المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: النبي الهادي |
الناشر: دار الكتاب
الحديث |
الفهرس
قلت: فحدثني عن رحلتك السادسة.
قال: بعد خروجي من غرداية، سرت إلى
بلدة أخرى من بلاد الجزائر العريقة يقال لها (تلمسان)[1]، وما إن دخلتها وسرت على ثراها، حتى امتلأت نفسي بأشواق غريبة
تريد أن ترفعني عن أجواء الأرض وتضاريسها لتضعني في أجواء أنقى، وتضاريس أطهر ..
لست أدري سر ذلك التسامي الذي امتلأت
به نفسي في تلك اللحظة، مع أن المدينة التي كنت أتجول في شوارعها كانت ممتلئة
بالعمران والحضارة، سواء منها ما ورثته من القرون السالفة، أو ما بنته من إيحاء
هذا القرن .. فلم يكن في ظاهرها ما يدعو إلى الزهد والتسامي .. بل كان ظاهرها يدعو
إلى التثاقل إلى الأرض والانشغال بمتاعها .. وهذا ما ملأني بالغرابة ..
لكن الغرابة سرعان ما زالت ..
لقد كنت في ذلك الشارع المسمى
(العباد) .. وهو شارع من شوارع تلمسان الغارقة في القدم .. وهو يحوي ضريح الولي
الصالح والمربي الكبير فخر تلمسان وشرفها (أبي مدين شعيب)[2]، أو ما يسميه الناس ـ كل الناس ـ في تلك المدينة (سيدي بومدين)
شد سمعي، وأنا أقطع ذلك الشارع،
أصوات عذبة، وكأنها قادمة من القرون السالفة، بل من عهد أبي مدين نفسه .. كان
الصوت يردد قصيدة أبي مدين التي يقول فيها:
الله قل وذر
الوجود وما حوى |
إن كنت مرتاداً
بلوغ كمال
|
فالكل دون الله
إن حققته |
عدمٌ على التفصيل
والإجمال
|
من لا وجود لذاته
من ذاته |
فوجوده لولاه عين
محال
|
لست أدري هل
كانت المعاني السامية التي تمتلئ بها هذه الأبيات .. أم كان ذلك الصوت الجميل الذي
يعانق السماء .. أم كانت تلك الروحانية العميقة التي أصابتني في تلك المدينة .. لست
أدري أي هؤلاء جذبني من حيث لا أشعر لأنضم إلى تلك الحلقة النورانية، فأشدو بما
تشدوا، وأترنم بما تترنم؟
بعد أن انتهى
الإنشاد، وعادت إلي نفسي، وعدت إلى الأرض، نظرت فيمن حولي، فوجدت سبعة كالكواكب
يتوسطهم شمس رنت إليه أحداقهم، وهوت إلى كعبته قلوبهم.
نظر إلي أحدهم،
وقال: أبشر .. فأنت الآن بين يدي سيدي أبي مدين ..
قلت: أتقصد
ضريح أبي مدين؟
قال: لا ..
أقصد وارث أبي مدين .. فهذه الشمس التي تراها أمامك هي شمسه .. فإن شئت أن تنعم
بدفئها، ونورها، فعليك بصحبتها، فلا يمكن للكواكب أن تستنير بنور الشمس إلا إذا
طافت بها، ولم تر غيرها.
قلت: لكن لي
شمسي التي بها أطوف .. إن شمسي هو محمد رسول الله .. وأنا أستغني بشمسه عن كل شمس،
وبأشعة نوره عن كل أشعة.
قال: كلنا
نستمد من تلك الشمس .. ولكنا نحتاج إلى الورثة الذين نتعلم على أيديهم كيف نتأدب
مع تلك الشمس التي لا يستفيد منها إلا من تأدب معها .. لقد كان سيدي أبو علي
يقول:( من أساء الأدب على البساط رد إلى الباب، ومن أساء الأدب على الباب رد إلى
سياسة الدواب)
قلت: أنا أبحث
عن ورثة الهداية الذين ينشغلون بإصلاح الخلق .. ولو انشغلت بإصلاح نفسي لحاسبني
ربي على تضييع أمة نبيه.
قال: وهل يمكن
لأحد أن يصلح قبل أن يصلح؟ .. إن كلمة واحدة من قلب ممتلئ بالأنوار لها من التأثير
ما لا يعدله آلاف الخطب، وآلاف آلاف المواعظ .. لقد قال سيدي أبو العباس المرسي :(
كلام المأذون له يخرج وعليه كسوة وطلاوة، وكلام الذي لم يؤذن له يخرج مكسوف
الأنوار، حتى إن الرجلين ليتكلمان بالحقيقة الواحدة، فتقبل من أحدهما، وترد على
الآخر)
وعبر عن ذلك
سيدي ابن عطاء الله في بعض حكمه، فقال:( كل كلام يبرز،
وعليه كسوة القلب الذي منه برز)
قال آخر: لقد علق ابن عجيبة على هذه
الحكمة بقوله :( علامة الكلام الذي يسبقه التنوير هو تأثيره في القلوب، وتهييجه
الأرواح، وتشويقه الأسرار، فإذا سمعه الغافل تنبه، وإذا سمعه العاصي انزجر، وإذا
سمعه الطائع زاد نشاطه، وعظم شوقه، وإذا سمعه السائر طوى عنه تعب سيره، وإذا سمعه
الواصل تمكن من حاله)، ثم قال :( فالكلام صفة المتكلم، فإذا كان المتكلم ذا تنوير
وقع في قلوب السامعين، وإذا كان ذا تكدير حد كلامه آذان المستمعين .. فكل كلام
يبرز، وعليه كسوة القلب الذي منه برز)
قال آخر: لقد اتفق العارفون على أن
الكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان ..
واتفقوا على أن إنهاض الحال أكثر من إنهاض المقال .. وإذا اجتمع الحال والمقال فهو
البحر الطام والنجم الثاقب التام.
قال آخر: سمعت بعض أهل الله يقول في
هذا :( من كان قلبه روحانياً كان كلامه معنوياً، ينزل من القلوب في أوسع ساحاتها،
ومن كان قلبه نفسياً كان كلامه حسياً، ومن طمس إذن قلبه حجب بالدنيا، فلا يسمع ولا
يسمع)
قلت: لم أفهم الإذن .. الدعوة إلى
الله واجب مطلقا .. فكيف تحتاج إلى إذن؟
قال أحدهم: ألم تسمع قوله تعالى في
وصف رسول الله r :﴿ وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً
مُنِيراً) (الأحزاب:46)؟
قلت: بلى ..
قال: فهذه مرتبة من مراتب الدعوة إلى
الله .. وهي أشرف المراتب وأعلاها .. ومن تحققت له، فقد ظفر بالإكسير الأحمر الذي
يحول به معادن من يصلحهم إلى جواهر كريمة لا تستطيع جميع أدناس الدنيا أن تنجسها.
قلت: لقد سمعت في فترة من فترات عمري
بعض من يدعي هذا .. لكني صرفت عنه، وأنا أمتلئ ضحكا .. لقد رأيته ينصب الفاعل،
ويرفع المفعول .. فقلت في نفسي: إن من لم يؤتمن على الفاعل والمفعول كيف يؤتمن على
دين الله وعلى ما يدعيه.
قال أحدهم: العبرة عند أهل الله
بالمعاني لا بالأواني ..
قال آخر: لقد ذكرتني ببعض النحويين
دخل مجلس الحسن بن سمعون ليسمع كلامه، فوجده يلحن، فانصرف ذاما له، فبلغ ذلك
الحسن، فكتب يقول له :( إنك من كثرة الإعجاب رضيت بالوقوف دون الباب، فاعتمدت على
ضبط أقوالك مع لحن أفعالك، وإنك قد تهت بين خفض ورفع ونصب وجزم، فانقطعت عن
المقصود، هلا رفعت إلى الله جميع الحاجات، وخفضت كل المنكرات، وجزمت عن الشهوات،
ونصبت بين عينيك الممات .. والله يا أخي ما يقال للعبد لم لم تكن معرباً؟ وإنما
يقال له: لم كنت مذنباً .. ليس المراد فصاحة المقال، وإنما المراد فصاحة الفعال،
ولو كان الفضل في فصاحة اللسان لكان سيدنا هارون أولى بالرسالة من سيدنا موسى حيث
يقول :﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ
مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (القصص:34)
قال آخر: لقد حضرت بعض مجالس أهل
الله من بعض هذه الجبال التي لا تحسن العربية، وقد جاءه رجل له تقدم في العربية ..
وكان يتفاصح به .. فقال له ذلك الولي الصالح :( أنت اترك شيئاً من عربيتك .. وأنا
أترك شيئاً من جبليتي ـ يعني من اللغة الجبلية ـ وهيا نلتفت للطريق)
قلت: صحيح كل ما ذكرتموه .. ولكني مع
ذلك أرى من يستغرق في عالم نفسه، فهو لا يخرج من خلوة حتى يدخل خلوة .. وليس له مع
كل ذلك أي همة لإصلاح الأمة، ولا لتوجيهها.
نظر إلي أبو
مدين بابتسامة، وكأنه أراد أن يقطع ذلك الحديث الذي كاد يتحول إلى جدل، وقال: كيف
تركت إخواني من الشناقطة؟
تعجبت من سؤاله
هذا .. لكني حاولت أن أستر تعجبي، وقلت: هم بأحسن حال.. تركتهم يبثون العلوم التي
جاء بها رسول الله r ليشقوا بها حجب الظلمات،
ويدكوا بها صروح الطغاة.
قال: فهل تعلمت من علومهم؟
قلت: أجل .. والحمد لله .. لقد رزقني
الله من علومهم ما أرى أني بحاجة إليه.
قال: فأنت الآن تحتاج إلى تعلم أسرار
التطهير والعروج.
قلت: ما التطهير .. وما العروج !؟
قال: تطهير أرض النفوس من الأدناس ..
والعروج بالأرواح إلى قدس الأقداس.
قلت: فأنت سادس أصحابي إذن؟
قال: إن كان السادس هو المرشد
المربي، فأنا ذلك ..
قلت: فهل تأذن لي في صحبتك لأتعلم
أسرار التربية والإرشاد؟
قال: ما كان للمرشد أن يمنع من قصده.
قلت: لكني سؤول لجوج في المسألة ..
وأخاف أن يحصل لي ما قاله أهل هذا الشأن من أن من قال لشيخه :( لم؟) لا يفلح[3].
قال: هم لم يقصدوك بهذا .. إنما
قصدوا المجادل الذي يقف به جدله عن الحق .. لقد قصدوا ما ورد في الحديث من أن
رجلاً أكل عند رسول الله r بشماله، فقال: كل بيمينك. قال: لا أستطيع ! قال: لا استطعت ـ ما
منعه إلا الكبر ـ قال: فما رفعها إلى فيه[4].
ويقصدون ما ورد في الحديث عن جابر بن
عبدالله ـ رضي الله عنه ـ قال: أتى رجل بالجعرانة النبي r منصرفه من حنين وفى ثوب بلال فضة، ورسول الله r
يقبض منها ويعطى الناس، فقال: يا محمد اعدل، قال :( ويلك ومن يعدل إذا لم أكن
أعدل، لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل)، فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله،
أقتل هذا المنافق؟ فقال r :( معاذ الله أن يتحدث الناس أنى أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه
يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية)[5]
قلت: عرفتك، ويشرفني أن أصحبك، وأن
أتتلمذ على يديك .. فمن هؤلاء الذين أحاطوا بك كما تحيط الهالة بالشمس؟
قال: كل هؤلاء رجال من أهل الله ..
عرفوا من حقائق السلوك وحقائق الوصول ما أهلهم لبذله لأهله الذين يطلبونه.
أشار إلى أحدهم، وقال: أما هذا،
فاسمه الجنيد، وهو كجده أبي القاسم الجنيد بن محمد القواريري ذلك المربي بفنون
العلم، المؤيد بعيون الحلم، المنور بخالص الإيقان وثابت الإيمان، العالم بمودع
الكتاب، والعامل بحلم الخطاب، الموافق فيه للبيان والصواب .. كان كلامه بالنصوص مربوطاً،
وبيانه بالأدلة مبسوطاً، فاق أشكاله بالبيان الشافي، واعتناقه للمنهج الكافي،
ولزومه للعمل الوافي[6].
ثم أشار إلى الثاني، وقال: أما هذا،
فشاه الكرماني، وهو كجده أبي الفوارس الكرماني شاه بن شجاع، ذلك الذي تعرى من الأغراض،
تحرزاً من الأعراض، كان من أبناء الملوك، وتشمر للسلوك، تخفف للاستباق، متحققاً
بالاشتياق، كان ظريفاً في الفتوة، عريفاً في المروءة .. وكان حاد الفراسة، وقلما
أخطأت فراسته، وكان يقول: من شخص بصره عن المحارم وأمسك عن الشهوات وعمر باطنه
بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال لم تخطئ فراسته ..
وكان فتى لا كالفتيان، وكان يقول :( الفتوة من طباع الأحرار، واللؤم من شيم
الأنذال، وما تعبد متعبد بأكثر من التحبب إلى أولياء الله بما يحبون، لأن محبة
أولياء الله دليل على محبة الله)
ثم أشار إلى الثالث، وقال: أما هذا،
فأبو هاشم الزاهد، وهو كجده أبي هاشم كان إلى الحق وافداً، وعن الخلق حائداً،
وفيما سوى الحق زاهداً، وكان يقول :( إن الله تعالى وسم الدنيا بالوحشة ليكون أنس
المريدين فيها مستوحشون، وإلى الآخرة مشتاقون)
ثم أشار إلى الرابع، وقال: أما هذا،
فأحمد بن محمد بن عطاء، وقد كان كجده أبي العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء، ذلك
العامل الظريف والكامل النظيف، كان مودع القرآن شعاره، وظاهر البيان دثاره، له
اللسان المبسوط والبيان بالحق مربوط .. أوقف على مراتب المأسورين ومقامات أهل
البلاء من المأخوذين فتمنى ما خصوا به من الصفاء والاعتلاء فعومل بما تمنى من
المحن والابتلاء، قال عنه أبو الحسين: صحبت أبا العباس بن عطاء عدة سنين متأدباً
بآدابه، وكان له كل يوم ختمة، وفي كل شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث ختمات، وبقي
في ختمه يستنبط مودع القرآن بضع عشرة سنة يستروح إلى معاني مودعها فمات قبل أن
يختمها.
وكان يقول :( من ألزم نفسه آداب
السنة غمر الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب في أوامره
وأفعاله وأخلاقه والتأدب بآدابه قولاً وفعلاً ونية وعقدا)
ثم أشار إلى الخامس، وقال: أما هذا
فرويم بن أحمد، وهو كجده أبي الحسن رويم بن أحمد .. ذاك الفطن المكين، له البيان
والتبيين، والرأي المتين، كان بالقرآن عالما، وبالمعاني عارفا، وإلى الحقائق
عاكفا، قلد بفصل الخطاب، ولم تؤثر فيه العلل والأسباب.
وقد سأله بعض الناس أن يوصيه بوصية
فقال: (ليس إلا بذل الروح، وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية، فإن أمرها هذا مبني على
الأصول)
ثم أشار إلى السادس، وقال: أما هذا،
فإبراهيم الخواص، وهو كجده أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد الخواص .. ذاك المتبتل
المتوكل، تبتل عن الخلق وتوكل على الحق، له في التوكل الحال المشهور والذكر
المنشور.
وقد وضع قانونا لأهل الله من
المتوكلين من اثني عشر مادة قال فيه :( من نعوتهم اثنتا عشرة خصلة: أولها أنهم
كانوا بوعد الله مطمئنين. والثانية من الخلق آيسين. والثالثة عداوتهم للشياطين.
والرابعة كانوا من حيث الحق في الأشياء خارجين. والخامسة كانوا على الخلق مشفقين.
والسادسة كانوا لأذى الناس محتملين. والسابعة كانوا لمواضع العداوة لا يدعون
النصيحة لجميع المسلمين. والثامنة كانوا في مواطن الحق متواضعين. والتاسعة كانوا
بمعرفة الله مشتغلين. والعاشرة كانوا الدهر على الطهارة. والحادية عشرة كان الفقر
رأس مالهم. والثانية عشرة كانوا في الرضا فيما قل أو كثر وأحبوا أو كرهوا عن الله
واحدا. فهذه جملة من صفاتهم، يقصر وصف الواصفين عن أسبابهم)
وكان يقول: (أربع خصال عزيزة: عالم
مستعمل لعلمه. وعارف ينطق عن حقيقة فعله، ورجل قائم لله بلا سبب، ومريد ذاهب عن
الطمع)
ثم أشار إلى السابع، وقال: أما هذا
فأبو يزيد البسطامي .. وهو كجده أبي يزيد .. ذلك التائه الوحيد، الهائم الفريد،
الذي تاه فغاب، وهام فآب، غاب عن المحدودات إلى موجد المحسوسات والمعدومات، فارق
الخلق، ووافق الحق. فأيد بأخلاء الخير، وأمد باستيلاء البر، إشارته هانئة، وعبارته
كامنة. لعارفيها ضامنة، ولمنكريها فاتنة.
وكان يقول :( ليس العجب من حبي لك
وأنا عبد فقير، إنما العجب، من حبك لي وأنت ملك قدير)
وكان يقول :( غلطت في ابتدائي في
أربعة أشياء: توهمت أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه، فلما انتهيت رأيت ذكره سبق
ذكري ومعرفته سبقت معرفتي ومحبته أقدم من محبتي وطلبه لي أولاً حتى طلبته)
وكان يقول :( إن لله خواص من عباده
لو حجبهم في الجنة لاستغاثوا بالخروج من الجنة كما يستغيث أهل النار بالخروج من
النار)
قلت: هذه أسماء أعرفها .. ولكني كنت
أظن أن البلى قد عضها بنابه، وأن السنين قد طوتها بجيوشها.
قال: لا تسئ ظنك بأمة نبيك .. فالخير
فيه وفي أمته إلى يوم القيامة، ويستحيل أن يأتي يوم من الأيام ليس فيه من آثار
نبيك r ما يجعله بين الناس حجة، وللناس إماما، ألم تسمع قوله تعالى :﴿
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (لأنفال:33)؟
قلت: بلى .. وقد ذهب الأمان الأول،
وبقي الثاني.
قال: بل كلاهما باق ..
قلت: وهل محمد r حي؟
قال: هو حي الأحياء وسيدهم .. ألم
تسمع قوله تعالى :﴿ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (البقرة:154)، وقوله تعالى :﴿
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169)؟
قلت: بلى .. لكن هذه في الشهداء.
قال: ومحمد r هو سيد الشهداء .. أليس الشهيد هو الذي بذل دمه وماله في سبيل
الله؟
قلت: بلى ..
قال: ومحمد r بذل كل شيء لله .. ألم تسمع قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ
صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
(الأنعام:162)؟
قلت: بلى .. ولكن ما ذكرته مقصور على
حياة الآخرة؟
قال: ليس عند أهل الله دنيا ولا آخرة
.. ولا وقت ولا مقت .. الكل عند أهل الله سواء .. حجبتهم حقائق الأزل والأبد عن
الزمان والمكان .. فانطوى المكان والزمان.
قلت: أشعر ببعض لطائفي تتحرك لما
ذكرته من المعاني.
قال: أبشر .. فأنت أهل للسلوك إذن ..
فلا يقبل السالك عندنا حتى يكون مريدا راغبا .. ألا ترى أنا نسمي أصحابنا مريدين؟
قلت: بلى .. وأنا مستغرب من هذه
التسمية متعجب منها .. بل رأيت البعض ينكرها.
قال: هل ينكرون قوله تعالى :﴿
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ
عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)
(الأنعام:52) .. وقوله تعالى :﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ
فُرُطاً) (الكهف:28)؟
قلت: كيف يتجرأ أحد على معارضة
القرآن الكريم؟
قال: فما نذكره عن المريد لا نريد به
إلا هذا .. فالمريد عندنا ليس إلا الراغب في الله المشتاق إلى الله، من أنساه الله
كل ما سواه.
قال الكرماني: لقد حدثني النباحي
قال: طمعت يوماً في شيء من أمور الدنيا فحملتني عيناي ونمت فسمعت هاتفاً في منامي
وهو يقول: (أويجمل يا فتى بالحر المريد إذا وجد عند مولاه كل ما يريد أن يركن
بقلبه إلى العبيد؟)
قال الجنيد: قال لي السري السقطي:
(للمريد عشر مقامات، التحبب إلى الله بالنافلة، والتزين عنده بنصيحة الأمة، والأنس
بكلام الله، والصبر على أحكامه، والأثرة لأمره، والحياء من نظره، وبذل المجهود في
محبوبه، والرضاء بالقلة، والقناعة بالخمول)
قلت: إن كلامكم يملأ قلبي بأشواق
غريبة.
قال: فهلم لتصحبنا.
قلت: فما الفروع التي أصحبكم فيها ..
فلا يحل لي أن أقدم على شيء، وأنا لا أعرف بدايته ولا نهايته.
قال: لقد ذكرتهما لك .. أما بدايته:
فتطهير أرض النفوس من الأدناس .. وأما نهايته التي لا تنتهي: فالعروج بالروح إلى
قدس الأقداس.
قلت: فهما خطواتان فقط؟
قال: هما خطوتان .. وفي كل خطوة
منهما مقامات لابد لك من المرور عليها[7].
قلت: أمقامات الهمذاني أم الحريري؟
قال: مقامات أهل الله ..
قلت: لقد ذكر لي بعضهم أن هذا المصطلح
بدعة ..
قال: فاقرأ عليهم قوله تعالى :﴿
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ
مَقَاماً مَحْمُوداً) (الاسراء:79)، واقرأ عليهم قوله تعالى :﴿ وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً) (مريم:73)
وإن كانوا يقولون من قول خير البرية،
فاقرأ عليهم قوله r :( من قال حين يسمع النداء ، اللَّهم رب هذه الدعوة التامة
والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ،
حلت له شفاعتي يوم القيامة)[8]
قلت: ليس الشأن في اللفظ .. وإنما
الشأن في المراد منه .. فهل تريدون منه ما ورد في النصوص المقدسة.
قال: ألم تسمع بأن علمنا هذا مقيد
بالكتاب والسنة .. فلا خير فيما لم يأت به الكتاب والسنة.
قلت: فما تريدون بالمقامات؟
قال: تلك المراحل التي يقطعها المريد
السالك في رحلته إلى الله ..
قال الكرماني: لقد ذكر أبو حفص
النيسابورى (ت:270هـ) هذا، فقال:( التصوف كله آداب لكل وقت أدب ، ولكل مقام أدب ،
فمن لزم آداب الأوقات ، بلغ مبلغ الرجال ، ومن ضيع الآداب ، فهو بعيد من حيث يظن
القرب ، ومردود من حيث يرجو القبول)[9]
قال الجنيد: وقد سئل أبو بكر الواسطى
(ت:بعد320هـ) عن قول النبى r :( الأرواح جنود مجندة)[10]، فقال:( مجندة على قدر المقامات، مثل التوبة والورع والزهد،
والفقر والصبر والرضا والتوكل وغير ذلك)[11]
قال الزاهد: وقال عبد الله بن محمد
بن منازل (ت:329هـ) :(ذكر الله تعالى أنواع العبادات، فقال :﴿
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) (آل عمران:17)، فختم المقامات كلها بمقام
الاستغفار ليرى العبد تقصيره فى جميع أفعاله وأحواله ، فيستغفر منها)
قال ابن عطاء: وقال أبو القاسم
القشيرى (ت:465هـ) : ( المقام ما يتحقق به العبد بمنازلته من الآداب مما يتوصل
إليه بنوع تصرف ويتحقق به بضرب تطلب ومقاساة)
قلت: وعيت كل ما ذكرتم .. ولكني امرؤ
ملأ الله قلبي بالمخافة من البدع .. وقد سمعت من الناس من يذكر أن هذا السبيل سبيل
بدعة .. وليس لسبيل البدعة من نهاية إلى الضلال .. وليس للضلال من نهاية إلا النار
..
قال: أليس الإسلام طاعة وعبادة،
والإيمان نور وعقيدة، والإحسان مراقبة ومشاهدة؟
قلت: بلى .. وقد وضح رسول الله r
ذلك في حديث الدين، وقد قال عن الإحسان :( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن
تراه فإنه يراك)[12]
قال: فلذلك نحن نعتقد أن رسول الله r
هو مؤسس هذه الطريقة .. فليس ما نحن فيه إلا البحث عن مقام الإحسان .. ذلك المقام
الذي نعبد الله فيه، وكأننا نراه.
قال ابن عطاء: لقد قال سيدي محمد
صديق الغماري المحدث المعروف، وهو صديقنا في هذه الطريقة: (فإنه كما في الحديث
عبارة عن الأركان الثلاثة، فمن أخل بهذا المقام (الإحسان) الذي هو الطريقة، فدينه
ناقص بلا شك لتركه ركناً من أركانه، فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه هو
مقام الإحسان؛ بعد تصحيح الإسلام والإيمان)[13]
قال الكرماني: وقال قبله صديقنا في
الطريقة ابن خلدون في مقدمته :( وهذا العلم ـ يعني التصوف ـ من العلوم الشرعية
الحادثة في الملَّة؛ وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من
الصحابة والتابعين ومَن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة،
والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل
عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة، وكان ذلك
عامَّاً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما
بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية)[14]
قال ابن عطاء: وقد قال سيدي الغماري
تعليقا على كلام ابن خلدون: (ويَعْضُدُ ما ذكره ابن خلدون في تاريخ ظهور اسم
التصوف ما ذكره الكِنْدي ـ وكان من أهل القرن الرابع ـ في كتاب (ولاة مصر) في
حوادث سنة المائتين: إنه ظهر بالاسكندرية طائفة يسمَّوْن بالصوفية يأمرون
بالمعروف. وكذلك ما ذكره المسعودي في (مروج الذهب) حاكياً عن يحيى بن أكثم فقال:
إن المأمون يوماً لجالس، إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب، فقال: يا أمير المؤمنين!
