الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: سلام للعالمين

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

أولا ـ الأنا

الصراع

الرهبانية:

الحيوانية:

الغرائزية:

الشيطانية:

الأسطورية:

السلوكية:

الربوبية:

السلام

الجسد:

الروح:

النفس:

العقل:

القلب:

الخلافة:

العبودية:

 

أولا ـ الأنا

في اليوم الأول من تلك الأيام العشرة، نهض أحدنا، وكان أكبرنا سنا، وقال: سأبدا أنا بالحديث.. فأنا ـ على حسب ما يبدو ـ أكبركم سنا، ولعلي كنت أقربكم للموت، لولا أن القدر طرحنا في هذا المحل لنستوي جميعا في التهامنا للموت، أو التهام الموت لنا.

ليس هذا فقط ما يجعل لي الحق في التفرد بالبداية.. بل هناك أسباب أخرى ستعرفونها من خلال إيرادي لحكايتي.. فأنا الذي كتب له أن يتعلم على جمع من الأساتذة كانوا هم السبب في كل صراع عانيناه، وعانته الأجيال الطويلة من هذه البشرية..

قلنا: من أنت أولا؟

قال: لقد سماني أهلي أسماء كثيرة.. ولكني بعد أن التقيت النور طلقتها جميعا، ورحت أبحث عن اسم لي.. ولم أظفر بعد بذلك الاسم.. وإن شئتم الحقيقة، فقد جئت إلى هذه البلاد لأبحث عن اسم لي.. لكن القدر شاء أن أموت من غير اسم.. ولكن حسبي أني طلقت جميع الأسماء التي فرضت علي.

قلنا: من أي البلاد أنت؟

قال: أنا من كل تلك البلاد التي كان يسكنها الرومان واليونان وغيرهم من الشعوب.. أنا ابن لها جميعا، وعشت على ثراها جميعا، وتقلبت في أحضانها جميعا.. ولذلك أتيح لي أن أتتلمذ تلمذة مباشرة على أولئك الذين يسميهم الناس عباقرة.. فينصبون لهم التماثيل، ويجثون على ركبهم بين أيديهم يتتلمذون عليهم.

قلنا: نراك تحتقر أساتذتك.

قال: لقد أتيح لي بعد تلك الفترة الطويلة من التلمذة على أولئك الذين يتوهم قومنا أنهم عباقرة، أن ألتقي برجل واحد نال من أشعة شمس محمد ما جعلني أحتقر جميع أساتذتي.. لقد كان رجلا عاميا بسيطا في مظهره.. لكن الأشعة التي تعرض لها من تلك الشمس جعلته أستاذا يحمل من الحقائق ما لا يحمله أعظم أساتذتنا وأكبرهم شأنا.

قلنا: فحدثنا عن هذا الرجل.

قال: لن تعرفوا قيمة حديثه حتى تعرفوا أساتذتي.. فلا يمكن للشمس أن يعرف قيمتها من لم يلهب عينيه سياط الظلام.

قلنا: فحدثنا عن أساتذتك[1].

الصراع

غرق صاحبنا الأول في صمت عميق.. وكأنه يسترجع ماضيه البعيد، السحيق في بعده..

الرهبانية:

وبعد فترة انتظار طويلة لم نشأ أن نحرجه فيها، قال: أول حكايتي تبدأ من الكنيسة.. لقد كنت سليل أسرة لها ارتباط مقدس بالكنيسة، كانت تخدمها بجوارحها ومشاعرها.. وكانت تعتبر رجال الدين هم المقدسون الذين لا ينطقون إلا بالحق، ولا يسلكون إلا سبل الحق.

وقد سرى إلي من إرث عائلتي ما جعلني تابعا ذليلا لكل المواعظ التي ينطق بها رجال الدين، لا أناقشها، ولا أفكر في مناقشتها.

وقد قدر لي أن يكون أول أساتذتي رجل لم يكن يدعو في ظاهره إلا للزهد.. كان اسمه (سان بونافنتور)[2].. لقد كان يردد على مسامعي كل حين ما ورد في الإنجيل من أنه (لا يدخل غني ملكوت السموات، حتى يدخل الجمل في سم الخياط.. ).. ويردد قول المسيح لشاب آمن به ودخل في دينه:( ذا أردت أن تكون كاملا، فاذهب وبع ما تملك واعطه للفقراء، ثم تعال واتبعني)، وقوله لتلاميذه:( وأنتم فلا تبحثوا عما تأكلون وما تشربون ولا تهتموا لذلك، لأن هذه الأشياء إنما يبحث عنها غير المؤمنين)

وكان يردد لي أقوال القديس أمبروز ـ أسقف ميلانو فى القرن الرابع ـ الذي كان يعظ تلاميذه وغيرهم فى أمر الروح معتبرا أنها نقيض للجسد الذى هو شر.. وقد كانت تلك الفكرة مصدر إلهام لتلميذه الكبير القديس أوغسطين الذى أصبح فيما بعد أسقفاً لمدينة هبو فى شمال إفريقيا..

لا أزال أذكر من أقوال أمبروز قوله: (فكر فى الروح بعد أن تكون قد تحررت من الجسد، ونبذت الانغماس فى الشهوات ومتع اللذات الجسدية، وتخلصت من اهتمامها بهذه الحياة الدنيوية)

وكان يذكر لي صلاة القديس أوغسطين التي يقول فيها: (آه! خذ منى هذا الجسد، وعندئذ أبارك الرب)

وكان يذكر لي ما اعتاد فرانسيس الأسيزى أن ينادى به جسده من قوله: (أخى الحمار)! كما لو كان الجسد مجرد بهيمة غبية شهوانية، تستخدم لحمل الأثقال.

وكان يذكر لي ما كان القديسون يتعهدون به أجسادهم من اعتداء يومى من أجل إماتتها بالتعذيب الذاتى بطرق تقشعر من هولها الأبدان.

وقد سرى لي من تأثير هذه التعاليم ما جعلني أحتقر جسدي احتقارا شديدا.. لقد كنت أنظر إليه كما ينظر العدو إلى عدوه.. لذلك كان الصراع بين روحي وجسدي لا يكاد ينتهي حتى يبدأ.

لقد علمني أستاذي ـ الذي بدأت بالتعلم على يديه حياتي ـ أن نظام الرهبنة الذي ينتظرني يتطلب مني أربعة شروط لا يمكنني أن أكون راهبا مقدسا من دونها.

قلنا: فما أولها؟

قال: العزوبة.. فلا يمكن للراهب ولا لرجل الدين.. بل ولا للمسيحي المخلص.. أن يكون متزوجا.. ولهذا، فإن هذا الأستاذ ملأ مشاعري نفورا من المرأة حتى لو كانت زوجة، فقد كان يقول لي كل حين:( إذا رأيت امرأة فلا تحسب أنك ترى كائنا بشرياً، بل ولا كائنا حياً وحشياً، وإنما الذى ترى هو الشيطان بذاته والذى تسمع هو صفير الثعبان)[3]

وكان يقرأ لي كل حين ما ورد في إنجيل متى:( يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات من استطاع أن يقبل فليقبل)(متى: 19: 13 )

وكان يردد علي كل حين قوله :( من المشاكل المستعصية على الكنيسة مشكلة زواج رجال الدين غير الرهبان أو تسريهم.. لقد كانت الكنيسة منذ زمن بعيد تعارض زواج رجال الدين، لأن القس المتزوج يضع ولاءه لزوجه وأبنائه في منزلة أعلى من إخلاصه للكنيسة )..

وكان يقول لي: (إن القس المتزوج سيحاول أن ينقل كرسيه أو مرتبته لأحد أبنائه.. يضاف إلى هذا أن القس يجب أن يكرس حياته لله وبنى الإنسان، وأن مستواه الأخلاقي يجب أن يعلو على مستوى أخلاق الشعب وأن يضفي على مستواه هذه المكانة التي لا بد منها لاكتساب ثقة الناس وإجلالهم إياه)[4]

قلنا: هذا الشرط الأول للرهبانية، فما الشرط الثاني؟

قال: التجرد الكامل عن الدنيا.. فقد أقنعني هذا الأستاذ أن على الراهب ـ حتى يصير راهبا ـ أن يعتزل عزلة نهائية عن المجتمع، ويقطع النظر عن كل أمل في الحياة.

قلنا: فما الشرط الثالث؟

قال: عدم الاهتمام بالجسد.. بل تعذيب الجسد.. ألم أقل لكم: إنه كان يصور لي جسدي رماحا تحارب روحي وسيوفا تنهش حقيقتي؟

لقد حدثني عن الراهب ماكاريوس، وكيف أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائما نحو قنطار من حديد.

وحدثني عن الراهب يوسيبيس، وكيف كان يحمل نحو قنطارين من حديد.. وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح…

وحدثني عن الراهب يوحنا الذي تعبد ثلاث سنوات قائما على رجل واحدة، ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدة، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة.

وحدثني عن القديس كولمبان الذي كانت السناجب تجثم على كتفيه فتدخل في قلنسوته وتخرج منها، وهو ساكن.

وحدثني عن راهب اخترع درجة جديدة من الورع، بحيث  يربط نفسه بسلسلة إلى صخرة في غار ضيق[5].

وحدثني عن بعض الرهبان.. نسيت أسماءهم.. كانوا لا يكتسون دائما، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام.. وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش.

وكان يحدثني ـ بشوق عظيم ـ عن الرهبان الذين كانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح، ويتأثمون من غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأنقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس.

لقد حدثني عما قاله الراهب اتهينس من أن الراهب أنتونى لم يقترف إثم غسل الرجلين طوال عمره.. وعن الراهب أبراهام أنه لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين عاماً.. وعن الراهب الإسكندري الذي قال بعد زمان متلهفاً: و أسفاه، لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات[6].

قلنا: فما الشرط الرابع؟

قال: تحمل العقوبات الشديدة في حال التفريط في الطقوس الكثيرة التي يتطلبها نظام الرهبانية.. لقد كان أستاذي يعلمي كل حين تعاليم القديس (كولمبان) الذي أسس الأديرة في جبال الفوج بفرنسا:

ومن العقوبات التي لا أزال أذكرها: ستة سياط إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة أو نسى أن يدرم أظافره قبل تلاوة القداس، أو تبسم أثناء الصلاة، أو قرع القدح بأسنانه أثناء العشاء الربانى.. وكانت اثنا عشر سوطاً عقاب الراهب إذا نسى أن يدعو الله قبل الطعام وخمسون عقاب المتأخر عن الصلاة، ومائة لمن يشترك في نزاع ومئتان لمن يتحدث من غير احتشام مع امرأة.

وأقام (كولمبان) نظام الحمد الذى لا ينقطع، فكانت الأوراد يتلوها بلا انقطاع ليلاً ونهاراً طائفة بعد طائفة من الرهبان يوجهونها إلى عيسى ومريم والقديسين[7].

قلنا: فهل مارست كل هذه الشروط التي علمك إياها أستاذك؟

قال: أجل.. لقد مارستها بإخلاص وصدق إلى أن جاء اليوم الذي طلقتها فيه طلاقا بائنا، وطلقت معها أستاذي، وتخلصت من الاسم الذي سماني به.. ولم أندم على ذلك التطليق في أي يوم من أيام حياتي.

قلنا: كيف كان ذلك؟

قال: لقد رأيت بعيني في الدير الذي كنت راهبا فيه ما ذكره رئيس دير كلونى من قوله:( إن بعض رجال الدين في الأديرة وفي خارجها يستهترون بابن العذراء استهتاراً يستبيحون معه ارتكاب الفحشاء في ساحاته نفسها، بل في تلك البيوت التى أنشأها المؤمنين الخاشعون لكى تكون ملاذاً للعفة والطهارة في حرمها المسور، لقد فاضت هذه البيوت بالدعارة حتى أصبحت مريم العذراء لا تجد مكاناً تضع فيه الطفل عيسى)[8]

قلنا: فقد انحرفوا عن المنهج الذي كانوا يدعون إليه؟

قال: ليتهم انحرفوا إلى الفطرة.. لقد انحرفوا إلى الشذوذ.. واستبدلوا الصراع بالصراع.

قلنا: كيف كان ذلك؟

قال: لقد أدى كل ذلك التزمت والغلو ومغالبة الطبع السوي والفطرة السليمة إلى نتيجة عكسية تماماً.. لقد أصبحت الأديرة مباءات للفجور والفسق، تضرب بها الأمثلة في ذلك.

لن أحدثكم عن ذلك.. ولكني رأيت بعيني من الفضائح ما ملأني بالنفور التام من الدير ومن الرهبانية.. بل ومن الكنيسة نفسها[9].

الحيوانية:

قلنا: فإلي أين التجأت؟

قال: بعد أن صارعت روحي جسدي زمنا طويلا.. وبعد أن اكتشفت السراب الذي أوقعتني فيه روحي.. عدت إلى جسدي أقبله وألتزمه ولا أرى في الوجود غيره.

قلنا: فهل وجدت من الأساتذة من أعانك على ذلك؟

قال: كثيرون هم.. كانوا يتبوأون أشرف المراتب.. ويسكنون أحسن القصور.. وينالون أعلى المرتبات..

قلنا: فحدثنا عنهم.

قال: أولهم رجل كان يدعوه الناس داروين [10].. لقد لقيته بعد أن عانيت الأمرين في دير الرهبان.. وقد كنت حينها مستعدا لأي اعتناق فكرة بشرط أن لا يكون فيها رائحة للرهبانية.

في ذلك الوقت الذي كنت فيه مستعدا لأي شيء لقيته وهو يحمل جمجمة لست أدري لمن كانت.. هبته في البداية.. لكني سرعان ما انبهرت به.. ثم سرت تابعا له تبعية الظل لصاحبه.

ولم أكن لأتبعه لولا أنه.. وفي بداية لقائي به.. طلب مني أن أرمي الكتاب المقدس الذي كنت أحمله، وأعطاني بدله كتابا كان اسمه (أصل الأنواع)[11]

وقد أعجبت كثيرا بهذا الكتاب.. فهو كتاب لم يكن يتحدث عن ذلك الشعب المدلل.. وهو كتاب لم يكن يميز بين جنس وجنس.. فهو كتاب تستوي فيه البشرية جميعا العرق الإسرائيلي وغيره من الأعراق.. بل إنه فوق ذلك كله لم يكن يميز بين الإنسان والحيوان.. مهما كان ذلك الحيوان.

في أول لقاء لي به، قال لي: خذ هذا الكتاب.. فستجد فيه الحقيقة التي لا حقيقة فوقها..

قلت: أي حقيقة؟

قال: حقيقتك.. أنت.. الإنسان.

قلت: لقد دلني الكتاب المقدس على حقيقتي..

قال: ليس في الدنيا كتاب مقدس.. الكل يمكن أن يقدس.. والكل يمكن أن يدنس.. انظر إلى كتابي هذا.. إني أراه أقدس كتاب في الدنيا.

قلت: فما الذي جعله مقدسا.. هل تراه أوحي إليك كما أوحي للأنبياء تلك الأسفار المقدسة.

قهقه قهقهة عالية، وقال: أي أنبياء؟ وأي أسفار؟.. هل ترى أن الله ـ إن كان هناك شيء اسمه الله ـ ينزل من كبريائه ليقول لنا :( سَلِّمْ عَلَى بِرِسْكَا وَأَكِيلاَ، وَعَائِلَةِ أُونِيسِيفُورُسَ. أَرَاسْتُسُ مَازَالَ فِي مَدِينَةِ كُورِنْثُوسَ. أَمَّا تُرُوفِيمُوسُ، فَقَدْ تَرَكْتُهُ فِي مِيلِيتُسَ مَرِيضاً. اجْتَهِدْ أَنْ تَجِيءَ إِلَيَّ قَبْلَ حُلُولِ الشِّتَاءِ.يُسَلِّمُ عَلَيْكَ إِيُوبُولُسُ، وَبُودِيسُ، وَلِينُوسُ، وَكَلُودِيَا، وَالإِخْوَةُ جَمِيعاً ) (تيموثاوس: 4: 19)

أو ترى الله ينزل من علياء عظمته ليقول لنا وراح يقرأ:( وكان في سنة الاربع مئة والثمانين لخروج بني اسرائيل من ارض مصر في السنة الرابعة لملك سليمان على اسرائيل في شهر زيو وهو الشهر الثاني انه بنى البيت للرب. والبيت الذي بناه الملك سليمان للرب طوله ستون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وسمكه ثلاثون ذراعا. والرواق قدام هيكل البيت طوله عشرون ذراعا حسب عرض البيت وعرضه عشر اذرع قدام البيت. وعمل للبيت كوى مسقوفة مشبّكة. وبنى مع حائط البيت طباقا حواليه مع حيطان البيت حول الهيكل والمحراب وعمل غرفات في مستديرها. فالطبقة السفلى عرضها خمس اذرع والوسطى عرضها ست اذرع والثالثة عرضها سبع اذرع لانه جعل للبيت حواليه من خارج اخصاما لئلا تتمكن الجوائز في حيطان البيت. والبيت في بنائه بني بحجارة صحيحة مقتلعة ولم يسمع في البيت عند بنائه منحت ولا معول ولا اداة من حديد. وكان باب الغرفة الوسطى في جانب البيت الايمن وكانوا يصعدون بدرج معطّف الى الوسطى ومن الوسطى الى الثالثة. فبنى البيت واكمله وسقف البيت بألواح وجوائز من الارز. وبنى الغرفات على البيت كله سمكها خمس اذرع وتمكنت في البيت بخشب أرز )(ملوك 6: 1-10).. إلى آخر هذا الوصف الطويل الذي لا ينتهي حتى يبدأ غيره.

قلت: فما الذي جعل كتابك مقدسا؟

قال: العلم.. كتابي يعتمد على العلم والحقائق.. أما الكتاب الذي يسمونه مقدسا، فيعتمد على حكايات العجائز.. وأنا أتمتع بحكايات العجائز.. ولكني لا أتعلم على أيديهم.

قلت: فما دلك العلم والحقائق على حقيقة الإنسان؟

قال: لقد صورت فيلما رائعا عن ذلك.. فيلما يعتمد على الحقيقة وحدها..

قلت: فيلم واقعي، أم فيلم خيالي؟

قال: بل فيلم علمي واقعي.. فأنا أتمتع بالخيال، ولكني لا أثق فيه، ولا أعتمد عليه.

قلت: إن هذا لعجيب.. هل وجدت مركبة الزمن التي رحلت بك إلى بداية البشرية؟

أشار إلى الجمجمة التي كان يحملها، وقال: أجل.. هذه هي مركبتي.. في هذه الجمجة يخزن تاريخ الإنسان..

قلت: فحدثني عن هذه الجمجمة العجيبة.

قال: سأحدثك عما حصل قبلها.. فلن تفهم تاريخ هذه الجمجمة حتى تفهم ما حصل قبلها..

في البدء.. وبعدما بردت الارض وتكونت بحارها وجبالها وسهولها وغلافها الجوى واستعدت لاستقبال الحياة عليها، وذلك بعد تعرضها خلال ملايين السنين للتطور من حال إلى حال[12].

وكان أول ظهور للحياة على الأرض فوق سطح الماء والمحيطات والمستنقعات وعلى شواطئ المسطحات المائية التى تكونت عندها مادة الطين، حيث اختلط الماء بالتراب.

ومن عفن الطين المنتن نشأت أبسط وأصغر أنواع الحياة التى نراها ممثلة في بعض أنواع البكتيريا وبعض الكائنات وحيدة الخلية التى لم تتميز بعد على أنها نبات أو حيوان.

ومن هذا الأصل المشترك لجميع الكائنات نبت فرعان من الخلايا المجهرية ـ أى التى لا ترى إلا بواسطة المجاهر المكبرة ـ تولد من أحدهما النبات، ومن الآخر الحيوان.

أما فرع الحلايا المكونة للنباتات، فسرعان ما استحدثت طريقة عجيبة لتركيب مادة الكلوروفيل الخضراء في هيكلها لتكسب بها الطاقة من ضوء الشمس، وتستعين بها على استخلاص الكربون من غاز ثانى أكسيد الكربون الموجود في الجو، ثم تحويله إلى مواد سكرية ونشوية، وكان هذا بدء ممارسة عملية التمثيل الضوئى لنمو النبات.

ثم إن الخلايا أخذت تحيط أجسامها الدقيقة بجدران من هذه المواد الكربونية في هيئة السليولوز، وكانت تستعمل الطاقة التى تنبعث في أجسامها نتيجه التمثيل الضوئى داخل هذه الجدران في التحرك.

ثم إن هذه الخلايا كانت كائنات متناهية في الدقة تعيش في غير جلبة أو ضوضاء، ويأتيها رزقها رغدا من الهواء وماء البحر وأملاحه.

وبعد زمن طويل مضى على هذه الخلايا، وهى تنمو وتتطور نشأت في البحار كائنات كثيرة لا عدد لها.

وكانت  هذه العضويات الأولى هي الأصل في جميع أعضاء مملكة النبات التى تكاثرت وغطت الارض بأعشابها وأشجارها وغاباتها الضخمة الكثيفة.

ومثل ذلك حصل لعالم الحيوان، فقد انقسمت الخلايا الحيوانية، وكونت الحيوانات التى عاشت على النبات وغيره، وصارت أنواعا مختلفة من الأحياء على الأرض.

قلت: هذا تفسيرك للحياة.. فما تفسيرك لهذه السلوكات العجيبة التي تبديها الحيوانات.. بل حتى النباتات؟

قال: إنها الغريزة.. فالغريزة هي التفسير العلمي لتلك السلوكيات.. إنها التفسير الصحيح لقابلية الحيوان للقيام بسلوك معين منذ الولادة.

قلت: فكيف اكتسبت الحيوانات هذه الغريزة؟.. وكيف كان ظهور أول سلوك غريزي لديها؟.. وكيف تم انتقال هذه الغريزة كابراً عن كابر؟

سكت قليلا، وكأنه يتأمل سؤالي، ثم قال: إن شئت الحقيقة.. هناك أجوبة كثيرة عن هذا.. ولكنها تكاد تكون أسئلة هي الأخرى، لا أجوبة.. فكل سؤال منها سيستدعي منك أسئلة أخرى.. ولو بقينا هنا إلى آخر الدهر مع مثل هذه الأسئلة، فلن نخرج أبدا.

ثم أضاف: ربما تكون الغرائز مجرد جينات موجودة لدى الحيوانات، تظهر على شكل أنماط سلوكية.

قلت: وهل تؤمن بهذا؟

قال: لقد ذكرت لك أن هذا نفسه سيحتاج إلى أسئلة جديدة، بل أسئلة كثيرة.

أولها ستقول لي: لو كانت الكائنات الحية مبرمجة على أن تسلك هذا السلوك المعين فمن الذي برمج هذا السلوك؟

أنا أعلم أنه لا يوجد أي برنامج مبرمج من تلقاء نفسه.. وأنه لا بد لكل برنامج من مبرمج.

قلت: نعم.. كنت سأسألك هذه الأسئلة.. فما الإجابة التي أعددتها لها؟

قال: لقد وفر أصحابنا العناء على أنفسهم.. فذكروا إجابة ربما ستستدعي منك أسئلة أخرى.

قلت: فما قالوا؟

قال: هم يقولون.. أو بالأحرى نحن نقول بأن الطبيعة الأم ـ التي تتشكل من البحيرات والجبال والأشجار والظواهر المختلفة ـ لها القدرة على الخلق، إنها بديل علمي منطقي عن الخالق..

قلت: إن الطبيعة كيان متعدد الأنواع.. فأي نوع منها لديه القدرة على إكساب الحيوانات المختلفة أنماطها السلوكية المختلفة؟

قال: كنت أعلم أنك ستسأل هذا السؤال.

قلت: لست أنا وحدي الذي يسأله.. بل عقلك أيضا يسأله، أنا أشعر أن عقلك يحتاج إلى إجابة منطقية على هذا السؤال.

إن الطبيعة تتألف من الحجر والتراب والأشجار والنباتات..

من من هذه العناصر تكون له القدرة على إكساب الكائنات الحية هذا السلوك المبرمج؟

أي جزء من الطبيعة لديه القدرة والعقل على فعل ذلك؟

هل ترى أنه يمكن للإنسان العاقل أن يقول، وهو يرى لوحة زيتية جميلة:( ما أحلى الأصباغ التي رسمت هذه اللوحة )؟.. بلا شك فإن كلامه لن يكون منطقيا.

إذن فإن ادعاء كون المخلوق خالقاً للأشياء هو بلا شك ادعاء غير منطقي..

قال: أنت تريد إذن أن تعود إلى الدير.. لاشك في ذلك.. أنت بين أمرين: إما الدير، وإما الحقائق التي ذكرتها لك.. والتي ستجد تفاصيلها في هذا الكتاب.

امتلأت رعبا بعد أن ذكر لي الدير.. فلذلك ألزمت عقلي بأن يقتنع بما قال.. بل رحت أقرأ كتابه الذي أهداه لي.. بل رحت أحفظه عن ظهر قلب، وأردده في كل المجالس.

وقد وجدتني بعد حين أقتنع بما يقول.. بل وجدتني أنقلب إنسانا آخر.. بل وجدت نفسي قد انسلخت من إنسانيتي، لأرتدي كل مرة حلة من حلل البهائم والسباع.. فمرة أصير خنزيرا أرتع من لذات الدنيا ما كانت الرهبانية قد حرمتني منه.. ومرة كنت أسير في الشوارع كما تسير الأسود مكشرة عن أنيابها.. ومرة كنت ـ وتحت الضغوط الشديدة ـ أتحول إلى فرد من عائلة الخنافس والجعلان..

وهكذا انتقلت من حيوان إلى حيوان.. وقد وجدت الكثير من الأساتذة يستغلون حالي في ذلك أبشع استغلال..

لقد عبر عن ذلك أحد أساتذتي الذين نبهوني إلى خطر هذه النظرية.. كان اسمه (ألكسس كاريل).. لقد قال لي ناصحا:( إن نظريات النشوء والارتقاء هي مصدر كل الهموم الإنسانية، وإنها ليست إلا حكايات خرافية وجدت من يحميها ومن يقدمها للجماهير بحلة خادعة لا يعرفها كثير من الناس)[13]

ورأيت بعد ذلك أن كل المخربين جعلوا من هذه النظريات فأسا يهدمون به كل القيم البشرية:

لقد قارن كارل ماركس الكفاح من أجل البقاء بين الكائنات العضوية مع الكفاح من أجل السيطرة السياسية بين الطبقات الاجتماعية.

واعتمد كُتّاب وباحثون آخرون على فكرة الانتخاب الطبيعي لكي يبرروا مفهوم تطور العنصر الإنساني الراقي للجنس البشري.

واستخدم بعض الدارسين الذين عرفوا باسم الداروينيين الاجتماعيين أفكارداروين لتأييد الفكرة التي تقول بأن على الناس في أي مجتمع، وعلى الجماعات أن تتنافس على البقاء حيثما كانت.

بل إن الاستعمار ـ وبدلاً من أن يشعر بتأنيب الضمير ـ صار يشعر، بل يعتقد من خلال هذه النظرية أنه يقوم برسالة حضارية عندما يزيل مواريث الأمم والبنى التحتية لها ومجتمعها المدني القائم بها والحرف والصناعات الخاصة بها، ويعتبر نفسه أنه يمدنها.. حتى أن ماركس اعتبر غزو فرنسا للجزائر من التمدن وإزالة الرجعية والتخلف وتحدث بنفس هذا المنطق عن الهند..

وفي الأخير.. وبعد معاناة طويلة، وصراع مرير.. لم أجد في هذا الأستاذ ما كنت أحلم به عن الإنسان.. فرحت أبحث عن أستاذ آخر.

الغرائزية:

قلنا: فأي أستاذ هذا الذي أنقذك من داروين؟

قال: هو لم ينقذني من داروين، وإنما أضاف إلى الركام الذي أنشأه داروين ركاما عجيبا جعلني أرى الحياة مرقصا للاشعور يتلاعب به كما يشاء.

قلنا: نراك تومئ إلى فرويد[14]؟

قال: أجل.. لقد كان فرويد هو أستاذي الثالث الذي انحرف بي عن إنسانيتي انحرافا خطيرا، ظللت تحت أسره دهرا طويلا من الزمان.

قلنا: فكيف تعرفت عليه؟

قال: لقد كان أول ما دلني عليه اللاشعور نفسه.

