في الإسلام طائعين مختارين بالرزق الوفير في الدنيا والآخرة والمغفرة لما سلف من ذنوبهم قبل الإيمان، وفي هذا دليل واضح على أنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام.

ولم يقع قط أن أكره أسير على أن يدخل في الإسلام..

سأضرب لك مثالا عن كيفية تعامل رسول الله r مع بعض أسراه، روى ابن إسحاق عن أبي هريرة أن خيلاً لرسول الله r  أخذت أسيرا، ولا يشعرون من هو حتى أتوا به رسول الله r، فقال:( أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي)، فربطوه بسارية من سواري المسجد بأمره r  لينظر حسن صلاة المسلمين، واجتماعهم عليها فيرق قلبه، فخرج إليه رسول الله r  فقال:( ماذا عندك يا ثمامة؟)، قال: عندي خير يا محمد إن تَقْتل تَقْتُل ذا دم، وإن تُنْعِم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه حتى كان الغد، ثم قال له:( ما عندك يا ثمامة؟)، قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال:( ما عندك يا ثمامة؟)، قال: عندي ما قلت لك، فقال:( أطلقوا ثمامة)

فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ثم قال: والله يا محمد ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، وقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبي r بخير الدنيا والآخرة وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة يلبي وينفي الشريك عن الله قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت لله رب العالمين مع محمد رسول الله r ولا والله تأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها النبي r.

ثم صار ثمامة هذا الرجل الذي كان أسيرا بفضل هذه المعاملة من رسول الله r من فضلاء الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وهدى الله به خلقاً كثيراً من قومه، ولم يرتد مع من ارتد من أهل اليمامة ولا خرج عن الطاعة قط وقام مقاماً حميداً بعد وفاة النبي r  حين ارتدت اليمامة مع مسيلمة فقال:﴿ بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ (غافر: 1 - 3)، ثم قال: فأين هذا من هذيان مسيلمة؟ فأطاعه ثلاثة آلاف وانحازوا إلى المسلمين.

قال دوج: كيف تزعم أن نبيكم يحسن معاملة الأسرى، وقد ذكرت أنه ربطه بسارية من سواري المسجد.

ابتسم الحكيم، وقال: إن هذا الحديث يفهم على ضوء قوله r: (لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة)

إن من معاني قوله r: (لا تغلوا) هو وضع الأغلال في أيدي الأسارى، فقد نهت الشريعة الإسلامية عن وضع الأغلال بأيدي الأسرت، وأمرت بتركهم أحرارا من دون تقييد أو تحديد لحركتهم.

قال دوج: ولكن ما أمر به محمد من تقييده يتنافى مع هذا.

قال الحكيم: إن النبي r لم يقيد يديه بالأغلال ليعذبه بذلك، وإنما وضعه في موضع يستطيع معه أن يرى المسلمين ورحمة المسلمين وإنسانية المسلمين، ولو أنه رأى غير ذلك لما عاد بعد أن أطلق سراحه ليسلم، بل ويحسن إسلامه، ويثبت في الوقت الذي ارتد فيه الناس على أعقابهم.

 قال رجل من الجمع: واصل حديثك عن حقوق الأسير في الإسلام.

قال الحكيم: من حقوق الأسير التي نص عليها القرآن الكريم إعطاؤه ما يكفيه من الطعام والشراب، كما قال تعالى:﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً) (الانسان:8-9)، ففي هاتين الآيتين دليل على أن إطعام الأسير قربة يتقرب بها المؤمن إلى ربه سبحانه وتعالى، وفيهما أن المؤمن يؤثر الأسير حتى على نفسه، وفي قوله:﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ دليل على أنه لم يطعمه مما فضل من قوته، وإنما يطعمه من طيب طعامه مع حاجته إليه ومحبته له.

ولذلك نص العلماء على أن منع الطعام عن الأسير من الكبائر، كما يشير إلى ذلك قوله r:( عُذبتْ إمرأة في هرة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)[179]

فلما كان الحبسُ مانعاً للمحبوس من التصرف في أمر معاشه وكسبه وجب على حابسه أن يقوم بحقه، ولو كان ذلك في حق الحيوان، فما بالك بالإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى.

سكت قليلا، ثم قال: ومن حقوق الأسير حقه في الكسوة والثياب المناسبة التي تليق به وتجدر بمثله، وقد روي في الحديث عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس، ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي r لى له قميصاً، فوجدوا قميص عبد الله بن أبيّ يقدر عليه، فكساه النبي r إياه)[180] 

ومن حقوقه حقه في المأوى والسكن المناسب أياً كان، فقد يُسكن في المسجد أو يُسكن في سجن خاص ويكون ملائماً أو حتى في بيوت بعض المؤمنين، وفي عهد النبي r لم يكن هناك دار خاصة للأسرى ولا للسجن، ولهذا ربما سجن الأسير في المسجد، وربما وزع الأسرى على المسلمين في بيوتهم إلى أن يُنظر في شأنهم[181].

ومما يدل لذلك ما روي من أن النبي r جعل ناساً من الأسرى الذين كانوا يتقنون القراءة والكتابة يُعلمون أولاد الأنصار القراءة والكتابة، وجعل ذلك فداءهم وفكاكهم[182]، ومن المعلوم أن الأسير كي يُعلم ويكتب لابد أن يكون طليقاً غير مقيد ولا مربوط، وقادراً على الذهاب والإياب، والوثاق إنما جُعل لمنعه من الهرب فإذا أمكن منعه بلا وثاق فلا حاجة إليه.

ومن حقوق الأسرى أن لا يفرق في الأسرى بين الوالدة وولدها أو بين الولد ووالده وبين الأخ وأخيه، وقد ورد هذا في حكم السبي، والسبي نوع من الأسر، وإن كان يطلق في الغالب على النساء والذرية.

لقد ورد الحديث ينص على هذا الحق، قال r: (من فرق بين والدة وولدها ـ يعني من السبي ـ فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة)[183]، وقد عقب الترمذي على هذا بقوله: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي r وغيرهم، كرهوا التفريق في السبي بين الوالدة وولدها وبين الولد والوالد وبين الإخوة.

ومن حقوق الأسير في الإسلام عدم تعريضه للتعذيب بغير حق، ولم ينقل في الشرع أنه أُمر بتعذيبهم، ولا أنه حصل لهم تعذيب خلال عصور العزة الإسلامية، وذلك لأنه إذا كان المسلم مأمورًا بإكرامهم وإطعامهم وسقيهم والجمع بينهم فإن تعذيبهم يتنافى مع هذا الأمر، اللهم إلا أن يكون هناك حالات خاصة يتطلب الأمر فيها أن يُمس بشيء من العذاب قليل لا يؤثر عليه من أجل كشف أمور يُعلم أنها موجودة عنده كما في حديث ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله r الصفراء والبيضاء ويخرجون منها واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير فقال رسول الله r لعم حيّ ما فعل مسك حيّ الذي جاء به من النضير فقال: أذهبته النفقات والحروب فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك، فدفعه رسول الله r إلى الزبير فمسه بعذاب وقد كان حيّ قبل ذلك دخل خربة فقال: قد رأيت حيّ يطوف في خربة ههنا فذهبوا وطافوا فوجدوا المسك في الخربة)[184]

ومما روي من النهي عن تعذيب الأسرى أن رسول الله r حين بلغه مقدم أبي سفيان ومن معه شاور أصحابه فيما يصنع، وفي القصة أنهم ظفروا بغلام، فأخذوه، فكان أصحاب رسول الله r يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه، فيقول: مالي علمٌ بأبي سفيان، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية ابن خلف، فإذا قال ذلك ضربوه، فقال: نعم أنا أخبركم هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوه فقال: مالي بأبي سفيان علم، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس، فإذا قال: هذا أيضاً ضربوه ورسول الله r قائمٌ يصلي، فلمّا رأى ذلك انصرف، قال:( والذي نفسي بيده لتضربوه إذا صدقكم وتتركوه إذا كذبكم)

فهذا دليل على أنه ينبغي ألا يكون هناك عدوان على الأسرى، ولا تعذيب لهم بغير حق.

قال دوج: نبيكم لم يعذب الأسرى، ولكنه قتلهم.

قال الحكيم: نعم.. لقد قتل النبي بعض الأسرى، وذلك لأن لهم سوابق وجرائم استوجبت قتلهم، ومع ذلك، فإن النبي r لم يقتل من الأسرى خلال حروبه الطويلة إلا عددًا قليلاً كانوا من أكابر عتاة المشركين وقادة الحرب الضروس الفاجرة ضد الإسلام وأهله، ويمكن أن نطلق عليهم حسب التعبير المعروف اليوم (مجرمي حرب)

التفت إلى دوج، وقال: هذه بعض حقوق الأسرى في الإسلام، فقارنها بما شئت من اتفاقات دولية[185].. ولا تنسى مقارنتها بالواقع كذلك، فأكثر اتفاقات البشر مأسور لم يمن عليه بالخروج من الورق، ومن قيود الحبر.

4 ـ الرحمة:

قال رجل من الجمع: فحدثنا عن الخلق الرابع.

قال الحكيم: الرحمة..

