الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: حق الزوجين في حل عصمة الزوجية

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

الباب الأول ـ حق الزوج في حل عصمة الزوجية

أولا ـ أهلية المطلق

1 ـ  الذكورة

2 ـ العقل

1 ـ تعريف الجنون وأنواعه:

تعريف الجنون:

أنواع الجنون:

2 ـ حكم طلاق المجنون:

3 ـ ما يلحق بالمجنون:

المدهوش:

المعتوه:

المبرسم:

المغمى عليه:

النائم:

3 ـ البلوغ

حكم طلاق الصغير:

إجازة البالغ طلاقه في فترة الصبى :

ثانيا ـ أحوال المطلق وأحكامها

1 ـ الإكراه

تعريف الإكراه :

حكم طلاق المكره:

شروط الإكراه المؤثر

1 ـ قدرة المكره وخوف المكره:

2 ـ شدة الضرر المتوقع من المكره:

3 ـ عدم الرضا بما أكره عليه:

4 ـ تعين الفعل المكره عليه:

5 ـ سلب الخيار من المكره:

2 ـ الجهل

1 ـ تعريف الجاهل وحكم طلاقه:

تعريف الجهل :

حكم طلاق الجاهل :

2 ـ ما يلحق بالجهل

النسيان

تعريف  النسيان :

حكم طلاق الناسي :

الشك

تعريفه :

أحوال الشك في الطلاق وأحكامها :

الحالة الأولى: الشك في وقوع أصل التطليق :

الحالة الثانية: الشك في عدد الطلاق :

الحالة الثالثة: الشك في صفة الطلاق :

الحالة الرابعة: الشك في الطلاق المعلق:

الخطأ:

تعريفه:

حكم طلاق المخطئ :

3 ـ السكر

تعريف السكر :

ضابط السكر:

حكم طلاق السكران :

4 ـ الغضب

تعريف الغضب :

حكم طلاق الغضبان:

السبب المتفق على وقوع الطلاق فيه:

الأسباب المختلف فيها :

السبب الأول: الطلاق لمجرد الظن الذي ينفيه التحقيق :

السبب الثاني: طلاق الغاضب من غير قصد :

من القرآن الكريم:

من السنة المطهرة:

الأدلة العقلية :

القياس :

الترجيح :

5 ـ الهزل

تعريفه:

حكم طلاق الهازل:

الأدلة الشرعية:

المصلحة الشرعية:

ثالثا ـ التطليق بالوكالة

1 ـ الأحكام العامة للتطليق بالوكالة في المذاهب الفقهية

المذهب الحنفي :

المذهب المالكي :

المذهب الشافعي:

المذهب الحنبلي :

المذهب الظاهري:

مذهب الإمامية:

مذهب الزيدية:

مذهب الإباضية:

 

 

2 ـ أنواع التوكيل وأحكامها

القسم الأول: توكيل الزوجة

النوع الأول: التمليك:

تعريفه:

حكم التمليك:

مدة استحقاق المرأة للتمليك:

نكول الزوج عن تمليك الزوجة أمرها:

وقوع الطلاق بالتمليك حال رد الزوجة :

افتقار التمليك لنية الزوج:

افتقار التمليك لنية الزوجة:

اختلاف الزوجين في عدد الطلقات المملكة:

النوع الثاني: تخيير الزوجة

مدة التخيير:

الحالة الأولى: تقييد المدة:

الحالة الثانية: إطلاق المدة:

نوع الطلاق الذي تملكه الزوجة بتخيير الزوج :

وقوع الطلاق بالتخيير حال رد الزوجة:

صيغة قبول التخيير :

تكرار التخيير:

القسم الثاني ـ توكيل غير الزوجة

حكم توكيل غير الزوجة :

صفات الوكيل:

توكيل اثنين :

ما يخرج به الوكيل عن الوكالة

عزل الموكل إياه ونهيه:

موت الموكل :

لحاقه بدار الحرب مرتدا:

رابعا ـ من يقع عليها الطلاق

1 ـ ثبوت الزوجية

أولا ـ حكم طلاق غير الزوجة

صور الاستثناء وأحكامها

استثناء امرأة معينة :

استثناء صفة معينة:

استثناء مكان معين :

استثناء زمان معين :

ثانيا ـ طلاق الزوجة من زواج فاسد

ثالثا ـ إضافة الطلاق إلى بعض أجزاء المرأة

2 ـ تعيين المطلقة

أولا ـ طرق تعيين المطلقة

الحالة الأولى: توافق طرق التعيين:

الحالة الثانية: تعارض طرق التعيين:

مذهب الحنفية:

مذهب الشافعية:

مذهب المالكية:

تعيين المطلقة بالنية:

المثال الأول:

المثال الثاني :

المثال الثالث :

الجمع بين زوجته وأجنبية:

ثانيا ـ حكم التشريك في الطلاق

مذهب المالكية:

مذهب الحنفية:

مذهب الشافعية:

مذهب الحنابلة:

الترجيح:

ثالثا ـ نسيان المطلقة المعينة

طلاق المبهمات عند موت إحداهن :

موت المطلق قبل تعيين مطلقته:

3 ـ الصفة البدعية لطلاق المرأة وأحكامها

أولا ـ تقسيم الطلاق إلى سني وبدعي

طرق تصنيف الطلاق السني والبدعي:

طريقة الحنفية:

طريقة الجمهور:

ثانيا ـ أثر الطلاق في الحيض

حكم إجبار من طلق امرأته في الحيض والنفاس على مراجعتها:

ثالثا ـ حكم الطلاق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها

الطهر الذي يقع فيه الطلاق السني:

رابعا ـ أحكام الطلاق في الطهر الذي مسها فيه

أثر الطلاق في طهر مسها فيه:

حكم الرجعة من الطلاق في الطهر الذي مسها فيه:

حكم العدة في الطهر الذي مسها فيه :

خامسا ـ حكم طلاق الحامل

 

الباب الأول ـ حق الزوج في حل عصمة الزوجية

أولا ـ أهلية المطلق

نتناول في هذا الفصل الركن الأول من أركان الطلاق، وهو من يوقع الطلاق، ومن يصح منه، وهو من أهم أركان هذا النوع من التفريق، باعتبار الطلاق هو الحق الذي جعله الله للرجل لحل العصمة الزوجية، فلذلك كان من اللازم وضع ضوابط لهذا الذي أنيط بلسانه وتصرفاته استمرار الحياة الزوجية أو انقطاعها.

وهذه الضوابط تستدعي معرفة الشروط التي يتأهل بها المطلق لأن يقوم بالتطليق، والنظر في الأحوال التي يمر بها المطلق وتأثيرها في إيقاع الطلاق أو عدم تأثيرها، وأخيرا فيما لو جعل المطلق الأمر لغيره.

وقد خصصنا لكل واحد من هذه الثلاثة مبحثا خاصا، والذي دعانا إلى هذا هو ضرورة الضبط الذي تستدعيه القسمة العقلية، لأن المطلق إما أن يطلق بنفسه أو يوكل غيره للتطليق، ثم هو في حال تطليقه بنفسه إما أن يكون أهلا للتطليق أو غير أهل، فإن كان أهلا، فإما أن يكون بحالة معتدلة أو بحالة قد تشوش عليه أهليته، وبذلك تنضبط هذه القسمة مع ما ذكرنا.

أما عن أهلية المطلق فتتحقق بتوفر الشروط التالية مع اختلاف بين الفقهاء في اعتبارها أو في اعتبار تفاصيل بعضها :

1 ـ  الذكورة

اتفق الفقهاء على أن من شروط المطلق أن يكون ذكرا، ومن الأدلة على ذلك أن كل النصوص الشرعية أسندته إلى الرجل، ومن ذلك قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ (الطلاق: 1)، وقوله تعالى:﴿ لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ (البقرة: 236)، وقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ (الأحزاب: 49)، وقوله تعالى:﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا﴾ (النساء: 20)

ومن السنة الأحاديث الكثيرة، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمر: طلق زوجتك، وقوله مرة أخرى: مره فليراجعها، ثم يطلقها[1].

وقد دلت هذه النصوص بهذا على قصر الطلاق بيد الرجل، وقد ذكرنا أن للمرأة حقها في التفريق إذا أرادت ذلك، أو توفرت الأسباب الداعية لذلك. 

2 ـ العقل

لأن الطلاق من الأفعال التي تحتاج إلى التمييز والنظر، ويخالفها كل ما يتناقض مع ذلك، ولذلك وقع الإجماع على عدم صحة طلاق غير العاقل، ولكن مع ذلك قد يختلف الناس في تفسير العقل والجنون، فلذلك فصل الفقهاء في أحكام زوال العقل وأنواعه حتى ينضبط بالضوابط الشرعية، وفيما يلي تفصيل لأحكام طلاق المجنون وأنواعه.

1 ـ تعريف الجنون وأنواعه:

تعريف الجنون:

لغة: مصدر جن الرجل بالبناء للمجهول , فهو مجنون: أي زال عقله أو فسد , أو دخلته الجن , وجن الشيء عليه: ستره[2].

اصطلاحا: عرفه الفقهاء والأصوليون بعبارات مختلفة منها[3]:

·      هو اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهجه إلا نادرا.

·  هو اختلال القوة المميزة بين الأشياء الحسنة والقبيحة المدركة للعواقب بأن لا تظهر آثارها, وأن تتعطل أفعالها.

·      هو اختلال القوة التي بها إدراك الكليات.

أنواع الجنون:

قسم الفقهاء الجنون باعتبارين مختلفين :

باعتبار الأصالة والعروض: فالجنون إما أن يكون أصليا، إما لنقصان جبل عليه دماغه في أصل الخلقة , وإما لخروج مزاج الدماغ عن الاعتدال بسبب خلط أو آفة , وإما لاستيلاء الشيطان عليه , وإلقاء الخيالات الفاسدة إليه بحيث يفرح , ويفزع من غير ما يصلح سببا[4]، وهذا النوع مما لا يرجى زواله.

وإما أن يكون عارضا، وهو ما إذا زال الاعتدال الحاصل للدماغ خلقة إلى رطوبة مفرطة , أو يبوسة متناهية , وهذا النوع مما يرجى زواله بالعلاج بما خلق الله تعالى من الأدوية.

باعتبار الاستمرار والطروء: والجنون بهذا التقسيم إما أن يكون مطبقا أو غير مطبق، فالمطبق هو الملازم الممتد، والامتداد ليس له ضابط عام بل يختلف باختلاف الأحوال[5]، وغير المطبق، وهو الطارئ الذي لا يستقر، وهذا النوع من الجنون لا يمنع أصل التكليف.

2 ـ حكم طلاق المجنون:

اتفق الفقهاء إلى عدم صحة طلاق المجنون والمعتوه لفقدان أهلية الأداء في الأول , ونقصانها في الثاني , فألحقوهما بالصغير غير البالغ , فلم يقع طلاقهما، وقد نقل الإجماع على ذلك، ومن الأدلة على ذلك:

·  قوله - صلى الله عليه وسلم - :(رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ , وعن الصبي حتى يحتلم , وعن المجنون حتى يفيق) [6]

·  قوله - صلى الله عليه وسلم - :(كل الطلاق جائز , إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله) [7]، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي  - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن طلاق المعتوه    المغلوب على عقله لا يجوز إلا أن يكون معتوها يفيق الأحيان فيطلق في حال إفاقته.

·      أنه قول يزيل الملك , فاعتبر له العقل , كالبيع.

وهذا في الجنون الدائم المطبق , أما الجنون المتقطع , فإن حكم طلاق المبتلى به منوط بحاله عند الطلاق , فإن طلق وهو مجنون لم يقع , وإن طلق في إفاقته وقع لكمال أهليته، قال الشافعي:(ولا يجوز طلاق الصبي حتى يستكمل خمس عشرة أو يحتلم قبلها , ولا طلاق المعتوه, ولا طلاق المجنون الذي يجن ويفيق إذا طلق في حال جنونه وإن طلق في حال صحته جاز ([8]

3 ـ ما يلحق بالمجنون:

ألحق الفقهاء بالمجنون النائم , والمغمى عليه , والمبرسم , والمدهوش , وذلك لانعدام أهلية الأداء لديهم، قال الزيلعي:(لو أن الصبي والمجنون طلق امرأته لم يقع طلاقه , وكذا المغمى عليه والمبرسم والمدهوش والنائم والمعتقل والذي شرب الدواء مثل البنج ونحوه فتغير عقله إذا طلق واحد من هؤلاء زوجته لم يقع طلاقه([9]وفيما يلي تعريف بهم وبما ذكر الفقهاء من أحكامهم:

 

المدهوش:

وهو لغة: مصدر دهش , يقال دهش الرجل أي تحير , أو ذهب عقله حياء أو خوفا ويتعدى بالهمزة فيقال أدهشه غيره وهذه هي اللغة الفصحى، وفي لغة يتعدى بالحركة فيقال دهشه خطب دهشا من باب نفع فهو مدهوش ومنهم من منع الثلاثي[10]، ويطلقه الفقهاء على المتحير وعلى ذاهب العقل.

المعتوه:

وقد عرفه الفقهاء بأنه آفة توجب خللا في العقل فيصير صاحبه مختلط الكلام , فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء , وبعضه كلام المجانين , وعرفوه بأنه شبيه بالمجنون وهو الذي يصيبه فساد في عقله من وقت الولادة.

وقيل: هو قليل الفهم المختلط الكلام الفاسد التدبير لكن لا يضرب ولا يشتم , بخلاف المجنون، وقيل العاقل من يستقيم كلامه وأفعاله إلا نادرا والمجنون ضده , والمعتوه من يكون ذلك منه على السواء، قال ابن الهمام:(وهذا يؤدي إلى أن لا يحكم بالعته على أحد , والأول أولى) [11] وقيل: من يفعل فعل المجانين عن قصد مع ظهور الفساد والمجنون بلا قصد , والعاقل خلافهما وقد يفعل فعل المجانين على ظن الصلاح أحيانا.

