الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: الحقوق المعنوية للزوجة

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

رابعا ـ حق الزوجة في التعليم

1 ـ حكم تعليم الزوجة

2 ـ وسائل تعليم الزوجة

 

3 ـ ما يجب على الرجل تعليمه لزوجته

تعليمها العقيدة وحمايتها من الانحرافات والشبهات:

تعليمها الأحكام الفقهية:

تعليمها آداب السلوك:

تعليم الزوجة الكتابة:

رابعا ـ حق الزوجة في التعليم

1 ـ حكم تعليم الزوجة

نص الفقهاء على  وجوب تعليم الزوج لزوجته ودعوتها للخير ونهيها عن المنكر، قال ابن الحاج: (ينبغي له أن يتفقد أهله بمسائل العلم فيما يحتاجون إليه، لأنه جاء من تعليم غيرهم طلبا لثواب إرشادهم فخاصته ومن تحت نظره آكد، لأنهم رعيته ومن الخاصة به، فيعطيهم نصيبهم فيبادر لتعليمهم لآكد الأشياء في الدين أولا وأنفعها وأعظمها فيعلمهم الإيمان والإسلام ويجدد عليهم علم ذلك، وإن كانوا قد علموه ويعلمهم الإحسان ويعلمهم الوضوء والاغتسال وصفتهما والتيمم والصلاة وما في ذلك كله من الفرائض والسنن والفضائل، وكل ما يحتاجون إليه من أمر دينهم الأهم فالأهم)

ثم يذكر قصة عن مدى استشعار الصالحين لمسؤوليتهم حول أهليهم من هذه الناحية المهمة، ناحية التعليم المرتبط بالتربية، فينقل عن بعض الصالحين من المعاصرين له قوله :(لما أن تأهلت قلت للزوجة لا تتحركي، ولا تتكلمي بكلمة في غيبتي إلا وتعرضيها علي حين آتي لأني مسئول عن تصرفك كله، كنت مسئولا عن نفسي ليس إلا وأنا الآن مسئول عن نفسي وعنك فأسأل عن عشر صلوات، ثم كذلك في جميع المأمورات، وكل ما أنا مطالب به من الفضائل وغيرها حتى بالغ معها بأن قال لها إن نقلت الكوز من موضع إلى موضع فأخبريني به قال وذلك خيفة من أن تتصرف في شيء تظن أنه لا يترتب عليه حكم شرعي) [1]ثم ذكر القصة إلى نهايتها.

وقد دلت على ذلك الأدلة الكثيرة المتظافرة، ومنها تصريح القرآن الكريم بوجوب وقاية الأنفس والأهل من النار كما في قوله I : ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون﴾(التحريم:6)، وقد روي عن علي - رضي الله عنه -  في تفسيرها: علموا أنفسكم وأهليكم الخير، وقال الحسن: تعلمهم وتأمرهم وتنهاهم.

ومثله في الدلالة على الوجوب قوله I  للنبي - صلى الله عليه وسلم - :﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾(الشعراء:214)، وهي تدل على أن للأقرب فالأقرب منا مزية به في لزومنا تعليمهم وأمرهم بطاعة الله I، ويدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) [2]، وكما أن الراعي عليه حفظ من استرعي وحمايته والتماس مصالحه فكذلك عليه تأديبه وتعليمه، قال - صلى الله عليه وسلم - :(فالرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم والأمير راع على رعيته وهو مسئول عنهم)

ومن الأدلة الخاصة على ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :(ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران) [3]

وعن مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -  في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيما رفيقا فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال :(ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم، وصلوا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) [4]

ولنتأمل حال إلى هذا الصحابي الجليل وهو لا يغفل عن تعليم أهله وتوجيههم في أشد الفترات وأعصبها، فعن أبي موسى - رضي الله عنه -  أنه أغمي عليه فبكت عليه أم ولده فلما أفاق قال لها أما بلغك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  قال فسألتها فقالت: ليس منا من سلق وحلق وخرق)

وتذكر عائشة - رضي الله عنه -  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  علمها هذا الدعاء:(اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبدك ونبيك، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء تقضيه لي خيرا)

