الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: النبي الإنسان

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

ثامنا ـ الطبيب

1 ـ الوقاية

الفم:

الأنف:

الوجه:

اليدان:

الرجلان:

الغذاء:

النوم:

الرياضة:

2 ـ العلاج

 

 

ثامنا ـ الطبيب

بعد أن خرجت من اسطمبول قصدت بلاد الشام، ونزلت بلدة بها تسمى (حلب)، لاشك أنكم تعرفونها.

لقد شد انتباهي في تلك المدينة ما رأيت أهلها ينعمون به من صحة أجسام، وعافية أبدان، وصفاء نفوس.. لقد كانت دماء الحياة تسري في وجوههم طاهرة نقية لم يخالطها أي دنس.

وكان جوها كأهلها نقيا صافيا لم يتدنس بأي تلوث..

وكانت مياهها مثل ذلك جميعا عذبة صافية حية تملأ جميع ما يحيط بها حياة.

لقد عجبت في البداية لما رأيت، بل ذهب وهمي إلى أن سر ذلك قد يعود إلى تمدن هذه المدينة وأخذها بأسباب الحضارة الحديثة.. لكني بعد ذلك علمت أن سر ذلك يعود لوارث من ورثة النبوة امتلأ بهذا الجانب من الوراثة، فراح ينشره على المدينة عافية وصحة وسلاما.

لن أطيل عليكم.. بل سأكتفي بأن أحدثكم باختصار[1] عن بعض ما تعلمت في هذه المدينة مما ملأني بالقناعة بأن محمدا r لم يكتف بأن يكون طبيبا للأرواح، بل ضم إلى ذلك طب الأجسام.. فالأجسام والأرواح كلها في ظل هديه ممتلئة عفوا وعافية وسلاما.

1 ـ الوقاية

شعرت بألم في ضرسي، فسألت بعض المارة عن عيادة أسنان، فابتسم، وقال: لا أسمع أن هناك عيادة بهذا الاسم.

قلت: ألا تسمع بعيادة الأسنان!؟  تلك العيادة التي تختص بقلع الأضراس المسوسة أو تصليحها.

نظر إلي دهشا، وقال: ما معنى التسوس؟.. لا أعرف شيئا بهذا الاسم يرتبط بالإنسان.. التسوس يا هذا يصيب البقول، ولا يصيب البشر.

قال ذلك، ثم ابتسم عن أسنان مثل اللآلئ، وسار.. تبعته ببصري، فإذا به يخرج سواكا كان يضعه في جيبه، ليضعه في فمه، وكأنه سيجارة يتسلى بها.. أحسست نحوه بنوع من الانجذاب، كالانجذاب الذي تعودت أن يجذبني للورثة.. فأسرعت أحث خطاي إليه.. شعر بذلك، فتوقف، وعاد يصافحني من جديد، وقال: تريد أن تسألني عن هذا الذي أحمله.

الفم:

قلت: لم تعدو ما في خاطري.

قال: لا شك أنك غريب عن هذه البلدة.. إن أهل كل هذه البلدة يحملون مثل هذه العيدان.. إنها سنة ورثوها عن نبيهم r، وهم يحافظون عليها.. ويوصي بعضهم بعضا بها..

لقد قال r وهو يوصينا بالسواك:( تسوكوا، فإن السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب، ما جاءني جبريل إلا أو صاني بالسواك حتى لقد خشيت أن يفرض علي وعلى أمتي، ولولا أن أخاف أن أشق على أمتي لفرضته عليهم، فإني لأستاك حتى خشيت أن أحفي مقادم فمي)[2]

أرأيت مدى الاهتمام الذي أبداه هذا الحديث للسواك..

ليس ذلك فقط.. بل إن في النصوص المقدسة ما يشير إلى وجوب استعمال السواك، ففي الحديث قال r:( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة)[3]، وفي رواية:( عند كل وضوء )

قلت: إن محمدا في هذا الحديث لم يوجب السواك.. فكيف تزعم وجوبه؟

قال: هو لم يوجبه في وقت محدد.. ولكنه واجب في سائر الأوقات.. وإن شئت قلت: هو مطلق الوجوب غير محدد الوقت.

هذا ما تدل عليه النصوص الكثيرة.. لقد كان r (لا يرقد من  ليل ولا نهار فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ)[4]، وكان r (إذا دخل  بيته بدأ بالسواك)[5]، و(كان إذا قام من الليل يشوص فمه بالسواك)[6]

بل قد ورد في النصوص ما يدل على أن الاستياك يشمل الصائم والمفطر، فكلاهما يحتاج إلى تحصين فمه من أساب العلل، فعن عبد الرحمن بن غنم قال: سألت معاذ بن جبل: أتسوك وأنا صائم؟ قال: نعم! قلت: أي النهار؟ قال: غدوة أو عشية! قلت: إن الناس يكرهونه ويقولون إن رسول الله r قال: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؟ قال: سبحان الله! لقد أمرهم بالسواك، وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا  أفواههم عمداً!  ما في ذلك من الخير شيء، بل فيه شر)[7]

قلت: ولكن الزمن تطور الآن.. ونحن في عصرنا هذا.. وفي ظل هذه المدنية الراقية صنعنا فرشاة غاية في الرقة.. ومعجونا غاية في الطيبة.

قال: وماذا تصنعون به؟

قلت: ننظف به أسناننا صباح مساء..

قال: أرينيه.

ابتسمت، وقلت: هو لا يحمل.. بل يبقى في البيت.

قال: فإن أعجبك طعام في الطريق وأكلته.. هل تذهب إلى البيت لتنظف فمك؟

قلت: لا.. بل أنتظر المساء..

قال: ويظل فمك مملوءا بآثار الطعام؟

قلت: أمضمض فمي.

قال: لا يكفي ذلك.. لقد ورد في الحديث أن الطعام الباقي بين الأسنان يؤذي الملائكة.. لقد قال r:« حبذا المتخللون بالوضوء، والمتخللون من الطعام، أما تخليل الوضوء: فالمضمضة والاستنشاق وبين الأصابع، وأما تخليل الطعان فمن الطعام فإنه ليس شيء أشد على الملكين من أن يريا بين أسنان صاحبهما طعاما وهوقائم يصلي »[8] 

وفي حديث آخر قال r:( تخللوا فإنه نظافة، والنظافة تدعو إلى الإيمان مع صاحبه في الجنة) [9]

قلت: ولكن المعجون الذي نضعه في الفرشاة به مواد غاية في القوة.. وهي تردي كل ما يسبب التسوس قتلا.

قال: وهذا الأراك الذي أحمله.. لقد وضع فيه ربي من المواد المطهرة ما لا يبقى معه أي أذى..

لقد حدثنا وارث طب النبي r عن الأسرار التي تحملها هذه العيدان، فذكر ـ انطلاقا من المكونات الكيميائية للسواك ـ أن له تأثيرا على وقف نمو البكتريا بالفم، وذكر أن سبب ذلك قد يعود إلى وجود مادة تحتوي على الكبريت.

وذكر لنا أن به مادة التريمثيل امين، وهي تخفض من الأس الايدروجيني للفم، وهو أحد العوامل الهامة لنمو الجراثيم، وبالتالي فإن فرصة نمو هذه الجراثيم تكون قليلة.

وذكر لنا أنه يحتوي على فيتامين ج ومادة السيتوستيرول، والمادتان من الأهمية بمكان كبير في تقوية الشعيرات الدموية المغذية للثة، وبذلك يتوفر وصول الدم إليها بالكمية الكافية، علاوة على أهمية فيتامين ج في حماية اللثة من الالتهابات.

وذكر لنا أنه يحتوي على مادة راتنجية تزيد من قوة اللثة.

وذكر لنا أنه يحتوي على مادة الكلوريد والسيليكات، وهي مواد معروفة بأنها تزيد من بياض الأسنان.

قلت: ولكن مع ذلك، فإن الصناعة أضافت للمعاجين تلك الأذواق الجميلة؟

قال: أما إن قلت ذلك.. فقد حدثنا وارث الطب النبوي أن مجموعة خبراء[10] قاموا بدراسة مقارنة بين السواك، وبعض المستحضرات الموجودة في الأسواق.. وقد أجروا البحث على عدد كبير من الأشخاص، فوجدوا أن استعمال السواك يساهم في إزالة اللويحة الجرثومية، وهي بكر قبل نضوجها وازدياد عتوها على الأنسجة الرخوة والصلبة.

ووجدوا أن استمرار السواك يوميا قبل الصلاة وبصورة مكررة كما ورد في تعاليم الرسول r في هذا المجال تؤدي إلي درجة عالية من نظافة الفم.

ووجدوا أن احتواء المسواك على المواد الطبيعية أعطى المسلم الذي داوم على استعمال المسواك منذ الصغر نعومة للأسنان، وصلابة في مينائها، وقوة في اللثة، وتقوية للأوعية الدموية اللثوية.

ووجدوا أن تحسن التهابات اللثة التي سجلت قبل بدء البحث في المجموعتين اللتين استعملتا السواك والسواك المسحوق عن المجموعتين اللتين استعملتا المسحوق التجاري والنشا. 

وقد أظهر البحث أن نظافة فم مستعملي السواك المسحوق قد وصلت إلى درجة عليا من النظافة وغياب الالتهابات، وذلك بالمقارنة مع المسحوق التجاري والنشا المستعملين في مجموعتين أخريين.

وقد استخلص البحث ضرورة تطبيق استعمال السواك في البلدان الإسلامية خاصة وأن المسواك متواجد بكثرة ني هذه البلدان، ورخيص الثمن، زيادة على أن المسلم قد تعود استعماله كجزء من تعاليم دينه.

قلت: أراك ترجع كل حين إلى وارث الطب النبوي.. فمن هو؟

قال: هو طبيب هذه البلدة الوحيد[11].. وهو رجل من الموصل.. كان قد سكن بغداد.. ثم فتح عيادة مباركة عندنا هنا في حلب منذ زمن طويل.. وقد أغلق بسبب عيادته المملوءة بالبركة كل الأطباء عياداتهم.. بل إن الأطباء يزورونه من كل البلاد ليستفيدوا من طبه.

قلت: ما اسمه؟

قال:  هو موفق الدين أبو محمد عبد اللطيف[12]..

قلت: دلني عليه.

قال: هو غائب الآن.

قلت: أين؟

قال: هو يجري بعض الاختبارات في بعض البلاد على ما وصفه r من أدوية لبعض الأمراض المستعصية.. لقد تعود أن يغيب مثل هذا الغياب.. انتظره فقط.. فلن يطول غيابه.

قال ذلك، ثم أسرع في سيره، وهو يقول: لن يضيع وقتك في هذه البلدة.. فكلهم تلاميذه.. كلم أي رجل أو طفل، فسيخبرك من علومه ما تشاء.

قلت: وأنت!؟

قال: اعذرني.. فإن لي موعدا مع بعض الناس.. وقد حان وقته.

قلت ـ مختبرا ـ: لا حرج عليك أن تتأخر عليه بعض الوقت.. لقد تعود الناس مثل هذا.

قال: أتريد مني أن أتحلى بصفات المنافقين.. لقد قال r محذرا من ذلك:( أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)[13]

ودعني، وسار، فاقترب مني طفل صغير، وكأنه كان يتنصت علينا، وقال: لقد ذكر لك هذا الرجل سنة واحدة من سنن الحرص على طهارة الفم.. ونسي أن يذكر لك الثانية.. لعله نسي مراجعتها.

قلت: أهناك سنة أخرى ترتبط بالفم؟

قال: أجل.. لقد علمنا وارث النبي r أن للفم سنتين: سنة السواك.. وسنة المضمضة.

لقد قال r في هذه السنة الثانية:( إذا توضأت فمضمض)[14]، وقال:( مضمضوا من اللبن، فإن له دسماً)[15]

قلت: عرفت سر السواك، فما سر المضمضة؟

قال: لقد أخبرنا الوارث أن المضمضة تحفظ الفم والبلعوم من الالتهابات ومن تقيح اللثة،  وتقى الأسنان من النخر بإزالة الفضلات الطعامية التي قد تبقى فيها.

وأخبرنا أنه قد ثبت علميا أن تسعين في المئة من الذين يفقدون أسنانهم لواهتموا بنظافة الفم لما فقدوا أسنانهم قبل الأوان، وأن المادة الصديدية والعفونة مع اللعاب والطعام تمتصها المعدة وتسرى إلى الدم.. ومنه إلى جميع الأعضاء وتسبب أمراضا كثيرة، وأن المضمضة تنمى بعض العضلات في الوجه وتجعله مستديرا.. وهذا التمرين لم يذكره من أساتذة الرياضة إلا القليل لانصرافهم إلى العضلات الكبيرة في الجسم.

قلت متعجبا: ما سر حرص نبيكم على نظافة الفم وطهارته.

قال: لقد سألنا الوارث هذا السؤال، فأخبرنا أن الفم هو  المدخل الرئيسي لأعضاء الجسم الداخلية، ويمكن إدراك المخاطر التي يمكن أن تصيب هذه الأجهزة، سواء الجهاز التنفسي العلوي أو الرئتان أو الجهاز الهضمي إذا ما أصيب الفم.

بل إن الجهاز العصبي المتصل بالأسنان وبمنطقة الوجه يمثل خطورة كبيرة على الإنسان إذا هو  أقرب المناطق إلى الجهاز العصبي  المركزي الرئيسي (المخ) لذا كانت آلامه لا تحتمل.

فتحت فمي متثائبا، فأسرع إلى يدي يأمرني بأن أضعها على فمي، فقلت: ما الذي تريد؟

قال: أسرع.. ضع يدك على فمك.

قلت: لم؟

قال: لقد أخبر r أن التثاؤب من الشيطان، فقال:(.. وأما التثاؤب فإنما هو  من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان)[16]، وقال:( العطاس من الله، والتثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه، وإذا قال: آه آه، فإن الشيطان يضحك من جوفه، وإن الله عز وجل يحب العطاس ويكره التثاؤب)[17]

قلت: ما سر كراهية التثاؤب؟

قال: ما التثاؤب؟

قلت: ألا تعرفه؟.. قد كنت الآن تذكره..

قال: فما هو؟

قلت: إنه شهيق عميق يجري عن طريق الفم، فيدخل الهواء إلى الرئتين.

قال: لقد أجبت نفسك.

قلت: أجبت نفسي؟! ماذا قلت؟

قال: الأصل في الهواء أن يدخل إلى الرئتين عن طريق الأنف، ليتعرض للتصفية، فإذا دخل من غير ذلك الطريق كان فيه أذى، وكان في نفس الوقت دليلا على حاجة الدماغ إلى الأوكسجين والغذاء، وعلى تقصير الجهاز التنفسي في تقديم ذلك إلى الدماغ خاصة وإلى الجسم عامة، وهذا ما يحدث عند النعاس وعند الإغماء.

زيادة على ذلك، فإن التثاؤب قد يضر بالبدن، لأن الهواء غير المصفى قد يحمل معه إلى البدن الجراثيم والهوام، لذا أمر r برد التثاؤب قدر المستطاع، أو سد الفم براحة اليد اليمنى، أو بظهر اليد اليسرى هو  التدبير الصحي الأمثل[18].

قلت: أليس في ارتباط التثاؤب بالكسل علة أخرى للكراهية؟

قال: هذا صحيح، حتى أن التثاؤب عند أهل اللغة من تثاءب وتثأب، أي أصابه كسل وفترة كفترة النعاس... ولهذا يفسر علماء النفس التثاؤب على أنه دليل على الصراع بين النفس وفعالياتها من جهة، وبين الجسد وحاجته إلى النوم من جهة أخرى.. وهو من الناحية الطبية فعل منعكس من أفعال التنفس، وهو دليل على الكسل والخمول[19].

قلت: وزيادة على ما ذكرت، فإن مظهر المتثائب، وهو يكشف عن فمه مفتوحا مما يثير الاشمئزاز في نفس الناظر.

قال: صدقت، ولهذا كان في هذا الهدي النبوي صحة جسدية، ومناعة نفسية، ومصلحة اجتماعية.. وكذلك الحال في كل هدي نبوي.

الأنف:

سرت إلى حديقة قريبة، وقد شد انتباهي أزهار متفتحة جميلة تفوح بألوان عذبة من العطور، فاقتربت منها لأشمها، فوجدت بجانبها شيخا، يخاطبها، أو يخاطب نفسه، ويقول: تنعم يا أنفي بما كان يحبه رسول الله r.. لقد كان r يحب الطيب، ويحب الروائح الطيبة..

ثم يتوجه إلى الأزهار الجاثية أمامه، ويقول: طوبى لك أيتها الأزهار الطيبة، فأنت من أحباب الحبيب.

جلست أمامه، فوضع يده على فخذي، وقال: يا بني.. هل طهرت أنفك ليصبح صالحا لشم هذه الأزهار التي هي حبيبة رسول الله؟

قلت: أنا لست من هذه البلاد.. فهل هناك عيدان خاصة بتنظيف الأنف؟

ابتسم، وقال: لا.. العيدان خاصة بالفم.. أما الأنف، فقد وصف لنا رسول الله r طريقة خاصة بتطهيره.

قلت: ما هي؟

قال: هي الاستنشاق والاستنثار.. فبالاستنشاق نجذب الماء إلى الأنف، وبالاستنثار نطرحه، ومعه ما يلصق به من أوساخ.. لقد ورد الحديث بذلك، قال r:(إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر)[20]، وقال:( إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فلينتثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه)[21]

قلت: ألا ترى أن إدخال الماء إلى الأنف يؤذيه؟

قال: لا.. ما كان محمد r ليأمرنا بما يؤذينا.. لقد أخبرنا الوارث أن العلم الحديث أثبت بأجهزته المتطورة ما نص عليه r في هذه الأحاديث[22]، فبعد الفحص الميكروسكوبي للمزرعة الميكروبية التي عملت للمنتظمين في الوضوء، ولغير المنتظمين، ظهر بأن الذين يتوضئون باستمرار غالبية أنوفهم نظيفة طاهرة خالية من الميكروبات، ولذلك جاءت المزارع الميكروبية التي أجريت لهم خالية تماما من أي نوع من الميكروبات، في حين أعطت أنوف من لا يتوضئون مزارع ميكروبية ذات أنواع متعددة وبكميات كبيرة من الميكروبات الكروية العنقودية شديدة العدوى.. والكروية السبحية السريعة الانتشار.. والميكروبات العضوية التي تسبب العديد من الأمراض.