قلنا: فقد آمنت بتأثير اللاشعور قبل أن تراه؟

قال:  أجل.. ولا أرى أن أحدا من الناس يخالف في ذلك.. فكلنا يعرف تأثير باطن الإنسان وما يحمله من مشاعر وأفكار في حياته.. حتى الإسلام لا ينكر ذلك.. لقد ورد في القرآن الإشارة إلى هذا اللاشعور الذي لا يكاد صاحبه يعلمه.. ففي القرآن :﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ (طـه:7).. فالخفي ليس إلا تلك المعاني الخفية التي يمتلئ بها باطن الإنسان.

قلنا: فقد تأثر فرويد بما جاء به من علم بالقرآن؟

قال:  ليته فعل ذلك.. إذن لوقى نفسه، ووقى البشرية من مهالك تلك النظريات التي جاء بها، والتي لبست لباس العلم لترمي البشرية في أتون الرذيلة.

قلنا: فحدثنا عما لقنك هذا الأستاذ من علوم.

قال:  لقد بدأ هذا الأستاذ، فعمق في نفسي الهوة التي كانت قد بدأت تتوسع بيني وبين الدين.. فقد كان أول لقاء لي به سنة 1927م، وكنت حينها صحفيا.. وقد كلفتني الجريدة التي أعمل فيها بإجراء حوار معه.. وقد كان في ذلك اللقاء يستخف بالدين، ويحتقره احتقارا شديدا[15]..

أذكر أنه بعد نشر المقابلة كتب له أحد الأطباء الأمريكيين الشبان خطابا لامه فيه على عدم إيمانه هذا، وسرد له في خطابه قصة مؤثرة عن كيفية رجوعه للإيمان بعد شك في وجود الله جاء نتيجة لتأثره بوفاة مريضة عجوز بريئة ملامح الوجه؛ كما ذكر هذا الطبيب الشاب في خطابه لفرويد أنه بعد شكه في الله دخل في أزمة نفسية انتهت بسماع صوت من داخل نفسه مازال يحثه على الرجوع لإيمانه حتى رجع له يقينه بوجود الله.

لقد ضحك فرويد حينها كما لم يضحك في حياته جميعا، ثم رد عليه يقول :( إن الله لم يسمعني صوتا داخليا كالذي أسمعك إياه.. وإذا تباطأ الله في هذا الأمر رغم علمه بكبر سني، فإنه سوف لا يكون الخطأ خطئي لو بقيت إلى نهاية حياتي على اعتقادي الحالي.. يهوديا كافرا..)

ولم يكتف بذلك، بل راح يحلل خطاب الطبيب نفسيا وينشر ذلك كله في مقال بعنوان : A religious Experience.. في ذلك المقال يهوي فرويد بأحاسيس الرجل الإنسانية التي تجلت في ألمه لرؤية وجه السيدة الوقورة الميتة إلى حضيض التفسير الجنسي والعقدة الأوديبية بأسلوب متهافت ومنطق غريب.

ومما جاء في ذلك المقال :( إن رؤية جسد المرأة الميتة الذي ربما كان عاريا أو كان في طريقه لأن يتعرى من الملابس قد ذكَّر هذا الشاب الطبيب بأمه (لا شعوريا) وقد أثارت فيه هذه الذكرى شوقا لوالدته نبع من عقدته الأوديبية، وهذا الشعور سرعان ما أثار فيه البغض والغضب على والده، وبمــا أن أفكاره عن والده وعن الله لم تنفصل بعد بما فيه الكفاية فإن رغبته في تحطيم والده على المستوى اللاشعوري قد ظهر شعوريا في شكل شكه في وجود الله، وإنه لمن المعلوم لدينا أن الطفل يعتبر ما يفعل والده لأمــه في صلته الجنسية بها نوعا من سوء المعاملة والقسوة)

سألته حينها متعجبا من هذا الموقف، وقلت: أهذا هو مصدر العقيدة في الله؟

رد علي بثقة عظيمة:  أجل لقد وقفنا من خلال التحليل النفسي على هذا الرباط الوثيق بين عقدة الوالدية Complexe Parental - عقدة أوديب[16] - وبين نشوة الإيمان بالله لدى الأفراد بما لا يدع مجالا للشك في أن الإله ما هو إلا صورة بديلة عن الأب Pere transfigure

ثم أضاف معقبا بطريقته التمثيلية التي كانت تجذبني بشدة في ذلك الوقت: إنه الصورة المكبرة عن تلك التي يكونها الطفل عن أبيه في طفولته كمصدر للحب والحماية والرعاية، فالتدين وثيق الصلة بالحاجة الدائمة للإنسان الطفل للحماية والمساعدة.

وكان يقول لي بعدها كل حين :( إن التحليل النفسي يمثل المرحلة الأخيرة من الثورة العلمية التي مازالت تعري للبشرية هذاءاتها المتمثلة في الدين)

وكان يقول لي ـ وهو يفسر نزعة التدين ـ:( إن هذه الاعتقادات التي تعرض في الدروس الدينية لا تنبع من الخبرات البشرية المتراكمة، وليست هي نتاج للتفكير المستقيم إنما هي نوع من الهذاءات ؛ بل هي إشباع لأقدم وأقوى وأشد رغبات الجنس البشري إلحاحا..إن الإحساس بالتهديد والخوف والشعور بعدم الأمان لدى طفل لا يقدر على مواجهة ظروف الحياة أيقظ لديــــه الحاجة إلى الحماية والحب في الوقت نفسه، وهو الأمر الذي يتولاه الأب عادة … ثم إن عجز الإنسان البدائي على مواجهة قوى الطبيعة وقلة حيلتة جعلته في حاجة إلى حماية دائمة من هذه الأخطار التي تتهدد حياته فتعلق بـ (أب) أكبر في هذه المرة، إنه الله.. لقد وجدت مشاعر القلق التي تنتاب الإنسان أمام عجزه على مواجهة أخطار الحياة هذه حلها في الدين في ظل الحماية الإلهية والتعاليم السماوية التي سنت القوانين الأخلاقية التي تنتظم العالم وتلبي حاجة الإنسان إلى العدل الأخروي الذي قلما تحقق في عالم الناس، وما يتبع ذلك من الإيمان بالحساب والإيمان بحياة أخرى هي في الحقيقة امتداد لحياة قلما استطاع الإنسان أن يشبع فيها كل رغباته)

قلنا: لقد كان الإلحاد واللاتدين منتشرا قبل فرويد، بل إنه في العصر الذي جاء فيه فرويد كان التدين غريبا بين رجال العلم.. فما الجديد الذي لقنك إياه؟

قال:  لقد ذكرت لكم أني لم يكن يعنيني في الوجود إلا البحث عن أسرار الأنا.. فأنا لم يكن يهمني في هذا العالم إلا البحث عن أنا.

قلنا: فما الذي علمك فرويد عن الأنا؟

قال:  لقد قال لي في أول لقاءاتي به :( الشخصية الإنسانية مثل كتلة الجليد العائمة في البحار القريبة من القطب لا يعلو منها فوق سطح البحر إلا جزء ضئيل، ويبقى معظمها مغموراً بالماء، وكذلك الشعور يؤلف جزءاً ضئيلاً من العقل، أما الباقي وهو ما يُعرف باللاشعور أو العقل الباطن فهو الجزء الأعظم، وليس ذلك فحسب بل إنه الجزء المهم من العقل)

قلنا: ما ذكره يحمل الكثير من المعاني الصحيحة، فما المستغرب فيه؟

قال: المستغرب فيه أنه ادعى أن له المقدرة على الغوص في أعماق تلك البحار لاكتشاف تلك المناطق المغمورة في البحار الجليدية.. لم يدع ذلك فقط على سبيل الإجمال، بل ادعاه على سبيل التفصيل، فعمم ما توهمه على جميع جبال الجليد في العالم، بل في الكون جميعا.

قلنا: دعك من التهكم، وحدثنا بما لقنك.

قال: لقد علمني (سيدي المبجل فرويد !!) أن اللاشعور الشخصي هو محور السلوك الإنساني.. ثم علمني أن هذا اللاشعور هو مجموعة العوامل النفسية والفسيولوجية غير المحسوسة التي توثر في السلوك الإنساني..

وعندما سألته عن التفسير، قال: في النفس الإنسانية ثلاث قوى.. لن تستطيع أن تفهم النفس إلا من خلالها: الهو، والأنا، والأنا الأعلى.

سألته عن (الهو)، فقال: هو كل موروث.. أو كل ما يظهر عند الميلاد.. أو كل ما هو مثبت في الجبلّة.

سألته عن (الأنا)، فذكر لي أنه المسيطر على الحركة الإرادية، والمكلف بحفظ الذات.

سألته عن (الأنا الأعلى)، فذكر لي أنه راسب من رواسب فترة الطفولة الطويلة التي يعيش فيها الإنسان الناشيء معتمداً على والديه.. ففي تلك الفترة تتكون في الأنا منظمة خاصة يمتد فيها تأثير الوالدين.

سألته عن الطاقة التي يتصرف من خلالها (الهو)، والتي كانت مخزنة في الأصل في جبلته، والتي على أساسها يمكن تفسير جميع حركاته.. لم يمهلني حتى أنتهي من سؤالي، بل أجاب على الفور: الجنس.. الطاقة الجنسية هي الطاقة الكبرى التي يمكن من خلالها تفسير جميع سلوكيات الإنسان..

قلت: ولكن هذه الطاقة تبدأ في مرحلة متقدمة من السن.. فكيف يفسر بها السلوك الإنساني، والإنسان لا يبدأ شابا، بل يبدأ طفلا صغيرا ممتلئا بالبراءة؟

أجانبي، وهو يبتسم بسخرية: ألا ترى الطفل، وهو يمص ثدي أمه بتلك اللهفة، وذلك الشوق؟

قلت: هو يتغذى بذلك..

قال:  لا.. الأمر أخطر من أن يكون مرتبطا بالغذاء وحده.. إن الطفل في ذلك الحين يمر بمرحلة جنسية هي المرحلة الفمية..

ثم أضاف يقول: إن إلحاح الطفل في المص وتشبثه به في مرحلة مبكرة ينم بوضوح عن حاجة إلى الإشباع، على الرغم من أنها حاجة تنبعث عن تناول الغذاء وتتأثر به إلا أنها تسعى إلى الحصول على لذة مستقلة عن التغذية، وبالتالي يمكن ويجب أن توصف بأنها جنسية.

ثم أضاف يقول، وكأنه مجنون يخاطب نفسه: ثم تتطور طاقة (اللّبيدو)[17] مع الطفل إلى المرحلة السادية الشرجية والمرحلة القضيبية التي يتجلى فيها الشكل النهائي للحياة الجنسية.

ثم بعد ذلك يأتي دور الأنا.. تلك الذات الواعية.. التي تحاول الموازنة بين الرغبات الخاصة، والواقع الخارجي بكل ما فيه من سلطة وقيم اجتماعية.

قلت: فكيف يتشكل الأنا الأعلى؟

قال:  يتشكل من تلبس الطفل بشخصية والده.. وحينئذ تنشأ (عقدة أوديب) كنتيجة طبيعية لحب الولد لأمه جنسياً.. وبما أن الأب يحول دون تحقيق مقتضيات هذا الحب فإنه يتكون في نفس الطفل نحو أبيه شعور مزدوج، طرفاه الحب والكراهية في آن واحد، ثم يتخلص الطفل من هذا الصراع.

قلت: هذا الولد.. والبنت!؟

قال:  تتخلص من العقدة (عقدة أليكترا)[18] بزيادة تلبسها بشخصية أمها.. وعند ذلك ينشأ الضمير.. وتكون مهمته الكبت والقمع للشهوات الجنسية غير المرغوب فيها، وذلك لحماية الذات من عسف ذوي السلطان في الخارج الأب أو المجتمع أو الدين أو التقاليد.

قلت: فغريزة الجنس هي عاصمة الغرائز إذن؟

قال:  أجل.. فالإنسان ينشأ حاملاً في أعماقه هذه البذرة التي تصبح المحرك الرئيس لطاقاته في الحياة، ويغدو همه الوحيد في حياته هو إفراغ هذه الطاقة، إلا أن ذلك لا يتحقق على الوجه الأكمل حفاظاً على قيم المجتمع، وخوفاً من تعاليم السلطة، وهنا يأتي الحلم الذي تتحقق فيه الرغبة حين يخلد الأنا الأعلى في سباته العميق.

قلت: الحلم!؟

قال: أجل.. وقد يكون الحلم صريحاً وواضحاً وربما لا يكون.. وإذ ذاك تصبح لصور الحلم دلالة رمزية، فالصور التي تظهر في الحلم رموز الحقائق في اللاشعور: فالطائر ليس طائراً حقيقة بل رمزاً لشيء آخر قد يكون أما أو أباً، والطيران شبق جنسي، والسير إلى الشمال رغبة في الزنا بالمحارم.. وهكذا.. فإن كل ما تتصور البشرية أنه أبدعته أو وصلت إليه هو في الحقيقة نوع من الشبق الجنسي.

قلت: والدين والأخلاق والفن !؟

ابتسم، وقال: كل هذه الأشياء ليست إلا تعويضاً عن الدوافع الغريزيّة لدى الإنسان.. فالدين يستقي أصوله من رغبتنا إلى الرعاية السماوية التي نتصورها في صورة الأب الحنون الذي يحل محل الأب الحقيقي، لأن هذا لا يلبث أن يخيب آمالنا كلما شببنا عن الطوق، وبلغنا مبلغ الرجولة.

والأخلاق ما هي إلا قواعد أوجدها الإنسان لتكون كالحاجز تصد غرائزه التي لو انطلقت من زمامها لجعلت النظام الاجتماعي أمراً مستحيلاً.

أما الفن فقيمته إنما تنبثق من حاجة الإنسان إلى أن يبتدع أنواعاً من الوهم تقيه من النظر إلى الأشياء كما هي في حقيقتها مما لا يسهل على الإنسان أن يحتمله.

سكت قليلا، ثم قال، وهو يرفع يديه إلى السماء، وكأنه يخاطب نفسه: هذا هو التسامي.. فالأنا ـ التي هي المسيطر على الحركات الإرادية ـ تتقبل الدافع الغريزي وتتسامى به، وذلك بأن تحيله من صورته التي هو عليها أو من وضعه إلى وضع آخر ذي قيمة.

ثم أضاف يقول بقوة: إن المنبهات القوية الصادرة عن المصادر الجنسية المختلفة تنصرف وتستخدم في ميادين أخرى بحيث تؤدي الميول التي كانت خطرة في البداية إلى زيادة القدرات والنشاط النفسي زيادة ملحوظة..  تلك إحدى مصادر الإنتاج الفني، وإن تحليل شخصية الأفراد ذوي المواهب الفنية ليدلنا على العلاقات المتغيرة القائمة بين الخلق الفني والانحراف والعصاب، بقدر ما كان التسامي كاملاً أم ناقصاً.. وإن الجانب الأكبر لما نسميه الطبع مركب من مادة المنبهات الجنسية ومؤلف من ميول ثبتت منذ الطفولة أو اكتسبت عن طريق التسامي أبنية الغاية منها كبت الاتجاهات المنحرفة التي استحال استخدامها.

كان في القاعة التي نجلس فيها لوحة كبيرة من رسم (ليوناردو دافنشي)[19]، أشار إليها، وقال: هذه اللوحة دليل لما أقول.. لقد درست هذه اللوحة دراسة متمعنة.. بل درست جميع الجبل الذي كان سطحه (ليوناردو دافنشي)، وسميت تلك الدراسة (ليوناردو دافنشي دراسة نفسية جنسية لذكريات طفولية)

لقد قمت في ذلك البحث العميق بتحليل شخصية دافنشي تحليلاً نفسياً متكئاً على ملاحظة وجدتها في إحدى أوراق الرسام العظيم.. وهي رؤيا طفولية، فقد روى أنه يذكر عندما كان في المهد أنه رأى نسراً ينزل عليه ويفتح له فمه ويضربه بذيله على شفتيه عدة مرات.

وفي ضوء هذه الرؤيا اكتشفت سر ذلك البطء الذي اشتهر به دافنشي، وهو ينجز أعماله العظيمة، واكتشفت سر تنقلاته الكثيرة، وسر غموض ابتسامة (الجوكندا)[20] .. لقد اكتشفت أنه كان ضحية انحراف جنسي على مستوى اللاوعي، تأثرت به حياته، وتأثر به فنه.

أخرج من محفظته (رواية الإخوة كرامازوف)[21] للروائي الروسي (دستوفيسكي)[22].. ثم قال: لقد درست هذه الرواية دراسة تحليلية.. ووجدت في شخصية هذا الكاتب الروائي فناناً وأخلاقياً وعصابياً وآثماً، وبقدر ما يستحقه من مجد وخلود، فإنه سجان من سجاني الإنسانية، وهو سادي يعذب نفسه، ويعذب الآخرين، ومجرم يتعاطف مع الآثمين.

أخرج كتبا كثيرة.. وراح يحللها جميعا بمقاييسه التي وضعها، ثم قال: هكذا وجدت جميع المبدعين.. هم جميعا عصابيون، كثيرو الانطواء، على صدام دائم مع الواقع الذي لا يسمح لهم بإظهار دوافعهم الغريزية.. ولذلك يلجأون لإشباعها إلى عالم الوهم حيث يجدون بديلاً عن الإرضاء المباشر لرغباتهم، ويستعينون للوصول إلى تحويل مطالبهم اللاواقعية إلى غايات قابلة للتحقيق من الوجهة الروحية على الأقل بما يمكن تسميته بالقدرة على التسامي.. وهذه إحدى آليات الدفاع التي تعفيهم من القصاص أو المرض، لكنها ـ مع ذلك ـ تجعلهم رهائن عالم وهمي لن يطول الأمد به حتى يصبح مرضاً عصابيا.

قلنا: أهكذا اختصر لك سيدك فرويد الإنسان؟

قال:  أجل.. للأسف بهذه الصورة الباهتة الحقيرة اختصر الإنسان.. فكل سلوك يسلكه الإنسان ناتج عن تلك الدوافع الغريزية التي يمتلئ بها اللاشعور..

ومهمة المحلل النفسي ـ التي تدربت على يديه عليها ـ منحصره في أن يكشف دلالات هذه الرموز الجنسية التي يستحيل فيها الإبداع إلى استراتيجية من الدعارة المقنعة، والهوس الجنسي المراوغ ؛ لأن كل قائم في صورة إنما يرمز إلى عضو الذكورة، وأن كل تجويف يعني أعضاء المرأة التناسلية، وأن العمود أو التمثال المنحوت لجسم إنسان منتصب لم يكن في الأصل غير رمز لعضو التناسل، وأن الجزء الداخلي من المبني يرمز إلى رحم المرأة.. وهكذا.

قلنا: فكيف ظهر لك أن تتركه، هل هناك أستاذ آخر حذرك منه، أو نقد لك توجهه؟

قال: إن كان هناك أستاذ يمكن أن يكون سببا في تحذيري من فرويد.. فهو فرويد نفسه.

قلنا: هل بلغ به الورع أن حذرك من نفسه؟

قال:  مثله لا يعرف الورع.. لقد كان سلوكه هو الذي جعلني أنفر منه.. لقد كان أنموذجا مشوها عن الإنسان، فلذلك لم أتصور أن في مقدرة رجل مثله أن يدعي كل تلك الدعاوى العريضة.

لقد رأيت فيه ـ بعد أن ذهبت تلك الهالة التي رسمت حوله ـ شخصية مضطربة مريضة جديرة بأن تبحث عمن يعالجها، لا أن تكون مصدرًا لرسم أسس لدراسة النفس البشرية.

لقد كان (فرويد) مجموعة من العقد النفسية والعادات الغريبة، ولم يستطع أن يشفي عقله الباطن من هذه العقد النفسية إلى آخر حياته.. كان يتبع أوراقه التي تدخل في ترجمة حياته فيحرقها.. وكان يؤمن بأنه سيموت في نهاية الحرب العالمية الأولى، فمات في بداية الحرب العالمية الثانية.. وكان يدخن عشرين سيجارًا في النهار ليهدئ من ثوراته العصبية[23].. وكان عرضة للإغماء على أثر المفاجآت.. وكانت مرارة الطبع خلة ملازمة له في علاقاته بغيره.. وكانت لأحلامه وجوه خفية ترمز إلى دلائلها في سريرته الباطنة.. وكانت له ضروب من القلق، تنم على باعث من بواعث الحيرة المكتومة.. وكان في أطهر أحواله يحارب التشبث بالعقائد الدينية والعادات الخلقية، ويتشبث بالتفسير الجنسي للعقائد والعادات تشبثًا يربو في إصراره وشدته على تعصب المتعصب اللدود لمذهبه ودينه.

وكان في طفولته ـ كما ذكر لي ـ ينسى نفسه ليلا في فراشه، وكان يخشى من السفر بالقطار، ويحضر إلى المحطة قبل موعد قيامه بنحو ساعة، وكان دائم العزلة، لا يسمح لأحد أن يصاحبه طويلا.

وفوق ذلك، فقد ذكر لي صديقي (أرنست جونس).. وقد ذكر ذلك في كتابه (حياة وأعمال فرويد) خطابه إلى صديق له يقول: (لست في الحقيقة رجلا من رجال العلم، ولا من رجال الملاحظة ولا التجربة، لست مفكرًا، أنا لست إلا مغامرًا بطبيعة مزاجي وتكويني، ولديَّ  كل ما عند المغامر من فضول ومثابرة وجسارة)

قلنا: لا يمكن أن نحكم على أفكار الشخص من خلال سلوكه.. فالسلوك ـ مهما كان منحرفا ـ لا يدل بالضرورة على انحراف صاحبه.

قال:  صدقتم.. فلذلك طالت صحبتي له مع ما أراه من سلوكه.. لقد كنت أقول لنفسي :( خذي الحكمة.. ولا يهمك من أي وعاء خرجت)

قلنا: فما الذي صرفك عنه بعد هذا؟

قال:  الفطرة.. الفطرة وحدها دلتني على الأوهام التي وقع فيها فرويد عن قصد[24] أو عن غير قصد..

أولا.. لقد رأيت الخطر العظيم الذي تحمله أفكار فرويد عن الإنسان في السلوك الإنساني.. لقد ساهم ما طرحه من فكر في تحويل البشرية إلى غابة من الحيوانات لا هم لها إلا إرواء غرائزها..

ثم تأملت في الواقع، فرأيت أنه لا تكاد توجد نظرية واحدة قد أحدثت ما أحدثته من الانقلاب في سير المجتمعات إلا نظرية دارون من قبل، ونظرية كارل ماركس التي سبقت فرويد في الزمن ولكنها لحقته في التنفيذ.. لقد اعتنقت آراءه الجماهير، يظاهرها في ذلك كثير من العلماء، ولم يكتفوا بنصوص نظرياته، بل توسعوا في تفسيرها على هواهم، وآمنوا جميعاً بأن الأمر الطبيعي هو أن تنطلق الغرائز من معقلها، ولا تقف عند حد إلا حد الاكتفاء.

وقد بحثت في أسباب هذا الإقبال الجماهيري.. فوجدت أنه ليس نابعا من دواعي البحث والمعرفة والعقل.. وإنما هو نابع من دوافع نفسية لا علاقة لها  بالعقل أو بالعلم:

لقد رأيت أن من أهم الأسباب هو تلك الثورة التي ظهرت بين قومنا على تعاليم الكنيسة التي رأينا فيها حجراً على الحريات، وسبباً للعقد والانحرافات الخلقية.

ثم ذلك الانبهار غير الواعي بالعلم وبمنجزات العلم..

ثم جاءت الحرب العالمية الأولى، وما نتج عن ذلك الشباب المسجون في متاريس الحرب، والذي قضى شبابه في السجون والخنادق والمعتقلات، وتعرض لحروب الميكروبات، والغازات السامة،  فخرج لا يفتش إلا على إشباع غرائزه الحيوانية، فكان فرويد هو الهادي، والداعي إلى هذه السنة، فلذلك كان في نظرهم أحد صناع الحضارة الحديثة في القرن العشرين.

قلنا: أنت لم تناقش أفكاره من الداخل.. بل اكتفيت بالنظر إلى آثارها؟

قال:  لا.. لم أكتف بآثارها.. لقد تعمقت في المنهج الذي كان فرويد يفكر به.. فوجدت أنه منهج بعيد عن العلم والعقلانية.. فقد اعتمد فرويد في آرائه على الحالات المرضية الشاذة التي كان يعالجها، والتي من خلالها أخذ يفسر السلوك المتزن العادي لدى الأسوياء في ضوء ما عاينه من السلوك الشاذ عند المصابين.

لقد رأيته يستخلص نظريته من معالجة أفراد من الطبقة المتوسطة في مدينة فيينا , كانت هذه الطبقة تتعرض لعوامل الكبت الجنسي وأنواع المحرمات الاجتماعية بالنسبة للعلاقة بين الجنسين , فهم ليسوا بأسوياء , وفيهم ما فيهم من عُقد نفسية جعلت همهم الأكبر والدافع الأول لسلوكياتهم هو الدافع الجنسي.

ثم رأيت أنه يشكك في العقل.. بل يعتبره مجرد خادم للغريزة، وليس هادياً إلى الحقيقة، ووظيفته ليس الحدس بالحقيقة، بل الإقناع بما نعتقده غريزياً، ولهذا فنتائجه لا يمكن الوثوق بها لأنها تبرير لمتعقداتنا فهو أداة ضعيفة في مجال المعرفة.

ثم رأيت أن الإرادة في التحليل النفسي ليست ملكة تُمارس بحرية، إذ ليس بمقدور الإنسان أن يضبط نفسه، فأساليب الإنسان في الحياة نتاج رغبات لاشعورية في أعماق نفسه، وعلى هذا ليس هناك ما يسمى بحرية الإرادة، ولم ينتج عن هذا التصور سوى الانزلاق في الشهوات، والاستغراق في الملذات.. بل إن فرويد كان يصيح بملء فيه:( إن كبح الدافع الغريزي مضر بالشخصية، ويورث الاضطرابات العصبية، والسخط من الحياة)

وفوق ذلك كله، فقد أثبتت الأبحاث التجريبية خطأ ما ذهب إليه فرويد حول الطفولة، وما يدور حولها، فقد أعلن فرويد بأن معارضة رغبات الطفل في صغره ومحاولة الأهل في أن يروضوه على النظام وأصول السلوك تؤثر في تصرفاته إذا كبر، ولذلك كان يرى أنه يجب أن يترك الطفل حرًا بدون توجيه حتى لا يكون ذلك مصدر عقد في حياته.

وقد روج علماء النفس والتربية لهذه النظرية على نحو اتخذ منها وسيلة لهدم أصول التربية وبناء الشباب تحت تهديد وهمي، غير أن العلماء الذين قاموا بإحصائيات وتجارب في البيئة نفسها، تبين لهم فساد هذه النظرية وعدم جدواها، وأن بعض العلماء الأمريكيين أعلن بعد دراسات طويلة بضرورة استخدام الضرب كوسيلة لتقويم الطفل، وقيد الضرب[25]، وقال: (إن مسلك الطفل لا يتأثر بعامل واحد كما ذكر فرويد، ولكنه يتأثر بعدد كبير من العوامل، منها: البيئة والوسط والحالة الاجتماعية، فلا سبيل لإخضاع الطفل إلى نسق واحد)

وقد أجرى الدكتور اسكندر توماس عددًا من البحوث بمعرفة فريق من الأطباء النفسيين، انتهى منها إلى أن نظرية فرويد لم تكن مطلقة، وأنهم درسوا في تجربتهم أحوال 158 طفلا غير منحرفين، منهم الفقراء والأغنياء، وقد نشأ الأولاد أصحاء مستقيمين بالرغم من القيود القاسية في تربيتهم، ودل ذلك على أن مسلك الطفل لا يتأثر بالتوجيه الأبوي، ولا بالزجر أو بالضرب.

كذلك أثبتت الدراسات العلمية بما لا يقبل الجدل أن الدافع الجنسي يأتي في مرتبة أدنى من كثير من الدوافع الأخرى كالدافع إلى الهواء أو الشراب أو المال[26]، ثم إن هذا الدافع الجنسي يخضع للتربية والتوجيه، بمعنى أننا نستطيع تربية الإنسان على العفة بحيث يضبط دافعه الجنسي، ويتحكم فيه.

وبذلك تكون العفة أمرًا ليس ممكنًا فحسب، بل ضروريًا، كذلك أثبتت الأبحاث أن هناك تنظيمًا طبيعيًا للشهوة في الإنسان بحيث يستطيع كثير من الوسائل كالرياضة الجسدية أو الروحية أو الشعر أو الموسيقى أن تستوعبه.