رجل واقفٌ بالباب، عليه ثياب بيض غلاظ، يطلب الدخول للمناظرة، فعلمت أنه بعض
الصوفية. فهاتان الحكايتان تشهدان لكلام ابن خلدون في تاريخ نشأة التصوف)[15]
بعد أن امتلأت قناعة بصحة المنهج
التربوي الذي يسير عليه أبو مدين وجماعته من أهل الله طلبت منه أن أنضم إلى
مريديهم، فأسير كما يسيرون، وأمر بالمقامات التي يمرون بها، لأنال ثمار هذا الشعاع
من أشعة الهداية النبوية، لكني اشترطت عليهم أن لا أسير خطوة معهم إلا بشاهدي عدل
من الكتاب والسنة.
وقد وافقوني على ذلك، بل حثوني عليه
.. وأخبروني أن كل أهل الله نص على هذا، ودعا إلى هذا، فلا خير في هدي يعارض ما
جاء به رسول الله r .
كان أول منزل بدأت به سيري إلى الله
منزل (الخشية)، وقد سرت إليه بصحبة رويم .. وكان منزلا بعيدا عن العمران، وممتلئا بالمهابة
.. قال لي رويم، وهو يشير إليه: هذا منزل خصصه أهل الله لملأ القلوب بالخشية ..
وسترى فيه قوما من الناس لا هم لهم إلا ملأ قلوبهم بكل ما يملؤها بالخشية، وستجلس
معهم، وستتأدب معهم بآداب هذا المقام.
قلت: لقد عرفت شرطي .. فأنا لا أقدم
على أمر حتى أعلم حكم الله فيه.
قال: كل النصوص المقدسة .. وكل أهل
الله .. مجمعون على أن الخشبة مقام من مقامات السالكين إلى الله، وأنه لا يمكن أن
يتحرك السالك حركة في طريق أهل الله إلا إذا صحبته الخشية من الله.
لقد قال تعالى يذكر ذلك، ويدعو إليه:﴿
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ (طـه:3)، وقال:﴿ وَمَنْ يُطِعِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾
(النور:52)، وقال :﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ
وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾
(الأحزاب:39)، وقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ (الملك:12)، وقال :﴿ اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الزمر:23)، وقال:﴿
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ (الأعلى:10)
وقال تعالى في وصف دعاء عباده
المؤمنين :﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة:201)، وهذا
الدعاء يبين حقيقة تصور المؤمن للحياة مقارنة مع دعاء الغافلين الجاهلين الذين
أخبر الله تعالى عنه بأنهم يقتصرون في دعائهم على حاضرهم المشهود :﴿ فَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ
مِنْ خَلاقٍ)(البقرة: من الآية200)
وقال في وصف عباده الذين أعد لهم :﴿
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ
مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ)(آل عمران: من الآية15) :﴿ الَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ) (آل عمران:16)،
وقال في وصف أولي الألباب:) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:191)
وقال في وصف عباد الرحمن :﴿
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا
كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً) (الفرقان:65 ـ 66)
وقال في وصف عباده المقربين :﴿
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ
رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) (الاسراء:57)
وأخبر أن من صفات عباده الصالحين
الشفقة من عذاب الله ، قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) (المعارج:27) ، وأخبر عن أهل الجنة أنهم يقولون :﴿
إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا
وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) (الطور:27)
وأخبر تعالى أن توريث الأرض لا يكون
إلا للخائفين من الله ، قال تعالى :﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ
وَعِيدِ)(ابراهيم: من الآية14) بعد قوله تعالى :﴿ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ
مِنْ بَعْدِهِم)(ابراهيم: من الآية14)
وهكذا ، فإن جميع نصوص القرآن الكريم
تدل على أن الأمن من عذاب الله ، والنجاة منه مرتبطة بمدى الخوف من الله ، ومن
العذاب الذي أعده لمن عصاه ، ولهذا قال سيدي ابراهيم التيمي:( ينبغي لمن لم يحزن
أن يخاف أن يكون من أهل النار ، لأن أهل الجنة قالوا :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر:34)،
وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا :﴿ إِنَّا
كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) (الطور:26)
قلت: هذا الشاهد الأول .. فأين
الشاهد الثاني؟
قال: قال: لقد ورد في النصوص الكثيرة
اعتبار الخشية من الله خلقا من أخلاق المؤمنين، ومقاما من مقامات السالكي، ففي
الحديث قال r :( لا يلج النار رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع،
ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم)[16]
وقال r :( سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادلٌ،
وشابٌ نشأ في عبادة الله تعالى، ورجلٌ قلبه معلقٌ في المساجد، ورجلان تحابا في
الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني
أخاف الله، ورجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلٌ ذكر
الله خالياً ففاضت عيناه)[17]
وقال r :( ليس شيءٌ أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين: قطرة دموعٍ من
خشية الله، وقطرة دمٍ تهراق في سبيل الله. وأما الأثران: فأثرٌ في سبيل الله
تعالى، وأثرٌ في فريضةٍ من فرائض الله تعالى)[18]
قلت: هذا ما ورد به النص من أقوال
النبي r .. فهل ورد في الفعل ما يؤكده، فإني رأيت نفرا يحتقرون مثل هذا
المقام، ويعتبرنه دليلا على قصور السالكين .. وهم يذكرون أن العارفين الكبار بمنأى
عنه؟
قال: لقد كان رسول الله r
أعرف العارفين بالله، وكان مع ذلك أعظم الناس خشية لله، وقد حدث جابر ـ رضي الله
عنه ـ أن رسول الله r صنع شيئا، فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك رسول الله r،
فخطب، فحمد الله، ثم قال: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشئ أصنعه؟ فوالله إني
لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية)[19]
وحدثت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن
رجلا قال لرسول الله r وهو واقف على الباب وأنا أسمع: يا رسول الله إني أصبحت جنبا، وأنا
أريد الصوم، فقال رسول الله r: (وأنا أصبح جنبا، وأنا أريد الصوم، فأغتسل وأصوم)، فقال له
الرجل: يا رسول الله إنك لست مثلنا، قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر،
فغضب رسول الله r، وقال: (والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي)[20]
وحدث عمر بن أبي سلمة ـ رضي الله عنه
ـ أنه سأل رسول الله r: أيقبل الصائم؟ فقال رسول الله r:(سل هذه لأم سلمة)، فأخبرته أن رسول الله r يصنع ذلك، فقال له رسول الله r : (أما أنا، والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له)[21]
وحدثت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن
رسول الله r أرسل وصيفة له فأبطأت عليه، فقال: (لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا
السواك)[22]
وحدث أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن
رسول الله r قال: (قاربوا، وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعلمه)،
قالوا: ولا أنت ؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)[23]
وحدث صفوان بن عوف ـ رضي الله عنه ـ
قال: كان رسول الله r يتأوه، ويقول: (أوه من عذاب الله أوه من قبل أن لا تنفع أوه)[24]
وحدث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال:
ما هبت ريح قط إلا جثا النبي r على ركبته، وقال: (اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا)[25]
وحدث أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ
قال: كان رسول الله r إذا هبت الريح، أو سمع صوت الرعد تغير لونه، حتى عرف ذلك في وجهه[26].
وحدثت عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:
ما رأيت رسول الله r مستجمعا قط ضاحكا، حتى ترى لهواته إنما كان يتبسم، وكان رسول الله
r إذا رأى غيما تلون وجهه، وتغير، ودخل، وخرج، وأقبل، وأدبر فإذا
أمطرت سري عنه، قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه
المطر، وأراك إذا رأيت فيما عرف في وجهك الكراهة، فقال: (يا عائشة، وما يؤمنني أن
يكون عذاب؟ قد عذب الله عز وجل قوما بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا :﴿
هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا )(الاحقاف: من الآية24)[27]
وحدث جمع من الصحابة ـ رضي الله عنهم
ـ أنهم سألوا رسول الله r: يا رسول الله شبت، قال: (شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم
يتساءلون، وإذا الشمس كورت)[28]
وحدث أبو عمران الجوني قال: بلغني أن
رسول الله r قال: (شيبتني هود وأخواتها، وذكر القيامة وقصص الأنبياء والأمم)[29]
وحدث الحسن ـ رضي الله عنه ـ قال:
لما نزلت هذه الآية :﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ﴾ (هود: من الآية1121)
قال رسول الله r : (شمروا وأثمروا فما رئي ضاحكا)[30]
وحدث أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن
رسول الله r قال: (والذي نفسي بيده، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم
قليلا)[31]
وحدث جمع من الصحابة ـ رضي الله عنهم
ـ أن رسول الله r قال: (كيف أنعم، وصاحب الصور قد التقم القرن، وحنى جبهته، وأصغى
بسمعه، ينتظر متى يؤمر فينفخ ؟) قالوا: وماذا نقول يا رسول الله ؟ قال: (قولوا
حسبنا الله ونعم الوكيل)[32]
وحدث أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ قال:
قرأ رسول الله r :﴿ هَلْ أَتَى )(الانسان: من الآية1) حتى ختمها، ثم قال:
(إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها
موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله، لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا،
ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى
الله تعالى)[33]
وعن أبي حرب بن المسور ـ رضي الله
عنه ـ أن رسول الله r قرأ :﴿ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)
وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)﴾ (المزمل)، فلما بلغ
إليها صعق[34].
وحدث أنس وأبو سعيد ـ رضي الله عنهما
ـ قالا: إنا يوما عند رسول الله r فرأيناه كئيبا، فقال بعضنا: يا رسول الله، بأبي
أنت وأمي، فقال رسول الله r: (سمعت هدة، ولم أسمع مثلها فأتاني جبريل فسألته عنها، فقال: هذه
صخرة هدت من شفير جهنم، من سبعين خريفا، فهذا حين بلغت قعرها، أحب أن يسمعك
صوتها)، فما رؤي رسول الله r ضاحكا مل ء فيه حتى قبضه الله تعالى[35].
وحدث النواس بن سمعان ـ رضي الله عنه
ـ قال: سمعت رسول الله r يقول: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)[36]
قلت: هذا فعل رسول الله r
.. فما فعل الورثة من بعده؟
قال: لا يكتمل إرث الوارث حتى تصح
نسبته لمورثه .. ورسول الله r لم يورث دينارا ولا درهما وإنما ورث علوما وأعمالا وأحوالا .. فمن
أخذ حظه منها، فهو الوارث.
قلت: فأخبرني من أخبارهم ما يطمئن به
قلبي، وتسكن له نفسي، وتقر له عيني، وتنبعث به همتي.
قال: أما أصحاب رسول الله r
الذين تتلمذوا على يديه، فقد كانوا أعظم الناس مخافة لله، وقد وصفهم علي ـ رضي
الله عنه ـ فقال :( لقد رأيت أثراً من أصحاب رسول الله r، فما أري أحداً يشبههم، والله إن كانوا ليصبحون شعثاً غبراً
صفراً، بين أعينهم مثل ركب المعزي، قد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم
وجباههم، إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة فى يوم ريح، فانهملت أعينهم حتى تبل
والله ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين)
ووصفهم العرباض بن سارية ـ رضي الله
عنه ـ فقال: وعظنا رسول الله r موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون[37].
وروي عن عبد الرحمن بن عوفٍ ـ رضي
الله عنه ـ أنه أتي بطعامٍ وكان صائماً، فقال: قتل مصعب بن عميرٍ، رضي الله عنه،
وهو خيرٌ مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردةٌ إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن
غطي بها رجلاه بدا رأسه، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط ـ أو قال: أعطينا من الدنيا
ما أعطينا ـ قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام[38].
وروي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله
عنه ـ عندما طعن جعل يتألم، فقال له ابن عبـاس ـ رضي الله عنه ـ وكأنه يُجَزِّعُه
:( يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك لقد صحبت رسول الله r وأحسنت صحبته، ثم فارقت وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت
صحبته، ثم فارقت وهو عنك راض، ثم صحبت صَحَبَتُهم فأحسنت صُحْبَتَهم، ولئن فارقتهم
لتفارقنهم وهـم عنك راضون)، فقال عمر :( أما ما ذكرت من صحبة رسول الله r
ورضاه، إن ذلك مَنٌّ منًّ الله تعالى علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه
فإنما ذلك مَنٌّ من الله جل ذكره عَلَيَّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك ومن
أجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله U
قبل أن أراه)[39]، وفي رواية قال :( وددت أن ذلك كفافاً لا عليّ ولا لي)
وقد حدث عن نفسه قبل ذلك، فقال :( لو
أن بغلة عثرت بالعراق لسئل عنها عمر بين يدي الله عز وجل)
وروي أنه كان يسقط من الخوف إذا سمع
آية من القرآن مغشياً عليه، فكان يعاد أياماً، وأخذ يوماً تبنة من الأرض فقال: يا
ليتني كنت هذه التبنة، يا ليتني لم أك شيئاً مذكوراً، يا ليتني كنت نسياً منسياً،
يا ليتني لم تلدني أمي .. وكان في وجهه خطان أسودان من الدموع .. وكان يقول :( من
خاف الله لم يشف غيظه، ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد، ولولا يوم القيامة لكان غير
ما ترون)
ولما قرأ :﴿ إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ) (التكوير:1) وانتهى إلى قوله تعالى :﴿ وَإِذَا الصُّحُفُ
نُشِرَتْ) (التكوير:10)خرّ مغشياً عليه.
ومرَّ يوماً بدار إنسان وهو يصلي
ويقرأ سورة الطور، وقف يستمع، فلما بلغ قوله تعالى:﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ
لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)﴾ (الطور) نزل عن حماره، واستند
إلى حائط ومكث زماناً، ورجع إلى منزله فمرض شهراً يعوده الناس ولا يدرون ما مرضه.
وروي أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ
سئلت عن عن قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر:32)، فقالت مجيبة من سألها :( أي بني هؤلاء في الجنة،
أما السابق بالخيرات فمن بقى على عهد رسـول الله r ، وشهد له الرسول بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه
حتى لحق بهم، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم)[40]
وروي أن أبا بكر الصديق ـ رضي الله
عنه ـ قال لطائر: ليتني مثلك يا طائر، ولم أخلق بشراً.
وقال أبو ذرّ ـ رضي الله عنه ـ :
وددت لو أني شجرة تعضد.
وقال عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ
: وددت أن أكون رماداً تنسفني الرياح في يوم عاصف.
وقال أبو عبـيدة بن الجراح ـ رضي
الله عنه ـ: وددت أني كبش فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحسون مرقي.
قلت: هؤلاء أصحاب رسول الله r
.. فما فعل من بعدهم؟
قال:
منهم من سار
على هديهم، وسلك سبيلهم، وهؤلاء لا تخلو منهم الأرض .. وقد وصفهم علي ـ رضي الله
عنه ـ فقال :( لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهر مكشوف وإما خائف مقهور
لكيلا تبطل حجج الله تعالى وبيناته، وكم وأين أولئك؟ هم الأقلون عدداً الأعظمون
قدراً، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، يحفظ الله تعالى بهم حججه حتى
يودعوها من وراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر
فباشروا روح اليقين فاستلانوا ما استوعر منه المترفون وأنسوا بما استوحش منه
الغافلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك أولياء الله عز
وجل من خلقه وأمناؤه وعماله في أرضه والدعاة إلى دينه)، ثم بكى وقال: (واشوقاه إلى
رؤيتهم)
ووصفهم الحسن البصري ـ رضي الله عنه
ـ فقال :( إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الاسماع والأبصار والأبدان حتى حسبهم
الجاهل مرضى ، وهم والله أصحاب القلوب ، ألا تراه يقول تعالى :﴿ وَقَالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ﴾ (فاطر: من
الآية34)، والله لقد كابدوا في الدنيا حزنا شديدا ، وجرى عليهم ما جرى على ما جرى
على من كان قبلهم ، والله ما أحزنهم ما أحزن الناس ، ولكن أبكاهم وأحزنهم الخوف من
النار)
قلت: فحدثني من أخبارهم .. فلا تصفو
القلوب إلا بأخبار الصالحين.
قال: لقد كان علي بن الحسين ـ رضي
الله عنه ـ إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟
فيقول: أتدرون بـين يدي من أريد أن أقوم؟
وقال موسى بن مسعود: كنا إذا جلسنا
إلى الثوري كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه.
وقرأ مضر القارىء يوماً :﴿
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجاثـية:29)، فبكى عبد الواحد بن زيد حتى غشي عليه، فلما
أفاق قال: وعزتَك لا عصيتك جهدي أبداً، فأعني بتوفيقك على طاعتك.
وكان المسور بن مخرمة لا يقوى أن
يسمع شيئاً من القرآن لشدّة خوفه، ولقد كان يقرأ عنده الحرف والآية فيصيح الصيحة
فما يعقل أياماً، حتى أتى عليه رجل من خثعم فقرأ عليه:﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى
الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)﴾
(مريم)، فقال :( أنا من المجرمين ولست من المتقين)، أعد علي القول أيها القارىء،
فأعادها عليه فشهق شهقة، فلحق بالآخرة.
وقرىء عند يحيـى البكاء :﴿
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ
قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)
(الأنعام:30)، فصاح صيحة مكث منها مريضاً أربعة أشهر يعاد من أطراف البصرة.
وقال بعض الصالحين: بـينما أنا أسير
في بعض جبال بـيت المقدس إذ هبطت إلى واد هناك، فإذا أنا بصوت قد علا وإذا تلك
الجبال تجيبه لها دوي عال فاتبعت الصوت، فإذا أنا بروضة عليها شجر ملتف، وإذا أنا
برجل قائم فيها يردد هذه الآية :﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ
مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا
وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ )(آل عمران: من
الآية30)، قال: فجلست خلفه أسمع كلامه وهو يردد هذه الآية إذ صاح صيحة خرّ مغشياً
عليه، فقلت: وا أسفاه هذا لشقائي. ثم انتظرت إفاقته، فأفاق بعد ساعة فسمعته وهو
يقول: أعوذ بك من مقام الكذابـين، أعوذ بك من أعمال البطالين، أعوذ بك من إعراض
الغافلين، ثم قال: لك خشعت قلوب الخائفين، وإليك فزعت آمال المقصرين، ولعظمتك ذلت
قلوب العارفين، ثم نفض يده فقال: ما لي وللدنيا وما للدنيا ولي؟ عليك يا دنيا
بأبناء جنسك وألاف نعيمك إلى محبـيك فاذهبـي وإياهم فاخدعي، ثم قال: أين القرون
الماضية وأهل الدهور السالفة، في التراب يبلون، وعلى الزمان يفنون، فناديته: يا
عبد الله أنا منذ اليوم خلفك أنتظر فراغك، فقال: وكيف يفرغ من يبادر الأوقات
وتبادره يخاف سبقها بالموت إلى نفسه؟ أم كيف يفرغ من ذهبت أيامه؟ وبقيت آثامه؟ ثم
قال: أنت لها ولكل شدة أتوقع نزولها، ثم لها عني ساعة وقرأ :﴿ وَبَدَا
لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾(الزمر: من
الآية47)، ثم صاح صيحة أخرى أشدّ من الأولى وخرّ مغشياً عليه فقلت: قد خرجت روحه
فدنوت منه، فإذا هو يضطرب، ثم أفاق وهو يقول: من أنا، ما خاطري؟ هب لي إساءتي من
فضلك وجللني بسترك واعف عن ذنوبـي بكرم وجهك إذا وقفت بـين يديك، فقلت له: بالذي
ترجوه لنفسك وتثق به إلا كلمتني فقال: عليك بكلام من ينفعك كلامه، ودع كلام من
أوبقته ذنوبه.
وروي أن الفضيل رئي يوم عرفة والناس
يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة، حتى إذا كادت الشمس تغرب قبض على لحيته ثم
رفع رأسه إلى السماء وقال: واسوأتاه منك وإن غفرت، ثم انقلب مع الناس.
ومرّ الحسن بشاب وهو مستغرق في ضحكه
وهو جالس مع قوم في مجلس؛ فقال له الحسن: يا فتى، هل مررت بالصراط؟ قال: لا. قال:
فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا. قال: فما هذا الضحك؟ قال فما رؤي
ذلك الفتى بعدها ضاحكاً.
ودخل يزيد الرقاشيِّ على عمر بن عبد
العزيز فقال: عظني يا يزيد: فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم أنك لست أوّل خليفة
يموت، فبكى ثم قال: زدني، قال: يا أمير المؤمنين ليس بـينك وبـين آدم أب إلا ميت،
فبكى ثم قال: زدني يا يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين ليس بـينك وبـين الجنة والنار
منزل، فخرّ مغشياً عليه.
وعن ابن السماك قال: وعظت يوماً في
مجلس، فقام شاب من القوم، فقال: يا أبا العباس، لقد وعظت اليوم بكلمة ما كنا نبالي
أن لا نسمع غيرها. قلت: وما هي رحمك الله؟ قال قولك: لقد قطع قلوب الخائفين طول
الخلودين إما في الجنة أو في النار. ثم غاب عني ففقدته في المجلس الآخر فلم أره،
فسألت عنه فأخبرت أنه مريض يعاد، فأتيته أعوده فقلت: يا أخي ما الذي أرى بك؟ فقال:
يا أبا العباس ذلك من قولك لقد قطع قلوب الخائفين طول الخلودين إما في الجنة أو في
النار. قال: ثم مات رحمه الله فرأيته في المنام فقلت: يا أخي ما فعل الله بك؟ قال:
غفر لي ورحمني وأدخلني الجنة. قلت: بماذا؟ قال: بالكلمة.
قلت: لقد دب الانحراف إلى هذه الأمة،
فنسيت خشية ربها، وراحت تنشغل بمخافة الشياطين.
قال: ونحن في هذا المنزل الذي تراه
أمامك نحيي هذه السنة العظيمة من سنن رسول الله r.
قلت: عرفت سنية الخشية، ولم أعرفها
تأثيرها السلوكي؟
قال: ألم تقرأ ما قصة القرآن الكريم
علينا من قصة ابني آدم؟
قلت: بلى .. لقد قال الله تعالى :﴿
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ
لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ
إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ
وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ
فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)﴾ (المائدة)
قال: ألا ترى أن الخشية من الله هي
الحصن الذي تحصن به الأخ الصالح، فلم تمتد يده لقتل أخيه؟
قلت: بلى .. ذلك صحيح، وقد ذكره
القرآن الكريم.
قال: ما ذكره إلا لنعتبر به .. إن
جميع جيوش الدنيا، وجميع شرطتها، وجميع مخابراتها لن يستطيعوا أن ينشروا الأمن
الذي تنشره مخافة الله وخشيته ..
ليس ذلك في هذا وحده .. بل في كل شيء
..