 وقد ثبت أن التسمم الذاتي يحدث من جراء نمو الميكروبات الضارة في تجويفى الأنف، ومنهما إلى داخل المعدة والأمعاء ولإحداث الالتهابات والأمراض المتعددة، ولا سيما عندما تدخل الدورة الدموية.. لذلك شرع الاستنشاق بصورة متكررة ثلاث مرات في كل وضوء.

ما استتم قوله هذا حتى سمعنا رجلا قريبا منا يعطس، فتركني الشيخ، وانصرف إليه يقوله له: قل: الحمد لله.

قال الرجل: الحمد لله.. ولكن لم؟

قال الشيخ: هذا هدي من هدي النبي r، لقد قال r في ذلك:( إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك اللَّه؛ فإذا قال له يرحمك اللَّه فليقل: يهديكم اللَّه ويصلح بالكم)[23]

بل اشتد في ذلك، فقال:(إذا عطس أحدكم فحمد اللَّه فشمتوه، فإن لم يحمد اللَّه فلا تشمتوه)[24]

وقد روي أن رجلين عطسا عند النبي r فشمت أحدهما، ولم يشمت الآخر، فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمته وعطست فلم تشمتني؟ فقال:(هذا حمد اللَّه، وإنك لم تحمد اللَّه)[25]

قال الرجل: بورك فيك.. فهل تكمل جميلك بأن تذكر لي ما ذكر الوارث من أسرار ذلك.

قال الشيخ: بكل سرور.. لقد قال الوارث: الحمد لا يكون إلا على نعمة، والعطاس نعمة من نعم الله، فهو[26] وسيلة دفاعية دماغية هامة لتخليص المسالك التنفسية من الشوائب، ومن أي جسم غريب يدخل إليها عن طريق الأنف، فهو بذلك الحارس الأمين الذي يمنع ذلك الجسم الغريب من الاستمرار في الولوج داخل القصبة الهوائية.

قال الرجل: كيف ذلك؟

قال الشيخ: إن مجرد ملامسة الجسم الغريب لبطانة الأنف، سواء كان حشرة ضارة أو ذات مهيجة وغيرها، فإن بطانة الأنف تتنبه بسرعة عجيبة آمرة الحجاب الحاجز بصنع شهيق عميق لا إرادي يتبعه زفير عنيف.. والذي هو  العطاس.. عن طريق الأنف لطرد الداخل الخطير ومنعه من متابعة سيره عبر المسالك التنفسية إلى الرئتين.

قال الرجل: أرأيت لو دخل ذلك عن طريق الفم؟

قال الشيخ: إذا دخل الجسم الغريب عن طريق الفم، ووصل إلى القصبة الهوئية، فإن ذلك ينبه الجهاز التنفسي محدثاً السعال لصد الخطر وطرد الجسم الغريب الداخل إلى المجرى التنفسي، ولا يحدث العطاس إلا حين دخول المواد المؤذية عن طريق الأنف.

قال الرجل: ولكن لماذا لم لم يشرع الحمد عند السعال، وشرع فقط عند العطاس؟

قال الشيخ: هناك فرق كبير بينهما، فالسعال لا يؤثر على الدماغ، ولا يحدث العطاس.. ولا يزال العلماء حتى اليوم يقفون حائرين أمام هذا السر المبهم، ولا يزالون عاجزين عن إيجاد أي تعليل علمي عن آلية توليد العطاس لذلك الشعور بالارتياح في الدماغ وخفة الرأس وانشراح النفس.

قال الرجل: فلم أمرنا بتشميت العاطس؟ ولم خص ذلك بطلب الرحمة له؟

قال الشيخ: هذا يذكرنا بأهمية العطاس للبدن، فأمره r بتشميت العاطس يوحي بأن هناك خطراً متوقعاً، فجاء العطاس، فطرد العدو المهاجم وانتصر عليه وأبقى صاحبه معافى.

قال الرجل: ولكن العاطس قد ينقل العدوى لغيره بعطاسه، فكيف يكون رحمة؟

قال الشيخ: لقد نبهت السنة المطهرة إلى الآداب التي تحفظ هذه الناحية، فقد كان رسول الله r إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فمه، وخفض، أو غض من صوته.

قال الرجل: من السنة ـ إذن ـ أن يضع العاطس يده على فمه؟

قال الشيخ: نعم، وذلك ليمنع من وصول الرذاذ إلى غيره، وهو من الآداب الرفيعة التي تتفق مع مبادئ الصحة، ذلك أنه يندفع رذاذ العطاس إلى مسافة بعيدة يمكن أن يصل معها إلى الجالسين مع العاطس، أو أن يصل إلى طعام أو إلى شراب قريب منه، وهذا يمكن أن ينقل العدوى بمرض ما، كالزكام، إن كان العاطس مصاباً به، وليس من خلق المسلم أن يتسبب بشيء من ذلك، لذا علمنا رسول الله r الأدب في أن نضع يدنا أو منديلاً على فمنا عند العطاس لمنع وصول رذاذه إلى الغير، وفي ذلك غاية الأدب ومنتهى الحكمة.

الوجه:

رأيت صبيا صغيرا يغسل وجهه، ويتقن غسله فاقتربت منه، وقلت ـ من غير أن أشعر ـ: أراك تغسل وجهك؟

قال: وما لي لا أغسله.. وقد أمرنا الله تعالى بغسل وجوهنا.. وكان r يغسل وجهه، ويتعهده، ويأمر بذلك.

بل كان r يغسل كل ما ارتبط بالوجه، فقد ورد ـ فيما يخص الأذنين ـ أن النبي r (مسح أذنيه، داخلهما بالسبابتين، وخالف إبهاميه إلى ظاهر أذنيه فمسح ظاهرهما وباطنهما)[27]

ومما ورد في نظافة العينين أن النبي r (كان يمسح المأقين)[28]

ومما ورد في نظافة الشعر، قوله r:( من كان له شعر فليكرمه)[29]

قلت: فهل حدثكم الوارث عن أسرار ذلك؟

قال: أجل.. لقد ذكر لنا أن من الفوائد الطبية لهذا إزالة الغبار وما يحتوى عليه من الجراثيم.. وتنظيف البشرة من المواد الدهنية التي تفرزها الغدد الجلدية.. وإزالة العرق.

وقد ثبت علميا أن الميكروبات لا تهاجم جلد الإنسان إلا إذا أهمل نظافته.. فإن الإنسان إذا مكث فترة طويلة بدون غسل لأعضائه فإن إفرازات الجلد المختلفة من دهون وعرق تتراكم على سطح الجلد محدثه حكة شديدة وهذه الحكة بالأظافر.. التي غالبا ما تكون غير نظيفة تدخل الميكروبات إلى الجلد.

كذلك فإن الإفرازات المتراكمة هي دعوة للبكتريا كي تتكاثر وتنمو، لهذا فإن الوضوء بأركانه قد سبق علم البكتريولوجيا الحديثة والعلماء الذين استعانوا بالمجهر على اكتشاف البكتريا والفطريات التي تهاجم الجلد الذي لا يعتني صاحبه بنظافته التي تتمثل في الوضوء والغسل.

اليدان:

جلست في بعض الكراسي التي كانت تملأ الحديقة، فشد انتباهي حديث اثنين:

قال الأول: أرأيت.. كم نصحتها بالتزام سنة المصطفى، ولكنها أبت إلا أن تتبع سنة الفرنجة.. فانظر عاقبة ما حصل لها.. لقد كررت على مسامعها كثيرا أمره r بقص الأظافر[30].. ولكنها أبت إلا تخالفه.

قال الثاني: لقد فاتني أن أسمع الوارث، وهو يتحدث عن أسرار أمره r بقص الأظافر، فأخبرني عما قال في ذلك.

قال الأول: لقد سأله بعضهم عن سر حرص الشريعة على هذه السنة، فقال[31]: الأصل في الأظافر أنها تحمي نهايات الأصابع وتزيد صلابتها وكفاءتها وحسن أدائها عند الاحتكاك أو الملامسة، هذا إذا كان طولها طبيعيا.. أما إذا زادت، فإن الجزء الزائد من الظفر والخارج عن طرف الأنملة لا قيمة له، ووجوده ضار من نواح عدة:

منها تكون الجيوب الظفرية بين تلك الزوائد ونهاية الأنامل، والتي تتجمع فيها الأوساخ والجراثيم وغيرها من مسببات العدوى كبيوض الطفيليات، وخاصة من فضلات البراز والتي يصعب تنظيفها، فتتعفن وتصدر روائح كريهة، ويمكن أن تكون مصدراً للعدوى للأمراض التي تنتقل عن طريق الفم كالديدان المعدية والزحار والتهاب الأمعاء، خاصة وأن النساء هن اللواتي يحضرن الطعام، ويمكن أن يلوثنه بما يحملن من عوامل ممرضة تحت مخالبهن الظفرية.

ومنها أن الزوائد (المخالب ) الظفرية نفسها كثيراً ما تحدث أذى بسبب أطرافها الحادة قد تلحق الشخص نفسه أو الآخرين، وأهمها إحداث قرحات في العين والجروح في الجلد أثناء الحركة العنيفة للأطراف خاصة أثناء الشجار وغيره.

كما أن هذه الزوائد قد تكون سبباً في إعاقة الحركة الطبيعية الحرة للأصابع، وكلما زاد طولها كان تأثيرها على كفاءة أصابع اليد أشد، حيث نلاحظ إعاقة الملامسة بأطراف الأنامل وإعاقة حركة انقباض الأصابع بسبب الأظافر الطويلة جداً، والتي تلامس الكف قبل انتهاء عملية الانقباض، وكذا تقييد الحركات الطبيعية للإمساك والقبض وسواها.

بالإضافة إلى هذا، فإن هناك آفات تلحق الأظافر نفسها بسبب إطالتها، منها تقصفها بسبب كثرة اصطدامها بالأجسام الصلبة أو احتراقها، ذلك أن طولها الزائد يصعب معه التقدير والتحكم في البعد بينها وبين مصادر النار، كما أن تواتر الصدمات التي تتعرض لها الأظافر الطويلة تنجم عنها إصابات ظفرية غير مباشرة كخلخلة الأظافر أو تضخمها لتصبح مشابهة للمخالب أو زيادة تسمكها أو حدوث أخاديد مستعرضة فيها أو ما يسمى بداء الأظافر البيضاء.

ويضاف إلى ذلك أن الأظافر الطويلة لا يمكن أن نعقم ما تحتها ولابد أن تعلق بها الجراثيم مهما تكرر غسلها، لذا توصي كتب الجراحة أن يعتني الجراحون والممرضات بقص أظافرهم دوماً لكي لا تنتقل الجراثيم إلى جروح العمليات التي يجرونها وتلوثها.

قال الثاني: بورك فيك يا أخي.. وبورك في الوارث، فقد علمنا من سنن الحبيب ما ملأ حياتنا بالبركات..

قال الأول: لقد أفدتك فأفدني.. أما الدعاء، فسأدعو لك بمثل ما دعوت لي أو أزيد.

قال الثاني: وعم تريد أن أحدثك.

قال الأول: الأظافر بنات اليدين.. فحدثني عن اليدين.. فيستحيل أن يأمر r بتنظيف الفرع، ولا يأمر بتنظيف الأصل.

قال الثاني: إن قولك صحيح.. لقد ورد الأمر بتنظيف اليدين في القرآن الكريم، فقد قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ﴾ (المائدة: من الآية6)

هذا في العبادة.. أما في الحالة العادية، فقد أمر r بتنظيف اليدين عند ملامسة كل شيء قذر أو ملوث، أو قبل الطعام، فقد كان رسول الله r (إذا أراد أن يأكل غسل يديه)[32]

وكان r يأمر بغسل اليدين عند مآكل تؤثر في نظافة اليدين، بل حذر من عدم تنظيف اليدين عقب ذلك، فقال:( من بات وفي يده ريح غمر[33] فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه»[34]، وقد ورد في الحديث أنه r ( أكل كتف شاةٍ فمضمض وغسل يديه)[35]

وقد ورد الأمر بإتقان غسل اليدين في الوضوء، فقد قال r:(إذا توضأت، فخلل بين أصابع يديك ورجليك)[36]

وورد الأمر بعدم غمس اليدين في الإناء قبل غسلهما، قال r:( إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنه لا يدري أين باتت يده)[37]

قال الأول: ما سر كل هذه الأوامر؟

قال الثاني: لقد أخبرنا الوارث أن البحوث العلمية أثبتت أن جلد اليدين يحمل العديد من الميكروبات التي قد تنتقل إلى الفم أو الأنف عند عدم غسلهما.. ولذلك يجب غسل اليدين جيدا عند البدء في الوضوء..

كما ثبت أن الدورة الدموية في الأطراف العلوية من اليدين والساعدين والأطراف السفلية من القدمين والساقين أضعف منها في الأعضاء الأخرى لبعدها عن المركز الذي هو  القلب، ولذلك، فإن غسلها مع دلكها يقوي الدورة الدموية لهذه الأعضاء من الجسم مما يزيد في نشاط الشخص وفعاليته.

الرجلان:

انصرف الرجلان، فجلس بدلهما رجلان آخران:

قال الأول: لكم نبهته إلى مخاطر التفريط في نظافة رجليه.. لقد ذكرت له كل النصوص التي تدل على وجوب ذلك بدءا من قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ (المائدة: من الآية6)، وانتهاء بكونه r:( إذا توضأ يدلك أصابع  رجليه بخنصره)[38]، وقوله:( ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء)[39]، وقوله:( إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك)[40]

وذكرت له ـ مع ذلك ـ أمره r بالانتعال، والإكثار من ذلك، للحفاظ على صحة الرجلين، فعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال سمعت رسول الله r يقول في غزوة غزوناها:( استكثروا من النعال فإن الرجل ما يزال راكبا ما انتعل)[41]

قال الثاني: لعلك لم تذكر له ما ذكر الوارث من أسرار ذلك.

قال الأول: ألم يكفه ما قال رسول الله حتى ينتظر ما يقول الوارث؟

قال الثاني: إن الوارث يحبب لنا ما قال رسول الله ويقربه لنا.. فلذلك كان من تمام نصحك له أن تذكر له ما قال الوارث من ذلك.

قال الأول: لم أتشرف بسماع حديث الوارث في هذا، فحدثني عنه.

قال الثاني: لقد ذكر أن من الفوائد الصحية للالتزام بالتنعل الوقاية من الكثير من الديدان كالأنكلستوما والسترنقولويديز ونحوها، والتي تصيب الإنسان عن طريق اختراق جلد القدم،  ويحصل ذلك عادة إذا ما سار الإنسان حافيا خصوصا في الطرقات العامة وأماكن الظل ومصادر المياه كالعيون ونحوها، فالتبول والتبرز في هذه المناطق وسير الإنسان حافيا فيها يعطي هذه الديدان فرصة أكبر لاختراق أخمص القدم وحصول المرض.

الغذاء:

أحسست بالجوع، فلاح لي من بعيد مطعم نظيف، فأسرعت أحث خطاي إليه..

قبل أن أدخله سمعت أصواتا قريبة من أصوات المتخاصمين، فاستفزني الفضول لسماعها، فاقتربت منها، فرأيت رجلا جالسا على المائدة، وهو يرفع صوته بقوة على النادل.. والنادل يجيبه بهدوء.. وهذا بعض ما دار ما بينهما من حديث.

قال الرجل: لا يحق لك أن تتدخل فيما أشتهي من مطاعم.. لقد ذكرت لك أني أحب لحم الخنزير، وقد غذيت من لحمه صغيرا.. وربيت على حبه كبيرا.. فكيف تعيبه لي؟

قال النادل: إن هذا المطعم ـ يا سيدي ـ مطعم ورثة.. وهو لا يهتم بالربح بقدر اهتمامه بالنصح.. لأنا بجني المال نربح الدنيا، وببذل النصح نربح الآخرة.. ولم أفعل سوى أن ذكرتك بقوله تعالى:﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أو لَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (لأعراف:157)

فمن وظائف النبي r التي كلفه الله بها.. والتي هي من صميم رسالته إباحة الطيبات، وتحريم الخبائث، ومن أمهات الخبائث لحم الخنزير.. لقد ذكر الله تعالى تحريمه في أربعة مواضع، قال في أولها:﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ((البقرة: من الآية173)، وقال  في الثاني:﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ((المائدة: من الآية3)، وقال في الثالث:﴿ قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ((الأنعام: من الآية145)، وقال في الرابع:﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ((النحل: من الآية115)

أتراني بعد هذا أتجرأ، وأقدمه لك طعاما؟

قال الرجل: لقد ذكرت لي بأن نبيكم هو الذي حرم عليكم هذا النوع من الأكل.. وأنا لا شأن لي بنبيكم.. ولا علاقة تربط بيني وبينه.

ثم انفجر ضاحكا، وقال: من العجب أن ينزل نبي من درجات النبوة الرفيعة ليصف للناس ما يأكلون وما يدعون.

قال النادل بهدوء: يمكنك أن تقول هذا لأن التصورات التي تحملها عن النبوة، أو الصورة التي عرضت لك عن النبوة ذكرت لك هذا.. أما تصوراتنا نحن فتختلف تماما.. فالنبي عندنا وسيط هداية بين الله وعباده.. وما كان الله الرحمن الرحيم ليدع عباده لما يؤذيهم.

قال الرجل: الله يدل عباده على الطيبات من الأعمال، لا الطيببات من المآكل!؟

قال النادل: أليس الأكل عملا؟

قال الرجل: هو عمل المعدة لا عمل العقل.. والإنسان مكلف بعمل العقل، لا بعمل المعدة.