ابتسم دوج، وقال: الحرب قتال.. فكيف تصاحبها الرحمة؟

قال الحكيم: عندما يمارس المجاهد النبيل ما تتطلبه الحرب من قتال لا يمارسه بقسوة، وإنما يفعل ذلك من باب الضرورة.. يفعله، وهو يود في كل لحظة أن يتوقف خصمه عن قتاله ليكيف عن قتاله.

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (لأنفال:61)

وقد روي في الحديث أن ناسا من أصحاب رسول الله r ذهبوا يتطرقون، فلقوا أناسا من العدو فحملوا عليهم فهزموهم فشد رجل منهم فتبعه رجل يريد متاعه فلما غشيه بالسنان قال: إني مسلم إني مسلم، فأوجره السنان فقتله، وأخذ متيعه فرفع ذلك إلى رسول الله r فقال رسول الله r للقاتل: أقتلته بعد أن قال إني مسلم؟! قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذا، قال: أفلا شققت عن قلبه؟ قال: لم يا رسول الله؟ قال: لتعلم أصادق هو أو كاذب! قال: وكنت عالم ذلك يا رسول الله؟ قال رسول الله r: إنما كان يعبر عنه لسانه إنما كان يعبر عنه لسانه.

 قال الحسن ـ راوي الحديث ـ: فما لبث القاتل أن مات فحفر له أصحابه فأصبح وقد وضعته الأرض، ثم عادوا فحفروا له فأصبح وقد وضعته الأرض إلى جنب قبره.

 قال الحسن: فلا أدري كم قال أصحاب رسول الله r كم دفناه مرتين أو ثلاثة كل ذلك لا تقبله الأرض، فلما رأينا الأرض لا تقبله أخذنا برجليه فألقيناه في بعض تلك الشعاب، فأنزل الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ (النساء:94)

قال الحسن:( أما والله ما ذاك أن تكون الأرض تجن من هو شر منه ولكن وعظ الله القوم أن لا يعودوا)[186]

سكت قليلا، ثم قال: لقد كان في إمكان كل تلك الدماء التي سفكت أن لا تسفك لو أن أصحابها تخلوا عن غرورهم وكبرهم.. لقد رأيتم كيف سيق بنو قريظة بعد خيانتهم إلى المقصلة برؤوس مرفوعة تكبرت عن مجرد الاعتذار عما بدر منها من خيانة.

وقد رأيتم كيف عفا رسول الله r عن كل من ارتكب جرائم كبرى استحق لأجلها أن يهدر دمه، ولكنه بمجرد اعتذاره عفي عنه، ومحيت كل ذنوبه، وصار واحدا من أمته r.. بل هناك من أضاف إلى هذا شرف الصحبة.

نظر إلى دوج، وقال: هذا هو الوجه الأول من وجوه الرحمة..

أما الوجه الثاني، فتوجهت به تشريعات الإسلام لكل من لا ناقه له في الحرب ولا جمل.. كالنساء والصبيان والشيخ الفانِي والأجير والعابد في صومعته وغيرهم.. فهؤلاء وردت النصوص الشديدة بتحريم المساس بهم.

عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: وُجِدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله r، فنهى رسول الله r عن قتل النساء والصبيان[187].

وعن رباح بن ربيع، قال: كنَّا مع رسول الله r في غزوةٍ، فرأى النَّاس مجتمعين على شيءٍ، فبعث رجلاً، فقال:( انظر علام اجتمع هؤلاء)، فجاء، فقال: على امرأةٍ قتيلٍ. فقال: (ما كانت هذه لتقاتل). قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً، فقال: (قل لخالد: لا يقتلنَّ امرأةً ولا عسيفًا)[188]

التفت إلى الجمع، وقال: انظر رحمة الجهاد في الإسلام.. حتى العسيف الذي هو الأجير، فالعمال الأجراء حتى لو حضروا المعركة لايجوز قصدهم بالقتال إذا كانت خدماتهم لا تتصل بالقتال، فغيرهم ممن لم يحضروا إلى ساحة المعارك هم أولى بأن تشملهم تلك الحصانة من أن توجه إليهم الأسلحة، ولو كانوا في بلاد الأعداء.

لقد كانت هذه التعاليم المضمخة بعطر الرحمة توجه لكل جيش أو لكل سرية يبعثها رسول الله r.. عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r كان إذا بعث جيشاً قال له:( انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولاتغلوا )[189]

***

بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (دوج مارلت) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..

التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.

أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد.

 

 

 



([1]) أشير به إلى رسام أمريكي معروف بهذا الاسم، توزع رسوماته على مئات الجرائد في أمريكا والعالم، وقد سبق له النشر في عدد من أكبر الجرائد الأمريكية مثل (واشنطن بوست) و(نيويورك تايمز)، وقد نشر في 23 / 12 / 2002م رسما يسخر من الرسول r، حيث صور رجلا يرتدي ثيابا عربية اسمه محمد، يقود شاحنة محملة صواريخ نووية، من نوع الشاحنة التي استخدمها توماس ما كفاي مفجر مبنى التجارة الفيدرالي في أوكلاهوما سيتي عام 1995م وكتب تحت الرسمة عنوان (ماذا يقول محمد..؟)

كما رسم في إحدى الصحف الفرنسية رسما يمثل النبي r وزوجاته الطاهرات بطريقة حقيرة وقببيحة، وقد كت أعلى الرسم (بار محمد) وفي أسفل الرسم (انتخاب ملكة جمال البطاطس عند محمد)

كما يرسم في مجلة موجهة للأطفال وعامة الناس، تصدر في مدينة لا فيجاس الأمريكة بعنوان (المحمدية صدقها وإلا...) يوجد بداخلها سخرية بشخص الرسول r ونبوته، واستهزاء بالأحاديث والتعاليم النبوية بطريقة وحقيرة، تغرس في أذهان الأطفال وعامة الناس التنفير من الإسلام ونبيه r، وتصور المسلم في صورة العربي البدائي الإرهابي.

([2])  يسيء البعض فهم مثل هذه التعابير، فيرمي قائلها بالشرك، لأنه لا يتصور في العبارة إلا وجها واحدا، وهو أن محمدا r هو خالق ألوان الكون، أو الكون، ولكن مرادنا ـ وهو مراد جميع أولياء الله ـ من أمثال هذه التعبيرات هو أن الحقائق التي جاء بها محمد r هي التي طبعت الكون في أذهان المؤمنين بها بالصورة الجميلة التي يروها بها، قال الإمام بديع الزمان:( ان حياة محمد r - المادية والمعنوية - بشهادة آثارها حياة لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني بشهادة حقائقه الحيوية روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل.. أجل.. أجل.

فاذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره، مات الكون وتوفيت الكائنات، واذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جنّ جنونه وفقدت الكرة الأرضية صوابها، وزلزل عقلها، وظلت بلا شعور، وأصطدمت باحدى سيارات الفـضاء، وقامت القيامة)

([3])  من التعاريف التي عرف بها الإرهاب: بث الرعب الذي يثير الرعب في الجسم والعقل، أي الطريقة التي تحاول بها جماعة منظمة أو حزب أن يحقق أهدافه عن طريق استخدام العنف (معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، ص 3828 )

وعرفته دائرة المعارف البريطانية للإرهاب بأنه:الاستخدام المنظم للعنف لإحداث حالة من الرعب المزمن لدى شعبٍ ما تكون كافية لتفعيل تغيير سياسي.

ومن التعاريف ما ورد في التقرير الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية في أكتوبر سنة 2001 م من أن الإرهاب يعني: (العنف المتعمد ذا الدوافع السياسية، والذي يرتكب ضد غير المقاتلين وعادة بغية التأثير في الجمهور، حيث إن غير المقاتلين هم المدنيون، إلى جانب العسكريين غير المسلحين، أو الذين هم في غير مهماتهم وقت تعرضهم للحادثة الإرهابية أو في الأوقات التي لا توجد فيها حالة حرب أو عداء)

وعرفت وكالة التحقيقات العدلية الأمريكية (FBI) الإرهاب بأنه: استعمال – أو التهديد باستعمال – غير مشروع للعنف ضد أشخاص أو ممتلكات لتخويف أو إجبار حكومة أو المدنيين كلهم أو بعضهم لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية.

وفي قاموس أكسفورد نجد كلمة إرهاب (Terrorism) تعني سياسة، أو أسلوباً يعد لإرهاب وإفزاع المناوئين أو المعارضين لحكومة ما. فالإرهابي(Terrorist) هو الشخص الذين يحاول أن يدعم آراءه بالإكراه أو التهديد أو الترويع.

أما الإرهاب عند الأمم المتحدة فيعني: (أعمال العنف الخطيرة التي تصدر من فرد أو جماعة بقصد تهديد الأشخاص أو التسبب في إصابتهم أو موتهم، وسواء كان يعمل بمفرده أو بالاشتراك مع أفراد آخرين ويوجه ضد الأشخاص أو المنظمات أو المواقع السكنية أو الحكومية أو الدبلوماسية أو وسائل النقل والمواصلات وضد أفراد الجمهور العام دون تمييز أو الممتلكات أو تدمير وسائل النقل والمواصلات يهدف إفساد علاقات الود والصداقة بين الدول أو بين مواطني الدول المختلفة أو ابتزاز أو تنازلات معينة من الدول في أي صورة كانت. لذلك فإن التآمر على ارتكاب أو محاولة ارتكاب أو الاشتراك في الارتكاب أو التحريض على ارتكاب الجرائم يشكل جريمة من جرائم الإرهاب الدولي)

وتتفق هذه التعاريف على أن الإرهاب هو الاستعمال المطلق للعنف والقوة تجاه المدنيين أو الأهداف المدنية، أو العسكريين، أو الأهداف العسكرية في غير حال الحرب المعلنة بين طرفين بهدف بث الرعب بدون إنذار سابق.