وقد يعبر أحيانا عن المجنون بالمعتوه، فلذلك لابد من الانتباه لهذا الاختلاف في استعمال هذه المصطلحات، ففي المدونة مثلا:) قلت: أرأيت المعتوه هل يجوز طلاقه ؟ قال: لا يجوز طلاقه في قول مالك على حال ; لأن المعتوه إنما هو مطبق عليه ذاهب العقل قلت: والمجنون عند مالك الذي يخنق أحيانا ويفيق أحيانا ويختنق مرة وينكشف عنه مرة ؟ قال: نعم , قلت: والمعتوه والمجنون والمطبق في قول مالك واحد ؟ قال: نعم([12]

وقد ذكر ابن حجر المعتوه، وما يرد فيه من الخلاف، فقال:)والمراد بالمعتوه الناقص العقل فيدخل فيه المجنون والسكران ،والجمهور على عدم اعتبار ما يصدر منه، وفيه خلاف قديم ذكر ابن أبي شيبة من طريق نافع أن المحبر بن عبد الرحمن طلق امرأة وكان معتوها فأمرها بن عمر بالعدة فقيل له إنه معتوه فقال: إني لم أسمع الله استثنى المعتوه طلاقا ولا غيره، وذكر بن أبي شيبة عن الشعبي وإبراهيم وغير واحد مثل قول علي([13]، ولعل المراد بالعته هنا ناقص العقل لا المجنون بالكلية.

المبرسم:

وهو المعلول بعلة البرسام، وهو وجع يحدث في الدماغ من ورم في الحميات الحارة، ويذهب منه عقل الإنسان[14]، وكثيرا ما يهلك، وفي المدونة:): أرأيت المبرسم أو المحموم الذي يهذي إذا طلق أيجوز طلاقه ؟ قال: سمعت مالكا وسئل عن رجل مبرسم طلق امرأته بالمدينة , فقال مالك: إن لم يكن معه عقله حين طلق فلا يلزمه من ذلك شيء([15]، وعن أيوب قال: كتبت إلى أبي قلابة أسأله عن طلاق المبرسم، فكتب إلي أنه ما شهدت به الشهود إن كان يعقل فطلاقه جائز , وإن كان لا يعقل فطلاقه لا يجوز[16].

المغمى عليه:

وهو ليس مجنونا، ولكنه في فترة إغمائه حكمه حكم المجنون، وقد قيد الفقهاء هنا بالإغماء الحقيقي الذي هو فقدان الوعي، قال أحمد , في المغمى عليه إذا طلق , فلما أفاق علم أنه كان مغمى عليه , وهو ذاكر  لذلك , فقال: إذا كان ذاكرا لذلك , فليس هو مغمى عليه, يجوز طلاقه. وقال , في رواية أبي طالب , في المجنون يطلق , فقيل له بعدما أفاق: إنك طلقت امرأتك. فقال: أنا أذكر أني طلقت , ولم يكن عقلي معي. فقال: إذا كان يذكر أنه طلق , فقد طلقت، فلم يجعله مجنونا إذا كان يذكر الطلاق , ويعلم به. قال ابن قدامة:)وهذا , والله أعلم , في من جنونه بذهاب معرفته بالكلية , وبطلان حواسه , فأما من كان جنونه لنشاف أو كان مبرسما , فإنه يسقط حكم تصرفه , مع أن معرفته غير ذاهبة بالكلية , فلا يضره ذكره للطلاق , إن شاء الله تعالى)[17]

النائم:

وقد مر الحديث الدال على ذلك، وقد اتفق الفقهاء على حكمه، وعن جابر عن عامر قال:)إذا طلق أو أعتق في منامه فليس بشيء([18]، قال السرخسي:) لو ادعت أنه طلقها وقت العصر ثلاثا , فقال الزوج: كنت نائما في تلك الحالة فالقول قوله ; لأن النوم يعتري المرء عادة في كل وقت , وهو ما يذهب ويعود كالجنون فيكون به مضيفا إلى حالة معهودة ([19]

3 ـ البلوغ

حكم طلاق الصغير:

تنقسم مراحل الصغر في عرف الفقهاء إلى مرحلتين :

مرحلة عدم التمييز: وتبدأ هذه المرحلة منذ الولادة إلى التمييز، وقد  اتفق الفقهاء على أن الصبي في هذه المرحلة لا يقع طلاقه[20] لأنه لا يعقل.

مرحلة التمييز: وتبدأ هذه المرحلة منذ قدرة الصغير على  التمييز بين الأشياء , أي  أن يكون له إدراك يفرق به بين النفع والضرر، وليس للتمييز سنا معينة يعرف بها , ولكن تدل على التمييز أمارات التفتح والنضوج , فقد يصل الطفل إلى مرحلة التمييز في سن مبكرة , وقد يتأخر إلى ما قبل البلوغ , وتنتهي هذه المرحلة بالبلوغ.

وقد اختلف الفقهاء في حكم الصغير في هذه المرحلة إذا عقل الصبي المميز الطلاق , وعلم أن زوجته تبين به , وتحرم عليه , هل يقع طلاقه أم لا على قولين:

القول الأول: أن طلاق المميز[21] يقع، وقد روي ذلك عن سعيد بن المسيب , وعطاء , والحسن , والشعبي , وإسحاق، وهو رواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قوله - صلى الله عليه وسلم - :(الطلاق لمن أخذ بالساق) [22]، والحديث في الأصل ورد في طلاق العبد كما روى ابن عباس - رضي الله عنه -  قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: يا رسول الله سيدي زوجني أمته، وهو يريد أن يفرق بيني وبينها، قال فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر فقال: يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته، ثم يريد أن يفرق بينهما، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق(، وهو يدل بإطلاقه على أن الطلاق بيد الزوج أي كان، فيدخل فيه الصبي المميز.

·      قوله - صلى الله عليه وسلم - :(كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله) [23]

·      أنه طلاق من عاقل صادف محل الطلاق , فوقع كطلاق البالغ.

القول الثاني: أن طلاقه لا يقع حتى يحتلم، وهو قول النخعي , والزهري , ومالك , وحماد , والثوري , وأبي عبيد , والشافعي، ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قوله تعالى :﴿ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(النور:59) ،ويقول الله تعالى:﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾(النساء:6) وقد استدل الشافعي بهاتين الآيتين على اشتراط البلوغ[24]، وهما واضحتان في الدلالة على ذلك.

·  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  أجاز ابن عمر في القتال وهو ابن خمس عشرة ورده ابن أربع عشرة.

·      قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم) [25]

·      أنه غير مكلف , فلم يقع طلاقه كالمجنون.

الترجيح:

ذكرنا في الفصول الماضية استحباب تأخير الزواج إلى ما بعد البلوغ، بل إلى الفترة التي ينضج فيها العقل ويستقر، لكن إن تم الزواج، فإن إيقاع الطلاق يبقى متوقفا على تمام العقل بالبلوغ.

إجازة البالغ طلاقه في فترة الصبى :

اتفق الفقهاء على أنه لو كان للصبي امرأة فطلقها في حال صباه أو طلقها وكيل عنه[26], فإنه لا عبرة بهذا التطليق، ولو أجازه الصبي بعد ما كبر ; لأنه لا مجيز لهذا التصرف عند وقوعه، ولأن ثبوت الولاية عليه لتوفير المنفعة له لا للإضرار به.

أما إذا قال حين كبر قد أوقعت عليها الطلاق الذي أوقع عليها فلان، فإنه يقع الطلاق بذلك ; لأن هذا اللفظ إيقاع مستقبل، ولأنه يملك الإيقاع ابتداء بهذا اللفظ فيكون إضافته إلى غيره أوقع , وهذا بخلاف الإجازة منه ،لأن الإجازة تقيد للتصرف الذي باشره فلان[27].

 

ثانيا ـ أحوال المطلق وأحكامها

1 ـ الإكراه

تعريف الإكراه :

لغة: كَرِهْتُ الشيء كَرَاهِيَةً أيضا فهو شيء كَرِيهٌ ومَكْرُوهٌ والكَرِيهةُ الشدة في الحرب، والكُرْهُ بالضم المشقة، وبالفتح اٌكرَاهُ يقال: قام على كره أي على مشقة وأقامه فلان على كره أي أكرهه على القيام، وقال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد، وأكْرَهَهُ على كذا حمله عليه كرها وكَرَّهْتُ إليه الشيء تكريهاً ضد حببته إليه واستكرهْتُ الشيءأكرهته , حمل الإنسان على شيء يكرهه , يقال: أكرهت فلانا إكراها: حملته على أمر يكرهه، وأكرهته على الأمر إكراها: حملته عليه قهرا. يقال: فعلته كرها بالفتح أي إكراها، ومنه قوله تعالى : ﴿ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾(آل عمران:83)، فجمع بين الضدين[28].

اصطلاحا: هو حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه , ولا يختار مباشرته لو خلي ونفسه , فيكون معدما للرضى لا للاختيار[29]، فالفعل يصدر عن المكره باختياره لكنه يصدر مستندا إلى اختيار آخر[30].

وقد قسم الإكراه تقسيمات مختلفة وباعتبارات مختلفة، ومما نحتاج إلى معرفته هنا تقسيمه بحسب موجبه، فقد قسم إلى قسمين:

الإكراه بحق: وهو الإكراه المشروع الذي لا ظلم فيه ولا إثم، وهو ما توافر فيه أمران:

·  أن يحق للمكره التهديد بما هدد به، باعتباره وليا لأمر كلف به شرعا، مثل القاضي أو من ينوب عنه.

·      أن يكون المكره عليه مما يحق للمكره الإلزام به.

الإكراه بغير حق: وهو الإكراه ظلما , أو الإكراه المحرم , لتحريم وسيلته , أو لتحريم المطلوب به.

حكم طلاق المكره:

اتفق الفقهاء[31] على  أن النوع الأول من الإكراه، وهو الإكراه بحق لا يقع به الطلاق، لأنه إكراه بحق، ولمصلحة الزوجة، ومن ولي الأمر، وسنرى أحكامه وأنواعه في الفصل الخاص بحل العصمة الزوجية بيد القضاء.

أما الإكراه بغير حق كمن أكره على الطلاق ظلما , فقد اختلف الفقهاء هل يقع طلاقه أم لا ؟ على قولين[32]:

القول الأول: أن طلاق المكره لا يقع، وقد روي ذلك عن عمر , وعلي, وابن عمر وابن عباس , وابن الزبير , وجابر بن سمرة. وبه قال عبد الله بن عبيد بن عمير , وعكرمة , والحسن , وجابر بن زيد , وشريح , وعطاء , وطاوس , وعمر بن عبد العزيز , وابن عون , وأيوب السختياني , ومالك , والأوزاعي , والشافعي , وإسحاق وأبو ثور , وأبو عبيد وأحمد، وهو قول الظاهرية، واستدلوا على ذلك بما يلي[33]:

·  دلالة القرآن الكريم على عدم اعتبار الإكراه في كثير من الأمور هي أعظم من الطلاق، فلم يعتبر الإكراه في الكفر، كما قال تعالى :﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم﴾(النحل:106)، ولذلك احتج عطاء بالآية، وقال:) الشرك أعظم من الطلاق([34]

·  ولم يعتبر تعالى الإكراه على الإيمان، كما قال تعالى:﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ﴾(البقرة:256)، ولم يعتبر الإكراه على الزنا،فقال تعالى:﴿ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(النور:33) فكيف يعتبر الإكراه على الطلاق، وهو أدنى منها جميعا.

·  دلالة السنة العامة على عدم اعتبار تصرفات المكره، فقد قال  - صلى الله عليه وسلم - :(إن الله وضع عن أمتي الخطأ , والنسيان , وما استكرهوا عليه) [35]، قال ابن حجر:) إنه سوى بين الثلاثة في التجاوز فمن حمل التجاوز على رفع الإثم خاصة دون الوقوع في الإكراه لزم أن يقول مثل ذلك في النسيان([36]

·  الدلالة الخاصة من السنة على عدم وقوع طلاقه، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (لا طلاق في إغلاق) [37]، وهذا الحديث هو حديث هذا الباب، فلذلك سنرى الوجوه الكثيرة للاستدلال به، فقد فسره علماء الغريب بالإكراه وهو قول ابن قتيبة والخطابي وابن السيد وغيرهم، وفسروه بالجنون واستبعده المطرزي وفسروه بالغضب، وقال أبو عبيد الإغلاق التضيق، وقال أبو بكر: سألت ابن دريد وأبا طاهر النحويين , فقالا: يريد الإكراه ; لأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه[38].

·  الآثار الكثيرة الواردة عن السلف الصالح والدالة على عدم وقوع طلاق المكره[39]، ومنها ما روي عن خيثمة بن عبد الرحمن قال: قالت امرأة لزوجها: سمني ؟ فسماها الظبية , قالت: ما قلت شيئا ؟ قال: فهات ما أسميك به ؟ قالت: سمني خلية طالق , قال: فأنت خلية طالق , فأتت عمر ابن الخطاب فقالت: إن زوجي طلقني ؟ فجاء زوجها فقص عليه القصة ؟ فأوجع عمر رأسها , وقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها)   فهذا الحكم من عمر - رضي الله عنه -  بعدم الوقوع لما لم يقصد الزوج اللفظ الذي يقع به، بل قصد لفظا لا يريد به الطلاق، كما لو قال لامرأته أنت مسرحة أو سرحتك ومراده تسريح الشعر، فهذا لا يقع لا طلاقه بينه وبين الله تعالى، وإن قامت قرينة أو في الحكم لم يقع به.

·  وقد أفتى الصحابة بعدم وقوع  طلاق المكره وإقراره فصح عن عمر أنه قال: ليس الرجل على نفسه إذا أوجعته أو ضربته أو أوثقته، وروي أن رجلا تدلى بحبل ليشتار عسلا فأتت امرأته فقالت له: لأقطعن الحبل , أو لتطلقني ؟  فناشدها الله تعالى فأبت , فطلقها , فلما ظهر أتى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له ؟ فقال له عمر: ارجع إلى امرأتك , فإن هذا ليس بطلاق.

·  وروي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -  كان لا يجيز طلاق المكره، وعن ثابت الأعرج , قال: سألت ابن عمر , وابن الزبير w عن طلاق المكره فقالا جميعا: ليس بشيء، وعن ابن عباس - رضي الله عنه -  قال: ليس لمكره ولا لمضطر طلاق، قال ابن حزم بعد إيراده الآثار الواردة عن الصحابة في ذلك:)  فهو قول من ذكر من الصحابة w ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعا)[40]

القول الثاني: أن طلاق المكره يقع، وهو قول أبي قلابة , والشعبي , والنخعي , والزهري والثوري , وأبي حنيفة وصاحبيه[41]، واستدلوا على ذلك بما يلي[42]:

·  من السنة، ذكر ابن الجوزي أن أصحاب هذا القول استدلوا بثلاثة أحاديث هي[43]: قوله - صلى الله عليه وسلم - (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة) [44]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - :(كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب عليه) [45]، وما رووه عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -  أن رجلا كان نائما مع امرأته فقامت فأخذت سكينا، وجلست على صدره ووضعت السكين على حلقه وقالت له طلقني أو لأذبحنك، فناشدها الله فأبت، فطلقها ثلاثا فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال (لا قيلولة في الطلاق)[46]

·  واستدل له الطحاوي بحديث عام، وهو ما روي عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -  قال: ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي فأخذنا كفار قريش، فقالوا إنكم تريدون محمدا فقلنا: ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  فأخبرناه فقال: انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله تعالى عليهم)[47]، قال: فكان في هذا الحديث ما قد دل على أن اليمين على الإكراه تلزم كما تلزم على الطواعية.