2 ـ وسائل تعليم الزوجة

بناء على أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن التماس وسائل تعليم الزوجة واجب على الزوج، فإن قصر فيه فإن الفقهاء قد نصوا على حرمة ذلك، فقد نص الغزالي على أن الرجل إن كان قائماً بتعليمها فليس لها الخروج لسؤال العلماء وإن قصر علم الرجل ولكن ناب عنها في السؤال فأخبرها بجواب المفتي فليس لها خروج، فإن لم يكن، فلها الخروج للسؤال، بل عليها ذلك ويعصى الرجل بمنعها ومهما تعلمت ما هو من الفرائض عليها فليس لها أن تخرج إلى مجلس ذكر ولا إلى تعلم فضل إلا برضاه، ومهما أهملت المرأة حكماً من أحكام الحيض والاستحاضة ولم يعلمها الرجل حرج الرجل معها وشاركها في الإثم[5].

وقد كان من فعل السلف ـ كما يذكر ابن الحاج، أن زوجة العالم تبلغ عنه أحكام الشرع للنساء عموما، ولبعض الرجال خصوصا من وراء حجاب، واستدل على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - :(تركت فيكم الثقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي[6] أهل بيتي) [7]، وأن أهل بيته - صلى الله عليه وسلم -  لم يزالوا يبلغون عنه - صلى الله عليه وسلم -  الأحكام الشرعية، وقد كان كبار الصحابة رضي الله عنهم  إذا وقع الاختلاف بينهم في بعض المسائل أرسلوا إلى بعض أزواجه - صلى الله عليه وسلم -  يسألونهن فيرجعون إلى ما يفتين به فهذه سنة ماضية.

ثم قال :(فيؤخذ من هذا أن العالم يعلم زوجته الأحكام الشرعية، وهي تعلمها الناس على الوجه المعلوم المشروع، وليس هذا خاصا بالزوجة، بل كل من علمه العالم من زوجة، أو غيرها صار عالما بذلك الحكم ويعلمه لغيره، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -  علم أهل بيته وأصحابه، ثم علموا الناس وانتشر ذلك عنهم فكان الجميع في صحيفتهم وهم وما في صحيفة سيد الأولين، والآخرين - صلى الله عليه وسلم -، وذلك ماض إلى أن يرفع القرآن) [8]

ثم يتأسف على ما آل إليه حال المجتمع في عهد من إهمال هذا الحق والاهتمام بالمهر والنفقة وغيرها ،يقول في ذلك متأسفا :(قد أهمل اليوم وصار متروكا قد دثر مناره حتى كأنه  لم يعرف لعدم الكلام فيه من الزوج، والزوجة في الغالب، لأن مطالبة الزوجة زوجها في غالب الحال في هذا الزمان إنما هو في النفقة، والكسوة وفيما كان من الأمور الدنيوية، وأما ما كان من أمور الدين فلا يهمهم شأنه غالبا ولا يكترثون به، بل لا يخطر لبعضهم ببال كأنهم لم يدخلوا في الخطاب)

وبناء على هذا فإنه ينص على أن المرأة لو طلبت حقها في أمر دينها من زوجها ورفعته إلى الحاكم وطالبته بالتعليم لأمر دينها، لأن ذلك لها إما بنفسه، أو بواسطة إذنه لها في الخروج إلى ذلك لوجب على الحاكم جبره على ذلك كما يجبره على حقوقها الدنيوية، إذ أن حقوق الدين آكد وأولى، وإنما سكت الحاكم عما ذكر، لأن الحاكم لا يحكم إلا بعد طلب صاحب الحق حقه وسواء كان الحاكم قاضيا، أو محتسبا، أو غيرهما ممن ينفذ أمره[9].

فالطريق إذن لتعلم المرأة بناء على ما قرره العلماء في ذلك لها أساليب كثيرة تبدأ من تعليم الرجل لزوجته، فإن لم يفعل أذن لها في الخروج للتعلم، فإن لم يفعل شكته إلى الحاكم الذي يرد لها حقها فيه.