لقد رويت النصوص الكثيرة الدالة على
تأثير الخشية في تزكية النفس وطهيرها:
ومن ذلك ما روي أنه انطلق رجل ذات
يوم ، فنزع ثيابه وتمرغ في الرمضاء ، وهو يقول لنفسه :( ذوقي نار جهنم ، ذوقي ﴿
نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً ﴾ (التوبة: من الآية81)، جيفة بالليل، بطالة
بالنهار ، فبينا هو كذلك إذا أبصر النبي r في ظل شجرة ، فأتاه ، فقال :( غلبتني نفسي)، فقال له النبي r
:( ألم يكن لك بد من الذي صنعت ، لقد فتحت لك أبواب السماء، ولقد باهى الله بك
الملائكة)[41]
ولهذا دأب الصالحون على تحذير أنفسهم
من غضب الله وعقابه إن ألمت بالمعاصي أو همت بها ، يقول العزالي في مخاطبة نفسه
مستنا بسنة أهل الله في ذلك :( ويحك يا نفس لو واجهك عبد من عبـيدك بل أخ من
إخوانك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه ومقتك له فبأي جسارة تتعرّضين لمقت الله
وغضبه وشديد عقابه أفتظنين أنك تطيقين عذابه؟
هيهات هيهات جرّبـي نفسك إن ألهاك
البطر عن أليم عذابه فاحتبسي ساعة في الشمس أو في بـيت الحمام أو قربـي أصبعك من
النار ليتبـين لك قدر طاقتك؟
أم تغترين بكرم الله وفضله واستغنائه
عن طاعتك وعبادتك فما لك لا تعوّلين على كرم الله تعالى في مهمات دنياك، فإذا قصدك
عدو فلم تستنبطين الحيل في دفعه ولا تكلينه إلى كرم الله تعالى، وإذا أرهقتك حاجة
إلى شهوة من شهوات الدنيا مما لا ينقضي إلا بالدينار والدرهم فمالك تنزعين الروح
في طلبها وتحصيلها من وجوه الحيل فلا تعولين على كرم الله تعالى حتى يعثر بك على
كنز أو يسخر عبداً من عبـيده فيحمل إليك حاجتك من غير سعي منك ولا طلب؟
أفتحسبـين أن الله كريم في الآخرة
دون الدنيا وقد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها، وأن رب الآخرة والدنيا واحد، وأن
ليس للإنسان إلا ما سعى)
وكانوا يطردون الغفلة عن الله،
ويميتون شهوة معارضة الله بتذكير النفس بقصورها وضعفها وعدم إطاقتها عذاب الله،
يروى أن رجلا جاء إلى إبراهيم بن أدهم ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا أبا إسحاق! إني
مسرف على نفسي، فاعرض علي ما يكون لها زاجراً ومستنقذاً لقلبي قال: إن قبلت خمس
خصال وقدرت عليها لم تضرك معصية ولم توبقك لذة قال: هات يا أبا إسحاق! قال: أما الأولى
فإذا أردت أن تعصي الله عز وجل فلا تأكل رزقه قال: فمن أين آكل وكل ما في الأرض من
رزقه؟ قال له: يا هذا! أفيحسن أن تأكل رزقه وتعصيه؟ قال: لا هات الثانية! قال:
وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئاً من بلاده قال الرجل: هذه أعظم من الأولى! يا
هذا! إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له فأين أسكن؟ قال: يا هذا! أفيحسن أن
تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه؟ قال: لا هات الثالثة! قال: إذا أردت أن تعصيه وأنت
تحت رزقه وفي بلاده فانظر موضعاً لا يراك فيه مبارزاً له فاعصه فيه قال: يا
إبراهيم! كيف هذا وهو مطلع على ما في السرائر؟ قال: يا هذا! أفيحسن أن تأكل رزقه
وتسكن بلاده وتعصيه وهو يراك ويرى ما تجاهره به؟! قال: لا هات الرابعة! قال: إذا
جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له: أخرني حتى أتوب توبة نصوحاً وأعمل لله عملاً
صالحاً قال: لا يقبل مني! قال: يا هذا! فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب
وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير فكيف ترجو وجه الخلاص؟! قال: هات الخامسة! قال:
إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذونك إلى النار فلا تذهب معهم قال: لا يدعونني
ولا يقبلون مني قال: فكيف ترجو النجاة إذاً؟! قال له: يا إبراهيم! حسبي حسبي! أنا
أستغفر الله وأتوب إليه ولزمه في العبادة حتى فرق الموت بينهما.
وكانوا يجاهدون أنفسهم في ذات الله
مستهينين بالمتاعب التي يلاقونها مقارنين إياها بالمتاعب التي تنتظر المقصرين:
كان كرز بن وبرة يختم القرآن في كل
يوم ثلاث مرات، ويجاهد نفسه في العبادات غاية المجاهدة فقيل له: قد أجهدت نفسك
فقال: كم عمر الدنيا؟ فقيل: سبعة آلاف سنة[42]، فقال: كم مقدار يوم القيامة؟ فقيل: خمسون ألف سنة، فقال: كيف
يعجز أحدكم أن يعمل سبع يوم حتى يأمن ذلك اليوم؟ يعني: أنك لو عشت عمر الدنيا واجتهدت
سبعة آلاف سنة وتخلصت من يوم واحد كان مقداره خمسين ألف سنة لكان ربحك كثيراً وكنت
بالرغبة فيه جديراً، فكيف وعمرك قصير والآخرة لا غاية لها؟
وكانوا يميتون الشهوات التي تصرفهم
عن الله بالنظر لما أعد الله ، كما أخبر r أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله :( ورجل
دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين)[43]، ويروى من ذلك عن رجاء بن عمر النخعي قال: كان بالكوفة فتى جميل
الوجه شديد التعبد والاجتهاد، وكان أحد الزهاد فنزل في جوار قوم من النخع، فنظر
إلى جارية منهم جميلة، فهويها وهام بها عقله، ونزل بها مثل الذي نزل به، فأرسل
يخطبها من أبيها، فأخبره أبوها أنها مسماة لابن عم لها واشتد عليهما ما يقاسيان من
ألم الهوى، فأرسلت إليه الجارية: قد بلغني شدة محبتك لي وقد اشتد بلائي بك لذلك مع
وجدي بك، فإن شئت زرتك وإن شئت سهلت لك أن تأتيني إلى منزلي، فقال للرسول: لا
واحدة من هاتين الخصلتين :﴿ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ)(الأنعام: من الآية15) أخاف ناراً لا يخبو سعيرها، ولا يخمد لهبها،
فلما انصرف الرسول إليها فأبلغها ما قال، فقالت: وأراه مع هذا زاهداً يخاف الله
تعالى؟! والله ما أحد أحق بهذا من أحد، وإن العباد فيه لمشتركون، ثم انخلعت من
الدنيا، وألقت علائقها خلف ظهرها، وجعلت تعبد، وهي مع ذلك تذوب وتنحل حبا للفتى
وأسفاً عليه حتى ماتت شوقاً إليه، فكان الفتى يأتي قبرها، فرآها في منامه، وكأنها
في أحسن منظر فقال: كيف أنت وما لقيت بعدي؟ فقالت:
نعم المحبة يا حبيبي حبكا |
حب يقود إلى خير وإحسان |
فقال على ذلك: إلى ما صرت؟ فقالت:
إلى نعيم وعيش لا زوال له |
في جنة الخلد ملك ليس بالفاني |
فقال لها: اذكريني هناك، فإني لست أنساك،
فقالت: ولا أنا والله أنساك، ولقد سألتك ربي مولاي ومولاك فأعانني على ذلك
بالاجتهاد، ثم ولت مدبرة فقلت لها: متى أراك؟ قالت: ستأتينا عن قريب، فلم يعش
الفتى بعد الرؤيا إلا سبع ليال حتى مات رحمهما الله.
بعد أن ذكر لي رويم هذه الأحاديث
امتلأت شوقا لأن يكون لي هذا المقام العظيم من مقامات أهل الله .. فدخلت المنزل ..
وكان منزلا ممتلئا بالبركات .. وقد رأيت في الخشية ـ مع ما فيها من أحزان وآلام ـ
من السرور واللذة ما لا يعدله أي سرور ولا لذة.
وقد أيقنت حينها بالفرق الكبر بين
الخوف الممتلئ بالآلام، والخشية التي هي خوف مقرون بمحبة وشعور بالرحمة، كما قال
ابن القيم:( الخوف حركة، والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإن الذي يرى العدو والسيل
ونحو ذلك له حالتان: إحداهما حركة للهرب منه، وهي حالة الخوف، والثانية: سكونه
وقراره في مكان لا يصل إليه فيه، وهي الخشية)[44]، وقال مفرقا بين صاحبي الحالين:( صاحب الخوف يلتجىء إلى الهرب والإمساك، وصاحب الخشية يلتجىء إلى الاعتصام بالعلم، ومثلهما مثل من لا
علم له بالطب، ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلتجىء إلى الحمية والهرب، والطبيب
يلتجىء إلى معرفته بالأدوية والأدواء)
فالخشية في حقيقتها خوف مقترن برحمة
اقتضاه معرفة العزيز الرحيم، ولذلك قال تعالى:﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ
تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا
اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً﴾ (النساء:9)، فكأن الآية تقول لهم
:( كما تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم ولا تحملوه
على تبذير ماله)[45] ، فالخوف على الأولاد خوف رحمة لا خوف هروب.
بل نرى القرآن الكريم يجمع الخشية مع
اسم الرحمن، كما قال تعالى :﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ
بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ (قّ:33)، فسماه بالرحمن في حال خشيته ليدل أن الخشية
اقتران معرفة العزة بالرحمة.
بعد أن غادرت منزل الخشية، واستفدت
من علومه وأهله ما ملأني بخشية الله، انتقلت مع ولي آخر من أولياء الله من أصحاب
أبي مدين، وهو ابن عطاء، إلى منزل الرجاء، وفي الطريق إليه طلبت منه أن يحدثني عن
الشهود العدول الذين يشهدون لهذا المنزل، على الشرط الذي شرطته عليهم، فقال:
الرجاء ـ كما عرفه أصحابنا ـ هو السكون لفضله تعالى بشواهد العمل في الجميع، وإلا
كان اغتراراً[46].
قلت: ما يعني هذا؟
قال: الرجاء الرباني هو الذي يدفعك
إلى طلب ما ترجوه .. والرجاء الشيطاني هو الذي يقعد بك عنه .. وقد سماه الله تعالى
أماني، فقال :﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ
مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً
وَلا نَصِيراً) (النساء:123)
وقد اعتبر رسول الله r
صاحب هذا النوع من الرجاء عاجزا، فقال :( الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت،
والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)[47]
وقد أشار القرآن الكريم إلى تأثير
الرجاء في السلوك، فقال :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ
اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)، وقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ
رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:218)، وقال :﴿ وَلا تَهِنُوا
فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ
كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104)، وقال :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)
(الاسراء:57)، وقال :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى
إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ
أَحَداً) (الكهف:110)، وقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً
يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر:29)، وقال :﴿ أَمَّنْ هُوَ
قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو
رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9)
وقال ـ في مقابل ذلك ـ عن الذين
عطلوا هذا المقام :﴿ إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا
بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا
غَافِلُونَ) (يونس:7)، وقال :﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ
الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ
الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (يونس:11)،
وقال :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ
لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا
يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)
(يونس:15)، وقال :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً) (الفرقان:21)، وقال :﴿ وَلَقَدْ
أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ
يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) (الفرقان:40)، وعلل
سبب كفر الكفار وضلالهم، فقال :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً)
(النبأ:27)
قلت: علمت تأثير الرجاء في السلوك ..
فكل مَنْ رجا شيئا طلبه، وشمر عن ساعد الجد والاجتهاد بصدق وإخلاص حتى يناله ..
ولكن ما تعلمته في منزل الخشية ملأني بالخشية حتى صرت لا أرى في الكون ولا في
النصوص إلا ما يملأ قلبي خشية لله.
قال: ستتعلم هنا كيف تعالج الخشية
بالرجاء .. والرجاء بالخشية .. فتكون راجيا في خشيتك، وخاشيا في رجائك .. فالكامل
هو الذي جمع بينهما.
قلت: كيف ذلك؟
قال: أنت تعلم أن الرجاء والخوف
وغيرهما هي من مقامات التطهير .. وهي مقامات يتعامل معها أطباء القلوب كما يتعامل
الأطباء مع الأدوية، فالدواء الذي قد يسبب آلاما في أعضاء أخرى لا يكتفي به، بل
يصف معه الطبيب الناصح الدواء الذي يزيل آثاره السلبية.
ولهذا يقترن في القرآن الكريم ذكر أسباب
الخوف مع أسباب الرجاء حتى لا يطغى أحدهما على الآخر ، لأن الكمال في اعتدالهما ،
والقصور في طغيانهما:
والاقتران بين أسباب الخوف والرجاء
في القرآن الكريم قد يكون بذكر صفات الله المقتضية للعذاب، مقرونة بذكر صفاته
المقتضية للرحمة، كما قال تعالى :﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) (الحجر:50)،
وقد روي في في سبب نزولها عن رجل من أصحاب النبي r قال: طلع علينا رسول اللّه r من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال :( لا أراكم تضحكون)، ثم
أدبر، حتى إذا كان عند الحجر رجع علينا القهقرى، فقال :( إني لما خرجت جاء جبريل u
، فقال: يا محمد إن اللّه يقول :« لم تقنط عبادي؟ ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾
(الحجر:50)
ومثله قوله تعالى :﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ
وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ (غافر:3)
وقد يكون بذكر الأسباب الموجبة
للرحمة والأسباب الموجبة للعذاب، كما قال تعالى :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي
لَشَدِيدٌ ﴾ (ابراهيم:7)، وقال :﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا
أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾ (النساء)
وقد يكون بذكر مظاهر الرحمة مقرونة
بمظاهر العذاب ، وهو كثير في القرآن الكريم ، ومنه قوله تعالى :﴿
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ
وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ
قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (27)﴾ (يونس)
وقد يكون بذكر أهل النار مقرونين
بأهل الجنة ، كما قال تعالى :﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ
بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
(البقرة:81)، ثم قال :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:82)
قلت: ولكني رأيت بعض من في منزل
الخشية يبالغ في هذا المنزل مبالغة ملأتني بالمهابة.
قال: صحيح ما فعل .. فالكمال قد
يقتضي المبالغة في أحدهما في بعض المراحل لإيصاله إلى درجة الاعتدال، ومثل ذلك مثل
من به عوز لمادة معينة يحتاجها جسمه، فإنه قد يبالغ فيها لإيصال جسمه إلى حال
الاعتدال.
وقد شبه الغزالي الطغيان الذي قد
يحتاج إليه أحدهما بسبب الحاجة بالخبز والماء ، فالخبز أفضل للجائع، والماء أفضل
للعطشان، فإن اجتمعا نظر إلى الأغلب؛ فإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل، وإن كان
العطش أغلب فالماء أفضل، وإن استويا فهما متساويان.
قلت: فالكمال في اعتدال الخشية
والرجاء إذن؟
قال: أجل .. لأن مقتضاهما واحد .. ولذلك
قيل: (لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا)، وقال علي ـ رضي الله عنه ـ يحث بعض ولده
على هذا :( يا بني، خف الله خوفاً ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها
منك، وارج الله رجاء ترى أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك)
وعلى سنته قال يحي بن معاذ :( من عبد
الله تعالى بمحض الخوف غرق في بحار الأفكار، ومن عبده بمحض الرجاء تاه في مفازة
الاغترار، ومن عبده بالخوف والرجاء استقام في محجة الادّكار)، وقال مكحول الدمشقي
:( من عبد الله بالخوف فهو حروري، ومن عبده بالرجاء فهو مرجىء، ومن عبده بالمحبة
فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد)
ومن هذه الدرجة كان عمر ـ رضي الله
عنه ـ ينظر عندما قال :( لو نودي ليدخل النار كل الناس إلا رجلاً واحداً لرجوت أن
أكون أنا ذلك الرجل، ولو نودي ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً لخشيت أن
أكون أنا ذلك الرجل)
قلت: فما سر هذا الاعتدال؟
قال: إن أهل الله لا ينظرون في الخوف
والرجاء لأعمالهم، وإنما ينظرون إلى أوصاف الله المقتضية للخوف والرجاء، ولذلك قال
ابن عطاء الله معبرا عن حال العارفين في ذلك:( من علامة الاعتمادِ على العَمَلِ ،
نُقْصانُ الرَّجاءِ عند وجودِ الزَّللِ)
أي أن من علامات تعويل العامل على
عمله أن ينقص رجاؤه في رحمة الله عند وجود زلته، لأن العارفين لا يشاهدون لأنفسهم
عملاً، فلذلك لا ينقص أملهم في رحمة الله إذا قصروا في الطاعة أو اكتسبوا زللا،
قال ابن عطاء الله في بعض قصائده :
ولا يَمْنَعْهُ ذنبٌ من رَجَاءٍ |
فإنَّ الله غَفارُ الذُّنوب |
وهكذا حال الخوف ، فإنه عند الكاملين
لا يرتبط بالعمل ، ولذلك جاء في تفسير قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾
(المؤمنون:60) قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : يا رسول الله أهو الرجل يزنى ويسرق
ويشرب الخمر ويخاف؟ فقال :( لا يا بنت الصديق بل هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف
أن لا يتقبل منه)[48]
قلت: لكني سمعت الشيخ الدردير يقول
ناظما:
وغَلِّبِ الخوفَ على الرجاءِ |
وسِرْ لمولاك بلا تناءِ |
فهو هنا يدعو إلى تغليب الخوف على
الرجاء.
قال: هو يخاطب السالكين .. وقد اتفق
المربون على طريق الله على تقديم الخوف للسالكين الذين غلبت عليهم رعونة أنفسهم
على الرجاء، قال الغزالي :( ما يراد لغيره ينبغي أن يستعمل فيه لفظ (الأصلح) لا
لفظ (الأفضل) فنقول: أكثر الخلق الخوف لهم أصلح من الرجاء، وذلك لأجل غلبة
المعاصي)، وقال في المفاضلة بين الخوف والرجاء:( ويجوز أن يقال مطلقاً: الخوف أفضل
على التأويل الذي يقال فيه الخبز أفضل من السكنجبـين، إذ يعالج بالخبز مرض الجوع،
وبالسكنجبـين مرض الصفراء، ومرض الجوع أغلب وأكثر، فالحاجة إلى الخبز أكثر فهو
أفضل، فبهذا الاعتبار غلبة الخوف أفضل)[49]
وقال :( فالخلق الموجودة في هذا
الزمان كلهم الأصلح لهم غلبة الخوف، بشرط أنّ لا يخرجهم إلى اليأس وترك العمل وقطع
الطمع من المغفرة فيكون ذلك سبباً للتكاسل عن العمل وداعياً إلى الانهماك في
المعاصي فإن ذلك قنوط وليس بخوف، إنما الخوف هو الذي يحث على العمل ويكدّر جميع
الشهوات، ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا ويدعوه إلى التجافي عن دار الغرور فهو
الخوف المحمود، دون حديث النفس الذي لا يؤثر في الكف والحث ودون اليأس الموجب
للقنوط)
وقال صاحب التخويف من النار :( وهذا
باب من أبواب الترهيب، وحاجة المسلم إليه أشد من الحاجة إلى الأول، لأن الإيمان
بين الخوف والرجاء، والمرء بين الشدة والرخا والخوف يفعل فى الخائف مالا يفعل
الرجا فى الراجى، والخشية تميز تمييزا كافيا وافيا بين الهالك والناجى، وأن دين
الاسلام ورد بالمهلكات كما جاء بالمنجيات، وأن النبي r رغب وحذر، وبشر وأنذر، فهو المخبر الصادق بكلا الأمرين إخبارا لا
يخفى على ذى عينين، ولكن الشيطان الرجيم غرهم بالغفران والاحسان وكادتهم النفس
الأمارة بالسوء ووعدتهم بالرضوان والجنان، ودخل عليهم إبليس من باب الرجا حتى أضلهم
عن طريق الهدى، فقالوا :﴿ سَيُغْفَرُ لَنَا ﴾ (لأعراف: من الآية169)[50] كما قال من قبلهم من الأمم، ولم يعلموا أن بطش ربهم لشديد الألم،
وأن الدار الآخرة منقسمة إلى قسمين: رياض الجنة وحفر النار، والعبد بين مخافتين،
إما أن يصير إلى النعيم بفضله سبحانه، وإما أن يصار به عدلا منه إلى دار البوار،
وكل من قنع بالرجا ولم يلم بالخوف لم يعلم بعاقبة أمره ولم يعرف نفعه من ضره،
وإنما المؤمن الناجى من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر وعمل صالحا وأقلع نفسه فى
هذه الدار عما يوبقه ويهلكه عذبا كان أو مالحا)
وهذا الذي اتفق عليه المربون هو الذي وردت به
النصوص واصفة سلوك الرسل مع أقوامهم المكذبين، فلذلك نرى أن أكثر ما ورد في القرآن
الكريم من وظائف الرسل ـ عليهم السلام ـ إما أن يحصرها في الإنذار أو يقدم الإنذار
على التبشير:
أما حصر وظائف الرسل ـ عليهم السلام
ـ في الإنذار ، فهو كثير في القرآن الكريم ، كما قال تعالى في حق الرسول r
:﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ
إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ (لأعراف:184)، وقال :﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ
بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
(هود:12)، وقال :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى
عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ (الفرقان:1)، وقال :﴿ وَقَالُوا مَالِ
هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ﴾ (الفرقان:7)، وقال :﴿
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ
لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ (سـبأ:46)، وقال :﴿ إِنْ
أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴾ (فاطر:23)، وقال :﴿ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
﴾ (الملك:17)
وأمره r بأن يخبر أمته بأن وظيفته الأولى هي الإنذار ، فقال :﴿
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾
(الذريات:50)، وقال :﴿ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي
لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ (الذريات:51)، وقال :﴿ قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ (الحج:49)،
وقال :﴿ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ
إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾
(العنكبوت:50)، وقال :﴿ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ
مُبِينٌ ﴾ (صّ:70) ، وقال :﴿ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ
الْمُبِينُ ﴾ (الحجر:89)، وقال :﴿ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا
أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ (العنكبوت:50)
وأخبر تعالى أن الإنذار هو الوظيفة
الأساسية للرسل ـ عليهم السلام ـ ، فقال:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً
إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ (هود:25)، وقال :﴿
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ﴾ (الفرقان:51)،
وقال :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ
مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ (سـبأ:34)، وقال
:﴿ وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ﴾ (سـبأ:44)، وقال :﴿ وَمَا كُنْتَ
بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ
قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
(القصص:46)، وقال :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ ﴾ (السجدة:3)، وقال U :) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ
مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (فاطر:37)، وقال :﴿ وَكَذَلِكَ مَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾
(الزخرف:23)، وقال :﴿ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى ﴾
(النجم:56)، وقال :﴿ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ
فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى
قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ﴾ (الملك:8 ـ 9)
واقترنت البشارة بالإنذار في مواضع
أخرى مع تقديم الإنذار ، ومنها قوله تعالى :﴿ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ﴾ (هود:2)، وقال :﴿
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ
كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ
السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾
(الأعراف:188)
واقترنت البشارة بالإنذار في مواضع
أخرى من القرآن الكريم ، كقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ (الأحزاب:45)، وقال :﴿
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ (سـبأ:28)، وقال :﴿
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
مُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ (الاسراء:105)، وقال :﴿ وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾ (الفرقان:56)، وقال :﴿
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا
خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ (فاطر:24)، وقال :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ (الفتح:8)
والتأمل في هذه الأنواع المختلفة من
أساليب القرآن الكريم في الإخبار عن وظائف الرسل ـ عليهم السلام ـ يقود إلى هذه
الحقيقة التربوية التي اتفق عليها المربون، وهي أن النفوس العاتية الطاغية التي
أدمنت على المعصية واستحلتها وأصبحت جزءا من كيانها لا يردعها عن هذه المعصية إلا
مرارة تنفرها عن تلك اللذة ، ولا ينفرها عنها مثل الإنذار والتهديد والوعيد، فإن
ردعت وألقت السمع وتأدبت ألقيت إليها البشائر التي يبثها الرجاء في النفس.
ولهذا نهى r أن يعمم الإخبار بالمبشرات التي تقعد بالناس عن السلوك ، فعن معاذ
بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت ردف
النبي r على حمار،
فقال: يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله ؟ قلت: الله
ورسوله أعلم. قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وحق
العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر
الناس ؟ قال :( لا تبشرهم فيتكلوا)[51]
قلت: وعيت كل ما ذكرته من هذا .. فهل
ورد في النصوص المقدسة ما يمكن أن يستجلب به حال الرجاء؟
قال: أجل .. وسترى تفاصيل ذلك في هذا
المنزل ..
قلت: فحدثني عن بعض ذلك ..
قال: من ذلك قوله تعالى، وهو يحثنا
على الرجاء، وينهانا عن القنوط من رحمته :﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
(الزمر:53)
وقال تعالى مبشراً بسعة رحمته :﴿
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾(لأعراف: من الآية156)
أما السنة المطهرة، فقد ورد فيها
الكثير من النصوص التي تبين سعة رحمة الله، وهي بالتالي من أفضل أدوية الرجاء:
ففي الحديث الشريف، قال رسول الله r
:( والذي نفسي بيده لو لم تُذْنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله
تعالى فيغفر لهم)[52]
وقال r:( يُدنى المؤمن
يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفَه[53] فيقرره بذنوبه فيقول: أتعرف ذنْبَ كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول:
رَبِّ أعرِفُ، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى
صحيفة حسناته)[54]
وقال r :( من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده
ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنة
والنار حقٌ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)[55]
وقال r :( يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها أو أزيد،
ومن جاء بالسيئة، فجزاء سيئة مثلها أو أغفر. ومن تقرب مني شبراً، تقربت منه
ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً، تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي، أتيته هرولةً[56]، ومن لقيني بقراب الأرض[57] خطيئةً لا يشرك بي شيئاً، لقيته بمثلها مغفرةً)[58]
وحدث جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء
أعرابيٌ إلى النبي r ، فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ فقال: (من مات لا يشرك بالله
شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك به شيئاً، دخل النار)[59]
وحدث أبو هريرة أو أبو سعيدٍ الخدري
ـ رضي الله عنهما ـ قال: لما كان غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعةٌ، فقالوا: يا رسول
الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا، فأكلنا وادهنا؟ فقال رسول الله r:
افعلوا، فجاء عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا رسول الله إن فعلت، قل الظهر، ولكن
ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك
البركة. فقال رسول الله r : نعم، فدعا بنطعٍ فبسطه، ثم دعا بفضل ازوادهم، فجعل الرجل يجيء
بكف ذرةٍ، ويجيء الآخر بكف تمرٍ، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك
شيءٌ يسيرٌ، فدعا رسول الله r بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم حتى ما
تركوا في العسكر وعاءً إلا ملؤوه، وأكلوا حتى شبعوا وفضل فضلةٌ، فقال رسول الله r:(
أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاكٍ، فيحجب
عن الجنة)[60]
وحدث عتبان بن مالكٍ ـ رضي الله عنه
ـ قال: كنت أصلي لقومي بني سالمٍ، وكان يحول بيني وبينهم وادٍ إذا جاءت الأمطار،
فيش علي اجتيازه قبل مسجدهم، فجئت رسول الله r، فقلت له: إني أنكرت بصري، وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل
إذا جاءت الأمطار، فيشق علي اجتيازه، فوددت أنك تأتي، فتصلي في بيتي مكاناً أتخذه
مصلىً، فقال رسول الله r: سأفعل، فغدا علي رسول الله، وأبو بكرٍ، بعد ما اشتد النهار،
واستأذن رسول الله r ، فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: أين تحب أن أصلي
من بيتك؟ فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام رسول الله r،
فكبر وصففنا وراءه، فصلى ركعتين، ثم سلم وسلمنا حين سلم، فحبسته على خزيرةٍ تصنع
له، فسمع أهل الدار أن رسول الله r في بيتي، فثاب رجالٌ منهم حتى كثر الرجال في البيت، فقال رجلٌ: ما
فعل مالكٌ لا أراه! فقال رجلٌ: ذلك منافقٌ لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله r:
لا تقل ذلك، ألا تراه قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى؟! فقال:
الله ورسوله أعلم، أما نحن فوالله ما نرى وده، ولا حديثه إلا إلى المنافقين! فقال
رسول الله r : (فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك
وجه الله)[61]
وحدث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ
قال: قدم رسول الله r بسبيٍ، فإذا امرأةٌ من السبي تسعى، إذ وجدت صبياً في السبي أخذته،
فألزقته ببطنها، فأرضعته، فقال رسول الله r : أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار ؟ قلنا: لا والله.