·  أن الحديث الذي استدل به المخالفون وهو)لا طلاق ولا عتاق في إغلاق(لا يدل على الإكراه، وقد أوله الطحاوي بقوله:(ثم تأملنا هذا الحديث لنقف على المراد به ما هو ؟ فكان أحسن ما حضرنا فيه – والله أعلم – أن الإغلاق هو الإطباق على الشيء فاحتمل بذلك عندنا أن يكون في هذا الحديث أريد به الإجبار الذي يغلق على المعتق وعلى المطلق حتى يكون منه العتاق والطلاق على غير اختيار منه لهما ولا يكون في العتاق مثابا كما يثاب سائر المعتقين الذين يريدون بعتاقهم الله على عتاقهم، وكالمطلقين الذين تلحقهم الذنوب في طلاقهم الذين يضعونه في غير موضعه، والذين يوقعون من عدده أكثر مما أبيح لهم أن يوقعوه منه وموضعه الذي أمروا أن يضعوه فيه هو الطهر قبل المسيس والعدد الذي أمروا به هو الواحدة لا ما فوقها) [48]

·  أن حديث رفع الحرج عن المكره لا يدخل فيه الطلاق، وإنما المراد منه الإكراه على الكفر (لأن القوم كانوا حديثي العهد بالإسلام , وكان الإكراه على الكفر ظاهرا يومئذ وكان يجري على ألسنتهم كلمات الكفر خطأ وسهوا , فعفا الله تعالى عن ذلك عن هذه الأمة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)[49]

·  الآثار الواردة عن السلف الصالح - رضي الله عنهم -  في ذلك ومنها ما رووا أن امرأة سلت سيفا فوضعته على بطن زوجها وقالت:والله لأنفذنك، أو  لتطلقني، فطلقها ثلاثا، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  فأمضى طلاقها، وعن ابن عمر أنه سأله رجل فقال له: أنه وطىء فلان على رجلي حتى أطلق امرأتي، فطلقتها فكره له الرجوع إليها[50]، وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -  أنه قال :(كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه)

·  وقد روي عن ابن عمر أنه أجاز طلاق المكره، وعن الشعبي والنخعي والزهري وقتادة وأبي قلابة أنهم أجازوه، وعن سعيد بن جبير أنه بلغه قول الحسن ليس طلاق المكره بشيء فقال: يرحمه الله إنما كان أهل الشرك يكرهون الرجل على الكفر والطلاق، فذلك الذي ليس بشيء، وأما ما صنع أهل الإسلام بينهم فهو جائز[51].

·      أنه طلاق من مكلف , في محل يملكه , فينفذ , كطلاق غير المكره.

·  أن الفائت بالإكراه ليس إلا الرضا, وهو ليس بشرط لوقوع الطلاق , فإن طلاق الهازل واقع وليس براض به طبعا , وكذلك الرجل قد يطلق امرأته الفائقة حسنا وجمالا الرائقة تغنجا ودلالا لخلل في دينها , وإن كان لا يرضى به طبعا ويقع الطلاق عليها.

·  أن الإكراه لا يعمل على الأقوال كما يعمل على الاعتقادات ; لأن أحدا لا يقدر على استعمال لسان غيره بالكلام على تغيير ما يعتقده بقلبه جبرا فكان كل متكلم مختارا فيما يتكلم به فلا يكون مستكرها عليه حقيقة.

·  أنه قاصد دفع الهلاك عن نفسه، ولا يندفع عنه إلا بالقصد إلى ما وضع له، فكان قاصدا إليه ضرورة[52].

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول بعدم وقوع طلاق المكره، وهو ما دلت عليه الأدلة، وما تقتضيه المصلحة الشرعية، بل إن في ذلك سدا لذريعة الإكراه نفسها، وحماية للمسلمين أن تسلب زوجاتهم بأي طريق، لأن من اعتقد جدوى إكراه رجل ما على التلفظ بألفاظ الطلاق يغريه ذلك بإكراهه بخلاف ما لو سد عليه الباب، فإنه لا يفكر فيه مطلقا.

فلذلك كان في إيقاع طلاق المكره من المضار والمفاسد ما لا يحصى وأخطرها هو الإغراء بالإكراه نفسه، لأن الرجل من المسلمين قد يكون ظالما مفسدا، ولكنه في هذا الميدان يخاف أن يتزوج زوجة رجل لم تخرج من ذمته، فإذا قيل لهذا إن تهديدك لفلان وجبرك على تطليق زوجته يجعلها طالقا ويبيحها لك لن يحجزه عن الإكراه حاجز.

ثم كيف ترد النصوص الكثيرة التي ذكرناها والأدلة العامة التي تتناول جميع الأحكام الشرعية وتنضبط معها لأحاديث ضعيفة لا تصح وأقيسة لا تنهض للاحتجاج بها على ما هو دون هذا فمن الغريب أن يستدل الحنفية بقولهم :) طلاق المكره يلزم لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا، وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل (، فكيف يعتبر عدم الرضا لا غيا، ولماذا يقاس عل الهازل[53] ولا يقاس على غيره مما هو أشبه به؟

شروط الإكراه المؤثر

ذكر الفقهاء الكثير من الشروط المعتبرة في الإكراه المؤثر، وسنقتصر منها هنا على ما يتعلق منها بالإكراه في الطلاق فقط، وهذه الشروط هي:

1 ـ قدرة المكره وخوف المكره:

وهو قدرة المكره (بالكسر) على إيقاع ما هدد به , لكونه متغلبا ذا سطوة وبطش  وإن لم يكن سلطانا ولا أميرا، لأن تهديد غير القادر لا اعتبار له، وخوف المكره (بفتح الراء) من إيقاع ما هدد به[54]، وقد اتفق الفقهاء على اعتبار هذا الشرط في تحقق الإكراه إذا كان المخوف عاجلا، أما إن كان آجلا , فقد اختلفوا فيه على قولين :

القول الأول: تحقق الإكراه مع التأجيل، وهو قول المالكية والحنابلة والأذرعي من الشافعية.

القول الثاني: أن الإكراه لا يتحقق مع التأجيل , ولو إلى الغد، وهو قول الشافعية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار الإكراه ولو مع تأجيل المكره عقوبته، لأن الدافع للطلاق ليس قصد الطلاق والرغبة فيه، وإنما التأثير الخارجي، فللتأثير الخارجي أثره بغض النظر عن كونه عاجلا أم آجلا، فالعبرة ليست بهما وإنما بنوع الإكراه، فقد يكون إكراها بسيطا عاجلا، فلا يعتبر، وقد يكون إكراها خطيرا آجلا، فيؤثر ويقع. 

2 ـ شدة الضرر المتوقع من المكره:

مثل كون ما هدد به قتلا أو إتلاف عضو , ولو بإذهاب قوته مع بقائه كإذهاب البصر , أو القدرة على البطش أو المشي مع بقاء أعضائها , أو  غيرهما مما يوجب غما يعدم الرضا , أما التهديد بما يمكن تحمله كالجوع  , فيتراوح بين هذا وذاك , فلا يصير ملجئا إلا إذا بلغ الجوع بالمكره (بالفتح) حد خوف الهلاك.

ثم الذي يوجب غما يعدم الرضا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فليس العامة من الناس كالخاصة , ولا الضعاف كالأقوياء , ولا تفويت المال اليسير كتفويت المال الكثير , والنظر في ذلك مفوض إلى الحاكم , يقدر لكل واقعة قدرها.

3 ـ عدم الرضا بما أكره عليه:

وهو أن يكون المكره ممتنعا عن الفعل المكره عليه لولا الإكراه، فلا يعتبر إكراه من تكون له رغبة مسبقة في التطليق، فيطلق لرغبته لا لكونه مكرها.

4 ـ تعين الفعل المكره عليه:

وهو أن يكون محل الفعل المكره عليه متعينا، ومثال عدم التعيين من أكره  على طلاق إحدى زوجتيه, فطلقهما جميعا، وقد اختلف الفقهاء في هذا بناء على اعتبار هذا الشرط أو عدم اعتباره على قولين:

القول الأول: اعتبار هذا الشرط على الإطلاق، وهو قول الشافعية وبعض الحنابلة.

القول الثاني: عدم اعتبار هذا الشرط، فيتحقق الإكراه برغم هذا التخيير، وهو قول الحنفية والمالكية , وبعض الشافعية والحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو النظر إلى قصده من طلاق من لم يكره على طلاقها، فإن كان قاصدا لطلاقها طلقت منه، وإن لم يكن قاصدا بل أغلق الخوف عليه عقله، فلم يدر ما يقول لم تطلق منه.

5 ـ سلب الخيار من المكره:

وذلك بألا يكون للمكره مندوحة عن الفعل المكره عليه , فإن كانت له مندوحة عنه, ثم فعله لا يكون مكرها عليه , وعلى هذا لو خير المكره بين أمرين فإن الحكم يختلف تبعا لتساوي هذين الأمرين أو تفاوتهما من حيث الحرمة والحل.

فإن تفاوت الأمران المخير بينهما , وكان أحدهما محرما لا يرخص فيه ولا يباح بحال كالزنى والقتل , فإنه لا يكون مندوحة , ويكون الإكراه واقعا على المقابل له.

وقد اختلف الفقهاء فيما لو وقع التخيير بين طلاق امرأته وبيع شيء من ماله، هل يعتبر ذلك إكراها أم لا على قولين:

القول الأول: يترتب حكم الإكراه على فعل أي واحد من الأمرين المخير بينهما , لأن الإكراه ليس إلا على الأحد الدائر دون تفاوت , وهذا لا تعدد فيه , ولا يتحقق إلا في معين.

القول الثاني: لا يترتب حكم الإكراه في هذه الصور، وهو قول الشافعية وبعض الحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، لأن المال محترم شرعا، ولو سلم ماله للمكره ربما لا يستطيع استرجاعه، بخلافه طلاقه لزوجته، فإن طلاقها أمر معنوي بالنسبة له، ولا عبرة له لوقوعه تحت تأثير الإكراه.

2 ـ الجهل

1 ـ تعريف الجاهل وحكم طلاقه:

تعريف الجهل :

لغة: الجَهْلُ ضد العلم، وقد جَهِلَ من باب فهِم وسلِم، وتَجَاهَل أرى من نفسه ذلك وليس به واسْتَجْهَلَهُ عدّه جاهلا واستخفه أيضا والتَّجْهِيلُ النسبة إلى الجهل والمَجْهَلةُ بوزن المرحلة الأمر الذي يحمل على الجهل ومنه قولهم الولد مجهلة والمَجْهَلُ المفازة لا أعلام فيها[55].

اصطلاحا: اختلف العلماء في تعريف الجهل لتعدد أنواعه واقتصار بعض التعاريف على نوع منه، ولأهمية التعرف على حقيقة الجهل لعلاقتها بهذا المطلب نذكر بعض التعاريف وما نوقشت به[56]:

·  أنه عدم العلم عما من شأنه أن يعلم، ويسمى بسيطا، وقد قيل بأن هذا لا يسمى جهلا، واختاره ابن السمعاني، ومما تعقب به هذا التعريف أنه غير مانع لدخول الظن عند من لا يراه علما , والشك والغفلة.

·  عدم كل علم أو ظن أو شك أو وقف عما من شأنه أن يكون معلوما أو مظنونا أو مشكوكا أو موقوفا فيه ممن شأنه أن يوصف بذلك،وقد ورد هذا التعريف لتصحيح التعريف السابق.

·  أنه الاعتقاد الباطل , وهذا التعريف خاص بالجهل المركب، وقال الآمدي:)اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر , ونقض بالنظر المطابق عكسا , فإن الناظر ما لم يكن عالما أو ظانا فهو جاهل ; لكونه ضدا لهما عنده فيكون الناظر إذن جاهلا مع أن اعتقاده مطابق(

·  أنه اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به، واعترض عليه بأنه يستلزم كون المعدوم شيئا، إذ الجهل يتحقق بالمعدوم كما يتحقق بالموجود، أو كون المعدوم المجهول غير داخل في الحد وكلاهما فاسد.

·  هو صفة تضاد العلم عند احتماله وتصوره، واحترز به عن الأشياء التي لا علم لها فإنها لا توصف بالجهل لعدم تصور العلم فيها.

·      وأساس الاختلاف في هذه التعاريف هو أن الجهل نوعان:

·      الجهل البسيط، وهو عدم العلم ممن شأنه أن يكون عالما.

·      الجهل المركب، وهو اعتقاد جازم غير مطابق للواقع.

فيجتمع كلاهما في اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه، وهو في النوع الأول عدمي يقابل العلم تقابل العدم والملكة. وبالثاني وجودي يقابل العلم تقابل الضدين, والثاني يقال فيه: أخطأ وغلط , ومخاطبته مخاطبة عناد ومخاطبة الأول مخاطبة تعليم.

حكم طلاق الجاهل :

يمكن تقسيم طلاق الجاهل بحسب الحكم المترتب عن جهله إلى قسمين:

الجهل الباطل:  وهو الجهل الذي لا يصلح عذرا، وهذا القسم لا يصلح أن يكون عذرا في الآخرة، وإن كان قد يصلح عذرا في أحكام الدنيا، ومن أمثلة هذا الجهل في الطلاق :

المثال الأول: أن يأخذ المطلق بقول من خالف في اجتهاده الكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع , أو عمل بالغريب على خلاف الكتاب أو السنة المشهورة، كالقول مثلا بأن الطلاق لا يقع إلا بحكم القاضي، فلا عبرة بهذا الاجتهاد، وصاحبه ليس معذورا فيه.