قال النادل: أرأيت إن أخذ سما، وأكله.. أيحل له ذلك؟

قال الرجل: لا.. لأنه سينتحر بذلك.. والانتحار مذموم عقلا.

قال النادل: أرأيت إن تجرع سما لا يقتله في تلك اللحظة.. ولكنه يقتله بعد حين.. هل يصح ـ عقلا ـ هذا الفعل؟

قال الرجل: لا.. فالانتحار مذموم تقدم أو تأخر.. بل إنه في تأخره قد يكون أشد ذما، لأنه يجرع صاحبه الويلات قبل أن يقضي عليه.

قال النادل: فلذلك كان من رحمة الله أن أعلمهم بالأطعمة التي قد تسبب لهم هذا الانتحار البطيئ.. إن الخنزير لم يحرم لكونه لحما، وإنما حرم لكونه يحوي سموما تضر بالصحة.. والله الرحمن الرحيم لا يرضي لنا أن نضر هذه الصحة التي نعبده بواسطتها.

قال الرجل: ومن قال لك بأن لحم الخنزير مضر؟

قال النادل: أحسبك غريبا عن هذه البلدة.. ولا تعرف الوارث.

قال الرجل: لا أعرف الوارث ولا المورث.

قال النادل: إن الوارث هو المستشار الصحي لهذا المطعم.. كما أنه المستشار الصحي لهذه البلدة.. وهو ينطلق في كل علومه من توجيهات النبي r وسنته.. لقد ذكر لنا أن من التزمها لزمته الصحة، ومن حرص عليها حرصت عليه.

قال الرجل: فماذا قال لكم عن الخنزير؟

قال النادل:لقد ذكر لنا[42] أن لحم الخنزير يحتوي على كمية كبيرة من الدهون، ويمتاز باندحال الدهن ضمن الخلايا العضلية للحمه علاوة على تواجدها خارج الخلايا في الأنسجة الضامة بكثافة عالية، في حين أن لحوم الأنعام تكون الدهون فيها مفصولة عن النسيج العضلي، ولا تتوضع خلاياه، وإنما تتوضع خارج الخلايا وفي الأنسجة الضامة.

وذكر لنا أن الدراسات العلمية أثبتت أن الإنسان عندما يتناول دهون الحيوانات آكلة العشب فإن دهونها تستحلب في أمعائه وتمتص، وتتحول في جسمه فإن استحلابها عسير في أمعائه، وإن جزيئات الغليسرين الثلاثية لدهن الخنزير تمتص هي دون أي تحول وتترسب في أنسجة الإنسان كدهون حيوانية أو خنزيرية.

وذكر لنا أن الكلوسترول الناجم عن تحلل لحم الخنزير في البدن يظهر في الدم على شكل كولسترول جزئي كبير الذرة يؤدي بالكثير إلى ارتفاع الضغط الدموي وإلى تصلب الشرايين، وهما من عوامل الخطورة التي تمهد لاحتشاء العضلة القلبية.. وقد وجد البروفسور roff  أن الكولسترول المتواجد في خلايا السرطان الجوالة يشابه الكولسترول المتشكل عند تناول لحم الخنزير..

وذكر لنا أن لحم الخنزير غني بالمركبات الحاوية على نسب عالية من الكبريت، وكلها تؤثر على قابلية امتصاص الأنسجة الضامة للماء كالإسفنج، مكتسبة شكلاً كيسياً واسعاً، وهذا يؤدي إلى تراكم المواد المخاطية في الأوتار والأربطة والغضاريف بين الفقرات، وإلى تنكس في العظام.

والأنسجة الحاوية على الكبريت تتخرب بالتعفن منتجة روائح كريهة فواحة لانطلاق غاز كبريت الهدروجين.. وقد لوحظ أن الآنية الحاوية على لحم الخنزير، على الرغم من أنها محكمة السد إلا أنه يتعين إخراجها من الغرفة بعد عدة أيام نظراً للروائح الكريهة النتنة وغير المحتملة الناجمة عنهاً.

وبالمقارنة فإن لحوماً أخرى مختلفة خضعت لنفس التجربة، فإن لحم البقر كان أبطأ تعفنا من لحم الخنزير ولم تنطلق منه تلك الروائح النتنة.

وذكر لنا أن لحم الخنزير يحتوي على نسبة عالية من هرمونات النمو التي لها تأثير أكيد للتأهب للإصابة بخامة النهايات علاوة على تأثيره في زيادة نموالبطن ( الكرش) وزيادة معدل النمو وخاصة نمو الأنسجة المهيئة للنمو والتطور السرطاني.. وحسب دراسات roffo فإن تلك الوجبة الدسمة الحاوية على لحم الخنزير تعتبر الأساس في التحول السرطاني للخلايا لاحتوائها على هرمون النمو علاوة على أثرها في رفع كولسترول الدم.

وذكر لنا أن لحم الخنزير يحتوي على أكبر كمية من الدهن من بين جميع أنواع اللحوم المختلفة مما يجعل لحمه عسير الهضم.. فمن المعروف علميا أن اللحوم التي يأكلها الإنسان تتوقف سهولة هضمها في المعدة على كميات الدهنيات التي تحويها وعلى نوع هذه الدهون، فكلما زادت كمية الدهنيات كان اللحم أصعب في الهضم وقد جاء في الموسوعة الأمريكية أن كل مائة رطل من لحم الخنزير تحتوي على خمسين رطلا من الدهن.. أي بنسبة 50  بالمائة في حين أن الدهن في الضأن يمثل نحو17  بالمائة فقط وفي العجول لا يزيد عن 5  بالمائة كما ثبت بالتحليل أن دهن الخنزير يحتوي على نسبة كبيرة من الأحماض الدهنية المعقدة.. وأن نسبة الكولسترول في دهن الخنزير 60 بالمائة، ومعنى ذلك بحساب بسيط أن نسبة الكولسترول في لحم الخنزير أكثر من عشرة أضعاف ما في البقر..

ولهذه الحقيقة دلالة خطيرة لأن هذه الدهنيات تزيد مادة الكولسترول في دم الإنسان، وهذه المادة عندما تزيد عن المعدل الطبيعي تترسب في الشرايين وخصوصا شرايين القلب.. وبالتالي تسبب تصلب الشرايين وارتفاع الضغط وهي السبب الرئيسي في معظم حالات الذبحة القلبية المنتشرة في أو روبا حيث ظهر من الإحصاءات التي نشرت بصدد مرض الذبحة القلبية وتصلب الشرايين أن نسبة الإصابة بهذين المرضين في أو روبا تعادل خمسة أضعاف النسبة في العالم الإسلامي، وذلك بجانب تأثير التوتر العصبي الذي لا ينكره العلم الحديث.

وذكر لنا أن الخنزير مرتع خصب لأكثر من 450 مرضاً وبائياً، وهو يقوم بدور الوسيط لنقل 57 منها إلى الإنسان، عدا عن الأمراض التي يسببها أكل لحمه من عسرة هضم وتصلب للشرايين وسواها.

وذكر لنا أن الخنزير يختص بمفرده بنقل 27 مرضاً وبائياً إلى الإنسان وتشاركه بعض  الحيوانات الأخرى في بقية الأمراض لكنه يبقى المخزن والمصدر الرئيسي لهذه الأمراض: منها الكلب الكاذب، وداء وايل، والحمى اليابانية، والحمى المتوهجة، والحميرة الخنزيرية، والالتهاب السحائي، وجائحات الكريب، وأنفلونزا الخنزير، وغيرها.

قال الرجل: أكل هذه العلل سببها الخنزير؟

قال النادل: أجل.. ولولا ذلك ما حرمه الله علينا.. فالله الرحمن الرحيم لا يحرم على عباده الطيبات.

قال الرجل: لقد رأيت قرآنكم ـ في الآيات التي تلوتها ـ يجمع بين الخنزير والميتة والدم.. أهي محرمة لمثل هذه الأسباب التي ذكرت؟

قال النادل: أجل.. ولولا ذلك ما حرمها الله.

قال الرجل: فما الذي قال مستشاركم الصحي في الميتة؟

قال النادل: لقد ذكر لنا الوارث أن الميتة مهما كان نوعها منخنقة[43] كانت أو موقوذة[44] أو متردية[45] أو نطيحة[46]، أو ما أكل السبع[47]، محرمة، قال تعالى:) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ((المائدة: من الآية3)

قال الرجل: أنا لا أسألك عن حكم القرآن.. بل أسألك عن حكم الطب؟

قال النادل: يستحيل على الطب أن يخالف القرآن.. إن الله هو الطبيب الأول، وهو الشافي، ويستحيل أن يتعارض كلامه مع خلقه.

قال الرجل: فما الذي قال صاحبكم الوارث عن الميتة؟

قال النادل: لقد ذكر لنا أن الأبحاث دلت على مدى الخبث الذي تحمله الميتة.. فالجراثيم تنفذ إلى الميتة من الأمعاء والجلد والفتحات الطبيعية، لكن الأمعاء هي المنفذ الأكثر نفوذا، فهي مفعمة بالجراثيم، لكنها أثناء الحياة تكون عرضة للبلعمة ولفعل الخمائر التي تحلها.. أما بعد موت الحيوان فإنها تنمو وتحل خمائرها الأنسجة وتدخل جدر المعي ومنها تنفذ إلى الأوعية الدموية واللمفاوية.

أما الفم والأنف والعينين والشرج، فتصل إليها الجراثيم عن طريق الهواء أو الحشرات والتي تضع بويضاتها  عليها.

أما الجلد فلا تدخل الجراثيم عبره إلا إذا كان متهتكاً كما في المتردية والنطيحة وما شابهها.

وذكر لنا أن احتباس دم الميتة، كما ينقص من طيب اللحم ويفسد مذاقه، فإنه يساعد على انتشار الجراثيم وتكاثرها فيه.

وذكر لنا أنه كلما طالت المدة بعد هلاك الحيوان كان التعرض للضرر أشد، لأن تبدل لحمها وفسادها وتفسخه يكون أعظم، إذ أنه بعد 3ـ4 ساعات من الموت يحدث ما يسمى بالمصل الجيفي.. أو التيبس الرمي.. حيث تتصلب العضلات لتتكون أحماض فيها كحمض الفسفور واللبن والفورميك، ثم تعود القلوية للعضلات، فيزول التيبس وذلك بتأثير التعفنات الناتجة عن التكاثر الجرثومي العفني التي تغزو الجثة بكاملها.

وذكر لنا أنه ينشأ عن تفسخ وتحلل جثمان الميتة مركبات سامة ذات روائح كريهة، كما أن الغازات الناتجة عن التفسخ تؤدي إلى انتفاخ الجثة خلال بضع ساعات، وهي أسرع في الحيوانات آكلة العشب من إبل وضأن وبقر وغيرها، كما تعطي بعض الجراثيم أثناء تكاثرها مواد ملونة تعطي اللحم منظراً غير طبيعي ولوناً إلى الأخضر أو السواد  وقوامه ألين من اللحم العادي.

قال الرجل: وما الذي ذكر لكم عن الدم.. أليس من المحرمات التي ذكرتها؟

قال النادل: أجل.. ولولا خبثه ما حرمه الله.. وقد ذكر لنا الوارث بعض أسرار ذلك، فذكر لنا أن إحدى وظائف الدم الهامة هي نقل نواتج استقلاب الغذاء في الخلايا من فضلات وسموم ليصار إلى الخارج طرحاً، وأهم هذه المواد هي البولة وحمض البول والكرياتنين وغاز  الفحم، كما يحمل الدم بعض السموم التي ينقلها من الأمعاء إلى الكبد ليصار إلى تعديلها.

وعند تناول كمية كبيرة من الدم، فإن هذه المركبات تمتص ويرتفع مقدارها في الجسم، إضافة إلى المركبات التي يمكن أن تنتج عن هضم الدم نفسه مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة البولة في الدم، والتي يمكن أن تؤدي إلى اعتلال دماغي ينتهي بالسبات.

وهذه الحالة تشبه مرضياً ما يحدث في حالة النزف الهضمي العلوي ويلجأ عادة ـ هنا ـ إلى امتصاص الدم المتراكم في المعدة والأمعاء لتخليص البدن منه ووقايته من حدوث الإصابة الدماغية.

وهكذا فإن الدم يحتوي على فضلات سامة مستقذرة، ولو أخذ  من حيوان سليم، علاوة على احتوائه على عوامل مرضية وجرثومية فيما لوأخذ من حيوان مريض بالأصل.

وذكر لنا أن الدم وسط صالح لنمو الجراثيم وتكاثرها، إذ أنه من المتفق عليه طبياً أن الدم أصلح الأوساط لنمو شتى أنواع الجراثيم وتكاثرها، فهو أطيب غذاء لهذه الكائنات وأفضل تربة لنموها ولهذا تستعمله المخابر لتحضير المزرعة الجرثومية.

وذكر لنا أنه زيادة على هذا كله، فإن الدم لا يصلح غذاء للإنسان.. فإن ما يحتويه من بروتينات قابلة للهضم كالألبومين والغلوبولين والفبرينوجين هو  مقدار ضئيل ( 8غ / 100 مل )، ومثل ذلك الدسم، في حين يحتوي الدم على نسبة كبيرة من خضاب الدم ( الهيموغلوبين ) وهي بروتينات معقدة عسرة الهضم جداً، لا تحتملها المعدة غالبا.

ثم إن الدم إذا تخثر فإن هضمه يصبح أشد عسرة، وذلك لتحول الفيبرينوجين إلى مادة الليفين الذي يؤلف شبكة تحضر ضمنها الكريات الحمر والفيبرين من أسوأ البروتينات وأعسرها هضماً.

وهكذا فإن علماء الصحة لم يعتبروا الدم بشكل من الأشكال في تعداد الأغذية الصالحة للبشر.

قال الرجل: أهذا ما حرمه عليكم نبيكم؟

قال النادل: لقد أخبرنا الوارث أن رسول الله r حرم (كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي ناب من السباع[48] )[49]

قال الرجل: فما الذي قال الوارث في هذا؟

قال النادل: لقد أخبرنا أن علم التغذية الحديثة أثبت أن الشعوب تكتسب بعض صفات الحيوانات التي تأكلها لاحتواء لحومها على سميات ومفرزات داخلية تسري في الدماء، وتنتقل إلى معدة البشر، فتؤثر في أخلاقهم..

فقد تبين أن الحيوان المفترس عندما يهم باقتناص فريسته تفرز في جسمه هرمونات ومواد تساعده على القتال واقتناص الفريسة..

وذكر لنا أن هذه الإفرازات تخرج في جسم الحيوان حتى وهو حبيس في القفص عندما تقدم له قطعة لحم لكي يأكلها.

وذكر لنا أنه لوحظ على الشعوب آكلات لحوم الجوارح أو غيرها من اللحوم التي حرم الإسلام أكلها أنها تصاب بنوع من الشراسة والميل إلى العنف، ولو بدون سبب إلا الرغبة في سفك الدماء..

وأخبرنا أن الدراسات والبحوث وقد تأكدت من هذه الظاهرة على القبائل المتخلفة التي تستمرئ أكل مثل تلك اللحوم إلى حد أن بعضها يصاب بالضراوة، فيأكل لحوم البشر، كما انتهت تلك الدراسات والبحوث أيضا إلى ظاهرة أخرى في هذه القبائل وهي إصابتها بنوع من الفوضى الجنسية وانعدام الغيرة على الجنس الآخر فضلا عن عدم احترام نظام الأسرة ومسألة العرض والشرف.. وهي حالة أقرب إلى حياة تلك الحيوانات المفترسة.. حيث إن الذكر يهجم على الذكر الآخر من القطيع ويقتله لكي يحظى بإناثه إلى أن يأتي ذكر آخر أكثر شبابا وحيوية وقوة، فيقتل الذكر المغتصب السابق وهكذا..

وذكر لنا ـ نقلا عن علماء من الصين ـ أن الفيروس المسبب للالتهاب الرئوي اللانمطي (سارس) قد يكون انتقل إلى البشر من حيوانات كسنور (قطط) الزباد وكلاب الراكون.. وقد ألجأ الخوف من انتشار السارس عن طريق الحيوانات الأليفة السلطات في بكين والمدن الأخرى إلى أن تأمر بجمع القطط والكلاب الضالة والحيوانات الأخرى وتقتلها.. كما دفع ذلك أصحاب الحيوانات الأليفة إلى التخلي عن حيواناتهم.

قال الرجل: أهذه هي المحرمات من المطاعم في دينكم؟

قال النادل: هذه هي المنصوص عليها.. وهناك غيرها مما يدخل في الخبائث.

قال الرجل: وما ضابطها؟

قال النادل: ضابطها اثنان:

أن يكون المكسب الذي تنال به حلالا.. وأن لا يكون فيها أي مضرة.

لقد جمع r بين الأمرين، فقال:( لا ضرر ولا ضرار).. فالضرار يعني أن لا يكون تنعمنا بمضرة غيرنا.. والضرر أن لا نأكل ما يضرنا.

قال الرجل: فكيف تميزون بين ما يضركم وما لا يضركم؟

قال النادل: ذلك علم عميق.. وقد استفدنا بحمد الله أصوله من نبينا، وفروعه مما أثبته العلم الحديث.. فالعلم الحديث خادم للعلم القديم، وفرع عنه.

 نظر إليه الرجل بإعجاب، وقال: أرى أن معارفك لا تتناسب مع وظيفتك.. فأنت تصلح لأن تكون عالم غذاء، لا نادلا في مطعم.

قال النادل: إن عملي في مطعم لا يحول بيني وبين ذلك.. بالإضافة إلى أنه لا يمكنني أن أتولى هذه الوظيفة، وأنا أجهل ما يرتبط بها.. لقد نهانا ديننا أن نخوض في أمر من غير أن تكون لدينا المعارف المرتبطة به.. ولهذا فإن كل العمال في هذا المطبخ يكونون فيما يرتبط بوظيفتهم من علوم قبل أن يتولوها.