فهذا ابن مسعود - رضي الله عنه -  تسأله زوجه زينب بعد ما سمعت قوله - صلى الله عليه وسلم - :(يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن فإنكن أكثر أهل جهنم يوم القيامة)، فقالت: (سل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  أيجزئ عني من الصدقة النفقة على زوجي وأيتام في حجري)، قالت: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  قد ألقيت عليه المهابة، فقال: اذهبي أنت فاسأليه، قالت: فانطلقت فانتهيت إلى بابه فإذا عليه امرأة من الأنصار اسمها زينب حاجتي حاجتها، قالت فخرج علينا بلال، فقلنا له سل لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  أيجزئ عنا من الصدقة النفقة على أزواجنا وأيتام في حجورنا؟، فدخل عليه بلال فقال: على الباب زينب فقال: أي الزيانب، فقال: زينب امرأة عبد الله وزينب امرأة من الأنصار تسألانك عن النفقة على أزواجهما وأيتام في حجورهما أيجزئ ذلك عنهما من الصدقة ؟قالت: فخرج إلينا فقال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة) [10]

وفي هذه الحديث فوائد جليلة تبين البساطة والتلقائية والفطرة التي كانت تمثل علاقة الرجال بالنساء في عهد رسول - صلى الله عليه وسلم -، فابن مسعود - رضي الله عنه -  يدعو زوجته أن تتولى هي مسألة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن السائلة ويتحرى عنها، وهو يدل على معرفته - صلى الله عليه وسلم - بالصحابيات وأسمائهن وأزواجهن، وبلال - رضي الله عنه -  يعرف المرأة ويسميها للرسول - صلى الله عليه وسلم -،  والنسوة يذهبن لبيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليسألن عن أمر دينهن، وهذا كله يرد على سلوك بعض من يحرص على الالتزام بالسنة في الوقت الذي يضيق فيه على نفسه وعلى زوجه وعلى الناس جميعا.

وهذه التلقائية والبساطة يمثلها هذا الحديث أيضا، بل كل السنة المطهرة، فقد مر - صلى الله عليه وسلم - في المسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى بيده إليهن بالسلام، ثم قال: إياكن وكفران المنعمين إياكن وكفران المنعمين قالت: إحداهن يا رسول الله أعوذ بالله يا نبي الله من كفران الله قال:(بلى إن إحداكن تطول أيمتها ويطول تعنيسها، ثم يزوجها الله البعل ويفيدها الولد وقرة العين، ثم تغضب الغضبة فتقسم بالله ما رأت منه ساعة خير قط فذلك من كفران نعم الله Y  وذلك من كفران المنعمين) [11]

فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يلوي بيده إليهن بالسلام، ثم يخاطبهن، ويسمع منهن ويجيبهن، كل ذلك بجمال وبساطة تدلان على السمت الذي ينبغي أن يحرص عليه المسلم، سمت الحياء غير المتكلف، والأدب غير المتعنت، والتفتح المنضبط.

وقد كان من سنته - صلى الله عليه وسلم - تخصيصه مجالس خاصة لتعليم النساء، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -  قالت النساء للنبي - صلى الله عليه وسلم - :(غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن:(ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار) فقالت امرأة واثنتين فقال: واثنتين) [12]

وكان يمر عليهن فيخصهن بالموعظة ويحاورهن ويسمع تعقيبهن ومناقشتهن فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -  قال خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال:(يا معشر النساء تصدقن، فإني أريتكن أكثر أهل النار)، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله، قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل، قلن: بلى قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم قلن: بلى قال: فذلك من نقصان دينها([13]

وقد كانت مناقشة النسوة للرسول - صلى الله عليه وسلم - بل رفع أصواتهن في حضرته - صلى الله عليه وسلم - من الأمور التي نصت عليها النقول الكثيرة، وهو ما يدل على الطريقة المثلى التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم بها النساء، وهو ما يرد كذلك على بعض الفهوم الخاطئة للسنة، والتي تحجر المرأة ما أباحه الله لها، بل تنهاها على ما أوجبه عليها، وقد استأذن عمر - رضي الله عنه -  على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -  يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله قال: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب قال عمر: فأنت يا رسول الله كنت أحق أن يهبن، ثم قال: أي عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  قلن: نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك) [14]