المثال الثاني: الجهل الناشئ عن عدم سؤال العلماء خشية من الأحكام الشرعية، كمن تلفظ بالطلاق، وخاف إن استفتى العلماء أن يفتوه بوقوعه، فيسكت عن السؤال ويتعلل بالجهل، فهذا الجهل غير معتبر، وقد قال الشافعي في مثل هذا: لو عذر الجاهل لأجل جهله لكان الجهل خيرا من العلم , إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف , ويريح قلبه من ضروب التعنيف , فلا حجة للعبد في جهله بالحكم بعد التبليغ والتمكين ; ﴿ لِأَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ (النساء:165)[57]

المثال الثالث: أن جهل الحكم بالتحريم، وهو مسقط للإثم والحكم في الظاهر لمن يخفى عليه لقرب عهده بالإسلام ونحوه , فإن علمه وجهل المرتب عليه لم يعذر ،ومثال هذا في الطلاق من جهل أحكام الطلاق، فطلق زوجته، وجهل الأثر الذي يترتب عليه من ذلك، فإنه معذور في حال الجهل بالطلاق نفسه، غير معذور في حال جهله بالأثر فقط، كما لو جهل تحريم الكلام في الصلاة عذر , ولو علم التحريم وجهل الإبطال بطلت. 

الجهل المعتبر: وهو الجهل الذي يصلح عذرا، وهو الجهل الذي يكون في موضع الاجتهاد الصحيح , بأن لا يكون مخالفا للكتاب أو السنة أو الإجماع , ومن أمثلته المتعلقة بالطلاق :

المثال الأول: الجهل بأحكام الطلاق وصيغه للمسلمين في البلاد البعيدة عن بلاد المسلمين، ولم يتمكن أصحابها من الاتصال بالعلماء أو لم ينتبهوا إلى ذلك، لأن الفقهاء نصوا على أن من مكث في دار الحرب، ولم يعلم أن عليه الصلاة والزكاة وغيرهما ولم يؤدها لا يلزمه قضاؤها لخفاء الدليل في حقه , وهو الخطاب لعدم بلوغه إليه حقيقة بالسماع وتقديرا بالشهرة , فيصير جهله بالخطاب عذرا.

بخلاف من أسلم في دار الإسلام لشيوع الأحكام والتمكن من السؤال، قال السيوطي: (كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل منه دعوى الجهل إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام , أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك , كتحريم الزنى , والقتل , والسرقة , والخمر , والكلام في الصلاة , والأكل في الصوم) [58].  

المثال الثاني: طلاق من جهل معنى الطلاق، فقد نص الفقهاء على أنه لا يقع طلاق من يجهل معنى اللفظ الدال على الطلاق،  قال في المغني: إن قال الأعجمي لامرأته أنت طالق ولا يفهم معناه لم تطلق ; لأنه ليس بمختار للطلاق فلم يقع طلاقه كالمكره، وذلك, لأنه لم يلتزم بمقتضاه , ولم يقصد إليه.

وقد اختلف الفقهاء فيما لو قال الأعجمي: أردت به ما يراد عند أهله، على قولين أصحهما أنه لم يرده , لأن الإرادة لا تتوجه إلا إلى معلوم أو مظنون ; لأنه إذا لم يعرف معنى اللفظ لم يصح قصده.

وقال الزركشي:) إذا نطق الأعجمي بكلمة كفر , أو إيمان , أو طلاق , أو إعتاق , أو بيع, أو شراء , أو نحوه, ولا يعرف معناه, لا يؤاخذ بشيء منه , لأنه لم يلتزم مقتضاه, وكذلك إذا نطق العربي بما يدل على هذه العبارة بلفظ أعجمي لا يعرف معناه([59]

ومثل هذا الجهل بالحساب كما لو قال طلقة في طلقتين , وجهل الحساب, ولكن قصد معناه فقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقيل: تقع طلقة وقيل طلقتان.

المثال الثالث: إذا نطق العربي بكلمات عربية لكنه لا يعرف معانيها في الشرع , مثل قوله لزوجته: أنت طالق للسنة أو للبدعة , وهو جاهل بمعنى اللفظ , أو نطق بلفظ الخلع أو النكاح, قال عز الدين بن عبد السلام:(أنه لا يؤاخذ بشيء , إذ لا شعور له بمدلوله حتى يقصده باللفظ. قال: وكثيرا ما يخالع الجهال  من الذين لا يعرفون مدلول لفظ الخلع ويحكمون بصحته للجهل بهذه القاعدة) [60]

وقول العز لو التزم في الفتوى لضيق كثيرا أبواب الطلاق خاصة بين ما يجري من العامة من ألفاظ الطلاق كناية دون إدراك لمدلولوتها.

2 ـ ما يلحق بالجهل

نقصد بملحقات الجهل في هذا العنوان ما يكون سببا من أسباب الجهلة أو مظهرا من مظاهره أو درجة من درجاته، وقد اقتصرنا عل أربع ملحقات هي أهم ما في هذا الباب وسائر ما ذكر في عوارض الأهلية مما يتعلق بالطلاق يندرج تحتها، وهذه الثلاثة هي: النسيان والشك والخطأ، والتقليد.

فدرجات العلم مثلا من الظن والشك والوهم يقتصر الفقهاء منها على الشك، ويعبرون به عن الكل، وهكذا في النسيان يعبرون به عن السهو والغفلة والذهول، كما قال الآمدي: إن الذهول والغفلة والنسيان عبارات مختلفة , لكن يقرب أن تكون معانيها متحدة , وكلها مضادة للعلم , بمعنى أنه يستحيل اجتماعها معه.

النسيان

تعريف  النسيان :

لغة: النِسْيانُ بكسر النون وسكون السين ضد الذُّكر والحفظ، ورجل  نَسْيَانُ بفتح النون كثير النِسيان للشيء، وقد نَسِيَ الشيء بالكسر نِسْيَانا، وأَنْسَاهُ الله الشيء وتَنَاسَاهُ أرى من نفسه أنه نسِيه، والنِّسْيَانُ أيضا الترك، كما قال الله تعالى :﴿ نسُوا الله فنسِيهم﴾ ومنه قوله تعالى: ﴿ ولا تنسوا الفضل بينكم ﴾ أي: لا تقصدوا الترك والإهمال[61].

اصطلاحا: من التعاريف التي عرف بها النسيان وما في معناه[62]:

هو عدم الاستحضار للشيء في وقت الحاجة لاستحضاره، وقد شمل هذا التعريف النسيان  والسهو، فقد فرقوا بينهما فاعتبروا السهو هو زوال الصورة عن المدركة مع بقائها في الحافظة، بخلاف النسيان، فهو زوالها عنهما معا فيحتاج حينئذ في حصولها إلى سبب جديد[63].

هو عدم ما في الصورة الحاصلة عند العقل عما من شأنه الملاحظة في الجملة، وهو أعم من أن يكون بحيث يتمكن من ملاحظتها أي وقت شاء , ويسمى هذا ذهولا , وسهوا أو يكون بحيث لا يتمكن من ملاحظتها إلا بعد تجشم كسب جديد[64].

النسيان ترك الإنسان ضبط ما استودع على حفظه، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة وإما عن قصد , حتى ينحذف عن قلبه ذكره[65].

السهو غفلة القلب عن الشيء المعلوم فيتنبه له بأدنى تنبيه، بخلاف النسيان فإنه زوال المعلوم، فيستأنف تحصيله، قال في مجمع الأنهر:) لكن الفقهاء لا يفرقون بينهما وكذا لا يفرقون بينه وبين الشك)[66]

حكم طلاق الناسي :

اختلفت نظرات الفقهاء في مسائل طلاق الناسي بحسب نوع النسيان، وموضوعه وتعلقه، فلذلك لا نستطيع أن نحصر فيها أقوالا بعينها، فلكل مسألة قولها الخاص، وقد سئل ابن حجر الهيثمي في فتاواه مسألة تتعلق بطلاق الناسي، فأجاب عليها، ثم علق على ذلك بقوله:) ولكثرة اختلاف الناس في هذه المسألة بأطرافها سكت كثيرون عن الترجيح فيها، وامتنع الماوردي وغيره من الإفتاء في ذلك , قال: واستعمال التوقي أولى من زلات الأقدام، ومن يحتاط في دينه لا يفتي في ذلك في زماننا لكثرة الكذب في دعوى النسيان والجهل من العامة ولا سيما النساء) [67]

ولعل أشد المذاهب في اعتبار وتأثير طلاق الناسي قول الحنفية، فقد جاء في المبسوط:(وإذا قال الرجل: فلانة بنت فلان طالق , وسمى امرأته ونسيها , ثم قال: عنيت بذلك امرأة أجنبية على ذلك الاسم , والنسب لم يصدق , والطلاق واقع على امرأته في  القضاء ; لأن كلام العقل محمول على الصحة ما أمكن , وله ولاية الإيقاع على امرأته دون الأجنبية فلا يصدق فيما يدعي من إلغاء كلامه في القضاء , ولكن يدين فيما بينه وبين الله تعالى ; لأن ما قاله محتمل , ويجوز أن يكون مراده أن فلانة طالق من زوجها على سبيل الحكاية , أو على سبيل الإيقاع فيكون موقوفا على إجازة الزوج , ولا يسع امرأته أن تقيم معه ; لأنها مأمورة باتباع الظاهر كالقاضي ([68]

وفي درر الحكام للحنفية: ) أو ناسيا بأن أراد أن يقول سبحان الله مثلا، فجرى على لسانه أنت طالق تطلق ; لأنه صريح لا يحتاج إلى النية([69]

ومثله ما روي عن الحسن البصري، قال الصنعاني:) اختلفوا في طلاق الناسي فعن الحسن أنه كان يراه كالعمد إلا إذا اشترط. أخرجه ابن أبي شيبة عنه وعن عطاء , وهو قول الجمهور أنه لا يكون طلاقا للحديث([70]

وأيسر المذاهب في طلاق الناسي قول الإمامية، فقد اعتبروا القصد شرطا من شروط صحة الطلاق, مع اشتراط النطق بالصريح، فلو لم ينو الطلاق لم يقع كالساهي والنائم والغالط ولو نسي أن له زوجة , فقال: نسائي طوالق , أو زوجتي طالق ثم ذكر لم يقع به فرقة، ولو أوقع وقال: لم أقصد الطلاق قبل منه ظاهرا , ودين بنيته باطنا , وإن تأخر تفسيره , ما لم تخرج عن العدة ; لأنه إخبار عن نيته[71].

أما الجمهور، فقد وقفوا موقفا بين الفريقين، فاختلفوا في حكم طلاق الناسي بحسب المسائل المختلفة، وسنذكر في الفصل القادم ما يتعلق بنسان المطلقة في حالة ما لو طلق امرأة من نسائه ثم نسي عنها، وهي أهم مسائل طلاق الناسي.

ومعظم أقوال الجمهور في أقوال الناسي تجنح إلى عدم اعتباره، وقد سئل الرملي عمن حلف بالطلاق أن لا يأكل لفلان طعاما فأكل طعامه ناسيا حلفه , ثم سأل شخصا يعتقده عن ذلك فأفتاه بوقوع الطلاق , ثم أكل طعام المحلوف عليه عامدا ظانا صحة فتواه، فهل يقع عليه الطلاق بالأكل بعد الفتيا سواء أكان من أفتاه أهلا للفتوى أم لا ؟

فأجاب بأنه لم يقع عليه طلاق بأكله الواقع بعد الفتوى , وإن لم يكن من أفتاه أهلا لها لظنه أنه غير معلق عليه الطلاق[72].

وقال ابن حجر الهيثمي:) متى حلف بطلاق أو غيره على فعل نفسه ففعله ناسيا للتعليق أو ذاكرا له مكرها على الفعل أو مختارا جاهلا بالمعلق عليه لا بالحكم خلافا لمن وهم فيه لم يحنث للخبر السابق) إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (أي لا يؤاخذهم بشيء من هذه الثلاثة ما لم يدل دليل على خلافه([73]

ولكنه علق على ذلك بما يسد الذريعة على اتخاذ النسيان وسيلة للتهرب من الأحكام، فقال:)أما إذا لم يقصد منعه ولا حثه أو كان ممن لا يبالى بتعليقه كالسلطان والحجيج , أو لم يعلم به ففعله فإنه يحنث به ولو مع النسيان وقسيمه ; لأن الغرض حينئذ مجرد التعليق بالفعل من غير قصد منع , أو حث نعم يستثنى من ذلك ما إذا قصد مع الحث , أو المنع فيمن يبالي به أعلامه به , ولم يعلم به فلا تطلق على المعتمد الذي اقتضاه كلام الشيخين وغيرهما ونقله الزركشي عن الجمهور ولو علق بفعله ناسيا أو جاهلا أو مكرها ففعله كذلك حنث ; لأنه ضيق على نفسه , أو بدخول نحو بهيمة , أو طفل فدخل غير مكره حنث , أو مكرها فلا. وفارق ما مر من الوقوع في بعض الصور مع الإكراه([74]

انطلاقا  من هذا، فإنا نرى من حيث النظر إلى النصوص العامة، والمقاصد الشرعية عدم اعتبار طلاق الناسي مهما كان نوع نسيانه ديانة وقضاء حتى لو كان متناسيا لا ناسيا، لأن دور المفتي أو القاضي ليس التنقيب عن صدقه أو كذبه، وإنما الحكم له بظاهر الحال، وظاهر الحال يستدعي حسن الظن بالمسلم.

ولن يعجزنا أن نجد الدليل على ذلك، فحسبنا قول الله تعالى : ﴿ لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا ﴾ (البقرة:286)، فهذا الدعاء محقق الإجابة، فكيف يؤاخذ المسلم على نسيانه بعد هذا في أمر لا يتعلق به حق الغير، بل يتعلق به الضرر بالغير، وقد قال ابن العربي في الآية:) ذكر أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة ; وهذا يدل على ما قدمناه من أنه لا يدخل تحت التكليف , ولا يتعلق به حكم في طلاق ولا غيره ([75]

وقد استدل البخاري بقوله - صلى الله عليه وسلم - :) إنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله ومن كانت  هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ([76]على أنه لا يؤاخذ الناسي , والمخطئ في الطلاق , والعتاق ونحوهما ; لأنه لا نية لناس ولا مخطئ , وهو كذلك.

وكل الأدلة الشرعية بعد ذلك تدل على هذا، قال ابن القيم:(ومن تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها , بل جرت على غير قصد منه كالنائم والناسي والسكران والجاهل  والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم ([77]

ونفس الحكم يقال فيمن ذهل[78] فطلق أو ذهل ففعل ما علق عليه الطلاق، فالذهول حالة عادية لا يمكن للإنسان أن يتصرف فيها، وهو وإن كان صاحبه أكثر تكليفا من الناسي إلا أن حاله من حيث التكليف كحال الناسي.