([4])  عدد غزوات رسول الله r التي غزاها بنفسه بناء على ما ذكره ابن إسحاق 27 غزوة وبعوثه وسراياه 38، قال الطبري: وكانت غزواته بنفسه ستاً وعشرين غزوة.

وقد علل بعضهم هذا الخلاف، بأن من قال هي ست وعشرون جعل غزوة النبي r من خيبر إلى وادي القرى غزوة واحدة، لأنه لم يرجع من خيبر حين فرغ من أهلها إلى منزله، ولكنه مضى منها إلى وادي القرى، فجعل ذلك غزوة واحدة، ومن قال هي سبع وعشرون غزوة جعل غزوة خيبر غزوة، وغزوة وادي القرى غزوة أخرى، فيجعل العدد سبعاً وعشرين.

والكلام المثبت في الأصل بناء على المزاعم التي يزعمها المسيحيون في كتبهم ومواقعهم.

([5])  هذا ما يفعله المسيحيون في كتبهم ومواقعهم من وجوه التلاعب بالقرآن.. بل إنهم أحيانا يمزجون بين آيات مختلفة ليستدلوا بها على ما يريدون.

([6])  ذكرنا في مواضع كثيرة أنه ليس من المنهج العلمي اعتبار التفاسير القرآنية أو شروح الحديث أو كلام أي كان من العلماء حجة يحتج بها على الإسلام.. فالإسلام لا يمثله إلا مصادره الأصلية المقدسة التي ثبتت عن طريق القطع.. وما عدا ذلك يمكن قبوله ورفضه، ولذلك لا يستطيع أي كان أن يناظر بمثل تلك النقول.

([7])  ومثل هذا قوله ':﴿ وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (النحل:51)، وقوله ':﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الانبياء:90)

([8])  ومثل هذا قوله ':﴿  اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31)’، وقوله ':﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة:34)، وقوله ':﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:27)

([9])  وقريب من هذا قوله ' لموسى ـ عليه السلام ـ:﴿ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) (القصص:32)، فهو من الخوف العادي الذي يعتري أي إنسان.

([10])  اضطررنا لذكر بعض التفاصيل هنا من باب الرد العلمي على ما يذكر في كتب المبشرين من أنواع الشبهات الكثيرة المثارة حول هذه الغزوات، والتي قد يشكل الجهل بها درعا لمرورها.

بالإضافة إلى أن من مقاصدنا في هذه الأجزاء الثلاثة الخاصة بالنبي r هي عرض سيرته وشمائله وما يرتبط به r مما تمس الحاجة إليه.. فلا يمكن التعرف على النبي r من غير هذه الأبواب.

وقد رجعنا في هذا إلى مصادر السيرة المعتمدة قديما وحديثا.. وهي من الكثرة والاتفاق بحيث لا نحتاج أن نوثق كل مرة لها.

([11])  رواه ابن سعد في الطبقات (2/227)، ورواه ابن سعد في الطبقات (2/228) وأبو نعيم في الحلية (1/151) من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب، فذكر نحو القصة.

([12])  سنن أبي داود (3/213)

([13])  رواه البخاري ومسلم.

([14])  رواه الترمذي، وقال: وهذا حديث غريب، ورواه ابن جرير والحاكم في مستدركه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

([15])  هكذا ذكر غير واحد من أهل السير، وذكر أبو الاسود في مغازيه، ووصله ابن عائذ عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r لما وصل إلى الابواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين رجلا، فذكر القصة، فتكون في السنة الثانية، وصرح به بعض أهل السير.

([16])  إلا أن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ رمي بسهم في سبيل الله فكان أول سهم رمي به في الاسلام، فنثر كنانته وتقدم أمام اصحابه وقد تترسوا عنه، فرمي بما في كنانته وكان فيها عشرون سهما ما منها سهم إلا ويجرح انسانا أو دابة.. ولم يكن بينهم يومئذ الا هذا، ثم انصرف الفريقان على حاميتهم.

([17])  بحسب زعم المسيحيين.

([18])  نرى في كتب المسيحيين ومواقعهم حملة شديدة على هذه السرية، وهو أمر لا يستغرب من نفوس حاقدة تستغل كل ما يقوله أعداء الإسلام مهما كان نوعهم.

([19])  انظر: في ظلال القرآن، بتصرف.

([20])  انظر: في ظلال القرآن، بتصرف.

([21]) من المؤسف أن نجد مثل هذه الشبهة مما يملأ الكتب والمواقع التبشيرية، بل يقوله ناس لهم حظ كبير من القداسة في مجتمعاتهم.. ولسنا ندري بأي عقل يفكر هؤلاء.

([22])  عندما بلغ أبا سفيان خبر مسير النبي r بأصحابه من المدينة بقصد اعتراض قافلته واحتوائها، بادر إلى تحول مسارها إلى طريق الساحل، وفي نفس الوقت أرسل عمرو بن ضمضم الغفاري إلى قريش يستنفرها لإنقاذ قافلتها وأموالها، فقد كان أبو سفيان يقظًا حذرًا، يتلقط أخبار المسلمين ويسأل عن تحركاتهم، بل يتحسس أخبارهم بنفسه، فقد تقدم إلى بدر بنفسه، وسأل من كان هناك: (هل رأيتم من أحد؟) قالوا: لا. إلا رجلين قال: (أروني مناخ ركابهما، فأروه، فأخذ البعر ففته فإذا هو فيه النوى، فقال: هذا والله علائف يثرب)

وقد كان وقع خبر القافلة شديدًا على قريش، التي اشتاط زعماؤها غضبًا لما يرونه من امتهان للكرامة، وتعريض للمصالح الاقتصادية للأخطار إلى جانب ما ينجم عن ذلك من انحطاط لمكانة قريش بين القبائل العربية الأخرى؛ ولذلك فقد سعوا إلى الخروج لمجابهة الأمر بأقصى طاقاتهم القتالية.

وقد جاءهم عمرو بن ضمضم الغفاري بصورة مثيرة جدًا يتأثر بها كل من رآها، أو سمع بها، إذ جاءهم وقد حول رحله وجدع أنف بعيره، وشق قميصه من قُبُل ومن دُبُر، ودخل مكة وهو ينادي بأعلى صوته: يا معشر قريش: اللطيمة، اللطيمة, أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث، الغوث.

وعندما أمن أبو سفيان على سلامة القافلة أرسل إلى زعماء قريش وهو بالجحفة برسالة أخبرهم فيها بنجاته والقافلة، وطلب منهم العودة إلى مكة، وذلك ما أدى إلى حصول انقسام حاد في آراء زعماء قريش، فقد أصر أغلبهم على التقدم نحو بدر من أجل تأديب المسلمين وتأمين سلامة طريق التجارة القرشية, وإشعار القبائل العربية الأخرى بمدى قوة قريش وسلطانها، وقد انشق بنو زهرة، وتخلف في الأصل بنو عدي. فعاد بنو زهرة إلى مكة، أما غالبية قوات قريش وأحلافهم فقد تقدمت حتى وصلت بدرًا (انظر تفاصيل هذا في: السيرة النبوية لابن هشام:2/221)

([23])  حصل خلاف بين المصادر الصحيحة حول عدد الصحابة الذين رافقوا النبي r في غزوته هذه إلى بدر، ففي حين جعلهم البخاري «بضعة عشر وثلاثمائة» يذكر مسلم بأنهم ثلاثمائة وتسعة عشرة رجلا، في حين ذكرت المصادر أسماء ثلاثمائة وأربعين من الصحابة البدريين, وكانت قوات المسلمين في بدر لا تمثل القدرة العسكرية القصوى للدولة الإسلامية، ذلك أنهم إنما خرجوا لاعتراض قافلة واحتوائها.‏.‏

([24])  فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي.

([25])  استخلف رسول الله r على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد المنذر، واستعمله على المدينة‏.‏

ودفع رسول الله r لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري، وكان هذا اللواء أبيض‏.‏

وقسم جيشه إلى كتيبتين‏:‏

أما الكتيبة الأولى فكتيبة المهاجرين، وأعطى رايتها علي بن أبي طالب، ويقال لها‏:‏ العقاب‏.‏

وأما الكتيبة الثانية، فكتبية الأنصار‏، وأعطى رايتها سعد بن معاذ‏.‏

وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو- وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش - كما سبق - وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده rكقائد أعلى للجيش‏.‏

 

([26])  انظر فصل (استبداد) من هذا الجزء.

([27])  رواه البخاري.

([28])  رواه مسلم.

([29])  البخاري (2/2947)

([30])  وقد تجلى هذا في غزوة بدر عبر مظاهر كثيرة منها:

1. سؤاله r الشيخ الذي لقيه في بدر عن محمد وجيشه، وعن قريش وجيشها.

2. تورية الرسول r في إجابته عن سؤال الشيخ ممن أنتما؟ بقوله r: (نحن من ماء)، وهو جواب يقتضيه المقام، فقد أراد به r كتمان أخبار جيش المسلمين عن قريش.

