المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: النبي الهادي |
الناشر: دار الكتاب
الحديث |
الفهرس
قلت: فحدثني عن رحلتك التاسعة.
قال: بعد أن خرجت من تونس، جاءني خطاب
من بعض أهلي لأسير إلى دمشق في حاجة عرضت لهم فيها، فأسرعت أحث خطاي إليها تاركا
بعض قلبي في ذلك البلد الصالح الذي امتلأت فيه بحب سحنون، وحب من يحيط به من
العلماء والصالحين.
في دمشق، التقيت الوارث التاسع الذي
تعلمت على يديه فن الاحتساب، وهو الفن التاسع من فنون الهداية .. وقد قدر الله أن
يكون هذا الوارث سببا في قضاء الحاجة التي تركت تونس من أجلها.
في ديوان المظالم .. في دمشق .. وهو
ديوان كانت دمشق لا تزال تحتفظ به، ولا تزال تحتفظ باسمه، وقفت أمام المسؤول عنه
أعرض حاجتي، وكان المسؤول قاسيا شديدا، وكأنه مطمئن إلى أنه الخصم والحكم، وأنه
ليس هناك من ديوان يعقب على ديوانه، ويستأنف أحكامه على الأحكام التي يصدرها
ديوانه.
بعد أن خرجت يائسا من عنده، وأنا
أقول في نفسي: هذا ديوان الظلمة، لا ديوان المظالم.. وهؤلاء خصوم، لا محامون ..
وعند هؤلاء تموت الحقوق، لا ترد الحقوق.
ما قلت هذا حتى وقف بجانبي بهامة
أرفع من الجبال، وقال: ارفع صوتك بها .. فلا يمكن للصوت المنخفض أن يفعل شيئا.
قلت: أتريد أن تزج بي في السجن؟
قال: إن كان السجن هو ثمن صوت
الحقيقة العالي، فادفع هذا الثمن، فلا
يمكن للمستضعف أن يخرج من ضعفه إلا برفع صوته.
قلت: أنت
تحضني على الثورة؟
قال: أنا
أحضك على ثورة أهل السلام، لا على ثورة أهل الصراع.
قلت: وما
الفرق بينهما؟
قال: ثورة
أهل الصراع تقتل الحياة، وتسفك الدماء، وتنبت الموت .. أما ثورة أهل السلام، فثورة
تنبت الحياة، وتثمر الأمل، وتقتل الألم.
قلت: أنا
مسلم .. ولست شيوعيا .. والإسلام لا يعرف أي ثورة.
قال: بل
يعرف ثورة أهل السلام .. فلا يمكن لدين يهتم بالإنسان وحقوق الإنسان أن لا يعرف
الثورة.
قلت: لم أر
في كتابنا المقدس أو في كتب تراثنا اسم الثورة.
قال: فهل
رأيت (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و(الاحتساب)؟
قلت: أجل
.. فأولهما وردت به النصوص المقدسة، وثانيهما وردت به كتب الفقه والتراث.. بل
امتلأت به كتب الفقه والتراث.
قال: أليست
الحسبة هي الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه ، والنهي عن المنكر الذي ظهر فعله ،
والإصلاح بين الناس؟
قلت: أنت
تردد ما ذكره الماوردي من تعريف الحسبة.
قال: كلهم
ذكر ذلك .. وكلهم حض على الثورة على فعل المنكر، والثورة على ترك المعروف.
قلت: أنا
موافق على كلامك .. ولكني أكره كلمة (الثورة)، فهي تذكرني بالدماء المسفوكة والجثث
المرمية على الطرقات.
قال: لا
ينبغي لأهل الحق أن يحول بينهم وبين الحقائق أي حجاب .. فهل تترك الحرية لأن
الديمقراطيين يدعونها .. وهل تترك التنوير لأن الظلاميين يدعونه.
قلت: لا ..
قال: فلا
ينبغي أن تكره الثورة إذن ..
قلت بيني
وبين نفسي: لقد ذكر لي معلم الهداية هذه الكلمة .. ولكني نسيت ما قال بالضبط.