الشك

تعريفه :

لغة[79]: هو الارتياب، ويستعمل الفعل لازما ومتعديا بالحرف، فيقال شك الأمر يشك شكا إذا التبس، وشككت فيه، وهو الشك خلاف اليقين فقولهم خلاف اليقين هو التردد بين شيئين، سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر قال تعالى:﴿ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ﴾ (يونس:94) غير مستيقن، وهو يعم الحالتين.

وجمعه  شُكُوك، وقد شَكَكْتُ فـي كذا وتَشَكَّكْتُ، وشَكَّ فـي الأَمر يَشُكُّ شَكّاً وشَكَّكَهُ فـيه غيرُه.

اصطلاحا: التعريف المشهور للشك، والذي يتداول في كل العلوم الشرعية من التوحيد والأصول وغيرها هو استواء الطرفين المتقابلين لوجود أمارتين متكافئتين في الطرفين أو لعدم الأمارة فيهما[80].

لكن استعمال الفقهاء الغالب لهذا المصطلح يختلف عن هذا، فهم يطلقون الشك في حالتي الاستواء والرجحان على النحو الذي استعملت فيه هذه الكلمة لغة فقالوا: من شك في الطلاق , أي من لم يستيقن , بقطع النظر عن استواء الجانبين أو رجحان أحدهما.

قال النووي:) اعلم أن مراد الفقهاء بالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والصوم والطلاق والعتق وغيرها هو التردد بين وجود الشيء وعدمه , سواء كان الطرفان في التردد سواء أو أحدهما راجحا , فهذا معناه في استعمال الفقهاء في كتب الفقه. وأما أصحاب الأصول ففرقوا بينهما فقالوا: التردد بين الطرفين إن كان على السواء فهو الشك , وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم (

وقد تعقبه الزركشي فقال:) زعم النووي أنه كاللغة في سائر الأبواب , لا فرق بين المساوي والراجح وهذا إنما قالوه في الأحداث وقد فرقوا في مواضع كثيرة بينهما(

ومن الفروق التي ذكرها مما يتعلق بالطلاق، قال:) ومنها قالوا في كتاب الطلاق إنه لا يقع بالشك، فأرادوا به الطرف المرجوح , ولهذا قال الرافعي: قولهم , لا يقع الطلاق بالشك مسلم لكنه يقع بالظن الغالب، ويشهد له: لو قال إن كنت حاملا فأنت طالق , فإذا مضت ثلاثة قروء من وقت التعليق وقع الطلاق مع أن الأقرؤ لا تفيد إلا الظن([81]

أحوال الشك في الطلاق وأحكامها :

للشك في الطلاق مسائل كثيرة لا يمكن حصرها، فمنها مثلا أن يظن أن امرأته طلقت بيمين معينة فيفعل المحلوف عليه بناء على أنه لا يؤثر في الحنث , كما لو قال: إن كلمت فلانا فأنت طالق ثلاثا , ثم عقد بعدها يمينا أخرى فقال: إن فعلت كذا فامرأتي طالق ثلاثا , فقيل له: إن امرأتك قد كلمت فلانا , فاعتقد صدق القائل , وأنها قد طلقت منه , ففعل ما حلف عليه ثانيا بناء على أن العصمة قد انقطعت , ثم تبين له بعد ذلك أن المخبر كاذب.

ومثله ما لو قيل له: قد كلمت فلانا , فقال: طلقت مني ثلاثا , ثم بان له أنها لم  تكلمه.

ومثله ـ وهو أكثر الأمثلة وقوعا ـ ما لو أخبر عن زوجته بما يسوئه، كما لو قيل له: إن امرأتك قد مسكت تشرب الخمر مع فلان , فقال: هي طالق ثلاثا , ثم تبين بعد ذلك كذب المخبر , وأن ذلك مجرد إشاعة.

ويقاس على هذه الأمثلة غيرها من أنواع التطليق بسبب الظن الذي ينفيه الواقع، وقد اختلف الفقهاء في ذلك اختلافا يعسر ضبطه، فلذلك سنقتصر على ذكر هذه الأحوال الأربعة التي تضم أكثر مسائل الشك ليستدل بها على غيرها:

الحالة الأولى: الشك في وقوع أصل التطليق :

اتفق الفقهاء على أنه إذا شك الزوج في أصل التطليق بأن شك هل طلق زوجته أم لا فإنه لا يقع الطلاق في هذه الحالة، وقد نقل الإجماع على ذلك، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن النكاح ثابت بيقين فلا يزول بالشك لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾(الإسراء:36)

·  عن عبد الله بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) [82]، فأمره بالبناء على اليقين واطراح الشك.

·      أنه شك طرأ على يقين فوجب اطراحه كما لو شك المتطهر في الحدث أو المحدث في الطهارة.

الحالة الثانية: الشك في عدد الطلاق :

اختلف الفقهاء فيمن شك هل طلق زوجته واحدة أو اثنتين أو ثلاثا مع تيقنه من إيقاع الطلاق على قولين:

القول الأول: اعتبار العدد الأكبر، فلا تحل له إلا بعد زوج آخر لاحتمال كونه ثلاثا، وهو قول المالكية , وبعض الحنابلة والشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      قوله - صلى الله عليه وسلم -: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) [83]

·  أنه تيقن التحريم ; لأنه تيقن وجوده بالطلاق، وشك في رفعه بالرجعة فلا يرتفع بالشك كما لو أصاب ثوبه نجاسة وشك في موضعها فإنه لا يزول حكم النجاسة بغسل موضع من الثوب ولا  يزول إلا بغسل جميعه.

القول الثاني: اعتبار العدد الأقل، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد , فإذا راجعها حلت له على رأي هؤلاء، واستدلوا على ذلك بأن ما زاد على القدر الذي تيقنه طلاق مشكوك فيه فلم يلزمه كما لو شك في أصل الطلاق.

الترجيح :

نرى أن الأرجح في المسألة هنا ما سنذكره في صيغة الطلاق من عدم اعتبار الطلاق الثلاث في مجلس واحد طلاقا بائنا، ولكنا سنناقش هنا سبب هذا التشديد الذي جعل أصحاب القول الأول يميلون إلى جعله ثلاثا، والتفريق التام بين الرجل وزوجه، وهو ما ذكروه من استحباب الورع في التزام الطلاق، بل وجوبه.

بل قد روي عن شريك أنه إذا شك في طلاقه طلقها واحدة ثم راجعها ; لتكون الرجعة عن طلقة فتكون صحيحة في الحكم، وقد رد عليه ابن قدامة بأن التلفظ بالرجعة ممكن مع الشك في الطلاق ولا يفتقر إلى ما تفتقر إليه العبادات من النية، ولأنه لو شك في طلقتين فطلق واحدة لصار شاكا في تحريمها عليه فلا تفيده الرجعة.

وقال العز بن عبد السلام:(وإن شك أطلق قبل الدخول أو بعده , فإن كان قبل انقضاء العدة , فليجدد رجعة ونكاحا , وإن كان بعد انقضائها , فليجدد النكاح , وإن شك أطلق واحدة أو اثنتين , فإن أراد بقاء النكاح مع الورع , فليطلق طلقة معلقة على نفي الطلقة الثانية , بأن يقول إن لم أكن طلقتها فهي طالق كي لا يقع عليه طلقتان , وإن شك في الطلقة أرجعية هي أم خلع فليرتجع , وليجدد النكاح ; لأنها إن تكن رجعية , فقد تلافاها بالرجعة , وإن كانت خلعا , فقد تلافاها) [84]

ونرى أن الأورع في هذا هو عدم اعتبار الشك مطلقا، لأن الورع في الأصل هو ما يكون بين العبد ربه وما يتعلق بحقوق الناس، أما ما تترتب عنه مفاسد للخلق، فإن الشرع جاء لدرء المفاسد.

الحالة الثالثة: الشك في صفة الطلاق :

ومثاله أن يتردد في كونها طلقة بائنة أو رجعية , وقد اختلف الفقهاء في اعتبار أحد هذين النوعين في صيغ الطلاق على قولين:

القول الأول: يحكم بالرجعية لأنها أضعف الطلاقين فكان متيقنا بها، فلو قال الرجل لزوجته: أنت طالق أقبح طلاق فهو رجعي عند أبي يوسف لأن قوله: أقبح طلاق يحتمل القبح الشرعي وهو الكراهية الشرعية , ويحتمل القبح الطبيعي وهو الكراهية الطبيعية , والمراد بها أن يطلقها في وقت يكره الطلاق فيه طبعا , فلا تثبت البينونة فيه بالشك.

القول الثاني: يحكم بالبينونة، وهو قول محمد بن الحسن الشيباني ،لأن المطلق قد وصف الطلاق بالقبح , والطلاق القبيح هو الطلاق المنهي عنه , وهو البائن , ولذلك يقع بائنا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة إن كان الشك دائرا بين كون الطلقة بائنة أو رجعية اعتبارها رجعية، فهو أقل ضررا، ولا يمكن القول بعدم اعتبارها مطلقا لأن الطلاق متيقن، ولكن الشك في البينونة وعدمها.

الحالة الرابعة: الشك في الطلاق المعلق:

ويضرب الفقهاء مثالا هنا لعدم اعتبار الشك، ولو كان متحققا في موضع لا بعينه وهو ما إذا رأى رجلان طائرا فحلف أحدهما بالطلاق أنه غراب وحلف الآخر بالطلاق أنه حمام فطار، ولم يعلما لم يحكم بحنث واحد منهما ; لأن يقين النكاح ثابت ووقوع الطلاق مشكوك فيه , فإن ادعت امرأة أحدهما حنثه فيها فالقول قوله ; لأن الأصل معه واليقين في جانبه.

ومثله ما لو كان الحالف واحدا فقال: إن كان غرابا فزينب طالق، وإن كان حماما فهند طالق ولم يعلم ما هو لم يحكم بحنثه في شيء ; لأنه متيقن للنكاح شاك في الحنث فلا يزول عن يقين النكاح والملك بالشك.

أما لو قال أحد الرجلين: إن كان غرابا فامرأته طالق ثلاثا، وقال الآخر: إن لم يكن غرابا فامرأته طالق ثلاثا فطار ،ولم يعلما فقد حنث أحدهما لا بعينه ولا يحكم به في حق واحد منهما بعينه بل تبقى في حقه أحكام النكاح من النفقة والكسوة والسكنى ; لأن كل واحد منهما يقين نكاحه باق ووقوع طلاقه مشكوك فيه، وقد اختلفوا هنا في إباحة معاشرة كليهما لزوجته على قولين:

القول الأول: أنه يحرم عليهما ; وهو قول الحنابلة، لأن أحدهما حانث بيقين , وامرأته محرمة عليه وقد أشكل فحرم عليهما جميعا كما لو حنث في إحدى امرأتيه لا بعينها، ومن الأدلة على ذلك أنه إنما تحقق حنثه في واحدة غير معينة وبالنظر إلى كل واحدة مفردة فيقين نكاحها باق وطلاقها مشكوك فيه، لكن لما تحققنا أن إحداهما حرام ولم يمكن تمييزها حرمتا عليه جميعا، وكذلك هاهنا قد علمنا أن أحد هذين الرجلين قد طلقت امرأته وحرمت عليه وتعذر التمييز فيحرم الوطء عليهما، ويصير كما لو تنجس أحد الإناءين لا بعينه، فإنه يحرم استعمال كل واحد منهما سواء كانا لرجلين أو لرجل واحد.

القول الثاني: لا يحرم على واحد منهما معاشرة امرأته، وهو قول الحنفية والشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أنه محكوم ببقاء نكاحه ولم يحكم بوقوع الطلاق عليه.

·      أنه لا يصح قياسه على الحانث في إحدى امرأتيه ; لأنه معلوم زوال نكاحه عن إحدى زوجتيه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم وقوع الطلاق في هذا، وسنبين أدلته التفصيلية في محلها.

الخطأ:  

تعريفه:

لغة: الخَطَأُ ضد الصواب، وأخْطَأَ وتَخَطَّأَ بمعنى واحد، ولا تقل أخطيت، وبعضهم يقوله، والخِطءُ الذنب، وهو مصدر خَطِئَ بالكسر، والاسم الخَطِيئةُ ويجوز تشديدها والجمع الخَطَايا، وخَطِئَ وأخْطَأَ بمعنى واحد، ومنه المثل) مع الخَوَاطِئِ سهم صائب(، والمُخْطِئُ من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخَاطِئُ من تعمد ما لا ينبغي، وتَخَطَّأَ له في المسألة أخطأ[85].

اصطلاحا[86] :هو أن يفعل فعلا من غير أن يقصده قصدا تاما، كمن أراد أن يتكلم بغير الطلاق فسبق لسانه بالطلاق، لكن لم يقصد به الطلاق فوجد قصد غير تام.

وذلك لأن تمام قصد الفعل بقصد محله , وفي الخطأ يوجد قصد الفعل دون قصد المحل، وهو مراد من قال: إنه فعل يصدر بلا قصد إليه عند مباشرة أمر مقصود سواء.

والخطأ نوعان:

·  أن ينعدم منه القصد إلى المحل الذي أصاب، كأن يقصد الرمي إلى صيد أو هدف أو كافر فيصيب مسلما، ومثله في الطلاق ما ذكرناه من سبق اللسان بلفظ الطلاق دون قصد منه.

·  أن يكون باعتبار ما في قصده , وإن كان هو قاصدا إلى المحل الذي أراد، كأن يرمي شخصا يظنه حربيا، فإذا هو مسلم، أو يظنه صيدا فإذا هو مسلم، مثاله في الطلاق أن يطلق زوجة من زوجاته، وهو يظنها أخرى.

حكم طلاق المخطئ :

اختلف الفقهاء في حكم طلاق المخطئ على قولين:

القول الأول: يقع طلاق الخاطئ، وهو قول الحنفية، وقد روي عن أبي حنيفة أن من أراد أن يقول لامرأته اسقيني ماء فقال لها: أنت طالق، وقع، واستدلوا على ذلك بأن الفائت بالخطأ ليس إلا القصد، وهو ليس شرطا لوقوع الطلاق كالهازل واللاعب بالطلاق[87].