قال الرجل: إن قومي يمارسون ذلك.. ولكنهم يدربونه على طبخ أصناف المآكل لا على علومها.

قال النادل: ذلك أنهم لاحظوا الربح، ولم يلاحظوا النصح.. ولو لاحظوهما جميعا لجمعوا بينهما جميعا.

قال الرجل: والآن.. ماذا ستحضر لنا لنأكله.. أو بدل ذلك.. دعنا من الأكل.. واسقني بعض الخمر.. فإني أحس ببعض الكآبة، ولن يعالج كآبتي إلا الخمر العتيقة.

قال النادل: أراك تفر من الخبائث إلى أمها.

قال الرجل: وهل للخبائث أم؟

قال النادل: أجل.. أمها الخمر.. لقد قال الله تعالى فيها:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ((المائدة:90)، وبين آثارها الخطيرة، فقال:﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ((المائدة:91)

قال الرجل: فما الذي ذكر لكم الوارث من أسرار ذلك؟

قال النادل: لقد قال لنا: إن شارب الخمر لا يحتسي خمرا، وإنما يحتسي سما..

وذكر لنا أن الدكتور أو بري لويس قال:( إن الكحول هو  السم الوحيد المرخص بتداوله على نطاق واسع في العالم كله، ويجده تحت يده كل من يريد أن يهرب من مشاكله.. ولهذا يتناوله بكثرة كل مضطربي الشخصية، ويؤدي هو  إلى اضطراب الشخصية ومرضها، إن جرعة واحدة من الكحول قد تسبب التسمم وتؤدي إما إلى الهيجان أو الخمود، وقد تؤدي إلى الغيبوبة.. أما شاربو الخمر المزمنون، فيتعرضون للتحلل الأخلاقي الكامل مع الجنون »[50]

وذكر لنا أن مجرد استنشاق أبخرتها يؤدي إلى الإصابة بالتهاب القصبات والرئة، وإلى إصابة بطانة الأنف مما يؤدي إلى ضعف حاسة الشم، ولهذا قال تعالى:﴿ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ (المائدة: من الآية90)، فهذا اللفظ يعني النهي عن الاقتراب منه مطلقاً، وهوأعم من النهي عن شربه.

وذكر لنا[51] أن هذا السم يختلف تأثيره كلمـا تغير مسـتواه في الدم، فعندما يبلغ مســتواه  من 20ـ 99 ملغ  بالمائة يسبب تغير المزاج وإلى عدم توازن العضلات واضطراب الحس، وفي مستوى من 100ـ 299 ملغ  بالمائة يظهر الغثيان وازدواج الرؤية واضطراب شديد في التوازن، وفي مستوى من 300 ـ 399 ملغ  بالمائة تهبط حرارة البدن ويضطرب الكلام ويفقد الذاكرة، وفي مستوى 400 ـ 700 ملغ  بالمائة يدخل الشاب في سبات عميق يصحبه قصور في التنفس وقد ينتهي بالموت.

وذكر لنا أن كل أعضاء الجسم تتأثر بالخمر.. وأنه كلما كانت الأعضاء أكثر تعقيداً وتخصصاً في وظائفها كانت أكثر عرضة لتأثيرات الغول السمية:

فالجملة العصبية ـ وهي أكثرها تأثراً ـ يحدث تثبيط للمناطق الدماغية التي تقوم بالأعمال الأكثر تعقيداً، ويفقد قشر الدماغ قدرته على تحليل الأمور، كما يؤثر على مراكز التنفس الدماغية حيث أن الإكثار منه يمكن أن يثبط التنفس تماماً إلى الموت.

أما الجهاز الهضمي، فيؤدي مرور الخمر في الفم إلى التهاب وتشقق اللسان كما يضطرب الذوق نتيجة ضمور الحليمات الذوقية، ويجف اللسان وقد يظهر سيلان لعابي مقرف، ومع الإدمان تشكل طلاوة بيضاء على اللسان تعتبر مرحلة سابقة لتطور سرطان اللسان.

والخمر توسع الأوعية الدموية الوريدية للغشاء المخاطي للمري مما يؤهب لتقرحه ولحدوث نزوف خطيرة تؤدي لأن يقيء المدمن دماً غزيراً، كما تبين أن 90 بالمائة من المصابين بسرطان المريء هم مدمنوا خمر.

وفي المعدة يحتقن الغشاء المخاطي فيها ويزيد افراز حمض كلور الماء والببسين مما يؤهب لإصابتها بتقرحات ثم النزوف وعند المدمن تصاب المعدة بالتهاب ضموري مزمن يؤهب لإصابة صاحبها بسرطان المعدة الذي يندر جداً أن يصيب شخصاً لا يشرب الخمر.

وتضطرب الحركة الحيوية للأمعاء عند شاربي الخمر المتعدين وتحدث التهابات معوية مزمنة وإسهالات متكررة عند المدمنين، وتتولد عندهم غازات كريهة، ويحدث عسر في الامتصاص المعوي.

والغول سم شديد للخلية الكبدية، وتنشغل الكبد من أجل التخلص من الغول عن وظائفها الحيوية، ويحصل فيها تطورات خطيرة نتيجة الإدمان.

وقد ذكر لنا أنه في فرنسا وحدها يموت سنوياً أكثر من 22 ألف شخص بسبب تشمع الكبد الغولي، وفي ألمانيا يموت حوالي 16 ألف، كما أن الغول يحترق ضمن الكبد ليطلق كل 1غ منه 7 حريرات تؤدي بالمدمن إلى عزوفه عن الطعام دون أن تعطيه هي أي فائدة مما يعرضه لنقص الوارد الغذائي.

ويشكو المصاب من ألم في منطقة الكبد ونقص في الشهية وتراجع في الوزن مع غثيان وإقياء، ثم يصاب بالجبن أو باليرقان.. وقد يختلط بالتهاب الدماغ الغولي ويصاب بالسبات أو  النزف في المريء، وكلاهما يمكن أن يكون مميتاً.

وذكر لنا أن للخمر تأثيراتها الخطيرة على القلب، حيث يصاب مدمن الخمر بعدد من الاضطابات الخطيرة والمميتة التي تصيب القلب منها ..

قال الرجل: حسبك.. فإن ما ذكرته كاف لأعرف خبثها.

قال النادل: اعذرني.. لقد جئت إلى المطعم لتأكل طعاما لا كلاما.. فاطلب ما تريد.. واعفني من الخبائث.. وشأنك بما تشاء من الطيبات.

قال الرجل: لم أستفد في حياتي من مطعم كما استفدت من هذا المطعم.. فبورك فيك.. وأحضر لي ـ على ذوقك ـ ما تشاء.

أسرع النادل، وأحضر له بعض الطعام، فرأيته الرجل يلتهمه بشهية عجيبة.

انتبه النادل لي، فحضر، وحياني بأدب معتذرا عن تأخره، فقلت: لا بأس عليك.. لقد استفدت كثيرا مما كنت تقوله.. فبورك فيك.. واطمئن.. فلن أطلب منك إلا الطيبات.. فأنا شديد الشهية لها.. ولا أحسب أن ما قدمته لذلك الرجل يكفيني.

قال النادل: إن ما قدمته له محسوب بدقة.. ولا أرى إلا أنه يكفيك.. لقد نهانا الله تعالى عن الإسراف، وأمرنا بالاقتصاد، فقال:﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ﴾ (لأعراف: من الآية31)

وأخبر تعالى أن الوقوف عند التلذذ بالطعام والشراب والتمتع بهما إنما هو  من صفات الكافرين الجاحدين، فقال:﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ((الأحقاف:20)

ولهذا اعتبر r السمنة انحرافا، فقال:( إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يكون من بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن)

وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ:( أو ل بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم فضعفت قلوبهم وجمحت شهواتهم)

واعتبر r من الإسراف أن يأكل الإنسان كلما اشتهى، فقال:( إن من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت)[52]

وتجشأ بعضهم عند رسول الله r فقال له:( أقصر عنا من جشائك، إن أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا)[53]

قلت: ألا ترى أنك تضر صاحب المطعم بتصرفك.. إن صاحب المطعم يحب أن يجنبي أرباحا.. وأنت تقف في طريقه.

قال: هو يحب أن يجني حلالا لا حراما.. إنه يوصينا دائما بذلك، ويحذرنا من أن نغش الزبائن، فيحيق بنا ذلك العقاب الشديد الذي أخبر عنه r بقوله:( من غشنا فليس منا)[54].. وهو لا يسر بشيء كما يسر بنصيحتنا للزبائن.

قلت: فصاحبك أفلس، أو يوشك أن يفلس لو استمر على هذا المنوال؟

قال: لا.. لقد بارك الله في رزقه.. فلا تزيده الأيام إلا غنى.. إن هذا المطعم الذي تراه واحد من المطاعم الكثيرة التي يملكها صاحب هذا المطعم.. فلا أحد يمر على هذا المطعم أو غيره من مطاعمه إلا ألفه، وأحبه، بل ونصب نفسه مشهرا مجانيا له..

إن الله تعالى يعوض الناصح من فضله ما لا يدركه الغاش.. هكذا علمنا نبينا.

قلت: فما حدثكم الوارث عن أسرار الإسراف؟

قال: لقد حضرت درسا من دروسه ذكر فيه قوله r:( ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلاً: فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)[55] وكان ما قاله مما لا أزال أذكره:( يشكل الجزء العلوي من المعدة جيبا ممتلئا بالهواء يقع تحت الحجاب الحاجز، وكلما كان ممتلئاً بالهواء كانت حركة الحجاب الحاجز فوقه سهلة، وكان التنفس ميسوراً، فإذا امتلأ هذا الجيب بالطعام والشراب تعرقلت حركة الحجاب الحاجز، وكان التنفس صعباً كما أن الصلب  لا يستقيم تماماً إلا إذا كانت حركة المعدة مستريحة، ولا يتم ذلك إذا اتخمت بالطعام)

وسمعته في موضع آخر يقول[56]:  من أضرار الإسراف في الغذاء ما يؤدي إليه ـ بصورة مباشرة ـ من اضطراب الهضم والتخمة، ولما يؤدي إليه ـ بصورة غير مباشرة ـ من أمراض فرط التغذية مما يسمى (أمراض الرخاء) أو (أمراض التخمة)، ومن  أهمها السكري، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض شرايين القلب المحدثة للذبحة والجلطة، وأمراض شرايين الدماغ المؤدية إلى السكتة والفالج.. وما إلى ذلك.

قلت: بورك فيك.. فما الذي تريد أن تحضره لنا من طعام؟

قال: ذلك من شأنك لا من شأني.. فقد خلق الله لكل شخص تذوقه الخاص به.

قلت: ألم يسن لكم نبيكم ذوقا خاصا؟

قال: نبينا بين لنا ما يضرنا وما ينفعنا.. ثم ترك بعد ذلك كل شخص وما يشتهي، فالتشريع لا يدخل هذا الباب.

قلت: فما كان يشتهي نبيكم؟

قال: لم يكن نبيكم r يردُّ موجوداً.. ولم يكن يتكلف مفقوداً.. وما قُرِّبَ إليه شيءٌ من الطيبات إلا أكله، إلا أن تعافَه نفسُه، فيتركَه من غير تحريم، وما عاب طعاماً قطُّ، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، كما ترك أكل الضَّبِّ لمَّا لَمْ يَعْتَدْهُ ولم يحرمه على الأمة، بل أُكِلَ على مائدته وهوينظر[57].

قلت: فهل ترك نبيكم شيئا من الطيبات تشتهيه النفوس من باب الزهد الذي ادعاه أقوام منكم.

قال: لا.. فقد أكل الحلوى والعسل، وكان يُحبهما، وأكل لحم الجزور، والضأن، والدجاج، ولحم الحُبارى، ولحم حِمار الوحش، والأرنب، وطعام البحر، وأكل الشواء، وأكل الرُّطبَ والتمرَ، وشرب اللبنَ خالصاً ومشوباً، والسويق، والعسل بالماء، وشرب نقيع التمر، وأكل الخَزِيرَة[58]، وأكل القِثَّاء بالرُّطَبِ، وأكل الأَقِطَ، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز بالخل، وأكل الثريد، وهوالخبز باللحم، وأكل الخبز بالإِهالة، وهوالشحم المذاب، وأكل من الكَبِدِ المَشوِيَّةِ، وأكل القَدِيد، وأكلَ الدُّبَّاء المطبوخةَ، وكان يُحبُّها، وأكلَ المسلُوقةَ، وأكلَ الثريدَ بالسَّمْن، وأكلَ الجُبنَ، وأكلَ الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرُّطَبِ، وأكل التمر بِالزُّبْدِ، وكان يُحبه، ولم يكن يردُّ طَيِّباً، ولا يتكلفه[59].

قلت: أليس من السنة أن تأكلوا كما أكل نبيكم؟

قال: من السنة أن نصلي كما صلى، وأن نحج كما حج، وأن نذكر كما ذكر، وأن تمتلئ قلوبنا بالرحمة التي امتلأ بها.. أما الأكل.. فليس إلا للحفاظ على طينية طيننا من أن تخرب.. وفي ذلك تختلف الحاجات.. وتختلف الأقاليم.. وما كان الله ليضيق على عباده في ذلك.

قلت: بورك فيك، وفي تعظيمك لنبيك، وفهمك عنه.. فأحضر لي من الطعام ما أسد به جوعي.. وليكن أحب الطعام إلى نبيكم.

سار قليلا، ثم رجع، وقال: اسمح لي أن أطلب منك طلبا..

قلت: اطلب ما تشاء.

قال: أرني يديك.

أريته إياهما، وأنا متعجب من هذا الطلب العجيب.. قطع عجبي بقوله: أرجو أن تصحبني إلى الميضأة..

قاطعته بقولي: أنا جئت للمطعم لا لآكل لا لأغتسل.

قال: لقد حذرنا صاحب المطعم من أن نطعم أحدا قبل أن ننظر في نظافة يديه.

قلت: لم؟

قال: أولا.. هذا سنة نبينا.. فقد ورد في الحديث قوله r:( بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده)[60]، وقد فسر العلماء وضوء الطعام بغسل اليدين.

وفي حديث آخر قال r:( من أحب أن يكثر الله خير بيته، فليتوضأ إذا حضر غذاؤه وإذا رفع)[61]

وفي حديث آخر قال r:( من نام وفي يده غمر، ولم يغسله، فأصابه شيء فلا يلومنَّ إلا نفسه)[62]، والغمر:ريح اللحم وزهومته.

وفي حديث آخر قال r:( إن الشيطان حساس لحّاس فاحذروه على أنفسكم من بات وفي يده غمر فأصابه شيء فلا يلومنَّ إلا نفسه)[63]

قلت: فهل حدثك الوارث عن أسرار هذه الأحاديث؟

قال: أجل.. لقد ذكر لنا[64] أن في حياة الإنسان اليومية كثيراً ما يصافح شخصاً مريضاً، أو حاملاً لجراثيم ممرضة، أو يلمس أشياء ملوثة بجراثيم خطيرة، فهو يجلس لطعامه غير عالم أن بين أنامله خطراً كامناً ينتظر ذلك الطعام، فيلوث لقمة يبتلعها ليصاب بذلك المرض.

وذكر لنا أن أكثر الأمراض انتشاراً عن ذلك الطريق هي الكوليرا والتيفوئيد والزحار..

وذكر لنا أن سر ذلك كله يعود إلى أن الجلد يحتوي على سطحه على أثلام وأخاديد، وما يفرزه من دهن وعرق يساعد على التصاق تلك الجراثيم وبيوض الطفيليات بالجلد وحفظها بين ثناياه.

قلت: عرفت سر غسل اليدين قبل الطعام، فما سر غسلها بعده؟

قال:  لقد ذكر لنا الوارث أن بقايا الطعام التي تلوث الأنامل يمكنها إذا بقيت أن تتفسخ، وأن تشكل ضمن حرارة الجسم وسطاً ملائماً لتكاثر الجراثيم واستحالتها إلى خطر داهم، وهذا الخطر هو الذي حذر منه النبي r في أحاديثه التي ذكرتها لك.

استجبت لطلبه، وسرت معه إلى ميضأة نظيفة، فغسلت يدي، ثم عدت إلى مجلسي، حيث وجدت صحن ثريد في انتظاري، فبدأت آكل بنهم، فجاءني رجل آخر، يبدو أنه من عمال المطعم، وقال: رويدك ـ يا أخي ـ فلا ينبغي أن تأكل بشره.. فقد نهينا عن ذلك.

قلت: أنا جائع.. والجائع لا يأكل إلا بشراهة.

قال: إن أبيت إلا ذلك.. فامضغ اللقمة جيدا.. حتى يذهب الطعام سائغا إلى المعدة.

قلت: من أنت؟.. أمن عمال هذا المطعم أم تراك رجلا فضوليا؟

قال: بل أنا من عمال هذا المطعم، وقد كلفني صاحبه بوظيفة واحدة لا أعدوها، وهي أن أراقب الآكلين..

قلت: يخاف صاحبك أن لا يدفعوا ثمن أكلهم.

قال: هو لا يهمك ذلك.. بل إن كل محتاج يأكل عنده مجانا..

قلت: فما يهمه إذن من مراقبة الناس؟

قال: هو يخشى أن يخالفوا السنة، فيتأذوا في أجسادهم، فيكون مطعمة سببا في ذلك.. هو يخاف من قوله r:( من غشنا، فليس منا) خوفا شديدا.

قلت: فما الضرر في أن لا أمضغ اللقمة جيدا.. أليست هناك معدة تطحن كل ما يقدم لها.

قال: بلى.. ولكنك إن كلفتها ما لا تطيق لم تستمر معك طويلا.. لقد حدثنا الوارث عن الأمراض الناتجة عن الشره[65]، فذكر منها: هجمة خناق الصدر، وخاصة إذا كانت الوجبة دسمة، وهي حالة من الألم الشديد خلف القص يمتد للكتف والذراع الأيسر والفك السفلي بسبب نقص التروية القلبية، وتظهر هذه الحالة عادةً عند المصابين بأمراض الأوعية القلبية إثر الجهد، فالوجبة الغذائية الكبيرة تشكل على القلب عبئا يماثل العبء الناتج عن الجهد العنيف.