3. في انصرافه فور استجوابه نوع من الكتمان, وهو دليل على ما يتمتع به رسول
الله
r من الحكمة، فلو أنه أجاب هذا الشيخ ثم وقف عنده لكان هذا سببًا في طلب الشيخ بيان المقصود من قوله r: (من ماء)

4. أمره r بقطع الأجراس من الإبل يوم بدر، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله r أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر.

5- كتمانه r خبر الجهة التي يقصدها عندما أراد الخروج إلى بدر، حيث قال r: (.. إن لنا طلبةً فمن كان ظهره حاضرًا فليركب معنا..) رواه مسلم.

([31])  ابن هشام (2/229)

([32])انظر: تفسير القرطبي (8/25)

([33])  رواه أحمد.

([34])  مجمع الزوائد (6/76) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.

([35]) وهو القتيل المذكور في سرية عبد الله بن جحش.

([36])  انظر: سيرة ابن هشام:2/233

([37])  ذكرنا في رسالة (معجزات حسية) ما يرتبط بهذه الغزوة وغيرها من الغزوات من الإمداد الإلهي، فصل (انتصارات)

([38])  القيادة العسكرية، د. محمد الرشيد ص401.

([39])  الرسول القائد، خطاب، ص111، 116، 117.

([40])  رواه البخاري.

([41])  انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (النبي الإنسان) من هذه السلسلة.

([42])  رواه مسلم.

([43])  رواه البخاري.

([44])  رواه ابن إسحق.

([45])  رواه البخاري.

([46])  السويق: هو أن تحمص الحنطة والشعير ثم يطحن باللبن والعسل والسمن.

([47])  انظر:  السيرة لابن هشام (3/51)

([48])  وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله rقبل معركة أحد، قادها في المحرم سنة 3 هـ‏.‏

 

([49])  انظر هذه القصة وغيرها مما يشبهها من حماية الله لنبيه r في رسالة ( معجزات حسية) من هذه السلسلة.

([50])  هذه هي بنود المعاهد التي كانت بمثابة الدستور الذي نظم المجتمع الإسلامي الأول في المدينة المنورة، وسنعرض لتفاصيلها في محالها الخاصة بها من هذه السلسلة.

هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب)، ومن تبعهم فَلَحق بهم وجاهد معهم.

إنهم أمة واحدة من دون الناس.

المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو الحارث (بن الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.

وبنو جُشَم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.

وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.

وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.

بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.

وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.

وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحا بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل، أن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم.

ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.

وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم.

وإن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم.

وإن كل غازية غزت يعقب على بعضها بعضا.

وإن المؤمنين يبيء([50]) بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.

وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش، ولا نفساً ولا يحول دون على مؤمن.

وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً  عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل)، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.

وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يُؤويه، وإن من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.

وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

إن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بن جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يتوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.

وإن لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف وإن البر دون الإثم.

وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.

وإن بطانة يهود كأنفسهم.

وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.

وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.

وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم.

وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.

وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.

وإن بينهم النصر على من دهم يثرب. [وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها]

وإذا دعوا إلى الصلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه أو يلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.

ب-على كل أناس حقهم من جانبهم الذى قبلهم.

وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبَُ إلا على نفسه، وإن الله على ما أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.

وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، إنه من خرج آمن ومن قعد
آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول
الله
r.

([51])  انظر قصته في فصل (استبداد) من هذه الرسالة.

([52]) نقل في السيرة الشامية عن القاضي عياض وغيره قولهم: إن من زعم أن النبي r هزم يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل، ولا يجوز ذلك عليه، إذ هو على بصيرة من أمره، ويقين من عصمته، وفرقوا بينه وبين من قال: إنه جرح أو أوذي بأن الإخبار عن الأذى نقص لا يحسب عليه والإخبار بالانهزام نقص له r لأنه فعله، كما أن الأذى فعل المؤذي. (انظر: سبل الهدى: 7/47)

ونحن لم نذكر هذا ـ هنا ـ من باب الحكم الفقهي، فلا نرى صحة مثل هذا الحكم المشدد ـ ولكنا نقلناه من باب اتفاق علماء المسلمين المستبصرين على ما في غزوة أحد من النصر الذي كتبه الله لنبيه r.

([53])  سنرى التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (النبي الإنسان)من هذه السلسلة.. ونحن نحاول في إثبات نوع النصر في أحد الرد على الشبه الكثيرة المرتبطة بهذا والتي تمتلئ بها مواقع المبشرين.. والتي تستدل بالهزيمة على عدم صحة دعوى النبوة.

([54])  الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/812).

([55])  الأكبار: جمع كبر: والكبر هو: الطبل الذي له وجه واحد.

([56])  مغازي الواقدي (1/207، 208)

([57])  من الأسباب التي جعلت رسول الله r يختار البقاء في المدينة على الخروج إليهم أن جيش مكة لم يكن موحد العناصر، وبذلك يستحيل على هذا الجيش البقاء زمنًا طويلاً إذ لا بد من ظهور الخلاف بينهم إن عاجلاً أو آجلاً.

ومنها أن مهاجمة المدن المصممة على الدفاع عن حياضها وقلاعها وبيضتها أمر بعيد المنال, وخصوصا إذا تشابه السلاح عند كلا الجيشين، وقد كان يوم أحد متشابهًا.

ومنها أن المدافعين إذا كانوا بين أهليهم، فإنهم يستبسلون في الدفاع عن أبنائهم وحماية نسائهم وبناتهم وأعراضهم.

ومنها مشاركة النساء والأبناء في القتال وبذلك يتضاعف عدد المقاتلين.

ومنها أنه يمكن للمدافعين أن يستخدموا أسلحة لها أثر في صفوف الأعداء مثل الأحجار، وغيرها, وتكون إصابة المهاجمين في متناولهم (انظر: القيادة العسكرية للرشيد، ص374)

([58])  من الأسباب التي جعلت هؤلاء يختارون الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة أن الأنصار قد تعاهدوا في بيعة العقبة الثانية على نصرة الرسول r، فكان أغلبهم يرى أن المكوث داخل المدينة تقاعس عن الوفاء بهذا العهد.

ومنها أن الأقلية من المهاجرين كانت ترى أنها أحق من الأنصار في الدفاع عن المدينة ومهاجمة قريش وصدها عن زروع الأنصار.

ومنها أن الذين فاتتهم غزوة بدر كانوا يتحرقون شوقًا من أجل ملاقاة الأعداء طمعًا في حصول الشهادة في سبيل الله.

ومنها أن الأكثرين كانوا يرون أن في محاصرة قريش للمدينة ظفرًا يجب ألا تحلم به، كما توقعوا أن وقت الحصار سيطول أمده, فيصبح المسلمون مهددين بقطع المؤن عنهم (انظر: غزوة أحد، أحمد عز الدين، ص51، 52)

([59])  رواه البخاري.

([60])  وكان سبب وقوع رسول الله r أن ابن قمئة علاه بالسيف فلم يؤثر السيف فيه إلا أن ثقل السيف أثر في عاتقه فشكا r منه شهراً وقُذف رسول الله بالحجارة حتى وقع لشقه.

([61])وفي رواية أبي الأسود عن عروة، وكذا في رواية سعيد بن المسيب عن أبيه‏:‏ أنه كان يخور خوار الثور، ويقول‏:‏ والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً‏.‏

([62]) أي‏:‏ ارددهم.

([63]) قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيراً‏.‏ وقيل‏:‏ اسم ماء بأحد.

([64]) اتفقت جل الروايات على أن قتلي المسلمين كانوا سبعين، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار؛ فقد قتل منهم خمسة وستون رجلاً، واحد وأربعون من الخزرج، وأربعة وعشرون من الأوس، وقتل رجل من اليهود‏.‏ وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط‏.‏

وأما قتلي المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلاً، ولكن الإحصاء الدقيق ـ بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير، والتي تتضمن ذكر قتلي المشركين في مختلف مراحل القتال ـ يفيد أن عدد قتلي المشركين سبعة وثلاثون، لا اثنان وعشرون، والله أعلم ‏.‏ انظر: الرحيق المختوم.

([65])  ك. جيورجيو: نظرة جديدة في سيرة رسول الله، ص267.

([66]) اسم موضع قرب المدينة.

([67])لم يشهد هذه الغزوة إلا من شهد أُحداً عدا جابر بن عبدالله فإنه قال لرسول الله r:( إن أبي خلفني يوم أُحد على أخوات لي سبع فلم أشهد الحرب فأذن لي أن أسير معك)، فأذن له رسول الله r فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال غيره.

([68])  ستة نفر في قول ابن إسحاق، وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشرة.

([69])  وهو ماء لهُذَيلِ بناحية الحجاز بين رَابِغ وجُدَّة.

([70])كانوا أربعين رجلاً في قول ابن إسحاق، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين.

([71]) وسبب ذلك أنه لما كان عمرو بن أمية في الطريق بالقَرْقَرَة من صدر قناة، نزل في ظل شجرة، وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو، وهو يري أنه قد أصاب ثأر أصحابه الذين قتلوا في بئر معونة، وإذا معهما عهد من رسول الله r لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله r بما فعل، فقال ‏:‏‏‏(‏لقد قتلت قتيلين لأدِيَنَّهما‏)‏، وانشغل بجمع ديتهما من المسلمين ومن حلفائهم اليهود، وهذا الذي صار سبباً لغزوة بني النضير.