القول الثاني[88]: لا يقع طلاق المخطئ، وهو قول الجمهور، ومن الأمثلة على ذلك أنه إذا تلفظ بكلمة الطلاق أو صيغها الصريحة ثم قال: أردت بقولي: فارقتك، أي بجسمي , أو بقلبي أو بمذهبي , أو سرحتك من يدي , أو شغلي , أو من حبسي , أو أي سرحت شعرك، قبل قوله.

ومثله ما لو قال: أردت بقولي: أنت طالق أي: من وثاقي، أو قال: أردت أن أقول: طلبتك. فسبق لساني , فقلت: طلقتك. ونحو ذلك , دين فيما بينه وبين الله تعالى , فمتى علم من نفسه ذلك , لم يقع عليه فيما بينه وبين ربه.

ونقل عن أحمد  أنه سئل عن رجل حلف , فجرى على لسانه غير ما في قلبه , فقال: أرجو أن يكون الأمر فيه واسعا.

ونقل عن مالك أنه إذا قال: أنت طالق ألبتة - وهو يريد أن يحلف على شيء - ثم بدا له فترك اليمين ؟ فليست طالقا , لأنه لم يرد أن يطلقها[89].

وقال الشافعي: ما غلب المرء على لسانه بغير اختيار منه لذلك فهو كلا قول , لا يلزمه به طلاق ولا غيره.

وقد اختلف أصحاب هذا القول[90] في قبول دعواه في الحكم على رأيين :

الرأي الأول: لا يقبل إن كان في حال الغضب , أو سؤالها الطلاق , لأن لفظه ظاهر في الطلاق , وقرينة حاله تدل عليه , فكانت دعواه مخالفة للظاهر من وجهين , فلا تقبل , أما إن لم تكن هذه الحال فإنه يقبل قوله، وهو قول جابر بن زيد , والشعبي , والحكم , وأحمد، لأنه فسر كلامه بما يحتمله احتمالا غير بعيد , فقيل: كما لو قال ; أنت طالق , أنت طالق. وقال: أردت بالثانية إفهامها.

الرأي الثاني: لا يقبل قوله، وهو مذهب الشافعي ; لأنه خلاف ما يقتضيه الظاهر في العرف , فلم يقبل في الحكم , كما لو أقر بعشرة , ثم قال: زيوفا , أو صغارا , أو إلى شهر.

ومما استدل به أصحاب هذا القول:

·  قول الله تعالى : ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(الأحزاب:5)

·  قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(إنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرئ ما نوى) [91] فصح أن لا عمل إلا بنية ولا نية إلا بعمل.

·  من أقوال الصحابة، حديث خيثمة بن عبد الرحمن السابق ذكره، وهو أنه قالت امرأة لزوجها: سمني ؟ فسماها الظبية , قالت: ما قلت شيئا ؟ قال: فهات ما أسميك به ؟ قالت: سمني خلية طالق , قال: فأنت خلية طالق , فأتت عمر بن الخطاب فقالت: إن زوجي طلقني ؟ فجاء زوجها فقص عليه القصة ؟ فأوجع عمر رأسها , وقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها.

الترجيح :

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم وقوع الطلاق مطلقا ديانة وقضاء، فذلك ما تدل عليه الأدلة الشرعية الكثيرة، وهو أوفق بمقاصد الشريعة من حيث تضييق باب الطلاق، وقد اعتبر ابن القيم هذا وما سبق ذكره من المخارج التي يضيق بها باب الطلاق، يقول في إعلام الموقعين:(المخرج الخامس: أن يفعل المحلوف عليه ذاهلا , أو ناسيا , أو مخطئا , أو جاهلا , أو مكرها , أو متأولا , أو معتقدا أنه لا يحنث به تقليدا لمن أفتاه بذلك , أو مغلوبا على عقله , أو ظنا منه أن امرأته طلقت فيفعل المحلوف عليه بناء على أن المرأة أجنبية فلا يؤثر فعل المحلوف عليه في طلاقها شيئا) [92].

وما قاله ابن القيم ليس استحسانا أو مجرد هوى تقتضيه المصالح، وإنما هو ما ترشد إليه الأدلة الكلية، لأن الأدلة الخاصة بهذا المسائل ليست من القطعية بحيث ترفع الخلاف، فلذلك كان الرجوع للأدلة الكلية أولى، وقد قال ابن القيم عن هذه الأدلة الكلية:(عدم الحنث في ذلك هو الصواب بلا ريب , وعليه تدل الأدلة الشرعية ; ألفاظها وأقيستها واعتبارها , وهو مقتضى قواعد الشريعة ; فإن البر والحنث في اليمين نظير الطاعة والمعصية في الأمر والنهي , وإن فعل المكلف ذلك في أمر الشارع ونهيه لم يكن عاصيا , فأولى في باب اليمين أن لا يكون حانثا) [93]

ولا بأس أن نسرد هنا بعض ما ذكره ابن القيم كأمثلة على هذه الأدلة:

·  أنه إنما عقد يمينه على فعل ما يملكه , والنسيان والجهل والخطأ والإكراه غير داخل تحت قدرته , فما فعله في تلك الأحوال لم يتناوله يمينه , ولم يقصد منع نفسه منه.

·  أن الله تعالى قد رفع المؤاخذة عن المخطئ والناسي والمكره , فإلزامه بالحنث أعظم مؤاخذة لما تجاوز الله عن المؤاخذة به.

·      أنه تعالى لما تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها لم تتعلق به المؤاخذة في الأحكام.

·  أن فعل الناسي والمخطئ بمنزلة فعل النائم في عدم التكليف به , ولهذا هو عفو لا يكون به مطيعا ولا عاصيا.

·  أن الله تعالى إنما رتب الأحكام على الألفاظ ; لدلاتها على قصد المتكلم بها , وإرادته , فإذا تيقنا أنه قصد كلامها , ولم يقصد معانيها , ولم يقصد مخالفة ما التزمه ولا الحنث فإن الشارع لا يلزمه بما لم يقصده , بل قد رفع المؤاخذة عنه بما لم يقصده من ذلك.

·  أن اللفظ دليل على القصد , فاعتبر ; لدلالته عليه , فإذا علمنا يقينا خلاف المدلول لم يجز أن نجعله دليلا على ما تيقنا خلافه. وقد رفع الله المؤاخذة عن قتل المسلم المعصوم بيده مباشرة إذا لم يقصد قتله بل قتله خطأ , ولم يلزمه شيئا من ديته , بل حملها غيره , فكيف يؤاخذه بالخطأ والنسيان في باب الأيمان.

·  رفع النبي - صلى الله عليه وسلم -  المؤاخذة عمن أكل وشرب في نهار رمضان ناسيا لصومه , مع أن أكله وشربه فعل لا يمكن تداركه , فكيف يؤاخذه بفعل المحلوف عليه ناسيا ويطلق عليه امرأته ويخرب بيته ويشتت شمله وشمل أولاده , وأهله وقد عفا له عن الأكل والشرب في نهار الصوم ناسيا.

·  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عفا عمن أكل أو شرب في نهار الصوم عمدا غير ناس لما تأول الخيط الأبيض والخيط الأسود بالحبلين المعروفين , فجعل يأكل حتى تبينا له وقد طلع النهار , وعفا له عن ذلك , ولم يأمره بالقضاء , لتأويله , فما بال الحالف المتأول لا يعفى له عن الحنث بل يخرب بيته , ويفرق بينه وبين حبيبته ويشتت شمله كل مشتت ؟

·  أن الشارع قد عفا عن المتكلم في صلاته عمدا , ولم يأمره بالإعادة لما كان جاهلا بالتحريم لم يتعمد مخالفة حكمه , فألغى كلامه , ولم يجعله مبطلا للصلاة , فكيف لا يقتدى به ويلغى قول الجاهل وفعله في باب الأيمان ولا يحنثه كما لم يؤثمه الشارع ؟

·  أن الشارع إذا كان قد عفا عمن قدم شيئا أو أخره من أعمال المناسك من الحلق والرمي والنحر نسيانا أو جهلا فلم يؤاخذه بترك ترتيبها نسيانا , فكيف يحنث أن قدم ما حلف على تأخيره أو أخر ما حلف على تقديمه ناسيا أو جاهلا ؟

·  أن الشارع إذا كان قد عفا عمن حمل القذر في الصلاة ناسيا أو جاهلا به , فكيف يؤاخذ الحالف ويحنث به ؟

قال ابن القيم بعد ذكره لتلك الأمثلة وغيرها:(وبالجملة فقواعد الشريعة وأصولها تقتضي ألا يحنث الحالف في جميع ما ذكرنا ولا يطرد على القياس ويسلم من التناقض إلا هذا القول، وأما تحنيثه في جميع ذلك فإن صاحبه وإن سلم من التناقض لكن قوله مخالف لأصول الشريعة وقواعدها , وأدلتها، ومن حنث في بعض ذلك دون بعض تناقض , ولم يطرد له قول , ولم يسلم له دليل عن المعارضة) [94].

3 ـ السكر

تعريف السكر :

لغة: السَّكْرانُ ضد الصاحي، والجمع سَكْرَى وسُكَارَى بفتح السين وضمها، والمرأة سَكْرَى ولغة في بني أسد سَكْرَانةٌ، وسَكِرَ من باب طرب والاسم السُّكْرُ بالضم وأسْكَرَهُ الشراب، والمِسْكيرُ كثير السكر ،و السِّكَّيرُ بالتشديد الدائم السكر، والتَّسَاكُرُ أن يري من نفسه ذلك وليس به، والسَّكَرُ بفتحتين نبيذ التمر، وفي التنزيل ﴿ وتتخذون منه سكرا﴾ وسَكْرَةُ الموت شدته، وسَكَرَ النهر سده، والسِّكْرُ بالكسر العرم، وهو المسناة، وقوله تعالى:﴿سكرت أبصارنا﴾ أي حبست عن النظر، وحيرت وقيل غطيت وغشيت[95].

اصطلاحا: عرفه ابن العربي بأنه عبارة عن حبس العقل عن التصرف على القانون الذي خلق عليه في الأصل من النظام والاستقامة، فكل ما حبس العقل عن التصرف فهو سكر , وقد يكون من الخمر , وقد يكون من النوم , وقد يكون من الفرح والجزع.

ولكن هذا التعريف غير مانع لما ذكره ابن العربي من أن الإطلاق الشرعي للسكر يراد منه سكر الخمر، قال:)  وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن المراد بهذا السكر سكر الخمر([96]

وعرفه في كشف الأسرار بأنه)  سرور يغلب على العقل بمباشرة بعض الأسباب الموجبة له، فيمنع الإنسان عن العمل بموجب عقله من غير أن يزيله([97]،وعلى هذا القول لا يكون ما حصل من شرب الدواء مثل الأفيون من أقسام السكر ; لأنه ليس بسرور.

وعرف بأنه غفلة تلحق الإنسان مع فتور في الأعضاء بمباشرة بعض الأسباب الموجبة لها من غير مرض وعلة.

وعرف بأنه معنى يزول به العقل عند مباشرة بعض الأسباب المزيلة، وعلى هذا القول بقاؤه مخاطبا بعد زوال العقل يكون أمرا حكميا ثابتا بطريق الزجر عليه لمباشرته المحرم، لا أن يكون العقل باقيا حقيقة ; لأنه يعرف بأثره ولم يبق للسكران من آثار العقل شيء فلا يحكم ببقائه.

وعرف بأنه حالة تعرض للإنسان من امتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة إليه , فيتعطل معه عقله المميز بين الأمور الحسنة , والقبيحة[98]. 

ضابط السكر:

نص أكثر الفقهاء على أن ضابط السكر هو من اختلط كلامه وكان غالبه هذيانا، وهو مذهب جمهور الفقهاء من  المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبي أبي حنيفة، وهو قول الظاهرية، قال ابن حزم:(حد السكر: هو أن يخلط في كلامه فيأتي بما لا يعقل , وبما لا يأتي به إذا لم  يكن سكران، وإن أتى بما يعقل في خلال ذلك، لأن المجنون قد يأتي بما يعقل , ويتحفظ من السلطان ومن سائر المخاوف. وأما من ثقل لسانه وتخبل مخرج كلامه وتخبلت مشيته وعربد فقط إلا أنه لم يتكلم بما لا يعقل - فليس هو سكران) [99]

واستدل لذلك بقوله تعالى :﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾(النساء:43)، ووجهها بقوله :(فبين الله تعالى  أن السكران لا يعلم ما يقول , فمن لم يعلم ما يقول فهو سكران , ومن علم ما يقول فليس بسكران. ومن خلط فأتى بما يعقل وما لا يعقل فهو سكران , لأنه لا يعلم ما يقول.)

وقيل بأن السكران هو الذي لا يعرف الأرض من السماء , والرجل من المرأة، وهو قول أبي حنيفة والمزني من الشافعية[100]، وهو قريب من الأول.

حكم طلاق السكران :

اختلف الفقهاء في وقوع طلاق السكران على قولين :

القول الأول: أنه يقع طلاقه، وهو مروي عن النخعي , وابن سيرين , والحسن , وميمون بن مهران , وحميد بن عبد الرحمن , وعطاء , وقتادة , والزهري، وهو قول سفيان الثوري , والحسن بن حي , والشافعي - في أحد قوليه[101]، ومالك[102]،  وأبي حنيفة، ومن الأدلة على ذلك:

·  دليل الوصف في قوله تعالى: :﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾(النساء:43)، لأنه إن كان خطابا له في حال سكره فهو نص على أنه مكلف , وإن كان خطابا له قبل سكره فهو دليل على أنه مخاطب في حال سكره ; لأنه لا يقال: إذا جننت فلا تفعل كذا.

·      حديث) لا قيلولة في الطلاق([103]

·      حديث :) كل  طلاق جائز إلا طلاق المعتوه([104]

·  أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاق، فقد روي أن رجلا من أهل عمان تملأ من الشراب فطلق امرأته ثلاثا فشهد عليه نسوة فكتب إلى عمر - رضي الله عنه -  بذلك , فأجاز شهادة النسوة , وأثبت عليه الطلاق، وعن سعيد بن المسيب: أن معاوية أجاز طلاق السكران.

·  أن الصحابة أقاموه مقام الصاحي في كلامه فإنهم قالوا: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون[105].

·  أن الخطاب إنما يتوجه باعتدال الحال , ولكنه أمر باطن لا يوقف على حقيقته فيقام السبب الظاهر الدال عليه , وهو البلوغ عن عقل مقامه ; تيسيرا , وبالسكر لا ينعدم هذا المعنى.