ومنها تعرض الإنسان للإصابة ببعض الجراثيم، كضمات الكوليرا وعصيات الحمى التيفية، والأطوار الاغتذائية للاميبا، وذلك لعدم تعرض كامل الطعام لحموضة المعدة وللهضم المبدئي في المعدة حيث أن حموضة المعدة هي المسؤولة عادة عن القضاء على مثل هذه الجراثيم.

ومنها بعض الأمراض المتعلقة بالمعدة، كتوسعها الحاد، وهي حالة خطيرة قد تؤدي للوفاة إذا لم تعالج، أوكانفتال المعدة، وهي إصابة خطيرة ونادرة تحدث بسبب حركة حويّة معاكسة للأمعاء بعد امتلاء المعدة الزائد بالطعام.

زيادة على هذا، فإن المعدة الممتلئة بالطعام أكثر عرضةً للتمزق إذا تعرضت لرض خارجي من المعدة الفارغة، وقد يتعرض المرء للموت بالنهي القلبي إذا تعرض لضرب على الشرسوف (فوق المعدة)

قلت: بورك في نصيحتك.. فهل تريد أن تنصحني نصيحة أخرى؟

قال: لقد رأيتك أثناء شربك تنفخ في الشراب..

قلت: وما في ذلك؟

قال: لقد نهى نبينا r عن النفخ في الطعام والشراب.. وقد أخبرنا الوارث أن سبب ذلك يعود إلى أن نفخ الرذاذ وزفره  يؤدي إلى انتقال كثير من الأمراض المعدية كالانفلونزا والقوباء وشلل الأطفال والنكاف والحصبة الألمانية والرشاح والتهابات الحلق والعنجز والسل وغيرها من الأمراض، وخاصة الفيروسية ولذلك فإنه ينصح  بعدم النفخ والتنفس في آنية الأكل والشرب.

قلت: أيمكن أن تحدث كل هذه العلل بسبب هذا التصرف البسيط؟

قال: ليس هناك تصرف بسيط وتصرف عميق.. وقد يؤتى الإنسان من باب الذي يحتقره..

لقد ذكر لنا الوارث أن بعض الباحثين أجرى دراسة على درن الأمعاء في السودان، فوجد أن السبب الرئيسي لدرن الأمعاء في السودان هو جرثومة الدرن الإنسانية، بعكس ما هو  معروف عالميا من أن السبب هو  الجرثومة الدرنية البقرية.. وقد دعاه ذلك إلى البحث عن سر الكامن وراء ذلك.

قلت: فما وجد؟

قال: لقد وجد علة ذلك تكمن في العادة المتبعة في خض اللبن وصنع الزبدة منه في السودان، حيث يتم ملء القربة إلى نصفها باللبن، ثم تنفخ المرأة ـ والتي قد تكون مصابة بدرن الصدر ـ بفمها في القربة لتملأ النصف الآخر بالهواء، ثم يبدأ خض اللبن وتفصل الزبدة ويشرب اللبن بدون غلي أو تسخين، وبالتالي ينتقل المرض من صدر المرأة إلى أمعاء الآخرين.. ولو أن هؤلاء تمسكوا بسنة النبي r المرتبطة بهذا ما حصل لهم ما حصل.

انصرفت إلى أكلي متأدبا بالآداب التي علموني إياها..

بعد انتهائي من الأكل رأيت رجلا مع ابنه على مائدة واحدة، وهو يلقنه آداب الطعام.. ويقول له: في يوم من الأيام قعد طفل صغير ـ اسمه  عمر بن أبي سلمة ـ على حجر رسول الله r، وكانت يده تطيش في الصفحة، فقال له رسول الله r:( يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)[66]

قال الولد لأبيه: هل سمعت الوارث يحدثك عن سر تخصيص اليمين بالأكل؟

قال الأب: لم أسمعه.. ولكني أحسب أن الله قد هداني إلى سر ذلك.

قال الولد: وما سره؟

قال: لقد رأيت حرص الشريعة على الطهارة عموما، وطهارة الطعام خصوصا، وكان ذلك يستدعي تمييز دور كل يد، بحيث لا تختلط الوظائف.. وقد رأى النبي r من الحكمة المراعية للفطرة تخصيص يد للتنظيف، ويد للطعام حفاظا على الطعام من مخاطر التلوث، ولهذا قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ:( كانت يد رسول الله r  اليمنى  لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه وما كان من أذى)[67]

قال الولد: صلى الله عليك يا رسول الله.. ما أعظم حرصك علينا.. وما أعظم منن الله بك علينا.

شعرت بتأثر عظيم لهذا المشهد، ابتدرت له عيوني بدموعها.. فخرجت بعد أن دفعت ثمن ما أكلته.. وكان مبلغا زهيدا، مقارنة بما أكلته وما تعلمته..

النوم:

بعد أن خرجت من المطعم، رحت أبحث عن فندق لأقيم فيه في انتظار قدوم الوارث..

ما سرت قليلا حتى رأيت فندقا يتربع على ساحة خضراء مزينة بأنواع النباتات والزهور.. فذهبت إليه.. وقد شد انتباهي الصمت المطبق الذي كان يشمل الفندق مع أننا كنا في الظهيرة.

في المدخل أوقفني البواب.. وقال لي بصوت قريب إلى الهمس: تعال يا أخي، ولا ترفع صوتك، ولا تضرب برجليك على الأرض.. فأهل الفندق الآن في قيلولة.

قلت: وما (قيلولة)؟

قال: سنة من سنن نبينا.. ونحن نهتم بها ونحرص عليها، لأنا نعلم أن رسول الله r لم يأمرنا بها إلا لما يعلمه من الخير المرتبط بها.

قلت: وكيف عرفت أنها سنة؟

قال: لقد حدثنا الوارث أن رسول الله r قال:( قيلوا، فإن الشياطين لا تقيل)[68]

قلت: ألا تعتبر هذا حظا على الكسل؟

قال: الكسل هو ما خدر الأعضاء لا ما أصلحها.

قلت: والإنتاج؟

قال: لا خير في إنتاج يكون على حساب الصحة والعافية.

قلت: وما علاقة القيلولة بالصحة والعافية؟

قال: لقد حدثنا الوارث أن العلم الحديث أكد دور القيلولة في زيادة إنتاج الفرد، وتحسين قدرته على متابعة نشاطه اليومي، فقد ذكر الباحثون في دراسة نشرت في مجلة (العلوم النفسية) عام 2002 أن القيلولة لمدة 10 – 40 دقيقة ( وليس أكثر ) تكسب الجسم راحة كافية، وتخفف من مستوى هرمونات التوتر المرتفعة في الدم نتيجة النشاط البدني والذهني الذي بذله الإنسان في بداية اليوم.

وذكر لنا أن العلماء يرون أن النوم لفترة قصيرة في النهار يريح ذهن الإنسان وعضلاته، ويعيد شحن قدراته على التفكير والتركيز، ويزيد إنتاجيته وحماسه للعمل.

وذكر لنا أن الباحثين يؤكدون أن القيلولة في النهار لمدة لا تتجاوز 40 دقيقة لا تؤثر على فترة النوم في الليل، أما إذا امتدت لأكثر من ذلك، فقد تسبب الأرق وصعوبة النوم.

وأخبرنا أن دراسة تمت تحت إشراف الباحث الأسباني د. إيسكالانتي ذكر فيها أن القيلولة تعزز الذاكرة والتركيز، وتفسح المجال أمام دورات جديدة من النشاط الدماغي في نمط أكثر ارتياحا[69].

قلت: لقد رغبتني في القيلولة، وأحسب أن جسمي يطلبها، فهلا سلمت لي الغرفة التي أنام فيها.

قال: بكل سرور..

سار معي إلى غرفة من غرف الفندق، وقد كانت في منتهى البساطة والطهارة والجمال، وقبل أن ينصرف، قال لي: لا شك أنك تعرف آداب النوم.

قلت: أعرف أذكار النوم.. ولكني لا أعرف ما عدا ذلك من آداب.

قال: لقد علمنا الوارث أن من السنة أن ننام على الشق الأيمن.

قلت: لم الشق الأيمن خصوصا؟

قال[70]: لقد ذكر لنا الوارث أن الاضطجاع على الفراش يمكن أن يكون على البطن، أو على الظهر، أو على أحد الشقين الأيمن أو الأيسر، ولكن النبي r أمرنا بالنوم على الشق الأيمن، وذلك لأن الإنسان حين ينام على بطنه يشعر بعد مدة بضيق في التنفس، لأن ثقل كتلة الظهر العظمية تمنع الصدر من التمدد والتقلص عند الشهيق والزفير، كما أن هذه الوضعية تؤدي إلى انثناء اضطراري في الفقرات الرقبية، والى احتكاك الأعضاء التناسلية بالفراش مما يدفع إلى الانحرافات المرتبطة بها.

وذكر لنا أن باحثا استراليا لاحظ ارتفاع نسبة موت الأطفال المفاجئ إلى ثلاثة أضعاف عندما ينامون على بطونهم نسبة إلى الأطفال الذين ينامون على أحد الجانبين.

ولهذا فإن رسول الله r رأى رجلا مضطجعا على بطنه فقال:( إن هذه ضجعة يبغضها الله ورسوله)[71]

وقد مر النبي r على رجل نائم في المسجد منبطح على وجهه، فنهره، وقال:( قم واقعد، فإنها نومة جهنمية)[72]

قلت: والنوم على الظهر؟

قال: لقد ذكر لنا الوارث أنه يسبب التنفس الفموي، لأن الفم ينفتح عند الاستلقاء على الظهر لاسترخاء  الفك السفلي.. وهذا مخالف للصحة، فالأنف هو  المهيأ للتنفس لما فيه من أشعار ومخاط لتنقية الهواء الداخل، ولغزارة أوعيته الدموية الهيأة لتسخين الهواء.

أما التنفس من الفم، فإنه يعرض صاحبه لكثرة الإصابة بنزلات البرد والزكام في الشتاء،كما يسبب جفاف اللثة، ومن ثم إلى التهابها الجفافي،كما أنه يثير حالات كامنة من فرط التصنع أو الضخامة اللثوية.

زيادة على هذا، فان شراع الحنك واللهاة يعارضان فرجان الخيشوم ويعيقان مجرى التنفس فيكثر الغطيط والشخير … كما يستيقظ المتنفس من فمه ولسانه مغطى بطبقة بيضاء غير اعتيادية إلى جانب رائحة فم كريهة.

وزيادة على ذلك، فإن هذه الوضعية غير مناسبة للعمود الفقري، لأنه ليس مستقيما وإنما يحوي على انثنائين رقبي وقطني، كما تؤدي عند الأطفال الى تفلطح الرأس إذا اعتادها لفترة طويلة.

قلت: فما مخاطر النوم على الشق الأيسر؟

قال: لقد ذكر لنا الوارث أن النوم على الشق الأيسر غير مقبول أيضا من الوجهة الصحية، لأن القلب حينئذ يقع تحت ضغط الرئة اليمنى، والتي هي أكبر من اليسرى مما يؤثر في وظيفته، ويقلل نشاطه وخاصة عند المسنين، كما تضغط المعدة الممتلئة عليه فتزيد الضغط على القلب والكبد ـ الذي هو  أثقل الأحشاء ـ لا يكون ثابتا بل معلقا بأربطة، وهو موجود على القلب، وعلى المعدة مما يؤخر إفراغها.   

وقد أثبتت التجارب التي أجراها غالتيه وبواسيه أن مرور الطعام من المعدة إلى الأمعاء يتم في فترة تتراوح بين2.5-4.5 ساعة إذا كان النائم على الجانب الأيمن، ولا يتم ذلك إلا في 5-8 ساعات إذ ا كان على الأيسر.

قلت: فلماذا كان النوم على الشق الأيمن هو  الوضع الصحيح؟

قال: لقد ذكر لنا الوارث أن الرئة اليسرى أصغر من اليمنى، فيكون القلب أخف حملا، وتكون الكبد مستقرة لا معلقة، والمعدة جاثمة فوقها بكل راحتها، وهذا أسهل لإفراغ  ما بداخلها من طعام بعد هضمه…

كما يعتبر النوم على الجانب الأيمن من أروع الإجراءات الطبية التي تسهل وظيفة القصبات الرئوية اليسرى في سرعة طرحها لإفرازتها المخاطية.

بل إن سبب حصول توسع القصبات للرئة اليسرى دون اليمنى هو  لأن قصبات الرئة اليمنى تتدرج في الارتفاع إلى الأعلى حيث أنها مائلة قليلا مما يسهل طرحها لمفرزاتها بواسطة الأهداب القصبية، أما قصبات الرئة اليسرى فإنها عمودية مما يصعب معه طرح المفرزات إلى الأعلى، فتتراكم تلك المفرزات في الفص السفلى مؤدية توسع القصبات فيه، والذي من أعراضه كثرة طرح البلغم صباحا، وهذا المرض قد يترقى مؤديا إلى نتائج وخيمة كالإصابة بخراج الرئة والداء الكلوي، ومن أحدث علاجات هؤلاء المرضى هو  النوم على الشق الأيمن.

قلت: ولكن.. لا أتصور أن أحدا من الناس يمكنه أن يبقى ملتزما بالنوم على الشق الأيمن؟

قال: صدقت.. ولذلك ورد في النصوص الترغيب في النوم على الشق الأيمن، وورد النهي عن النوم على البطن، وسكتت النصوص عن النهي عن النوم على الشق الأيسر وعلى الظهر حتى تكون لنا فسحة في التقلب في النوم دون حرج أو مشقة.

بل إن الله تعالى ظهر تقليبه لأهل الكهف، فقال:﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ )(الكهف: من الآية18)

قلت: فلماذا رخص فيهما، ولم يرخص في النوم على البطن.

قال: لأنهما أقل خطرا من النوم على البطن.

قلت: ألا ترى أن في حديث نبيكم عن النوم خروجا عن الوظيفة التي كلف بها؟

تغير وجهه تغيرا شديد، لكنه تمالك نفسه، وقال: كيف تقول هذا يا رجل.. ألم تر في حياتك أبدا الشمس التي تزين كبد السماء؟

قلت: وكيف لا أراها؟

قال: ألا ترى أنها تؤدي وظائف كثيرة في نفس الوقت.. فهي تملأ الدنيا علينا بالألوان الجميلة.. وهي تملأ أعضاءنا بالدفء الحنون.. وهي تملأ بعد ذلك كله كل ما يحيط بنا من حياة.. وهي مع ذلك كله في سمائها العالية لا نظفر منها إلا بآثارها، أو ببعض آثارها.

قلت: ما تقول عن شمس السماء صحيح.. وكل يوم يبرز من علومها ما كنا نجهل.

قال: جل ربك أن يخلق لأرض الطين شمسا.. ثم لا يخلق لسماء الروح شمسا.

قال ذلك، ثم انصرف، وهو يقول: لن تجد الكمال إلا عنده.. ولن تجد الإنسان الذي تبحث عنه إلا فيه.

بقيت في ذلك الفندق أياما، وقد شد انتباهي مسارعة أهله للنوم مباشرة بعد صلاة العشاء.. فلا تكاد تسمع بينهم في ذلك الوقت حسا.. ويستيقضون مع أذان الفجر.. حيث يهرعون إلى الصلاة.. ثم يبدأ نشاطهم من ذلك الوقت المبكر..

سألت بعضهم عن سر هذا التنظيم، فقال: ليس هذا تنظيمنا.. هذا تنظيم رسول الله r.. لقد كان من سنة النبي r أن ينام بعد صلاة العشاء، وكان يكره النوم قبلها، ويكره الحديث بعدها[73].

بل كان يشتد في ذلك، فقد قال r:(لا سمر إلا لمصل أو مسافر)[74]، ويقول:( إياك والسمر بعد هدأة الرجل، فإنكم ما تدرون ما يأتي الله في خلقه)[75]

ولم يرخص في السهر إلا لضرورة[76].

قلت: ألم يخبركم الوارث عن أسرار ذلك؟

قال: بلى.. وما كان ليكون وارثا لو لم يبحث في أسرار ذلك.. لقد ذكر أن تلك الساعة التي اختارها رسول الله r لنومه ونوم أمته هي الساعة التي يدق فيها جرس الجسم والكون يطلبون النوم، فمن نام في تلك الساعة استفاد ما لم يستفد في غيرها.

قلت: كيف هذا؟

قال: لقد ذكر لنا أن الساعة البيولوجية التي خلقها الله فينا تجعلنا ننام في تلك الساعة ليقوم الجسم بوظائف أخرى لا يكمل أداؤها ونحن مستيقظون.

وذكر لنا أن الأطباء يؤكدون أن أهنأ نوم هو  ما كان في أو ائل الليل، وأن ساعة نوم قبل منتصف الليل تعدل ساعات من النوم المتأخر.

وذكر لنا أن الدكتور شابيرو قال في كتاب Body Clock:( إن الذهاب إلى النوم في وقت محدد كل مساء والاستيقاظ في وقت معين كل صباح لا يحسن نشاط المرء في النهار فحسب، بل يهيئ الشخص لنوم جيد في الليلة التالية)

وذكر لنا أن البروفسور أو زولد قال:( إذا كنت تريد أن تنام بسرعة حين تخلد إلى النوم فانهض باكرا في الصباح، وافعل ذلك بانتظام، فبذلك تحصل على أفضل أنواع النوم، وتكون أكثر سعادة وأعظم نشاطا طوال النهار)[77]

قلت: ولكن متى يتفرغ الناس للتفرج على  الأفلام والمسلسلات والمباريات والأحاديث والمأكولات..

قال: لقد ذكرت لك سنة نبينا.. ولكل قوم سنتهم.. إن مواقيت النوم التي اختارها من ذكرت تترتب عليها الكثير من المضار الصحية والنفسية والعصبية والاقتصادية وغيرها.