كذلك قال الباحثون: إن دعوى فرويد الأساسية هي أن المرض العصبي (العصاب) ينشأ عن أمور جنسية طفولية مكبوتة، ولكن البحث أثبت أن الأمور الجنسية الطفولية المكبوتة ليست وقفًا على الذين أصيبوا بعصاب في وقت ما في حياتهم، ولكنها موجودة عند كل إنسان، وتشكل عاملا هامًا في حياته.

وهكذا وجدت أن ما دعا إليه فرويد من أن الطفل يعاني مما أسماه كبت الميول الجنسية، ليس إلا أكذوبة، أراد بها تبرير الإباحة، وأثار بها الخوف في النفوس حتى يحول بين إعداد الشباب وتربيتهم وإعدادهم إعدادًا خلقيًا، وأن ما يرمي إليه من ترك الميول حرة تسلك سبيلها إلى ما تشاء، وأن ييسر لها هذا السبيل ليس إلا دعوة صريحة إلى الإباحية[27].

الشيطانية:

قلنا: فعلى من تتملذت بعد فرويد؟

قال:  على تلميذ من تلاميذ فرويد..

قلنا: عجبا.. أتترك الإسناد العالي وتنزل للنازل[28]؟

قال:  لقد كنت مقتنعا ذلك الحين اقتناعا تاما بتأثير اللاشعور في حياة الإنسان.. ولكني لم أقتنع بما طرحه فرويد من طروحات حول نوع اللاشعور المسيطر على الإنسان..

قلنا: فهل وجدت في هذا التلميذ ما دلك عليه؟

قال:  أجل..

قلنا: من هو؟

قال:  هم كثيرون.. كان أولهم رجل يقال له (إدلر)[29].. لقد جاءني في اللحظات التي بدأ الشك فيها يتسرب إلي من رؤى فرويد، وقال لي، وهو يهمس في أذني: أتدري.. لقد كان سيدنا فرويد مخطئا خطأ شديدا في إرجاعه السلوك الإنساني إلى الجنس[30].. لا.. ليس الأمر كما يقول.. لقد بحثت وحللت.. فوجدت أن الموجه للسلوك الإنساني أمر أخطر بكثير من تلك النزوات الحقيرة الموقوتة..

نظرت إليه، والفرحة تملأ أسارير وجهي، وقلت: فما الذي اكتشفت؟

قال:  الشعور بالنقص..

قلت: الشعور بالنقص !؟.. ما تقصد؟

قال:  لقد رأيت أن كل نشاط يمكن تفسيره بهذه القوة الدافعة.. قوة الشعور بالنقص.. لقد رأيت أنه قوة الدفع الأولى للسلوك .. لقد كتبت في ذلك كتابا أثبت فيه هذا.

ناولني كتابا كان بيده، وقال: هذا هو الكتاب.. لقد سميته.. (فهم الطبيعة البشرية).. اسمع ما أقول فيه:( إن كل طفل وهو يقف بمفرده أعزل عن معونة الآخرين لا يلبث أن يشعر إن عاجلاً، أو آجلاً بعجزه عن معالجة شؤون العالم الواقعي، وهذا الشعور بالعجز هو القوة الدافعة ونقطة الارتكاز الأولى التي يبدأ منها جهاد الإنسان، وهو يقرر الهدف الأقصى لوجوده)

أغلق الكتاب، ثم نظر إلي، وقال: الطفل حين يولد، يكون بحاجة إلى نوع من الرعاية والاهتمام، وهي رعاية سرعان ما تستحيل في نظر الطفل إلى نوع من التسلط على نفسيته ؛ لأنها تشعره بعجزه، الأمر الذي يولِّد لديه شعوراً بالنقص، مما يفضي به إلى أن يبني لنفسه عالماً من الخيال يكون فيه سيداً مطاعاً، ويسعى إلى تقديم نفسه للآخرين على أنه مركز القوة، وسيد القرار.

قلت: أنت تقلد سيدنا فرويد في تركيزه في تحليله للسلوك الإنساني على سنوات الطفولة الأولى؟

قال:  نعم.. لقد اكتشفت أنها الموجّه للسلوك في المستقبل، لأن الأساليب التي يتخذها الطفل للتعويض عن شعوره بالنقص تقرر طبيعة الهدف الذي يوجه نشاطه خلال حياته كلها.

قلت: ولكن.. هل أمكنك تفسير كل النشاط الإنساني بهذا الدافع؟

قال:  أجل.. لقد وجدت أن كل النشاط الإنساني تعبير عن هذا الشعور.. فقط الناس يختلفون في طبيعة النقص، وطريقة التعبير عنه وتعويضه..

وقد وجدت أن هذا التعويض لا يتم إلا على أنقاض الآخرين من خلال قوة الإرادة، وفرضها على الجماعة، والتسلط على المجتمع، فلا يمكن أن تتحقق الأهداف من دون الكفاح، والاقتحام..

قلت: ألا يمكن تحقيق الأهداف عن طريق الألفة والتعاون مع المجتمع..

ضحك ضحكة عالية، وقال: لا.. لا يمكن للفرد النجاح في مساعيه، وهو يحمل هذه القيم.. إن النجاح لا يعني عندي إلا شيئا واحدا.. هو الحيلولة بين الآخرين وبين تحقيق أهدافهم.

قلت: إن هذا يجر إلى الصراع؟

قال:  لا يمكن للحياة أن تستقيم بلا صراع.. أليست المادية الجدلية عند لينين، والمادية التاريخية عند ماركس صراع على مطالب الإنسان في هذه الحياة؟

قلت: بلى..

قال:  لا يمكن لنظرية من النظريات أن تنجح، وهي تستظل بظل السلام.

قلنا: فهل صحبت هذا المصارع؟

قال:  أجل.. وتعلمت على يديه.. ولا أنكر أني استفدت الكثير من أفكاره.. لكني في الأخير تركته.

قلنا: لم؟

قال:  لقد علمت بصحبتي له علم اليقين صدق ما قاله لي صديقي  الفيلسوف الإنجليزي جود.. لقد قال لي:( بينما يذهب فرويد إلى الكشف عن جانب الوحش في الإنسان، فإن إدلر يذهب إلى الكشف عن جانب الشيطان المتمرد فيه)

الأسطورية:

قلنا: فمن صحبت بعده؟

قال:  لقد جاءني رجل يسمى (يونج)[31] بعد أن علم عزمي على ترك صداقة (إدلر)، وقال لي: هلم إلي؟

قلت: من أنت؟

قال: أنا الذي تجد عنده الحقيقة التي تهت في البحث عنها.

قلت: ما اسمك؟

قال:  لا يهمك اسمي.. فاسمي هو اسم الجماعة.. فليس هناك اسم خاص لي.. كما أنه ليس هناك اسم خاص لكل من تراهم من الناس.

قلت: فما ترى في الإنسان.. أو ما ترى في الأعماق التي ينبني عليه سطح الإنسان؟

قال:  أنا بسيط جدا.. وواقعي جدا.. فلذلك لن أسلك بك تلك المتاهات التي سلكها بك صديقي فرويد..

قلت: فأنت تنكر اللاشعور إذن؟

قال:  لا.. أنا لا أنكره.. ولكني اكتشفت بديلا  للاشعور الذي وضعه فرويد.. فإن كان اللاشعور الشخصي هو محور نظرية فرويد في بناء الشخصية ونموها، فإن اللاشعور الجمعي هو جوهرها عندي.. أنا يونج.. وهو عندي صور ابتدائية لا شعورية، أو رواسب نفسية لتجارب ابتدائية لا شعورية، لا تحصى، شارك فيها الأسلاف في عصور بدائية، وقد ورثت في أنسجة الدماغ، بطريقة ما، فهي - إذن - نماذج أساسية قديمة لتجربة إنسانية مركزية.

قلت: الوعي الإنساني عندك إذن ليس مقصوراً على علاقة الطفل بوالديه كما ذكر فرويد؟

قال:  أجل.. الوعي الإنساني عندي.. أنا يونج.. إنما يتشكل في ظلال مخزون ثقافي موروث يمتد حتى تجربة الإنسان البدائي مع الكائنات والأشياء، وقوام هذا المخزون هو ما أسميه بـ (اللاشعور الجمعي) أو (الأنماط العُليا)

قلت: الأنماط العليا!؟

قال:  أجل.. وهي تتشكل من تلك الأساطير التي يحركها نداء اللاوعي، فتبدو في أحلام الأفراد ورؤى الفنانين العرافين، كي تعيد التوازن النفسي للعصر.

قلت: فمحور نظريتك ينطلق من الأنماط العليا إذن؟

قال:  أجل.. ولها عندي.. أنا يونج.. مرتبتان:

أما المرتبة الأولى، فقد أسميتها (الأنماط العليا الشخصية) كنمط الظل، والقِران المقدس والأنيما، وهذه تبرز في شكل شخصي فترى مباشرة.. فالإنسان يلتقي أولاً مع ظله أو مع وجهه الذي يخفيه بواسطة الشخصية، ويلتقي بوالديه اللذين يشكلان له نمط القِران المقدس، ويواجه أحوال اللاشعور، وهي الأنيما أو النفس.

أما المرتبة الثانية، فقد أسميتها (أنماط التحول)، كنمط الأم، ونمط الطفل، ونمط البنت.. فنمط الأم يحمل صورة الأم الطبيعية، والأم الأرض، والأم الروح، ونمط الطفل يحمل صورة الطفل الإله أو الطفل البطل، ونمط البنت يحمل صورة العذراء، والأنثى المجهولة، والأنثى الخرافية، والأنثى الأضحية.

وعلى هذا تكون هذه الأنماط الشخصية، وأنماط التحول ميراثاً إنسانياً انبثق من تصور الإنسان البدائي للكون، وهو ما يسمى بالأساطير.

قلت: أراك تعطي مصداقية كبرى للأساطير مع أنه لا دليل عليها.

لست أدري كيف غضب غضبا شديدا، وقال: لا.. ليست الأساطير كما تزعم.. إن الأساطير هي تاريخ البشرية الأولى.. نعم تنوسيت ملامحه الدقيقة، وأضفى الخيال الإنساني عليه جواً فضفاضاً.. لكنه يظل مع ذلك هو تاريخ الإنسانية الأول.

قلت: وما تقول في الأساطير التي تؤرخ للآلهة؟

قال:  لقد ذكرت لك أن العقل الإنساني أضفى خيالا على الحقائق التاريخية التي تحملها الأساطير، فلذلك، فإن الأساطير المرتبطة بالآلهة ليست في الحقيقة إلا تأريخا لعصر الأبطال، حين كان الإنسان يعجب بالقوة والجبروت، والبطولة في شتى ألوانها المادية والمعنوية، ويتطور هذا الإعجاب عند الأجيال إلى نزعة من التقديس تتلاشى معها حيناً بعد حين الحدود الفاصلة بين المحدود المطلق، وبين حقائق الواقع الإنساني، وخفايا الوجود الغيبي، فتصل إلى حد عبادة الآباء، ثم تصل إلى تناسي هذه الأبوة، ودخولها في مرحلة تالية.

قلت: سلمت لك بهذا.. فما تقول في عبقرية الإبداع الفني.. هل تراها كامنة في هذه الصور الأسطورية؟

قال:  أجل.. فالصور الأسطورية هي التي تشكل قاسماً مشتركاً بين الناس.. إنها هي التي تطلق قوى المخيلة للمبدع.. ومن هنا كانت الروائع في الأعمال الفنية خالدة ولا وطن لها.. ذلك لأنها إنما تنبع من اللاشعور الجمعي، حيث ينبسط التاريخ وتلتقي الأجيال، فإذا غاص الفنان إلى هذه الأعماق فقد بلغ قلب الإنسانية، وإذا عرض على الناس قبساً من هذا المنبع العظيم عرفوا أنه منهم ولهم.

قلت: لقد ذكر لي فرويد أن الإبداع يعتمد على التسامي..

قاطعني، وقال: أخطأ فرويد.. الإبداع لا يعتمد على التسامي.. بل يعتمد على الإسقاط.

قلت: ما الإسقاط؟

قال:  هو العملية النفسية التي يحول بها الفنان تلك المشاهد الغريبة التي تطلع عليه من أعماقه اللاشعورية إلى موضوعات خارجية يمكن أن يتأملها الأغيار.

قلت: كيف يتم هذا الإسقاط؟

قال:  هذا الإسقاط لا يتم إلا من خلال الرمز الناتج عن إطلاع المبدع حدسياً على اللاشعور الجمعي، ولهذا كان إبداع الرمز أعظم وظائف اللاشعور؛ لأنه أفضل صيغة ممكنة للتعبير عن حقيقة مجهولة نسبياً.

السلوكية:

بعد أن حدثني أستاذي (يونج) بتلك الأحاديث، بل أقنعني بها، لم يعد لي من هم في حياتي إلا البحث في الأساطير والخرافات القديمة لأحاول أن أجد من خلالها حقيقتي..

كان البحث مضنيا.. وكان فك الرموز أكثر صعوبة.. وفوق ذلك لم يكن لي من الدلائل ما يقنعني بصحة أي من التحليلات الكثيرة المتناقضة.

في غمرة تلك الجهود الشاقة جاءني أستاذي السادس، ليخرجني من تلك المتاهة، ويدخلني متاهة أخرى.

قلنا: من أستاذك السادس؟

قال:  رجل يقال له (واطسون)[32].. شيخ (المدرسة السلوكية)[33].. كان يحمل بعض الآلات التي تعود علماء الطبيعة أن يحملوها.. وقد بدأني بقوله: دع عنك أحاديث العجائز، وتعال إلي، فلن تعرف (أنا) من دوني.

قلت: ولكني أرى عليك ملامح نيوتن[34] لا ملامح فرويد.

ضحك، وقال: ومتى استطاع ذلك الأبله المتعلق بأحاديث العجائز أن يفهم الإنسان؟

قلت: وهل استطاع نيوتن أن يفهم الإنسان؟

قال:  أجل.. نيوتن الذي استطاع أن يفسر الكون هو الوحيد المخول بأن يفسر الإنسان، لأنه الوحيد الذي يمكن أن يفهم الإنسان.

قلت: نيوتن يفهم الآلة.. لا الإنسان؟

قال:  ليس الإنسان سوى آلة.. لا تختلف عن أي آلة..

قلت: والعقل!؟

ضحك ضحكة هستيرية، وقال: العقل.. ما العقل!؟ .. هل رأيته؟

قلت: الكل يذكر العقل.. ويذكر الشعور.. بل ويذكر اللاشعور..

قال:  ما الإنسان إلا ما تراه من جسمه..  أما ما تسميه الشعور فلا يعدو أن يكون حصيلة ثانوية لعمليات جسمية، يصاحبها أحياناً، وإن كان ذلك يحدث بصورة عرضية.

سكت قليلا، ثم استأنف يقول: لست وحدي الذي يقول هذا .. حتى ماركس.. ذلك الأحمق الشيوعي كان يقول:( في الإنتاج الاجتماعي الذي يزاوله الناس تراهم يقيمون علاقات محددة لا غنى عنها، وهي مستقلة عن إرادتهم، وعلاقات الإنتاج تطابق مرحلة محدودة من تطور قواهم المادية في الإنتاج، والمجموع الكلي لهذه العلاقات يؤلف البناء الاقتصادي للمجتمع، وهو الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه النظم القانونية والسياسية والتي تطابقها أشكال محدودة من الوعي الاجتماعي. فأسلوب الإنتاج في الحياة المادية هو الذي يعين الصفة العامة للعمليات الاجتماعية والسياسية والمعنوية في الحياة. ليس شعور الناس هو الذي يعين وجودهم، بل إن وجودهم هو الذي يعين مشاعرهم)

قلت: ولكنك بنزع العقل من الإنسان لن تبقي له أي شيء؟

قال:  بل أعيده إلى ذاته.. فمن الخطر ومن الخطأ أن يظل الإنسان يبحث في الأساطير عن ذاته.. بينما ذاته أمامه يستطيع أن يشرحها كما يشاء.

قال ذلك، ثم نظر إلي ليتأمل تأثير كلامه علي، ثم قال: لقد ظلت المادية تعاني ضعفاً منذ أن كانت تفتقد هذه الحلقة أي منذ كان الميكانزم العصبي مجهولاً، واستغل المثاليون هذا الضعف، واستفاد منه الرجعيون لنشر الجهل وتشويش الفكر وخلق أساطير عن الطبيعة البشرية..

قال ذلك، ثم نظر إلي، فوجدني لا أزال لا أنبس ببنت شفة، فقال: تعال معي.. لا يمكن أن تقتنع قبل أن ترى بعينك.. فليس الخبر كالعيان.

قلت: إلى أين تريد أن تأخذني؟

قال:  ألست تبحث عن الإنسان؟.. تعال أريك الإنسان.

سرت معه في كثير من المتاهات إلى أن وصلنا حجرة سمعنا فيها صياح كلب.. فالتصقت به، وقلت: أنا أخاف من الكلاب.. هيا بنا نبتعد عنها.

قال:  لن تفهم الإنسان حتى تفهم الكلاب.. تعال معي.

دخلنا حجرة استقبلنا فيها رجل اسمه (بافلوف)[35].. لم يطل به ترحيبه لنا.. بل قادنا إلى حيث يوجد الكلب الذي أفزعني نباحه.. ثم قرع جرسا، فإذا بالكلب يسيل لعابه بقوة.. قال لنا بافلوف: انظروا.. لقد عودت هذا الكلب على أن لا أقدم له الطعام إلا بعد أن أقرع الجرس.. انظروا تأثير ذلك عليه.. صار الجرس عنده مثيرا.. لقد استطعت أن أستبدل رائحة الطعام بصوت الجرس.

التفت إلى صاحبي، وقلت: لقد أخبرتني أنك ستدلني على الإنسان.. فأين هو الإنسان؟

أشار إلى الكلب، وقال: هذا هو الإنسان.

قلت: هذا كلب.. وليس إنسانا.

ضحك مع صاحبه بافلوف ضحكة عالية، ثم قال: نعم.. هناك فروق بينهما.. لكن مع ذلك نستطيع أن ندرس الإنسان من خلال دراستنا للكلب.. بل للحشرات..

قلت: ما الجامع بينهما؟

قال:  ألم يفسر نيوتن جميع حركات الكون من خلال تفاحة؟.. فكذلك نحن يمكننا أن نفسر كل الظواهر السلوكية للإنسان من خلال الظواهر السلوكية للكلاب.

قالا لي هذا.. ثم سارا بي في متاهات كثيرة.. ومدة طويلة من الزمان صرت أرى فيها نفسي كما أرى أي آلة.. وقد عذبتني هذه الرؤية كثيرا..

قلنا: فكيف استطعت أن تتخلص منها؟.. وكيف استطعت أن تتخلص من تأثير هذا الأستاذ، وهو يحمل معه ذلك السلاح الخطير.. سلاح العلم؟

قال:  بالعلم استطعت أن أتخلص من ذلك الهذيان الذي كان يملأ رأسي به.

قلنا: العلم!؟

قال:  أجل.. وقد بدأت بالفيزياء، ذلك العلم الذي استند إليه أستاذي في اختصار الإنسان في آلات الإنسان..

لقد وجدت أن التطور العلمي في الفيزياء أطاح بتلك النظريات الآلية التي كانت تفسر الكون، فلم تعد المادة واضحة متماسكة تشكّل حيّزاً من الفراغ، كما كان يُعتقد، لقد أصبحت عالماً من الطلاسم والألغاز، وصارت شبكة من الشحنات الكهربائية، وسلسلة من الأحداث المحتملة ترتفع وتنخفض حتى تتلاشى في العدم .. بل إنه لا يمكن مشاهدتها.

لقد أصبحت تلك الذرة الصغيرة في فيزياء القرن العشرين كأنها نموذج مصغر لمنظومة شمسية.. في مركزها عدد من الشحنات الكهربائية الموجبة تعرف بالبروتونات، وهذه تؤلف النواة، ويدور حول النواة على مسافات مختلفة، وفي مدارات غير منتظمة عدد من الشحنات السالبة تسمى الالكترونات. والشحنة الموجبة في كل بروتون تساوي تماماً الشحنة السالبة من كل اليكترون غير أن عدد البروتونات التي تتألف منها النواة أكبر كثيراً في العادة من عدد الالكترونات، وإنما تحصل الموازنة بين الشحنات الموجبة للبروتونات، والشحنات السالبة للالكترونات التي تدور حول النواة، بوجود شحنات سالبة، الكترونات أخرى موجودة في النواة.

والذرة التي كانت صلبة في وضع مادي ثابت أصبحت بخلاف ذلك، فقد أخذ الفيزيائيون المحدثون يطاردونها - كما يقول أدنجتون - من السائل المتصل إلى الذرة، ومن الذرة إلى الالكترون، حتى أضاعوها في النهاية.

والذرة التي كان يُظن أن معرفتها لا يمكن الشك فيها أصبحت تلك المعرفة خادعة، لأنه ثبت حديثاً أنه إنما يستنتج وجودها من أحداث تقع خارجها، يظن أنها تُسببّها وتأتي عنها.

ونتيجة لهذا، فإن الإدراك الحسي في الفيزياء الحديثة، لم يعد في الوجود العيني للمادة، وإنما في الحادث النفسي الداخلي، فحقيقة الأشياء عقلية وليست مادية، فالظاهرة المادية ليس إلاّ أثراً للكيفية التي تتجلى فيها الحقيقة الروحية.

وهكذا.. لقد كانت الفيزياء القديمة تقول بالتمّاس بين ماديين عندما أضغط بأصبعي على طرف المنضدة مثلاً، أما الفيزياء الحديثة فتقول : إن الدفع ناشيء عن ذرات الأصبع وذرات المنضدة، وذلك الدفع يولد تياراً عصبياً يصل إلى الدماغ ينتج عنه شعور باللمس، فليس هناك علم بشيء يقع خارج الجسم، لأنه قد يحصل تنبيه للجهاز العصبي دون وجود منضدة.

فيزياء القرن العشرين بكشوفاتها الجديدة لم تكمل ما قام به ( نيوتن ) بل حطمت بنيانه، حيث هدم إنشتاين بنظرية النسبية فكرتي الزمان والمكان المطلقين، وأثبت أن علاقات المكان والزمان وقوانين الحركة لا يمكن تعريفها إلا بالمواقف الشخصية للمراقب، وليس بالحياد كما ذهب إلى ذلك ( نيوتن )

وجاءت ثورة فيزياء الجسيمات على يد (إيرنست رذرفورد) حيث أثبت أن الذرة عبارة عن نواة متناهية الصغر يحيط بها كم هائل من الإلكترونات أصبحت تفسيرات نيوتن لها تبعث على الإحباط، فانهارت إمبراطورية نيوتن وتطورت ميكانيكا الكم على يدي (نيلزبور) و(فيرنرها يزنبي)

وقد أدت كل هذه التطورات في الفيزياء إلى تطورات مماثلة في تصور علم الأحياء للحياة، فقد كانت النظرية الآلية ترى أن الحياة نتيجة عرضية لعمليات مادية، وأن العقل نشاط متولد من الدماغ .. لكن العلم الحديث أثبت ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ أن أسلوب الكائن الحي ليس آلياً ولا يمكن تفسيره آلياً، فالحياة ظاهرة من صفتها التجدد والإبداع، واستحداث صور جديدة في الكائنات، ومنها ظهرت نظريات التطور المبدع، والتطور الناشيء، ونظرية الكائن الحي، والنظرية العضوية.

فالماء يتكون من الأوكسجين والهيدروجين بنسبة معينة، لكن في الماء خصائص ليست هي خصائص كل من الأوكسجين والهيدروجين.. وكذلك جسم الإنسان فهو دماغ ولحم وعظام وأعصاب، ولكل منها خاصية معينة، لكن له من اجتماع هذه الأجزاء خصائص ليست موجودة في تلك الأجزاء.

وبناءً على هذا فلم يعد كل مادي حقيقياً، وأصبح المعنوي كالدين، وقيم الحق والخير والجمال مما صح ثبوته، وعدّ باباً من أبواب الحقيقة، وبهذا تقوّض الأساس العلمي لهذه المدرسة، فالإنسان لم يعد شبيهاً بالآلة لا دخل للعقل في سلوكياته، فله عقل، وله غاية يسعى إلى تحقيقها، ومطالب يهدف إلى بلوغها هي أسمى من مطالب الجنس والغذاء والكساء.

فلم يعد التفسير الآلي أو الحيواني للسلوك الإنساني واعياً بأبعاد الإنسان، إن الإنسان يستجيب للمنبه، كما تستجيب الآلة، لكنه لا يعمل كما تعمل، فاستجابتها آلية أما استجابته فهي استجابة فعالة ونشيطة، فهو يدرك الموقف الخارجي، ولذلك فاستجابته لا تعتمد على قوة ذلك المنبه بقدر ما تعتمد على الدافع النزوعي الذي لديه، وهو مؤثر بالغ في الاستجابة، وهذه الاستجابة موجهة إلى غاية يمكن استمرارها بعد زوال المثير بخلاف الآلة[36].

الربوبية:

قلنا: إلى من لجأت بعد أن يئست من هذا الأستاذ؟

قال:  أنا لم ألجأ.. لكن في ذلك اليوم هبت عاصفة هوجاء كادت تقتلعني من الأرض.. فلم أجد إلا أن ألجأ إلى بيت من البيوت أفر إليه من العاصفة.. فلقيت رجلا صلبا شديدا، قال لي بكل قوة: أنت الذي تبحث عن الإنسان؟

قلت: أجل..

قال:  فادخل.. أنا (فريدرك نيتشة)[37]

قلت: ومن فريدرك نيتشة؟

قال:  أنا العاصفة الهوجاء التي أطاحت بكل ما قيل حول الإنسان.. أنا الذي أحدث أكبر قطيعة مع كل الاتجاهات الفكرية والفلسفية سواء في الشكل أو المضمون أو اللغة.. أنا الذي اتهمت سقراط بأنه وراء الكارثة التي حلَّت بالحضارة الإنسانية، لاحتكامه إلى العقل وحده.. وأنا الذي اعتبرت التراجيديا الموسيقية وراء فقدان الإنسان سيادته على ذاته برضوخه واستسلامه لقيم وأخلاق وعقائد كبلته وأفقدته حريته.. وأنا العدو اللدود للمسيحية على الرغم من أنني ابن قس بروتستانتي.. أنا الذي قلت بأن المسيحية عبارة عن مجموعة أساطير الشعب اليهودي.. بل قلت بأن المسيحية أذلت الإنسان بعد ما أقامت عقائدها على بقايا تصورات بالية ومتناقضة حول العالم.. وأنا الذي قلت في (هكذا تكلم زرادشت) :( لقد مات الإله و نحن الذين قتلناه).. وأنا الذي قلت :(كل الأشياء خاضعة للتأويل، وأيا كان التأويل فهو عمل القوة لا الحقيقة).. وأنا الذي قلت :( كل المصداقية وكل الضمير وكل أدلة الحقيقة تأتي من الحواس فقط).. وأنا الذي قلت مخاطبا أختي: (إذا ما مت يا أختاه لا تجعلي أحد القساوسة يتلو علي بعض الترهات في لحظة لا أستطيع في الدفاع عن نفسي)[38].. وأنا الذي قلت :( أشعر أن علي أن أغسل يدي كلما سلمت على إنسان متدين)..

قلت له، وقد ملأني بالرعب: إلى أي عقل تحتكم في كل هذه الدعاوى.

ضحك ضحكة مدوية، ثم قال:عن أي عقل تتحدث.. العقل أعجز من أن يدرك حقيقة الوجود.

قلت: لا أقصد ما فهمت.. بل أقصد المنطق العقلي.. ومبادئ الفكر التي تتيح لنا أن نرسل بأحكامنا.

قال: لا وجود لشيء اسمه (مبادئ الفكر).. إنها ليست سوى سراب من الأوهام.. نعم هي قد تكون ضرورية لحياة الناس، ولكنّها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تعبّر عن الحقيقة، ولا أن تعبر إليها.

قلت: إذا لم نسلم لمبادئ الفكر.. فهذا يغني إلغاء العقل.

قال: العقل في حياة الإنسان لا حاجة إليه.. بل هو خطر.. والذي يمكن تصوّره عقلياً لا بد أن يكون وهماً لا حقيقة له.

قلت: هل ترى أن الحياة تسير من دون عقل؟

قال: لاشك في ذلك..

قلت: فلا وجود لعالم الحقائق إذن في هذا الوجود؟

قال: كما لا وجود لعالم الظواهر.. كلاهما عوالم وهمية.