·  إذا ثبت أنه مخاطب فإن غفلته عن نفسه لما كانت بسبب معصية , ولا يستحق به التخفيف, لم يكن ذلك عذرا في المنع من نفوذ شيء من تصرفاته بعد ما تقرر سببه.

·  أنه بالسكر لا يزول عقله إنما يعجز عن استعماله ; لغلبة السرور عليه، بخلاف البنج , فإن غفلته ليست بسبب هو معصية , وما يعتريه نوع مرض لا أن يكون سكرا حقيقة , فيكون بمنزلة الإغماء.

·  أن السكران يخالف النائم ; لأن النوم يمنعه من العمل، والسكر لا يمنعه من العمل مع أن الغفلة بسبب النوم لم تكن عن معصية.

·      أن إيقاع الطلاق عقوبة له.

·      أن ترتب الطلاق على التطليق من باب ربط الأحكام بأسبابها فلا يؤثر فيه.

·      عدم صحة قياس السكران المغلوب على عقله بالمجنون المغلوب على عقله، وذلك من وجهين[106]:

الوجه الأول: أن المريض مأجور ومكفر عنه بالمرض مرفوع عنه القلم إذا ذهب عقله , والسكران آثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم فكيف يقاس من عليه العقاب بمن له الثواب.

الوجه الثاني: أن الصلاة والفرائض من حج أو صيام أو غيرها مرفوعة عمن غلب على عقله ولا ترفع عن السكران.

أن كل من لزمه القطع بالسرقة والقصاص في القتل لزمه الطلاق، ولا خلاف في إلزامه القطع بالسرقة، ومثله القصاص في القتل فلا خلاف فيه.

القول الثاني: عدم وقوع طلاقه، وهو مذهب يحيى بن سعيد الأنصاري وحميد بن عبدالرحمن وربيعة والليث بن سعد بن الحسن وإسحاق بن راهويه وأبي ثور والشافعي في أحد قوليه واختاره وغيره من الشافعية ومذهب أحمد في إحدى الروايات عنه وهي التي استقر عليها وصرح برجوعه إليها[107]، وهذا مذهب أهل الظاهر كلهم واختاره من الحنفية أبو الطحاوي وأبو الحسن الكرخي، ومن الأدلة على ذلك:

·  قوله تعالى: :﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾(النساء:43)، فجعل سبحانه قول السكران غير معتبر لأنه لا يعلم ما يقول، قال الشوكاني:)وقد تمسك بهذا من قال إن طلاق السكران لا يقع لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد) [108]، وقال ابن حرم:)  ومن أخبر الله تعالى أنه لا يدري ما يقول، فلا يحل أن يلزم شيئا من الأحكام لا طلاقا ولا غيره مخاطب إذ ليس من ذوي الألباب) [109]

·  حديث ماعز بن مالك، فإنه لما جاء الى النبى - صلى الله عليه وسلم - وأقر أنه زنى أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يستنكهوه ليعلموا هل هو سكران أم لا[110]، فإن كان سكران لم يصح إقراره، وإذا لم يصح إقراره علم أن أقواله باطلة كأقوال المجنون.

·  ما ورد في قصة حمزة - رضي الله عنه -  لما عقر بعيري علي - رضي الله عنه -  فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقف عليه يلومه فيه النظر وصوبه وهو سكران، وقال: هل أنتم إلا عبيد لأبي فنكص النبي - صلى الله عليه وسلم - على عقبيه وهذا القول لو قاله غير لكان ردة وكفرا ولم يؤاخذ بذلك حمزة.

·  ما صح عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -  أنه قال: ليس لمجنون ولا سكران  طلاق، وقال: عطاء طلاق السكران لا يجوز، وصح عن عمر بن عبد العزيز أنه أتي بسكران طلق فاستحلفه بالله الذي لا إله إلا هو طلقها وهو لا يعقل فحلف فرد إليه امرأته وضربه الحد.

·      أنه لا يقع الطلاق إلا ممن يعلم ما يقول كما أنه لا تصح صلاته في هذه الحالة ومن لا تصح صلاته لا يقع طلاقه.

·  أنه ليس للسكران قصد صحيح , والإيقاع يعتمد القصد الصحيح ; ولهذا لا يصح من الصبي , والمجنون، ولأن غفلته عن نفسه فوق غفلة النائم , فإن النائم ينتبه إذا نبه والسكران لا ينتبه , ثم طلاق النائم لا يقع , فطلاق السكران , أولى.

·  أنه لا يصح أن يقال بأن غفلته هنا بسبب المعصية , وذلك سبب للتشديد عليه لا للتخفيف , لأن السكران لو ارتد تصح ردته بالاتفاق , ولا تقع الفرقة بينه وبين امرأته , ولو اعتبر هذا المعنى ; لحكم بصحة ردته.

·  أن خطابه يحمل على الذي يعقل الخطاب أو على الصاحي، وأنه نهي عن السكر من أجل الصلاة وأما من لا يعقل فلا يؤمر ولا ينهى.

·      أن  إلزامه بجناياته محل نزاع لا محل وفاق، فعن أحمد أنه كالمجنون في كل فعل له العقل.  

·      ما أجمع العلماء عليه بأن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس.

·  أن الإجماع منعقد على أن شرط التكليف العقل، وأن من لا يعقل ما يقول فليس بمكلف، ولو كان مكلفا لوجب أن يقع طلاقه إذا كان مكرها على شربها أو غير عالم خمر وهم لا يقولون به.

·  إن الحد عقوبة، وقد حصل رضي الله سبحانه من هذه العقوبة بالحد ولا عهد لنا في الشريعة بالطلاق والتفريق بين الزوجين.

·  أن حديث)لا قيلولة في الطلاق (خبر لا يصح، ولو صح لوجب حمله على طلاق   مكلف يعقل دون من لا يعقل، ولهذا لم يدخل فيه  طلاق  المجنون.

·      أن خبر :(كل طلاق جائز إلا  طلاق المعتوه (لا يصح، ولو صح لكان في المكلف.

الترجيح :

نرى أن الأرجح في المسألة هو التفريق بين أحوال السكران، فإن كان له بعض العقل الذي يعي به ما يقول، وقصد الطلاق من غير غضب ونحوه، فإن طلاقه يقع، لأن له القدرة العقلية الكافية للتصرف، ولو صح حمل القول الأول على هذا لانتفى الخلاف، لاتفاق أصحاب القول الثاني على أن من بقي معه من عقله ما يدرك به ويصح معه القصد صح طلاقه.

وقد فهم الباجي في محاولته للجمع بين روايات المالكية في المسألة هذا من اختلاف الروايات فقال:) والذي عندي في هذا أن السكران المذكور لا يذهب عقله جملة , وإنما يتعين مع صحة قصده إلى ما يقصده ولذلك يقتص منه في القتل لا خلاف فيه , وأما لو بلغ إلى حد أن يغمى عليه ولا يبقى له عقل جملة فهذا لا يصح منه تطليق إذا بلغ هذه الحالة ولا يتهيأ منه ضرب ولا قصد إلى قتل ولا غيره , وإنما تكلم الفقهاء على المعتاد من سكر الخمر ; لأن سكر الخمر ليس بمنزلة الجنون الذي يذهب العقل جملة , وإنما يتغير العقل تغييرا يجترئ به على معان لا يجترئ عليها صاحيا كالسفيه , ولو علم أنه بلغ حد الإغماء لما اقتص منه ولا لزمه طلاق ولا غيره كسائر من أغمي عليه(

والقول بعدم وقوع طلاق السكران يتوافق مع ما ذكرنا من لزوم تضييق دائرة الطلاق ما أمكن، أما ما يستشعره البعض من بغض للسكر، ولزوم عقوبته ،فإن هذا البغض لا ينبغي أن يتعدى حده ليفرق بين الزوجين بسببه، فقد يتوب السكران ويصلح حاله، ثم لماذا نلزمه الطلاق عقوبة وقد جعل الشرع للسكر عقوبته الخاصة به؟ ثم من نحن حتى نعاقبه؟

وقد ذكر ابن حزم أن اعتبار العقوبة هو أعظم ما دعا للقول بوقوع طلاق السكران، فقال: (فنظرنا فيما يحتج به من خالف قولنا، فوجدناهم يقولون هو أدخل على نفسه ذهاب عقله بمعصيته لله تعالى فقلنا: فكان ماذا ومن أين وجب إذا أدخل ذلك على نفسه أن يؤاخذ بما يجنى في ذهاب عقله؟ وهذا ما لا يوجد في قرآن ولا سنة) [111]

ثم ذكر من مثالا متفقا عليه يدل على أن المعصية لا تعني التضييق على العاصي فيما أحل له، فقال:) ولا خلاف بينكم فيمن تردى ليقتل نفسه عاصيا لله تعالى فسلمت نفسه إلا أنه سقط على رأسه، ففسد عقله، وفيمن حارب وأفسد الطريق فضرب في رأسه ففسد عقله أنه لا يلزمه شيء مما يلزم الأصحاء، وهو الذي أدخل على نفسه الجنون بأعظم المعاصي، ثم لا يختلفون فيمن أمسكه قوم عيارون فضبطت يداه ورجلاه وفتح فمه بكلوب وصب فيه الخمر حتى سكر أنه مؤاخذ بطلاقه وهو لم يدخل على نفسه شيئا ولا عصى فظهر فساد اعتراضهم([112]

ثم إن الأصول الشرعية مثلما ذكرنا سابقا تؤيد عدم وقوع طلاق السكران، وقد قال ابن تيمية :(من تأمل أصول الشريعة ومقاصدها تبين له أن هذا القول هو الصواب، وأن إيقاع طلاق السكران قول ليس له حجة صحيحة يعتمد عليها، ولهذا كان كثير من محققى مذهب مالك والشافعى كأبى الوليد الباجى وأبى المعالى الجوينى يجعلون الشرائع في النشوان، فأما الذى علم أنه لا يدرى ما يقول فلا يقع به طلاق بلا ريب)

هذا فيما يتعلق بتصرفات السكران المرتبطة بالطلاق، أما في غيرها فيؤاخذ للمفاسد التي تنجر من رفع التكليف عنه، وقد قال ابن تيمية في بيان الفرق بين الأمرين:) إن إلغاء أقواله لا يتضمن مفسدة، لأن القول المجرد من غير العاقل لا مفسدة فيه بخلاف الأفعال، فإن مفاسدها لا يمكن إلغاؤها إذا وقعت، فإلغاء أفعاله ضرر وفساد منتشر بخلاف أقواله فإن صح هذان الفرقان بطل الإلحاق وإن لم يصحا كانت بين أقواله وأفعاله متعينة (

4 ـ الغضب

تعريف الغضب :

لغة: غَضِبَ عليه من باب طرِب، ومَغْضَبَةً كمتربة، ورجل غَضْبَانٌ،وامرأة  غَضْبَى وغَضْبَانَةٌ، وقوم  غَضْبَى وغَضَابَى كسَكْرى وسَكارى، ورجل غُضُبَّةٌ بضم الغين والضاد وتشديد الباء يغضب سريعا، وغَضِبَ لفلان إذا كان حيا وغِب به إذا كان ميتا وغاضَبَهُ راغمه، وقوله تعالى :﴿ مُغَاضِباً ﴾ أي مُراغما لقومه وامرأة غَضُوبٌ أي عبُوس.

اصطلاحا: هو تغير يحصل عند ثوران دم القلب ذروته الانتقام[113]، وقد ذكر العلماء للغضب بحسب شدته وضعفه ثلاث درجات لها علاقة بما سنذكره من حكم طلاق الغضبان، هذه الدرجات هي:

الغضب البسيط: وهو الذي لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه، ويعلم ما يقول وما يقصده. 

الغضب الشديد: وهو ما يغلق عليه باب العلم والإرادة  بحيث لا يعلم ما يقول ولا يريده.

الغضب المتوسط: وهو ما كان وسطا بين الغضب البسيط والغضب الشديد.

حكم طلاق الغضبان:

أما الغضب البسيط فلا خلاف بين العلماء في وقوع طلاقه وصحة عقوده، ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردده فكره.

ولا خلاف كذلك في عدم وقوع طلاق صاحب الغضب الشديد ،لأن أقوال المكلف لا تعتبر إلا بعلمه بصدورها منه وبفهمه لمعناها، وإرادته للتكلم بها ،فلذلك لا يؤاخذ النائم والمجنون والسكران، ومن يتكلم باللفظ وهو لا يعلم معناه.

أما الغضب المتوسط، فيختلف حكمه باختلاف أسبابه، وأسبابه ثلاثة واحد متفق على وقوع الطلاق فيه واثنان مختلف فيهما:

السبب المتفق على وقوع الطلاق فيه:

وهو الطلاق مع العلم والقصد، لا مجرد إطفاء الغضب، كأن يكون قد غضب عليها لما علم وقوع شيء  منها، فتكلم بكلمة الطلاق قاصدا للطلاق عالما بما يقول، قاصدا من ذلك عقوبتها على ذلك، فهذا يقع طلاقه بالضرورة، إذ لو لم يقع هذا الطلاق لم يقع أكثر الطلاق فانه غالبا لا يقع مع الرضا.

ومثاله ما لو زنت امرأته فغضب، فطلقها، لأنه لا يرى المقام مع زانية، فلم يقصد بالطلاق إطفاء نار الغضب، بل التخلص من المقام مع زانية، بخلاف من خاصمته زوجته وهو يعلم من نفسه إرادة المقام معها على الخصومة وسوء الخلق، ولكن حملة الغضب على أن يشفي نفسه بالتكلم بالطلاق كسرا لها وإطفاء لنار غضبه.

الأسباب المختلف فيها :

السبب الأول: الطلاق لمجرد الظن الذي ينفيه التحقيق :

وهو أن يبلغه عن زوجته مثلا ما يشتد غضبه لأجله، ويظن أنه حق فيطلقها لأجله، ثم يتبين أنها بريئة منه، وأكثر الفقهاء على وقوع طلاقه، للأدلة التي سنذكرها، ورجح ابن القيم عدم وقوع طلاقه، لأنه إنما أوقع الطلاق لعلة فإذا انتفت العلة تبين أنه لم يكن مريدا لوقوعه بدونها، سواء صرح بالعلة أو لم يصرح بها، لأن العلة بمنزلة الشرط، كما لو قال: أنت طالق، وقال: أردت إن فعلت كذا وكذا.