قال: لا شك
أنه ذكر لك الفم الذي يثور على المحو، ليطفئ السراب، ويمحو الضباب.
قلت: أجل .. لقد ذكر هذا .. لكأن فمك هو الفم التاسع.
قال: إن كان الاحتساب هو الفم التاسع، ففمي هو ذلك الفم.
قلت: فمن أنت؟
قال: أنا العز الذي أعز الله به الدين، فصار عز الدين[1].
قلت: أأنا الآن بين يدي سلطان العلماء؟
قال: إن كان سلطان العلماء هو الذي لا يسكت على منكر، فيسرني أن أكون ذلك
الرجل.
قلت: فهل تأذن لي في صحبتك؟
قال: من الصعب أن يصحب مثلي .. فإن كنت تطيقني .. فأهلا وسهلا بصحبتك.
قلت: فبم نبدأ علمنا؟
قال: بالنهي عن المنكر الذي حصل لك .. فلا يمكن أن نسكت عن منكر.
قلت: لكنك تعلم ضعفي.
قال: ضع بين عينيك (الله) .. وسر، فستتزعزع الجبال لمرآك.
سرت معه، وأنا أشعر بعزة عظيمة لم أشعر بمثلها في حياتي .. وقد تعجبت لما حصل
لي ..
فالمسؤول الذي كان قد ردني أبشع رد قام إلي يحييني ويحيي معي العز، ثم لم يلبث
حتى انصرف برهة، وعاد إلي بما يرفع مظلمتي ..
طلب مني العز أن أشكره، ثم خرجنا من مكتبه، ونحن نشيع بالتحيات الطيبات
المباركات.
لم يخطر على بالي شيء كما خطر على بالي أن أسأل العز عن سر هذا، فقال: لن تفقه
هذا حتى تتعلم أسرار الحسبة[2] ..
قلت: وما أسرارها؟
قال: سران ..
قلت: فقط .. ما أيسرهما إذن.
قال: بل ما أصعبهما.
قلت: فما هما؟
قال: الإخلاص، والنصح.
قلت: فما الإخلاص؟
قال: أن لا تريد بالحسبة إلا وجه ربك، ألا ترى أن ، أن الحسبة مشتقة من الاحتساب وهو طلب
الأجر كما قال r :( من أدى خمس صلوات إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)[3]، وقال r :( من لقي الله لا يشرك به شيئا وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه
محتسبا وسمع وأطاع فله الجنة )[4]، وقال r لعبد الله بن
عمرو:( يا عبد الله بن عمرو إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا، وإن
قاتلت مرائيا مكاثرا بعثك الله مرائيا مكاثرا، يا عبد الله ابن عمرو على أي حال
قاتلت أو قتلت بعثك الله على تلك الحال )[5]،
وقال r:( إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله عنك
خطاياك إلا الدين، كذلك قال لي جبريل آنفا )[6]،
وقال r:( من أذن سبع سنين محتسبا
كتب الله له براءة من النار )[7]، وقال r:( الطاعون كان عذابا
يبعثه الله تعالى على من يشاء وأن الله تعالى جعله رحمة للمؤمنين فليس من أحد يقع الطاعون
فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل
أجر شهيد)[8]
قلت: وقال r:( من صام رمضان إيمانا
واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)[9]، وقال r:( من قام ليلة القدر
إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)[10]،
وقال r:( من تبع جنازة مسلم
إيمانا واحتسابا وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر
بقيراطين، كل قيراط مثل أحد؛ ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط
من الأجر )[11]
قال: وأحاديث أخرى كثيرة ..
قلت: أعلم ذلك .. فما تريد من هذا؟
قال: أساس الأعمال هو الإخلاص لوجه
الله .. فلا يمكن لأحد أن يقبلك وأنت تعبد نفسك .. ألا ترى ذلك الرجل كيف أقبل
عليك كل ذلك الإقبال لما عدت إليه.
قلت: أجل .. وقد تعجبت من ذلك أيما
تعجب.