قلت: فما هو الوجود إذن؟

قال: الوجود الحقيقي كلّه ينحصر في (الصيرورة).. كله بتفاصيله ينحصر في (التغيّر الدائم).. التغير الدائم هو الحياة.. وهو الطبيعة.. الثلاثة واحد.. والواحد ثلاثة.

قلت: فما هذا التغير الدائم.. وما هذه الصيرورة؟

قال: (الصيرورة) هي الوجود.. وهي الواقع الآني الراهن.. وليس لها غاية تنتهي إليها.. بل هي في نفسها غاية.. وهي كلّ شيء..ولا شيء وراءها.

قلت: فالمعرفة والوجود الحقيقي إذن يتنافيان ويتناقضان.

قال: لقد بدأت تفهمني.. فلا يمكن أن تكون المعرفة الإنسانية مطابقة للحقيقة بحال من الأحوال، إذ هما دائماً متنافيان متناقضان.

قلت: فما الفضيلة العظمى التي تحكم الوجود إذن؟

قال: هي القوة.. القوة هي الفضيلة العظمى التي تجكم الوجود.. بل هي الفضيلة الوحيدة.. ولذلك تراني لا أدعو إلا إلى القوة.. القوة وحدها دون الرحمة والشفقة هي محور الأخلاق.. ولذلك فأنا (فيلسوف القوة)

أقول دائما : (الخير هو كل ما يزيد الشعور بالقوة، هو إرادة القوة، هو القوة نفسها.. والشر هو كل ما ينشأ عن الضعف، هو الضعف)

قلت: فأنت تنطلق من مذهب التطوّر إذن؟

قال: ولكني لا أنظر إليه كما ينظر داروين المسكين.. فإن كان مذهب النشوء والارتقاء يذكر أن كل صنف يخلق صنفاً أرقى منه.. فأنا أدعو الإنسان لأن لا يتوقف عند الإنسان.. أنا أدعوه ليضحي بالإنسان..

قلت: ليصل إلى ماذا؟

قال: ليصل إلى (السوبرمان) .. ذلك  الإنسان الأعلى والأرقى.. والذي يضحي بالإنسان البسيط كما نضحي بالغنم والماعز والخنازير.

قال ذلك، ثم التفت إلى العاصفة وراح يصيح فيها بقوة، وكأنه يخاطب جمعا لا أراه: إنني أدعوكم ـ يامن تسميتم باسم الإنسان ـ إلى أن تخلعوا الإنسان.. وتلبسوا الإنسان الأعلى.. فإن الإنسان شيء يجب أن يُعلى عليه.. فماذا عملتم من أجل العلاء عليه؟

إن كل الكائنات حتى الآن قد خلقت شيئاً أعلى منها، فهل تريدون أنتم أن تكونوا جزراً لهذا المد العظيم، وتفضلوا الرجوع إلى الحيوانية على العلاء على الإنسانية؟!

إن الغاية من الإنسانية عنده هي خلق هذا الإنسان الأعلى..

قلت: إن ما تدعو إليه ممتاز ورائع.. فما أجمل القوة.. فما الذي أعددته من نظم لتحصيلها؟

قال: ذلك لا يتم إلا بطرائق التربية التي ترفع الفرد وتسمو به.. وبتحسين النسل البشري.. وباختيار الممتازين من الرجال والنساء للتزواج.. وأن يكون الزواج أساسه اختيار الأرقى من النساء بشرياً، للأرقى من الرجال بشرياً، حتى يخلق الزوجان بإرادتيهما إنساناً أرقى منهما، وهكذا.

قلت: لكن الحب هو الذي يتصرف في الزواج؟

قال: فلنضح به.. فخير الرجال لخير النساء.. أما الحب فنتركه لحثالة البشر، إذ ليس الغرض من الزواج مجرّد النسل، بل يجب أن يكون وسيلة للتسامي والرقي.

إن غرض التزاوج هو إرادة اثنين ليخلقا إنساناً يسمو على خالقيه.

قلت: لقد ذكرت طرائق التربية التي ترفع الإنسان.. فما هي القيم التي تحكمها؟

قال: إنها تتلخص في أن يكون الإنسان حراً.. يحطم كل القيود.. ويبدد الأوهام الثقيلة الخطيرة التي أتت بها المذاهب الأخلاقية، والدينية، والفلسفية... فالإنسان الأعلى فوق الناس.. وفوق الأخلاق.. وفوق القوانين.. وفوق التقويم التقليدي للأشياء.

قلت: إن هذا يقطع الإنسان عن كل شيء؟

قال: ذلك صحيح.. فالسوبرما لا علاقة له بأي شخص.. ولا بأي وطن.. ولا بأي نوع من أنواع الشفقة والعطف.. هو فوق كل قيمة.. وفوق كل قانون.. وفوق كل ما يعتقده عامة الناس.. ولا يعنيه قال الناس عن هذا الشيء: إنه خير، أو قالوا عن الآخر : إنه شر.. لأن مهمته أن يكون هو خالقاً للقيم، يضع للأشياء من القيم ما يريد، مما يؤدي إلى تحقيق الغاية من الإنسانية.. فهو حرٌّ في أن يضع شرعة القيم التي يرتئيها في الأخلاق، والسياسة، والفلسفة، وغير ذلك.

ليس ذلك فقط.. بل إن هذا الإنسان الأعلى هو الذي يحدد معتقدات العصر بأكمله.. وهو الذي يعطي للحضارة صورتها.. وهو الذي يخلق القيم في حرية تامة، غير آبه لما يسمى بالخير والشر، أو الحق والباطل.. فهو كل شيء، يخلُق الأخلاق، ويحدّد الحق بإرادته، ويفرض على الناس ما يضع لهم من قيم فرضاً، وليس عليهم هم إلا أن يطيعوه، فالطاعة أولى فضائل الذين ليسوا هم من طبقة الإنسان الأعلى.

قلت: ألهذا أعلنت موت الإله؟

قال: أجل.. لقد وجدت أن الإله هو الوحيد الذي يحول بيننا وبين هذا الترقي.. ولذلك أردت أن أجعل من السوبرمان هو الإله.. لقد قلت على لسان (زرادشت): (إذا كان هنالك آلهة، فكيف أطيق أن لا أكون إلهاً؟ وإذن فلا آلهة هناك).. وقلت : ( لقد ماتت الآلهة جميعاً، ونريد الآن أن يعيش السوبرمان).. وقلت : ( إني أهيب بكم يا إخواني أن تخلصوا عهدكم للأرض، وأن لا تصدّقوا من يحدثونكم عن أملٍ سماوي، إنهم ينفثون فيكم السم بذلك، سواءٌ أعلموا بذلك أم لم يعلموا)

قلت: عرفت تصورك للوجود.. وللإنسان.. فما تصورك عن مصير الوجود والإنسان؟

قال: أما الوجود.. فإنه يسير في دورات متطابقة.. فهو يكرّر نفسه باستمرار.. والإنسان الأعلى (السوبرمان) هو نهاية دورة الوجود، ليعود بعد ذلك إلى نقطة البداية.. (إن التكرار الأبدي موعده بعد وجود الإنسان الأعلى، فسيعود كل شيء بالتفصيل الدقيق مرة ومرة، إلى ما لا نهاية له، حتى (نيتشه) سيعود، وهذه الأمة الألمانية التي يعيش بين ظهرانيها، والتي تمجّد الدم والحديد ستعود)

قلت: فأنت تقول بالوجود بعد الموت؟

ضحك بهستيرية، وقال: (ليس بعد الموت شيء.. وما بعد الموت لا يعنينا بعد)

إن القوة هي كل شيء.. ولذلك فإنا أدعو إلى الموت الإرادي.. وأنا من الداعين إلى الانتحار حينما يكون الوقت مناسباً لاختيار الموت.. فمتى وجد الإنسان أن الحياة لم يَعُد لها هدف لديه، فأحسن خيار له هو أن يسلم نفسه لرحى الموت..

لقد قلت على على لسان (زرادشت) : ( كثير من الناس يموتون في وقت متأخر جداً، وبعضهم يموتون في وقت مبكر جداً، ولا زال هذا القول : (مت في الوقت المناسب) يبدو غريباً)

***

لست أدري كيف ظللت في صحبة هذا الأستاذ الأرعن مدة طويلة من الزمن.. ربما كنت أنفس بها عن ذلك النقص الذي زرعه في نفسي الدير.. لقد كنت بقوة نيتشة أغطي النقص الذي زرعه في نفسي أول أستاذ لي (سان بونافنتور)

قلنا: فكيف بدا لك أن تتركه؟

قال: أنا لم أتركه.. ولكن عقله الذي كان يتيه به هو الذي تركه.

قلنا: ما تقصد؟

قال: لقد ظهر جنونه بعد أن كان خفيا.. فلذلك لم أجد في صحبته إلا ما يحولني كما يحول البشرية جميعا إلى قطيع من المجانين.. ويحول الأرض إلى مارستان كبير لا يحوي إلا المجانين.

قلنا: فكيف تخلصت من تأثير أفكاره؟

قال: لقد بدأ ذلك أولا بتخلصي من الإدمان على تلك الخمرة التي سقاني منها.

قلت: أي خمرة؟

قال: خمرة الغرور الذي يسميه قوة..

قلت: اكتشفت إذن بأن القوة التي يتحدث عنها ليست سوى غرور؟

قال: أجل.. ففرق كبير بين أن يسعى الإنسان لتحصيل القوة.. وبين أن يتيه بها.. ويمحو بها غيره.. إن القوة تستدعي الاستفادة من كل الطاقات والأفكار واحترامها..

وقد رأيت أن أول ما بدأ به أستاذي المجنون هو أنه رفع عني الثقة في كل الأفكار التي تطرح على الأرض.. 

قلت: فهل ناقشت أفكاره مناقشة عقلية؟

ابتسم، وقال: أجل.. لقد طبقت على الأفكار التي لقنني إياه المنهج الذي علمني إياه.. فمحوتها من ذاكرتي ومن التأثير في.

قلنا: كيف؟

قال: هو لا يثق في العقل.. ولا في الحقائق.. ولا في الظواهر.. هو يعتبرها كلها من الأوهام.. وبما أنه طرح آراءه كحقائق عقلية.. فقد اعتبرتها على حسب منهجه مجرد سراب من الأوهام.

 

 

السلام

قال ذلك، ثم غرق في صمت عميق.. انتظرناه برهة.. فلما طال، سألناه: أهؤلاء فقط هم أساتذتك؟

قال:  لا.. هناك أساتذة كثيرون.. أستحيي من ذكرهم.. أو ينعقد لساني دون ذكرهم.. لأني بعد أن لقيت النور والصفاء والسلام.. بعد أن لقيت الإنسان.. صرت أنظر إليهم باحتقار، وأخجل من تلك الأيام التي كنت أجثو بين أيديهم فيها كما يجثو الصبي أمام معلمه.

قلنا: فحدثنا عن النور والصفاء والسلام.. حدثنا عن الإنسان.. حدثنا عن الأستاذ الذي نسخ جميع ما لقنه لك أساتذتك.

قال: لم يكن أستاذي هذا خريج أي جامعة.. ولا أستاذا بأي كلية.. ولم ينل أي جائزة من تلك الجوائز الضخمة التي تعود قومنا أن يسلموها للمتفوقين..

قلنا: أي أستاذ هذا!؟

قال:  لقد كان بسيطا غاية البساطة.. وكان لذلك يمثل الفطرة في قمة قممها.

قلنا: من هو؟

قال:  رجل كان الناس يطلقون عليه (شيبان الراعي)[39]

قلنا: الراعي!؟

قال:  أجل.. لقد كان هذا الأستاذ راعيا.. ولم ألقه إلا في مرعاه.. أمام جبل من الجبال..

قلنا: وما الذي حملك إلى الجبال.. ألم تكن ابن المدينة؟

قال:  بعد أن لقنني أساتذتي كل تلك المعارف.. وبعد أن رأيت آثارها على نفسي وعلى الناس من حولي احتقرت الحياة.. واحتقرت الإنسان.. فلذلك لجأت إلى تلك الجبال ألتمس الخلاص.

قلنا: عند الراعي؟

قال:  لا.. لقد ذهبت إلى تلك الجبال لأطعم جثتي للجوارح.. فلم أرض لجسدي أن يلطخ بنفايات تلك المدينة الملعونة..

لقد ذهبت إلى الجبال لأسلم جسدي للموت..

قلنا: تنتحر!؟

قال:  لقد صارت الحياة ـ على ضوء تلك التعاليم القاسية التي تعلمتها ـ لا تساوي أن أعيش من أجلها.. فلذلك رأيت الانتحار هو الوسيلة الوحيدة التي أتخلص بها من الحياة التي لا معنى لها.

قلنا: فكيف لم تمت.. ها أنت بيننا؟

قال:  لقد أنقذني ذلك الراعي.. ثم لقنني من التعاليم ما حبب إلي الحياة.. بل ما جعلني بعد ذلك أرحل إلى هذه البلاد لأبحث عنه.

قلنا: هل رحل هو الآخر إلى هذه البلاد؟

قال:  أجل.. بعد أن بلغته أخبار تلك الفتنة العظيمة التي تريد أن تجتث أمة محمد ترك غنيماته، ثم سار إلى هذه البلاد ليطفئ نيران الفتنة.. ومنذ رحل، وقلبي مشتعل شوقا إليه.. وسأموت بحسرتي، لأني أموت، ولم أره، ولم أزدد من معرفته.

قلنا: فحدثنا عن التعاليم التي غيرتك كل هذا التغير.

قال: بعد أن لقنت كل تلك التناقضات عن الإنسان.. وبعد أن كاد يصيبني الجنون الذي أصاب أستاذي السابع قررت قرارا جازما بأنه لا خلاص لي إلا بالموت..

ومع أني أذعت نبأ هذا العزم في تلك المدينة الممتلئة بالصراع إلا أنه لم يأتني أحد ليثنيني عن عزمي.. بل رأيت الكل.. حتى أساتذتي.. يأتون إلي، ويباركون هذا القرار، بل ويعتبرونه أصوب قرار أتخذه في حياتي.. بل إن بعضهم أحضر وسائل التصوير.. وطلب مني ـ مقابل مبلغ من المال أغراني به ـ أن يأخذ لي صورة وأنا أنتحر على شرط أن أرمي نفسي من شاهق ناطحة سحاب.. لكني رفضت.. فلم أرد لجسدي أن يتلطخ بتراب تلك المدينة المتعفن.

قلنا: فكيف ظهر لك أن تختار الجبال والمراعي؟

قال: في ذلك الحين الذي كنت أبحث فيه عن الموتة الراضية بعد أن يئست من الحياة الراضية رأيت صورة جميلة لطبيعة بكر لم تغر عليها جحافل الإنسان.. فقلت في نفسي: لن يصلح قبرا لك إلا هذه الأرض.. وتلك المراعي.. وتلك السماء التي لم تتلطخ بعد بمزابل المصانع.

فسرت.. وبقلبي من السرور بالموت ما لم أجده في لحطة من لحظات حياتي..

لا أنكر أن بعض التردد أصابني في تلك اللحظة الصعبة التي وقفت فيها بين الحياة والموت.. لكني قهرت ذلك التردد.. وصممت.. ولم يبق بيني وبين الموت إلا نصف خطوة.. لكن يدا لم أكن أنتبه لها أمسكتني بقوة.. التفت فرأيت ما كنت أبحث عنه..

قلنا: ما رأيت؟

قال:  لقد رأيت الإنسان.. لقد كان ذلك الراعي يمثل الإنسان خير تمثيل.. فلذلك شعرت بانشراح عظيم في صدري.. وشعرت من حيث لا أدري بأن في الحياة من الجمال والسلام والنور والصفاء ما تستحق من أجله أن نعيشها.. بل أن نضحي من أجل أن نعيشها.

قلنا: فكيف ظهر لك أن تجلس بين يديه مجلس التلمذة، وأنت الأستاذ الذي تلقى من كبار أساتذة البشرية؟

قال: لقد رأيت من سمته وتواضعه وأدبه وسلامه وعلمه ما جعلني ـ رغما عني ـ أجلس معه ذلك المجلس الذي لم أجلس مثله في حياتي.

قلنا: لقد شوقتنا إليه، فحدثنا عنه.

قال:  لقد كانت أول كلمة قالها لي، وهو يربت على كتفي بحنان وقوة :( لا تهدم بنيان الله)[40]

التفت إليه، وقلت: أي بنيان لله؟

قال:  أنت.

قلت: من أنا؟

قال:  الذي تبحث عنه.. أنت.. أنت هو الإنسان..

قلت: لكني لم أجد الإنسان.

قال:  لأنك كنت تسأل الشياطين عن الإنسان، والشياطين لن يدلوك إلا على الشياطين.

قلت: فهل عندك من علم الإنسان ما يدلني عليه؟

قال بقوة وثقة: أجل.. فمن لم يعرف نفسه لم يعرف ربه؟

قلت: لكني أراك بسيطا.. وفوق ذلك لا أرى معك أي آلة من آلات العلم التي كان يحملها أساتذتي.

قال:  أنا أحمل النور.. والنور هو الآلة الوحيدة التي تحميك من ظلمات الجهل.

قلت: أي نور؟

قال:  رسالة ربي..

قلت: رسالة ربك!؟

قال:  أجل.. لقد بحثت عن الإنسان مثلما بحثت أنت.. ووجدت من الشياطين من وجدت.. ولكني لم أستسلم كما استسلمت.. بل سارعت إلى ربي.. وصحت على هذا الجبل.. وفي المحل الذي أردت أن تسلم نفسك فيه للموت، وقلت بمنتهى العجز والضراعة والفقر: يا رب.. أنا عاجز أن أعلم حقيقتي وأعلم وظيفتي.. فدلني.

قلت: فهل نزل عليك الملاك الذي نزل على الأنبياء يدلك؟

قال:  لا.. لقد وجدت راعيا في هذه المراعي.. كان اسمه محمدا.. وكان أشبه الناس بتلك الشمس العظيمة التي أضاءت الوجود، ولا تزال تضيئة، لولا تلك الغيوم التي يرسلها قومي وقومك.

قلت: فهل دلك محمد على الإنسان.. وحقيقة الإنسان؟

قال:  أجل.. وقد شعرت في كلامه من الصدق والحقيقة ما ملأني بالأمل والبشارة والسلام.. لقد شعرت بالكرامة العظيمة التي يحملها هذا الإنسان.. وتذوقت قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ (الإسراء : 70)

لقد شعرت أني مخلوق مفضل.. له كرامة.. وله قرب وعناية عند بارئه.. وفوق ذلك شعرت أني أنتمي إلى الله، فأنا عبده، وهو ربي الذي يكلؤني ويحفظني ويعتني بي ويربيني..

ثم قرأ علي محمد قوله تعالى وهو يصف القرار الإلهي بخلق الإنسان وبداية خلقه وما حصل في تلك البداية من أنواع التكريم:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)﴾ (البقرة)

لقد شعرت.. وهو يقرأ هذه الآيات بخشوع ورقة.. ببداية تاريخي.. فأنا لم أكن في يوم من الأيام حيوانا ولا خلية عصفت بها الرياح لتتحول بعد ذلك إلى هذا الخلق المستقيم.. بل شعرت بأني إنسان خلق قصدا.. ولغاية.. وأني لن يهنأ بي عيش حتى أتحقق بغايتي ووظيفتي التي أناطها الله بفطرتي.

قلت: إن ما تقوله يريد أن يعصف بكل تلك الأكوام من المعارف العلمية التي حصلتها..

قال:  لم تكن تلك الأكوام معارف.. بل كانت ركاما اختلطت فيه الحقائق بالأوهام.. وتشكل من ذلك الاختلاط ما عشته من صراع..

قلت: أكان في تلك الأكوام أوهاما؟

قال:  لو كانت أوهاما وحدها لسهل التمييز ولاستطاع أي عاقل أن يردها بسهولة.. ولكن مصدر خطورتها أنها كانت ركاما من الأوهام زين ببعض مساحيق الحقائق.. فصار الناس يرون الصورة ولا يرون ما بداخلها، فيصيبهم من الغرر في ذلك ما يملؤهم بالصراع.

قلت: فهل في إمكانك أن تميز بين الأوهام والحقائق؟

قال:  أجل.. لقد ذكرت لك أن معي النور.. والنور هو الوسيلة الوحيدة التي نميز بها الحقيقة من الوهم.

قلت: كيف؟

قال:  أرأيت لو أنا كنا في ظلمة، ووضع أحدنا يده على شيء، فوصفه بوصف، أو سماه باسم، ووصفه الآخر بوصف مختلف، وأعطاه اسما مختلفا.. وهكذا.. ما هو المنهج السليم الذي تراه للخروج من مأزق الخلاف مع أن الكل وصف ما رأى؟

قلت: ذلك بسيط.. نأتي بمصباح نسلطه على ذلك الذي اختلفنا فيه، فنتعرف عليه من غير عناء.

قال:  فإن معي مثل هذا المصباح.

قلت: من وهبه لك؟

قال: الله.. ربي.. هل تتصور أن الذي خلق كل هذا الكون.. بهذه الدقة العجيبة.. وبهذه الحكمة الراقية.. وبهذه الرحمة التي لا نظير لها.. يغفل عن مثل هذا؟

سكت، فقال: لقد أرسل الله لنا محمدا r، فعرفنا بحقيقتنا.. وبالفطرة السليمة التي خلقنا عليه.. حتى إذا ما تاهت بنا السبل عدنا إليها لنصحح ما وقعنا فيه من أخطاء.

قلت: لقد صحبت قوما يعزلون الله عن التدخل في مثل هذا؟

ابتسم، وقال: هل يمكن لمثقفيكم وباحثيكم أن يقولوا لأديسون[41] لا تتحدث عن المصباح الكهربائي، أو عن مُشَغِّل الأسطوانات.. أو عن كل تلك الاختراعات التي خدم بها البشرية؟

قلت: لا.. ولو قالوا ذلك لكانوا مجانين.. فأولى الناس بالحديث عن هذه المخترعات من اخترعها.

قال: ولهذا لا يصح لأحد أن يتحدث عنا سوى خالقنا ومخترعنا.. فالله الخالق هو الذي يعرف الإنسان وطبيعة الإنسان وأصل الإنسان ومركبات الإنسان.. والبداية التي بدأ بها تاريخ الإنسان.. لقد ذكر القرآن الكريم هذا، فقال تعالى :﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾ (الملك)، وقال تعالى :﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19)، وقال تعالى :﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (التغابن:4)

قلت، وقد شعرت بالبشارة تغمر قلبي: هل يمكنك أن تسلط هذا المصباح الذي ذكرته على ما لقنه لي أساتذتي لتخلصني من الصراع؟

قال:  أجل.. لقد ذكر القرآن الكريم هذا.. فالقرآن شفاء لما في الصدور.. يخلصها من الصراع، ويملؤها بالسلام.. لقد قال الله تعالى يذكر هذا :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ (يونس:57)

قلت: أأحدثك عما ذكر أساتذتي لتميز لي بين حقائقهم وأوهامهم؟

قال:  لا داعي لذلك.. فما سأذكره لك يكفيك لأن تميز بين الحقيقة والوهم.. سأذكر لك الصورة التي ذكرها المصباح الهادي والنور المبين الذي أرسله الله لنا، وأنزله علينا لتقتبس الحقيقة من مصدرها.. ولا عليك بعدها أن تعرض منها ما تشاء على ما تشاء.

قلت: ما أول الإنسان؟

الجسد:

قال:  هذه الطين التي يتكون منها قالبه الأرضي.. لقد ذكر الله ذلك، فقال:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) (الروم:20)، وقال:﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (فاطر:11)، وقال:﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر:67)، وقال :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:59)، وقال:﴿  قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (الكهف:37)، وقال:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج:5)

قلت: أرى أن كتابكم يولي اهتماما كبيرا بالتراب[42] الذي خلق منه الإنسان؟

قال: أنت تعلم أن الصانع الحكيم إذا صنع آلة لا يضع فيها شيئا إلا لحكمة تقتضيها  الصنعة.. ولذلك، فقد ذكر الله أصل هذه الخلقة الترابية للإنسان لنحترمها ونراعيها ونراعي مقتضياتها حتى لا نصطدم معها، فيحصل باصطدامنا بها الصراع.

ألا ترى كيف يوضع في صناديق السلع التحذيرات المختلفة؟

قلت: أجل.. وقد أبدع قومنا في النصح في ذلك إبداعا.

قال:  أترى قومك أكثر نصحا من الله؟

سكت، فقال: إذا كان الصانع البسيط الضعيف الحقير يذكر لنا مركبات صنعته لنعرف كيف نستفيد، ونعرف في نفس الوقت كيف نجنبها المضار ونقيها المهلكات، فإن الله الحكيم اللطيف الخبير أولى بذلك، وأجدر.

قلت: ما تقوله صحيح.. ولكن ألا ترى أن الاهتمام بالتراب الإنساني سيوقعكم في المتاهات التي أوقعني فيها أستاذي (واطسون).. شيخ (المدرسة السلوكية)؟

قال: لا.. لقد أبصر واطسون بعض الحق.. فراح يبشر به بعد أن مزج به باطلا كثيرا..

قلت: أي حق أبصره ؟.. وأي باطله مزجه بالحق؟

قال:  لقد أبصر أستاذك عظم الآلة البشرية التي خلقها الله للإنسان ليمتطيها، ويستغلها، ويسخرها لأداء وظيفته، فتصور أن الإنسان ليس إلا الآلة.. ولو أنه دقق بصره جيدا لرأى في أعماق أعماق تلك الآلة اللطائف التي حجبته عنها مجاهره ومباضعه.

خطأ صاحبك ليس في رؤيته للآلة أو اكتشافه لما فيها من عجائب الصنعة.. وإنما في اختصاره الإنسان فيما رآه..

ومثل ذلك الخطأ وقع فيه قبله من رأوا الظواهر الكونية، ودقتها، فتصوروا الكون حركة من غير محرك،  وصاحوا مع جاليلو ونيوتن قائلين، وقد استفزهم الغرور لما اكتشفوه :( الكون آلة ضخمة).. أو (من الممكن تفسير ظواهر الطبيعة بربط بعضها ببعض دون حاجة إلى تدخل قوى خارجية عنها)

أو صاحوا بما صاح به من بعدهم ومن تتلمذ عليهم حين عرفوا المادة التي هي هيولى الكون بأنها (ما شغلت حيزاً من الفراغ، وهي صلبة وبسيطة وواضحة للعيان.. وأن حركتها محكومة بنظام آلي لا يختل، فتركيب المادة، وترتيب أجزائها المكونة لها هما مصدر فهم الحركة وتفسيرها.. فما نحس به، وما يفوح عن الزهر من العطر، أو ينبثق عن الشمس الغاربة من اللون، أو ما نشعر به من المخاوف والآمال.. جميع هذه الظواهر مردها إلى حركات أجزاء صغيرة من المادة، تنطلق في الفضاء طبقاً لقوانين حتمية حاسمة، هذه الأجزاء الصغيرة هي التي يتولد عنها علمنا بها، فليس العقل بعبارة أخرى إلا شعور هذه الأجزاء الصغيرة بذاتها)

بهذا صاح الكل.. كل من بهرهم عظم الآلات الربانية..  لقد اكتفوا بالانبهار بها عن النظر إلى الحقائق التي تحيط بها.. والتي لا يمكن أن تتحرك الآلة من دونها..

وقد أدى هذا الانبهار إلى تلك الأوهام الكثيرة حول الكون وحول الحياة وحول الإنسان..

وأخطر ما نتج عن ذلك ما كانوا يرددونه كل حين من قولهم:( ما من شيء يمكن أن يكون حقيقياً إلا وهو قابل من الناحية النظرية ؛ لأن يدرك بالحواس، ومن هنا فإن البحث في طبيعة الأشياء المحسوسة وتحليلها إلى عناصرها وذراتها ؛ إنما هو معالجة للحقيقة بصورة مباشرة، أما تصور القيم الأخلاقية، وتأمل الخبرات الدينية والاستمتاع بها مثلاً، فليس إلا خبط عشواء وجرياً وراء السراب)

وأخطر ما نتج عن ذلك كله هو سلب الإرادة من الإنسان بعد أن سلب عقله.. فلا يمكن للعقل أن يمارس وظيفته إن لم تكن له إرادة..