فقال: (لله أرحم بعباده من هذه بولدها)[62]
وحدث أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ
قال: قال رسول الله r : (لما خلق الله الخلق، كتب في كتابٍ، فهو عنده فوق العرش: إن
رحمتي تغلب غضبي)[63]
وعنه عن رسول الله r
قال :( جعل الله الرحمة مائة جزءٍ، فأمسك عنده تسعةً وتسعين،
وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة
حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)[64]
وعنه عن النبي r فيما يحكي عن ربه، تبارك وتعالى، قال: (أذنب عبدٌ ذنباً، فقال:
اللهم اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً
يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك
وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد
فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال: تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن
له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء[65])[66]
وعنه قال: قال رسول الله r
:( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون
الله تعالى، فيغفر لهم)[67]
وعن أبي أيوب خالد بن زيد ـ رضي الله
عنه ـ قال: سمعت رسول الله r يقول: (لولا أنكم تذنبون، لخلق الله خلقاً يذنبون، فيستغفرون،
فيغفر لهم)[68]
وعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنه
ـ أن النبي r تلا قول الله تعالى في إبراهيم u :﴿ رَبِّ إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ
فَمَن تَبِعَني فَإنَّهُ مِنِّي ﴾ (إبراهيم: 36)، وقول عيسى u
:﴿ إنْ تُعَذِّبْهُم فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّكَ
أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾ (المائدة: 118)، فرفع يديه وقال: اللهم أمتي
أمتي وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمدٍ وربك أعلم، فسله ما يبكيه؟
فأتاه جبريل، فأخبره رسول الله r بما قال، وهو أعلم، فقال الله تعالى: (يا جبريل اذهب إلى محمد
فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)[69]
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ عن رسول
الله r قال: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة، فيحمده عليها، أو
يشرب الشربة، فيحمده عليها)[70]
وعن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ عن
النبي r قال: (إن الله تعالى، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط
يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)[71]
بعد هذه الأحاديث وغيرها مع ابن عطاء
دخلت إلى منزل الرجاء، وقد كان منزلا ممتلئا بأنوار عجيبة، تملأ النفس سرورا ولذة
ومتعة، وتملأ الصدر انشراحا وسكينة وطمأنينة .. ولكنها مع ذلك لا تزيد الجوارح إلا
نشاطا، ولا الهمة إلا ارتفاعا.
ما إن خرجت من منزل الرجاء حتى شعرت
بحاجتي إلى إجراء تصفية شاملة لنفسي التي كانت ممتلئة بالكدورات .. وشعرت في نفس
الوقت بحاجتي إلى تطهير سجل سيئاتي من تلك الذنوب التي قد ينزل بي ما رتب عليها من
عقوبات ..
فلذلك ما إن خرجت حتى بادرت إلى شيخي
أبي مدين طالبا منه أن يبين لي سبيل هذه التصفية وعلومها، فأرشدني إلى الكرماني،
وقال: عليك بصحبته .. فمنزله هو منزل التوبة .. ولم يصحبه أحد إلا فقه من فقه
التوبة ما يعود به كيوم ولدته أمه.
ذهبت إلى الكرماني، وأخبرته بقول أبي
مدين، فطلب مني أن أصحبه إلى منزل التوبة، وقد كان منزلا في ضواحي تلمسان، وكان أبيض
اللون، وقد رأيت عمالا كثيرين يحيطون به، فمنهم من ينقي أرضه، ومنهم من يعيد
صباغته، ومنهم من يرسل بالمياه على أوراق أشجاره ليطهرها من الغبار الذي امتلأت
به.
سألت الكرماني عن التوبة، وسرها،
وكونها منزلا من منازل السائرين، فقال: التوبة ترك الذنوب على أجمل الوجوه ..
قلت: أجمل الوجوه !؟
قال: أجل .. فالاعتذار على ثلاثة
أوجه: إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو يقول: فعلت
وأسأت وقد أقلعت، ولا رابع لذلك .. وهذا الأخير هو التوبة[72].
وقد جمع هذه الأركان أحسن جمع الإمام
أبو حامد الغزالي، فذكر أن حقيقة التوبة تنتظم في ثلاثة أمور: علم، وحال، وفعل ..
وهي مرتبة بهذا الترتيب: فالعلم الأول، والحال الثاني، والفعل الثالث .. والأول
موجب للثاني، والثاني موجب للثالث إيجاباً اقتضاه اطراد سنة الله في الملك
والملكوت.
ثم تحدث عن سر ارتباط بعضها ببعض،
وترتب بعضها على بعض، فذكر أن العلم الذي هو (معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها حجاباً
بين العبد وبين كل محبوب) إذا تمكن من الذي يريد التوبة أحدث تألما للقلب بسبب
فوات المحبوب، (فإن القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألم، فإن كان فواته بفعله تأسف
على الفعل المفوت، فيسمى تألمه بسبب فعله المفوت لمحبوبه ندماً، فإذا غلب هذا
الألم على القلب واستولى وانبعث من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة
وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال والماضي وبالاستقبال، أما تعلقه بالحال فبالترك
للذنب الذي كان ملابساً، وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب
إلى آخر العمر، وأما بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر)
قلت: فقد آل أمر التوبة ـ على حسب ما
ذكر الغزالي ـ إلى العلم؟
قال: أجل .. ولكنه علم مخصوص .. وهو
العلم الذي يريك خطر الذنوب، وكونها حجابا بينك وبين كل مرهوب، أو كونها سبيلا لكل
شقاوة وضلالة ومرارة .. وحين تعلم هذا وتتيقن به سيصيبك الألم لا محالة .. وحينذاك
ستقدم على التوبة، وستفكر فيها.
قلت: لقد حصل لي هذا .. فأنا ما
امتلأت خشية من الله، ورغبة فيما في يد الله حتى شعرت بأن ذنوبي هي الحجاب الحائل
بيني وبين فضل الله .. وما شعرت بهذا حتى طلبت منزل التوبة.
قال: لقد وفقت عندما طلبت التوبة على
يد شيخك.
قلت: لم؟ .. ألا يكتفى من المرء بأن
يتوب لله من غير واسطة؟
قال: التوبة الكاملة لابد فيها من
الواسطة .. ألم تسمع قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ﴾ (النساء: من الآية64)؟
قلت: هذه عن رسول الله r
.
قال: وهي تصدق على ورثته.
قلت: ألا بد من هذا؟
قال: إن للتوبة أركانا وشروطا وحقيقة
.. وفي كل ذلك مسالك ومهالك .. والشيطان يحضر فيها كما لا يحضر في شيء آخر ..
ولابد للتائب أن يبحث عن تلك الحقائق التي يتقي بها مداخل الشيطان، فتصدق توبته،
وتنصح، فقد قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى
اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ
يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا
نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التحريم:8)، فوصف
التوبة بالنصح .. ولن تنصح التوبة إلا بالعلم والورع، ولا علم بدون معلم.
قلت: أهناك توبة غير نصوح؟
قال: أجل .. التوبة توبتان:
توبة عامة .. وهي التي أشار إليها
قوله تعالى :﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(النور: من الآية31)النسائي أي ارجعوا إلى الله من هوى
نفوسكم، ومن وقوفكم مع سهواتكم وحظوظكم، عسى أن تظفروا ببغيتكم فى المعاد، وكى
تبقوا ببقاء اللَّه فى نعيم لا زوال له ولا نفاد.
وتوبة خاصة، وهي التي أشار إليها
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ
تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي
اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا
وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التحريم:8)، وهي من النصح
على وزن فعول، للمبالغة فى النصح، أي أنها خالصة لله تعالى مجردة، لا تتعلق بشئ،
ولا يتعلق بها شئ، وهو الاستقامة على الطاعة ، من غير روغان إلى معصية ، كما تروغ
الثعالب ، وألا يحدث نفسه بذنب متى قدر عليه ، وأن يترك الذنب لأجل اللَّه تعالى
خالصا لوجهه ، كما ارتكبه لأجل هواه مجمعا عليه بقلبه وشهوته ، فهذه هى التوبة النصوح
، وهذا العبد هو التواب المتطهر الحبيب.
قلت: لقد رأيت البعض ينكر مثل هذه
التقسيمات، فتحقق الناس عنده بالمقامات سواء، ولا معنى للتفريق بينهم في ذلك بين
خصوص وعموم؟
قال: لا .. لقد أخطأ من قال ذلك ..
لقد فرق القرآن الكريم بين درجات الناس، فذكر المقربين من السابقين .. وذكر
المقتصدين .. وذكر الظالمين لأنفسهم .. وذكر غير ذلك من المراتب ..
وقد ذكر الغزالي في هذا تقسيما حسنا
تتجلى به مراتب التائبين، ويميز به بين الناصح وغيره، فذكر أن التائبين على أربع
درجات[73].
أما الدرجة
العليا،
فهي أن يتوب العاصي ويستقيم على التوبة إلى آخر عمره، فيتدارك ما فرط من أمره، ولا
يحدث نفسه بالعود إلا الزلات التي لا ينفك البشر عنها في العادات مهما لم يكن في
رتبة النبوة، فهذا هو الاستقامة على التوبة، وصاحبه هو السابق بالخيرات المستبدل
بالسيئات حسنات واسم هذه التوبة ـ كما ذكر الغزالي ـ هو (التوبة النصوح)، واسم
النفس التي سكنت لهذه التوبة (النفس المطمئنة)، وهي التي ترجع إلى ربها راضية
مرضية، وهؤلاء هم الذين إليهم الإشارة بقوله r :( سبق المفردون المستهترون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم
أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً)[74]، فإن في هذا الحديث إشارة إلى أنهم كانوا تحت أوزار وضعها الذكر
عنهم.
وأهل هذه الطبقة ـ كذلك ـ على رتب من
حيث النزوع إلى الشهوات، فمن تائب سكنت شهواته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها ولم
يشغله عن السلوك صرعها، وإلى من لا ينفك عن منازعة النفس، ولكنه مشغول بمجاهدتها
وردها .. ثم تتفاوت درجات النزاع أيضاً بالكثرة والقلة وباختلاف المدة وباختلاف
الأنواع .. وكذلك يختلفون من حيث طول العمر، فمن مختطف يموت قريباً من توبته يغبط
على ذلك لسلامته وموته قبل الفترة، ومن ممهل طال جهاده وصبره وتمادت استقامته
وكثرت حسناته، وحال هذا أعلى وأفضل إذ كل سيئة فإنما تمحوها حسنة.
قلت: هذه الدرجة العليا .. فما الدرجة
الثانية؟
قال: هي درجة التائب الذي سلك طريق
الاستقامة في أمهات الطاعات، وترك كبائر الفواحش كلها، إلا أنه ليس ينفك عن ذنوبه
تعتريه، لا عن عمد وتجريد قصد، ولكن يبتلى بها في مجاري أحواله من غير أن يقدم
عزماً على الإقدام عليها، ولكنه كلما أقدم عليها لام نفسه وتأسف وجدد عزمه على أن
يتشمر للاحتراز من أسبابها التي تعرضه لها.
وهذه النفس جديرة بأن تكون هي النفس اللوامة،
إذ تلوم صاحبها على ما تستهدف له من الأحوال الذميمة، لا عن تصميم عزم وتخمين رأي
وقصد، وهذه ـ أيضاً ـ رتبة عالية، وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى، وهي أغلب
أحوال للتائبين لأن الشر معجون بطينة الآدمي قلما ينفك عنه، وإنما غاية سعيه أن
يغلب خيره شره حتى يثقل ميزانه فترجح كفة الحسنات، فأما أن تخلو بالكلية كفة
السيئات فذلك في غاية البعد.
وقد ذكر القرآن الكريم هؤلاء وأثنى
عليهم، فقال :﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ
بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)
(لنجم:32)، فكل إلمام يقع بصغيرة، لا عن توطين نفسه عليه فهو جدير بأن يكون من
اللمم المعفو عنه.
وقال تعالى عن أهل هذه الدرجة :﴿
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا
اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135)، فأثنى
عليهم مع ظلمهم لأنفسهم لتندمهم ولومهم أنفسهم عليه.
وقد أشار رسول الله r
إلى أهل هذه الدرجة بقوله :( خياركم كل مفتن تواب)[75]، وقال r :( المؤمن كالسنبلة تفىء أحيانا، وتميل أحيانا)[76]، وقال r :( لا بد للمؤمن من ذنب يأتيه الفينة بعد الفينة)[77]، أي الحين بعد الحين.
فهذه النصوص وغيرها تدل على أن هذا
القدر لا ينقض التوبة ولا يلحق صاحبها بدرجة المصرين.
ومن يؤيس مثل هذا عن درجة التائبين
يكون حاله كحال الطبيب الذي يؤيس الصحيح عن دوام الصحة بما يتناوله من الفواكه
والأطعمة مرة بعد أخرى من غير مداومة واستمرار، وكالفقيه الذي يؤيس المتفقه عن نيل
درجة الفقهاء بفتوره عن التكرار والتعليق في أوقات نادرة غير متطاولة ولا كثيرة،
وذلك يدل على نقصان الطبيب والفقيه، بل الفقيه في الدين هو الذي لا يؤيس الخلق عن
درجات السعادات بما يتفق لهم من الفترات ومقارفة السيئات المختطفات، كما قال r
:( كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)[78]
ولهذا قال تعالى :﴿ أُولَئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ
السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ (القصص:54)، فما وصفهم
بعدم السيئة أصلاً.
قلت: عرفت الدرجة الثانية .. فما الدرجة
الثالثة؟
قال: هي درجة التائب الذي يتوب
ويستمر على الاستقامة مدة، ثم تغلبه الشهوات في بعض الذنوب، فيقدم عليها عن صدق
وقصد شهوة لعجزه عن قهر الشهوة، إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات، وتارك جملة من
الذنوب مع القدرة والشهوة، وإنما قهرته هذه الشهوة الواحدة أو الشهوتان وهو يود لو
أقدره الله تعالى على قمعها وكفاه شرها، هذا أمنيته في حال قضاء الشهوة عند الفراغ
يتندم ويقول: ليتني لم أفعله، وسأتوب عنه وأجاهد نفسي في قهرها، لكنه تسول نفسه
ويسوف توبته مرة بعد أخرى ويوماً بعد يوم.
فهذه النفس هي التي تسمى النفس
المسولة، وصاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا
بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (التوبة:102)
فأمر هذا التائب من حيث مواظبته على
الطاعات وكراهته لما تعاطاه مرجو، فعسى الله أن يتوب عليه، وعاقبته مخطرة من حيث
تسويفه وتأخيره، فربما يختطف قبل التوبة ويقع أمره في المشيئة، فإن تداركه الله
بفضله وجبر كسره وامتن عليه بالتوبة التحق بالسابقين، وإن غلبته شقوته وقهرته
شهوته فيخشى أن يحق عليه في الخاتمة ما يجعله من الأشقياء.
قلت: فما الدرجة
الرابعة؟
قال: هي درجة التائب الذي يتوب ويجري
مدة على الاستقامة، ثم يعود إلى مقارفة الذنب أو الذنوب من غير أن يحدث نفسه
بالتوبة، ومن غير أن يتأسف على فعله، بل ينهمك انهماك الغافل في اتباع شهواته،
فهذا من جملة المصرين، وهذه النفس هي النفس الأمارة بالسوء، الفرارة من الخير،
ويخاف على هذا سوء الخاتمة وأمره في مشيئة الله، فإن ختم بالسوء شقي شقاوة لا آخر
لها، وإن ختم له بالحسنى حتى مات على التوحيد فينتظر له الخلاص من النار ولو بعد
حين.
قلت: عرفت هذا ووعيتك، ولا أحسبني
أخالفك فيه .. فكل الشهود العدول يدلون عليه .. ولكني أريد أن أعرف الكيفية التي
أتحقق بها على الدرجة العليا من درجات التوبة؟
قال: هذا المنزل هو منزلها ..
وستتعلم في هذا المنزل كيف تتوب إلى الله، وكيف ترد المظالم، وكيف تعيد المياه إلى
مجاريها .. وكيف تغتسل الغسل الذي يجعلك نقيا طاهرا كيوم ولدتك أمك[79].
قلت: فحدثني عن رسول الله r
.. فأنا لا أحب أن أتحرك حركة إلا على قدمه.
قال: لقد ورد في النصوص الكثيرة ما
يدل على رجوع رسول الله r إلى ربه مع أنه الطاهر المطهر المعصوم من كل الذنوب[80] .. ففي الحديث عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله
r يقول: (إني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة)[81]
وعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول
الله r قال: (إني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)[82]
وعنه قال: سمعت رسول الله r
يقول: (اللهم إني أستغفرك ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وأنت، المؤخر،
وأنت على كل شئ قدير)[83]
وعن الأغر ـ رضي الله عنه ـ قال:
سمعت رسول الله r يقول: (يا أيها الناس، توبوا إلى الله تعالى، فإني أتوب إليه كل
يوم مائة مرة)[84]
وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال
رسول الله r (أين أنت من الاستغفار يا حذيفة ؟ إني لأستغفر الله في كل يوم
مائة مرة، وأتوب إليه)[85]
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال:
سمعت رسول الله r يقول: (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه)
قبل أن يقوم من المجلس، مائة مرة[86].
وعنه قال: إنا كنا نعد على رسول الله
r في المجلس، (رب اغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم، مائة
مرة)[87]
وعن الأغر بن مزينة ـ رضي الله عنه ـ
قال: سمعت رسول الله r يقول: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)[88]، وفي رواية: سمعته يقول: (توبوا إلى ربكم، فوالله إني لأتوب إلى
ربي عز وجل مائة مرة في اليوم).
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:
لزم رسول الله r هؤلاء الكلمات قبل موته بسنة: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا
إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، قالت فقلت: يا رسول الله لقد لزمت هذه الكلمات،
قال: (إن ربي عهد إلي عهدا أو أمرني بأمر، فأنا أتبعه)، ثم قرأ :﴿ إِذَا
جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ (النصر:1) حتى ختم السورة[89].
قلت: فهل ورد في النصوص المقدسة ما
يطمئن التائب إلى قبول توبته؟
قال: أجل .. لقد ورد في ذلك الكثير ..
وستراها في هذا المنزل .. فلا يمكن ليائس أن يتوب .. إنا هنا نبدأ بمداواة اليأس
بعلاج الأمل في عفو الله .. فإذا ما تاب العبد تاب الله عليه لا محالة.
اسمع ما يقول r في هذا .. لقد قال :( إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء
النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)[90]
وفي حديث آخر قال r
:( إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)[91]
وعن زر بن حبيشٍ قال: أتيت صفوان بن
عسالٍ ـ رضي الله عنه ـ أسأله عن المسح على الخفين فقال: ما جاء بك يا زر؟ فقلت: ابتغاء
العلم، فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يطلب، فقلت: إنه قد حك
في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأً من أصحاب النبي r
، فجئت أسألك: هل سمعته يذكر في ذلك شيئاً؟ قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً ـ
أو مسافرين ـ أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيامٍ ولياليهن إلا من جنابةٍ، لكن من غائطٍ
وبولٍ ونومٍ. فقلت: هل سمعته يذكر في الهوى شيئاً؟ قال: نعم كنا مع رسول الله r
في سفرٍ، فبينا نحن عنده إذ ناداه أعرابيٌ بصوتٍ له جهوريٍ: يا محمد، فأجابه رسول
الله r نحواً من صوته: هاؤم، فقلت له: ويحك اغضض من صوتك فإنك عند النبي r،
وقد نهيت عن هذا ! فقال: والله لا أغضض. قال الأعرابي: المرء يحب القوم ولما يلحق
بهم؟ قال النبي r :( المرء مع من أحب يوم القيامة)، فما زال يحدثنا حتى ذكر باباً
من المغرب مسيرة عرضه أو يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين عاما خلقه الله
تعالى يوم خلق السماوات والأرض مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه[92].
بعد هذه الأحاديث وغيرها مع ابن عطاء
عن التوبة، وما ورد فيها من النصوص المقدسة، ومن فهوم أهل الله، دخلت منزل التوبة،
وقد كان باطنه كظاهره، تجلت فيه جميع قيم الجمال والنظافة، فهو وأهله لا يحرصون
على شيئ حرصهم على الصفاء، ولا يعتبرون شيئا من الأشياء يستحق أن يتخذ عدوا غير
الكدورة .. الكدورة بجميع أنواعها.
لم أخرج من منزل التوبة برغبتي، فقد
أخبرني أهله أن التوبة ليس لها حد ولا نهاية، وقد قال تعالى :﴿ وَعَلَى
الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا
رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ
اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة:118)
لكن شيخي أبا مدين طلب مني أن ألتحق
بالزاهد ليدلني على منزل آخر من منازل التطهير، هو منزل التقوى.
سرت مع الخواص إلى منزل التقوى، وقد
كانت الطريق المؤدية إليه محاطة بأشواك كثيرة .. فلم نكن نسير فيها إلا بجهد وعناء
.. وكنت كل لحظة أصيح في صاحبي (الزاهد): احترز .. فإن رماحا من الأشواك تريد أن
تشوكك.
بعد أن وصلنا إلى قرب الدار سألت
الزاهد عن سر تلك الأشواك، ولم لم يقم أصحابه من أهل الله بقلعها، فقال: أهل الله
هم الذين غرسوها؟
قلت: وهل يغرس أهل الله الشوك؟ ..
عهدي بهم يغرسون الورود والرياحين.
قال: عندما رأوا غفلة الخلق عن أشواك
الباطن راحوا يذكرونهم بأشواك الظاهر، ليعبروا من الظاهر إلى الباطن.
قلت: أراك ترمي إلى شيء، فصرح .. فلا
طاقة لي بالتلميح.
قال: لقد سئل بعضهم: ما التقوى؟ قال:
هل وجدت طريقاً ذا شوكٍ؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيتُ الشوك عدلت أو جاوزته
أو قصّرت عنه، قال: ذاك التقوى.
قلت: لقد وردت النصوص القرآنية
الكثيرة تذكر التقوى .. وقد وجدت أنها تذكرها لغرضين:
أما أولهما، فالحث عليها، والدعوة
إلى التمسك بها باعتبارها من أخلاق المؤمنين، ومن ذلك قوله تعالى :﴿
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا
شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:48)،
وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:103)، وقوله :﴿ وَاتَّقُوا
يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا
تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:123)، وقوله :﴿
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ
مَنِ اتَّقَى)(البقرة: من الآية189))يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
(البقرة:278)، وقوله :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102)،
وقوله :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً
كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1)، وقوله :﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ) (المائدة:8)، وقوله :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:35)، وقوله :﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا
وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا
وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:93)، وقوله :﴿
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا
فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (لأعراف:201)، وقوله :﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التغابن:16)
وأما الثاني، فذكر الجزاء العظيم
المرتبط بأهلها، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ
بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة:212)، وقوله :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ
مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ
مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران:15)، وقوله :﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ
وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:172)، وقوله :﴿ لَكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ
لِلْأَبْرَارِ) (آل عمران:198)، وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ
جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (المائدة:65)، وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)
(لأعراف:96)، وقوله :﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) (الرعد:35)، وقوله :﴿
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ
خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) (النحل:30)، وقوله:﴿ إِنَّ اللَّهَ
مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل:128)، وقوله :﴿
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً)
(مريم:72)، وقوله :﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ
مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ
اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) (الزمر:20)، وقوله :﴿ وَيُنَجِّي
اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) (الزمر:61)، وقوله :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ
إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ
لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)
(الزمر:73)، وقوله :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحديد:28)
بعد أن أكملت قراءة هذه الآيات قال
لي: ألا ترى اهتمام القرآن الكريم بالتقوى؟
قلت: أجل .. فهو يحث عليها كل حين ..
ويذكر أصناف الأجزية التي وعد بها أهلها .. ولم أقرأ لك مما ورد في القرآن الكريم
إلا ما يدل على المجامع، أما التفاصيل، فأكثر من أن تنحصر.
قال: فأنت لا تحتاج إلى الشهود إذن؟
قال: أما شاهد القرآن الكريم، فقد
عرفناه، فحدثني عن شاهد السنة.