([72]) هذه خلاصة ما رواه ابن إسحاق وعامة أهل السير حول هذه الغزوة‏.‏ وقد روي أبو داود وعبد الرزاق وغيرهما سبباً آخر حول هذه الغزوة، وهو أنه لما كانت وقعة بدر فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود ‏:‏ إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خَدَم نسائكم شيء ـ وهو الخلاخيل ـ فلما بلغ كتابهم اليهود أجمعت بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إلى النبي r‏:‏ اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك، ولنخرج في ثلاثين حبراً، حتى نلتقي في مكان كذا، نَصَفٌ بيننا وبينكم، فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا، فخرج النبي r في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبراً من يهود، حتى إذا برزوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض ‏:‏ كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلاً من أصحابه، كلهم يحب أن يموت قبله، فأرسلوا إليه ‏:‏ كيف تفهم ونفهم ونحن ستون رجلاً‏؟‏ اخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا، فليسمعوا منك، فإن آمنوا بك آمنا كلنا وصدقناك، فخرج النبي r في ثلاثة نفر من أصحابه واشتملوا ‏[‏أي اليهود‏]‏ على الخناجر، وأرادوا الفتك برسول الله r، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى بني أخيها، وهو رجل مسلم من الأنصار، فأخبرته خبر ما أرادت بنو النضير من الغدر برسول الله r، فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي r، فساره بخبرهم قبل أن يصل النبي r إليهم، فرجع النبي r، فلما كان من الغد غدا عليهم رسول الله r بالكتائب فحاصرهم، وقال لهم ‏:‏ ‏‏(‏إنكم لاتأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه‏)‏، فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك هو والمسلمون، ثم غدا الغد على بني قريظة بالخيل والكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم، وغدا إلى بني النضير بالكتائب، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا الحَلْقة ـ والحلْقة‏:‏ السلاح ـ فجاءت بنو النضير واحتملوا ما أقلت إبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، فكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها، فيحملون ما وافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام ‏.‏

([73]) نقل الشيخ محمد رشيد رضا عن الدكتور إسرائيل ولفنسون في رسالته (تاريخ اليهود في بلاد العرب) معللا ما فعله اليهود من تخريب بيوتهم قوله: «إن هدم البيوت لم يكن القصد منه التخريب وأخذ الأخشاب، بل إن هدم نجاف البيوت يتعلق بعقيدة تلمودية معروفة وهي أن كل يهودي على نجاف بيته صحيفة تشتمل على وصية موسى لبني إسرائيل أن يحتفظوا بالإيمان بإله واحد ولا يبدلوه ولو عُذبوا وقُتلوا، فاليهود حين ينزحون من منازلهم يأخذونها معهم وهي عادة متبعة عند اليهود إلى يومنا هذا، قال: ويظهر أن يهود بلاد العرب كانوا يضمون تلك الصحيفة في داخل النجاف خوفاً من إتلاف الهواء أو مسّ الأيدي فلما رحلوا عن ديارهم هدموا نجاف البيوت وأخذوها».

وقد عقب عليه الشيخ بقوله:( وإنا نسلم أن هذه عادة اليهود ولا ننازعه في أنهم أخذوا تلك الصحائف المقدسة مع ما أخذوا، لكن أخذ الصحائف فقط لا يستدعي هدم البيوت وإلا كان الواحد منهم إذا انتقل من بيت إلى آخر هدم البيت الأول لاستخراج صحيفته وهذا محال، وعبارة ابن إسحاق صريحة في أن الرجل منهم كان يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق، والنجاف الذي يُقال له الدوارة وهو الذي يستقبل الباب من أعلى الأسكفة، وفي السيرة الحلبية صاروا ينقضون العُمُد والسقوف وينزعون الخشب حتى الأوتاد، وينقضون الجدران حتى لا يسكنها المسلمون حسداً وبغضاً)

([74])اختلف في سبب تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع، قيل: هي اسم شجرة في موضع الغزوة سُميت بها، وقيل: لأن أقدامهم نقبت من المشي فلفوا عليها الخرق، وقيل: بل سُميت برقاع كانت في ألويتهم، وقيل: ذات الرقاع جبل فيه سواد وبياض وحمرة فكأنها رقاع في الجبل فسُميت الغزوة بذلك الجبل، وقيل: إنه موضع لقول دُعثور: حتى إذا كنا بذات الرقاع.

([75]) وقد خالف بعض الباحثين في وقوع غزوة ذات الرقاع في هذا الوقت بالذات، ذلك أن هذه الغزوة قادها الرسول r فى ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة 4 هـ مع أن ذات الرقاع شهدها أبو هريرة وأبو موسى الأشعرى رضي الله عنهما، وكان إسلام أبى هريرة قبل غزوة خيبر بأيام، وكذلك أبو موسى الأشعرى رضي الله عنه، وافى النبى r بخيبر‏.‏ وإذن فغزوة ذات الرقاع بعد خيبر، ويدل على تأخرها عن السنة الرابعة أن النبى r صلى فيها صلاة الخوف، وكانت أول شرعية صلاة الخوف فى غزوة عُسْفَان، ولا خلاف أن غزوة عسفان كانت بعد الخندق، وكانت غزوة الخندق فى أواخر السنة الخامسة‏.‏ انظر: الرحيق المختوم.

ونحن ذكرنا هنا ما ذكره عامة علماء السيرة.. ولعل هناك اتفاقا في التسمية بين الغزوتين، مما خلط الأمر في تأريخها.

([76])وتعرف هذه الغزوة ببدر الموعد، وبدر الثانية، وبدر الآخرة، وبدر الصغرى‏.‏

([77]) دُومَة الجنْدَل مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال وبعدها من المدينة خمس عشرة ليلة وهي أقرب بلاد الشام إلى المدينة وبقرب تبوك.

 

([78]) المُرَيْسيع: ماء لبني خزاعة وتسمى هذه الغزوة غزوة بني المصطلق، وهم بطن من خزاعة، وقد حدثت في شعبان سنة خمس من الهجرة (ديسمبر سنة 626 م)

([79]) سنتحدث عن الشبهات المرتبطة بهذا في رسالة (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.

([80]) سنعود إلى الحديث عنها بتفصيل أكثر في فصل (زوجات) من هذه الرسالة.

([81]) اتفق المؤرخون على أن هذه الغزوة وقعت في شوال من السنة الخامسة (فبراير سنة 627 م) لكن ابن خلدون يقول في تاريخه (والصحيح أنها في الرابعة ويقويه ابن عمر يقول: ردني رسول الله r يوم أُحد وأنا ابن أربع عشرة سنة ثم أجازني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فليس بينهما إلا سنة واحدة وهو الصحيح فهي قبل دومة الجندل بلا شك)

([82]) منهم سلام بن مشكم ورئيسهم كنانة بن أبي الحقيق النضري وحييّ بن أخطب وهوذة بن قيس الوائلي وأبو عامر الفاسق.

([83]) تاريخ اليهود: 142.

([84])وقعت في ذي القعدة سنة خمس - إبريل سنة 627 م.

([85])بنو قُرَيْظَة قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذ سعد بن معاذ.

 

([86]) خمساً وعشرين ليلة، كما قال ابن إسحاق وقال الواقدي: إحدى وعشرين ليلة.

([87]) وقد اختلف في عددهم، فقيل: كانوا 600 أو 700، وقيل: إنهم كانوا من 800 إلى 900.

([88]) حياة محمد ورسالته، ص 175.

([89]) وفي البخاري أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام وبعد الحديبية بعشرين يوماً.

([90]) وقد روي أنها نذرت لئن نجت لتنحرنها، فلما قدمت على النبي r أخبرته بذلك، وقالت: يا رسول الله إني نذرت لله تعالى أن أنحرها إن نجاني الله عليها، فقال: (بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك أن تنحريها، إنه لا نذر لأحد في معصية ولا لأحد فيما لا يملك إنما هي ناقة من إبلي، ارجعي إلى أهلك على بركة الله)

([91])الغَمْر ماء لبني أسد على ليلتين من فَيد - قلعة بطريق مكة -

([92]) رواه أحمد والبخاري وأبو داود.

([93]) كان رسول الله r غزا دومة الجندل في ربيع الأول سنة خمس (يوليه سنة 626 م) وقد تقدم ذكرها.

([94]) سبقت الإشارة إلى الشبهات المرتبطة بالجزية في رسالة (ثمار من شجرة النبوة)، وسنتحدث بمزيد من التفاصيل عنها في الأجزاء التالية.

([95])  انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/189).

([96])  اختلف المؤرخون في تاريخ هذه السرية، فقد قيل: إنها كانت في ذي الحجة سنة خمس بعد الخندق، وفي البخاري قال الزهري بعد قتل كعب بن الأشرف الواقع سنة ثلاث، وذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في السنة الثالثة في النصف من جمادى الآخرة. أما الواقدي فإنه زعم أن هذه السرية التي وجهها رسول الله r إلى أبي رافع أو سلام بن أبي الحقيق، إنما وجهها في ذي الحجة من سنة أربع من الهجرة،

وقد رجح ما ذكرناه من التاريخ الشيخ رشيد رضا، قال: والثابت أن سلام بن أبي الحقيق كان من الذين حزبوا الأحزاب في غزوة الخندق، وغزوة الخندق كانت في السنة الخامسة وكان سلام هذا ممن ذهب إلى خيبر بعد إجلاء بني النضير ثم إنه بعد الخندق أخذ يحرض بني فزارة والقبائل الأخرى، ولذلك نرجح أن هذه السرية كانت في السنة السادسة كما ذكرها السيد دحلان فقد قال:( إنها كانت في رمضان سنة ست) (شهر ديسمبر سنة 627م)

([97])انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي، ص212.