وقد التزم السلف الصالح - رضي الله عنهم -  هذا الهدي النبوي، فكانت نساؤهم وأهلوهم في هذه الفضائل كلها، فبنت سعيد بن المسيب - رضي الله عنه -  لما أن دخل بها زوجها وكان من أحد طلبة والدها، فلما أن أصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج فقالت له زوجته: إلى أين تريد فقال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم فقالت: له اجلس أعلمك علم سعيد.

وقد روي عن الإمام مالك - رضي الله عنه -  حين كان يقرأ عليه الموطأ فإن لحن القارئ في حرف , أو زاد , أو نقص تدق ابنته الباب فيقول أبوها للقارئ: ارجع فالغلط معك، فيرجع القارئ فيجد الغلط.

وقد حكي عن أشهب أنه كان في المدينة، وأنه اشترى خضرة من جارية وكانوا لا يبيعون الخضرة إلا بالخبز فقال لها: إذا كان عشية حين يأتينا الخبز فائتينا نعطيك الثمن فقالت: ذلك لا يجوز فقال لها: ولم؟ فقالت: لأنه بيع طعام بطعام غير يد بيد، فسأل عن الجارية فقيل له إنها جارية بنت مالك بن أنس - رضي الله عنه - .

وقد ذكر ابن الحاج، بعد نقله لهذه الأمثلة عن السلف الصالح بقاء تلك السنة في عهده، فقال:( وعلى هذا الأسلوب كان حالهم، وإنما عينت من عينت تنبيها على من عداهم , وقد كان في زماننا هذا سيدي أبو محمد رحمه الله تعالى قرأت عليه زوجته الختمة فحفظتها، وكذلك رسالة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله ونصف الموطإ للإمام مالك رحمه الله تعالى  وكذلك ابنتاها قريبان منها، فإذا كان هذا في زماننا فما بالك بزمان السلف رضوان الله عليهم أجمعين. والعالم أولى من يحمل أهله ومن يلوذ به على طلب المراتب العلية فيجتهد في ذلك جهده فإنهم  آكد رعيته وأوجبهم عليه وأولاهم به فينبههم على ما تقدم ذكره([15]

3 ـ ما يجب على الرجل تعليمه لزوجته

بناء على تلك الأوامر العامة والتي تشمل كل ما يتعلق بأحكام الشريعة وآدابها، فإن الفقهاء قد نصوا على بعض الأمور الأساسية التي يجب تعليمها للزوجة أو الإذن لها بالخروج لتعلمها، أو توفير الوسائل لتحقيق ذلك كله ،وسنذكر هنا بعض الأمثلة التي دلت عليها النصوص الشرعية أو نص عليها الفقهاء، لتشير إلى غيرها مما لم يذكر :

تعليمها العقيدة وحمايتها من الانحرافات والشبهات:

إن أول ما يجب على الزوج المسلم تجاه زوجته، وهو نفس واجب المسلمة تجاه زوجها، تعليم العقيدة، وتحصين الفكر من كل الشبهات والأباطيل، لأن حياة أي إنسان من إنتاج أفكاره، فالزوجان بالتعرف على العقيدة الصحيحة والتأدب بها، والتحصن بحصنها، يتجنبان كل ما ينتج عن الانحراف عن العقيدة من مضار، وأخطر المضار ما يعود على الأسرة نفسها بالفساد.

قال الغزالي :(عليه أن يلقنها اعتقاد أهل السنة[16] ويزيل عن قلبها كل بدعة إن استمعت إليها، ويخوفها في الله إن تساهلت في أمر الدين) [17]، ومن الشبهات المنتشرة في عصرنا حقوق المرأة في الإسلام فيزيل عنها مثل هذه الشبهات نظريا بالتعليم، وتطبيقيا بالممارسة الصحيحة لحياة الزوجية.