قال: إن الله تعالى يلقي على من
يحتسب في سبيله من المهابة ما تندك له الجبال.
قلت: لقد ذكرتني بسميك العز بن عبد
السلام .. فقد روي أنه علم مرة بوجود حانة تبيع الخمور في القاهرة، فخرج إلى
السلطان نجم الدين أيوب في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العساكر مصطفين بين يديه،
ومجلس المملكة، وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته
ـ على عادة سلاطين الديار المصرية ـ وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان،
فالتفت الشيخ إلى السطان وناداه: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم
أبوىء لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال السلطان: هل جرى هذا؟ فقال الشيخ: نعم،
الحانة الفلانية يباع فيها الخمور , وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه
المملكة! يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون، قال: يا سيدي، هذا أنا ما
عملته، هذا من زمن أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون :﴿ إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(الزخرف:
من الآية22)؟ فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة.
وعندما سأله أحد تلاميذه لما جاء من
عند السلطان ـ وقد شاع هذا الخبر ـ: يا
سيدي كيف الحال؟ فقال: يا بني، رأيته في تلك العظمة فأردتُ أن أهينه لئلا تكبر
نفسُه فتؤذيه. فقلتُ: يا سيدي، أما خفتَه؟ قال: والله يا بني استحضرتُ هيبة الله
تعالى، فصار السلطان قُدّامي كالقط[12].
قلت: علمت الأول، ولا أحسب أني
أجادلك فيه .. فالكل متفق عليه .. فما الثاني؟
قال: النصح .. ألا ترى أن النبي r سمي النصيحة ديناً، وجعلها من حقوق
المسلمين فيما بينهم، وبايع بعض صحابته على النصح لكل مسلم، وعدد جوانب النصح
ومجالاته.
قلت: أجل .. فلم كان النصح ركنا من
أركان الاحتساب؟
قال: الاحتساب إخلاص لله .. والنصح
إخلاص للمحتسب عليه .. فلا يمكن لأحد أن يقبل احتسابك، وهو يشعر أنك تغشه.
قلت: صدقت .. وقد عبر عن ذلك الخطابي، فقال: ( النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له)[13]، وقال الراغب: ( النصح تحري فعل أو
قول فيه صلاح صاحبه )[14]،
قال: ومثل ذلك
قال محمد بن نصر المروذي: (قال بعض أهل العلم: هي عناية القلب للمنصوح له كائناً
من كان)[15]
قلت: فكيف أكون
ناصحا لمن أحتسب عليه؟
قال: سبعة إن
فعلتها، فقد اكتمل نصحك، وإن ضيعتها، فقد ضيعت نصحك.
قلت: فما أولها؟
قال: أن لا
تنصحه بما طلبه هواك .. بل انصحه بما أمره ربه .. فلا ينبغي للعباد أن يعبدوا غير
ربهم، ألم تسمع قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الحجرات:1)؟
قلت: بلى .. وهل يمكن أن ينصح أحد
أخاه في مثل هذا؟
قال: كثيرون يفعلون ذلك .. فمنهم من
يرى رأيا، ولا يرى غيره، ثم يروح يقدم رأيه على كل رأي، ومذهبه على كل مذهب.
قلت: أولئك المتعصبون.
قال: أجل .. إنهم يجعلون من آرائهم
دينا يدينون به من دون الله، فيدعون لدينهم، ويغفلون عن دين الله.
قلت: علمت
أولها، فما ثانيها؟
قال: أن لا
تنكر عليه إلا فيما اتفق الكل على طلب تركه، ولا تأمره إلا بما اتفق الكل على طلب
فعله.
قلت: أعلم هذا
.. فقد نص الفقهاء على أنه لا إنكار على المختلف فيه ..وقد قال في هذا سفيان
الثوري: ( إذا رأيت الرجل يعمل العلم الذي اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه)،
وقال: ( ما اختلف فيه الفقهاء، فلا أنهي أحداً من إخواني أن يأخذ به)، ، وقال أحمد
بن حنبل: ( لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب، ولا يشدد عليهم)[16]
قال: وعلى هذا
نص الكل .. ولا ينبغي للفقيه إلا أن ينص على هذا.