قلت: ذكرت الحق الذي ذهب إليه واطسون.. والوهم الذي تسرب إليه.. فهل ترى أن لداروين بعض الحق فيما ذكره من خلق الإنسان؟

قال:  داروين مختلف تماما.. داروين لم يدرس الإنسان كشيء موجود أمامه.. وإنما راح يبحث في الجماجم عن تاريخ الإنسان.. فلم تهده الجماجم إلى شيء[43].. فراح يتكهن ويرجم بالغيب.. إنه مثل مؤرخ أراد أن يخرج للعالم بتاريخ حضارة من الحضارات، فبحث في آثارها، فلم يجد.. وبحث في المخطوطات، فلم يجد.. فراح يتكهن.. ويطلق لخياله العنان.

قلت: ألا يمكن أن يكون آدم الذي ذكر القرآن أنه أول البشر كان في أصله سلالة من السلالات التي ذكرها داروين؟

قال:  لا.. لقد أكد القرآن الكريم أن الله خلق آدم ابتداء[44].. وفوق ذلك أخبرنا أن الإنسان صور بهذه الصورة ابتداءا.. بل هو يمن علينا بذلك، ويعتبره من فضل الله علنيا.. قال تعالى :﴿  لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4) وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ (الانفطار:8)، وقال:﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (غافر:64)، وقال:﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (التغابن:3)

قلت: لقد بدأت في تلمذتي على أساتذة يحتقرون التراب.. فما الحق الذي أبصروه في ذلك؟.. وما الوهم الذي تسرب إليهم؟

قال:  أما الحق الذي أبصروه فهو أن أنوار الروح التي نفخها الله في جسد الإنسان شغلتهم عن الجسد والطين.. فتصوروا الصراع بين الروح والجسد.. وهو موضع الوهم.. فالنور الذي نرى بها الأشياء لا يزاحم الأشياء وجودها.. بل إنه يزيدها جمالا.. ألا ترى الشمس كيف تشرق، فتشرق الألوان بإشراقها؟

فهكذا الروح عندما أشرقت على جسد الإنسان زينته ولم تزاحمه.. فلذلك أولى القرآن الكريم للجسد قيمة لا تقل عن قيمة الروح.. فهو يعتبره من نعم الله على عباده.. قال تعالى:﴿ قالَ لَهُ صاحِبهُ وَهوَ يُحاورهُ أكفرتَ بالَّذي خَلَقَكَ مِنْ تُراب ثُمَّ مِنْ نُطفَة ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً (الكهف: 37)، وقال:﴿ هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذلولاً فامشُوا فِي مناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيهِ النُّشُورُ ﴾ (الملك: 15)، وقال:﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقناكُمْ وَلا تَطْغَوا فِيهِ فَيُحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ﴾ (طه:81 )

فهذه الآيات القرآنية تحمل بين طيّاتها معاني تشريعية كثيرة تبين قيمة الجسد وأهمية المحافظة عليه[45].. فهي تبين أن الإنسان بتكوينه الجسماني، وبطبيعته البدنية، جزء من عالم الطبيعة، وأنّ الأرض هي مصدر نشوئه وتكوينه.. فهو ابن الأرض، ونتاجها الحي المترقي في تكوينه وأجهزته الجسمية المختلفة:﴿ أكفرتَ بالَّذي خلقكَ مِن تُراب

وهي تبين أن هذا الجسد الذي نشأ من الأرض لا يستغني بطبيعته عن إمداد الأرض لوجوده، من الطعام والشراب واللباس والسكن.. ﴿ وَما جَعَلناهُمْ جَسداً لا يأكُلون الطَّعامَ ﴾ (الأنبياء: 8).

وهي تبين أن التوافق في التكوين الطبيعي بين الإنسان والطبيعة تام ومتناسق، فكلّ ما يحتاجه الإنسان لاستمرار الحياة متوفر في عالم الطبيعة ومتنام فيها.. ﴿ وَباركَ فيها وقدّرَ فيها أقواتَها في أربعةِ أيّام سواءً للسّائلينَ ﴾ (فصّلت: 10).. ﴿ جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذَلولاً ﴾ (الملك: 15)

وهي تبين أن كلّ ما في الأرض، من خيرات وطيّبات، حلال طيّب ومباح لكافة بني الإنسان، دون تفريق أو تمييز، فحكمة الله، وعدله تقضيان بأن تتوفر لكلّ إنسان حاجته وحقّه المقرر له في الحياة:﴿ يا أَيُّها النّاس كُلُوا مِمّا فِي الأَرضِ حَلالاً طَيِّباً ﴾ (البقرة: 168)

انطلاقا من هذا.. فقد جاء الإسلام بشريعة تحرص على حفظ الجسد، وتتجاوب مع حاجات التكوين، فاستوعب بشريعته كل تلك الحاجات الإنسانية الطبيعية وقام بتنظيمها في مجالها الطبيعي المحدّد لها.

فقد أمر بمد الجسم بحاجاته المختلفة من الطعام والشراب، باعتبارهما من نعم الله على عباده:﴿ فَلْينظر الإنسان إلى طَعَامِهِ ﴾ (عبس: 24)

وقد قاوم الإسلام لهذا محاربة الجسد، والحرمان من الطعام والشراب واللذائذ المحلّلة، تلك المحاربة التي دعا لها المترهّبون وأمثالهم ممّن يعتقدون أنّ محاربة الجسد، وتعذيبه بالجوع، والعطش، والحرمان يؤدي إلى تقوية الروح، وتنمية الملكات النفسيّة والأخلاقيّة.

فقد استنكر القرآن على هؤلاء المنحرفين موقفهم هذا من المتع الجسديّة، والطيّبات التي أنعم الله بها على عباده، فقال:﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينةَ اللهِ الَّتي أخرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزق ﴾ (الأعراف: 32)

واعتبر الإسلام الرهبانية بدعة خطيرة في الدين، ففي القرآن عند ذكر التحريف الذي حصل للمسيحية:﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (الحديد:27)

ولهذا، فإن الروحانية الإسلامية تنطلق من موازين دقيقة تجمع بين الروح والجسد، وبين الفرد والمجتمع.. وبين الدنيا والآخرة.. وهي بذلك تجمع للإنسان كل متطلبات إنسانيته.. وهي بذلك تختلف تمام الاختلاف عن الرهبانية التي انحرفت لها الكثير من الأديان والمذاهب والفلسفات.

فالذي يقدم الروح على الجسد يحرم الإنسان من جزء أصيل منه، وهو جسده.

والذي يقدم الفرد يبتر الإنسان من البيئة التي خلقها الله له، وخلقه لها، ويجعله سلبيا لا هم له إلا ذاته.

والذي يقدم الآخرة على الدنيا يحرم الإنسان من فترة من فترات الزمن خلقها الله له، وخلقه لها.

الروح:

قلت: لا أرى أن الطين وحدها كافية لأن تحول من الإنسان إنسانا؟

قال:  صدقت.. فالفطرة تدل على أن الإنسان أعمق من أن ينحصر في هذا القالب الطيني مع احترامنا العظيم له.. وقد أخبرنا القرآن الكريم بهذه الحقيقة الفطرية، وأكدها لنا، بل بين لنا منشأها وأصلها، فقال تعالى ـ مبينا أن لها من السمو والرفعة ما لا يمكن تصوره.. ولذلك نسبها إليه ـ :﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر:29)

قلت: فهل ذكر القرآن حقيقة هذه الروح وماهيتها؟

قال: لقد ظلت البشرية في دهورها جميعا تأكل الفواكه والخضر واللحوم، وهي لا تعرف عناصرها ومركباتها، ومع ذلك ظلت تستفيد منها، بل لا تستطيع أن تعيش من دونها.

وظلت البشرية منذ سالف الدهور متثاقلة إلى الأرض منجذبة إليها مع أنها لا تعلم قوانين الجاذبية.

وظلت البشرية منذ سالف الدهور والأحقاب تستفيد من الآلات التي جهزت بها من القلب والمعدة والرئتين وغيرها.. من غير أن تعلم من تفاصيل ذلك شيئا.

قلت: ما تقصد بكل هذا؟

قال:  أقصد أن الإنسان عندما لا تكون له الوسائل الكافية التي يبحث بها عن الحقائق والماهيات يكتفي بالاستفادة منها وبالاعتراف بها دون أن يحاول بعقله المحدود أو بوسائله المحدودة تخيلها.

قلت: وما المانع من ذلك؟

قال:  حتى لا يقع في الوهم.. فالوهم يحول من الحقائق أساطير.. ومن العلوم خرافات.

قلت: ولكن ما المانع من معرفتها؟

قال:  نحن لا نرى إلا الألوان والأحجام والأشكال.. فلذلك لا نستطيع أن نرى ما لم تكن له من هذه الجسوم ما تستطيع مداركنا البسيطة أن تدركه.. ولذلك من العبث أن نبحث فيه.. ولهذا قطع الله عنا الجدل الذي يمكن أن نقع فيه إذا ما أردنا أن نبحث عن حقيقة الروح[46]، فقال:﴿ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الاسراء:85)

ولذلك أمرنا بدل البحث عن الماهية أن نستثمر الطاقات الكبرى التي تتمتع بها أرواحنا في أداء الأمانة التي كلفنا بها، قال تعالى:﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72)

لم أدر بما أجيبه، فقال: لعلك في رحلتك في البحث عن الإنسان مررت بذلك الركام من التيه في التعرف على روح الإنسان..

قلت: لقد مررت على الماديين.. فرأيت أنهم فقد قطعوا عن أنفسهم هذا الجدل حين اعتقدوا أن الإنسان مجرد كيان مادي مكوَّن من مجموعة من الأجهزة والفعاليات المادية، وعندما يفقد الحياة سينحل ويستهلك في تراب الأرض وتنتهي دورة وجوده في عالم الطبيعة إلى الأبد.

وقد ذكر هؤلاء أن الروح ـ إن صح أن يكون هناك روح ـ ما هي إلا خواص الجسد، فهي لذلك تخضع لجميع القوانين التي تحكمه.

وذكروا أن مجموع ظواهر الشعور والعقل والارادة والفكر، ما هي إلاّ وظائف عضوية مثلها كمثل جميع الوظائف البدنية الاُخرى، وكذا الآثار الفكرية والمعرفية عندهم ماهي إلاّ نتائج وآثار فيزيائية وكيميائية للخلايا العصبية والعقلية، وجميع تلك الآثار والنشاطات الروحة تظهر بعد ظهور العقل والجهاز العصبي، وتموت بموت الجسد، فإذا مات الانسان بطلت شخصيته، واندثر بدنه، وزال معه كلّ ما بلغه من محصول عقلي وارتقاء نفسي وكمال روحي.

قال: لقد ذكر الله تعالى هذا الصنف، فقال:﴿ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (الأنعام:29)، وقال:﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (المؤمنون:37)

قلت: فكيف يرد على هؤلاء؟

قال:  إن أول ما يرد به على هؤلاء هو الفطرة.. فالفطرة البشرية تقول بوجود الروح.. والدليل على ذلك اتفاق جميع أمم الأرض على ذلك، ولا يمكن لجميع أهل الأرض أن يتفقوا على شيء واحد في مثل هذه الخطورة[47].

قلت: إن قومنا لا يؤمنون إلا بالمخابر.

قال:  فليبحثوا في المخابر .. فسيجدون كل الأدلة التي تبرهن لهم على أنه لا يمكن للإنسان أن يكون إنسانا حتى ينفخ فيه من الروح السامية ما يتحول به إلى إنسان[48].

قلت: دعنا من قومنا.. فقد يئست منهم.. ولا يهمني أن يقبلوا أو يرفضوا.. فقد تعودوا أن يقبلوا ما يشاءون قبوله، ويرفضوا ما يشاءون رفضه سواء قبلته المخابر أو رفضته.

قال:  فما تريد مني أن أحدثك؟

قلت: عن سر الروح..

قال: الروح هي السر الرباني الذي تحول به الطين إلى إنسان.. وبها تحمل الأمانة العظيمة التي أبت السموات والأرض أن تحملها.. وبها تحمل الخلافة.. وبها استطاع أن يعبد الله عبودية التكليف.. وبها يحب.. وبها يبغض.. وبها يسعد.. وبها يشقى.. وبها يرى ما وراء الحجب.. وبها تتجلى له حقائق الأشياء.. وهي ( فهرس الغرائب التي تخص الاسماء الإلهية الحسنى.. ومقياس مصغر لمعرفة الشؤون الالهية وصفاتها الجليلة.. وميزان للعوالم التي في الكون.. ولائحة لمندرجات هذا العالم الكبير.. وخريطة لهذا الكون الواسع.. وفذلكة لكتاب الكون الكبير.. ومجموعة مفاتيح تفتح كنوز القدرة الإلهية الخفية.. وأحسن تقويمٍ للكمالات المبثوثة في الموجودات، والمنشورة على الأوقات والأزمان)[49]

قلت: لو كان الأمر كذلك.. لكان الناس كلهم نسخة واحدة.. لكانوا كلهم علماء قديسين.

قال:  هناك سر في الروح يجعل الناس مختلفين.

قلت: ما هو؟

قال:  الإرادة.. والكسب.. والاختيار.. سأقرأ عليك شيئا من القرآن الكريم ربما يجيبك عن سؤالك.. فلا طاقة لعباراتي أن تضاهي عبارات القرآن.. لقد قال الله تعالى يحلل الإنسان ويذكر أسراره :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)﴾ (البلد)

قرأ شيبان الراعي هذه الآيات بخشوع عظيم، ثم نظر إلي، وقال: إن هذه الآيات تخبرك عن سر الإنسان.. ومن خلاله تعرف سر الروح.

لقد خلق الله الإنسان في وضع يكابد فيه البحث عن الحياة التي يختارها.. الحياة المادية والحياة المعنوية..

وهو في هذه الحياة وضعت أمامه جميع الأشكال والقوالب ليختار منها ما يتناسب مع هواه وإرادته..

ثم كان من رحمة الله أن بين له النجدين.. نجدي الخير والشر.. ونجدي الحق والباطل.. ليختار من كل ذلك ما يتناسب مع رضاه وإرادته وكسبه.. من غير أن يجبر في ذلك على شيء.

ثم كان من رحمة الله أن هداه إلى السلوك الصحيح الذي ينجيه ويسعده في هذه المحال الصعبة من الاختيار.

قلت: لم كان الأمر كذلك؟

قال:  لقد ذكر الله ذلك، فبين أن البشر سيتميزون.. وسيكون هناك أهل يمين، وسيكون في مقابلهم أهل شمال..

قلت: لم كان الأمر كذلك[50]؟

قال:  لقد ذكر الله ذلك، فقال :﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)﴾ (الأنفال)

قلت: لكن الناس لو تركوا لأنفسهم فسينحازون لا محالة لأهل الشمال؟

قال:  لا.. لقد كان من رحمة الله.. أن عرف الإنسان به قبل أن يعرفه بالأشياء.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)﴾ (الأعراف)

ولذلك أخبرنا نبينا r أن دور الدين الذي يتدارك الله به عباده عن طريق رسله وكلماته هو إعادة البشر إلى الفطرة الأصلية التي فطروا عليها.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ (الروم:30)

ففي الآية الكريمة إشارة إلى أن الفطرة الأصلية مستعدة للخير استعدادا جبليا، وأن التغيير الطارئ عليها ليس ناشئا من طبيعتها الخلقية، وإنما نشأ من مؤثرات خارجية اقتضاها التكليف.

وفطرة الإنسان في ذلك تشبه فطر الأشياء المختلفة، فالله تعالى خلق الماء طاهراً مطهراً، فلو ترك على حالته التى خلقه الله عليها ولم يخالطه ما يزيل طهارته لم يزل طاهراً، ولكنه بمخالطة المؤثرات الخارجية من الأنجاس والأقذار تتغير أوصافه ويخرج عن الخلقة التى خلق عليها.

وقد بينت لنا كلمات الله التي أنزلها على خاتم رسله هذه المؤثرات الخارجية لتفاديها، أو لإصلاح ما أفسدته هذه المؤثرات من الفطرة الأصلة.

وأول هذه المؤثرات كما يخبر رسول الله r هي المهد الذي ربي فيه الإنسان، كما قال r:( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء؟)[51] 

ومن هذه المؤثرات الشياطين، وهي أخطر المؤثرات، ولذلك اشتد التحذير منه في القرآن الكريم، وإلى هذا المؤثر يشير قوله تعالى حكاية لقول الشيطان:﴿ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ (النساء: من الآية118 ـ 119)

فالشيطان في هاتين الآيتين يتوعد بتغيير الفطرة الأصلية التي فطر عليها البشر، والتي تشمل كل شيء حتى ما يتعلق منها بالجانب الخلقي.

وإلى هذا المؤثر ـ أيضا ـ يشير قوله r  في الحديث القدسي:( قال اللّه عزّ وجلَّ: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم)[52] 

وليس من المؤثرات الخارجية ـ كما قد يتوهم ـ أن الله تعالى يملي عليه الشر، ويزينه له، فذلك محال على الله تعالى.. فالرحمن الرحيم أرحم بعباده من أن يملي عليهم الشر، أو يدعوهم إليه.

النفس:

قلت: لقد ذكر أساتذتي الدوافع الغريزية التي تسيطر على الإنسان شعر أو لم يشعر؟

قال:  نحن نسمي ذلك نفسا.

قلت: فما النفس؟

قال: لقد ذكرت لك أن في الإنسان ركنين أساسين: أما أولهما.. فذلك الطين البسيط المتواضع الذي لا يقدر على شيء.. وأما الثاني، فتلك الروح العلوية الطاهرة.. وقد شاء الله أن تنزل تلك الروح العلوية إلى هذه الأرض.. وأن تمتطي هذا الجسد الترابي.. والتراب ـ بحسب سنن الله ـ يحتاج إلى المدد الغذائي الذي يحفظ توازنه.. ولأجل هذه الحاجة ولدت النفس..

قلت: فالنفس هي الجهاز الذي يخدم وجود الإنسان على الأرض إذن؟

قال:  أجل..

قلت: قرب لي ذلك لأفهمه.

قال: هل يمكن للسيارة أن تسير بلا وقود؟

قلت: لا.. لا يمكن ذلك.

قال: فالنفس هي التي تخبرك عن حاجتك للوقود، وتدلك عليها.. وهي التي تملأ فمك منها.

قلت: لم أفهم هذا.

قال: لقد خلق الله لجسدك حاجات كثيرة، ولا يتولى هذه الحاجات إلا النفس.

قلت: فكيف تتولاها؟

قال: بأخلاق جبلت عليها تسمونها الغرائز.

قلت: فأنت تتفق إذن مع من يقول بتأثير الدوافع الغريزية..

قال:  لقد ذكرت لك أنهم جميعا أبصروا حقائق.. ولكنهم لم يكتفوا بها، بل راحوا يخلطونها بالأوهام والخرافات حتى ملأوها تحريفا.. لعلك تعرف ما يقوله فرويد عن غريزة الجنس؟

قلت: لقد تتلمذت عليه زمنا.. وهو يعتبر غريزة الجنس عاصمة الغرائز..

قال:  لا حرج عليه في أن يعتبرها عاصمة الغرائز أو مدينة من مدنها.. ولكن الحرج في أن يفسر كل الدوافع الإنسانية على أساسها.. ألم يبلغ به الشطط أن فسر الدوافع الداعية إلى البحث عن الدين بهذا التفسير؟

قلت: بلى..

قال:  فهذه هي المتاهة التي وقع فيها.. لقد خلط بين الروح والنفس..

قلت: لقد ذكرت لي أن الروح عندما تمتطي الجسد تتحول إلى نفس؟

قال:  لا.. لم أقل إنها تتحول.. وإنما قلت لك: إنها تحتاج إلى جهاز اسمه النفس لتمارس به حياتها على هذه الأرض.. إن حاجتها إلى النفس تعدل حاجتنا إلى استعمال أجهزة خاصة إذا أردنا أن نصعد في الفضاء أو نغوص في أعماق الماء.

قلت: والروح؟

قال:  الروح هي الإنسان.. وليس لها في الأصل إلا وجهة واحده هي الوجهة التي صدرت منها.. فهي لا تزال تحن إليها.

قلت: فكيف تستعمل النفس الغرائز لتحفظ به وجودها؟

قال:  يمكن للعقل المجرد المتخلي عن الهوى أن يكتشف هذا.. فالنفس ليست بعيدة عنا.. ولذلك يمكن تحليلها لمعرفة الغرائز المرتبطة بها. 

سأذكر لك ما قاله علماء المسلمين في هذا.. ولعلهم استفادوا الكثير منه من حكماء الأمم المختلفة:

لقد ذكروا أن الوجود الدنيوي للإنسان يتطلب وسائل خاصة يتمكن بها الإنسان من السكن على هذه الأرض، كما يتطلب رائد الفضاء لباس خاصا يتناسب مع جو القمر، أو أي جو يريد أن يتعامل معه.

واللباس الذي يتناسب مع هذه الأرض، هو هذا الجسد الترابي، وخصائصه هي نفس خصائص المكونات الحية الموجودة على هذه الأرض، فلذلك صار يفتقر إلى ما يحفظه، وما يدفع عنه الهلاك.

وهذا الحفظ والتعهد يتطلب أعضاء تجلب الغذاء وغيره، وأعضاء تدفع عن النفس الهلاك.

وكل هذه الأعضاء التي سلح بها بدن الإنسان هي الوسائل الأساسية لتحقيق متطلبات الوجود من الغذاء والدفاع، بل ليس هناك جزء من جسد الإنسان لا يقوم بهذا الأمر.

ومع أن أكثر هذه الأعضاء يقوم بهذه الوظائف تلقائيا إلا أن أصل الغذاء والدفاع ركب في الجهاز الإرادي للإنسان فتنة وابتلاء.

فركب في الإنسان جهاز الشهوة الدافع إلى الغذاء والحفاظ على النسل.

كما ركب فيه جهاز الغضب الدافع إلى الحمية والحفاظ على الوجود.

وهذان الجهازان ينتظم تحتهما كل ما تتطلبه النفس من غرائز الوجود، وهما المستعملان لأعضاء البدن في تحقيق متطلبات هذه الغرائز.

 قال الغزالي يشرح ضرورة هذه الغرائز :( فافتقر لأجل جلب الغذاء إلى جندين: باطن، وهو الشهوة. وظاهر، وهو اليد والأعضاء الجالبة للغذاء، فخلق في القلب من الشهوات ما احتاج إليه، وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوات فافتقر لأجل دفع المهلكات إلى جندين: باطن، وهو الغضب الذي به يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء. وظاهر، وهو اليد والرجل اللتين بهما يعمل بمقتضى الغضب، وكل ذلك بأمور خارجة؛ فالجوارح من البدن كالأسلحة وغيرها)[53]

والأمر إلى هذا المحل تتفق فيه النفس البشرية مع النفس الحيوانية، وليس هناك أي خصوصية للإنسان في هذه الجوانب، وليس هناك أي مجال للمدح أو الذم لما يتعلق بمتطلبات هذه الغرائز.

وإنما يبدأ التكليف، وينشأ المدح والذم من غريزة أخرى لها علاقة بهذه الغرائز من جهة، ولها علاقة بسر وجود الإنسان من جهة أخرى، فهي بين بين، وعلى أساس هذه الغريزة تتحدد علاقة الإنسان بنفسه.

وهذه الغريزة هي غريزة الإدراك المزودة بأدوات التعرف على العالم الذي نزلت روح الإنسان إليه.

قال الغزالي مبينا وجه الحاجة إلى هذه الغريزة وعلاقتها بما سبقها من غرائز :( ثم المحتاج إلى الغذاء ما لم يعرف الغذاء لم تنفعه شهوة الغذاء وإلفه، فافتقر للمعرفة إلى جندين: باطن، وهو إدراك السمع والبصر والشم واللمس والذوق، وظاهر، وهو العين والأذن والأنف وغيرها)

وزود بالإضافة إلى هذه الحواس بوسائل التعامل مع المعلومات والمدركات، ويمكن إدراكها بسهوله ( فإنّ الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينه فيدرك صورته في نفسه وهو الخيال، ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الجند الحافظ، ثم يتفكر فيما حفظه فيركب بعض ذلك إلى البعض، ثم يتذكر ما قد نسيه ويعود إليه، ثم يجمع جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بـين المحسوسات؛ ففي الباطن حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ )

فهذه هي الغرائز التي يحفظ بها الإنسان وجوده على هذه الأرض ـ والتي ذكرها علماء المسلمين بناء على دراستهم التحليلية للإنسان ـ وربما استفادوا في ذلك من غيرهم.. ولا حرج عليهم في ذلك.

قلت: ما دام الأمر مفتوحا.. فلم ينكر على العلماء الذين حاولوا البحث في هذه الغرائز[54] ؟

قال: لأن هذه الغرائز قد تشتط وتنحرف، ويتولد عن انحرافها غرائز شاذة تنحرف بحقيقة الإنسان.. فيأتي هؤلاء، فيتصورون أن الشذوذ أصل، وأن الانحراف استقامة..

قلت: فالإنسان مطالب بكبت غرائزه إذن؟

قال:  لا.. الإنسان مطالب بالحفاظ على استقامة غرائزه حتى لا تخرج به عن الفطرة التي فطر عليها..

لقد ذكر الغزالي أمثلة ربما تقرب لك هذا..

لقد ضرب مثالا عن حقيقة الإنسان ـ التي هي روحه وسر وجوده ـ في بدنه كمثل ملك في مدينته ومملكته، فالبدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها ومدينتها، والجوارح وقواها بمنزلة الصناع والعملة، والقوة العقلية المفكرة كالمشير الناصح والوزير العاقل، والشهوة كالعبد يجلب الطعام إلى المدينة، والغضب والحمية كالحرس والشرطة.

أما العبد الجالب للطعام، والذي يمثل الشهوة، فهو كذاب ماكر مخادع، يتمثل بصورة الناصح، وهو في علاقة عداء تام مع الوزير الناصح حتى لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة.

فإذا كان الوالي في مملكته مستغنياً في تدبـيراته بوزيره معرضاً عن إشارة هذا العبد الخبـيث، أدبه صاحب شرطته، وساسه لوزيره وجعله مؤتمراً له مسلطاً من جهته على هذا العبد الخبـيث وأتباعه وأنصاره، حتى يصير العبد مسوساً لا سائساً، ومأموراً مدبَراً لا أميراً مدبِراً.

وفي هذه الحالة يستقيم أمر البلد، وينتظم العدل بسببه.

وهكذا النفس متى استعانت بالعقل، وأدبت بحمية الغضب، وسلطتها على الشهوة، واستعانت بإحداهما على الأخرى تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبـيح مقتضياتها، اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها.

وينطبق عل من هذا حاله مع نفسه قوله تعالى فيمن لم يخضع لغرائزه :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾ (النازعات)

أما إن كان خلاف ذلك، وأصبح الحكم في الإنسان هواه وغرائزه، فإنه ينطبق عليه حينها قوله تعالى:﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)﴾(الجاثية)

إن هذا  المثل ينطبق تماما على هذا المثل القرآني الجليل، قال تعالى :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)﴾ (الأعراف).. فقد اعتبر الله من خضع لغرائزه لتسيره كما تشاء كلبا.. أو لا يختلف عن الكلب..

وكذلك هؤلاء الذين يقولون للناس: (إن هذه هي غرائزكم.. فلا تكبتوها.. ) هم في الحقيقة يرمونهم كل مرة في هاوية من البهيمية يصعب عليهم الخروج منها.

قلت: لم؟

قال:  لأن النفس إذا تعودت شيئا أدمنت عليه.. فإذا أدمنت بان لها أنه الأصل.. ثم يأتي هؤلاء المحللون ليضموه إلى غرائز الإنسان.

سكت قليلا، ثم قال: ألا ترى المدمنين على المخدرات كيف يشق عليهم تركها.. ولو خيرتهم بين تلبية غريزة الطعام وغريزة الأفيون لاختاروا الأفيون.. فهل نترك لهؤلاء المحللين المجال ليفرضوا على الإنسان صاحب الفطرة الأصلية ما يقع فيه ضحايا الغرائز الشاذة؟

سكت، فقال: إن هذه النظرة من الأصول التي تجعل المسلم يشعر بأنه صاحب إرادة.. فلذلك لا يستسلم لغرائزه.. وإنما يهذبها لتستقيم مع الفطرة السليمة..

لقد ذكر القرآن الكريم أصناف الناس، وتعاملهم مع غرائزهم.. فذكر الغافلين عن أنفسهم الذين توحد الأنا فيهم بالنفس، فلم يدركوا من وظائف وجودهم غير إرضاء الشهوات والغرائز التي وضعت في الأصل لخدمة المطية التي تحملهم، قال تعالى :﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر:19)

والفاسق هو الخارج عن حقيقته المستغرق في شهواته الغافل عن وظيفة وجوده، والآية تنبه إلى أن سر فسوقه هو نسيانه وغفلته عن الله، وفي ذلك إشارة إلى أن معرفة الله هي الأساس والمنطلق الذي ينطلق منه من يريد أن يترقى عن حجاب النفس.