تعليمها الأحكام الفقهية:

اتفق الفقهاء على وجوب تعليم الأحكام الفقهية للزوجة أو السماح لها بتعلمها، وقد خصوا بذلك ما يتعلق بالمرأة من مسائل في العبادات وغيرها.

وربما كانت أحكام الحيض والنفاس هي الأحكام التي نالت القسط الأوفر من هذا الحظ باعتبارها أحكاما خاصة بالمرأة، وقد تستحي من السؤال عنها، ولعلاقتها كذلك بالحياة الزوجية، قال ابن الحاج:( يجب على المرأة تعلم ما تحتاج إليه من أحكام الحيض والاستحاضة والنفاس فإن كان زوجها عالما لزمه تعليمها وإلا فلها الخروج لسؤال العلماء بل يجب ويحرم عليه منعها إلا أن يسأل هو ويخبرها فتستغني بذلك وليس لها الخروج إلى مجلس ذكر أو تعلم خير إلا برضاه([18]، وقال ابن عبد البر:( وكل امرأة عليها فرضا أن تسأل عن حكم حيضتها وغسلها وضوئها وما لا غناء بها عنه من أمر دينها وهي والرجل فيما يلزمها من فرائضهما سواء([19]، وقال الآخر:( أن يعلمها ما تحتاج إليه من الأحكام كالوضوء والصلاة والصوم وما لا بد لها منه) كأحكام الحيض والنفاس , فإن علم الزوج فبها وإلا فعليه الإذن بالخروج لأجل التعلم وإلا يأثم وتخرج بلا إذنه([20]

ولعل أكبر من بالغ في اشتراط تعليم هذه الأحكام، بل تفصيلها، وتبيين ما يلزم الزوجة تعلمه منها، ابن الحاج، قال في المدخل مبينا سبب هذه المبالغة:( وكثيرا ما يتساهل اليوم في هذا الباب لقلة سؤالهن ومن يعلمهن , فمنهن من ترى أن الوطء إنما يحرم في القسمين الأولين وأما الصفرة والغبرة والكدرة فلا بأس بالوطء فيها عندهم , ومنهن من تعتقد أن الوطء إنما يمتنع في الثلاثة الأيام الأول وبعدها يجوز الوطء ومنهن من تعتقد أن مدة الحيض سبعة أيام فإن رأت الطهر قبل مضيها لم تعتد به وانتظرت  تمامها دون غسل وصلاة وصوم ووطء , وإن زاد عليها اغتسلت وصلت وصامت ووطئت مع وجود الحيض (

قال :(فيستحلون ما حرم الله عليهم بسبب العوائد الرديئة وتغفل الأزواج , ثم يعلمهن أكثر مدة الحيض وأقلها وما بينهما ويعرفهن ما إذا رأت الطهر قبل غروب الشمس بقدر خمس ركعات إلى ركعة واحدة وهل يقدر لها قدر زمن الغسل بلا تراخ , أو زمن الركعات (وغيرها من تفاصيل

وذكر بعض العادات الرديئة التي كانت تنتشر بين نساء عصره، فقال:( وليحذر من هذه البدعة المحرمة التي تفعل في زماننا هذا وهي أن تقعد المرأة بعد انقطاع دمها فتطلب الصابون في يوم وتغسل ثيابها في الثاني وتغتسل في الثالث وتصلي بعد ذلك , فتقعد مدة بغير صلاة في ذمتها, ثم ترتكب ما هو أعظم وهي أنها لا تصلي إلا ما أدركته بعد غسلها , ولا تقضي ما فوتته بعد انقطاع حيضها (، ومثل هذه البدع لا تقتصر على عصره، ففي كل جيل انحرافاته التي تحتاج إلى معرفة سبيل تصليحها.