قلت: أكل هذ بسبب تأخير النوم؟

قال: أجل.. فالذي يعرّض فطرة النوم للخلل يتسبب حتماً بتعريض غيرها للخلل، ومن غير أن يشعر ابتداء، ولكنه سيكتشف ذلك انتهاء، وبعد فوات الأوان، لأن هذه العادة تصبح نوعاً من أنواع الإدمان الذي يصعب الإقلاع عنه.

ولهذا فإن كثيراً من هؤلاء قد يلجؤون في النهاية إلى استعمال العقاقير المنومة والمهدئة بعد أن تكون الأعصاب قد أصبحت في حالة شديدة من التوتر بسبب الافتقار إلى النوم الفطري المريح.

ومما لا شك فيه أن التوتر العصبي أو التشنج ينعكس سلباً على عمل القلب والجهاز الهضمي والتنفس، ويسبب أمراضاً خطيرة.. ففي الولايات المتحدة يعاني نصف الأمريكيين من الأرق واضطرابات النوم، وقد ازدادت هذه النسبة عما كانت عليه.

وقد ذكر الدكتور آلن باك المدير الطبي للمؤسسة الوطنية لأمراض النوم ـ الذي أشرف على استطلاع خلص إلى النتيجة المذكورة ـ سبب هذا الأمراض قائلاً:( إن طبيعة الحياة المعقدة في المجتمع الحديث قد أفقدت الكثيرين قدرتهم على التمتع بالنوم.. بسبب زحمة العمل وتوتر الأعصاب)[78]

قلت: عرفت فوائد تعجيل النوم.. فما فوائد تعجيل الاستيقاظ؟

قال: أول فائدة هي أننا نطبق سنة رسول الله r.. فقد حث كثيرا على التبكير، ففي الحديث قال r:( اللهم بارك لأمتي في بكررها)[79]، وكان رسول الله r إذا بعث سرية بعثها أو ل النهار.

قلت: التبكير شيء اعتباري، فمنا من يستيقظ وقت الضحى، ثم يزعم أنه بكر.

قال: ذلك تبكير المفاليس، أما تبكير المؤمنين، فيبدأ من الفجر، لقد ورد في الحديث قوله r:( من صلّى الصبح في جماعة فكأنما صلّى الليل كله)[80]، وقوله r:( من صلّى الفجر فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته)، ومعنى في ذمة الله: أي في حفظه وكلاءته سبحانه وتعالى.

بل اعتبر r صلاة الصبح أفضل الصلوات، فقال:(من صلّى البردين دخل الجنة)[81]، والبردان الفجر والعصر. 

بل ورد ما هو  أخطر من ذلك، فقد قال r:( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولويعلمون ما فيهما لأتوهما ولوحبواً)[82]

قلت: فهل ذكر لكم الوارث أسرار هذا؟

قال: أجل.. لقد ذكرت أن الوارث يختلف عن سائر الناس في إدراكه لأسرار ما يرثه من علم وعمل وحال.. لقد ذكر لنا[83] أن العلم الحديث أثبت الفوائد الصحية التي يجنيها الإنسان بيقظة الفجر، وهي كثيرة منها: أن أعلى نسبة لغاز الأوزون (O3) تكون في الجو عند الفجر، وتقل تدريجياً حتى تضمحل عند طلوع الشمس، ولهذا الغاز تأثير مفيد للجهاز العصبي، ومنشط للعمل الفكري والعضلي، بحيث يجعل ذروة نشاط الإنسان الفكرية والعضلية تكون في الصباح الباكر، ويستشعر الإنسان عندما يستنشق نسيم الفجر الجميل لذة ونشوة لا شبيه لها في أي ساعة من ساعات النهار أو الليل.

وذكر لنا أن أشعة الشمس عند شروقها قريبة إلى اللون الأحمر، ومعروف تأثير هذا اللون المثير للأعصاب، والباعث على اليقظة والحركة، كما أن نسبة الأشعة فوق البنفسجية تكون أكبر ما يمكن عند الشروق، وهي الأشعة التي تحرض الجلد على صنع فيتامين د.

وذكر لنا أن الاستيقاظ الباكر يقطع النوم الطويل، وقد تبين أن الإنسان الذي ينام ساعات طويلة وعلى وتيرة واحدة يتعرض للإصابة بأمراض القلب وخاصة مرض العصيدة الشرياني  الذي يؤهب لهجمات خناق الصدر، لأن النوم ما هو  إلا سكون مطلق، فإذا دام طويلاً أدى ذلك لترسب المواد الدهنية على جدران الأوعية الشريانية الإكليلية القلبية.

وذكر لنا أن أعلى نسبة للكورتزون في الدم هي وقت الصباح حيث تبلغ (7 ـ 22 ) مكروغرام / 100 مل  بلاسما، ومن المعروف أن الكورتزون هو  المادة السحرية التي تزيد فعاليات الجسم بالطاقة اللازمة له.

وبالإضافة إلى هذا كله، فقد ذكر لنا الآثار الاجتماعية الناجمة عن هذا السلوك، ومنها أن المؤمن يستقبل يومه الجديد بجد ونشاط، ويباشر أعماله اليومية في الساعات الأولى من النهار، حيث تكون إمكاناته الذهنية والنفسية والعضلية على أعلى مستوى، مما يؤدي لمضاعفة الإنتاج، كل ذلك في عالم ملؤه الصفاء والسرور والانشراح.

الرياضة:

كان بجانب الفندق ساحة تمارس فيها أنواع كثيرة من الرياضة، وكنت أقصدها ـ طيلة مكوثي فيه ـ كل مساء.. وقد تعجبت من حرص أهل المدينة على ممارسة الرياضات المختلفة.

تقدمت ـ مرة ـ من بعضهم، وقد كان شيخا كبيرا، ولكنه كان يعدو كعدو الشباب.. انتظرت حتى توقف، ثم سرت إليه، وقلت: كيف تجري وأنت في هذا السن؟

قال: أنا أطبق سنة من سنن النبي r.. وأنا أستحيي من الله أن ألقاه، وقد ضيعت سنة من سنن نبيه.

قلت: فهل كان محمد يمارس هذا النوع من الرياضة؟

قال: أجل.. لقد كان r ـ ليشجع على القيام بهذه السنة ـ يمارس السباق، ويشجع عليه..

لقد ورد في الحديث أنه r سابق زوجه عائشة  ـ رضي الله عنها ـ فعنها قالت: خرجنا مع رسول الله r في سفر فنزلنا منزل فقال لها: تعالي حتى أُسابقك قالت: فسابقته فسبقته، وخرجت معه بعد ذلك في سفر آخر فنزلنا منزل فقال: تعالي حتى أسابقك قالت: فسبقني، فضرب بين كتفي وقال: هذه بتيك[84].

فالنبي r سابق عائشة ـ رضي الله عنها ـ وهي امرأة، وفي السفر، وهو دليل شرعي على سنية ممارسة الرجل الرياضة مع زوجته، ففيه ـ زيادة على القوة المكتسبة بالرياضة ـ تأليف القلوب وتحقيق المودة التي هي الأصل في العلاقات الزوجية.

وقد كان r يشجع أصحابه على مثل هذه المسابقات، فعندما قفل الرسول r وأصحابه من غزوة تبوك قالت الانصار: السباق، فقال النبي r:( إن شئتم)[85]

وفي حديث سلمة بن الأكوع في قصة رجوعهم أنه قال: وكان رجل من الأنصار لا يُسبق شداً قال: فجعل يقول: ألا مُسابق إلى المدينة، هل من مسابق؟ فجعل يُعيد ذلك، قال: فلما سمعت كلامه قلتُ: أما تكرمُ كريماً ولا تهاب شريفاً، قال: لا، إلا أن يكون رسول الله r قال: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأُمي، ذرني فلأُسابق الرجل، قال: إن شئت، قال: قلت: اذهب إليك وثنيتُ رجلي فطفرت فعدوت.. فسبقته إلى المدينة[86].

قال ذلك.. ثم استأذنني، وانصرف يعدو كشاب لم تغر عليه السنون بجحافلها.

رأيت مجموعة صبيان يتسابقون، فرحت أتفرج عليهم، وقد انبهرت بالنظام الذي كانوا عليه مع أنه لم يكن هناك شخص كبير ينظمهم.

قلت لأحدهم: أين مدربكم الذي نظم لكم هذا السباق؟

قال: هو في قلوبنا وعقولنا وأرواحنا.. وكل جوارحنا مؤتمرة بأمره، خاضعة لهديه.

قلت: لا أراه بينكم.

قال: هو فينا.. ويكفي أن يجعله ذلك بيننا.

قلت: من تقصد؟

قال: وهل هناك شخص في الدنيا يصح أن نحله تلك المحال الشريفة غير رسول الله.. إن من يرضى للطائفه ساكنا غير رسول الله امرؤ قاصر الهمة؟

قلت: فأنتم تمارسون سنة من سننه إذن؟

قال: أجل.. لقد كان r ينظم مثل هذه المسابقات بين الأطفال.. لقد حدثنا الوارث بسنده عن عبدالله بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r يصفُ عبدالله وعبيدالله وكثيرا من بني العباس، ثمَّ يقول: من سبق إليّ فله كذا وكذا، قال: (فيتسابقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلزمُهُم) [87]

قال ذلك.. ثم انصرف يلهو مع أصحابه ويلعب.

اقتربت من الهدف الذي كان يسعون إليه، فرأيت صورة شمس تملأ الأكوان بأشعتها، وقد كتب في وسطها اسم محمد، فسألت أحد الأطفال عن هذا الهدف العجيب، فقال: لقد جعلنا هذا الهدف ليكون أعظم محفز لنا.. ألست ترى العالم كله لا يتحرك إلا بالمحفزات.. فمحفز كل واحد منا الوحيد هو أن يكون أقرب أصحابه إلى النبي r..

سكت قليلا، ثم قال: لا تحسب بأننا قد ابتدعنا هذا ابتداعا.. لقد كان لنا سلف في ذلك.. لقد قال r يوما لنسائه:( أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً)، فكان نساء النبي r يتذارعن بينهن ليعرف أيهن أطول يدا حتى عرفن بعد ذلك أن مراد النبي r هو طول اليد بالنفقة[88]..

2 ـ العلاج

بقيت عشرة أيام في حلب، وفي ذلك الفندق، أنتظر مجيئ الطبيب الوارث.. وقد كانت تلك الأيام من أعظم الأيام بركة على صحتي..

لقد حاولت أن أطبق ذلك النظام الحازم الذي تعيشه المدينة في غذائها ونومها وجميع حركاتها.. وقد رأيت في ذلك النظام من المنافع الصحية ما لا أحتاج معه إلى أي دراسة أو دليل أو خبير..

في اليوم العاشر كنت في حديقة الفندق، وإذا بي أسمع جلبة، نهضت، فرأيت الكل يسرع نحو هدف معين بلهفة وشوق.. سألت أحدهم: ما سر هذه الجلبة؟

فقال: ألم تسمع؟..

قلت: لو سمعت ما سألتك.

قال: لقد جاء اليوم إمامنا وطبيبنا الوارث النبوي.. إن الكل مشتاق لرؤيته وللأحاديث الجميلة المفيدة التي يحدثنا بها.. إنه بلسم جراحنا، وشفاء أدوائنا.

قلت: لقد أثر فيكم هذا الطبيب كثيرا.. أرى أنه لو دخل السياسة لحصد أكثر الأصوات.

ابتسم، وقال: دعنا من هذا اللغو.. والله لو دخل السياسة ما أخذ من هذه المدينة صوتا واحدا.

تعجبت، وقلت: كيف ذلك.. أتربأون به عن السياسة، أم تربأون بالسياسة عنه؟

قال: لقد قال رسول الله r:( أنزلوا الناس منازلهم)[89].. ونحن ننزل منزلته لا نعدوها..

قلت: والسياسة.. من ينزلها؟

قال: نحن أزهد الناس فيها.. لقد شغلنا البغدادي بسياسة أجسادنا.. وشغلنا الصادق بسياسة أسرارنا.. وشغلنا الطائي بسياسة نفوسنا.. وشغلنا بديع الزمان بأمة نبينا.. وشغلنا الفاتح بتنظم مدنيتنا.. لقد شغلنا هؤلاء وغيرهم عن جدل الساسة والسياسيين.. فتركنا لهم لعبهم يتلهون بها، وانشغلنا بنبينا وورثته.

قلت: بورك لكم هذا الانشغال.. دعني أسير معك.. فما أشوقني للقيا هذا الوارث.

سرت معه إلى مدخل المدينة، حيث اجتمع جمع كبير في انتظار قدومه..

لقد ذكرني هذا الجمع بما روي في السيرة من اجتماع أهل المدينة المنورة انتظارا لقدوم رسول الله r..

لقد أعاد هذا المشهد ذلك المشهد، وأحياه في مخيلتي، بل جعلني أعيشه بكل جوارحي ولطائفي مع أني إلى ذلك المحل لم أسلم بعد..

لم يطل الانتظار.. فما هي إلا دقائق معدودة حتى قدم البغدادي في موكب حافل..

نزل من السيارة، وحيا الجمع، ثم ارتقى منصة أعدت له، وقال ـ بعد أن حمد الله، وسلم على نبيه r ـ: لقد اشتقت كثيرا لرؤياكم، والحديث إليكم، وكما تعودنا.. فلن أبدأ الحديث حتى تبدأوني بالسؤال، فليس هناك ما يحرك العالم إلى البحث مثل السؤال.. فمن لديه سؤال منكم أو مشكلة ترتبط بتخصصي، فأنا سعيد للاستماع له.

قام رجل من الجمع، ممتلئ خجلا وحياء، وقال: اعذرني ـ يا من تشرف بالإرث النبوي ـ أن أطرح عليك إشكالا أراد بعضهم أن يملأ به جوانح صدري.. وقد خشيت أن يطرحه على غيري، فيتأثر به.

قال البغدادي: أي هذا الرجل الذي طرح الإشكال، أهو بيننا أم من غير أهل هذه المدينة؟

قال الرجل: بل هو رجل بيننا ومنا.. لكنه نبت في غير هذه المدينة، وتأثر ببيئات أخرى أوحت له ما أوحت من وساوس و..

قاطعه البغدادي، وقال: لا يحق لك أن تتحدث عنه هكذا.. فلا ينبغي لمؤمن أن يتهم أحدا من الناس.

قال الرجل: ولكنه يقول عن نبينا كلاما خطيرا..

قال البغدادي: فليقل ما يشاء.. دورنا أن نستمع له، ثم نوضح له ما أشكل عليه، وقد نرجع لما قاله إن كان ما قاله صوابا.

قال الرجل: هل تأذن له أن يتحدث لك بإشكاله واعتراضه؟

قال البغدادي: بل أرجوه أن يتقدم، فيقول ما يشاء..

تقدم رجل من الجمع كان يلبس لباسا عصريا مبالغا فيه، وقال: أنا ذلك الرجل.. وقد تعلمت من العلوم ما هداني إلى أن أزيح تلك الغشاوة التي وضعتها على عيون هؤلاء الناس، فجعلوا منك قديسا، مع أنك لا تعدو أن تكون دجالا.

هم بعض القوم به.. فنهاهم البغدادي، وقال: مهلا يا جماعة.. دعونا نسمع له.. فعساه يكون صادقا فيما يقوله.

ثم توجه للرجل بأدب، وقال: تعال.. ارتق معي هذه المنصة، فنحن الآن في حكم الخصمين، ولا بد أن يكون محل الخصمين أمام القضاء متساويا.

ارتقى الرجل المنصة.. فقال البغدادي: اطرح ما لديك من الحقائق، لأصحح ما لدي منها.

قال الرجل: أنت تزعم أن محمدا r كان طبيبا..

قال البغدادي: إن ما ذكرته هو بعض الحقيقة لا كل الحقيقة.. أنا ذكرت أن محمدا r قد أعطاه الله من العلوم والهدي ما يخدم الإنسان بجميع أركانه ولطائفه فردا وجماعة وأمة.. وذكرت أن كونه رسولا لله  يقتضي أن يكون ناصحا.. ولذلك فإن من وظائف رسول الله r دلالة أمته إلى ما يفيد حفظ صحتهم.. وقد أدى رسول الله r هذه الوظيفة خير أداء.. وهي في عرف الناس لا تختلف مع وظيفة الطبيب.. فالطبيب ليس إلا ناصحا يهديك لطرق الصحة وحفظها وإصلاح ما فسد منها.

قال الرجل: إن هذا الزعم الذي تذكره خطيره جدا.. فمحمد r لم يكن يعدو الوظيفة التي كلفه الله بها[90].. أما هذه الوظيفة الخطيرة ـ التي هي شأن المختصين ـ فقد تحدث عنها رسول الله r بقوله:( إذا كان شئ من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، وإذا كان شئ من أمر دينكم فالي)[91]

وفي حديث آخر:( ما تقولون إن كان أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان أمر دينكم فالي)[92]

وفي حديث آخر:( إنما أنا بشر مثلكم وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم: قال الله، فلن أكذب على الله) [93]

وفي حديث آخر:( إني فيما لم يوح إلي كأحدكم)[94]

وفي حديث آخر:(  أنتم أعلم بأمر دنياكم)[95]

فهذه الأحاديث، يؤصل فيها النبي r أصلا عظيما في الشريعة، ويبينه لنا، ويشعرنا بأن بعض أفراد الأمة قد يكونون أحيانا أعلم منه r بما يتقنونه من أمور الدنيا، والمقصود أهل الخبرة في كل فن وصناعة، وأنه لا داعي شرعا لالتفاتهم إلى ما يصدر عنه r من ذلك إلا كما يلتفتون إلى قول غيره من الناس[96].. 

رأيت البغدادي تغير تغيرا شديدا لكنه حاول أن يحبس نفسه بقوة.. صاح بعض الحضور غاضبا: انزل يا زنديق.. كيف تتجرأ على مقام النبوة بمثل هذا؟

تدخل البغدادي بأدب، وقال: دعه ـ يا أخي ـ يكمل ما لديه .. هو لم يقصد ما فهمته.. إن التعبير فقط هو الذي خانه..