قلت: علمت هذا
..فما ثالثها؟
قال: أن تحرص
على ألا تنصحه إلا سرا .. حتى لا تكون نصيحتك فضيحة .. وحتى لا تستثير من جنود
نفسه من يحول بينه وبين قبول نصيحتك.
قلت: أعلم هذا،
وقد قال في هذا ابن رجب: ( وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد، وعظوه سراً، حتى قال
بعضهم: ( من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما
وبخه)[17]، وقال الفضيل بن عياض: ( المؤمن يستر
وينصح، والفاجر يهتك ويعير)، وقال أبو حاتم بن حبان البستي: ( النصيحة تجب على
الناس كافة على ما ذكرنا قبل، ولكن ابداءها لا يجب إلا سراً، لأن من وعظ أخاه
علانية فقد شانه، ومن وعظه سراً فقد زانه، فإبلاغ المجهود للمسلم فيما يزين أخاه
أحرى من القصد فيما يشينه)[18]، وقال أبو محمد ابن حزم الظاهري: (
وإذا نصحت فانصح سراً لا جهراً، وبتعريض لا تصريح، إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك،
فلابد من التصريح)[19]
قال: وعلى هذا
نص الكل .. ولا ينبغي للفقيه إلا أن ينص على هذا.
قلت: علمت هذا
..فما رابعها؟
قال: أن تتلطف مع
من تنصحه، فقبول النصح كفتح الباب، والباب لا يفتح إلا بمفتاح مناسب، والمنصوح
امرؤ له قلب قد أغلق عند مسألة قصر فيها إن كانت أمراً مطلوباً للشارع، أو وقع
فيها، إن كانت أمراً منوعاً من الشارع، وحتى يترك المنصوح الأمر أو يفعله لابد له
من انفتاح قلبه له، ولابد لهذا القلب من مفتاح، ولن تجد له مفتاحاً أحسن ولا أقرب
من لطف في النصح، وأدب في الوعظ، ورفق في الحديث.
قلت: أعلم هذا،
وقد قال في ذلك عبد العزيز بن أبي داود: ( كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه
شيئاً يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه، فيستغضب
أخاه، ويهتك ستره)[20])
قال: وقبله قال
رسول الله r :( ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه،
وما نزع من شيء إلا شانه)[21]
قلت: علمت هذا،
فما خامسها؟
قال: أن لا
تلزم من نصحته بما نصحته، فقد قال الله تعالى لأشرف خلقه :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ
إِلَّا الْبَلاغُ )(الشورى: من الآية48)، وقال :﴿
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ
تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)
(النور:54)، وقال حاكيا عن رسله :﴿ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (يّـس:17)
قلت: لقد قال
في ذلك ابن حزم: ( ولا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذه الوجوه، فأنت ظالم
لا ناصح، وطالب طاعة وملك، لا مؤدي حق أمانة وأخوة، وليس هذا حكم العقل، ولا حكم
الصداقة، لكن حكم الأمير مع رعيته)[22]، وقال: ( فإن خشنت كلامك في النصيحة
فذلك إغراء وتنفير، وقد قال الله تعالى:﴿ فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) (طه: من الآية44). وقال رسول الله ( : ( ولا
تنفروا)[23]، وإن نصحت بشرط القبول منك، فأنت
ظالم، أو لعلك مخطئ في وجه نصحك، فتكون مطالباً بقبول خطئك، وبترك الصواب)[24]
قال: وعلى هذا
نص الكل .. ولا ينبغي للفقيه إلا أن ينص على هذا.
قلت: علمت هذا
..فما سادسها؟
قال: أن تختار
المحل المناسب للنصيحة، فلا تنصحه إلا في الوقت والمحل الذي تراه مناسبا لها، وقد
قال في ذلك ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ:( إن للقلوب شهوة وإقبالاً، وفترة
وإدباراً، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها)
قلت: علمت هذا
.. فما سابعها؟
قال: أن لا تذكر لمن تنصحه ذنبه.