([98])كل أعضاء هذه السرية كانوا من الخزرج فقد حرصوا على أن ينافسوا إخوانهم من الأوس، الذين قتلوا كعب بن الأشرف، فقد كانوا كفرسي رهان في المسابقة في نصرة الإسلام.

قال كعب بن مالك: وكان مما صنع الله تعالى به لرسوله r أن هذين الحيين من الأنصار، الأوس والخزرج، كانا يتصاولان مع رسول الله r تصاول الفحلين؛ يعني يتسابقان في خدمته، لا يصنع الأوس شيئًا فيه عن رسول الله r غناء إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله r وفي الإسلام، قال: فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئًا قالت الأوس مثل ذلك(السيرة لابن هشام (6/177)

([99])  ووقع في بعض الروايات: أن الذي قتل أبا رافع عبد الله بن أنيس والصواب ما في صحيح البخاري أن الذي قتله هو عبد الله بن عتيك، وفي أسد الغابة: (وهو الذي ولي قتل أبي رافع بن أبي الحقيق بيده وكان في بصره ضعف )

 

([100])انظر: شرح المواهب اللدنية (2/168)

([101]) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/388، 389)

([102]) المخرش: شبه المقرعة يضرب به، وهي معوجة الرأس.

([103]) الشواحط: شجر ابن النبع، من أشجار الجبال التي يتخذ منها القسي والسهام.

([104]) فأمه: أي جرحه في رأسه، والشجة المأمومة هي التي تبلغ أم الرأس.

([105]) هو أحد رؤساء قريش أسلم بعد الهجرة واستشهد عام الفتح وهو الذي خرج رسول الله r لطلبه في غزوة بدر الأولى وقد مرَّ ذكرها.

([106])نقل الشيخ رشيد رضا عن مستر موير أنهم كانوا مصابين بداء الطحال.

([107]) انظر الرد على الشبهات المرتبطة بالتداوي بأبوال الإبل في رسالة (معجزات علمية) من سلسلة (أشعة من شمس محمد)

([108])سمى البخاري هذه السرية بغزوة (سيف البحر) بكسر السين واشتهرت (بسريّة الخبط)، وقد سميت بذلك لأنه نفد ما كان معهم من الزاد فأكلوا الخبط وهو ورق السلم وأصابهم جوع شديد.

([109])كانت هذه السرية على الأرجح قبل صلح الحديبية، وليس في رجب سنة ثمانٍ كما ذكر ابن سعد (الطبقات لابن سعد (2/132))، وذلك لسببين: السبب الأول: أن الرسول r لم يغز ولم يبعث سرية في الشهر الحرام، والثاني: أن رجب سنة ثمان هو ضمن فترة سريان صلح الحديبية.

([110])الخبط: ضرب الشجر بالعصا لينثر ورقها واسم الورق الساقط خبط.

([111])الوقب: النقرة التي تكون فيها العين.

 

([112])القلال: الجرة العظيمة.

([113])الفدر: جمع فدرة وهي القطعة من اللحم.

([114]) الحدَيبية هي بئر سُمي المكان باسمها؛ وهي قرية متوسطة ليست بالكبيرة وبينها وبين مكة مرحلة وبينها وبين المدينةِ تسع مراحل وبعضها في الحل وبعضها في الحرم.

([115])جملة أصحابه الذين خرجوا معه من 1400 إلى 1600، أما ما رواه ابن إسحاق من أنه r ساق معه الهدي 70 بدنة وكان الناس 700 رجل فكانت كل بدنة عن عشرة نفر، فلا بد أن يكون هذا العدد في بدء خروجهم قبل أن ينضم إليه r من عداهم من الأعراب.

([116])ما يهدى إلى الحرم من النعم.

([117]) كان فرسان قريش 200 منهم عكرمة بن أبي جهل، وكان قائدهم خالد بن الوليد.

([118]) اختلف فيمن نزل في القليب بسهم رسول الله r  فقيل: هو سائق بدنه ناجية بن جندب، وقيل: إنه البراء بن عازب، وقيل: عبادة بن خالد.

([119]) رواه البخاري.

([120]) رواه البخاري ومسلم.. وقد ذكرنا الأدلة الكثيرة المثبتة لهذا في رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.

([121])أي قابلوهم بما يكرهون.

([122]) أي أصلك وعشيرتك.

([123]) قال الزهري: إن اليد المذكورة هي أن عروة كان يحمل دية فأعانه فيها أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بعون حسن.

([124]) روي أن عثمان بن عفان دخل مكة ومعه عشرة من الصحابة بإذن رسول الله r ليزوروا أهاليهم ولم يذكروا أسماءهم.

 

([125])أي نقاتلهم.

([126])  وقيل: إنه كان يُرمى بالنفاق.

([127]) انظر: الرحيق المختوم، وغيره.

([128]) رواه أحمد وأبو داود والحاكم.

([129]) رواه البيهقي.

([130]) سنعرض لهذه المسألة بتفصيل في رسالة (النبي الهادي) من هذه السلسة.

([131])خيبر واحة كبيرة على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام، والبريد اثنا عشر ميلاً عربياً فتكون المسافة كلها 96 ميلاً عربياً.

وقد كانت لهم ثلاثة حصون كبرى، وكل منها مؤلف من عدة حصون وهي كالآتي:

1 - حصون النطاة وهي أربعة: (النعام - الصعب - الكتيبة – بقلة)

2 - حصون الشِّق، اثنان: (حصن أُبيّ - وحصن البري)

3 - حصون الكتيبة وهي ثلاثة: (حصن القموص - الوطيح – سُلالم)

([132]) الرحيق المختوم.

([133]) ذكرنا النصوص الكثيرة الدالة على هذا ومثله في رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.

([134])(تاريخ اليهود ببلاد العرب) ص 170.

([135])بلدة يهودية بالقرب من خيبر.

([136]) هو وادٍ بين الشام والمدينة، وهو بين تيماء وخيبر، فيه قرى كثيرة وبها سُمي (وادي القُرى) نزلها اليهود وزرعوها.

([137])تيماء بلدة معروفة بين المدينة والشام على سبع مراحل من المدينة.

([138])الأغلب أن هذه السرية كانت في صفر سنة 7هـ، وقد ورد ذكرها في البخاري‏.‏ قال ابن حجر‏:‏ لم أعرف حال هذه السرية‏.‏

([139]) وقيل إلى الحُرَقَات من جُهَيْنَة.

([140]) ‏بالفتح، أرض لغطفان، وقيل‏:‏ لفَزَارَة وعُذْرَة.

([141]) سمى البخاري هذه السرية غزوة، وإن لم يخرج فيها النبي r لكثرة جيش المسلمين فيها.

([142]) من عمل البلقاء وهي مدينة معروفة بالشام على مرحلتين من بيت المقدس جنوب شرق البحر الميت.

([143])هذا هو السبب الذي ذكره أغلب المؤرخين إلا أن ابن إسحاق لم يذكر سبباً لهذه السرية.

 

([144]) انظر: معارك خالد بن الوليد، د. ياسين سويد، ص173.

([145]) انظر: السيرة النبوية: عرض وقائع، وتحليل أحداث.

([146]) وقد روي أن الرجل منهم كان يجيء إلى أهل بيته يدق عليهم بابه فيأبون الفتح له ويقولون: هلا تقدمت مع أصحابك فقتلت؟ حتى إن نفراً منهم جلسوا في بيوتهم استحياء كلما خرج واحد منهم صاحوا به وصار رسول الله r يرسل إليهم رجلاً، رجلاً.

([147]) سُميت هذه السرية: (ذات السلاسل) لأن الأعداء ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا، وقيل: سُميت بذلك لأن بها ماء يُقال لها السلسل.

 

([148]) وفي رواية أن الذي قال ذلك هو العباس.

([149]) وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له حين دفع المفتاح إليه‏:‏ ‏(‏خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف‏)‏‏.‏

 

([150]) ذكرناها في الرسالة السابقة.

([151])وقد سمى المؤرخون هذه البعوث سرايا، وهذه أسماؤها، ومهامها:

سرية خالد بن الوليد إلى العُزَّى: وقد كانت بنخلة،  على بعد ليلة من مكة، زكانت لقريش وجميع بني كنانة، وكانت أعظم أصنامهم وكان سدنتها بنو شيبان من بني سليم، قال ابن حبيب: العُزَّى شجرة كانت بنخلة عندها وثن تعبده غطفان فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد قطع الشجرة وهدم البيت وكسر الوثن، والبيت كان مبنياً على العزى وكانوا يهدون لها كما يهدون للكعبة ويطوفون وينحرون عندها.

وقد خرج خالد في ثلاثين فارساً من أصحابه حتى انتهى إليها فهدمها ثم رجع إلى رسول الله r فأخبره، فقال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا، قال: لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها، فرجع خالد وهو متغيظ فوجد سيفه، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس، فجعل السادن يصيح بها فضربها خالد فجزلها باثنتين ورجع إلى رسول الله r فأخبره فقال: نَعم تلك العزى وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبداً.

سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مَناة: زمناة صنم للأوس والخزرج وغسان وكانت بالمشلَّل ومَناة من أقدم الأصنام وكانت العرب تسمّي عبد مناة وكانوا يحجون إليها ولم يكن أشد إعظاماً لها من الأوس والخزرج.

وقد بعث رسول الله r سعد بن زيد الأنصاري الأشهلي إليها ليهدمها، وذلك لست بقين من شهر رمضان، فخرج في عشرين فارساً حتى انتهى إليها وعليها سادن (خادم)، فقال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشي إليها فخرجت إليه امرأة سوداء عريانة ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها، فقال السادن: مناة دونك بعض غضباتك فضربها سعد فقتلها، وأقبل إلى الصنم ومعه أصحابه فهدموه ولم يجدوا في خزانتها شيئاً.

سرية عمرو بن العاص إلى سُواع: وهو اسم صنم لهذيل، على ثلاثة أميال من مكة، وكان بأرض يقال لها رُهاط من بطن نخلة، وكانت سدنته من بني لحيان.

وقد بعثها r في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة بعد فتح مكة، قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده سادن فقال: ما تريد؟ قلت: أمرني رسول الله أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لِمَ؟ قال: تُمنع، قلت: حتى الآن أنت في الباطل ويحك وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزائنه فلم يجدوا منه شيئاً، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.

سرية الطفيل بن عمرو الدَّوسي إلى ذي الكَفَّين: لما أراد رسول الله r السير إلى الطائف بعث الطفيل بن عمرو الدَّوسي إلى ذي الكفين، وذلك في شوال سنة ثمان من الهجرة ليهدمه وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف، فخرج سريعاً إلى قومه، فهدم ذا الكفين وجعل يحش النار في جوفه ويحرقه ويقول:

يا ذا الكفين لست من عبادكا ميلادنا أقدم من ميلادكا

إني حششت النار في فؤادكا

وانحدر معه من قومه 400 سراعاً فوافوا النبي r بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام وقدم بدبابة ومنجنيق.

ومن السرايا التي أرسلت للدعوة إلى الإسلام سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، وقد وقع فيها أكبر خطأ في تاريخ السرايا جميعا، وقد تبرأ رسول الله r من ذلك الخطأ الناتج عن عدم تعمق في معرفة الإسلام.

وقصة هذه السرية هي أن رسول الله r بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة داعيًا إلى الإسلام، وكان ذلك في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة قبل حنين، ومعه جنود من بني سليم ومدلج والأنصار والمهاجرين، كان تعدادهم حوالي ثلاثمائة وخمسين رجلاً، فلما رأى بنو جذيمة الجيش بقيادة خالد أخذوا السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا، فقام رجل منهم يسمى جحدرا فقال: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبدًا.

فلم يزالوا به حتى وضع سلاحه، فلما وُضع السلاح أمر بهم خالد فكتفوا، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا، وخالد يأخذ فيهم أسرا وقتلا.

فأنكر عليه بعض أصحابه ذلك، ثم دفع الأسرى إلى من كان معه، حتى إذا أصبح يومًا أمر خالد أن يقتل كل واحد أسيره، فامتثل البعض، وامتنع عبد الله بن عمر وامتنع معه آخرون من قتل أسراهم، فلما قدموا على رسول الله r أخبروه، فغضب ورفع يديه إلى السماء قائلا:( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)

ودار كلام بين خالد وعبد الرحمن بن عوف حول هذا الموضوع حتى كان بينهما شر، فقد خشي ابن عوف أن يكون ما صدر عن خالد ثأرا لعمه الفاكه بن المغيرة الذي قتلته جذيمة في الجاهلية، ولعل هذا الذي وقع بينهما هو ما أشار إليه الحديث المروي عند مسلم وغيره: كان بين ابن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء فسبَّه خالد، فقال رسول الله r:( لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)

وليصحح رسول الله r الخطأ الكبير الذي وقع فيه خالد بعث عليا ـ رضي الله عنه ـ فودى لهم قتلاهم وزادهم فيها تطييبًا لنفوسهم وبراءة من دمائهم.

وبهذا التصرف النبوي الحكيم واسى النبي r بني جذيمة، وأزال ما في نفوسهم من أسى وحزن.

([152])حُنينٍ وادٍ في طريق الطائف إلى جنب ذي المجاز بينه وبين مكة ثلاث ليال وتسمى غزوة أوطاس اسم لموضع كانت به الموقعة وهو واد في ديار هوازن، وتسمى الغزوة أيضاً غزوة هوازن، وهوازن اسم قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون.

([153]) انظر: رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.

([154]) صداء مخلاف باليمن بينه وبين صنعاء اثنان وأربعون فرسخاً سُمي باسم القبيلة.

([155]) اختلف في عدد الوفد فقيل: كانوا سبعين، وقيل: كانوا ثمانين.

([156]) وكانت فيه دعابة، فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا ناراً يصطلون عليها ويصطنعون، فقال لهم: أليس طاعتي واجبة؟ قالوا: بلى، قال: فاقتحموا هذه النار، فقام بعض القوم فاحتجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا إنما كنت أضحك، فبلغ ذلك رسول الله r فقال:( من أمركم بمعصية فلا تطيعوه)

([157])صنم كان بنجد تعبده طيِّىء.

([158]) تَبُوك موضع شمال الحجاز، يبعد عن المدينة 778 ميلاً حسب الطريق المعبدة في الوقت الحاضر، وكانت من ديار قضاعة الخاضعة لسلطان الروم آنذاك.

وأصل هذه التسمية جاء في صحيح مسلم، فقد روى أن رسول الله r قال:( ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي)

([159]) وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم حينما تحدث عن هذه الغزوة في سورة التوبة، قال تعالى:﴿ لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ (التوبة: 117)، وقد روى البخاري عن أبي موسى الأشعري، قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله r أسأله الحملان لهم إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك..

وقد سميت بهذا الاسم لشدة ما لاقى المسلمون فيها من الضنك، فقد كان الجو شديد الحرارة، والمسافة بعيدة، والسفر شاقًّا لقلة المؤونة وقلة الدواب التي تحمل المجاهدين إلى أرض المعركة، وقلة الماء في هذا السفر الطويل والحر الشديد، ففي تفسير عبد الرزاق عن معمر بن عقيل قال: خرجوا في قلة من الظهر، وفي حر شديد حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء، فكان ذلك عسرة من الماء.

وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يصف ما بلغ بهم العطش في هذه الغزوة: خرجنا مع رسول الله r إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا يذهب يلتمس الخلاء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته تنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرشه فيشربه وبضعه على بطنه.

([160]) ذكره الزرقاني في (شرح المواهب اللدنية)، وسميت بهذا الاسم لأن هذه الغزوة كشفت عن حقيقة المنافقين، وهتكت أستارهم، وفضحت أساليبهم العدائية الماكرة، وأحقادهم الدفينة، ونفوسهم الخبيثة، وجرائمهم البشعة بحق رسول الله r والمسلمين.

([161])  وقد كان المسلمون على حذر من مجيء غسان إليهم من الشام، ومما يدل على ذلك ما روي من أن النبي r كان قد آلى من نسائه شهرا فهجرهن، ففي البخاري: وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا فنزل صاحبي يوم نوبته، فرجع عشاء فضرب بابي ضربًا شديدًا، وقال: أثمَّ هو؟ ففزعت، فخرجت إليه، وقال: حدث عظيم، فقلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول، طلق رسول الله r نساءه.

([162]) وهو ما يسمى ببعث أُسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ فإنه في آخر حياة رسول الله r ضرب على الناس بعثاً إلى الشام أمّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه، وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والدّاروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس وأوْعَبَ مع أُسامة بن زيد المهاجرين الأولين، فبينما الناس على ذلك ابتدأ r شكواه التي قبضه الله عز وجل فيها.

وقد أجل إرسال هذا البعث إلى ما بعد وفاة رسول الله r.

 

([163]) انظر الخلاص الذي جاء به الإسلام للعالم في رسالة (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.

([164]) وليست هذه أول مرة يندم فيها ربهم، فقد ندم مرات كثيرة، انظر (الكلمات المقدسة)، و(الله جل جلاله)  من هذه السلسلة.

([165])انظر: الإستعمار أحقاد وأطماع، ص 28.

([166]) عارضت الاقتراح كل من البلاد المسيحية المتحضرة الآتية: بريطانيا واستراليا وكندا ونيوزيلندة وبلجيكا. وامتنع عن التصويت كل من: الولايات المتحدة والنرويج وتركيا والدانيمارك وفرموزا.

أما سياسة فرنسا فى هذه القضية وغيرها فقد شرحها أحد علماء القانون الفرنسى فى هذه العبارات: ( إذا قلنا سيادة الشعب فلا يعنى هذا شعوب مدغشقر أو أفريقيا الاستوائية أو مسلمى مراكش..! إن حقوق الانسان والمواطن لا تطبق ولا تراعى إلا لصالح الشعب الفرنسى بالقارة الأوربية. فالوطن فى مدغشقر أو الهند الصينية مهما بلغت مكانته الاجتماعية وثقافته وعلمه لا يعتبر مساوياً للفرنسى الأوربى)

([167]) رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وابن حبان، وقال الترمذي: حسن صحيح.