وقد كان تعلم المرأة أحكام الحيض والنفاس من سنة السلف الصالح - رضي الله عنهم -  فقد سألت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله كيف أغتسل من الحيض؟ قال: خذي فرصة ممسكة وتوضئي ثلاثا , ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم -  استحى وأعرض بوجهه , أو قال توضئي بها، قالت عائشة فأخذتها فجذبتها فأخبرتها بما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم -[21]

بل كان النساء يسألن رسول الله - رضي الله عنهم -  على ما يستحيا من ذكره، فعن أنس - رضي الله عنه -  أن أم سليم، رضي الله عنها، سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( إذا رأت ذلك فأنزلت فعليها الغسل(فقالت أم سلمة: كيف هذا يا رسول الله؟ قال:(نعم ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما سبق وعلا أشبه الولد([22]قال ابن عبد البر تعليقا على هذا الحديث:( وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه نساء ذلك الزمان من الاهتمام بأمر دينهم والسؤال عنه(، ثم قال:( وهذا يلزم كل مؤمن ومؤمنة إذا جهل شيئا من دينه أن يسأل عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( شفاء العي السؤال ([23]

ولم تكن هذه الأسئلة خاصة بأم سليم ومن شاكلها، بل عم ذلك حتى قالت عائشة، رضي الله عنها، وهي تثني على نساء الأنصار:(رحم  الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء  أن يسألن عن أمر دينهن (

ومما ينبغي تعليمه للزوجة أن يعلمها بحقوقها عليه حتى لا يستغل جهلها بما لها من حقوق، فلا تطالب بها، ومما ذكره الفقهاء من ذلك أن يعلمها بعدم اشتراط خدمته كما جرت بذلك الأعراف، قال في تحفة المحتاج :( وقع السؤال في الدرس هل يجب على الرجل إعلام زوجته بأنها لا تجب عليها خدمته بما جرت به عادتهن من الطبخ والكنس  ونحوهما أم لا وأجبنا عنه بأن الظاهر الأول لأنها إذا لم تعلم بعدم وجوبها ربما ظنت وجوبها وعدم استحقاقها للنفقة والكسوة لو لم تفعله فتصير كأنها مكرهة على الفعل ومع ذلك لو فعلته ولم تعلمها يحتمل أنه لا يجب لها أجرة على الفعل لتقصيرها بعدم البحث والسؤال عن ذلك([24]

ومما يلزم تعليمه أحكام الصلاة والقراءة ونحوهما، قال ابن الحاج:( ويتعين عليه أن يعلم عبده وأمته الصلاة والقراءة وما يحتاجان إليه من أمور دينهما كما يجب ذلك عليه في زوجته وولده إذ لا فرق ; لأنهم من رعيته [25] (

ومما يلزم تعليمها كذلك الرخص الشرعية حتى يتيسر لها أداء العبادة بدون كلفة أو مشقة، لأن التكلف في التكليف قد ينشأ عنه ما هو أخطر من التساهل، وهو الانصراف الكلي عن عبادة الله تعالى، قال ابن الحاج:( وكذلك يعلمها إذا اغتسلت في البيت أن تترك رأسها مغطى لا تكشفه حتى إذا جاءت إلى غسله كشفته , وخللت شعر رأسها , وأفاضت الماء عليه ثم نشفته في الوقت , وغطته ثم بعد ذلك تغسل سائر بدنها , وإنما يأمرها بذلك خيفة أن يصيبها في رأسها ألم إن تركته مكشوفا حتى تفرغ من غسل جميع بدنها , ولها أن تترك رأسها مغطى حتى تفرغ من غسل جميع بدنها , ثم تغسل رأسها على ما تقدم ذكره([26]

تعليمها آداب السلوك:

ومن أهم ما ينبغي تعليمه لزوجة، بل ممارسته معها، أن يعلمها آداب السلوك والمعاملات الإسلامية، قال ابن الحاج:( يعلمها السنة في الخروج , وفي الإقامة في بيتها إذ أنها إذا كانت في بيتها فيستحب لها أن تفعل ما تقدم أنها تفعله في خروجها, ومن حسن التبعل التزين والتحلي , والتعطر في بيتها لزوجها مع حسن الخلق والتأني له , ولها في ذلك أسوة بالسلف , والخلف الماضين(، وسنفصل الكلام في هذا النوع من التعليم في فصل العشرة الزوجية.