قلت: فكيف أنكر عليه إذن؟
قال: إذا رأيت عاصيا، فحدثه عن شؤم
معصيته، ولا تحدثه عن اقترافه لها .. فإنك إن فعلت ذلك عيرته، وإذا عيرته منعته من
قبول نصيحتك.
قلت: صدقت، وقد وردت النصوص المقدسة
بذم التعيير، وقد جاء في الحديث قوله r
:( لا تُظْهِر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك)[25]، وقال r :( من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله)[26]
وقد قال الحسن ـ رضي الله عنه ـ: (
كان يقال : من عيَّر أخاه بذنب تاب منه لم يمت حتى يبتليه الله به)، ويُروى من
حديث ابن مسعود بإسناد فيه ضعف :( البلاء موكل بالمنطق فلو أن رجلاً عيَّر رجلاً
برضاع كلبة لرضعها)، ولما ركب ابن سيرين الدَّيْن وحبس به قال : ( إني أعرف الذنب
الذي أصابني هذا عيَّرت رجلاً منذ أربعين سنة فقلت له : يا مفلس)
قال: وعلى هذا
نص الكل .. ولا ينبغي للفقيه إلا أن ينص على هذا.
قلت: فقهت
الجملة، فأين التفاصيل؟
قال: اصحبني إلى مدرسة الحسبة لتتعلم الحسبة، وأسرار التأثير فيها.
قلت: ألا تزال توجد مثل هذه المدارس في هذا الزمن؟
قال: وما يمنع من وجودها؟
قلت: لقد استبدلت الآن بغيرها.
قال: لقد آثر أهل البلدة المباركة، وآثر حكامها أن لا يستبدلوا هذا لما رأوا
من بركاته.
قلت: فدلني على هذه المدرسة .. فما أشد شوقي لأن أرى في ديار الإسلام مثل هذه
المدرسة.
***
مكثت فترة
طويلة مع العز بن عبد السلام أتعلم منه أسرار الحسبة، وفقهها، وما تحمله من معاني
الهداية الرفيعة .. وقد اهتديت من خلال صحبتي له إلى أن رسول الله r هو سيد المحتسبين ومعلمهم .. وأن
الاحتساب المؤثر والفاعل لم يكتمل إلا لمن اهتدى بهديه فيه.
***
ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا
أنفسنا قد قطعنا المرحلة التاسعة من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب .. ولم
يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية
تتربص بنا من كل اتجاه.
لقد تنزلت علي بمجرد قطعي لتلك
المرحلة أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد.
([1]) نشير به إلى الإمام عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي
(المعروف بالعز بن عبد السلام) (577 - 660هـ، 1181 - 1262م)، الملقب بسلطان العلماء،
وهو فقيه أصولي شافعي، كان يلقب بسلطان العلماء وبائع الملوك.
ولد
بدمشق ونشأ وتفقه بها على كبار علمائها. كان علمًا من الأعلام، شجاعًا في الحق،
آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، جمع إلى الفقه والأصول العلم بالحديث والأدب
والخطابة والوعظ.
كان
خطيباً للجامع الأموي، تخشى السلاطين والأمراء صولته وسلطانه، ولما أعطى السلطان
الصالح إسماعيل الإفرنج بلدة صيدا أنكر عليه ذلك فوق المنبر، وترك الدعاء له في
الخطبة، وخشي السلطان قوة تأثير عزالدين بن عبد السلام على الناس، فاعتقله ثم طلب
منه مغادرة الشام، فغادرها إلى مصر، فقوبل بالترحاب هناك من ملكها الصالح ومن
علمائها وأهلها، وولاه السلطان الخطبة في جامع عمرو بن العاص وولاه رئاسة القضاء.