وقد سمى القرآن الكريم هذه النفس بالنفس الأمارة بالسوء، قال تعالى :﴿  إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوء)(يوسف: من الآية53)

وهي نفس مطمئنة من جهة اطمئنان صاحبها لما هو فيه، فلا تحدثه نفسه بملامة أو عتاب، فهو راض عن حاله، قد كفى الشيطان هم الوسوسة، وكفى نفسه هموم الصراع، فنفسه مستقرة مطمئنة، والقلب مغلف مطبوع.

وفي مقابل هذه النفس نفس أخرى، وهي كذلك نفس مطمئنة، لأنها استسلمت بعد جموحها، وذلت بعد كبريائها، فصاحبها في راحة منها، والشيطان لا يجد مجالا ليدخل إليها، وقد عبر القرآن الكريم عنها بالنفس المطمئنة، فقال تعالى :﴿  يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ( (الفجر:29 ـ 30)

وهذه هي نفوس الخلاصة من عباد الله من الأنبياء والأولياء والصالحين، وهي المرحلة الأخيرة التي تنتهي إليها المجاهدات، وهي المرحلة الأولى التي تبدأ منها المواهب.

ومثل هذه النفس كالتربة الطيبة التي هذبت وصفيت وأصلحت، ثم بذرت فيها البذور الطيبة، ولا يبقى لها إلا المطر الذي ينزل عليها، فتبسق أشجارها وتطيب ثمارها.

وبين هاتين النفسين ما يسميه القرآن الكريم بالنفس اللوامة، قال تعالى :﴿ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة:2)

وهذه النفس هي التي تتعامل مع صاحبها، أو يتعامل معها صاحبها كما يتعامل مع شخص أجنبي، فهو يلومها ويعاتبها، وقد يضطر لمعاقبتها ومجاهدتها.

لقد ذكر الإمام بديع الزمان النورسي مثالا مقربا لهذا، فذكر أنه كان في الحرب العالمية الأولى، جنديان اثنان: أحدهما مدرَّب على مهمته مجدّ في واجبه، والآخر جاهل بوظيفته متّبعٌ هواه.

فكان الأول يهتم الاهتمام كله باوامر التدريب وشؤون الجهاد، ولم يكن يفكر قط بلوازم معاشه وأرزاقه، لإدراكه أن رعاية شؤونه وتزويده بالعتاد، بل حتى مداواته اذا مرض إنما هو من واجب الدولة، وأما واجبه هو فالتدّرب على امور الجهاد ليس إلاّ.

وهو مع هذا لا يمتنع من ان يقوم بشؤون التجهيز وبعض الأعمال التي تتطلبها حياته وفي هذه الاثناء لو سُئل: ماذا تفعل؟ لقال: إنما اقوم ببعض واجبات الدولة تطوّعاً، ولا يجيب: انني اسعى لأجل كسب لوازم العيش.

أما الجندي الآخر، وهو الجاهل بواجباته فلم يكن يبالي بالتدريب ولا يهتم بالحرب، بل كان يقول: ذلك من واجب الدولة، وما لي أنا؟! فيشغل نفسه بامور معيشته ويلهث وراء الاستزادة منها.

قال النورسي معقبا على هذا المثال شارحا له:( أمّا الجنديان الاثنان؛ فأحدهما هو العارف بالله والعامل بالفرائض والمجتنب الكبائر، وهو ذلك المسلم التقي الذي يجاهد نفسه والشيطان خشية الوقوع في الخطايا والذنوب.. وأما الآخر: فهو الفاسق الخاسر الذي يلهث وراء هموم العيش لحد إتهام الرزاق الحقيقي، ولا يبالي في سبيل الحصول على لقمة العيش أن تفوته الفرائض وتتعرض له المعاصي.. وأما تلك التدريبات والتعليمات، فهي العبادة وفي مقدمتها الصلاة.. وأما تلك الحرب فهي مجاهدة الانسان نفسه وهواه، واجتنابه الخطايا ودنايا الأخلاق، ومقاومته شياطين الجن والأنس، إنقاذاً لقلبه وروحه معاً من الهلاك الأبدي والخسران المبين)

العقل:

قلت: عرفت الروح والجسد.. وما يتولد عنهما من النفس.. فما العقل[55]؟

قال:  هو النافذة التي تطل بها على حقائق الوجود.. وهو النور الذي تتعرف به على واهب النور.. وهو العقال الذي ينظم نفسك لتنسجم مع الكون وتتخلق بأخلاق حقيقتها؟

قلت: هل تقصد ذلك الذي يسكن الجمجمة؟

قال:  الجمجمة يسكنها الدماغ.. لا العقل.. العقل أشرف من أن ينحصر في قفص الجمجمة[56].

قلت: فما علاقته بالدماغ؟

قال: العقل يستخدم الدماغ كما يستخدم جميع وسائل الإدراك.. أما هو في ذاته فهو الروح نفسها.. ولا يعرفه إلا من يعرف سر الروح.

قلت: هل تستطيع أن تقرب لي علاقة الروح بالعقل.. وعلاقتهما جميعا بالجسد؟

قال:  لن تفهم هذا إلا إذا فهمت أدوار العقل.

قلت: فما أدوار العقل؟

قال:  دوران.. أما أولهما، فهو خدمة الإنسان في هذا الوجود المؤقت الذي يعيشه.. ودور العقل في هذا أن يستنبط من صنوف الحيل ما تيسر به الحياة.. وهو في ذلك يشبه دور النفس.

وأما الثاني، فأن يطل على الوجود ليتعرف من خلاله على رب الوجود.. وحقائق الوجود.. وهذا هو الدور الأصلي للعقل.. ولهذا ينفي القرآن الكريم العقل على الذي لم يستعمله في هذا الدور الخطير.. قال تعالى :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (البقرة:171)، وقال :﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (المائدة:58)، وقال :﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (لأنفال:22)، وقال :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)

وفي المقابل يثني على من استعملوا عقولهم في رحلة التعرف على ربهم.. فيسميهم ذوي الألباب.. فيقول :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190)، وقال :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (الزمر:21)، وقال :﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف:111)، وقال :﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الرعد:19)، وقال :﴿ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ابراهيم:52)، وقال :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9)

قلت: وعيت هذا.. فما علاقة العقل بالروح.. وما علاقتهما بالجسد؟

قال:  أما الدور الأول.. فله علاقة كبرى بالجسد.. لأنه مثل النفس لا يستخدم إلا طاقات الجسد.

وأما الثاني، فله علاقة كبرى بالروح السامية.. فلذلك تجده يشف.. فيرى من الحقائق ما لا يستطيع العقل النفساني أن يفهمه.

قلت: والدماغ؟

قال:  الدماغ وجميع وسائل الإدراك وسائل للعقل يستخدمها كما تستخدم النفس المعدة في هضم الطعام.. والفم لأكله..

القلب:

قلت: عرفت أن النفس هي البرامج التي تضعها الروح لحفظ البدن.. وأن العقل هو الوسيلة التي تدرك بها الروح العالم.. فما القلب؟

قال:  هو الوسيلة التي تتفاعل بها الروح مع العالم تفاعلا وجدانيا.

قلت: لم أفهم.

قال:  للإنسان مجموعة علاقات بالعالم.. ولكل علاقة اللطائف الخاصة بها.. فعلاقة العقل مع جميع وسائل الإدراك هي التعرف على هذا العالم.. ثم إن هذا التعرف يحدث آثارا من القبول أو الرفض، ومن الحب والبغض، ومن الإذعان ومن الإباق.. والمحل الذي خص بهذا هو ما يسمى (القلب)

قلت: لا نعرف القلب إلا تلك الجارحة التي تضخ الدم إلى الجسم.

قال:  لعلها تضخ مع الدم تلك المشاعر.. وليس لعقولنا ولا لأجهزتنا الآن القدرة على إنكار شيء من هذا.. فلا يمكن للعقل أن ينكر ما لم يستطع أن يعرفه [57]..

أما نحن.. فموقنون تماما بما قال لنا ربنا.. لقد قال لنا :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)، وبما قال رسول الله r  : (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)[58]

قلت: فما العملية التي يتم بها هذا التفاعل؟

قال:  العقل ـ بوسائل إدراكه ـ يعطي معلوماته للقلب لينظر فيها ويتأملها من زاوية نوع التفاعل الذي يقابلها به.. والقلب هو الذي يتفاعل مع المعلومات بحسب توجه صاحبه.

قلت: أليست هذه عملية آلية حتمية؟

قال:  لا.. لتوجه صاحبه الذي اختاره دور كبير في تحديد نوع الأثر الذي يحصل للقلب.. إنه مثل الماء الذي يجمعه صاحبه من محال مختلفة.. ثم يفكر في السبيل لصرفه.. فلكل طريقته في ذلك الصرف.

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، فقال :﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل:14).. ففي هذه الآية الإشارة إلى أن هناك ما يمكن إدراكه إدراكا تاما ومع ذلك يقابل بالجحود.

قلت: كيف تسمي آلة هذه العملية قلبا.. مع أن القرآن ـ من خلال ما قرأت علي من آيات ـ لا يسميه كذلك.

قال:  هذه مصطلحات دلت عليها الحقائق القرآنية.. ولا حرج في المصطلحات.. فنحن نقول في تعابيرنا: (رأيت).. ونقول (رأت عيناي).. فنعبر عن الرؤية بمحلها.. ونعبر عنها بالمجموع.. فالمحل ليس إلا خادما للمجموع.

قلت: أللقلب كذلك توجهان؟

قال:  أجل.. وجهة دنيا.. وهي تشبه دور النفس.. ووجهة عليا.. وهي تمثل دور الروح من جهة تعاملة مع حقائق الوجود.

فالذي يمتلئ قلبه عشقا للدنيا وما في الدنيا في الحقيقة لم يستعمل إلا الجزء الأدنى من قلبه.. أما الذي استغرقته الحقائق فمال إليها بقلبه ميلا كليا فإنه قد استعمل جهته العليا.

قلت: هل يمكن الجمع بينهما، بحيث يستعمل الإنسان كلا الوجهتين من غير تناقض ولا صراع؟

قال:  أجل.. وذلك هو الكمال.. ولهذا قال النبي r :( إنما حبب إلي من دنياكم : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة)[59].. فقد أخبر r بأن الحب الكامل هو الذي يجمع بين القبلتين: قبلة الأعلى بحب الصلاة، والتي هي محل اللقاء الأعلى.. وذكر أن حبه للصلاة لا يزاحم حبه لأهله، أو حبه للطيب..

وفي حديث آخر جمع r بين الحبين، مبينا المتغلب منهما، فقال:( لقد أنزلت على آية هي أحب إلى من الدنيا جميعا :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)﴾ (الفتح)[60]

وفي الدعاء كان رسول الله r يقول:( اللهم انى أسالك حبك وحب من يحبك والعمل الذى يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب الي من نفسي وأهلي والماء البارد)[61]

قلت: لم قال ذلك؟

قال:  حتى لا يسيطر الحب الأدنى على الإنسان، فيشغله عن الحب الأعلى.

الخلافة:

قلت: أهناك لطائف أخرى للإنسان؟

قال:  أجل.. هناك لطائف كثيرة.. وهي تبرز كل حين.. إن روح الإنسان منجم ضخم.. ولكنه لا يبرز لآلئه وأصدافه إلا لمن صدق في البحث عنها.

قلت: فما البحر الذي يغوصه الإنسان حتى يخرج لآلئ روحه؟

قال:  الخلافة.

قلت: ما الخلافة؟.. وما علاقتها بإبراز القدرات؟

قال: روح الإنسان بطاقاتها جميعا مثل البذرة التي توضع في التربة.. فهل يكفيها أن توضع، ثم لا تتعهد بالسقي؟

قلت: إنها بذلك لن تنتج شيئا.. ستبقى بذرة وتموت بذرة.

قال:  فالسقي هو الذي يخرج ما تختزنه من الطاقات؟

قلت: أجل.. بالسقي والتعهد تصنع تلك البذرة جذورا راسخة في الأرض.. وهامة عالية في السماء.. وفوق ذلك قد تعطينا من الثمار ما نظل ننعم به.

قال:  فهكذا روح الإنسان.. هي بذرة.. وتبقى بذرة إن لم تتعهد بالسقي.

قلت: فما السقي الذي يؤهلها للبروز؟

قال: أصناف الاختبارات والابتلاءات التي يواجه بها الإنسان.. فتبرز من طاقاته في مواجهتها ما يبين أصل بذرته.. هل هي بذرة طيبة أم بذرة خبيثة..

قلت: فما الخلافة؟

قال:  هذه هي الخلافة.. إنها السلوك الذي يمارسه الإنسان تجاه ما يواجه به من أنواع الابتلاءات والمسؤوليات[62]، ولهذا لما قال الله تعالى للملائكة ـ عليهم السلام ـ:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾( البقرة:30) قالوا :﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ )(البقرة: من الآية30)

قلت: لم قالوا ذلك؟

قال:  لأن الإنسان وضع في موضع حرج يمكنه من أن يصعد إلى أعلى الدرجات.. ويمكنه في نفس الوقت أن ينحط إلى أسفل الدركات.

قلت: لا أزال حائرا في معنى الخلافة.. وفي علاقة حقيقة الإنسان بها.

قال: الإنسان مخلوق كريم لغاية رفيعة.. هو لم يخلق كما تتوهم الفلسفات ليأكل ويشرب ويسيطر.. ويمارس من أنواع المتع ما يغذي الفراغ الذي تعاني منه روحه، وإنما خلق ليكون خليفة.. يتولى إدارة الأرض وعمارتها وتطويرها.. وبما أنه خليفة، فإن ذلك يقتضي أمورا[63]:

أولها.. انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد هو الله، بدلاً من كل الانتماءات الأخرى، والايمان بسيد واحد للكون.. وهذا هو التوحيد الخالص الذي قام عليه الإسلام.

والثاني.. إقامة العلاقة الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله، وتحرير الإنسان من عبوديات الأسماء التي تمثل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت.

والثالث.. تجسيد روح الأخوة العامة في كل العلاقات الاجتماعية بعد محو ألوان الاستغلال والتسلط، فما دام الله تعالى واحداً ولا سيادة إلاّ له، والناس جميعاً عباده ومتساوون بالنسبة إليه، فمن الطبيعي أن يكونوا إخوة متكافئين في الكرامة الإنسانيّة والحقوق.

والرابع.. الخلافة استئمان، والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب، اذ بدون ادراك الكائن أنّه مسؤول لا يمكن أن ينهض بأعباء الامانة أو يختار لممارسة دور الخلافة.

والإنسان بهذا المفهوم الذي جاء به الإسلام للخلافة خارج عن أي نوع من أنواع التبعية لأي قوّة اجتماعية أياً كانت، بل هو خاضع لله وحده.. فلا قمية لنسب ولا لون ولا وطن ولا قومية.. ولا أي شيء من هذه الأشياء التي قام عليها التناحر بها بين البشر.

والخلافة بهذا الشكل حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوّة.. حركة لا توقف فيها لأنها متجهة نحو المطلق، وأي هدف آخر للحركة سوى المطلق سوف يكون هدفاً محدوداً، وبالتالي سوف يجمد الحركة ويوقف عملية النمو.

قلت: فما الفرق بين هذا الفهم الذي جاء به الإسلام.. وبين سائر المذاهب والأفكار؟

قال: الفروق عظيمة لا يمكن حصرها.. سأضرب لك أمثلة عنها لتدرك سمو التصور الإسلامي، وانحطاط سائر التصورات.

الإسلام يعتبر الإنسان.. كل إنسان.. خليفة لله.. أي انتماء الإنسان الأول لله، فهو الذي خلقه.. ومنه يستمد وجوده، ورزقه، وإليه يتوجه بالعبادة والدعاء.

وهذا الانتماء يجعله يمحو من خاطره وسلوكه كل تلك الانتماءات الضيقة التي تمليها عليها حدود المكان والزمان والمصالح.

ولهذا.. فهو يشعر بأخوة تنتظم جميع الكون.. ولا تنحصر في البقع الضيقة التي ولد فيها، أو انتسب إليها.

قارن هذا المفهوم الذي ينطلق من قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) ﴾(الحجرات) بجميع المفاهيم العنصرية التي تفوح من الأديان والمذاهب والحضارات..

 إن القوميات والشعوب والقبائل والآباء والأنساب التي ابتعد بها الإنسان عن الانتماء لله.. كما يعنيه مفهوم الخلاقة.. هو الذي صدر مع صداه الضارب في أحقاب التاريخ أكثر الحروب، وأبشع العصبيات، وأرذل الجرائم الإنسانية.

قلت: أللخلافة كذلك جهتان؟

قال:  أجل.. جهة إلى الله تستدعي التسليم له ومحبته وطاعته المطلقة، وجهة إلى الخق تستدعي التعامل معهم وفق ما يقتضيه العدل والرحمة، وقد ذكر القرآن الجهة الثانية، فقال عن داود:﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (صّ:26)

قلت: لقد كان داود حاكما، وليس كل الناس كذلك؟

قال: كل إنسان له حكم يرتبط به.. لقد ذكر رسول الله r ذلك فقال:« كلكم مسئول عن رعيته، فالامام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته »[64]  

العبودية:

قلت: وعيت كل هذا.. وأدركت مدى تناسقه.. لكني لم أفهم إلى الآن الغاية العليا للإنسان.

قال:  لقد عبر القرآن الكريم عن هذه الغاية، فقال :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ (الذريات:56)

قلت: فما العبودية؟

قال:  هي استعمال كل اللطائف في التوجه إلى الله ومعرفته ومحبته..

قلت: لم أفهم.

قال:  لكل ما عرفنا من لطائف الإنسان عبوديته الخاصة به.. فللجسد عبوديته.. وللنفس كذلك.. وهكذا.. ولهذا تجد عبادات المسلمين عبادات تجمع كل ذلك.. فهي جسدية نفسية عقلية قلبية روحية..

قلت: أهذه هي الغاية عندكم.. أن يصير الإنسان عبدا.. إن الغاية التي وصل إليها قومي هي أن يتحرر الإنسان من كل القيود.. ابتداء من قيود الإله.. ألم تسمع بما صاح به نيتشة؟

ابتسم، وقال:  لقد أوقعهم غرورهم هذا في عبودية كل شيء.. عبدوا بطونهم.. وعبدوا جاههم.. وعبدوا سلطانهم وشهواتهم.. لقد صاروا عبيد لكل شيء.

قلت: وعابد الله؟

قال:  عبادة الله هي العبادة التي تحررك من كل الأشياء لتجعلك متنعما بالتوجه إلى ربك، والاستغراق في مشاهدته والتعرف عليه.

قلت: كلامك جميل.. لكنه يصعب علي إدراكه.. ولست أدري ما سبب ذلك؟

قال:  هذه المعاني الجليلة تحتاج نوعا من الرياضة.. ولن يفهمها إلا من مارس تلك الرياضة..

قلت: فهل تأذن لي بصحبتك لتعلمني كيف أمارس هذه الأنواع من الرياضة[65]؟

قال:  ليتني كنت أستطيع ذلك.

قلت: ولم لا تستطيع.. ها أنت بين غنيماتك.. لا تخف.. لن أشغلك كثيرا عنها؟

قال:  أنا لا أخاف على هذه الغنيمات.. بل أخاف على غنيمات أخرى تريد نيران الفتنة أن تستأصلها.. فأنا أفكر فيها صباح مساء.

قلت: هل تريد أن ترحل إليها؟

قال:  لست أدري.. لكن إذا أتيت إلى هنا مرة أخرى، ولم تجدني فهذا يعني أني قد ذهبت إلى تلك الغنيمات.

قلت: وهذه الغنيمات لمن تتركها؟

قال:  لا تخف على هذه الغنيمات.. فما أسهل أن تجد لها راعيا.

***

قال ذلك، ثم استغرق في صمت عميق، فسألناه: ما الذي حصل بعد ذلك.. هل عدت فزرته في اليوم الثاني؟

قال: في تلك الليلة بت ممتلئا بالأشواق لتلك الرياضات التي تصفي لطائفي مما علق بها من أدران.. وفي الصباح الباكر لم يكن لي هم إلا أن أصعد للجبل لأبحث عن ذلك الراعي الذي كشف لي من حقائق ذاتي ما عجر عنه جميع أساتذة العالم.

قلنا: فهل وجدته؟

قال:  لا.. ولو وجدته ما كنت الآن بينكم.

قلنا: فأين ذهب؟

قال:  بعد أن سألت الكل.. ويئست من أن يدلني أحد.. تذكرت ما قال لي عن شأن الغنيمات، والفتنة التي تريد أن تستأصلها.. فرحت أبحث في المحال المختلفة عن هذا، فأطبق الكل على دلالتي على هذه البلاد، فجئت إليها، وها أنا الآن بينكم.. وقد قدر الله أن يكون سبب نجاتي هم أنفسهم سبب هلاكي.. وهذا ما ملأني بالحيرة والعجب.

 

 



([1]) استفدنا الكثير من المادة العلمية المرتبطة بالمذاهب النفسية الغربية من مقال طويل بعنوان (العقل المستعار: بحث في إشكالية المنهج في النقد الأدبي العربي الحديث ـ المنهج النفسي أنموذجاً) د. صالح بن سعيد الزهراني، الأستاذ المشارك في كلية اللغة العربية - جامعة أم القرى، من مجلة جامعة أم القرى.

([2]) أحد رجال الكنيسة، وقد اخترناه لقوله الذي سنورده هنا:( إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائنا بشرياً، بل ولا كائنا حياً وحشياً، وإنما الذى ترون هو الشيطان بذاته والذى تسمعون هو صفير الثعبان)

([3])  أشعة خاصة بنور الإسلام: 29.

([4])  قصة الحضارة 14: 382.

([5])  معالم تاريخ الإنسانية: 732.

([6])  ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 168.

([7])  قصة الحضارة 14: 365.

([8])  قصة الحضارة: 145: 372.

([9]) انظر رسالة (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.

([10]) أشير به إلى تشارلز روبرت داروين (1809 - 1882م)، وهو باحث وعالم بريطاني عكف على دراسة علوم الطبيعة، واقترن اسمه بنظرية النشوء والارتقاء وبها اشتهر، وكان يقول:( إن كل الأنواع الحية من نباتات وحيوانات قد تطورت تدريجيًا من أصول مشتركة خلال الملايين من السنين التي مرت عليها)

وجد داروين في أمريكا الجنوبية بعض الأحافير لبعض الحيوانات المنقرضة التي كانت تشبه إلى حد كبير الأنواع الحديثة. وفي جزر جلاباجوس في المحيط الهادئ لاحظ اختلافات كبيرة بين النباتات والحيوانات التي تنتمي إلى النوع العام نفسه في أمريكا الجنوبية. وجمع داروين الأحافير وغيرها من عينات الأعضاء لدراستها في المستقبل.

عاد داروين إلى إنجلترا عام 1836م واستقر في لندن. وقضى بقية حياته يدرس العينات، ويجري التجارب ويكتب الملاحظات حول مايخرج به من آراء من تلك الدراسات. وكان من بين كتبه التي ألفها في البداية: تركيب وتوزيع طبقات الفحم (1842م)، كما كتب يوميات حول أبحاثه عندما كان يجري أبحاثه على ظهر السفينة بيجل.

وقد أجرى دراسات على العينات التي أحضرها من رحلته البحرية على ظهر السفينة ¸بيجل، وقد زعم بعد ذلك بأن الأنواع الحديثة من الحيوان والنَّبات قد تطورت ونشأت من أنواع قليلة سابقة، وسجل ما ظنَّه أدلة علمية في مذكرات قدمها لأول مرة لاجتماع علمي عقد في عام 1858م وكان عنوان البحث نظريات عن التطور.

ألف داروين عدة كتب كانت تزيد من حدّة مناقشة نظرياته عن التطور.. ومن بين هذه الكتب أصل الإنسان والانتخاب فيما يتعلق بالجنس (1871م)؛ تعبير عن الانفعالات عند الرجل والحيوان (1872م)، وأهم كتبه على الإطلاق (أصل الأنواع) (1859م)، وهو الكتاب الذي ذكر فيه نظريته عن الانتخاب الطبيعي.

وفي أوروبا أثارت آراء داروين عن التطور اختلافات حادة بين دارسي علم الحياة ورجال الدين النصارى وغيرهم. ولذلك فإنهم انتقدوا بغضب شديد آراءه عن التطور. ولكن بعض رجال العلوم من البريطانيين مثل توماس هنري هكسلي، وألفرد رسل والاس أيدوا أعمال داروين، كما أن بعض الجماعات الأخرى قبلت في النهاية نظرياته (انظر: الموسوعة العربية العالمية، بتصرف)

وقد ذكرنا هذه النظرية والرد العلمي عليها في رسالة (معجزات علمية)، وذكرنا آثارها الخطيرة على المجتمعات البشرية في رسالة (ثمار من شجرة)، وسنذكر هنا باختصار بعض آثارها في تحديد حقيقة الإنسان.

([11]) هو كتاب من تأليف داروين صدر عام 1859 يعتبر أحد الأعمال المؤثرة في العلم الحديث وإحدى ركائز علم الأحياء التطوري. عنوان الكتاب الكامل: (أصل الأنواع/ نشأة الانواع الحيّة عن طريق الانتقاء الطبيعي - أو الاحتفاظ بالاعراق المفضلة في أثناء الكفاح من أجل الحياة).. قدم فيه داروين نظريته القائلة أن الكائنات تتطور على مر الأجيال.. وقد أثار الكتاب جدلا بسبب مناقضته الاعتقادات الدينية التي شكلت أساسا للنظريات البيولوجية حينئذ. شكل كتاب داروين هذا عرضا لنظريته التي اعتمد فيها على ما جمعه في رحلته البحرية في ثلاثينات القرن التاسع عشر وبحوثه وتجاربه منذ عودته من الرحلة..

([12]) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا وبهذه النظرية في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة، وقد نقلنا بعض الحوار الوارد فيها إلى هذه الرسالة لاقتضاء المقام لذلك.

([13]) الإنسان ذلك المجهول.

([14]) هو سيجموند فرويد (1856 - 1939م)، طبيب نمساوي، ولد في فريبرج، مورافيا ـ بتشيكوسلوفكيا (السابقة) تخرج في كلية الطب، بجامعة فيينا عام 1881م. وفيما بعد قرر التخصص في علم الأعصاب لدراسة وعلاج اضطرابات الجهاز العصبي.

ذهب إلى فرنسا عام 1885م ليدرس ـ تحت إشراف عالم الأعصاب الشهير مارتن شاركو ـ ثم عاد إلى فيينا عام 1886م وبدأ في العمل على نحو واسع في علاج مرض الهيستريا. واستخدم منهج التحليل النفسي في نظرياته وطرقه في العلاج. واجتذب مجموعة من التلاميذ، وبحلول سنة 1910م ذاعت شهرته في الغرب.

كان يعدِّل آراءه باستمرار. وفي عام 1923م نشر نسخًا معدلة للعديد من نظرياته الأولى. وفي نفس العام عرف أنه مصاب بسرطان الفم. لكنه بالرغم من ذلك واصل عمله. وعندما سيطر النازيون على النمسا في عام 1938م هرب مع عائلته إلى إنجلترا وتوفي هناك متأثرًا بمرض السرطان.

كتب عدة أعمال أهمها تفسير الأحلام (1900م)؛ مقدمة في التحليل النفسي (1920م). وتعتبر نظرياته في السلوك والعقل ومنهجه في العلاج أساس علم النفس الحديث.

([15])  وهذا لا ينفي كونه يهوديا متعصبا.. فاليهودية ـ كما هي في الواقع والتاريخ ـ دين قومي لا يهمه التوجه الديني بقدر ما يهمه الارتباط العنصري.. وقد ذكر المسيري الكثير من الأمثلة على علاقة فرويد باليهودية، ومن ذلك أن فرويد كان كثيراً ما يتباهى باليهودية وبانتمائه اليهودي، فكان يرى أن الشعب اليهودي قَدَّم التوراة للعالم، وأن اليهودية مصدر طاقة لكثير مما كتب.

وقد أكد أكثر من مرة أنه كان دائماً مخلصاً لشعبه « ولم أتظاهر بأنني شيء آخر: يهودي من مورافيا جاء أبواه من جاليشيا)، (انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري)، وقد أشرنا إلى هذا بتفصيل في رسالة (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.