قال: مثلما ورد في القرآن الكريم
الحث على التقوى، فقد وردت السنة كذلك .. فليست السنة إلا بيانا للقرآن الكريم،
وتأكيدا لحقائقه، وتطبيقا لتوجيهاته.
قلت: فحدثني عما ورد عن رسول الله r
من الحث على التقوى، والترغيب فيها.
قال: من ذلك قوله r:
( لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس بهذ حذراً لما به بأسُ)[93]
وقال r : (
من
سرَّه أن يكون أكرم الناس فليتقِ اللهَ)[94]
وقال r : ( إياكم والظن
فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا
ولا تدابروا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ههنا،
التقوى ههنا ـ ويشير إلى صدره ـ بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل
المسلم على المسلم حرامٌ: دمه وعرضه وماله)[95]
وسئل رسول الله r
عن أفضل الناس فقال: (التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غلَّ ولا حسد)[96]
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: نزلت
هذه الآية :﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ..(3)﴾ (الطلاق) في رجلٍ من أشجع
كان فقيراً خفيف ذات اليد، كثير العيال، فأتى رسول الله r ، فسأله فقال: (اتق الله واصبر)، فلم يلبث إلا يسيراً حتى جاء
ابنٌ لهُ بغنمٍ كان العدوُّ أصابوه، فأتى رسول الله r، فسأله عنها وأخبره خبرها، فقال: (كلها)، فنزلت[97].
وعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال:
جعل رسول الله r يتلو هذه الآية :﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجًا (2)﴾(الطلاق)، فجعل يرددها حتى تعب فقال: يا أبا ذر لو أن الناس
كلهم أخذوا بها لكفتهم)[98]
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال:
قيل: يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: (أتقاهم)، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال:
(فيوسف نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله) قالوا: ليس عن هذا نسألك،
قال: (فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)[99]
وعن أبي سعيدٍ الخدري ـ رضي الله عنه
ـ عن النبي r قال: (إن الدنيا حلوةٌ خضرةٌ، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف
تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)[100]
وعن ابن مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ أن
النبي r كان يقول: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)[101]
وعن عدي بن حاتمٍ ـ رضي الله عنه ـ قال:
سمعت رسول الله r يقول: (من حلف على يمينٍ، ثم رأى أتقى لله منها، فليأت التقوى)[102]
وعن أبي أمامة صدي بن عجلان ـ رضي
الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله r يخطب في حجة الوداع فقال: (اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا
شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم، تدخلوا جنة ربكم)[103]
قلت: عرفت كل هذا ووعيته .. لكني
أتساءل عن سر كل هذا الفضل الذي أولته هذه التعاليم المقدسة للتقوى.
قال: لأن التقوى هي الزمام الذي تزم
به النفس، والحصن الذي تحتمي به من المعاصي .. ومن حصل التقوى فقد حصل على الملكة التي
تملؤه بكل خير، وتفرغه من كل شر.
قلت: فهي مَلَكة إذن؟
قال: أجل .. ولم يكن لها هذا الفضل
لو لم تكن كذلك .. فالملكات هي التي تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر .. ومن كانت له
ملكة التقوى، فإنها لن تدله إلا على الخير، ولن تنهاه إلا عن الشر .. ومن ربى نفسه
ومن وكلت إليه مسؤوليتهم على التقوى، فإنه لن يخاف سوءا لا على نفسه، ولا عليهم،
كما قال تعالى يشير إلى ذلك:﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:93)
قلت: لقد ذكرتني بأبيات لابن حزم
قالها مبينا رجوع جميع الأخلاق إلى التقوى، واقتباسها منها، قال:
إنما العقل أساس |
فوقه الأخلاق سور |
فحلي العقل بالعلم |
وإلا فهو بور |
جاهل الأشياء أعمى |
لا يرى كيف يدور |
وتمام العلم بالعد |
ل وإلا فهو زور |
وزمام العدل بالجـ |
ود وإلا فيجور |
وملاك الجود بالنجـ |
دة والجبن غرور |
عف إن كنت غيو |
راً ما زنى قط غيور |
وكمال الكل بالتقوى |
وقول الحق نور |
ذي أصول الفضل عنها |
حدثت بعد البذور |
قال: بورك فيه .. فقد عبر ابن حزم
خير تعبير عن تسلسل الأخلاق، وارتباط بعضها ببعضها..
قلت: فهل تعتمدون في التربية على
هذا؟
قال: أجل .. لا يمكن للمربي أن يربي دون
أن يعلم ما تمتلئ به النفوس من أخلاق، وما طبعت عليه من خلال .. ليتوصل من خلال
ذلك إلى رسم منهج إصلاحي لها.
قلت: فأنتم في هذا المنزل تفعلون
هذا؟
قال: أجل .. نحن نبدأ فندرس نفوس من
يقدمون علينا، وما يرغبون فيه، وما يرهبون منه، وما يقدرون عليه، وما يعجزون عنه
.. لندلهم من خلال كل ذلك كله على التقوى المرتبطة بهم.
قلت: ألكل صنف من الناس تقواه؟
قال: أجل .. فمن الناس من يكون في
جبلته متقيا شر طلب الرئاسة، فلذلك لا يحتاج إلى تربيته عليها .. ومن الناس من
يكوف عفيفا طاهرا، فلا نحتاج أن نتكلم معه عن العفاف وغض البصر .. وهكذا ..
قلت: إن هذا يحتاج من الداخل إلى
هذا المنزل أن يفضح نفسه؟
قال: لقد نص أهل الله على هذا ..
فكما يحتاج المريض إلى أن يفضح مرضه عند طبيب جسده، فكذلك مريض الروح يحتاج إلى أن
يفضح نفسه عند طبيب الروح.
قلت: لكن شريعتنا نهتنا عن الفضيحة؟
قال: نهتنا عن الفضيحة التي يقصد
منها التشهير، لا الفضيحة التي يقصد منها التطهير .. ألم تسمع قوله تعالى :﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ
لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء:64)؟
قلت: أفي السنة ما يدل على هذا؟
قال: أجل .. ألم تسمع تلك الأسئلة
الكثيرة التي تأتيه r، والتي تدل على حال قائليها؟
قلت: بلى .. ومن ذلك ما حدثت به أم
سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: جاءت أم سليم فسألت النبي r عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل؟ فقال r
:(الغسل)، فقلت لها:( تربت يمينك، فضجت النساء، وهل تحتلم المرأة؟ فقال r
:( تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها)[104]
فانظر كيف نزعت هذه المرأة جلباب
الحياء، فسألت من أمر دينها ما يمكنها من أداء حق التقوى.
ومن ذلك ما حدثت به أسماء بنت أبي
بكر ـ رضي الله عنها ـ قالت: جاءت المرأة إلى رسول الله r فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة ماذا تصنع به؟ قال :( تحثه
ثم تقرضه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه)[105]
ومن ذلك ما حدثت به عائشة ـ رضي الله
عنها ـ أن أم حبيبة ـ رضي الله عنها ـ استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله r
فقال: (إنما هو عرق، وليست بالحيضة)، فأمرها أن تغتسل وتصلي، وكانت تغتسل وتصلي،
وكانت تغتسل لكل صلاة وتجلس في المركن فيعلو الدم[106].
وعنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: جاءت
فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله r قالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟
فقال رسول الله r: (لا، إنما هو عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإن
أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي)[107]
وعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أنها
سألت رسول الله r كم تجلس المرأة إذا ولدت ؟ قال :(تجلس أربعين يوما، إلا أن ترى
الطهر قبل ذلك)[108]
ومن ذلك ما حدث به علي ـ رضي الله
عنه ـ قال: جاء رجل إلى رسول الله r فقال: إني اغتسلت من الجنابة، وصليت الصبح، فرأيت قدر موضع الظفر
لم تمسه الماء، فقال رسول الله r :( لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك)[109]
ومن ذلك ما حدث به أبو أمامة ـ رضي
الله عنه ـ قال: بينما رسول الله r في المسجد، ونحن قعود معه، إذ جاء رجل، فقال: يا رسول الله، إني
أصبت حدا[110] فأقمه علي، فسكت رسول الله r ، فإعاد فسكت عنه، وأقيمت الصلاة، فلما انصرف النبي r
تبعه الرجل واتبعته أنظر، ماذا يرد عليه؟ فقال له:( أرأيت حين خرجت من بيتك، أليس
قد توضأت فأحسنت الوضوء؟) قال: بلى، يا رسول الله، قال :( ثم شهدت الصلاة معنا)،
قال: نعم، يا رسول الله، قال: (فإن الله تعالى قد غفر لك حدك ـ أو قال ذنبك ـ)[111]
ومن ذلك ما حدث به أبو هريرة ـ رضي
الله عنه ـ قال: بينما نحن جلوس عند النبي r إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله، هلكت قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت
على امرأتي، وأنا صائم، فقال رسول الله r :( هل تجد رقبة تعتقها؟)، قال: لا، قال :( فهل تجد إطعام ستين
مسكينا؟)، قال: لا، قال: فمكث النبي r فبينما نحن كذلك أتى النبي r بعرق فيها تمر ـ والعرق: المكتل ـ قال: أين
السائل؟ قال: أنا، قال: خذ هذا فتصدق به، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله،
ووالله ما بين لابتيها ـ يريد الحرتين ـ أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك رسول الله
r حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك[112].
وعنه ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا أتى
النبي r فقال: إن لي جارا يؤذيني، فقال له: (أخرج متاعك فضعه على الطريق)،
فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فجعل كل من مر به قال: مالك؟ قال: جاري
يؤذيني، فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه! قال: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك، وقال
:( لا أوذيك أبدًا)[113]
قال: ونحن نعتمد هذا وغيره مما ورد
في السنة المطهرة .. فلدينا في هذا المنزل فقهاء وعلماء، كما لدينا علماء نفس
وخبراء اجتماع، فالتقوى لا تتحقق بكمالها إلا في ضوء هذه الخبرات جميعا.
قلت: فهلم بنا إليه، فما أشوقني لأن
أتعلم علوم التقوى، وأتدرب عليها.
دخلت مع الزاهد إلى منزل التقوى ..
فرأيته من خير المنازل، وأكثرها بركات، لقد رأيت بعيني فيه قوله تعالى :﴿
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ (لأعراف:96)
وشهدت فيه تحقيق قوله تعالى :﴿
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ﴾ (الطلاق: من الآية2)،
فلم تكن تخطر على بالي في ذلك المنزل شبهة تريد أن تردعني عن التقوى وتزجرني عنها
حتى يأتي فضل الله المخزن في التقوى، فيخرجنا منها سالما غانما.
بعد أن مكثت ما شاء الله لي أن أمكث
في ذلك المنزل المبارك بصحبة (الزاهد) ومن فيه من الخبراء والعلماء شعرت بحلاوة في
قلبي لا أستطيع لها تعبيرا ولا وصفا، فاستأذنت الزاهد أن أذهب إلى شيخي (أبي مدين)
لعلي أعرف سرها، فأذن لي.
عندما دخلت عليه كان في مجلسه
(الخواص)، وكانا يتذاكران في التوكل، وما إن دخلت عليهما حتى أسرع الخواص إلي
يلتزمني، ويقول: أهلا بك في منازل المتوكلين.
قلت: تلك منازل عالية، فكيف عرفت أني
من أهلها؟
قال: التوكل هو صنعتي[114]، ولا يعجز الصانع أن يتعرف على أهل صنعته.
قلت: أللمتوكلين سيما خاصة؟
قال: لكل مقام سيماه الخاصة التي
يعرفه من خلالها أهل الله.
قلت: أليس ذلك نوعا من الاستشراف
للغيب؟
قال: أليس في قدرة الطبيب الخبير أن
يتعرف على الداء بمجرد النظر إلى المريض؟
قلت: بلى .. هناك أطباء كثيرون
يقدرون على ذلك.
قال: جل ربك أن يجعل في أطباء الجسد
من يقدر على هذا، ثم لا يجعل في أطباء الروح من يقدر عليه.
قلت: وما هذا المنزل؟ .. وكيف أتأدب
بآدابه؟
قال: اصحبني لتتأدب بآدابه.
قلت: فذرني ـ أولا ـ أسأل شيخي عن
حلاوة عرضت لقلبي لم أعرف لها تفسيرا.
قال: تلك حلاوة التوكل .. فللتوكل من
الحلاوة ما لا يعدله شيء.
قلت: كيف عرفت ذلك؟
قال: ألم تشعر بطمأنينة عظيمة ..
وكأنك ملك على عرشك .. كلما احتجت شيئا رزقا أو غيره جاءك من غير عناء ولا تعب؟
قلت: بلى .. ذلك صحيح .. لم أشعر
بالراحة في يوم من أيام حياتي كما شعرت في صحبة هذه الحلاوة .. لقد صرت أتخيل أن
لدي كل شيء .. وأنه لم يفتني شيء .. فلذلك زالت كل أحزاني، وارتفعت كل شكواي.
قال: فهذا هو التوكل .. فاصحبني
لتتعلم علومه .. ففي كل منزل من منازل السلوك ممالك ومهالك .. ولن ينجو منها إلا
من اتقى بالعلم الذي علمه الله لأهل الله ببركة متابعتهم لرسول الله r
.
سرت مع الخواص إلى منزل التوكل، وقد
كان منزلا في غاية الإبداع والجمال والقوة، يخيل إلى الناظر إليه أنه قائم في
الهواء من غير أعمدة، ولكنه يقوم على أعمدة كثيرة لا يراها الكثير .. ومع ذلك فهي
أقوى من كل شيء ..
لقد ذكرني رؤيتي لها قوله تعالى :﴿
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾
(الرعد: من الآية2)
ورأيت طيورا كثيرة تأوى إلى ذلك
المنزل، والسرور يملأ محياها، فهي تغرد بكل ألحان الرضا، فذكرتني رؤيتي لها بقوله r : ( لو أنكم
تتوكلون على الله حق وتوكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)[115]
أردت أن أسرع بالدخول إليه لما
امتلأت به عيني من رونق جماله، لكني تذكرت ما اشترطت به على نفسي وعلى أهل الله
ممن وفقني الله لصحبتهم، فقلت: كيف أدخل بدون الشهود العدول الذين يشهدون لحركتي.
قال: أما الشاهد الأول .. كلام ربك
.. فهو ممتلئ بالأمر والثناء على المتوكلين:
أما الأمر بالتوكل والحث عليه، فقد
قال تعالى :﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ
وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران:122)،
وقال :﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ)(آل عمران: من الآية159)، وقال :﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ
مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران:160)،
وقال :﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)
(النساء:81)، وقال:﴿ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ
فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
(المائدة:23)، وقال :﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (لأنفال:61)، وقال
:﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51)، وقال :﴿
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (التوبة:129)، وقال :﴿
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ
تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) (يونس:84)، وقال :﴿ فَقَالُوا
عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) (يونس:85)، وقال :﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (هود:123)، وقال :﴿
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ
بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً) (الفرقان:58)، وقال :﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (النمل:79)، وقال :﴿
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) (الأحزاب:3)، وقال :﴿
وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) (الأحزاب:48)
وأما الثناء على المتوكلين، وتبيان
ما لهم عند الله، فقد قال تعالى :﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ
الأَحْزَابَ قَالُوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ الله
وَرَسُولُهُ، وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيْماناً وَتَسْلِيماً﴾ (الأحزاب:22)،
وقال:﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ (173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ
يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)﴾
(آل عمران)، وقال :﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْراً)(الطلاق: من الآية3)، وقال :﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل:99)
قلت: هذا الشاهد الأول .. فهات
الشاهد الثاني.
قال: لقد ورد في السنة ـ التي هي
بيان للقرآن الكريم ـ الكثير من النصوص التي تحث على التوكل، وتبين فضل أهله، وما
عد لهم من جزاء عند الله:
ومن ذلك ما حدث به ابن عباسٍ ـ رضي
الله عنه ـ قال: قال رسول الله صل :( عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط[116]، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحدٌ إذ رفع لي
سوادٌ عظيمٌ فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت
فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي: هذه
أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذابٍ)، ثم نهض فدخل منزله،
فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذابٍ، فقال بعضهم: فلعلهم
الذين صحبوا رسول الله r، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله
شيئاً ـ وذكروا أشياء ـ فخرج عليهم رسول الله r، فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه فقال: (هم الذين لا يرقون،
ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، فقام عكاشة بن محصنٍ فقال: ادع الله
أن يجعلني منهم، فقال: (أنت منهم)، ثم قام رجلٌ آخر فقال: ادع الله أن يجعلني
منهم، فقال: (سبقك بها عكاشة)[117]
انظر هذا الفضل العظيم الذي أعده
الله للمتوكلين .. إنهم من دون الناس .. يدخلون الجنة من غير حساب .. وذلك لأنهم
لم يثقوا إلا في الله، فحطت ثقتهم في الله عنهم أوزارهم، فراحوا إلى الجنة من غير
حساب ولا عذاب.
وفي حديث آخر عن ابن عباسٍ ـ رضي
الله عنه ـ أن رسول الله r كان يقول: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت،
وبك خاصمت. اللهم أعوذ بعزتك؛ لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا تموت،
والجن والإنس يموتون)[118] متفقٌ عليه.
وعنه قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل،
قالها إبراهيم r حين ألقي في النار، وقالها محمدٌ r حين قالوا :﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ﴾(آل عمران: من الآية173)[119]
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن
النبي r قال: (يدخل الجنة أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطير)[120]، وهو كناية عن توكلهم.
وعن جابرٍ ـ رضي الله عنه ـ أنه غزا
مع النبي r قبل نجدٍ، فلما قفل رسول الله r قفل معهم، فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول الله r،
وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله r تحت سمرةٍ، فعلق بها سيفه، ونمنا نومةً، فإذا رسول الله r
يدعونا، وإذا عنده أعرابيٌ فقال: (إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائمٌ، فاستيقظت وهو
في يده صلتاً، قال: من يمنعك مني ؟ قلت: الله ـ ثلاثاً ـ )، ولم يعاقبه وجلس[121].
وعن البراء بن عازبٍ ـ رضي الله عنه
ـ قال: قال رسول الله r : (يا فلان إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت
وجهي إليك: وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا
منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت؛ فإنك إن مت من
ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيراً)[122]
وعن أبي بكرٍ الصديق ـ رضي الله عنه
ـ قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله
لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال: (ما ظنك يا أبا بكرٍ باثنين الله
ثالثهما)[123]
وعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن
النبي r كان إذا خرج من بيته قال: (بسم الله، توكلت على
الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل
أو يجهل علي)[124]
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال
رسول الله r :( من قال ـ يعني إذا خرج من بيته ـ : بسم الله توكلت على الله،
ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هديت وكفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان)[125]
وعنه ـ رضي الله عنه ـ قال: كان
أخوان على عهد النبي r ، وكان أحدهما يأتي النبي r، والآخر يحترف، فشكا المحترف أخاه للنبي r، فقال: (لعلك ترزق به)[126]
قلت: قبلت كل هؤلاء الشهود .. وما
كان لي أن أعرض عنهم .. ولكني بين قوم اختلفوا في التعامل مع هذه النصوص المقدسة،
فمنهم من راح يفسر التوكل بالاستغراق في التوحيد ونبذ الأسباب، واعتبار الأخذ بها
قدحا في التوكل.
ومنهم من راح يستغرق في الأسباب،
ويؤول هذه النصوص، ويحملها على محامل تنفي التوحيد، وتجعل من التوكل مجرد اسم لا
حقيقة وجودية له.
قال: إن من قرأ هذه النصوص بإيمان
وصدق ويقين فهم التوكل على الله حق فهمه، فلم يجنح به إلى أي جهة من الجهات .. لا
جهة الإفراط، ولا جهة التفريط .. وهذا ما أحوج أهل الله لبناء هذا المنزل، ووضع
الأسوار التي تحيط به، والتي تمنع دخول المتطفلين إليه.
قلت: فما ذكروا من هذه الأسوار؟
قال: قال: أنت تعلم أن الغزالي أبا
حامد .. ذلك الجبل الهمام من جبال أهل الله .. جمع كل ما ذكره الأولياء والعارفون
.. وما ورد في النصوص المقدسة .. من مقامات العارفين المحققين .. وقد جمع شتاتها
ووضع لها من الأصول والفروع ما حولها علما من العلوم، له من الدقة والتحقيق ما
لسائر العلوم.
قلت: فما قال في هذا؟
قال: لقد ذكر أن التوكل ـ كسائر
المقامات ـ ينتظم من علم، وحال، وعمل.
قلت: فما العلم المرتبط
بالتوكل؟
قال: التوحيد .. كل مقامات التقديس
تبدأ بالتوحيد، وتنتهي به.
قلت: فما التوحيد الذي لا يصير
المتوكل متوكلا إلا بتعلمه؟
قال: هو ما وردت به الأذكار من قوله r
:( من قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله
الحمد، وهو على كل شيء قدير( في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة
حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت
أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)[127]
قلت: لقد وردت
النصوص الكثيرة تحث على هذا الذكر، وتبين فضله.
قال: إن هذا
الذكر العظيم يحتوي على مجامع العلوم التي يقوم عليها بنيان التوكل: فالتوكل ينبني
على التوحيد الذي يترجمه قولك: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، والإيمان
بالقدرة التي يترجم عنها قولك (له الملك)، والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه
قولك (وله الحمد)
ولذلك من قال
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) تم له
الإيمان الذي هو أصل التوكل.
قلت: ما أكثر
من يقول هذا، ولكني لا أرى عليه حال المتوكلين.
قال: ليس القول
قول اللسان وحده .. القول ما قال الفؤاد .. ولذلك، فقد ذكر أهل الله أن للتوحيد ـ
الذي هو منبع التوكل وأصله ـ أربع مراتب، وهو بذلك ينقسم كالجوز إلى لب، وإلى لب
اللب، وإلى قشر، وإلى قشر القشر.
فالرتبة
الأولى من التوحيد: هي أن يقول الإنسان بلسانه (لا إله إلا الله)، وقلبه غافل عنه
أو منكر له كتوحيد المنافقين.
والثانية: أن
يصدق بمعنى اللفظ قلبه، كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام.
والثالثة: أن يشاهد
ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة،
ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار.
والرابعة: أن
لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين، حيث لا يرى إلا واحداً ..
ويطلق عليه أهل الله لقب (الفناء)
قلت: الفناء !؟
.. دخلنا في الهرطقات .. هذا ما كنت أحذر منه؟
قال: لا تستعجل
.. فليس الفناء ما يفهمه المتطرفون الموغلون في الحس .. فناء أهل الله فناء أرقى
وأطهر وأنبل ..
لقد ذكره سيد
ببيانه البليغ، فقال في بيانه لما تمتلئ به النفس من معاني قوله تعالى :﴿ هُوَ
الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
(الحديد:3) :( وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري
وتفيض، حتى تطالعه حقيقة أخرى، لعلها أضخم وأقوى: حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا
الوجود على الحقيقة، فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه؛ ومن ثم فهي
محيطة بكل شيء، عليمة بكل شيء ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (الحديد:3)
ويقول عن المعاني التي يستشعرها، وهو
يعيش في ظلال هذه الأسماء :( الأول فليس قبله شيء . والآخر فليس بعده شيء .
والظاهر فليس فوقه شيء . والباطن فليس دونه شيء .. الأول والآخر مستغرقا كل حقيقة
الزمان، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان . وهما مطلقتان، ويتلفت القلب
البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله . وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه
. حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله . فهذا الوجود الإلهي
هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده . وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى
التي يستمد منها كل شيء حقيقته . وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في
هذا الوجود)[128]
وقال في المعاني التي يعيشها العارف،
وهو يستظل بظلال قوله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾
(الاخلاص:1):( إنها أحدية الوجود .. فليس هناك حقيقة إلا حقيقته .. وليس هناك وجود
حقيقي إلا وجوده . وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمد
حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية )[129]
قلت: لقد رأيت بعضهم يتهم سيدا بوحدة
الوجود بسبب قوله هذا.
قال: فليتهم ابن القيم وابن تيمية
أيضا حتى لا يكون من الذين يكيلون بالمكاييل المختلفة؟
قلت: هو يزعم أنه يستمد منهما، فكيف
يتهمهما؟
قال: فأخبره بأن ابن القيم قال في
(مدارج السالكين) عند حديثه عن منزلة الفناء :( الفناء ضد البقاء، والباقي إما باق
بنفسه من غير حاجة إلى من يبقيه، بل بقاؤه من لوازم نفسه وهو الله تعالى وحده، وما
سواه فبقاؤه ببقاء الرب، وليس له من نفسه بقاء، كما أنه ليس له من نفسه وجود،
فإيجاده وإبقاؤه من ربه وخالقه، وإلا فهو ليس له من نفسه إلا العدم، قبل إيجاده
والفناء بعد إيجاده)[130]
ويرفع توهم أن المراد بأن نفسه وذاته
اقتضت عدمه وفناءه بقوله :( إنما الفناء أنك إذا نظرت إلى ذاته بقطع النظر عن
إيجاد موجده له كان معدوما، وإذا نظرت إليه بعد وجوده مع قطع النظر عن إبقاء موجده
له استحال بقاؤه، فإنه إنما يبقى بابقائه كما أنه إنما يوجد بإيجاده فهذا معنى
قولنا إنه بنفسه معدوم وفان فافهمه )[131]
أما ابن تيمية، فتحدث في رسائلة
كثيرا عن هذه الحال، وإن كان يعيب عليه نقصه عن الكمال، وهو يتفق في ذلك مع كل من
تحدث عن هذا الحال...