تعليم الزوجة الكتابة:

ورد في الحديث عن الشفا بنت عبدالله، رضي الله عنها، قالت: دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا عند حفصة، فقال لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة[27]،كما علمتيها الكتابة([28] 

وقد وقف شراح الحديث مواقف مختلفة منه، فاستدل به أكثرهم على جواز تعلم المرأة الكتابة، وقد نقل صاحب عون المعبود مواقف الشرح، فذكر عن الشيخ ابن تيمية في المنتقى قوله:( وهو دليل على جواز تعلم النساء الكتابة ([29]،  وقال الخطابي فيه دلالة على أن تعلم النساء مكروه، وفي زاد المعاد: وفي الحديث دليل على جواز تعليم النساء الكتابة، ومثله في الأزهار شرح المصابيح للعلامة الأردبيلي، وما قال علي القاري في المرقاة يحتمل أن يكون جائزا للسلف دون الخلف لفساد النسوان في هذا الزمان ([30]

قال معقبا على كلام الشراح:(  وقد فصلت الكلام في هذه المسألة في رسالتي عقود الجمان في جواز الكتابة للنسوان، وأجبت عن كلام القاري وغيره من المانعين جوابا شافيا(وقد استدل لذلك بالإضافة للحديث بما روي عن عائشة بنت طلحة قالت: قلت لعائشة وأنا في حجرها، وكان الناس يأتونها من كل مصر، فكان الشيوخ منها وكان الشباب يتآخوني فيهدون إلى ويكتبون إلي من الأمصار، فأقول لعائشة: ياخالة هذا كتاب فلان وهديته فتقول لي عائشة: أي بنية فأجيبيه وأثيبيه، فإن لم يكن عندك ثواب أعطيتك، فقالت: تعطيني.

ثم نقل ما روي من تراجم النساء العالمات، فنقل السماع عن ترجمة فخر النساء شهدة بنت أبي نصر الكاتبة، وكانت من العلماء، وكتبت الخط الجيد وسمع عليها خلق كثير، وكان لها السماع العالي ألحقت فيه الأصاغر بالأكابر واشتهر ذكرها وبعد صيتها.

وفي ترجمة عائشة بنت أحمد القرطيبة قال ابن حبان في المقتبس: لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعدلها علما وفهما وأدبا وشعرا وفصاحة، وكانت حسنة الخط تكتب المصاحف.

أما الحديث المروي في ذلك وهو)لا تعلموهن الكتابة، ولا تسكنوهن الغرف، وعلموهن سورة النور[31] (فقد رد على الحديث من حيث ثبوته كما في الهامش، ووجه من حيث معناه، قال الحكيم الترمذي مبينا وجه الجمع في الحديث بين النهي عن إسكانهن الغرف وتعليمهن الكتابة:( حذرهم ذلك لأن في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجال وليس في ذلك تحصين لهن ولا ستر، فإنهن لا يملكن أنفسهن حتى يشرفن على الرجال فيحدث البلاء والفتنة، فحذرهم أن يجعلوا لها ذريعة إلى الفتنة، وكذلك تعليم الكتابة ربما كانت سببا للفتنة، وكتبت إلى من تهوى وفي الكتابة عين من العيون به يبصر الشاهد الغائب، وفي ذلك تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان فهو أبلغ من اللسان فأحب - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع الفتنة تحصينا لهن وطهارة لقلوبهن ([32]

وبمثل ذلك يعلل الأمر بتعليمهن سورة النور، ففيها الحض على العفاف وغض البصر ونوع العلاقة بين الرجل والمرأة، فالحديث إن صح الاحتجاج به لا يحمل على النهي المطلق عن الكتابة بدليل الحديث السابق، وإنما يحمل على سد ذريعة الفساد، قال الشوكاني:( وأما فالنهي عن تعليم الكتابة في هذا الحديث فمحمول على من يخشى من تعليمها الفساد([33]، وهو ليس دليلا بذلك على النهي عن تعلم الكتابة، وإنما على إيجاب الجمع بين التربية والتعليم، وذلك ليس خاصا بالنساء فقط.