([16]) عُقْدَةُ أودِيب: من أهم المصطلحات في التحليل النفسي، ويريدون به رغبة الطفل غير الواعية في الاستئثار بحب الطرف المضاد لجنسه من والديه (الولد للأم والبنت للأب). وتشتمل هذه الرغبة على الغيرة من الولد تجاه الأب أو البنت تجاه الأم والرغبة غير الواعية في موت الأم أو الأب.

وقد كان فرويد أول من استخدم هذا المصطلح، وقد اقتبسه من أسطورة أوديب، البطل الإغريقي الذي يقال إنه قتل أباه وتزوج أمه.

وقد استخدم فرويد المصطلح لوصف الشعور غير الواعي للأطفال من كلا الجنسين تجاه والديهم، ولكن فيما بعد استخدم الباحثون مصطلح عقدة إلكترا لهذه العقدة عند البنات، فطبقًا لرواية إغريقية ساعدت امرأة تدعى إلكترا في التخطيط لقتل أمها.

ويعتقد فرويد أن عقدة أوديب جزء من نمو الإنسان النفسي، ويفترض أن ينتهي تطور المرحلة الأوديبية في عمر 2,5 إلى 6 سنوات. ففي هذه الفترة يعرف الإنسان المشاعر الفياضة من حب وكراهية وغيرة وخوف وغضب مما يحدث لديه اضطرابات عاطفية، ويتغلب معظم الناس ـ مع النمو ـ على عقدة أوديب غير أن بعض الأفراد المرضى عقليًا تظهر لديهم عقدة أوديب بقوة وهم كبار، ويرجع فرويد سبب ذلك إلى الخوف من عقاب الأب.

([17]) اللِّيـبيدو مصطلح في التحليل النفسي، يتعلَّق بطاقة الغرائز الطبيعية، أو بإثارة ذلك السلوك الممتع. وكان فرويد أول من استعمل المصطلح.

والمحللون النفسيون يرون أن الليبيدو يتطوَّر من خلال بعض المراحل، ففي الطور الفموي يكتسب الطفل اللذة من بعض النشاطات مثل المصّ والعضّ، وفي الطور الشرجي يحصل الطفل على ارتياحه واهتمامه بالتحكم في أحشائه، وفي الطور التناسلي، تنتظم الغرائز الجنسية بهدف الحب والتكاثر الجنسي. ويعتقد بعض المحللين النفسيين أيضًا بأن المشكلات التي تعترض سبيل تطور الليبيدو والتعبير عنه، يمكن أن تسبب اضطرابات الشخصية، وأعراض بعض الأمراض العقلية الخفيفة المسمَّاة: العُصابات.

([18]) مصطلح في التحليل النفسي لوصف الشعور غير الواعي للبنت نحو أمها، وهو مستمد ـ كذلك ـ من أسطورة إغريقية.. فإلكترا شخصية أسطورية عُرفت في الأساطير الإغريقية بولائها التام لوالدها الزعيم الإغريقي أجاممنون، قامت كليتمنسترا أم إلكترا وعشيقها إجستوس بقتل أجاممنون. فأرسلت إلكترا شقيقها الأصغر أوريستيس بعيدًا عن القصر الملكي لتحميه من أمها. كرهت إلكترا أمها وعشيقها ولكنها عاشت معها، حتى بلغ أوريستيس الحلم. وحينئذ عاد أوريستيس من منفاه، لينتقم لمقتل والده بقتل أمه وعشيقها بمساعدة إلكترا. تزوجت إلكترا فيما بعد صديق شقيقها بيلاديس.

وقد ابتدع العالم النفسي السويسري كارل يونج مصطلح (عقدة إلكترا) ليصف به تعلق البنت الشديد بأبيها، وعداءها في نفس الوقت لأمها.

([19])يوناردو دافينشي (1452 - 1519 م)، يعد من أشهر فناني النهضة الإيطاليين على الإطلاق وهو مشهور كرسام، نحات، معماري، وعالم.. كانت مكتشفاته وفنونه نتيجة شغفه الدائم للمعرفة والبحث العملي، له آثار عديدة على مدراس الفن بإيطاليا امتد لأكثر من قرن بعد وفاته وإن أبحاثه العلمية خاصة في مجال علم التشريح البصريات وعلم الحركة والماء حاضرة ضمن العديد من اختراعات عصرنا الحالي..

([20]) الجيوكاندا (بالإيطالية: La Gioconda، وبالإنجليزية الموناليزا:The Mona Lisa) هي لوحة رسمها الإيطالي ليوناردو دا فنشي، وقد بدأ برسم اللوحة في عام 1503 م، وانتهى منها بعد ذلك بثلاث أو أربع أعوام. ويقال أنها لسيدة إيطالية تدعى ليزا كانت زوجة للتاجر الفلورنسي فرانسيسكو جيوكوندو صديق دافنشى والذي طلب منه رسم اللوحة لزوجته.

([21]) هي رواية للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي وعموما، وتعتبر تتويجا لعمل حياته.. وقد نشرت في فصول في مجلة (الرسول الروسي) عام 1880.. وقد عالجت كثيراً من القضايا التي تتعلق بالبشر، كالروابط العائلية وتربية الأطفال والعلاقة بين الدولة والكنيسة وفوق كل ذلك مسؤولية كل شخص تجاه الآخرين.. ومنذ إصدارها، هلل جميع أنحاء العالم من قبل المفكرين متنوعة مثل سيغموند فرويد، وأينشتاين، وبينيدكت السادس عشر باعتبار الأخوة كارامازوف واحده من الانجازات العليا في الأدب العالمي.. وهي تدور حول جريمة قتل يقترفها ولد (غير شرعي) في حق أبيه، ويستغرق الأمر فصولاً طويلة قبل أن يصل التحقيق إلى القاتل الحقيقي، بعدما كان هذا التحقيق قد وجه شكوكه في نواح أخرى عدة، ولا سيما في اتجاه الأبناء الآخرين (الشرعيين) للرجل القتيل.. و كان موقف دوستويفسكي من الجاني يبدو واضحا باتجاه المطالبة بالقصاص.

([22]) هو (يودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي) (1821 - 1881 ) ولد في موسكو وتوفي في سان بطرسبرج، روسيا.. وهو واحد من أكبر الكتاب الروس ومن أفضل الكتاب العالميين، وأعماله كان لها أثر عميق ودائم على أدب القرن العشرين.

شخصياته دائماً في أقصى حالات اليأس وعلى حافة الهاوية، ورواياته تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية كما تقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في ذلك الوقت.

والعديد من أعماله العروفة تعد مصدر إلهام للفكر والأدب المعاصر، وفي بعض الأحيان يذكر أنه مؤسس مذهب الوجودية.

([23]) عُرِفَ فرويد بإدمانه للسيجار, ومن العجيب أنه لم يتخلَّص من إدمانه هذا إلى أن أُصيب بسرطان الحَلْق عام 1923, وأجرى عدة عمليات لاستئصاله, إلا أن الألم وعدم الراحة لازماه إلى أن طلب من الطبيب إعطاءه جرعة مميتة من المورفين عام 1939 للتخلص من أوجاعه ومن حياته منتحراً.

([24]) قلنا هذا، ونحن نشك في مدى صدقه بناء على ما ورد فيما يسمى (بروتوكولات حكماء صهيون) من قوله :( يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان فتسهل سيطرتنا.. إن فرويد منا وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس، ويصبح همه الأكبر هو إرواء غرائزه الجنسية وعندئذ تنهار أخلاقه)

وشكنا في هذا لا ينفي اعتقادنا الجازم بأن أصل ما جاء به فرويد مستنبط من المعتقدات اليهودية، وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل في رسالة (ثمار من شجرة النبوة)

([25]) ليس المراد هنا تأييد هذا الرأي، وإنما القصد هو الرد على ما ذهب إليه فرويد.. أما الضرب في حد ذاته، فهو وسيلة من الوسائل التي يلجأ إليها بعد نفاذ كل الوسائل.. انظر (الأساليب الشرعية في تربية الأولاد) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)

([26])أثبتت التجارب أن الدافع الجنسي يأتي في المرتبة الرابعة بالنسبة للحيوان , يتقدمها دافع الأمومة بنسبة 22.8% , ثم العطش بنسبة 20.4 , ثم الجوع بنسبة 18.2% , وأخيراً الدافع الجنسي بنسبة 13.8% !.

([27]) انظر: سلسلة دراسات إسلامية معاصرة، الفرويدّية، أنور الجندي، منشورات المكتبة العصرية.

([28]) يراد بالإسناد العالي ـ عند المحدثين ـ ما قَلَّ عدد رجاله بالنسبة إلى سند آخر يَردُ به ذلك الحديث بعدد أكثر.. وعكسه (الإسناد النازل)،  هو الذي كثر عدد رجاله بالنسبة إلى سند آخر يَرِدُ به ذلك الحديث بعدد أقل.

وقد كان طلب الإسناد العالي مرغباً فيه، كما قيل ليحيى بن معين في مرض موته: ما تشتهي؟ قال: بيت خال، وإسناد عال.. ولهذا تداعت رغبات كثير من الأئمة النقاد، إلى الرحلة إلى أقطار البلاد، طلباً لعلو الإسناد.

([29]) هو ألفرد أَدلَر (1870 - 1937م)، وُلد أدلر في مدينة فيينا بالنمسا، وحصل على درجة الماجستير من جامعة فيينا في عام 1895م. وقد كان اختصاصيًا في العيون وطبيبًا للأعصاب قبل أن يُصبح طبيبًا نفسانيًّا.. عمل أدلر مع سيجموند فرويد في الفترة من عامي 1902 و1911م. وفي الفترة ما بين عامي 1919 و1934م، ثم أسّس مستوصفات توجيه الطفولة في فيينّا كما قام بتدريب المعلّمين، وعمل مع الآباء وأشرف على نشاطات المعلّمين الخاصّة بتعلم كيفيّة تمريض الأطفال الّذين يعانون الاضطرابات، وفي عام 1934م انتقل أدلر إلى نيويورك.

وهو يرى أن القوة الرئيسية للنشاط البشري بوجه عام ما هي إلا نضال لتحقيق الرّفعة والكمال، وقد أشار أدلر في البداية إلى هذه القوة بوصفها دافعًا نحو الوصول إلى السلطة، ولكنه سمّاها مؤخرًا النّضال نحو الرفعة. وسمى مدرسته الفكريّة (علم النفس الفردي)، ويشار إلى هذه المدرسة في وقتنا الحاضر، أحيانًا، بـ (علم النفس الأدلري)

([30]) لقد قدر الله أن يرى فرويد في حياته بداية انهيار نظرياته.. والذي استمر إلى اليوم.. فمع الجهود الكبيرة التي حاول بها أتباع فرويد السيطرة على مناهج التعليم والتربية والدوائر العلمية، غير أنها في سنوات تالية قليلة، انكشف عوارها، حتى إن الأطباء النفسانيين الذين اجتمعوا لإحياء ذكرى فرويد في مدينة شيكاغو عام 1956، وعدتهم نحو أربعة آلاف، فوجئوا بحملة عنيفة على فرويد ومذهبه، يتولاها رجل مسؤول عن مركزه العلمي هو الدكتور برسيفال بيلي مدير معهد النفسيات بولاية ألنيواز.

 وخلاصة حملته: أن البقية الباقية من طب فرويد قليلة لا يؤبه بها، وأن آراءه لا تضيف شيئًا إلى القيم الإنسانية لأنه يرتد بالإنسان إلى أغوار الباطن، ويهمل جانبه المنطقي الشاعر، وأنه لم يكن يفهم المرأة، ولم يكن يتذوق الموسيقى، ولا يحس جلال العقيدة.

وقال باحث آخر: إن نظرية فرويد عن العقل الإنساني لا تقوم على أكثر من افتراضات خيالية، انتزعت مادتها من الأساطير والتخمينات التي سبق رفضها في مجال الدراسات المتعلقة بتاريخ الإنسان.

وقد كشفت الأبحاث التي نشرها الكتاب اليهود في السنوات الأخيرة عن علاقة جذرية وعميقة بين نظريات فرويد وبين نصوص التلمود، وقد ظلت هذه النظرية تخدع مئات العلماء ببريقها الزائف سنوات طويلة حتى أعلنت هذه الحقائق، ومن بين الذين كشفوا هذا السر الدكتور صبري جرجس في كتابه (التراث اليهودي الصهيوني في علم النفس ونظرية فرويد) حيث أشار إلى التركيز الخطير الذي قامت به القوى المسيطرة على الإعلام والآداب والفنون والجامعات في الغرب على نظرية فرويد واحتضانها على هذا النحو المريب، بالرغم من أنها لم تكن صحيحة علميًا، بينما أخفتت أصوات النظريات الأخرى الأكثر قربًا من الحقائق العلمية.

يقول الدكتور صبري جرجس: (لفت انتباهي حقيقة كبرى، تلك العلاقة الوثيقة بين فرويد رجل العلم والتحليل النفسي والفكر العالمي من ناحية، وبين التراث اليهودي الصهيوني والصهيونية، والعمل السياسي الديني العنصري من ناحية أخرى، وكما تبدي لي ليست علاقة مصادفة، ولكنها علاقة أصل ومسار وهدف، وأشار إلى أن فرويد وأصحابه الذين حملوا لواء فكرته من بعده كانوا جميعًا من الصهيونية (ساخس، رايك، سالزمان، زيلبورج، شويزي، وتيلز، فرانكل، كاتز، فينكل)

وأشار إلى عدة عبارات وردت في كتابات يهودية لفتت نظره إلى ما يراه الآن من علاقة بين الصهيونية وبين نظرية فرويد، وليس ذلك إلى ما أشار إليه باكان في بعض خفايا التراث اليهودي الصهيوني التي لها علاقة بالتحليل النفسي، بل إلى ما ذكرته صراحة الكتابة (ترود، وايز، مارين) عن: كيف تحتقر اليهودية العقل الغربي مزيفة في سبيل ذلك وقائع الماضي وأحداث الحاضر، آمنة بعد ذلك من الافتضاح، ومطمئنة آخر الأمر إلى التصديق. (انظر: سلسلة دراسات إسلامية معاصرة، الفرويدّية، أنور الجندي)

([31])  هو كارل جوستاف يونج (1875-1961م)، وهو عالم سويسري مختص في علم النفس والطبّ النفسي، قام بتطوير مجال علم النفس التحليلي، ولد في مدينة بازل لأب كان يعمل قسيسًا، ومنذ صغره كان لديه اهتمام دائم بالخرافات والأساطير والسحر. وفي عام 1895م، دخل يونج جامعة بازل، لدراسة علم الآثار. ولكن اهتماماته تغيرت وتأهل طبيبًا في جامعة زيوريخ عام 1902م، وبدأ ممارسة الطب النفسي في بازل. استخدم يونج في وقت مبكر من حياته العملية نظريات التحليل النفسي التي استحدثها فرويد. وتقابل الاثنان في عام 1907م، وتوثقت صلتهما، وشارك يونج في حركة التحليل النفسي. وفي وقت لاحق بدأ يونج يعتقد أن فرويد اهتم أكثر من اللازم بالغرائز الجنسية في سلوك الإنسان. وقد أدى عدم تركيز يونج على الجنس إلى تخليه عن فرويد وانتهاء صداقتهما في عام 1913م. وأصبح أستاذًا في علم النفس الطبي في جامعة بازل عام 1943م.

([32]) هو جون برودس واطسون، (1878 - 1958م). عالم نفسي أمريكي هو زعيم المدرسة السلوكية في علم النفس، وكان عمله الأول في مجال بيولوجيا وطب وسلوك الكائنات الحية الدنيا، قد دفعه هذا إلى الشك في وجود العمليات العقلية التي يدعي علماء النفس دراستها، وأخذ على عاتقه مهمة تقديم تفسير لسلوك كل من البشر والحيوانات في إطار بدني وفسيولوجي خالص وذلك في كتابه (علم النفس من وجهة نظر عالم سلوكيات)

([33])أسس هذا المذهب عام 1913م عالم النفس الأمريكي واطسون جون برودس إذ اعتقد هو وأتباعه أن السلوك الظاهري ـ لا التجربة الباطنة ـ هو مصدر المعلومات الوحيد الممكن الوثوق به. وجاء هذا التركيز على الحوادث المرئية بمثابة رد فعل لتأكيد مدرسة البنيوية على الاستبصار. وقد أكَّد السلوكيون على أهمية البيئة في تكوين السلوك الفردي، وبحثوا بصورة رئيسية العلاقة الكائنة بين السلوك الظاهري والمثيرات البيئية.

وأدرك واطسون وغيره من السلوكيين أنه من الممكن أيضًا تغيير سلوك الإنسان بالإشراط. والواقع أنه اعتقد أن بإمكانه توليد أية استجابة يريدها من خلال التحكم في بيئة الفرد.

وفي منتصف القرن العشرين اجتذب عالم النفس الأمريكي بي إف سكنر كثيرًا من الانتباه بفضل أفكاره السلوكية، ففي كتابه والدن الثاني (عام 1948م) وصف سكنر كيفية تطبيق مبادئ الإشراط من أجل خلق مجتمع مثالي وفقاً لمخطط مرسوم.(ناي,2001م)

وهذا التوجه الذي صاغه واطسون قصر موضوع علم النفس على دراسة السلوك الظاهر فقط عن طريق الملاحظة البحتة وهي بذلك ترفض رفضا صريحا منهج التأمل الباطني و الاستبطان الذي نادي به فرويد في نظريته التحليلية , وتركز بدلا عنه على المنهج التجريبي. وبذلك يكون لنظرية السلوكية وقع علمي مميز لأنها جاءت بعد الانتشار الواسع الذي لقيته التحليلية على يد فرويد.

والمدرسة السلوكية عبارة عن مجموعة من النظريات الفرعية التي ترتكز على أساس مسلمات و مبادئ واحدة ومن النظريات السلوكية الرئيسية نظرية الاشراط الكلاسيكي بريادة بافلوف ونظرية الاشراط الإجرائي بزعامة سكنر ونظرية التعلم الاجتماعي بريادة باندورا ونظرية العلاج العقلاني الانفعالي لاليس ونظرية العلاج متعدد الوسائل لازورس.

([34])النظرية السلوكية متأثرة أساسا بنظرية نيوتن، مما أدى الى تسميتها بـ (النظرية الذرية) (Atomic Theory)؛ وهي قريبة، في تحليلها السلوك بالفعل ورد الفعل، من الشكل الميكانيكي، فلكل فعل رد فعل مساو له في المقدار، ومختلف عنه في الاتجاه.

ولهذا انتقدت النظرية السلوكية من منطلق المقارنة بالنظرية الميكانيكية نفسه (نيوتن)، فهي تنطلق، في تحليل السلوك، من المثيرات والاستجابات من دون الاهتمام بجانب الادراك في تفسير السلوك.

([35]) هو بافلوف، إيفان بتروفيتش (1849- 1936م) عالم روسي من علماء علم وظائف الأعضاء، نال جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء عام 1904م، عن بحثه في الهضم. فقد أوضح كيف أن العصب المعدي يتحكم في انسياب العصارات الهضمية للبطن وللبنكرياس.

ظل بافلوف ـ خلال الثلاثين سنة التي تلت تلك الفترة ـ يدرس عمل الدماغ، وقد اكتشف أنه يمكن لتكرار ترابط مثير صناعي، مثل الجرس، أن يقوم مقام المثير الطبيعي مثل الطعام في إحداث رد فعل فسيولوجي متمثل في سيلان اللّعاب. وأطلق على هذا اسم المنعكس الشرطي. وكان بافلوف يؤمن بأن كل العادات المكتسبة، بل حتى الأنشطة العقلية العليا للإنسان تعتمد على سلسلة من الانعكاسات المشروطة.

([36]) سنرى التفاصيل العلمية الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

([37]) هو فريدريك نيتشه (1844 ـ 1900م)، وهو فيلسوف ألماني، عالم نفس، وعالم لغويات، تميز بشخصية عدوانية جداً، و كونه ناقدا حادّا للمبادئ الأخلاقية،و النفعية، و الفلسفة المعاصرة، المادية، المثالية الألمانية، الرومانسية الألمانية، والحداثة عُموماً.. ويعتبر من بين الفلاسفة الأكثر شيوعا و تداولا بين القراء، وكثيرا ما توصف أعماله بأنها حامل أساسي لأفكار الرومانسية الفلسفية و العدمية و معاداة السامية وحتى النازية لكنه يرفض هذه المقولات بشدة و يقول بأنه ضد هذه الاتجاهات كلها.

وفي مجال الفلسفة والأدب، يعتبر نيتشه في أغلب الأحيان إلهام للمدارس الوجودية وما بعد الحداثة. روج لأفكار اللاعقلانية والعدمية، واستخدمت بعض آرائه فيما بعد من قبل إيديولوجي الفاشية.

ولد بسكسونيا، وكان أبوه وجده قسيسيْن بروتستانتيين. ودرس في جامعتي بون وليبزج. وعندما كان عمره 24 سنة فقط صار أستاذًا للكلاسيكيات في جامعة بازل بسويسرا. وهناك أصبح الصديق المقرب إلى الموسيقار ريتشارد فاجنر، ولكن هذه الصداقة انتهت بالعداء. وفي سنة 1870م أصبح نيتشه مواطنًا سويسريًا. وبعد أن درَّس في الجامعة عشر سنوات فقط تقاعد بسبب ضعف صحته ووجه كل طاقته لكتاباته. وفي عام 1889م تعرض نيتشه لانهيار عقلي لم يُشف منه أبدًَا.

من أشهر كتب نيتشة (المسيح الدجال) و(جينيالوجيا الأخلاق) و(ما وراء الخير والشر) و(إرادة القوة) الذي يعد أضخم كتبه وأهم كتاب ختم به حياته، وتكمن أهمية كتابه (إرادة القوة) في كونه يتضمن جوهر الفلسفة النيتشية بكاملها، لتحطيم نيتشة للميتافيزيقا وإحلال (إرادة القوة) في مركز الفلسفة

([38]) لكن أمنيته لم تتحقق، اذ تلى عليه القساوسة في ساعة دفنه.

([39]) نشير به إلى شيبان الراعي.. وهو من كبار أولياء هذه الأمة وصالحيها.. وقد كان راعيا بسيطا، ومع ذلك كان العلماء والفضلاء يستفيدون منه ويتلقون عنه.. ومن أخباره أنه لما حج هارون الرشيد قيل له: يا أمير المؤمنين قد حج شيبان العام. قال: اطلبوه لي، فطلبوه فأتوه به فقال له: يا شيبان عظني؟ قال: يا أمير المؤمنين أنا رجل ألكن لا أفصح بالعربية فجئني بمن يفهم كلامي حتى أكلمه، فأتي برجل يفهم كلامه فقال له بالنبطية: قل له: يا أمير المؤمنين إن الذي يخوفك قبل أن تبلغ المأمن أنصح لك من الذي يؤمنك قبل أن تبلغ الخوف، فقال: قل له: أي شيء تفسير هذا؟ قال: قل له: الذي يقول لك: يا هذا اتق الله عز وجل فإنك رجل من هذه الأمة، استرعاك الله عليها وقلدك أمورها وأنت مسئول عنها فاعدل في الرعية واقسم بالسوية، وانفر في السرية، واتق الله في نفسك، هذا الذي يخوفك فإذا بلغت المأمن أمنت، هو أنصح لك ممن يقول: أنتم أهل بيت مغفور لكم، وأنتم قرابة نبيكم وفي شفاعته، فلا يزال يؤمنك حتى إذا بلغت الخوف عطبت. قال: فبكى هارون حتى رحمه من حوله. ثم قال: زدني. قال: حسبك. ثم خرج.

وعن سيار قال: قرأ رجل على شيبان الراعي :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾ (الزلزلة)،  قال: فذهب على وجهه فلم ير سنة، فلما كان بعد الحول لقيه رجل فقال له: من أين؟ فقال: من ذلك الحساب الدقيق :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾ (الزلزلة)

ومن كراماته ـ رضي الله عنه ـ ما حدث به عبد الله بن عبد الرحمن قال: حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي فعرض لهم سبع، فقال له سفيان الثوري: أما ترى هذا السبع؟ قال: فقال: لا تخف. قال: فلما سمع السبع كلام شيبان بصبص، فأخذ شيبان أذنه فعركها فبصبص وحرك ذنبه، قال سفيان: ما هذه الشهرة؟ قال: أو هذه شهرة؟ لولا مكان الشهرة ما وضعت زادي إلا على ظهره.

وهذه الكرامة هي التي جعلتنا نختاره لهذا الفصل.. فهي تمثل بمعناها الرمزي سيادة الإنسان والكمالات التي وهبها الله للإنسان.

([40]) ورد في الحديث : (إن هذا الإنسان بنيان الله فملعون من هدم بنيانه)، قال فيه الزيلعي : (غريب جدا)، (تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري:1/346)

([41]) هو تُومَاس أَلْفَا أَدِيسُون (1847 - 1931م) أشهر مخترع أمريكي، من اختراعاته: المصباح الكهربائي ومُشَغِّل الأسطوانات. وسجل ما مجموعه 1093 اختراعًا، وأجرى تجارب في حقل الطب، وكاد يخترع المذياع، وتنبأ باستعمال الطاقة الذرية.. إضافة إلى ذلك حَسَّنَ اختراعات الآخرين، ومنها الهاتف، والآلة الكاتبة، والمولِّد الكهربائي، والقطار الكهربائي.

([42])كون الإنسان من تراب  لا شك فيه من الناحية العلمية، فلو أرجعنا الإنسان إلى عناصره الأولية، لوجدناه أشبه بمنجم صغير، يشترك في تركيبه حوالي ( 21) عنصراً، تتوزع بشكل رئيسي على:

1ـ أكسجين (O) ـ هيدروجين ( H) على شكل ماء بنسبة 65 بالمائة ـ 70بالمائة من وزن الجسم

2 ـ كربون (C)، وهيدروجين ( H) وأكسجين (O) وتشكل أساس المركبات العضوية من سكريات ودسم،و بروتينات وفيتامينات، وهرمونات أو خمائر.

3 ـ مواد جافة يمكن تقسيمها إلى:

آ ـ ست مواد هي: الكلور ( CL)، الكبريت (S)، الفسفور (P)، والمنغنزيوم (MG) والبوتسيوم (K)، والصوديوم (Na)، وهي تشكل 60 ـ 80 بالمائة من المواد الجافة.

ب. ست مواد بنسبة أقل هي: الحديد (Fe)، والنحاس (Cu) واليود (I) والمنغنزيوم (MN) والكوبالت ( Co)، والتوتياء ( Zn) والمولبيديوم (Mo ).

جـ ـ ستة عناصر بشكل زهيد هي: الفلور ( F)، والألمنيوم (AL)، والبور (B)، والسيلينيوم ( Se)، الكادميوم ( Cd) والكروم ( Cr).

وكل هذه العناصر موجودة في تراب الأرض، ولا يشترط أن تكون كل مكونات التراب داخلة في تركيب جسم الإنسان، فهناك أكثر من مئة عنصر في الأرض بينما لم يكتشف سوى (22) عنصراً في تركيب جسم الإنسان، و ذلك كله يوافق ما جاء به القرآن تمام الموافقة. (مع الطب في القرآن الكريم  تأليف الدكتور عبد الحميد دياب  الدكتور أحمد قرقوز مؤسسة علوم القرآن)

([43]) ذكرنا الرد العلمي على نظرية التطور في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

([44]) للأسف.. فإن بعض المسلمين ممن توهموا أن لنظرية التطور مصداقية علمية راح يحاول التوفيق بينها وبين ما جاء في القرآن.. ومن ذلك الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه (أبي آدم: قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة)، فقد حاول في دراسته التوفيقية هذه أن يميز بين كلمتي (البشر)، و(الإنسان).. حيث افترض أن كلمة (بشر) تطلق على الأطوار القديمة التي كان عليها الإنسان قبل استصفاء الله لآدم من بين بقية المخلوقات التي يطلق عليها (بشر)، والبشر بذلك هو اسم ذلك المخلوق الذي أبدعه الله من الطين.

فبين (البشر والإنسان) عموما وخصوصا مطلقا، فـ (البشر) لفظ عام في كل مخلوق ظهر على سطح الأرض، يسير على قدمين، منتصب القامة، و(الإنسان) لفظ خاص بكل من كان من البشر مكلفا بمعرفة الله وعبادته، فكل إنسان بشر، وليس كل بشر إنسانا.