يقول في مجموع الفتاوى:( الفناء الذي
يوجد فى كلام الصوفية يفسر بثلاثة أمور: أحدها فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب
والتوكل عليه وعبادته وما يتبع ذلك، فهذا حق صحيح وهو محض التوحيد والإخلاص، وهو
فى الحقيقة عبادة القلب وتوكله واستعانته وتألهه وإنابته وتوجهه إلى الله وحده
لاشريك له، وما يتبع ذلك من المعارف والأحوال، وليس لأحد خروج عن هذا، وهذا هو
القلب السليم الذي قال الله فيه :﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ ﴾ (الشعراء:89)، وهو سلامة القلب عن الإعتقادات الفاسدة ومايتبع
ذلك.
وهذا الفناء لاينافيه البقاء، بل
يجتمع هو والبقاء، فيكون العبد فانيا عن إرادة ما سواه وإن كان شاعرا بالله
وبالسوى وترجمته قول (لا إله إلا الله)، وكان النبى r يقول :( لا اله الا الله ولا نعبد
إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن) وهذا فى الجملة هو أول الدين
وآخره.
الأمر الثانى فناء القلب عن شهود ما
سوى الرب، فذاك فناء عن الإرادة، وهذا فناء عن الشهاده، ذاك فناء عن عبادة الغير
والتوكل عليه، وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه، فهذا الفناء فيه نقص، فإن
شهود الحقائق على ما هي عليه، وهو شهود الرب مدبرا لعباده آمرا بشرائعه أكمل من
شهود وجوده أو صفة من صفاته أو اسم من أسمائه، والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك)[132]
وقال في موضع آخر :( ... وهذا فناء
عن ذكر السوى وشهوده وخطوره بالقلب، وهذا حال ناقص يعرض لبعض السالكين، ليس هو
الغاية، ولا شرطا في الغاية، بل الغاية الفناء عن عبادة السوى ... وهو حال ابراهيم
ومحمد الخليلين ـ صلى الله عليهما وسلم ـ فإنه قد ثبت في
الصحاح عن النبي r من غير وجه أنه
قال :( إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا)[133].. وحقيقة هذا الفناء هو تحقيق الحنيفية، وهو إخلاص الدين لله وهو
أن يفني بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه، وبطاعته عن طاعة
ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبالحب فيه والبغض فيه عن الحب فيما سواه
والبغض فيه، فلا يكون لمخلوق من المخلوقين لا لنفسه ولا لغير نفسه على قلبه شركة
مع الله تعالى)[134]
فهذه النصوص وغيرها تدل على أن حال
الفناء الذي تحدث عنه أهل الله حال معتبر عند هذين العالمين الجليلين، وأن ما
يدعيه من يدعي صحبتهما من الدعاوى لا دليل عليه، وهو محض أحقاد تمتلئ بها النفوس،
لا علم معتبر يمكن أن يناقش.
قلت: ولكنه ذكر نقص هذه الحال.
قال: المتوقف عند هذه الحال والمستلذ
لها لا شك في نقصه .. فهو قد انقطع به الطريق ... أو لم يفهم الغاية منه ...
فالخالع للكون الفاني لن يفهم مراد الله من رسائل الكون حتى يعيد لبسه من جديد،
باسم الله، لا باسمه الذي لا وجود له.
ولكن استنقاص العارفين المتحدثين عن
هذه الحال غير صحيح ... ومقارنتهم في ذلك بالسلف الصالح من الصحابة وغيرهم،
واعتبار كلامهم بدعة بسبب ذلك أبعد عن الصواب.
ذلك أن الكلام في هذه المسألة يشبه
الكلام في التفسير والفقه ... وغيرها من علوم الشريعة.
فكلام المفسر في تفسير غريب القرآن
ربما يكون بدعة لم يخض فيها السلف، لا لكونها بدعة، ولكن لكون ذلك الغريب كان
مشهورا غير غريب عندهم.
والكلام في دقائق الفقه، وتقسيمه إلى
سنن وفرائض وموانع وأسباب وغير ذلك بدعة بالنسبة لفقهاء الصحابة ... فلم تدعهم
الحاجة في وقتهم إلى مثل هذه المصطلحات.
وهكذا الأمر في هذا الباب ...
فأهل الله الذين اختصوا بالبحث في
هذا الجانب، ودرسوا الأحوال التي يمر بها السالك في رحلته إلى الله لاحظوا هذه
المرحلة الخطيرة والمهمة، فلذلك تحدثوا عنها بصنوف من الأحاديث ...
منها ما يرغب فيها، ويعتبرها قمة من
قمم السلوك ... وهو صحيح ... لأن من وصل إليها بدأ البداية الصحيحة ... والبداية
الصحيحة لابد أن توصل إلى النهاية الصحيحة.
وليس ذلك نقصا ... وليس القيام بأداء
ظواهر العبودية أكمل من هذا ...
ذلك أن تلك الظواهر قد يقوم بها من
لا حال له، بل من لا إيمان له.
أما كلام العارفين فهو في أحوال الباطن،
وهي أحوال دقيقة تستدعي تفاصيل دقيقة، كتلك التفاصيل التي يتحدث فيها الفقهاء عن
دقائق الفقه، ما يقع منها وما لا يقع.. ولم يقل أحد من الناس أن كلام الفقهاء في
هذا قصور عن درجة الصحابة.
ولكن العارفين مع هذا ينبهون إلى
السالكين إلى عدم الوقوف مع أي حال، وهم يرددون لهم في كل حين قوله تعالى :﴿
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنْتَهَى ﴾ (النَّجم:42)
قلت: هذا العلم .. فحدثني عن الحال؟
وبما أنه حال
قلبي، فقد اختلفت عبارات أهل الله في التعبير عنه .. أما سرى السقطى، فقال:(
التوكل: الانخلاع من الحول والقوة)
وأما ابن
مسروق، فقال :( التوكل: الاستسلام لجريان القضاء فى الأحكام)
وقال سهل :
(التوكل: الاسترسال بين يدى الله تعالى)
وقال أبوعبد
الله القرشى :( التوكل: ترك الإيواء إلا إلى الله)
وقال أبو أيوب
:( التوكل: طرح البدن فى العبودية، وتعلق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى
الكفاية)
وقال الجنيد :(
حقيقة التوكل أن يكون لله تعالى كما لم يكن، فيكون الله له كما لم يزل)
وقال الشبلى :(
التوكل كدية حسنة)
ولم يستطع
آخرون أن يعبروا عن حالهم، فقالوا:( التوكل سر بين العبد وبين الله)
قلت: وما قال
لسان التحقيق في هذا؟
قال: تقصد أبا
حامد؟
قلت: أجل ..
ألم تذكر أنه حقق كلام أهل الله، وصنفه ورتبه على أساليب المتكلمين؟
قال: أجل ..
وقد بدأ في وصفه من اشتقاقه .. فالتوكل مشتق من الوكالة، يقال: وكَّل أمره إلى
فلان أي فوضه واعتمد عليه فيه، ويسمى الموكول إليه وكيلاً، ويسمى المفوض إليه
متكلاً عليه ومتوكلاً عليه مهما اطمأنت إليه نفسه ووثق به، ولم يتهمه فيه بتقصير
ولم يعتقد فيه عجزاً وقصوراً، فالتوكل ـ بهذا ـ عبارة عن اعتماد القلب وعلى الوكيل
وحده.
وقد ضرب لهذا
مثلا بالوكيل في الخصومة، فقال: من ادعى عليه دعوى باطلة بتلبيس، فوكل للخصومة من
يكشف ذل التلبيس لم يكن متوكلاً عليه ولا واثقاً به ولا مطمئن النفس بتوكيله إلا
إذا اعتقد فيه أربعة أمور: منتهى الهداية، ومنتهى القوة، ومنتهى الفصاحة، ومنتهى
الشفقة.
أما الهداية،
فليعرف بها مواقع التلبيس حتى لا يخفى عليه من غوامض الحيل شيء أصلاً.
وأما القدرة
والقوة، فليستجرئ على التصريح بالحق، فلا يداهن ولا يخاف ولا يستحي ولا يجبن،
فإنه ربما يطلع على وجه تلبيس خصمه فيمنعه الخوف أو الجبن أو الحياء أو صارف آخر
من الصوارف المضعفة للقلب عن التصريح به.
وأما الفصاحة،
فهي ـ أيضاً ـ من القدرة في اللسان على الإفصاح عن كل ما استجرأ القلب عليه وأشار
إليه: فلا كل عالم بمواقع التلبيس قادر بذلاقة لسانه على حل عقدة التلبيس.
وأما منتهى
الشفقة، فيكون باعثاً له على بذل كل ما يقدر عليه في حقه من المجهود، فإن قدرته
لا تغني دون العناية به إذا كان لا يهمه أمره ولا يبالي به ظفر خصمه أو لم يظفر
هلك به حقه أو لم يهلك.
فإن كان شاكاً
في الأربعة، أو في واحدة منها، أو جوز أن يكون خصمه في هذه الأربعة أكمل منه، لم
تطمئن نفسه إلى وكيله، بل بقي منزعج القلب، مستغرق الهم بالحيلة والتدبير ليدفع
ما يحذره من قصور وكيله وسطوة خصمه، ويكون تفاوت درجة أحواله في شدة الثقة
والطمأنينة بحسب تفاوت قوة اعتقاده لهذه الخصال فيه.
وبما أن الاعتقادات
والظنون في القوة والضعف تتفاوت تفاوتا لا ينحصر، فلا جرم تتفاوت أحوال المتوكلين
في قوة الطمأنينة والثقة تفاوتاً لا ينحصر إلى أن ينتهي إلى اليقين الذي لا ضعف
فيه، كما لو كان الوكيل والد الموكل، وهو الذي يسعى لجمع الحلال والحرام لأجله،
فإنه يحصل له يقين بمنتهى الشفقة والعناية، فتصير خصلة واحدة من الخصال الأربعة
قطعية، وكذلك سائر الخصال يتصور أن يحصل القطع به، وذلك بطول الممارسة والتجربة
وتواتر الأخبار بأنه أفصح الناس لساناً وأقدرهم بياناً على نصرة الحق بل على
تصوير الحق بالباطل والباطل بالحق.
قلت: هذا مثال
جيد .. وهو أيسر فهما على قومي، فهم كثيرا ما يحتاجون إلى توكيل المحامين .. وهم
لا يطلبون منهم إلا من تحققت له الكمالات التي تهيئه لهذه الوظيفة .. وهم في أحيان
كثيرة يقتنعون بدون ما ذكره الغزالي بكثير.
قال: إذا عرفت
هذا، فقس عليه التوكل على الله تعالى، فإن ثبت في نفسك اعتقاد جازم أنه لا فاعل
إلا الله ـ كما علمت في الركن الأول من أركان التوكل ـ واعتقدت ـ مع ذلك ـ تمام
العلم والقدرة على كفاية العباد، ثم تمام العناية والعطف والرحمة بجملة العباد
والآحاد، وأنه ليس وراء منتهى قدرته قدرة، ولا وراء منتهى علمه علم، ولا وراء
منتهى عنايته بك ورحمته لك عناية ورحمة، اتكل لا محالة قلبك عليه وحده، ولم يلتفت
إلى غيره بوجه ولا إلى نفسه وحوله وقوته، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
قلت: ما بال
الناس .. كلهم يعتقدون ما ذكرت .. ولكنهم لا يجدون ما تذكر من أحوال؟
قال: لقد أعاد
الغزالي ذلك إلى أحد أمرين: إما ضعف اليقين بإحدى هذه الخصال الأربعة، وإما ضعف
القلب ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه، فإن القلب
قد ينزعج تبعاً للوهم وطاعة له عن غير نقصان في اليقين، فإن من يتناول عسلاً،
فشبه بين يديه بنجاسة ربما نفر طبعه وتعذر عليه تناوله مع كونه عسلا.
ولهذا، فإن
التوكل لا يتم إلا بقوة القلب، وقوة اليقين جميعاً، إذ بهما يحصل سكون القلب
وطمأنينته، فالسكون في القلب شيء، واليقين شيء آخر، فكم من يقين لا طمأنينة معه
كما قال تعالى لإبراهيم u
:﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾
(البقرة: من الآية260)، فالتمس أن يكون مشاهداً إحياء الميت بعينه ليثبت في
خياله، فإن النفس تتبع الخيال وتطمئن به ولا تطمئن باليقين في ابتداء أمرها إلى
أن تبلغ بالآخرة إلى درجة النفس المطمئنة؛ وذلك لا يكون في البداية أصلاً، وكم من
مطمئن لا يقين له.
قلت: علمت هذا،
وأيقنت به .. فما درجات الناس فيه؟
قال: كثيرة ..
لا يمكن حصرها .. ولكن مجامعها التي ذكرها الغزالي ثلاث:
أما الدرجة
الأولى، فما وصفته لك من توكيل المخاصمين للمحامين، وثقتهم فيهم، فيكون حاله في حق
الله تعالى والثقة بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل.
وأما الدرجة
الثانية، وهي أقوى: فهي أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه، فإنه لا
يعرف غيرها، ولا يفزع إلى أحد سواها، ولا يعتمد إلا عليها، فإذا رآها تعلق في كل
حال بذيلها ولم يخلها، وإن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق إلى لسانه: (يا أماه)،
وأول خاطر يخطر في قلبه، فإنها مفزعة، لأنه قد وثق بكفالتها وكفايتها وشفقتها ثقة
ليست خالية عن نوع إدراك بالتمييز الذي له .. فمن كان باله إلى الله عز وجل ونظره
إليه واعتماده عليه كلف به كما يكلف الصبي بأمه فيكون متوكلاً حقاً: فإن الطفل
متوكل على أمه، والفرق بين هذا وبين الأول: أن هذا متوكل وقد فني في توكله عن
توكله، إذ ليس يلتفت قلبه إلى التوكل وحقيقته، بل إلى المتوكل عليه فقط، فلا مجال
في قلبه لغير المتوكل عليه، وأما الأول فيتوكل بالتكلف والكسب، وليس فانياً عن
توكله، لأن له التفاتاً إلى توكله وشعوراً به، وذلك شغله صارف عن ملاحظة المتوكل
عليه وحده.
وإلى هذه
الدرجة أشار سهل حيث سئل عن التوكل: ما أدناه؟ قال: ترك الأماني، قيل: وأوسطه؟ قال
ترك الاختيار، وهو إشارة إلى الدرجة الثانية، وسئل عن أعلاه فلم يذكره وقال: لا
يعرفه إلا من بلغ أوسطه.
أما الدرجة
الثالثة وهي أعلى الدرجات، فهي أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته مثل
الميت بين يدي الغاسل، لا يفارقه إلا في أنه يرى نفسه ميتاً تحركه القدرة الأزلية
كما تحرك يد الغاسل الميت، وهو الذي قوي يقينه بأن الله تعالى هو مجري الحركة
والقدرة والإرادة والعلم وسائر الصفات ..
قلت: فما الفرق
بين هذا والذي قبله؟
قال: فرق عظيم
.. فالصبي يفزع إلى أمه ويصيح ويتعلق بذيلها ويعدو خلفها، أما هذا، فهو مثل صبي
علم أنه وإن لم يزعق بأمه، فالأم تطلبه، وأنه وإن لم يتعلق بذيل أمه، فالأم تحمله،
وإن لم يسألها اللبن فالأم تفاتحه وتسقيه.
قلت: إن ما وصل
إليه الغزالي من تحقيقه في التوكل جعل نهايته هي نهاية المفرطين الذين انشغلوا
بالله عن الأسباب .. فراحوا يتركون الأسباب انشغالا بالله.
قال: أهل الله
أعمق علما، وأحكم حكمة من أن يقعوا في مثل هذه المهالك ..
إن ما ذكره
الغزالي وجميع أهل الله من هذه الحال العظيمة لا يعني ما ذكرت .. إنها أحوال
إيمانية يمتلئ بها القلب .. أما الجوارح، فإنها لا تترك ما أنيط بها من وظائف ..
بل هي تؤديها عبودية خالصة لله .. وهي تعلم أن الله هو الفاعل والمؤثر ..
لقد قال
الغزالي عند ذكره لأعمال
المتوكلين :( اعلم أن
العلم يورث الحال، والحال يثمر الأعمال، وقد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن
وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة، وكاللحم على الوضم، وهذا ظن
الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكلين، فكيف ينال مقام من
مقامات الدين بمحظورات الدين؟)[135]
وقبله قال
الحكيم الترمذى (ت:320هـ) فيمن ترك الطلب والسعى، وتواكل بحجة أن الرزق يطلب العبد
كما يطلبه أجله:( إن كانوا قعدوا ينبغى لهم أن يقوموا وأن يطلبوا، تحرزا من الطمع
وفساد القلب، فلا يضيع حق الزوجة والولد، برغم أن أرزاقهم على اللَّه، فهذا تارك
للسبيل والسنة، لقوله تعالى :﴿ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ (البقرة: من الآية233)[136]
وقبلهما قال
سهل بن عبد اللَّه (ت:293هـ):( من طعن فى الحركة ، فقد طعن فى السنة، ومن طعن فى
التوكل فقد طعن فى الإيمان، والتوكل حال النبى r،
والكسب سنته، فمن بقى على حاله فلا يتركن سنته)[137]
قلت: إن ما
ذكرته عن الغزالي وهؤلاء الأولياء الكبار عظيم، وهو يفند كل شبهة في هذا الباب ..
ولكني مع ذلك سمعت أن بعض من ينسب لأهل الله يقعون في أعمال من ترك الأسباب، وهم
يفسرون بها التوكل، ويسيئون إليه أعظم إساءة.
قال: ولذلك بنى
أهل الله هذا المنزل، ليدخلوا المريدين فيه إلى ممالك التوكل، ويحموهم من مهالكه
.. وهذا الذي ذكرته من مهالكه.
لم أجد إلا أن أسرع
إلى هذا المنزل المبارك، فأدخله، ويدخل معي إليه شيخي فيه ومرشدي (الخواص) ، وقد
رأيته منزلا ممتلئا بالبركات، وفيه من أنوار الإيمان واليقين، ومن حقائق السلام
والسكينة ما لا يمكن للسان أن يعبر عنه.
مكثت مدة في منزل التوكل أتتلمذ على
أهله، وأتدرب على أيديهم، وأحصل من العلوم ما أحتاج إليه لتحقيقه، حتى سكنت إليه
سكونا كليا، وقلت في نفسي :( هذه هي داري التي كنت أبحث عنها، وفيها يطيب مقامي)
ما قلت ذلك في نفسي حتى جاءني أمر من
شيخي (أبي مدين) يطلب مني أن أذهب إلى صاحبي السادس (الجنيد)، لأترقى على يديه إلى
مقام (الشكر)، وأنزل منزله.
لم أجد إلا أن ألبي أمر شيخي .. فسرت
إلى الجنيد الذي كان ينتظرني، وكأني معه على ميعاد، فما إن اقتربت منه حتى قال لي:
هيا بنا إلى منزل الشكر .. فلا سار من لم ينزل ذلك المنزل ..
قلت: إن السائرين إذن قليل.. فقد قال
الله تعالى :﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سـبأ: من الآية13)؟
قال: الواصلون قليل .. أما السائرون
.. فمنهم من يسير إلى منازل الملك، ومنهم من يسقط في مهاوي الهلك.
قلت: فما العاصم الذي يعصمنا من
الهلك؟
قال: من تمسك بالملك، وبمن يرسله الملك،
فلم يخطو خطوة إلا بحسب إشارته، وبعد إذنه وصل لا محالة إلى منازل الملك، ومن
امتلأت نفسه بالأهواء، فراح يعرض عن رسول الملك، فإنه لا محالة سيقع في مهاوي
الهلك.
قلت: ذكرتني بالشهود العدول ..
فحدثني عن الشهود العدول الذي يشهدون لهذا
المنزل.
قال: أما القرآن الكريم .. فقد تحدث
عن الشكر آمرا وحاثا، كما تحدث عنه مثنيا ومرغبا:
أما حديثه عن الشكر آمرا وحاثا، فمنه
قوله تعالى :﴿ :﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا
تَكْفُرُونِ) (البقرة:152)، وقوله :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة:172)، وقوله :﴿ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ) (النحل:114)
وأخبر تعالى أن الغرض من تصريف
الآيات وبث النعم هو لفت القلوب إلى شكر مولاها، فقال :﴿ وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ
إِلَّا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (لأعراف:58)،
وقال :﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ
تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (لأنفال:26)، وقال:﴿
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
(البقرة:52)، وقال:﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:56)، وقال:﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ
بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل
عمران:123)، وقال:﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ
وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً) (النساء:147)، وقال :﴿
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ
الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (البقرة:243)،
وقال :﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا
مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ) (لأعراف:10)، وقال :﴿ وَمَا ظَنُّ
الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ
لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (يونس:60)،
وقال:﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً
طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ
مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
(النحل:14)، وقال :﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ
لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:78)، وقال :﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ
لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ)
(المؤمنون:78)، وقال:﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (النمل:73)، وقال :﴿ وَمِنْ
رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (القصص:73)، وقال :﴿
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ
رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الروم:46)، وقال :﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ
فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ
قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ) (السجدة:9)، وقال :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ
هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى
الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
(فاطر:12)، وقال :﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا
فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (غافر:61)، وقال :﴿ اللَّهُ
الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الجاثـية:12)
ومثل نعم الله الكونية نعمه
التشريعية، فالغرض منها ـ أيضا ـ كالغرض من نعم الله الكونية، وهو تحريك القلب
لشكر الله، قال تعالى عن الصيام :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ
فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:185)، وقال عن الطهارة:﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ
أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً
طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة:6)، وقال عن أحكام
اليمين:﴿ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة:89)، وقال
عن المناسك :﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا
وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ
كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الحج:36)
وأخبر أن هذا هو مقام أهل الله من
أنبياء الله ورسله وأوليائه، قال تعالى عن إبراهيم u :﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (ابراهيم:37)، وقال عن يوسف u
:﴿ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا
كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (يوسف:38)،
وقال عن سليمان u :﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى
وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي
عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل:19)، وقال عنه :﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ
عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ
طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي
لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40)، وقال عن
لقمان u :﴿ )وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ
لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ
اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان:12)
وأخبر عن الفضل العظيم الذي خصصه
لأهل هذا المنزل العظيم، فقال :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ
شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)
(ابراهيم:7)
قلت: هذا الشاهد الأول .. وهو الشاهد الأعظم ..
فحدثني عن الشاهد الثاني، ذلك ﴿ الذي مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ (النجم)؟
قال: لقد وردت الروايات الكثيرة تحدث
عن دعوة النبي r ـ بفعله وقوله ـ لهذا المقام العظيم من مقامات الدين .. ففي
الحديث قال r :( من أكل من طعام، فقال: الحمد لله الذي أطعمتني هذا ورزقنيه من
غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوبا جديدا فقال: الحمد لله
الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)[138]
وروي أن عمر ـ رضي الله عنه ـ لبس
ثوبا جديدا، فقال :( الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في
حياتي)، ثم قال سمعت رسول الله r يقول:( من ليس ثوبا جديدا، فقال: الحمد لله الذي كساني ما أواري
به عورتي، وأتجمل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الذي خلق فتصدق به، كان في كنف
الله، وفي حفظ الله، وفي ستر الله حيا وميتا)[139]
وفي حديث آخر، قال رسول الله r
:( ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من الله إلا كتب الله له شكرها قبل أن
يحمده عليها، وما أذنب عبد ذنبا فندم عليه إلا كتب الله له مغفرته قبل أن يستغفره،
وما اشترى عبد ثوبا بدينار أو نصف دينار فلبسه فحمد الله عليه إلا لم يبلغ ركبتيه حتى
يغفر الله له)[140]
وقال رسول الله r :( كل أمرٍ ذي
بالٍ لا يبدأ فيه بـ: الحمد لله، فهو أقطع)[141]
وقال رسول الله r : (
إذا
مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول:
قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع
فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد)[142]
وقال رسول الله
r :( إن الله ليرضى
عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة، فيحمده عليها)[143]
وقال رسول الله
r :( خصلتان من
كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا
، من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به ، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد
الله على ما فضله به عليه كتبه الله شاكرا صابرا ، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه
، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فاسف على ما فاته منه لم يكتبه الله لا شاكرا ولا
صابرا)[144]
وقال r :( الطاعم الشاكر
بمنزلة الصائم الصابر)[145]
وقال r :( قال الله تعالى : يا ابن آدم إنك ما ذكرتني شكرتني وإذا ما
نسيتني كفرتني)[146]
وقال r :( قال موسى يا رب كيف شكرك ابن آدم ؟ فقال : علم أن ذلك مني ،
فكان ذلك شكره)[147]
وقال r :( قلب شاكر ولسان ذاكر وزوجة صالحة تعينك على أمور دنياك ودينك
خير ما اكتنز الناس)[148]
وقال r :( لأنا أشد عليكم خوفا من النعم مني من الذنوب ، ألا إن النعم
التي لا تشكر هي الحتف القاضي)[149]
وقال r :( هذا والذي نفسي بيده ، من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة
: ظل بارد ، ورطب طيب ، وماء بارد)[150]
وقال r :( إن عبدا من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال
وجهك ولعظيم سلطانك ، فأعضلت بالملكين ، فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء
، فقالا : يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها؟ فقال الله عزوجل ـ
وهو أعلم بما قاله عبده ـ: ماذا قال عبدي ؟ قالا : يا رب إنه قد قال : يا رب لك
الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك ، فقال الله لهما : اكتباها كما قال
عبدي حتى يلقاني عبدي فأجزيه بها)[151]
قلت: عرفت فضل الشكر .. فقد ملأتنا
هذه النصوص المقدسة ترغيبا فيه .. فما هو الشكر؟ .. هل هو تلك الكلمات التي تقولها
ألسنتنا، وقلوبنا غافلة عن معناها؟ .. أو هو معاني معينة في القلب .. وما هي تلك
المعاني؟ .. ولم حكم الله بقلة الشاكرين؟ .. ولم كانت لهم الزيادة دون غيرهم؟ ..