قال الرجل بصلافة: كيف يخونني التعبير.. أنا أديب أدباء، وعالم ابن علماء.. فكيف يخونني التعبير؟

قال البغدادي: اعذرني.. واصل ما تريد قوله.. فأنا لا أستطيع أن أجيبك إلا بعد أن تكمل كل ما عندك من حجج.

قال الرجل ـ وهو يتوجه للجماعة بحماسة وشدة ـ: أين ذهبت عقولكم.. ألم تقرأوا قوله تعالى:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾ (الكهف: من الآية110)، وقد تكرر التأكيد على بشرية الرسول r بخلاف أمور الشريعة، فإن كلامه فيها لا يستقر فيه خطأ، كما هو ثابت في علم أصول الفقه. فالأصل استمرار حاله في أمور الدنيا كما كان قبل النبوة، لما لم يدل على انتقاله عن ذلك دليل.

ومما يؤكد هذا أن الحباب بن المنذر، قال في سياق غزوة بدر: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله r: لقد أشرت بالرأي.

ومما يزيد في تأكيده قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ:( كان رسول الله r يسقم عند آخر عمره، أو في آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فينعتون له الأنعات، وكنت أعالجها له)

وفوق هذا، فهذا هو مذهب العلماء الفحول العدول من هذه الأمة..

لقد قال ابن خلدون:( الطب المنقول في الشرعيات ليس من الوحي في شيء.. وإنما هو أمر كان عاديا للعرب.. فإنما بُعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره)

وقال القاضي عياض:( فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها: يجوز عليه r فيها ما ذكرناه [أي الخطأ]، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وشغل نفسه بها، والنبي r مشحون القلب بمعرفة الربوبية، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية. ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر، وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة)

ولهذا.. فإن منصب النبوة مُنصب على العلم بالأمور الدينية، من الاعتقاد في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الأمور الشرعية.. أما إن اعتقد النبي r أن فلانا مظلوم فإذا هو ظالم، أو أن دواء معينا يشفي من مرض معين، فإذا هو لا يشفي منه، أو أن تدبيرا زراعيا أو تجاريا أو صناعيا يؤدي إلى هدف معين، فإذا هو لا يؤدي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أو أن تدبيرا عسكريا أو إداريا سينتج مصلحة معينة، أو يدفع ضررا معينا، فإذا هو لا يفعل، فإن ذلك الاعتقاد لا دخل له بالنبوة، بل هو يعتقده من حيث هو إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثراته بما سبق من الحوادث، وما سمع أو رأى من غيره؛ مما أدى إلى نتائج معينة. فكل ذلك يؤدي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر، ثم قد ينكشف الغطاء فإذا الأمر على خلاف ما ظن أو اعتقد.

سكت الرجل، فالتفت البغدادي إليه بأدب، وقال: هل انتهيت؟

قال الرجل: ألم يكفكم ما ذكرت من أدلة؟

قال البغدادي: فهل تأذن لنا في الإجابة عنها؟

قال الرجل: هي أوضح من أن تحتاج إلى إجابة.. إلا إذا أردت أن تفر إلى التأويل..

قال البغدادي: إذن.. دعنا نسألك، ونستفيد منك.

قال الرجل: سل ما بدا لك.. فلن تجدني إلا عليما.. لقد ورثنا العلم كابرا عن كابر.. أنا أحفظ الكتب العشرة.. بل لدي أسانيدها.. لكن هؤلاء لا يفقهون، ولا يقدرون.

قال البغدادي: هل قرأت الأحاديث التي وردت في الحجامة[97]؟

قال الرجل: وكيف لا أقرؤها.. بل لدي أسانيدها.

قال البغدادي: فاسردها علي..

قال الرجل: هي كثيرة.. منها قوله r:( إن في الحجم شفاء )[98]، وقوله r:(  إن جبريل أخبرني أن الحجامة أنفع ما تداوى به الناس )[99]، وقوله r:( إن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة)[100]، وقوله r:( ما مررت ليلة أسري بي على ملأ من الملائكة إلا كلهم يقول لي: عليك يا محمد بالحجامة)[101]

قال البغدادي: أهذا ما ورد فقط في الحجامة؟

قال الرجل: هناك غيرها كثير.. ففي الحديث:( إن خير ما تداويتم به اللدود[102] والسعوط والحجامة والمشي، وخير ما اكتحلتم به الإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر )[103]، ويقول:( خير الدواء الحجامة والفصاد )[104]، ويقول:( إن أفضل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري[105]، فلا تعذبوا صبيانكم بالغمز[106] )[107]، وقال:( نعم العبد الحجام يذهب بالدم ويخف الصلب وتجلو عن البصر)[108]

قال البغدادي: فهل اكتفى رسول الله r بالأقوال أم تعداها للأفعال؟

قال الرجل: لقد ورد في النصوص أن النبي r احتجم على هامته وبين كتفيه، وقال:( من أهراق من هذه الدماء فلا يضره أن لا يتداوى بشيء لشيء )[109]

قال البغدادي: فما تقول في هذه الأحاديث؟

قال الرجل: من حيث الثبوت أم من حيث الدلالة؟

قال البغدادي: من حيث الثبوت؟

قال الرجل: هي صحيحة من حيث الثبوت.. بل هي في مجموعها تكاد تبلغ مبلغ التواتر، فقد رويت بطرق كثيرة تمتلئ بها كتب الحديث.

قال البغدادي: فما تقول فيها من حيث الدلالة؟

قال الرجل: لقد سبق لي أن ذكرت لك وجهة النظر الصحيحة حولها.. وهي ليست وجهة نظري وحدي، بل هي وجهة نظر كل العلماء الفحول العدول الذين سبقوني كابن خلدون والقاضي عياض، وغيرهم.

قال البغدادي: دعنا من هذا، وأجبني عن مسألة فقهية.. أم أنك لم تقرأ الفقه؟

قال الرجل: أنت تهينني بقولك هذا.. كيف لم أقرأ الفقه، وقد ذكرت لك أني من عائلة كلهم أهل علم.. لقد حفظت المتون.. وسمعت الشروح والحواشي والتقارير..

قال البغدادي: فأجبني إذن عن رجل وصف للناس وصفات طبية خطيرة، ثم ظهر للناس بعد ان استعملوها خطرها وعدم جدواها.

قال الرجل: لقد نص الفقهاء على أن مثل هذا متعد وظالم، وأنه يجب عليه الضمان..

قال البغدادي: أهذا رأيك أم رأي الفقهاء؟

قال الرجل: وأنا من الفقهاء.. وهو رأيهم جميعا بلا خلاف.. لقد قال الخطابي يذكر الإجماع في المسألة:( لا أعلم خلافاً فى أن المعالِج إذا تعدَّى، فتَلِفَ المريضُ كان ضامناً، ‏والمتعاطى علماً أو عملاً لا يعرفه متعد، فإذا تولَّد من فعله التلف ضمن الدية، وسقط عنه القَودُ، ‏لأنه لا يستبِدُّ بذلك بدون إذن المريض وجنايةُ المُتطبب فى قول عامة الفقهاء على عاقِلَتِه)‏

وقال ابن القيم: (لقد نص الفقهاء على إيجابُ الضمان على الطبيب الجاهل، فإذا تعاطى عِلمَ ‏الطِّب وعمله، ولم يتقدم له به معرفة، فقد هَجم بجهله على إتلافِ الأنفس، وأقْدَم بالتهوُّر على ‏ما لم يعلمه، فيكون قد غَرَّرَ بالعليل، فيلزمه الضمانُ لذلك، وهذا إجماع من أهل العلم)[110]

قال البغدادي: أهذا الذي أجمع عليه الفقهاء اجتهاد اجتهدوه.. أم ورد النص به؟

قال الرجل: بل ورد النص به.. لقد أشار رسول الله r إلى هذه المسؤولية، فقال:( مَنْ تطبَّبَ[111]، ولم يُعْلَم مِنْهُ الطِّبُّ قَبْلَ ذلك، فهو ضَامِنٌ )[112]

قال البغدادي: فإن اعتذر هذا الطبيب بأنه ملهم أو مكاشف.. وأنه لم ينقل إلا ما أداه إليه كشفه أو إلهامه؟

قال الرجل: هذا أعظم في عقوبته.. فكم جلب لنا مثل هذا من أوهام وضلال؟

قال البغدادي: فإن اعتذر هذا الطبيب بأنه يوحى إليه؟

قال الرجل: هذا يقام عليه حدة الردة.. فقد ختمت النبوة بمحمد r.. ومن ادعى أنه نبي بعده، فقد كذب بما ورد من ذلك.. وهو كافر.. وجزاؤه القتل.

قال البغدادي: فإن كان هذا  الطبيب هو محمد r نفسه؟

انتفض الرجل، وقال: كيف تقول هذا؟.. محمد r أعظم من أن يقع في هذا.

قال البغدادي: لقد كنت تقوله.. أم أنك تراجعت عن قولك؟

قال الرجل: أنا لم أتراجع عن أي قول من أقوالي.

قال البغدادي: فأقوالك تضعك بين أمرين:

إما أن تسلم لرسول الله r كل ما قاله.. وتحاول أن ترتقي لأن تفهمه، وتستفيد منه.

وإما أن تطبق ما ذكرت من أحكام فقهية على رسول الله r.. فتعتبره متعديا بحديثه في تلك المسائل الطبية مع أنه لا يعرفها.

قال الرجل: فأنت تريدني إذن أن انضم إلى زمرتك.. وإلا اعتبرت رسول الله r متعديا.

قال البغدادي: هي ليست زمرتي.. فأنا لست سوى عبد من عباد الله القاصرين.. ولكني لا أرى إلا أنك محاط ضمن هذين الاحتمالين.

سكت الرجل قليلا، ثم قال: فما تقول فيما أوردت من نصوص بشرية رسول الله r؟

قال البغدادي: أما ما قرأته من قوله تعالى:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ )(الكهف: من الآية110)، فالصحيح في قراءتها:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى )(الكهف: من الآية110)

والصحيح في فهمها هو ما عبر عنه قوله تعالى:﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾ (النجم)

وأما الأحاديث التي رويتها فالأصح في فهمها هو ما ارتبط بالظن المحض، وفي هذا يذكر النبي r عادة ما يدل عليه..

قال الرجل: كيف تقول هذا.. وسبب قوله r:( أنتم أعلم بأمور دنياكم  )[113] حادثة واضحة.. وهي أنه r مر بقوم يلقحون النخل، فقال:(لو لم تفعلوا لصلح) قال الراوي: فخرج شيصا، فمر بهم، فقال:( ما لنخلكم؟) فقالوا:( قلت كذا وكذا )، فذكر الحديث.

قال البغدادي: لقد روي هذا الحديث في رواية أخرى أدق من هذا..  ففيها أن النبي r مر بقوم على رؤوس النخل، فسأل:( ما يصنع هؤلاء؟)، فقالوا:( يلقحونه ) ثم فسروا ذلك بكونهم يجعلون الذكر في الأنثى، فقال r ـ بصيغة الظن من غير أن يتحدث مع المؤبرين ـ:( ما أظن ذلك يغني شيئا )، فأخبر المؤبرون بما قال النبي r فتركوا التأبير، فحصل ما حصل.

ثم صحح لهم النبي r ذلك بعد أن حصل ما حصل.. وقد استفاد بعض الورثة من هذا أصلا من أصول العلم، وهو أن النبي r أراد بهذا أن يدلهم على أصل من أصول التقدم العلمي وهو المنهج التجريببي.. وهو يعتمد على وضع الاحتمالات المختلفة وتجريبها[114].

قال الرجل: ألا يمكن أن تكون الأحاديث الأخرى التي وردت في النواحي الطبية مشابهة لهذا؟

قال البغدادي: يستحيل ذلك.

قال الرجل: وكيف عرفت الاستحالة؟

قال البغدادي: نصوص الأحاديث تنبئ عن الاستحالة.. ففرق كبير بين قوله r:( ما أظن ذلك يغني شيئا ).. وبين قوله بصيغة الجزم والتأكيد:( إن في الحجم شفاء)[115]

وفرق كبير بين أن يخاطب بعض الفلاحين في حقل من الحقول.. وبين أن يخاطب الأمة جميعا في أمر يرتبط بصحتها وعافيتها بمثل ذلك الجزم والتأكيد.

ثم فوق ذلك.. فإن النبي r ربط الأمر بالوحي..فقال:(  إن جبريل أخبرني أن الحجامة أنفع ما تداوى به الناس )[116]، وقال:( ما مررت ليلة أسري بي على ملأ من الملائكة إلا كلهم يقول لي: عليك يا محمد بالحجامة)[117]

سكت الرجل قليلا، فقال البغدادي: أنت بين أمرين.. إما أن تكذب محمدا r فيما أخبر به.. أو تخطئه وتخطئ معه جبريلا والملائكة ـ عليهم السلام ـ وتعتبرهم غاشين لا ناصحين.

وإما أن تسلم لنبيك.. ثم تحاول أن تفهمه، وترتقي للأبعاد التي تحدث عنها.

قال الرجل: قد أسلم لك في الحجامة.

قال البغدادي: إذا سلمت لي في الحجامة سلمت لي في غيرها؟

قال الرجل: أنت تلزمني بما لا يلزم.

قال البغدادي: بل ألزمك بما يلزم.. لأنك إذا ذكرت بأن النبي r شرع لنا العلاج بالحجامة، أو وصفها لنا كعلاج انهارت جميع المبادئ التي ذكرتها.. فاعتبرت النبي r حينها طبيبا يمكن أن يصف علاجا.

قال الرجل: الطبيب لا يمكن أن يعرف بدواء واحد.

قال البغدادي: لقد ذكر النبي r منظومة كاملة من العلاج ومنظومة كاملة من الوقاية.. ولكن سوء الفهم هو الذي حال بين الناس وبين الاستفادة منها.. وهم في ذلك يظلمون أنفسهم ويحتقرون نبيهم.

قال الرجل: كيف ذلك؟

قال البغدادي: أما ظلمهم لأنفسهم، فهو يشبه ما ذكرت عن نفسك.. فأنت ـ بحمد الله ـ فقيه محدث.. ولكن قومك مقصرون في الاستفادة منك، وهم يظلمون أنفسهم بذلك.

وأما الاحتقار.. فإن هؤلاء يكادون يقولون لنبيهم من غير أن يشعروا:( أنت لست أهلا لأن تتحدث في مثل هذه الأمور)

ارتمى الرجل يبكي بين يدي البغدادي، وهو يقول: جزاك الله خيرا.. جزاك الله خيرا.. لقد أنقذتني.. لقد كانت حقيقتي تقول ما تذكره.. وإن كان لساني لم يجرؤ على النطق بها.

أخذ البغدادي بيده، وأقامه، وقال: قم يا أخي.. وهيا نتعاون جميعا.. لنبين للعالم المتلهف أسرار الهدي الذي جاءنا به نبينا r.. فهو هدي يشمل كل شيء..

صاحت الجماعة مكبرة، فقال البغدادي: إن كان لديكم أسئلة أخرى.. فيسرني أن أجيبكم عنها، وأن يجيبكم عنها ـ معي ـ هذا العالم الفحل الذي قدر الله أن نكتشفه اليوم.

قال رجل من الجماعة: لقد أطلت هذه المرة في غيابك.. فبم جئتنا من جديد؟

قال البغدادي: قبل أن أذكر لكم الجديد الذي جئت به أود أن أسأل أخي هذا عما هو في صلب اختصاصه..

التفت إلى الرجل، وقال: اذكر لي الحديث الذي ورد في الكمأة.

قال الرجل: لقد ورد في حديث صحيح قوله r:( الكمأة من المنّ، وماؤها شفاء من للعين )[118]

قال البغدادي: أهو حديث صحيح؟

قال الرجل: أجل.. لقد رواه الثقاة عن الثقاة.

قال البغدادي: فهل كان العلم بهذا من العلم المتوارث في الجاهلية؟

قال الرجل: مورد الحديث يدل على غير ذلك.. فالنبي r قال ذلك بعد أن سمع بعضهم يقول:( الكمأة جدري الأرض ) فصحح ذلك، وقال ما قال.

قال البغدادي: لقد رحلت أحمل الحديث إلى بعض بلاد الإسلام بعد أن استدعاني أهلها لعلاج الرمد الذي انتشر بين أطفالها..

وقد سألت الله في تلك الليلة أن يهديني لعلاجه بما ورد في الهدي النبوي.. بت تلك الليلة أقلب أوراق الحديث إلى أن ظفرت بهذا الحديث..

قالوا: فماذا فعلت؟

قال: لقد سرت في البراري أبحث عن الكمأة.. وأميز أنواعها النافعة والضارة.. ثم قمت باستخلاص العصارة المائية منها في مختبر (.... )[119]، ثم جففت السائل حتى أتمكن من الاحتفاظ به لفترة طويلة، وعند الاستعمال تم حل المسحوق في ماء مقطر ليصل إلى نفس تركيز ماء الكمأة الطبيعي، وهو ماء بني اللون له رائحة نفاذة.

وقد عالجت به حالات متقدمة من الرمد الربيعي Trachoma فكانت النتائج إيجابية حيث تم تشخيصه عند 86 طفلاً، ثم تقسيهم إلى مجموعتين عولجت بالأدوية المعتادة، ومجموعة أضيف ماء الكمأة إلى تلك المعالجات، حيث تم تقطير ماء الكمأة في العين المصابة 3 مرات يومياً ولمدة شهر كامل.

وكان الفرق واضحاً جداً بين المجموعتين، فالحالات التي عولجت بالأدوية المعتادة ظهر فيها تليف في ملتحمة الجفون، أما التي عولجت بماء الكمأة المقطر عادت الملتحمة إلى وضعها السوي دون تليف الملتحمة[120].