 



([1])   المدخل: 1/209.

([2])   سبق تخريجه.

([3])   البخاري: 1/48.

([4])   البخاري: 1/226، الدارمي:1/318، البيهقي:1/385.

([5])   الإحياء:2/48.

([6])   عترة الرجل: أهل بيته ورهطه الأدنون، ولاستعمالهم العترة على أنحاء كثيرة بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله « أهل بيتي»  ليعلم أنه أراد بذلك نسله وعصابته وأزواجه، قال القاري: والمراد بالأخذ بهم التمسك بمحبتهم، ومحافظة حرمتهم والعمل بروايتهم، والاعتماد على مقالتهم، وهو لا ينافي أخذ السنة من غيرهم، انظر: تحفة الأحوذي: 10/196.

([7])   الترمذي: 5/662، مجمع الزوائد: 9/163، المعجم الأوسط: 3/374، أحمد: 3/14، مسند أبي يعلى: 2/376، المعجم الكبير: 3/65.

([8])   المدخل :1/277.

([9])   المدخل :1/277.

([10])   سبق تخريجه.

([11])   أحمد: 6/457، مجمع الزوائد: 4/311، الأدب المفرد: 360.

([12])   البخاري:1/50، ابن حبان: 7/206، النسائي: 3/451، أحمد: 3/34، أبو يعلى:2/461.

([13])   سبق تخريجه.

([14])   البخاري: 3/1374، مسلم: 4/1863، النسائي: 5/41.

([15])   المدخل :1/213.

([16])   لا يريد الغزالي باعتقاد أهل السنة ما قد يتصوره البعض من الأمور التي اختلفت فيها الفرق الإسلامية، وإنما مراده بذلك  القضايا العقائدية التي وردت في القرآن الكريم أو السنة النبوية، واتفقت الأمة جميعا بفرقها عليها.

([17])   الإحياء:2/48.

([18])   تحفة المحتاج:1/414.

([19])   التمهيد:8/338.

([20])   بريقة محمودية: 4/156.

([21])   مسلم: 1/261، البخاري: 1/119، المجتبى: 1/207، أحمد: 6/122.

([22])   مسلم:1/250، ابن حبان:3/439، الدارمي: 1/214، البيهقي: 1/167، ابن ماجة: 1/197، مجمع الزوائد: 1/267.

([23])   التمهيد:8/338.

([24])   تحفة المحتاج:8/304.

([25])   المدخل:1/211.

([26])   المدخل:2/174.

([27])   النملة قروح تخرج في الجنبين وهو داء معروف وسمى نملة لأن صاحبه يحس في مكانه كأن نملة تذب عليه وتعضه.

([28])   ابو داود: 4/11، النسائي: 4/366، مصنف ابن أبي شيبة: 5/43، أحمد: 6/372.

([29])   نيل الأوطار:9/103، وانظر: عون المعبود:10/267.

([30])   عون المعبود:10/267.

([31])   الحاكم: 2/430، مجمع الزوائد: 4/93، المعجم الأوسط: 6/3، شعب الإيمان: 2/477، قال المناوي: رواه الحاكم عنها أيضا وقال صحيح الإسناد وخرجه البيهقي في الشعب عن الحاكم ثم خرجه بإسناد آخر بنحوه وقال هو بهذا الإسناد منكر، فعلم منه أنه بغير هذا منكر وبه رد على ابن الجوزي دعواه وضعفه نعم قال الحافظ ابن حجر في الأطراف بعد قول الحاكم صحيح بل عبد الوهاب أحد رواته متروك، فيض القدير:3/488، قال الشوكاني: وفي إسناده محمد بن إبراهيم الشامي قال الدارقطني كذاب، نيل الأوطار:6/21، قال في عون المعبود، بعد نقله لروايات الحديث: فهذه الروايات كلها باطلة لا يصح الاحتجاج بها بحال والله أعلم، عون المعبود:10/267.

([32])   نوادر الأصول:3/82.

([33])   نيل الأوطار:9/105.