ولم كان هذا مقاما من مقامات التقديس؟ .. ولم..
قاطعني، وقال: رويدك .. ليس في هذا
المحل تتعلم هذه العلوم .. علوم الشكر لا تنال إلا في منازل الشكر.
قلت: لكني تعودت أن لا أدخل محلا حتى
أكون عارفا بأصوله .. فما أصوله؟
قال: لقد ذكر أهل الله ـ الذين مزجوا
بين الفهوم الراقية للنصوص المقدسة، مع التجربة الروحية العالية ـ هذه الأصول،
ورتبوها كما ترتب العلوم، فصار للشكر علما قائما بذاته له أصوله وفروعه وكل ما
يرتبط به من أحكام.
قلت: لكني لا أرى هذا العلم يدرس؟
قال: تلك الغفلة .. الغفلة التي جعلتنا
نهتم بنواقض الطهارة أكثر من اهتمامنا بنواقض الشكر.
قلت: فما الحل؟
قال: الرجوع إلى الورثة الذين عرفوا
هذا الدين .. وفهموه .. وعاشوه .. ثم ذهبوا بعد ذلك كله يملأون المصنفات نصحا
لعباد الله.
قلت: لقد حدثني من قبلك عن لسانهم
الغزالي في تحقيقاته، فهل تراك تحدثني كما حدثوني؟
قال: لا يمكن أن يتحدث أحد في هذا
الباب دون أن يذكر الغزالي .. فقد جمع كلام من سبقه في هذه المقامات، ونقحه وحققه
.. فصار كلامه شاملا لكل كلام، مهيمنا على كل كلام.
قلت: لقد ذكر لي من قبلك أن كل مقام
ينتظم من علم وحال وعمل.
قال: وهكذا الشكر .. فكل شيء ينتظم
من علم وحال وعمل ..
قلت: فما علم الشكر؟
قال: لقد ذكر الغزالي أنه ينتظم من
ثلاثة أمور: عين النعمة، ووجه كونها نعمة في حقه، وبذات المنعم ووجود صفاته التي
بها يتم الإنعام ويصدر الإنعام منه عليه.
قلت: هذا ما تقتضيه القسمة العقلية،
ذلك أنه في كل نعمة من النعم لابد من هذه الثلاثة: نعمة، ومنعم، ومنعم عليه تصل
إليه النعمة من المنعم بقصد وإرادة.
قال: هذا في الشكر عموما .. أما في
حق الله تعالى، فلا يتم الشكر إلا بأن يعرف أن النعم كلها من الله تعالى، وأنه هو
المنعم الوحيد، وأن الوسائط مسخرون من جهته.
وتتأسس هذه المعرفة على التقديس،
وذلك بأن يعرف أن الله هو القدوس، وأنه لا مقدس إلا واحد، وما عداه غير مقدس .. ثم
يعلم أن كل ما في العالم فهو موجود من ذلك الواحد فقط، فالكل نعمة منه، فتقع هذه
المعرفة في الرتبة الثالثة، إذ ينطوي فيها مع التقديس والتوحيد: كمال القدرة
والانفراد بالفعل.
وقد عبر رسول الله r
عن هذا، فقال:( من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر كتب له
بكل حرف عشر حسنات)[152]، وقال :( أفضل الذكر لا اله الا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله)[153]، وقال :( والحمد لله تملأ الميزان)[154]
فسبحان الله كلمة تدل على التقديس،
ولا إله إلا الله كلمة تدل على التوحيد، والحمد لله كلمة تدل على النعمة من
الواحد الحق .. والحسنات بإزاء هذه المعارف التي هي من أبواب الإيمان واليقين.
وتمام هذه المعرفة ينفي الشرك في
الأفعال، فمن أنعم عليه ملك من الملوك بشيء، فإن رأى لوزيره أو وكيله دخلاً في
تيسير ذلك وإيصاله إليه فهو إشراك به في النعمة، فلا يرى النعمة من الملك من كل
وجه، بل منه بوجه ومن غيره بوجه، فيتوزع فرحه عليهما فلا يكون موحداً في حق
الملك. نعم لا يغض من توحيده في حق الملك وكمال شكره أن يرى النعمة الواصلة إليه
بتوقيعه الذي كتبه بقلمه وبالكاغد الذي كتبه عليه، فإنه لا يفرح بالقلم والكاغد
ولا يشكرهما، لأنه لا يثبت لهما دخلاً من حيث هما موجودان بأنفسهما بل من حيث هما
مسخران تحت قدرة الملك.
وقد يعلم أن الوكيل الموصل والخازن
أيضاً مضطران من جهة الملك في الإيصال، وأنه لو رد الأمر إليه ولم يكن من جهة
الملك إرهاق وأمر جازم يخاف عاقبته لما سلم إليه شيئاً، فإذا عرف ذلك كان نظره
إلى الخازن الموصل كنظره إلى القلم والكاغد، فلا يورث ذلك شركاً في توحيده من
إضافة النعمة إلى الملك.
وهكذا، فكل من وصل إليك نعمة من الله
تعالى على يده فهو مضطر إذ سلط الله عليه الإرادة وهيج عليه الدواعي! وألقى في
نفسه أن خيره في الدنيا والآخرة أن يعطيك ما أعطاك، وأن غرضه المقصود عنده في
الحال والمآل لا يحصل إلا به.
وبعد أن خلق الله له هذا الاعتقاد
لا يجد سبيلاً إلى تركه، فهو إذن إنما يعطيك لغرض نفسه لا لغرضك، ولو لم يكن غرضه
في العطاء لما أعطاك، ولو لم يعلم أن منفعته في منفعتك لما نفعك، فهو إذن إنما
يطلب نفع نفسه فليس منعماً عليك بل اتخذك وسيلة إلى نعمة أخرى وهو يرجوها، وإنما
الذي أنعم عليك هو الذي سخره لك وألقى في قلبه من الاعتقادات والإرادات ما صار به
مضطراً إلى الإيصال إليك.
فإن عرفت الأمور كذلك فقد عرفت الله
تعالى وعرفت فعله، وكنت موحداً وقدرت على شكره، بل كنت بهذه المعرفة بمجردها
شاكراً، ولذلك قال موسى u في مناجاته :( إلهي خلقت آدم بيدك وفعلت فكيف شكرك؟) فقال الله
عز وجل: (علم أن كل ذلك مني فكانت معرفته شكراً)
قلت: وعيت هذا، فلا يشكر إلا من أفرد
الله بالشكر، واعتقد أن الخير كله بيده .. فما يثمر هذا من الأحوال؟
قال: لقد اختلفت تعابير أهل الله عن
تلك الحال اللذيذة التي يجدونها عند حصول هذه المعرفة في قلوبهم .. أما أبو على الروذبارى،
فراح ينشد:
لو كل جارحة منى لها لغة |
تثنى عليك بما أوليت من حسن |
لكان ما زاد شكرى إذ شكرت به |
إليك أزيد فى الإحسان والمنن |
ومثله أبو الحسن النورى الذي قال:
سأشكر لا أنى لا أجازيك منعما |
بشكرى ولكن كى يقال له الشكر |
وأذكر أيامى لديك وحسنها |
وآخر ما يبقى على الشاكر الذكر |
وقال يحيى بن معاذ :( لست بشاكر
مادمت تشكر، وغاية الشكر التحير، وذلك أن الشكر نعمة من الله يجب الشكر عليها وهذا
لا يتناهى)
وقال حمدون القصار :( شكر النعمة أن
ترى نفسك فيها طفيليا)
وقال أبو عثمان :( الشكر معرفة العجز
عن الشكر)
وقال الجنيد :( الشكر أن لا ترى نفسك
أهلا للنعمة)
قلت: فما قال لسان التحقيق؟
قال: لقد ضرب مثالا مقربا لحال
الشاكر، ومنه يمكن تقسيم أحوال الشاكرين ودرجاتهم، فذكر أن الملك الذي يريد الخروج
إلى سفر، فيهدي فرسا لبعض الناس .. فإن هؤلاء الناس سينقسمون في فرحهم بالفرس إلى
ثلاثة أقسام:
أما
القسم الأول، فيفرحون بالفرس من حيث أنه فرس، وأنه مال ينتفع به، ومركوب
موافق لأغراضهم، وإنه جواد نفيس .. وهذا فرح من لاحظ له في الملك، بل غرضه الفرس
فقط، ولو وجده في صحراء فأخذه، لكان فرحه مثل ذلك الفرح.
أما القسم الثاني، فيفرحون به لا من
حيث إنه فرس، بل من حيث يستدلون به على عناية الملك بهم، وشفقته عليهم واهتمامه
بجانبهم، ولو وجد هؤلاء هذا الفرس في صحراء أو أعطاهم إياه غير الملك لكانوا لا يفرحون
به أصلاً لاستغنائهم عن الفرس أصلاً أو استحقارهم له بالإضافة إلى خلوه من نيل
المحل في قلب الملك.
أما القسم الثالث، فيفرحون به لأجل
الخروج به في خدمة الملك، فيتحملون مشقة السفر لينالوا بخدمته القرب منه، وهم لا
يريدون من ذلك إلا مشاهدة الملك والقرب منه، حتى لو خيروا بين القرب منه دون
الوزارة وبين الوزارة دون القرب لاختاروا القرب.
قلت: عرفت أحوال الشاكرين للملك الذي
أهدى فرسا، فما حال الشاكرين لله الذي أعطى من النعم ما لا يحصى؟
قال: هم كذلك ثلاثة .. وبينهما درجات
لا يعلمها إلا الله:
أما الأولون، فحالهم كحال الذي يفرح
بالفرس لا بالمعطى، وهذا حال كل من فرح بنعمة من حيث إنها لذيذة وموافقة لغرضه،
وهو بعيد عن معنى الشكر.
وأما الثانية، فهي داخلة في معنى
الشكر من حيث إنه فرح بالمنعم، ولكن لا من حيث ذاته بل من حيث معرفة عنايته التي
تستحثه على الإنعام في المستقبل، وهذا حال الصالحين الذين يعبدون الله ويشكرونه
خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه.
أما الشكر التام فهو في الفرح
الثالث، وهو أن يكون فرح العبد بنعمة الله تعالى من حيث إنه يقدر بها على التوصل
إلى القرب منه تعالى والنزول في جواره والنظر إلى وجهه على الدوام، فهذا هو
الرتبة العليا، وأمارته أن لا يفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة للآخرة ويعينه
عليها ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله تعالى وتصده عن سبيله، لأنه ليس يريد
النعمة لأنها لذيذة كما يريد صاحب الفرس الفرس أنه جواد ومهملج، بل من حيث إنه
يحمله في صحبة الملك حتى تدوم مشاهدته له وقربه منه، ولذلك قال الشبلي رحمه الله:
(الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة)، وقال الخواص :( شكر العامة على المطعم
والملبس والمشرب، وشكر الخاصة على واردات القلوب)
قلت: وعيت هذا، فما الأعمال التي تثمرها
هذه الأحوال؟
قال: لقد عبر الشاعر عن ذلك وأحسن،
فقال:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة |
يدي ولساني والضمير المحجبا |
وقد قيل للجنيد ـ وهو ابن سبع سنين ـ
: يا غلام ما الشكر؟ فقال : (أن لا يعصى الله بنعمه)
قلت: ما يعني هذا؟
قال: من فرح بشيء فرحا استولى على كيانه،
فإنه لا محالة سيتحرك بموجب ما يهديه إليه فرحه .. فمن فرح بمركوب ركبه، ومن فرح
بمأكول أكله .. ومن فرح بشيء ارتبط به.
وهكذا فرح من رأى نعم الله عليه،
فإنه لا محالة يستعملها .. ولكن الفرق بين استعماله لها واستعمال غيره هو أنه
يستعملها في طاعة مولاه الذي أهداها له .. فلا يحق لمن أهديت له هدية أن يستعملها
في مضادة من أهداها له.
قلت: فاضرب لي أمثلة على ذلك.
قال: شكر القلب ـ مثلا ـ وهو تصور
النعمة، والاعتراف بها للمنعم، والعزم على طاعته، وفي ذلك يقول رسول الله r
:( عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء
شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له)[155]
وشكر اللسان ـ مثلا ـ هو الثناء على
المنعم بفضله، وفي ذلك حدث زيد بن خالدٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: صلى بنا رسول الله r
صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس،
فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (أصبح من عبادي
مؤمنٌ بي، وكافرٌ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ
بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب)[156]
وهكذا شكر سائر الجوارح، فشكرها هو
مكافأة النعمة بفعل الجوارح من خلال خضوعها واستجابتها لأمر الله تعالى ونهيه ،
كما قال تعالى :﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ
الشَّكُورُ)(سـبأ: من الآية13)
وفي الحديث عن عائشة ـ رضي الله عنها
ـ أن النبي r كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول
الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: (أفلا أحب أن أكون عبداً
شكوراً؟)[157]
وفي حديث آخر عن ابن عباس ـ رضي الله
عنه ـ قال: قدم رسول الله r المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء ، فقال لهم : ما هذا
اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم ، أنجى الله فيه موسى وقومه ، وأغرق
فرعون وقومه ، فصامه موسى شكرا ، فنحن نصومه ، فقال r :( نحن أولى بموسى منكم)، وصامه r، وأمر بصيامه ، فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر بصيامه ، فلما
فرض شهر رمضان ، قال : (من شاء صامه، ومن شاء تركه)[158]
قلت: سلمت بهذا، ووعيته .. ولكن شبهة
ترد على خاطري .. وربما ترد على خواطر الكثير، وهي أن في الشكر حظا للمشكور، فإنا
نشكر الملوك إما بالثناء ليزيد محلهم في القلوب، ويظهر كرمهم عند الناس، فيزيد به
صيتهم وجاههم، أو بالخدمة التي هي إعانة لهم على بعض أغراضهم، أو بالمثول بين
أيديهم في صورة الخدم، وذلك تكثير لسوادهم وسبب لزيادة جاههم.. وبما أن الله غني
عن عباده غنى مطلقا، فكيف يطلب منا أن نشكره، وكيف يعتبر الشكر مقاما من مقامات
الوصول إليه؟
قال: تعالى الله عن الحظوظ .. فالله
هو الغني الحميد، وكل ما نفعله ليس إلا لمصالحنا .. فالله الكريم الجواد الحكيم
اللطيف بعباده، اقتضى جوده وحكمته أن يرتبا لطفه بعباده على أسباب من العبادة
والسلوك .. وليس لله من ذلك شيء.
لقد قال رسول الله r
في الحديث القدسي يشير إلى ذلك :( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم
محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضالٌ إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم، يا عبادي
كلكم جائعٌ إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته،
فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً،
فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي
فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجلٍ
واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم
كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن
أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني فأعطيت كل إنسانٍ
مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما
هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير
ذلك فلا يلومن إلا نفسه)[159]
قلت: شبهة أخرى تعرض لي، كما تعرض
لغيري .. ولست أدري الجواب فيها .. أنا أعلم أن كل ما نتعاطاه باختيارنا نعمة من
نعم الله، إذ جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا وداعيتنا وسائر الأمور التي هي أسباب
حركتنا ونفس حركتنا من خلق الله تعالى ونعمته.. فكيف نشكر نعمة بنعمة، وهل يمكن
أن يشكر أحد نعمة بنعمة أخرى؟
قال: لقد خطر هذا الخاطر لداود وموسى
ـ عليهما السلام ـ فقال كلا منهما لله: يا رب كيف أشكرك، وأنا لا أستطيع أن أشكرك
إلا بنعمة ثانية من نعمك؟ فأوحى الله تعالى إلى كل منهما: (إذا عرفت هذا فقد
شكرتني)
كنا نسير، ونحن نتحدث هذه الأحاديث
.. وكانت الطريق المؤدية إلى منزل الشكر في منتهى الجمال، فالأزهار تحيط بها من كل
جانب .. والروائح العطرة تملؤنا بنشوة إيمانية عظيمة .. وفوق ذلك كانت الطيور تحلق
فوق رؤوسنا، لتمتعنا بأجمل ما وهبها الله من ألحان.
ما إن وصلت مع الجنيد إلى منزل الشكر
حتى وجدتني مستغرقا استغراقا كليا في مشاهدته والتنعم بجماله .. لقد كان منزلا لا
يمكن لأحد في الدنيا أن يصفه .. ولذلك غفلت عن صاحبي، ورحت أسرع في الدخول إليه ..
وقد وجدت في داخله ما لا تسع بحار الدنيا التعبير عنه.
بعد أن مكثت ما شاء الله لي أن أمكث
في منزل الشكر جاءني أمر من شيخي أبي مدين بأن أسير صحبة أبي يزيد البسطامي إلى
منزل الصدق .. فلم أجد إلا أن أطيعه .. فسرت إلى أبي يزيد .. وقد كان أول ما قال
لي أبو يزيد: أجئت تطلب مقام الأنبياء؟
قلت: لا طاقة لي بهذه التعابير ..
فكف عني يا أبا يزيد .. وحدثني بما يعرفه الناس، فإني لا أريد للساني أن يقع في أي
شطحة من الشطحات.
قال: لقد وصف الله أنبياءه بالصديقية
.. ولذلك فالمتحقق بالصدق عندنا متحقق بمقام من أعظم مقامات الأنبياء ـ عليهم
السلام ـ لقد قال الله تعالى في إبراهيم u :﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ
صِدِّيقاً نَبِيّاً) (مريم:41)، وقال في إدريس u :﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ
صِدِّيقاً نَبِيّاً) (مريم:56)، وقال في إسماعيل u :﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ
صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً) (مريم:54)، وقال في يوسف u
:﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ )(يوسف: من الآية46)
قلت: فما دام الأمر خاصا بالأنبياء
.. فليس لي حق في أن أطلب ما لا يكون.
قال: إن الأنبياء هم محل القدوة .. والله
لم يرسلهم إلا لنسير على خطاهم ونهتدي بهديهم، ألم تسمع قوله r
:( من قرأ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جبينه غير أنه لا يوحى إليه)[160]؟
قلت: بلى .. وصدق رسول الله r
.
قال: وهكذا الصدق .. فمن كان له حظ
من الصدق كان له حظ من النبوة ..
قلت: لم أسمع النص يذكر هذا ..
قال: لا بأس .. فلنترك هذا .. فقد
ورد في النصوص المقدسة اعتبار الصادقين من أرفع الناس درجة .. قال الله تعالى :﴿
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ
يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات:15)، وقال تعالى :﴿ لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر:8)، وقال تعالى :﴿ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ
قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)
(الأحزاب:23)
وأخبر تعالى بأن الغرض من أنواع
البلاء هو تمحيص الصادقين وتمييزهم عن غيرهم، قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:3)
وأخبر عن الجزاء العظيم المعد
للصادقين، فقال :﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ
صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) (المائدة:119)
ولهذا كله أمر الله تعالى بالصدق،
وبالكينونة مع الصادقين، فقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119)
قلت: هذا الشاهد الأول .. فهات
الشاهد الثاني.
قال: لقد وردت الروايات الكثيرة عن
النبي r تبين فضل الصدق وعظم درجة الصادقين، فعن ابن مسعودٍ ـ رضي الله
عنه ـ عن النبي r قال: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل
ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى
النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)[161]
وعن الحسن بن علي بن أبي طالبٍ ـ رضي
الله عنه ـ قال: حفظت من رسول الله r:( دع ما يريبك إلى ما لا يبريبك؛ فإن الصدق طمأنينةٌ، والكذب
ريبةٌ)[162]
وعن سهل بن حنيفٍ ـ رضي الله عنه ـ
أن النبي r قال: (من سأل الله، تعالى، الشهادة بصدقٍ بلغه الله منازل
الشهداء، وإن مات على فراشه)[163]
وعن حكيم بن حزامٍ ـ رضي الله عنه ـ
قال: قال رسول الله r :( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في
بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)[164]
وعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنه
ـ أن رجلا جاء إلى النبي r، فقال: يا رسول الله، ما عمل الجنة؟ قال: الصدق، إذا صدق العبد
بر، وإذا بر آمن، وإذا آمن دخل الجنة، قال: يا رسول الله، وما عمل النار؟ قال:
(الكذب، إذا كذب العبد فجر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر دخل النار)[165]
وحذر r في مقابل ذلك من الكذب، واعتبره من خصال المنافقين، فقال :( أربعٌ
من كن فيهن كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن، كانت فيه خصلةٌ من نفاقٍ
حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)[166]
وقال r :( من تحلم بحلمٍ لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن
استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، ومن صور
صورةً، عذب، وكلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخٍ)[167]
قلت: وعيت هذا .. فحدثني عن الصدق ..
أليس هو مطابقة كلامنا للواقع؟
قال: الكلام جزء من تصرفاتنا،
ومطابقته للواقع لا تعدو مطابقة جزء من تصرفاتنا للواقع.. والصدق أخطر من ذلك
بكثير.
قلت: فما مجالاته إذن؟
قال: لقد تحدث أهل الله عن الكثير من
مجالاته .. وقد جمعها لسان تحقيقهم أبو حامد في ستة معان: صدق في القول، وصدق في
النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في
تحقيق مقامات الدين كلها.
فمن اتصف بالصدق في جميع هذه
المعاني فهو صديق لأنه تحقق بالصدق في جميع معانيه .. ثم هم أيضاً على درجات، فمن
كان له حظ في الصدق في شيء من الجملة فهو صادق بالإضافة إلى ما فيه صدقه.
قلت: فحدثني عن صدق
اللسان.
قال: صدق اللسان هو أن يطابق القول
الواقع .. سواء كان ذلك في الإخبار، أو فيما يتضمن الإخبار وينبه عليه.
وبما أن الخبر إما أن يتعلق بالماضي
أو بالمستقبل، فإن الوفاء بالوعد والخلف فيه يدخل في هذا النوع من الصدق.
قلت: إن صدق اللسان معروف مشهور ..
وأكثر الناس يحصر الصدق فيه .. فحدثني عن صدق
النية والإرادة.
قال: النية الصادقة هي التي تتوجه
إلى الله بصدق وإخلاص، فلا يكون لها من باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى،
فإن مازجها شوب من حظوظ النفس بطل صدقها.
ولذلك ورد في حديث الثلاثة الذين هم
أول من تسعر بهم النار قوله r :( إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه
نعمه فعرفها، قال : فما عملت فيها ؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال : كذبك ولكنك
قاتلت ليقال فلان جريء ، فقد قيل ثم أمر ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في
النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فرفعها قال : قال:
فما عملت فيها؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ومن قرآت فيك القرآن . قال : كذبت ولكنك
تعلمت ليقال عالم ، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر بن فسحب على وجهه
حتى ألقي في النار ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه
نعمه فعرفها . قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت سبيل تحب أن ينفق فيها إلا
أنفقت فيها لك قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ، ثم أمر فسحب على
وجهه حتى ألقي في النار)[168]
ولذلك قال تعالى عن المنافقين :﴿
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَكَاذِبُونَ) (المنافقون:1)، فمع أنهم قالوا (إنك لرسول الله)، وهذا صدق، ولكن
كذبهم، لا من حيث نطق اللسان، بل من حيث ضمير القلب.
قلت: فحدثني عن صدق
العزم.
قال: ألا ترى أن الإنسان قد يقدم
العزم على العمل، فيقول في نفسه: إن رزقني الله مالاً تصدقت بجميعه، أو بشطره ..
أو إن أعطاني الله تعالى ولاية عدلت فيها ولم أعص الله تعالى بظلم وميل إلى خلق؟
قلت: بلى .. كلنا يقول ذلك.
قال: فهذه العزيمة قد يصادفها حقيقة
من نفسه وهي ـ حينذاك ـ عزيمة جازمة صادقة، وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف
يضاد الصدق في العزيمة، فكان الصدق ههنا عبارة عن التمام والقوة.
قلت: وعيت هذا .. فحدثني عن صدق
الوفاء بالعزم.
قال: قد تسخو النفس بالعزم في الحال
.. إذ لا مشقة في الوعد والعزم .. ولكنه إذا حقت الحقائق، وحصل التمكن، وهاجت
الشهوات، انحلت العزيمة، وغلبت الشهوات، ولم يتفق الوفاء بالعزم، وهذا يضاد الصدق
فيه.
لقد قال الله تعالى يشير إلى هذا
النوع من الصدق :﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا
اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23)
لقد روي في هذا عن أنس قال: عمي أنس
بن النضر سُميت به، لم يشهد مع رسول الله r يوم بدر، فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله r
غُيِّبْتُ عنه، لئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله r لَيَرَيَنَ الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول
الله r يوم أحد، فاستقبل سعدَ بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمرو، أبِنْ،
واهًا لريح الجنة أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتى قُتل قال: فَوُجد في جسده بضع
وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته ـ عمتي الرُّبَيّع ابنة النضر ـ: فما
عرفتُ أخي إلا ببنانه، قال: فنزلت هذه الآية :﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23)، قال:
فكانوا يُرَون أنها نزلت فيه، وفي أصحابه[169].