له
مؤلفات كثيرة منها: الفوائد؛ الغاية؛ القواعد الكبرى والقواعد الصغرى؛ الفرق بين
الإيمان والإسلام؛ مقاصد الرعاية؛ مختصر صحيح مسلم؛ الإمامة في أدلة الأحكام؛ بيان
أحوال الناس يوم القيامة؛ بداية السول في تفضيل الرسول؛ الفتاوى المصرية. توفي
بالقاهرة.(انظر: الموسوعة العربية العالمية)
([2]) اختصرنا الكلام عن الحسبة هنا باعتبارها من الولايات الإسلامية
التي تقوم عليها العدالة في النظام الإسلامي، ولهذا فصلنا الحديث عنها في رسالة
(عدالة للعالمين)، ولا بأس أن نشير هنا إلى مختصر لما يتحدث الفقهاء عنه في هذا
الباب.
فقد ذكر الفقهاء
للحسبة أربعة أركان:
1) المحتسب: وهو من يقوم
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يشترط فيه إذن من ولي الأمر، فكل مسلم مأمور
بتغيير المنكر: من رأى منكم منكرا فليغيره. ونقل القرطبي الإجماع على أن المنكر
واجب تغييره على كل من قدر عليه، ثم إن من الحسبة، الحسبة على السلاطين، فكيف يطلب
منهم الإذن للاحتساب عليهم؟!
ولكون المحتسب يرجى له
الحصول على أجر الاحتساب شروط نذكر منها ما لا بد منه: وهو الإسلام وإخلاص النية
والمتابعة..أي متابعة النبي r في الاحتساب. ومنها:
العلم بما يأمر به وينهى عنه، وبأحوال المأمور والمنهي والملابسات وظروف المنكر.
ومنها: القدرة على التغيير من اليد إلى اللسان إلى القلب الذي لا يعفى منه أحد.
وهناك آداب للمحتسب من
أهمها: الرفق في الاحتساب ووضعه في موضعه، ومن الآداب: البدء بالنفس، والبدء
بالأهم، ومراعاة سنة التدرج، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والصبر واحتمال
الأذى، والسعي لإيجاد البدائل الإسلامية للمنكرات المراد إزالتها.
2) المحتسب عليه: وهو من يؤمر بالمعروف وينهى عن
المنكر، ومن شروطه، أن يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه في حقه منكرا؛ وإن لم يكن
معصية يحاسب عليها ديانة، فكل من الصبي والمجنون والناسي والجاهل يمنع من المنكر،
وإن لم يكن مؤاخذا به شرعا عند الله. والمحتسب عليهم يختلفون باختلاف حالهم في
القرابة والبعد والقوة والشوكة ودخولهم في الإسلام وغير ذلك. ولكل واحد منهم أحكام
ومباحث لا يتسع المجال لتفصيلها.
3) المحتسب فيه: وهو
المنكر الموجود الظاهر للمحتسب بغير تجسس، ويكون مما يعلم أنه منكر بغير اجتهاد،
ومن شروطه: أن يكون موجودا في الحال هو أو مقدماته، أما ما فات فليس فيه إلا
النصح، وأن يكون ظاهرا يراه المحتسب أو يسمعه أو ينقل له نقلا موثوقا، كل ذلك بدون
تجسس، ومن شروطه: أن لا يكون مما اختلف فيه من مسائل الاجتهاد اختلافا معتبرا، فلا
إنكار في مسائل الاجتهاد.
4) الاحتساب: وهو القيام بالحسبة: وهو مراتب، ولكل
مرتبة شروط:
الأولى: التغيير باليد
وهي أقوى مراتب الحسبة، ومن أهم شروطها: القدرة وعدم ترتب مفسدة أكبر من الاحتساب.
المرتبة الثانية:
التغيير باللسان، وإنما ينتقل إليها إذا عجز عن اليد.
المرتبة
الثالثة: الإنكار بالقلب، وهذا لا رخصة لأحد في تركه، بل يجب أن يكون بعض المنكر
وكراهيته في قلب كل مسلم، فآخر حدود الإيمان هو الإنكار بالقلب، وحقيقة الإنكار
بالقلب، عدم الرضا بالمنكر ومفارقته والنفور منه.