 

([168]) رواه أحمد.

([169]) رواه البخاري.

([170]) رواه أبو داود.

([171]) رواه البخاري ومسلم.

([172])من الصور التي ذكرها الفقهاء لغدر المعاهدين ونقضهم للعهد: قتالهم للمسلمين، أو امتناعهم عن إعطاء الجزية، ومن إجراء حكم الإسلام عليهم، أو من دل أهل الحرب على عورة المسلمين -تجسس عليهم- أو فتن مسلما فى دينه (انظر: شرح الجلال المحلى على المنهاج بهامش قليوبى وعميرة:4 /236)

([173])قال الطبريّ في تفسيرها:( يقول تعالى ذكره: وإمّا تخافنّ ـ يا محمد ـ من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد أن ينكث عهده وينقض عقده ويغدر بك، وذلك هو الخيانة والغدر، (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ)(لأنفال: من الآية58) يقول: فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل حربك إيّاهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور آثار الغدر والخيانة منهم؛ حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر. ?إنّ الله لا يحب الخائنين? الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به، فيحاربه قبل إعلامه إيّاه أنّه له حرب، وأنه قد فاسخه العقد)

([174]) رواه أبو داود والترمذى وقال: حديت حسن صحيح.

([175]) رواه البخاري ومسلم.

([176]) انظر: شبهات المشككين.

([177])رواه مسلم.

([178])انظر: مقالا لسلمان العودة بعنوان (من لأسرى المسلمين؟) بتاريخ 1/6/1423 الموافق 10/08/2002. موقع الإسلام اليوم www.islamtoday.net

 

 

([179]) رواه البخاري ومسلم.

([180]) رواه البخاري.

([181])ذكر ابن كثير في البداية والنهاية (5/191) أن الرسول r فرق أسرى بدر على أصحابه، وقد وقد روى البيهقي في سُننه (9/89) عن ذكوان عن عائشة أن النبي r دخل عليها بأسير وعندها نسوة، فلهينها عنه فذهب الأسير فجاء النبي r فقال يا عائشة: (أين الأسير؟) قالت: نسوة كُنَّ عندي فلهينني عنه، فذهب فقال: رسول الله r:( قطع الله يدك)، وخرج فأرسل في أثره فجيء به فدخل النبي r وإذا عائشة ـ رضي الله عنه ـ قد أخرجت يديها فقال مالك قالت يا رسول الله إنك دعوت علىَّ بقطع يدي وإني معلقة يدي أنتظر من يقطعها، قال رسول الله r أجننت؟ ثم رفع يديه وقال: (اللهم من كنت دعوت عليه فاجعله له كفارةً وطهورًا)، قال الذهبي عن هذا الحديث: إسناده جيّد.

([182]) رواه أحمد وغيره.

([183])رواه والترمذي وابن ماجة، قال الترمذي: حديث حسن غريب.

([184]) الحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/137) وقال ابن حجر في الفتح (7/479) إسناد رجال ثقات.

وقد جاء في التاج والإكليل أنه قيل لمالك: أيعذب الأسير إن رُجي أن يدل على عورة العدو؟! فقال: ما سمعت بذلك.

 

([185]) المبادئ الأساسية المتعلقة بحقوق الأسرى وضعت سنة 1864م، وكان فيها أربع اتفاقيات، ووقع عليها حوالي (190) دولة من دول العالم وأدرج فيها عدد من الحقوق.

وفي وقت لاحق عام 1977م تم إدراج لوائح جديدة فيما يسمى ببرتوكول إضافي أشار بوضوح إلى وجود مجموعات أو شرائح متعددة من أسرى الحروب.

والولايات المتحدة الأمريكية لم توقع على هذه الاتفاقية، وإنما وقعتها دول أخرى، وأهم النقاط الموجودة في هاتين الوثيقتين تتلخص فيما يلي:

أولاً: اتفاقية جنيف، بمقتضى الفقرة الرابعة من هذه الاتفاقية، فإن مصطلح أسرى الحرب ينطبق على الأفراد المنتمين للشرائح التالية:

القسم الأول: أفراد القوات المسلحة لأحد طرفي النزاع، ويدخل في ذلك:

1ـ المليشيات أو المتطوعون الذين يشكلون جزءًا من هذه القوات أي: ليسوا من أفراد القوات المسلحة، ولكنها مليشيات تابعة لهم أو متعاونة معهم.

2ـ الأفراد المنتمون لمليشيات أخرى، أو المتطوعون، ومن بينهم أعضاء حركات المقاومة المنظمة ما دامت تنطبق عليهم الشروط التالية:

أ ـ أن يخضعوا لقيادة شخص مسؤول عنهم.

ب ـ أن يكون لهم علامة محددة بزي أو صفة معينة يتميزون بها عن بُعد.

ج ـ أن يحملوا السلاح علانية.

د ـ أن يلتزموا في العمليات التي ينفذونها بأعراف وقواعد الحرب المتبعة.

القسم الثاني ـ ممن تشملهم هذه الاتفاقية ويعتبرون أسرى حرب ـ: أعضاء القوات المسلحة النظامية، ممن يعلنون الولاء لحكومة أو سلطة قد لا يعترف بها النظام الحاكم في تلك الدولة، أو سكان أي أرض تتمتع بالاستقلال في حال حملهم السلاح لمقاومة أي غزو بشرط حمل السلاح بشكل علني والالتزام بأعراف وقواعد الحرب.

ثانياً: في حالة وجود أي إشكال أو شك في كون هذا الأسير تنطبق عليه الشروط السابقة أو لا تنطبق عليه، فإنه في هذه الحالة يتمتع بالحماية في ظل الاتفاقية إلى أن تتولى المحكمة المؤهلة البت في أمرهم وما إذا كانوا أسرى حرب أو ليسوا أسرى حرب.

ثالثاً: ما يتعلق بالبروتوكول الإضافي الذي أضيف بعد ذلك، وهذا يقول إن أي مقاتل يقع في أسر قوة مناوئة يعتبر أسير حرب، أي مقاتل على الإطلاق، والمقاتل عندهم الذي يلتزم بأعراف وقواعد الحرب، وحتى حينما يخالف هذه القواعد والأعراف فإن من حقه أن يُعامل كأسير حرب في حالة أسره.

لكن الواقع يثبت عدم تطبيق أي شيء من تلك الاتفاقيات.

وقد ذكر الأستاذ (عيسى يوسف آلب تكين) فى كتابه (المسلمون وراء الستار الحديدى) بعض صور التعذيب والقتل التي مارسها دعاة هذه الحضارة بمن يعتبرونه أسرى من المسلمين، ومنها:

1. دق مسامير طويلة فى الرأس حتى تصل إلى المخ.

2. إحراق المسجون بعد صب البترول عليه وإشعال النار فيه.

3. جعل المسجون هدفاً لرصاص الجنود يتمرنون عليه.

4. حبس المسجونين فى سجون لا ينفذ إليها هواء ولا نور، وتجويعهم إلى أن يموتوا.

5. وضع خوذات معدنية على الرأس وإمرار التيار الكهربائى فيها.

6. ربط الرأس فى طرف آلة ميكانيكية وباقى الجسم فى ماكينة أخرى، ثم تُدار كل من الماكينتين فى اتجاهات متضادة، فتعمل كل واحدة مقتربة من أختها حيناً ومبتعدة حيناً آخر حتى يتمدد الجزء من الجسم الذى بين الآلتين، فإما أن يُقر المعذب أو أن يموت.

7. كىُّ كل عضو من أعضاء الجسم بقطعة من الحديد مسخنة إلى درجة الإحمرار.

8. صبُّ زيت مغلى على جسم المعذَّب.

9. دق مسمار حديدى أو إبر الجراموفون فى الجسم.

10. تسمير الأظافر بمسمار حديدى يخرج من الجانب الآخر.

11. ربط المسجون على سرير ربطاً محكماً ثم تركه لأيام عديدة.

12. إجبار المسجون على أن ينام عارياً فوق قطعة من الثلج أيام الشتاء.

13. نتف كتل من شعر الرأس بعنف، مما يسبب اقتلاع جزء من جلد الرأس.

14. تمشيط جسم المسجون بأمشاط حديدية حادة.

15. صب المواد الحارقة والكاوية فى فم المسجونين وأنوفهم وعيونهم بعد ربطهم ربطاً محكماً.

16. وضع صخرة على ظهر المسجون بعد أن توثق يداه إلى ظهره.

17. ربط يدى المسجون وتعليقه بهما إلى السقف وتركه ليلة كاملة أو أكثر.

18. ضرب أجزاء الجسم بعصا فيها مسامير حادة.

19. ضرب الجسم بالكرباج حتى يُدميه، ثم يقطع الجسم إلى قطع بالسيف أو بالسكين.

20. إحداث ثقب فى الجسم وإدخال حبل ذى عقد واستعماله بعد يومين كمنشار لتقطيع قطع من أطراف الجرح المتآكل.

21. ولكى يضمنوا أن يظل المسجون واقفاً على قدميه طويلاً، يلجأون إلى تسمير أذنيه فى الجدار.

22. خياطة أصابع اليدين والرجلين وشبك بعضهما إلى بعض.

23. وضع المسجون فى برميل مملوء بالماء فى فصل الشتاء.

 

([186]) رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل.

([187]) رواه البخاري ومسلم.

([188]) رواه أبو داود.

([189]) رواه أبو داود.