قلت: وعيت هذا .. فحدثني عن صدق
الأعمال.
قال: هو أن يجتهد حتى لا تدل أعماله
الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به ..
قلت: أتقصد أن لا يعمل حتى يأنس من
نفسه الصدق في عمله؟
قال: لا .. لا أقصد أن يترك الأعمال
الظاهرة .. ولكن يستجر الباطن إلى تصديق الظاهر.
قلت: فاضرب لي مثالا على ذلك.
قال: من قام في الصلاة ـ مثلا ـ على
هيئة الخشوع في صلاته، وهو ليس يقصد به مشاهدة غيره، ولكن قلبه غافل عن الصلاة،
فمن ينظر إليه يراه قائماً بين يدي الله تعالى، وهو بالباطن قائم في السوق بين
يدي شهوة من شهواته .. فهذه أعمال تعرب بلسان الحال عن الباطن إعراباً هو فيه
كاذب.
ومثل ذلك من يمشي على هيئة السكون
والوقار، وليس باطنه موصوفاً بذلك الوقار، فهذا غير صادق في عمله، وإن لم يكن
ملتفتاً إلى الخلق ولا مرائياً إياهم.
وهكذا ..
قلت: إن ما ذكرته شديد .. فما
المنجاة منه؟
قال: بتعلم علوم الصدق .. وهي العلوم
التي تجعل سريرته تستوي مع علانيته، فيكون باطنه مثل ظاهره أو خيراً من ظاهره.
قلت: لقد ذكرتني بقول الشاعر:
إذا السر والإعلان في المؤمن استوى |
فقد عز في الدارين واستوجب الثنا |
فإن خالف الإعلان سراً فما له |
على سعيه فضل سوى الكد والعنا |
فما خالص الدينار في السوق نافق |
ومغشوشه المردود لا يتقضى المنا |
قال: لقد قال رسول الله r
في دعائه يشير إلى هذا :( اللهم اجعل سريرتي خيراً من علانيتي واجعل علانيتي
صالحة)[170]
قلت: وعيت هذا .. فحدثني عن الصدق
في مقامات الدين.
قال: ذاك أعلى أنواع الصدق وأعزها ..
فلجميع مقامات الدين من الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب
وغيرها .. مباد ينطلق الاسم بظهورها، ثم لها غايات وحقائق، والصادق المحقق من نال
حقيقتها.
ولهذا قال تعالى في وصفه لأعمال:﴿
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ
يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات:15)
قلت: فاضرب لي مثلا يقرب لي ذلك.
قال: سأضرب لك مثلا بالخوف من الله
أو الخشية منه .. لا شك أنك تعرف أنه مقام من مقامات الدين؟
قلت: أجل .. وهو من مقامات التطهير
.. وقد مررت على منزله.
قال: ألا ترى أنه ما من عبد يؤمن
بالله واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله خوفاً ينطلق عليه الاسم، ولكن الحقيقة
تجعل الخائفين الصادقين قلة قليلة جدا؟
قلت: كيف ذلك؟
قال: أما ترى حال أكثر هؤلاء إذا
خافوا سلطاناً أو قاطع طريق، كيف تصفر ألوانهم، وترتعد فرائصهم، وتتنغص معيشتهم،
ويتعذر عليهم الأكل والنوم .. وقد ينزعجون عن الوطن فيستبدلون بالأنس وحشة،
وبالراحة تعبا وبالمشقة تعرضا للأخطار؟
قلت: أجل .. وحق لهم ذلك .. فمثل هذا
الخوف طبيعة لا يمكن الانفكاك عنها.
قال: ولكنهم مع لا يظهر عليهم عند
ذكر النار وشدة عذابها ما يظهر عليهم عند ذكر اللصوص .. مع أن النار أخطر وأعظم
جلبا للخوف.
قلت: ذلك صحيح .. وقد ورد في الحديث
قوله r :( ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها)[171]
قال: ولذلك، فإن التحقيق في هذه
الأمور عزيز جداً .. ولهذا، فإن الصادق هو الذي لا يثق في نفسه .. بل يسلمها لمن
يثق فيه من أهل الله ليربيها ويهذبها ويجعلها صالحة لربها.
قلت: فهل أجد في هذا المنزل من أهل
الله من يدلني على هذا حتى أصحح من نفسي ما تدعيه؟
قال: هذا المنزل هو منزل التصحيح ..
وهو المنزل الذي تكشف فيه الروح عن حقيقتها لتهذب وتصفى وتصبح صالحة لربها.
قلت: فهلم بي إليه ..
دخلت منزل الصدق .. وقد كان منزلا في
منتهى الجمال والقوة واللذة .. ولولا ما جاءني من أمر شيخي أبي مدين لما خرجت منه.
بعد مكوثي مدة طويلة في منزل الصدق
أتعلم علومه، وأتأدب بآدابه، جاءني أمر من شيخي أبي مدين لأرحل معه إلى منزل
المحبة .. ذلك المنزل الذي يتربع على أعلى قمة من قمم الجبال المحيطة بتلمسان.
ما إن دخلت على شيخي أبي مدين حتى
أشار إلى قمة الجبل الذي بني فيه منزل المحبة، وقال: هلم بنا إلى ذلك المنزل ..
قلت: لا طاقة لي بتسلق الجبال ..
قال: من لم يطق صعود الجبال لن ينال
من هذا الطريق إلا الفتات .. فإن رضيت بالفتات، فاذهب إلى شأنك .. وإن أردت الكمال
.. فهيا معي إليه.
قلت: لم لم يبن ذلك المنزل في هذه
السفوح .. أو ـ على الأقل ـ في تلك التلال؟
قال: حتى لا يدعي المحبة إلا من هو
أهل لها .. فالمحبة هي غاية الغايات، ومقصد المقاصد.. لقد قال الغزالي يذكر رفعة
مقامها :( إنّ المحبة لله هي الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من
الدرجات، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها وتابع من توابعها
كالشوق والأنس والرضا وأخواتها، ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدّمة من مقدماتها
كالتوبة والصبر والزهد وغيرها)[172]
وقال بعده ابن القيم مؤكدا :( هي
المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر
السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب،
وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات،
والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع
الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان
والأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل
أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم
يكونوا بدونها أبدا واصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها
داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب، وطريقهم
الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب)[173]
ثم أنشد يدعو إلى اللحاق بركبهم:
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد |
حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا |
وقل لمنادي حبهم ورضاهم |
إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا |
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن |
نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا |
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد |
ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا |
وخذ منهم زادا اليهم وسر على |
طريق الهدى والفقر تصبح واصلا |
وأحي بذكراهم سراك إذا ونت |
ركابك فالذكرى تعيدك عاملا |
وإما تخافن الكلال فقل لها |
أمامك ورد الوصل فابغ المناهلا |
وخذ قبسا من نورهم ثم سر به |
فنورهم يهديك ليس المشاعلا |
قلت: أعلم أن المحبة هي غاية الغايات
ومقصد المقاصد .. ولكن لم لم يسهل لها الطريق كما سهل للشكر طريقه؟
قال: المحبة في حقيقتها تعني المحو
والفناء والذوبان .. فلذلك لا يحب إلا من استرخص روحه في سبيل محبوبه .. فأول خطوة
في المحبة هي قتل النفس في ذات الله:
بدم المحب يباع وصلهم |
فمن الذي يبتاع بالثمن |
قلت: أليس هناك خلاف في هذا .. فإني
أحب أن أفر من الشدة إلى اليسر .. وقد علمت أن رسول الله r (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما حتى يكون إثما، فإذا كان
إثما كان أبعد الناس من الاثم)[174] ؟
قال: ليس هناك خلاف في هذا .. لقد
قال ابن القيم :( تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة
المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد، فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس،
فتأخر البطالون وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنا فدارت السلعة بينهم،
ووقعت في يد ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِين)(المائدة: من الآية54)[175]
ولهذا شرط الله تعالى لحقيقة الصدق
في الحب القتال في سبـيل الله، فقال تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف:4) ،
وقد روي في سبب نزولها أن المؤمنين قالوا :( لو نعلم أحب الأعمال إلى اللّه لعملنا
به، فدلهم اللّه على أحب الأعمال إليه)
ولهذا كان من علامة حب الله حب الموت
في ذات الله ، كما قال تعالى
مخاطبا اليهود الذين زعموا
أنهم أحباب الله وأولياءه :﴿ قُلْ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ
مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الجمعة:6)
وقد قال البويطي لبعض الزهاد :( أتحب
الموت؟) فكأنه توقف، فقال: لو كنت صادقاً لأحببته، وتلا قوله تعالى :﴿
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الجمعة:6)، فقال الرجل: فقد
قال النبي r:( لا
يَتَمَنَّيْنَّ أَحَدُكُمْ المَوْتَ)[176]، فقال: (إنما قاله لضر نزل به، لأنّ الرضا بقضاء الله تعالى أفضل
من طلب الفرار منه)[177]
قلت: فإن هذا يجعل من أهل هذا المنزل
أفرادا؟
قال: لقد قال الله تعالى يبين قلة
هذا النوع من السالكين :﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
(13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14)﴾(الواقعة)
قال ذلك، ثم أنشد يقول بروحانية
عذبة:
فما كل
عين بالحبيب قريرة |
ولا كل
من نودي يجيب المناديا |
ومن لا
يجب داعي هداك فخله |
يجب كل
من أضحى إلى الغي داعيا |
وقل
للعيون الرمد إياك أن تري |
سنا
الشمس فاستغشي ظلام اللياليا |
وسامح
نفوسا لم يهبها لحبهم |
ودعها
وما اختارت ولا تك جافيا |
وقل
للذي قد غاب يكفي عقوبة |
مغيبك
عن ذا الشأن لو كنت واعيا |
قلت: فصف لي أهل هذه المنزل .. لعل ما تصفه منهم يشوقني إليهم، وإلى
المنزل الذي سكنوا فيه.
قال: لقد جاء في أثر إلهي أوحى الله
به إلى بعض أهله في وصفهم :( إن لي عباداً أحبهم ويحبونني، ويشتاقون إليَّ وأشتاق إليهم
ويذكرونني وأذكرهم، وينظرون إليَّ وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت
عنهم مقتك)، فقال: يا رب وما علامتهم؟ قال: (يراعون الظلال بالنهار كما يراعي
الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها، فإذا جنهم الليل،
واختلط الظلام، وخلا كل حبـيب بحبـيبه نصبوا إلى أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم
وناجوني بكلامي وتملقوا إليَّ بإنعامي، فبـين صارخ وباكي وبـين متأوّه وشاكي بعيي
ما يتحلمون من أجلي وبسمعي ما يشتكون من حبـي. أوّل ما أعطيهم أقذف من نوري في
قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم. والثانية: لو كانت السموات السبع والأرضون
السبع وما فيهما في موازينهم لاستقللتها لهم. والثالثة: أقبل بوجهي عليهم أفترى من
أقبلت بوجهي عليه أيعلم أحد ما أريد أن أعطيه؟)
وحدث أبو بكر الكتاني، قال: جرت
مسألة في المحبة بمكة أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سنا،
فقالوا: هات ما عندك يا عراقي، فأطرق رأسه، ودمعت عيناه، ثم قال: (عبد ذاهب عن
نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هويته،
وصفا شربه من كأس وده، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله،
وإن سكت فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله)، فبكى الشيوخ، وقالوا :( ما على هذا
مزيد ـ جبرك الله ـ يا تاج العارفين)
قلت: عهدي بالمحبين مجانين يرميهم
الناس بالحجارة ، ويتأسفون على عقولهم .. فكيف بعقول هؤلاء .. فإني لا أحب أن يغيب
عني عقلي، ولا أحب أن يرميني الناس بالحجارة؟
قال[178]: من قرت عينه بالله قرت به كل عين، وأَنس به كل مستوحش، وطاب به
كل خبيث، وفرح به كل حزين، وأَمن به كل خائف، وشهد به كل غائب، وذكرت رؤيته بالله،
فإِذا رؤى ذكر الله، فاطمأَن قلبه إلى الله، وسكنت نفسه إلى الله، وخلصت محبته
لله، وقصر خوفه على الله، وجعل رجاءَه كله لله، فإِن سمع سمع بالله وإِن أَبْصر
أَبصر بالله، وإن بطش بطش بالله، وإِن مشى مشى بالله، فبه يسمع وبه يبصر وبه يبطش
وبه يمشى، فإِذا أَحب فللَّه وإِذا أَبغض أبغض لله، وإِذَا أَعطى فللَّه، وإِذَا
منع فللَّه، قد اتخذ الله وحده معبوده ومرجوه ومخوفه وغاية قصده ومنتهى طلبه،
واتخذ رسوله وحده دليله وإِمامه وقائده وسائقه، فوحد الله بعبادته ومحبته وخوفه
ورجائِهِ وإفراد رسوله بمتابعته والاقتداءِ به والتخلق بأَخلاقه والتأَدب بآدابه.
ما قال ذلك حتى شعرت بروحي ترق،
وبجسدي يشف معها، وما هي إلا لحظات قصار حتى وجدت نفسي بقرب ذلك المنزل الذي لم
أجد في حياتي منزلا أجمل ولا أكمل ولا أقدس منه[179].
***
ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا
أنفسنا قد قطعنا المرحلة السادسة من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب .. ولم
يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية
تتربص بنا من كل اتجاه.
لقد تنزلت علي بمجرد قطعي لتلك
المرحلة أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد.
سألت صاحبي عن أبي مدين وكيف تركه،
فقال: لقد تركته يمد يديه إلى الناس يبايعهم على السير في طريق الله، وقد كثر
أتباعه كثرة لم أكن أتصور أن تبلغ ما بلغت.
قلت: فما رأيت من سر ذلك؟
قال: لقد وضع الله تعالى في الإنسان
ما يملؤه بالأشواق إليه .. ولذلك قد يشرق الإنسان أو يغرب، وقد يتيه ما يتيه،
ولكنه لا يجد في الأخير ملجأ إلا عند الله.
قلت: عند الله .. لا عند أبي مدين.
قال: ألا تعلم أن الله إذا أراد أن
يهبك الشفاء دلك على الطبيب النطاسي الذي يخلصك من دائك؟
قلت: ذلك صحيح ..
قال: فكذلك إذا أراد الله لقلبك
الشفاء دلك على أهله العارفين به الذين إذا رؤوا ذكر الله ..
قلت: ففي الإسلام رجال دين إذن هم
واسطة بين العباد وربهم؟
قال: هم وسائط هداية ودلالة، لا
وسائط وزارة وتدبير .. وهم لا يختلفون عن الفقهاء، بل يكملونهم .. فالفقيه يعتني
بإصلاح الظواهر ليجعلها موافقة للشريعة، وهؤلاء يعتنون بإصلاح البواطن ليجعلوها
محلات صالحة لتنزل المواهب الإلهية.
([1]) ِتلمْسان من أشهر المدن الجزائرية العريقة التي شُيِّدت في بديات
الفتح الإسلامي لتكون مركزًا لإشعاع الإسلام، ومنارة للفكر والعلم.
يلتقي
في تلمسان الشرق والغرب، والقديم والحديث في تناسق بديع؛ فالأحياء الحديثة بمنشآتها
ومبانيها وطرزها العصرية، تشير بوضوح للتأثير الأوروبي، بينما الأحياء التقليدية
القديمة لا زالت تنضح بروح الشرق وسحر ألوانها وأسواقها المسقوفة والمكشوفة، تثير
الاهتمام بطرزها المعمارية التاريخية.
ومن
أروع العمائر التي تشير إلى عظمة منشئيها، تلك المباني ذات النمط المعماري
الأندلسي المغربي، كالمسجد الكبير الذي بناه المرابطون في القرن الثاني عشر
الميلادي، وهو آية في الجمال، ومجمع سيدي بومدين الذي يضم فيما يضم من آثار القرن
الرابع عشر الميلادي مدرسة وحمامًا وقصرًا.
وتعتبر
مدينة تلمسان عاصمة الفن في الجزائر، فمدارسها الموسيقية وشعراؤها وفنانوها
وأدباؤها أهَّلوها لأن تكون مركز التاريخ والثقافة والفن في الجزائر (انظر:
الموسوعة العربية العالمية)
وهي ـ بالإضافة إلى ذلك كله ـ تشتهر بأوليائها الكثيرين،
والذين صنفت في تراجمهم المصنفات، ولذلك اخترناها لهذا الفصل.
([2]) أشير به إلى الولي الكبير
أبي مدين شعيب بن حسين الأنصاري، أصله من (حصن قطنيانة) قرية تابعة
لِإشبيلية في الأندلس، هاجر إلى بجاية صغيراً، وعاش فيها، وتوفي في (العباد) في ضواحي تلمسان عام: (594هـ) وقيل قبل ذلك.
([3]) ومن ذلك ما ذكر أبو حامد الغزالي عن شيخه أبي علي الفارمذي ـ
رحمة الله عليه ـ وهو يصف له وجوب حسن أدب المريد لشيخه وأن لا يكون في قلبه إنكار
لكل ما يقوله ولا في لسانه مجادلة عليه قال: حكيت لشيخي أبي القاسم الكرماني
مناماً لي وقلت: رأيتك قلت لي كذا، فقلت: لم ذاك؟ قال: فهجرني شهراً ولم يكلمني
وقال: لولا أنه كان في باطنك تجويز المطالبة وإنكار ما أقوله لك لما جرى ذلك على
لسانك في النوم.
([6]) هذه التعريفات التي نوردها في بداية ذكر أسماء هؤلاء الأولياء
مقتبسة من كلام أبي نعيم في حلية الأولياء.
([7]) خصصنا الحديث عن مقامات أهل الله التي ورد الحديث عنها في
النصوص، وأشار إليها صديقو هذه الأمة في رسالة (معارج الصديقين) من (رسائل
السلام)، ولذلك فإن ما سنذكره هنا مجرد إشارات إلى بعض المقامات، وبعض الضوابط
المرتبطة بها دون تفاصيلها.
([27]) رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ: وما يدريك كما قال قوم :﴿
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ
مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
(الاحقاف:24)
([28]) رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم عن ابن عباس وسعيد بن منصور،
وابن عساكر عن أنس، والترمذي في الشمائل وأبو يعلى برجال ثقات عن أبي جحيفة، وابن
عساكر عن عمران بن حصين، وابن سعد عن محمد بن علي بن الحسين، والطبراني وابن
مردويه ـ بسند صحيح ـ قال ابن عباس: إن أبا بكر قال: وقال أنس: قال أصحاب رسول
الله r .. وقد أخطأ من ذكر هذا الحديث في الموضوعات.
([32]) رواه أحمد والطبراني عن ابن عباس، وسعيد بن منصور، وأحمد،
والترمذي - وحسنه - عن أبي سعيد، وأبو نعيم عن جابر.
([34]) رواه أبو عبيدة في فضائله، وأحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا في
نعت الخائفين، وابن جرير، وابن أبي داود في الشريعة، وابن عدي، وابن نصر، والبيهقي
في الشعب.
([41]) رواه ابن أبي الدنيا وهو مرسل وخرج الطبراني نحوه من حديث بريدة
موصولا وفي اسناده من لا يعرف حاله.
([48]) رواه الفريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة وابن أبي
الدنيا في نعت الخائفين وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن
مردويه والبيهقي في شعب الايمان.
([50]) يشير إلى قوله تعالى :﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ
لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ
مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا
مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾
(لأعراف:169)
([55]) رواه البخاري ومسلم، وفي روايةٍ لمسلم: من شهد أن لا إله إلا
الله، وأن محمداً رسول الله، حرم الله عليه النار.
([56]) فسره النووي بقوله :( من تقرب إلي بطاعتي تقربت إليه برحمتي، وإن
زاد زدت، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيته هرولةً أي: صببت عليه الرحمة،
وسبقته بها، ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود)
([64]) رواه البخاري ومسلم، وفي روايةٍ: إن لله تعالى مائة رحمةٍ أنزل
منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها
يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تعالى تسعاً وتسعين رحمةً يرحم
بها عباده يوم القيامة.
([76]) رواه أبو يعلى وابن حبان فى الضعفاء من حديث أنس، والطبرانى من
حديث عمار بن ياسر، والبيهقى فى الشعب من حديث الحسن مرسلا، وكلها ضعفية، وفى
الأمثال للرامهرمزى إسناد جيد لحديث أنس.
([79]) خصصنا رسالة من (رسائل السلام) الروائية للتفاصيل الكثيرة
المرتبطة بهذا، سميناها (عيون الطهارة)
([83]) رواه أحمد برجال الصحيح ، وفيه راو لم يسم، وهو في الصحيح بلفظ:
اللهم اغفر لي ما قدمت إلى آخره.
([87]) رواه ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب، وأبو داود والترمذي، وابن
ماجه، والنسائي، وفي لفظ: التواب الغفور.
([107]) رواه البخاري، وفي لفظ عند ابن أبي شيبة :( وليست بالحيض، اجتنبي
الصلاة أيام حيضتك ثم اغتسلي وتوضأي لكل صلاة، ثم صلي ولو بسط الدم على الحصير)
([110]) قال العلماء في قوله :( أصبت حدا)، أي معصية توجب التعزير، وليس
المراد الحد الشرعي الحقيقي كحد الزنا والخمر وغيرها، فإن هذه الحدود لا تسقط
بالصلاة، ولا يجوز للامام تركها.
([114]) نرى من خلال دراسة طبقات الأولياء تخصص الكثير منهم في الحديث عن
بعض مقامات السلوك دون بعضها، وقد اشتهر الخواص من بينهم خصوصا بالتخصص في التوكل،
ولذلك رمزنا به إليه في هذا المحل.
([124]) رواه أبو داود، والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحةٍ. قال الترمذي:
حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وهذا لفظ أبي داود.
([125]) رواه أبو داود والترمذي، والنسائي وغيرهم، وقال الترمذي: حديثٌ
حسنٌ، زاد أبو داود: فيقول ـ يعني الشيطان ـ لشيطانٍ آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي
ووقي؟
([139]) رواه الترمذي وغيره، وفي رواية للبيهقي :( ثم عمد إلى ثوبه الخلق
فكساه مسكينا لم يزل في جوار الله وفي ذمة الله وفي كنف الله حيا وميتا ما بقي من
الثوب سلك)
([168]) رواه مسلم عن أبي هريرة ، ورواه الترمذي بمعناه وقال في آخره :(
ثم ضرب رسول الله r على ركبتي ، فقال : يا أبا هريرة : أولئك
الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة)
([177]) ومع ذلك، فهناك أسباب يمكن كراهية الموت بسببها مع تحقق المحبة،
وقد أشار إلى مجامع ذلك الغزالي في قوله :( فإن قلت: من لا يحب الموت فهل يتصوّر
أن يكون محباً لله؟ فأقول: كراهة الموت قد تكون لحب الدنيا والتأسف على فراق الأهل
والمال والولد، وهذا ينافي كمال حب الله تعالى لأنّ الحب الكامل هو الذي يستغرق كل
القلب، ولكن لا يبعد أن يكون له مع حب الأهل والولد شائبة من حب الله تعالى ضعيفة،
فإنّ الناس متفاوتون في الحب. ويدل على التفاوت ما روي أن أبا حذيفة بن عتبة بن
ربـيعة بن عبد شمس لما زوّج أخته فاطمة من سالم مولاه عاتبته قريش في ذلك وقالوا:
أنكحت عقيلة من عقائل قريش لمولى؟ فقال: والله لقد أنكحته إياها وإني لأعلم أنه
خير منها، فكان قوله ذلك أشد عليهم من فعله، فقالوا: وكيف وهي أختك وهو مولاك؟
فقال: سمعت رسول الله r يقول :( مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنْظُرَ إلَى رَجُلٍ يُحِبُّ اللَّهَ
بِكُلِّ قَلْبِهِ فَلْيَنْظُرْ إلَى سَالِم)(قال العراقي في تخريجه:لم أره من حديث
حذيفة، وروى أبو نعيم في الحلية المرفوع منه من حديث عمر أن سالما يحب الله حقا من
قلبه، وفي رواية له أن سالما شديد الحب لله عز و جل لو لم يخف الله عز و جل ما عصاه،
وفيه عبد الله بن لهيعة)
فهذا
يدل على أن من الناس من لا يحب الله بكل قلبه فيحبه ويحب أيضاً غيره، فلا جرم يكون
نعيمه بلقاء الله عند القدوم عليه على قدر حبه، وعذابه بفراق ا الدنيا عند الموت
على قدر حبه لها.
وأما
السبب الثاني للكراهة: فهو أن يكون العبد في ابتداء مقام المحبة، وليس يكره الموت،
وإنما يكره عجلته قبل أن يستعد للقاء الله، فذلك لا يدل على ضعف الحب وهو كالمحب
الذي وصله الخبر بقدوم حبـيبه عليه فأحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيـىء له داره ويعد
له أسبابه فيلقاه كما يهواه فارغ القلب عن الشواغل خفيف الظهر عن العوائق،
فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال الحب أصلاً، وعلامته لدؤوب في العمل واستغراق
الهم في الاستعداد) انظر: الإحياء: 4/331)