تعجب الرجل، وقال: أشفوا حقيقة؟

ابتسم البغدادي، وقال: لقد كنت متأكدا من أنهم سيشفوا.. لأن النبي r لا ينطق عن الهوى.. فكل ما يذكره وحي يوحي له من الله.. والله هو الطبيب.. ومن رحمته بعباده أن دلهم على ما ينفعهم.

قال الرجل: إن لك إيمانا عظيما.

قال البغدادي: في البدء كنت ممتلئا شكوكا.. ولكني لم أكن أعالج شكوكي بالاعتراض، وإنما أعالجها بالبحث.. لقد بحثت عن كل ما ورد في الأحاديث مما يرتبط بالنواحي الطبية.. ورحت أجرب وأحلل وأبحث حتى صار لي قناعة تامة بأن كل ما ذكره r هو في منتهى الدقة العلمية، ومنتهى النصح الطبي.. سواء وصلنا إلى ذلك أم لم نصل.

قال الرجل: ولا زلت تبحث؟

قال البغدادي: أجل.. فالبحث لا ينتهي.. ومحمد r كبحر محيط.. ونحن لسنا إلا بسطاء يحملون دلاء حقيرة يملأون بها قربهم من ذلك البحر المحيط.

 

***

بقي البغدادي مع الجماهير الملتفة حوله يسألونه ويجيبهم.. وقد ملأني ذلك عجبا.. فكل ما يسألونه عنه يذكر لهم دليله من قول النبي r وما تؤيده الأبحاث الحديثة.

في ذلك المساء زرته في بيته، فاستقبلني خير استقبال.. فبقيت في صحبته مدة، وقد عرفت فيها ما لا يمكن لي أن أذكره لكم جميعا.. إلا أني أكتفي بأن أذكر لكم بأني وصلت إلى قناعة كبرى، وهي أن الطب الذي جاء به النبي r هو الطب الأكمل بين سائر أنواع الطب.. وأنه لو قيم جميع أطباء العالم بحسب ما اكتشفوه من أدوية، وما بثوه من وعي صحي لكان على رأسهم محمد r.. فهو الطبيب الأكبر الذي نهض به الطب وتطور.. ولا زال الطب إلى العصر الحديث.. وإلى العصور التالية.. يتعلم من ذلك المسشفى الجامعي الكبير الذي أسسه محمد r.

 

 

 

 

 

 

 



([1]) ننبه إلى أننا في هذا الفصل نحاول أن نذكر باختصار بعض ما نبه عليه r من قوانين الصحة.. أما التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا، فقد خصصنا لها رسالة خاصة من رسائل السلام هي (ابتسامة الأنين)، وهي في أربعة أجزاء، تحاول أن تبين المنظومة الإسلامية الكاملة للصحة، وتصحح الكثير من الأخطاء المرتبطة بها.

بالإضافة إلى هذا، فقد ذكرنا في رسالة (معجزات علمية) بعض ما يرتبط بهذا الجانب العظيم من جوانب النبوة.

وننبه ـ هنا ـ إلى أننا لا نوافق على الموقف السلبي لبعض علماء المسلمين من هذه الناحية، وهو موقف ناتج عن استعمل خاطئ لسد الذرائع..

وننبه ـ كذلك ـ إلى أننا لا نوافق على الاستغلال السيئ لما يرتبط بهذه الناحية من الهدي النبوي.

ولذلك لا نقبل ما يقال فيها إلا من العلماء المختصين الذين جمعوا بين العلمين.. ولذلك فالوارث الذي اخترناه لهذا الفصل وارث جمع بين العلمين، وتحقق بكلا الهديين: هدي النبي r، وهدي ما دله عليه العلم.

 

([2] )  رواه ابن ماجه، وقال في الزوائد إسناده ضعيف.

([3] )  رواه البخاري ومسلم.

([4] )  رواه أبو داود.

([5] )  رواه مسلم.

([6] )  رواه البخاري ومسلم.

([7] )  رواه الطبراني، قال الحافظ في التلخيص: إسناده جيد.

([8] )  رواه الطبراني في الكبير عن أبي أيوب.

([9] )  رواه الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود.

([10] )  هم د. محمود رجائي المصطيهي- د. احمد عبد العزيزالجاسم، د. إبراهيم المهلهل الياسين- د.- أحمد رجائي الجندي، د. لاحسان شكري. انظر (استعمال السواك لنظافة الفم وصحته، دراسة سريريه وكيميائية) للأطباء المذكورين.

([11]) لا نقصد بهذا إلغاء سائر ما هدى الله إليه البشر من أنواع الاستشفاء، ولكنا نقصد أن الالتزام بالهدي النبوي قد يغني عن الكثير من الأطباء، وقد حاولنا بيان مدى تكامل النظرية الطبية النبوية في سلسلة (ابتسامة الأنين).

([12]) أشير به إلى الإمام العلامة الفقيه النحوي اللغوي الطبيب موفق الدين أبو محمد عبد اللطيف ابن يوسف بن محمد بن علي بن أبي سعد الموصلي ثم البغدادي الشافعي (557-628هـ، 1162- 1231م)، نزيل حلب، ويعرف قديما بابن اللباد فضلان.

وهو أحد العلماء الموسوعيين. وُلد ببغداد وتوفي بها، درس الأدب والكيمياء والطب، واتجه لطلب العلم في الشام ومصر، وبدأ ترحاله سنة 585هـ، 1189م، ووصل إلى فلسطين ودمشق وعمل مدرسًا بأحد مساجد دمشق، وانتقل إلى مصر سنة 589هـ،1193م ودرس بها الفقه وتابع أبحاثه في النباتات والطب.

وترجع شهرته في الجغرافيا إلى كتابه الشهير (الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر)، وله مصنفات أخرى كثيرة تناولت العلوم الطبيعية والفقهية والنبات والطب والتشريح والفلسفة.

ويُعدّ كتاب الإفادة والاعتبار كتابًا مهمًا تناول الظروف الطبيعية في مصر وسكانها وحيواناتها ونباتاتها، كما تناول آثار مصر القديمة، وتناول النيل ومحاولة قياس ارتفاع فيضانه، إلى جانب وصفه للقحط الرهيب الذي لحق بمصر سنة 597 - 598هـ، والكتاب بصفة عامة وثيقة مهمة جدًا لأحوال مصر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية في الفترة التي كتب فيها.

وسبب اختيارنا له في هذا الفصل هو كونه من أشهر من اهتم بالطب النبوي، ومن وصاياه قوله: (ينبغي أن تكون سيرتك سيرة الصدر الأول فاقرأ السيرة النبوية وتتبع أفعاله واقتف آثاره وتشبه به ما أمكنك).. وانطلاقا من قوله هذا اعتبرناه الوارث في هذا الفصل.

([13]) رواه البخاري ومسلم.

([14] )  أبو داود.

([15] )  أبو داود وابن ماجة.

([16] )  رواه البخاري.

([17] )  رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

([18] )  د. عبد الرزاق الكيلاني: (الحقائق الطبية في الإسلام)

([19] )  د. غياث الأحمد: " الطب النبوي في ضوء العلم الحديث ".

([20] )  رواه مسلم.

([21] )  رواه مسلم.

([22])  انظر: الإعجاز العلمى في الإسلام والسنة النبوية،  محمد كامل عبد الصمد، ومجلة الإصلاح العدد 296 سنة 1994 " من ندوات جمعية الإعجاز العلمي للقرآن في القاهرة.

([23] )  رواه البخاري.

([24] )  رواه مسلم.

([25] )  رواه البخاري ومسلم.

([26] )  د. إبراهيم الراوي: مقالته (أثر العطاس على الدماغ) مجلة حضارة الإسلام المجلد 20 العدد 5/6 لعام 1979، وانظر: الهدي النبوي في العطاس والتثاؤب، بقلم الدكتور محمد نزار الدقر.

([27] )  رواه ابن ماجة.

([28] )  رواه ابن ماجة.

([29] )  رواه أبو داود.

([30]) من الأحاديث الواردة في ذلك قوله r:( الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الآباط ) رواه البخاري ومسلم.

([31] )  د. يحيى الخواجي ود. أحمد عبد الأخر: المؤتمر العالمي الرابع للطب الإسلامي، الكويت، نوفمبر 1986.

([32] )  رواه النسائي.

([33] )  دسم.

([34] )  رواه الترمذي.

([35] )  رواه ابن ماجة.

([36] )  رواه الترمذي.

([37] )  رواه مسلم.

([38] )  رواه أبو داود.

([39] )  رواه أبو داود.

([40] ) رواه الحاكم والترمذي، وقال: حسن غريب.

([41] )  رواه مسلم.

([42] )  انظر: روائع الطب الإسلامي  د. محمد نزار الدقر.

([43] )  هي التي تموت خنقاً، وهو حبس النفس، سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها بحبل أو بين عودين ونحو ذلك.

([44] )  هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية.

([45] )  هي التي تتردى من العلو إلى الأسفل فتموت، كان ذلك من جبل او بئر ونحوه.

([46] )  هي الشاة التي تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت قبل أن تذكى.

([47] )  هي كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان.

([48] )  آكلات اللحوم تعرف علميا بأنها ذات الناب التي أشار إليها الحديث الشريف، لأن لها أربعة أنياب كبيرة في الفك العلوي والسفلي..

ومثل ذلك الطيور أيضا إذ تنقسم إلى آكلات العشب والنبات كالدجاج والحمام.. وإلى آكلات اللحوم كالصقور والنسور، وللتمييز العلمي بينهما يقال: إن الطائر آكل اللحوم له مخلب حاد، ولا يوجد هذا المخلب في الطيور المستأنسة الداجنة.

([49] )  الحديث رواه أبو داود.

([50] )  رئيس قسم الأمراض النفسية في جامعة لندن في أكبر وأشهر مرجع طبي بريطاني (مرجع برايس الطبي- الطبعة العاشرة.

([51] )  انظر: روائع الطب الإسلامي  د. محمد نزار الدقر، ونظرات في المسكرات  د. أحمد شوكت شطي.

([52] )  ابن ماجة.

([53] )  الترمذي، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، تحفة الأحوذي (7/182).

([54]) رواه مسلم.

([55] )  أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم عن المقدام بن معد يكرب.

([56] )  فـقـــه الصحـــة، الدكتور محمد هيثم الخياط، محاضرة ألقاها في المؤتمر الرابع للطب الإسلامي الذي عقد في كرا تشي سنة 1405 للهجرة [1984 للميلاد)

([57]) زاد المعاد.

([58] )  وهي حَسَاء يتخذ من اللبن والدقيق.

([59]) زاد المعاد.

([60]) رواه أبو داود والترمذي.

([61]) رواه ابن ماجة والبيهقي.

([62]) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن،وصحَّحه ابن حبان.

([63]) رواه الترمذي والحاكم وقال: صحيح الإسناد،ورواه البغوي بسند آخر وحسَّنه.

([64]) انظر: روائع الطب الإسلامي.

([65] )  انظر: مع الطب في القرآن الكريم، للدكتور عبد الحميد دياب والدكتور احمد قرقوز.

([66] )  البخاري ومسلم.

([67] )  أبو  داود.

([68] )  الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الطب عن أنس.

([69] )  من المحاضرة العلمية (صورة من إعجاز الطب والوقائي) التي ألقاها الدكتور حسان شمسي باشا في المؤتمر العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة الذي عقد في دبي عالم 2004م.

([70] ) انظر: د.ظافر العطار:(اضطجع على شقك الأيمن) مجلة طبيبك كانون1-1968. والمجلة الطبية العربية:( أوضاع النوم الخاطئة) ع:196-1993، د.إبراهيم الراوي:(النوم على الجهة اليمنى) مجلة حضارة الإسلام المجلد؛16،العدد 9/10-1975.

([71] )  الترمذي بسند حسن.

([72] )  ابن ماجه.

([73] ) رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس.

([74] )  رواه أحمد عن ابن مسعود.

([75] )  رواه الحاكم عن جابر.

([76])  من ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب t أن النبي r كان يسمر هو وأبو بكر في الأمر من أمور المسلمين وأنا معهما. رواه الترمذي.

([77] )  انظر: من أسرار عالم النوم، الدكتور حسان شمسي باشا، من موقعه على الإنترنت.

([78] )  الشرق الأوسط: العدد ـ 6247.

([79] )  رواه أحمد.

([80] )  مسلم.

([81] )  البخاري.

([82] )  أحمد.

([83] )  انظر: أبحاث الدكتور إبراهيم الراوي في مجلة الحضارة العددان  6  ـ10

(1)  رواه ابن ابي شيبة، ابن ماجة.

(1)  ابن ابي شيبة، ابن ماجة.

([86] )  مسلم.

([87]) رواه أحمد.

([88]) رواه مسلم.

([89]) رواه مسلم وأبو داود.

([90]) حاولنا في هذا المبحث أن نجيب على الشبهة المرتبطة بنفي ما يسمى بالطب النبوي (بمعناه الصحيح المتكامل الذي اشرنا إليه في (ابتسامة الأنين)، وقد رجعنا في نقل الشبهات إلى بعض من ذكر تلك الشبهات مثل:(د. محمد سليمان الأشقر، أحاديث الطب النبوي هل يُحتج بها؟، نشر في إسلام أون لاين، بتاريخ: 12/08/2004 ).

([91]) رواه مسلم.

([92]) رواه أحمد.

([93]) رواه أحمد.

([94]) رواه الطبراني في الكبير وابن شاهين في السنة.

([95]) رواه مسلم.

([96]) للأسف فإن هذا الكلام قاله بحروفه من يتجرأون على مقام النبوة بحجة العلمية والموضوعية.

([97]) ذكرنا الحجامة باعتبارها من المسائل التي توجه لها هؤلاء المنكرون بالنقد مع صحة الأحاديث الواردة فيها .. وهم ـ للأسف ـ لا يكتفون بذلك، بل يضمون إليها الكثير من النصوص.

فمنها ـ مثلا ـ قوله r:( ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وتلث لنفسه)

ومنها حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا عند أحمد والبخاري ومسلم وأبي داود:( من تصبّح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر)

ومنها حديث ابن عباس مرفوعا، عند أحمد والبخاري ومسلم: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء)

ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا عند أحمد والترمذي:( العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن، وفيها شفاء للعين)، وروى نصفه الثاني البخاري ومسلم وأحمد والنسائي مرفوعا من حديث سعيد بن زيد.

ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا عند أحمد والبخاري ومسلم، ومثله عند أحمد عن عائشة، وعند ابن ماجه عن عمر مرفوعا:( في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام)، والسام الموت.. ولسنا ندري كيف يقدم رسول الله r على مثل هذا القول الصريح من غير أن يعلم تحقيقه.

ومنها حديث أحمد والبخاري وأبي داود عن أبي هريرة مرفوعا:( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء)، زاد أحمد في رواية:( وإنه يتقي بجناحيه الذي فيه الداء، فليغمسه كله )، وأخرجه كله أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية أبي سعيد الخدري مرفوعا.

ومنها الأحاديث الواردة في العدوى كقوله r:(لا يُورِدَن ممرض على مصح)، رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود.

ومنها أحاديث الطاعون، كحديث أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف عند البخاري:(إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها) رواه مسلم.

 ومنها حديث عند الإمام أحمد مرفوعا:( إن في أبوال الإبل وألبانها شفاء)

قال بعضهم ـ تعقيبا على هذه الأحاديث بعد ذكره لها ـ:( فهذه الأحاديث المذكورة في هذا النوع الثاني، ونحوها من الأحاديث التي تدخل في صلب الأمور الطبية والعلاجية، لا ينبغي أن تؤخذ حجة الطب والعلاج، بل مرجع ذلك إلى أهل الطب، فهم أهل الاختصاص في ذلك. وقد يتبين في شيء من هذه الأحاديث الخطأ من الناحية الطبية الصرفة)

([98] )  رواه مسلم.

([99] )  رواه الخطيب.

([100] )  رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم.

([101] )  رواه الترمذي، وقال حسن غريب، وابن ماجة.

([102] )  اللدود: هو بالفتح من الأدوية: ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم، النهاية 4/245.

([103] )  رواه الترمذي وقال حسن غريب، والحاكم.

([104] )  رواه أبو نعيم في الطب.

([105] )  القسط: عقار معروف في الأدوية طيب الريح، تبخر به النفساء والأطفال. النهاية 4/60.

([106] )  الغمز: العصر والكبس باليد، النهاية 3/385.

([107] )  مسلم.

([108] )  الترمذي وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس.

([109] )  أبو داود وابن ماجة.

([110]) للمسألة تفاصيل فقهية كثيرة ذكرناها في (أدوية من الأرض)، وهو الجزء الرابع من سلسلة (ابتسامة الأنين)

([111])  قال r:« مَنْ تَطَبَّبَ »، ولم يقل: مَن طَبَّ، لأن لفظ التَّفعل يدل على تكلُّف الشىء والدخول فيه بُعسر وكُلفة، وأنه ليس من أهله، كتَحَلَّم وتشجَّع وتصبَّر ونظائرِها، وكذلك بَنَوْا تكلَّف على هذا الوزن، قال الشاعر: وَقَيسَ عَيْلانَ ومَنْ تَقَيَّسَا

([112])  رواه أبو داود، والنسائىُّ، وابن ماجه.

([113] )  رواه مسلم.

([114]) ذكرنا ما يدل عليه هذا الحديث من هذا الجانب في رسالة (مفاتيح المدائن) من (رسائل السلام)

([115] )  رواه مسلم.

([116] )  رواه الخطيب.

([117] )  رواه الترمذي، وقال حسن غريب، وابن ماجة.

([118] )  رواه البخاري.

([119]) المختبر الأصلي الذي أجري فيه الاختبار هو (فيلانوف) بأوديسا.

([120]) انظر: المعتز بالله المرزوقي: في محاضرة له بعنوان ( الكمأة وماؤها شفاء للعين ) من مواد المؤتمر  العالمي الأول عن الطب الاسلامي الكويت 1980.