ومن الردود التي رد بها الباحثون على هذا أن كلمة (بشر) في القرآن الكريم ـ الذي انطلق منه ـ مرادفة لكلمة (إنسان) بشكل لا لبس فيه, ويدل لذلك أن كلمة (بشر) في القرآن الكريم أطلقت على المعاني التالية:

على الرجال: ومن الشواهد على هذا المعنى ما ورد في قوله تعالى :﴿ قالت رب أنَّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ﴾ (آل عمران: 47), وهو المعنى الذي نجده في قوله تعالى :﴿ وقلن حاشا لله ما هذا بشرا ﴾ (يوسف:31) وقوله تعالى :﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلِّمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ﴾ (النحل103)، وقوله تعالى :﴿ فتمثل لها بشرا سويا ﴾ (مريم17) وغيرها.

على الإنسان: ومن ذلك قوله تعالى :﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً ﴾ (مريم:26) فقد وردت هذه الكلمة هنا مرادفة للإنسان.

على الأنبياء.. كما قال تعالى :﴿ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكمة والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ﴾ (آل عمران: 79)، وهذا هو المعنى الذي نجده كذلك في قوله تعالى :﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (الأنعام:91)، وقوله تعالى :﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (ابراهيم:10)، وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف:110)

أما تفسيره لكلمة (سلالة) في قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون:12)، والتي تصور أن المراد منها (سلسلة آباء خلقوا من طين.. وكأن الآية تدفع عن العقل احتمال إدماج العمليتين (خلق البشر وخلق الإنسان) في عملية واحدة، فالإنسان خلق من (سلالة) نسلت من(طين)، أي: إنه لم يخلق مباشرة من الطين، فأما ابن الطين مباشرة فهو (أول البشر)، وكان ذلك منذ ملايين السنين) (ص90 من كتابه) ويقول: (فخلق الإنسان (بدأ من طين)، أي: في شكل مشروع بشري، ثم استخرج الله منه نسلا (من سلالة من ماء مهين)، ثم كانت التسوية ونفخ الروح، فكان (الإنسان) هو الثمرة في نهاية المطاف عبر تلكم الأطوار التاريخية السحيقة العتيقة) (ص91 منه)

فقد رد عليه الباحثون بأن السلالة في اللغة(انظر المعجم الوسيط, ومعجم ألفاظ القران) تعني (ما استُل من الشيء وانتُزع.. كما تعني خلاصة الشيء.. ومعنى الآية بهذا هو : ( ولقد خلقنا الإنسان من خلاصة من الطين)  (انظر: غزو معاقل الداروينية، ونسف نظرية التطور، تأليف:أبو صلاح)

([45])  انظر مقالا بعنوان: كيف تعامل الإسلام مع الجسد؟ من موقع (البلاغ) الموسوعة الإسلامية.

([46]) هذا هو السر الذي عزا إليه المحققون من العارفين سر عدم إمكان معرفة الجماهير للروح، وقد تحدث الغزالي عن ذلك  عند ذكره للأسرار التي يختص بها المقربون ولا يشاركهم الأكثرون في علمها ويمتنعون عن إفشائها إليهم، فقال القسم الأول: أن يكون الشيء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه فيختص بدركه الخواص وعليهم أن لا يفشوه إلى غير أهله فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أفهامهم عن الدرك. وإخفاء سر الروح وكف رسول الله r عن بيانه من هذا القسم فإن حقيقته بما تكل الأفهام عن دركه وتقصر الأوهام عن تصور كنهه. ولا تظنن أن ذلك لم يكن مكشوفاً لرسول الله r فإن من لم يعرف الروح فكأنه لم يعرف نفسه ومن لم يعرف نفسه فكيف يعرف ربه سبحانه؟ ولا يبعد أن يكون ذلك مكشوفاً لبعض الأولياء والعلماء وإن لم يكونوا أنبياء ولكنهم يتأدبون بآداب الشرع فيسكتون عما سكت عنه بل في صفات الله عز وجل من الخفايا ما تقصر أفهام الجماهير عن دركه ولم يذكر رسول الله r منها إلا الظواهر للأفهام من العلم والقدرة وغيرهما حتى فهمها الخلق بنوع مناسبة توهموها إلى علمهم وقدرتهم إذ كان لهم من الأوصاف ما يسمى علماً وقدرة فيتوهمون ذلك بنوع مقايسة. ولو ذكر من صفاته ما ليس للخلق مما يناسبه بعض المناسبة شيء لم يفهموه)( انظر: الإحياء: 1/100)

([47]) فقد كان سقراط وأفلاطون يعتقدان أنّ الروح جوهر خالد موجود منذ الأزل، وعندما يكتمل الجنين في بطن اُمّه تتعلق به الروح، ثمّ تعود بعد الموت إلى محلّها الأول، ويرى إفلاطون أن هناك روحين: إحداهما الروح العاقلة وهي الخالدة ومحلها الدماغ، والاُخرى غير خالدة ولا عاقلة، وهي قسمان: غضبية ومستقرها الصدر، وشهوية ومكانها البطن.

وذهب أرسطو إلى الاعتقاد بحدوث الروح مع حدوث البدن، فعندما يتكامل البدن توجد الروح دون أن تكون لها سابقة حياة قبل حدوثها، وعدّ ثلاثة صنوف من الأرواح منبثّة في مجموع البدن، وهي: الروح العاقلة ـ أو النفس الناطقة ـ وهو يقول بتجردها، والروح الحاسة أو الحيوانية، والروح الغاذية، ولا يقول بتجرد الأخيرتين.

واهتم ديكارت ( ت1560 ) بتمييز الروح عن الجسم، وتحديد خصائص كلّ منهما، فاعتبر الروح جوهراً أخصّ صفاته الفكر، ولا يتصوّر فيه إمكان التجزّي والانقسام وعدم التجانس في أجزائه، واعتبر الجسم جوهراً أخص صفاته الامتداد، ومن أحواله الصورة والحركة، ويقبل الانقسام والتجزّي والتغير بطبيعته.

وغيرهم من الهنود والصينيون.. اتفقوا على أن حقيقة الإنسان هو كيان روحي مجرَّد عن صفات المادة وخصائصها، وهو غير البدن العضوي والجهاز المادي الذي يؤدي الفعاليات والنشاطات المادية. وهو الذي ينطق عنها الإنسان فيقول (أنا)، فليس (الأنا) الذات الإنسانية هي ذلك الكيان الجسدي، بل هي ذلك الكيان الروحي المستقل.

والكيان الإنساني (الروح) هو القوة المدركة، وهو القوة التي تشعر بالألم واللذّة والخوف والسرور والحزن، وهو القوة الناطقة، وما الجسم إلاّ آلة لتنفيذ مآرب النفس، وليست الأجهزة الحسّية والدماغ إلاّ أدوات يستخدمها الإنسان (الكيان الروحي) لفهم العالم المادي والتعامل معه.

([48]) ذكرنا الكثير من الأدلة العلمية المرتبطة بإثبات وجود الروح في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة، وسنرى تفاصيل أخرى لها علاقة بهذا في رسالة (الباحثون عن الله)

([49]) ما بين قوسين من كلام الإمام النورسي، وسنرى شرح هذه المعاني الجليلة في رسالة (أسرار الإنسان) من هذه السلسلة.

([50]) ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (أسرار الأقدار) من سلسلة (عيون الحقائق)

([51])  رواه البخاري ومسلم.

([52])  رواه الطبراني في الكبير.

([53]) الإحياء:3/5.

([54]) وضع مكدوغل 14 غريزة، أضاف إليها غرائز أخرى، ومن أهمها غريزة المقاتلة، البحث عن الطعام، التملك، الجنس، الابوة، الراحة، النوم، وقد كان مكدوغل يعبر عن هذه الغرائز بالغرائز الفطرية. إلا أن آراءه هذه لقيت بعض النقد، ومن أهم ما وجه اليها من نقد:

1. تنافي اتجاه الغرائز الفطرية مع الاتجاه العلمي للبحث، وكونها خارجة عن إطار السيطرة والتحكم، اذ أن الغريزة من الأمور الانفعالية.

2. التشكيك في عدد الغرائز المطروحة (بين 14 و36) ويصل العدد، في رأي وليم جيمس، الى مئة غريزة.

3. يرى علماء الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع أن الاختلاف، في سلوك الإنسان، يعود إلى الاختلاف في الثقافة بين مجتمع وآخر، فتنتفي بعض الغرائز عند بعض المجتمعات، كغريزة المقاتلة، مثلا، إذ أن بعض المجتمعات، كالهنود الحمر، في كندا، يتنازلون عن الممتلكات تعبيرا عن الفوز بالمعركة، كان تحدي الانسان لدافع التملك دليل على الفوز.

([55]) سنتحدث بتفصيل عن العقل في الفصل الخاص به.. وإنما نذكر هنا علاقته بأركان الإنسان.

([56])  من أحسن الأبحاث العلمية الحديثة الدالة على هذا ما ذكره أصحاب (العلم في منظوره الجديد) من أن (ويلدر بنفيلد) (1891-1976م)، وخلال عمليات جراحية أجراها على أدمغة ما يربو على ألف مريض فى حالة الوعى، لاحظ  ملاحظات مهمة حول وظيفة الدماغ تفوق فى حجيتها وكمالها جميع الأدلة غير المباشرة المستفادة من بحوث أجريت على حيوانات، ومن عمليات جراحية أجريت على أدمغة أشخاص مبنجين.

لقد كان بنفيلد، والذى يعود له الفضل الأول فى إدماج مباحث الأعصاب وفسيولوجيا الأعصاب وجراحة الأعصاب، قد شرع فى بحوثه الرائدة فى الثلاثينات من هذا القرن غير أن الآثار الكاملة المترتبة على اكتشافه لم تتضح إلا حين نشر كتابه المسمى ( لغز العقل ) ( the mystery of the mind)

لقد اكتشف بنفيلد عام 1993 بمحض الصدفة أن تنبيه مناطق معينه فى الدماغ بالكهرباء تنبيها خفيفا يحدث استرجاعا فجائيا للذاكرة عند المريض الواعى.

لقد ساورت بنفيلد الشكوك أول الأمر، ثم أخذته الدهشة، فعندما لامس القطب الكهربائى قشرة مخ شاب تذكر هذا الشاب أنه كان جالسا يشاهد لعبة (بيسبول) فى مدينة صغيرة، ويراقب ولدا صغير يزحف تحت السياج، ليلحق بجمهور المتفرجين، وهناك مريضة أخرى سمعت آلات موسيقية تعزف لحنا من الألحان.. قال بنفليد:( أعدت تنبيه الموضع نفسه ثلاثين مرة محاولا تضليلها، وأمليت كل استجابة على كاتبه الاختزال، وكلما أعدت تنبيه الموضع كانت المريضة تسمع اللحن من جديد، وكان اللحن يبدأ فى المكان نفسه، ويستمر من اللازمة إلى مقطع الأغنية، وعندما دندنت، مصاحبة الموسيقا، كان إيقاعها يسير بالسرعة المتوقعة له)

لقد كان المرضى يحسون دائما بالدهشة لتذكر الماضى بمثل هذه التفاصيل الحية، ويفترضون على الفور أن الجراح هو المسؤول عن تنبيه الذاكرة التى ما كانت تتاح لولاه، وكان كل مريض يدرك أن التفاصيل هى من واقع تجاربه الماضية، وكان من الواضح أن الأشياء التى كان قد أولاها عنايته هى وحدها التى أودعها فى محفوظات دماغه.

وكان بنفيلد من وقت لآخر يحذر المريض أنه سينبه دماغه، ولكنه لا يفعل ذلك، وفى مثل هذه الحالات لم يكن المريض يذكر أى ردود فعل إطلاقا.

ثم إن ملامسة المنطقة الخاصة بالنطق فى الدماغ تؤدى إلى فقدان مؤقت للقدرة على الكلام عند المريض، ونظرا لانعدام الإحساس فى الدماغ، فالمريض لا يدرك أنه مصاب بالحبسة إلا عندما يحاول أن يتكلم أو يفهم الكلام، فيعجز عن ذلك، وقد روى بنفيلد ما حدث، فقال : ( أخذ أحد مساعدى يعرض على المريض صورة فراشة وضعت القطب الكهربائى حيث كنت أفترض وجود قشرة المخ الخاصة بالنطق، فظل المريض صامتا للحظات، ثم طقطق بأصابعه كما لو كان غاضبا، ثم سحبت القطب، فتكلم فى الحال، وقال : الآن أقدر على الكلام، إنها فراشة لم أكن قادرا على النطق بكلمة (فراشة) فحاولت أن أنطق بكلمة (عثة)

لقد فهم الرجل بعقله الصورة المعروضة على الشاشة،وطلب عقله من مركز الكلام فى دماغه أن ينطق بالكلمة التى تقابل المفهوم المائل فى ذهنه، وهذا يعنى أن آلية الكلام ليست متماثلة مع العقل، وإن كانت موجهة منه، فالكلمات هى أدوات تعبير عن الأفكار، ولكنها ليست الأفكار ذاتها، وحين عجز المريض عن التفوه بالكلمة لانسداد الكلام عنده استغرب، وأمر بالبحث عن اسم شىء مشابه هو ( العثه) وعندما فشل في ذلك أيضا طقطق بأصابعه غضبا (إذ إن هذا العمل الحركى لا يخضع لمركز الكلام)، وأخيرا عندما انفتح مركز الكلام عند المريض شرح تجربته الكاملة مستخدما كلمات تناسب أفكاره، وقد استنتج بنفيلد أن المريض حصل على كلمات من آلية الكلام عندما عرض مفاهيم، ونحن نستطيع الاستعاضة عن ضمير الغائب فى عملية الاستبطان هذه بكلمة عقل فعمل العقل ليس عملا آليا )

وهكذا توصل بنفيلد إلى نتائج مماثلة فى مناطق الدماغ التى تضبط الحركات، قال: ( عندما جعلت أحد المرضى يحرك يده بوضع القطب على القشرة الحركية فى أحد نصفى كرة دماغه كنت أسأله مرارا عن ذلك، وكان جوابه على الدوام (أنا لم أحرك يدى ولكنك أنت الذى حركتها) وعندما أنطقته قال: (أنا لم أخرج هذا الصوت أنت سحبته منى )

لقد لخص بنفيلد ذلك بقوله : (إن القطب الكهربائي يمكن أن يخلق عند المريض أحاسيس بسيطة متنوعة، كأن يجعله يدير رأسه أو عينيه أو يحرك أعضاءه أو يخرج أصواتا، وقد يعيد إلى الذاكرة إحساسا حيا بتجارب ماضية، أو يوهمه بأن التجربة الحاضرة هى تجربة مألوفة، أو أن الأشياء التى يراها تكبر وتدنو منه، ولكن المريض يظل بمعزل عن كل ذلك، وهو يصدر أحكاما على كل هذه الأمور وربما قال : إن الأشياء تكبر) ولكنه يستطيع مع ذلك أن يمد يده اليسرى، ويقاوم هذه الحركة.

ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة انتهى بنفيلد إلى أن عقل المريض الذي يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لا بد من أن يكون شيئا آخر يختلف كليا عن فعل الأعصاب اللاإرادي، ومع أن مضمون الوعي يتوقف إلى حد كبير على النشاط، فالإدراك نفسه لا يتوقف على ذلك.

وباستخدام هذه الأساليب المراقبة استطاع بنفيلد أن يرسم خريطة كاملة تبين مناطق الدماغ المسئولية عن النطق والحركة وجميع الحواس الداخلية والخارجية غير أنه لم يكن في المستطاع تحديد موقع العقل أو الإرادة في أي جزء من الدماغ، فالدماغ هو مقر الإحساس والذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة، ولكنه ليس مقر العقل أو الإرادة.

لقد أعلن بنفيلد عن نتائج أبحاثه قائلا : ( ليس في قشرة الدماغ أي مكان يستطيع التنبيه الكهربائي فيه أن يجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئا، والقطب الكهربائي يستطيع أن يثير الأحاسيس والذكريات غير أنه لا يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس المنطقى، أو يحل مسائل فى الجبر، بل إنه لا يستطيع أن يحدث فى الذهن أبسط عناصر الفكر المنطقي، والقطب الكهربائي يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك، ولكنه لا يستطيع أن يجعله يريد تحريكه، إنه لا يستطيع أن يكره الإرادة، فواضح أذا أن العقل البشرى والإرادة البشرية ليس لها أعضاء جسدية) (انظر: العلم في منظوره الجديد)

وسنرى مزيدا من البحث في هذا في رسالة (الباحثون عن الله) عند محاولة إثبات العوالم الغيبية.

([57]) نرى أن العلم بدأ يقترب نحو إثبات علاقة الوعي والمشاعر بالقلب.. ومن أجمل ما قرأنا في هذا البحث مقالا علميا في مجلة اليمامة (العدد 1607).. وهو عبارة عن تحقيق طبي عن آخر اكتشافات العلم الحديث حول وجود عقل في القلب كتبه الدكتور فهد العريفي.. سنلخصه هنا بتصرف واختصار:

قال في بداية مقاله : (سبحان الله القائل في محكم التنزيل :﴿ فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(الحج: من الآية46).. وصدق رسوله الكريم r القائل : (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب)

أما بعد.. فقد كان للقرآن الكريم السبق في التدليل على أهمية هذه العضلة في تحديد شخصية الإنسان، بدءاً من دينه وانتهاءً بمعاملاته.

وقد ساد عند كثير من العلماء فهماً مفاده أن القلب عبارة عن مضخة ميكانيكية للدم وأن مصدر العاطفة والمشاعر هو العقل والمراد به المخ وليس القلب. فكل الأفكار والتصرفات والسلوك مصدرها المخ وأوّل بعض المفسرين دلالة القلب الواردة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن المراد هو العقل.

وأخيراً جاء العلم الحديث ليؤكد على أن القلب هو العقل الثاني المتحكم في المشاعر والسلوك.

ثم قال الدكتور: (منذ قرون خلت، وعندما لم يكن متاحاً عن علم الأعصاب سوى النزر اليسير، فتن الغموض الذي أحاط بالقلب والعقل وكيفية عملهما الداخلي ولكن خلال العامين والنصف الماضيين ازدادت المعرفة حول علم الأعصاب، مما أدى إلى اكتشاف المزيد من التفسيرات عن الحافز للإنسان، إخلاصه وولائه، الثقة، الالتزام، التغير السلوكي، أكثر من أي وقت مضى في تاريخ البشرية ولتوضيح هذه الاكتشافات دعونا نأخذ مثالاً بسيطاً:

كلما كان لدينا خبرة مباشرة كمقابلة شخص لأول مرة مثلاً أو مواجهة تحد، أو مشكلة أو عندما تلوح لنا فرصة فهي تأتينا من خلال حواسنا الخمس وتنتقل عبر الجهاز العصبي حسب النموذج القديم الشبيه بدائرة كهربائية مباشرة إلى المخ فنفكر فيها ثم نستجيب بسلوك معين، وقد ثبت أن هذا الافتراض خاطئ بمعنى أننا نفكر في النهاية وليس في البداية.

وفيما يلي بعض الآراء التي ثبتت الآن صحتها، فعندما نقابل شخصاً لأول مرة أو نواجه تحدياً أو مشكلة أو عندما تلوح لنا فرصة، فإن الموقف سواءً تجربة أو خبرة لا تذهب مباشرة إلى المخ لكي نفكر فيها بل بدلاً عن ذلك تأتي الخبرة عن كل حواسنا بما فيها مجموعة من الحواس المادية وتذهب في البدء إلى الشبكة العصبية في القلب وليس المخ.

وهو ما يسمى حديثاً عند علماء الفسيلوجيا العصبية بالمخ الآخر.

تشير بعض البحوث الرائدة التي أجراها بعض العلماء إلى أنه يوجد (مخ آخر) داخل الأمعاء والقلب يعرف بالجهاز العصبي الداخلي وهو مستقل عن المخ بيد أنه يتصل به في الجمجمة وذلك حسب رأي (مايكل فيرشون) رئيس قسم التشريح وعلم الأحياء الخلوية بكولمبيا.

إن المكان الذي تذهب إليه كل تجربة أو خبرة هو القلب لا المخ. في التسعينات اكتشف علماء (علم القلب العصبي) الحقل الجديد الآخذ في الظهور، اكتشفوا عقلاً في القلب يتكون من 400.000 خلية عصبية من مختلف الأنواع إضافة إلى شبكة معقدة من المرسلات العصبية، البروتينات، الخلايا المساعدة وتؤدي عملاً مستقلاً عن الدماغ أو العقل.

وهذا (المخ القلبي) كبير ومتسع تماماً كاتساع المناطق الرئيسية في المخ (الدماغ المفكر) ومعقد بالقدر الذي يجعله كالمخ تماماً.

وشبكة الاستقبال في القلب هي جهاز عصبي مستقل ولها طريق ذو اتجاهين يوصلها بالمخ.

وهناك اكتشاف مدهش آخر هو أن دقات القلب ليست نبضات ميكانيكية لمضخة، بل لديها لغة ذكية تؤثر عن كيفية فهمنا وتفاعلنا مع العالم الخارجي.

إن الدراسات الحديثة في علم الأعصاب توضح أن كل خفقة للقلب تحدث هناك.

فمع كل خفقة للقلب يتدفق شلال عصبي يطلق خلايا عصبية من القلب لترسل فوراً إلى المخ عبر العصب الشوكي.. إن الإشارات العصبية الخارجة من القلب ذات تأثير وأثر على ضبط العديد من إشارات الجهاز العصبي، والأوعية الدموية، والعضلات، والغدد والأعضاء المحيطة بالقلب كما أن الرسائل العصبية من القلب تؤثر أيضاً على قشرة المخ الجزء المختص بعمليات التفكير والاستنتاج كما تؤثر إشارات القلب العصبية على مواقع الإدراك والأفعال ومناطق العاطفة.

يتصل القلب بالمخ بطريقة أخرى، من خلال رسول كيمائي في النظام الهرموني للجسد، وهذا ما يرمز له بهرمون التوازن (ANF) ولهرمون التوازن تأثير مهم على الجسد، والأوعية الدموية، ومناطق ضبط وتحكم متعددة في المخ. ويعتبر هذا الهرمون من خلال الدراسات الحديثة بأنه الباعث الأساسي للسلوك التحريضي، كالإخلاص والولاء والقبول.

فمع كل نبضة قلب هناك شكل آخر من أشكال الاتصال الفوري مع كل الجسم، وهي عبارة عن موجة تنتقل عبر الشرايين بسرعة تفوق بمرات كثيرة سرعة تدفق الدم، يخلق نوعاً من لغة الاتصال بين القلب والمخ لأن عينات موجة الضغط الدموي عينات قلبية إيقاعية معقدة وبهذه الطريقة تؤثر على مجمل الجسم وكذلك المخ.

وقد ظهرت دراسات حديثة تبين أن الحقل الكهرومغناطيسي للقلب يعد تقريباً الأقوى بين الحقول الكهرومغناطيسية التي ينتجها الجسم وفي الواقع إنه يفوق الحقل الكهرومغناطيسي للمخ بخمسة آلاف (5000) مرة وطبقاً لأبحاث نُشرت في مجلة (طب القلب) الأمريكية فإن التغيرات الكهربائية في الإحساس التي يرسلها القلب البشري يمكن أن تُحس وتقاس على بعد 5 أقدام على الأقل.

والحقل الكهرومغناطيسي للقلب ليس محصوراً على الجسم في التأثير ولكن أيضاً لديه إشعاع خارجي، وفي الأبحاث الحديثة يمكن قياس هذا الإشعاع من على بعد 2 إلى 3 أمتار بواسطة جهاز كشف حساس يسمى الماغنيتوميتر.

وهذا أيضاً ما أكدته دراسات أجراها مجموعة من العلماء في جامعة أريزونا في الولايات المتحدة والتي قدمت دلائل على اتصال طاقة بين الحقلين الكهرومغناطيسيين للقلب والمخ.

لذلك ليس غريباً أننا نستند في صدق علاقاتنا على شعورنا الفطري نحو الآخرين أكثر من اعتمادنا على الأفكار التي يتلفظون بها أو الكلمات التي يعتقدونها. وهذا ما يجعلنا نشعر أن شخصاً ما يبطن مشاعر الحب أو الكراهية وهذا ما يطلق عليه العامة عدم صفاء القلب تجاه الآخر.

لكي نستمر في المثال حول نموذج ما يحدث خلال كل تجربة أو خبرة في العمل فإنه تنتقل من خلال نبضات عصبية هي ما تسمى المديولا-me dulla تقع في قاعدة المخ ومن هذه المنطقة فصاعداً إلى أعلى منطقة في المخ تحدث مراحل التفكير الرئيسية:

جهاز تنشيط شبكي: توجد في قاعدة المخ نقطة توصيل تسمى بجهاز التنشيط الشبكي (ARS)، وهو متصل بالأعصاب الرئيسية من الحبل الشوكي والمخ، وتقوم بالبحث والفحص لحوالي 100 مليون نبضة تهاجم المخ في كل ثانية، فلا تسمح سوى للنبضات الهامة بالدخول لتنبه المخ فعلى سبيل المثال (جميع أجزاء الجسم تتلامس مع أشياء كالثوب والساعة والأشياء من حولنا جميعها ترسل إلى تلك المنطقة التي نقوم بضبطها لعدم الأهمية مقارنة بمنظر أو مشهد أو صوت لشخص مهم) وهذا الجزء من المخ يقع بين منطقة رأس الحبل الشوكي وقاعدة ساق المخ وقد نمّى مع مرور الزمن نزعة موروثة على تضخيم الرسائل الورادة السالبة (كتصرف أو موقف أو كلمة من شخص) وتقليل الرسائل الإيجابية.

فعندما يصيح شخص صيحة تحذيرية تقفز إلى أعلى، بغض النظر عن المتعة التي نكون منغمسين فيها، والتي نتركها لنهرب أو نستجيب لذلك الصوت، وفي عالم العمل اليومي يميل رد العقل المتأصل هذا إلى تعقيد الأمور، فكلمات نقد قليلة توجه إلينا، تُضخم وترسل من جهاز التنشيط الشبكي إلى مراكز المخ العليا الرئيسة كفيل بجعلنا نقف منزعجين وننبري للدفاع عن أنفسا.

لماذا في نهاية يوم عمل روتيني سارت فيه جميع الأمور بصورة طيبة عدا أمر واحد لم يكن كذلك نظل منشغلين بذلك الأمر؟

هذه غريزة جهاز التنشيط الشبكي.

بعد جهاز التنشيط الشبكي تكون المحطة التالية للأفكار وهي المنطقة الوسطى وتسمى (Limbic system) في المخ وهي منطقة المشاعر والإدراك وردود الفعل وكذلك تفسير العواطف في المخ.

وهو يعمل 80.000 مرة أسرع من قشرة المخ حيث مكمن وموضع التفكير في المخ.

وفي النهاية يصل الشلال العصبي (الأفكار) لانطباعاتنا عن التجربة التي مررنا بها أو الخبرة التي حصلنا علينا إلى منطقة التفكير في المخ والتي تسمى قشرة المخ.

أي أن كل تجربة أو خبرة قد أحسسناها قد فسرها القلب ومناطق أخرى كالأمعاء وأسفل منطقة المخ قبل أن تصل إلى قشرة المخ التي تحصل على التحليل النهائي.

بمعنى آخر إننا نفكر في النهاية وليس في البداية.

لذلك نحن نثق في الآخرين بالعاطفة أو العواطف ونبدع ونحلق بالعواطف! ومحاولة الاعتماد على القشرة المخية لوحدها قد يعود إلى شلل في القدرة على التحليل.

هذه هي المحطات التي تقطعها الأفكار والتجارب قبل أن تصل إلى قشرة المخ التي يتم فيها التحليل النهائي، وهذا القلب الذي منه وعبره تنطلق هذه التجارب والمشاعر.

([58]) رواه البخاري ومسلم.

([59]) رواه البخاري ومسلم.

([60]) رواه مسلم.

([61]) رواه أبو نعيم في الحلية.

([62]) سنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بأنواع الابتلاء وكيفية مواجهتها في رسالة (أسرار الإنسان) من هذه السلسلة.

([63])  انظر: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، الشهيد آية الله الصدر، ص 11 ـ 12.

([64])  البخاري ومسلم.

([65]) ذكرنا تفاصيل الرياضات السلوكية وأنواعها والتوفيق بينها في رسالة (أسرار الإنسان).. وسنرى بعض ذلك في هذه الرسالة في فصل (النفس)