السبب الثاني: طلاق الغاضب من غير قصد :

وهو أن لا يقصد أمرا بعينه، ولكن الغضب حمله على ذلك وغير عقله ومنعه كمال التصور والقصد، فكان بمنزلة الذي فيه نوع من السكر والجنون ،فليس هو غائب العقل بحيث لا يفهم ما يقول بالكلية، ولا هو حاضر العقل بحيث يكون قصده معتبرا، وقد اختلف الفقهاء في وقوع طلاق من غضب هذا الغضب على قولين:

القول الأول: وقوع طلاقه، وهو قول جمهور العلماء[114]، ومن الأدلة على ذلك:

·  أن الغضبان أتى بالسبب اختيارا وأراد في حال الغضب ترتب أثره عليه، ولا يضر عدم إرادته له في حال رضاه إذ الاعتبار بالإرادة إنما هو التلفظ، بخلاف المكره فإنه محمول على التكلم بالسبب غير مريد لترتب أثره عليه وبخلاف السكران المغلوب عقله، فإنه غير مكلف والغضبان مكلف مختار فلا وجه لإلغاء كلامه.

·  أنه لا يصح قياس الغضبان على المكره، لأن المكره إذا تكلم بما اكره عليه دفع عنه الضرر والغضبان لا يدفع عنه بهذا القول ضررا.

·      أنه يلزم من عدم وقوع طلاقه أنه لو حلف في هذه الحال لا تنعقد يمينه.

القول الثاني: عدم وقوع طلاقه، وهو اختيار الطحاوي وأبي الحسن الكرخي وإمام الحرمين وابن تيمية وأحد قولي الشافعي، وقول الإمامية[115]، وقد استدل ابن القيم لذلك بالأدلة الكثيرة، وسنذكر الكثير منها هنا لأهمية المسألة، وقد قسمناها كما يلي:

من القرآن الكريم:

·  النصوص الدالة على عدم المؤاخذة إلا بالكسب، ومنها قوله تعالى :﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيم﴾(البقرة:225) ووجه الاستدلال بالآية هو ما روي في تفسيرها من اعتبار الغضب من لغو اليمين، فعن ابن عباس - رضي الله عنه -  قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان، وعن طاووس قال: كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان فلا كفارة عليه فيها لقوله تعالى: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾(البقرة:225) [116]

·  أن الله تعالى قد جعل لغو اليمين مقابلا لكسب القلب، كما قال تعالى ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾(البقرة:225) مع العلم أن الغضبان والحالف على الشيء يظنه كما حلف عليه لم يكسب قلبه عقد اليمين ولا قصدها، والله تعالى قد رفع المؤاخذة بلفظ جرى على اللسان لم يكسبه القلب ولا يقصده فلا تجوز المؤاخذة بما رفع الله المؤاخذة به، ومن هذا الباب لم يؤاخذ الله تعالى الذي اشتد فرحه بوجود راحلته بعد الإياس منها فلما وجدها أخطأ من شدة الفرح وقال :(اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، فجرى هذا اللفظ على لسانه من غير قصد فلم يؤاخذه كما يجري الغلط في القرآن على لسان القارئ.

·  أن دعاء الغضبان على أهله في حال غضبه لا يصح ولا يؤثر، وهو المقصود بقوله تعالى :﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون﴾(يونس:11)، وقوله تعالى: ﴿ وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴾(الإسراء:11)، ووجه الاستدلال بالآيتين هو قول مجاهد في تفسيرها بأن ذلك هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليهم: اللهم لا تبارك فيه والعنه، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب في الخير لأهلكهم، فصار الغضب بهذا مانعا من انعقاد سبب الدعاء مع دلالة النصوص على أن تأثيره في الإجابة أسرع من تأثير الأسباب في أحكامها، فالله تعالى يجيب دعاء الصبي والسفيه والمجنون ومن لا يصح طلاقه ولا عقوده رحمة من الله تعالى به، فعدم إيقاع طلاقه ينبغي أن تكون من هذا الباب.

·  قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(الأعراف:150)،  ووجه الاستدلال بالآية: أن موسى uلم يكن ليلقي ألواحا فيها كلام الله تعالى فيكسرها اختيارا منه لذلك، ولا كان فيه مصلحة لبني إسرائيل، وإنما حمله على ذلك الغضب فعذره الله تعالى به، ولم يعتب عليه بما فعل ،لأن مصدره الغضب الخارج عن قدرة العبد واختياره فالمتولد عنه غير منسوب إلى اختياره ورضاه به.

·  وقد ذكر ابن القيم إشارة في قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ﴾(الأعراف:154)، وهي أن الله تعالى عدل عن قوله سكن إلى قوله (سكت) تنزيلا للغضب منزلة السلطان الآمر الناهي الذي يقول لصاحبه: افعل لا تفعل فهو مستجيب لداعي الغضب الناطق فيه المتكلم على لسانه فهو أولى بان يعذر من المكره الذي لم يتسلط عليه غضب يأمره وينهاه، ولهذا يقاس الغضبان على المكره[117].

·  النصوص الدالة على أن الغضب من الشيطان كقوله تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(الأعراف:200) لأن ما يتكلم به الغضبان في حال شدة غضبه من طلاق وأو شتم ونحوه هو من نزغات الشيطان فإنه يلجئه إلى أن يقول ما لم يكن مختارا، والدليل على ذلك ما ورد في الحديث أن رجلين استبا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى احمر وجه أحدهما وانتفخت أوداجه، فقال - صلى الله عليه وسلم - :(إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) [118]،  وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار، وانما تطفأ النار بالماء ،فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) [119]، وإذا كان هذا السبب وأثره من إلجاء الشيطان لم يكن من اختيار العبد فلا يترتب عليه حكمه.   

من السنة المطهرة:

·  قوله - صلى الله عليه وسلم - :(لا طلاق ولا عتاق في اغلاق) [120]، وقد كان الخلاف في هذا الحديث هو سبب الخلاف في كثير من مسائل أحوال المطلق، وقد ذكر ابن القيم أنه اختلف في تفسير الإغلاق على ثلاثة تفسيرات[121]، هي:

التفسير الأول: أنه الإكراه، وهو قول أهل الحجاز، لأن الذي اكره على أمر قد أغلق عليه باب القصد والإرادة لما أكره عليه، فالإغلاق في حقه بمعنى إغلاق أبواب القصد والإرادة له، ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - :(لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له) [122]

التفسير الثاني: هو الغضب الشديد، وهو قول أهل العراق، لأن الغضبان هو الذي يمنعه الغضب من معرفة ما يقول وقصده فهو من أعظم الإغلاق، وهو في هذا الحال بمنزلة المجنون ،وهذا لا يتوجه فيه نزاع انه لا يقع طلاقه والحديث يتناول هذا القسم قطعا.

التفسير الثالث: أن الإغلاق يشمل هذا النوع من الغضب زيادة على شموله معنى الإكراه.

·  قوله - صلى الله عليه وسلم - :(لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين) [123]، ووجه الاستدلال بالحديث أنه إذا كان النذر وهو طاعة محضة قد أثر الغضب في انعقاده لكون الغضبان لم يقصده، وإنما حمله على بيانه الغضب فالطلاق بطريق الأولى، أما ترتب الكفارة على النذر، فلأن الكفارة لا تستلزم التكليف، ولهذا تجب في مال الصبي والمجنون إذا قتلا صيدا أو غيره وتجب على قاتل الصيد ناسيا أو مخطئا، وتجب على من وطئ في نهار رمضان ناسيا عند كثير من العلماء.

·  قوله - صلى الله عليه وسلم - :(لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) [124]، ووجه الاستدلال بالحديث، أنه لولا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينهه عن الحكم حال الغضب.

·  قوله - صلى الله عليه وسلم - :(إنما أنا بشر، وإني اشترطت على ربي عز وجل أي عبد من المسلمين شتمته أو سببته أن يكون ذلك له زكاة وأجرا) [125]، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مريدا لما دعا به في الغضب لما شرط على ربه وسأله أن يفعل بالمدعو عليه ضد ذلك، إذ من الممتنع اجتماع إرادة الضدين، وقد صرح بإرادة أحدهما مشترطا على ربه فدل على عموم برادته لما دعا به في الحال الغضب، هذا وهو النبي معصوم الغضب كما هو معصوم الرضا وهو مالك لفظه بتصرفه، فكيف بمن لم يعصمه في غضبه وتمليكه ويتصرف فيه غضبه ويتلاعب الشيطان به فيه.

·  عن ابن عباس - رضي الله عنه -  قال:(الطلاق عن وطر، والعتق ما ينبغي به وجه الله) [126]، فحصر- رضي الله عنه -  الطلاق فيما كان عن وطر وهو الغرض المقصود، والغضبان بهذه الصورة لا وطر له.

الأدلة العقلية :

الاستصحاب:

·  أن الطلاق حكم شرعي يستدعي دليلا شرعيا، وهو إما نص أو معقول نص، وكلاهما منتف، وبما أن اللازم منتف فالملزوم مثله.   

·  أن النكاح ثابت بإجماع فلا يزول إلا بإجماع مثله، أو أن نكاحه قبل صدور هذا اللفظ منه ثابت بالإجماع والأصل بقاؤه حتى يثبت ما يرفعه.

القياس :

قياس الغضبان عل المكره: وذلك من الوجوه التالية:

·  أن كلاهما يشترك في إرادة التنفيس عن الألم، لأن الأمر الذي حمل المكره على التكلم بالطلاق هو قصد الاستراحة من توقع ما أكره به أو من ألم ما أكره به، وهو يستوي في هذا مع الغضبان لأنه إذا اشتد به الغضب يألم بحمله، فيقول ما يقول ويفعل ما يفعل ليدفع عن نفسه حرارة الغضب، فيستريح بذلك، ومثله من يلطم وجهه ويصيح صياحا قويا ويلقي ما في يده دفعا لألم الغضب.

·  أن العاقل لا يستدعي الغضب ولا يريده، بل هو اكره شئ إليه، فلذلك لم يكن ذلك مضافا إلى اختياره وإرادته، فكما أن إرادة السبب إرادة للمسبب، فكذلك كراهة السبب وبغضه كراهة للمسبب.

·  أن الخوف في قلب المكره كالغضب في قلب الغضبان، لكن المكره مقهور بغيره من خارج، والغضبان مقهور بغضبه الداخل فيه، وقهر الإكراه يبطل حكم الأقوال التي أكره عليها ويجعلها بمنزلة كلام النائم والمجنون دون حكم الأفعال لأنه يقتل إذا قتل ويضمن إذا تلف، فكذلك قهر الغضب يبطل حكم أقوال الغضبان دون أفعاله حتى لو قتل في هذه الحالة قتل أو أتلف شيئا ضمنه.

·  أن المكره أحسن حالا من الغضبان من عدة وجوه، فلذلك لا يقع طلاقه من باب فحوى الخطاب، ومن الأمور التي يفضل فيها المكره على الغضبان:

(1) أن للمكره قصدا وإرادة حقيقة لكنه محمول عليه، أما الغضبان فليس له قصد في الحقيقة فإذا لم يقع طلاق المكره، فطلاق هذا أولى بعدم الوقوع.

(2) أن الغضبان قد يفعل امورا من شق الثياب وإتلاف المال ما لو أكره بها لم يفعلها، وهذا يدل على أن المقتضي لفعلها فيه اولى من اقتضاء الاكراه لفعلها والمكره لو فعل به ذلك كان مكرها فالغضبان كذلك.

قياس الغضبان على الناسي: لأن الناس لا يؤاخذ بنسيانه، ولهذا لم يؤاخذ فتى موسى u لما قال :﴿ وَمَا أَنْسَانِي إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾(الكهف:63)، والعلة في عدم المؤاخذة به هي أنه من أثر فعل الشيطان في القلب، وهو يشترك في ذلك مع الغضب فقد أخبر النبي  - صلى الله عليه وسلم - أن الغضب من الشيطان، فيكون أثره مضافا إليه، فلا يؤاخذ به العبد كأثر النسيان.

فلو حلف ـ مثلا ـ أن لايتكلم بكذا، فتكلم به ناسيا لم يحنث لعدم قصده وارادته لمخالفة ما عقد يمينه عليه، وهذه نفس حال الغضبان، لأنه لم يقصد حقيقة ما تكلم به وموجبه بل جرى على لسانه كما جرى كلام الناسي على لسانه.

قياس الغضبان على المريض: فالغضب مرض من الأمراض وداء من الأدواء، يقول ابن القيم:(هو في أمراض القلوب نظير الحمى والوسواس والصرع في أمراض الأبدان ،فالغضبان المغلوب في غضبه كالمريض والمحموم والمصروع المغلوب في مرضه والمبرسم المغلوب في برسامه) [127]

ثم بين وجه القياس على الغضب المتوسط بقوله :(وهذا قياس صحيح في الغضبان الذي قد اشتد به الغضب حتى لا يعلم ما يقول، وأما إذا كان يعلم ما يقول ولكن يتكلم به حرجا وضيقا وغلقا لا قصدا للوقوع فهو يشبه المبرسم والهاجر من الحمى من وجه، ويشبه المكره القاصد للتكلم من وجه، ويشبه المختار القاصد للطلاق من وجه فهو متردد بين هذا وهذا وهذا، ولكن جهة الاختيار والقصد فيه ضعيف فإنه يعلم من نفسه أنه لم يكن مختارا لما صدر منه من خراب بيته وفراق حبيبه وكونه يراه في يد غيره فإن كان عاقلا لايختار هذا الا ليدفع به ما هو أكره إليه منه أو ليحصل به ما هو أحب إليه فإذا انتفى هذا أو هذا لم يكن مختارا لذلك وهذا أمر يعلمه كل إنسان من نفسه فصار تردده بين المريض المغلوب والمكره المحمول على الطلاق وأيهما كان فانه لا ينفذ طلاقه)

ويذكر أن من الناس من إذا لم ينفذ غضبه قتله أو مرض مرضا شديدا أو أغشى عليه، فإذا نفذ مثل هذا غضبه بقتل أو ظلم لغيره لم يعذر بذلك، أما إذا نفذ بقول فانه يمكن إهدار قوله وان لا يترتب أثره عليه، وخاصة إذا كان التلفظ بالطلاق دواء لهذا المرض وشفاء له بإخراج هذه الكلمة من صدره وتنفسه بها[128]، يقول ابن القيم:(فمن كمال هذه الشريعة ومحاسنها وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة أن لا يؤاخذ بها ويلزم بموجبها وهو لم يلتزمه) [129]

3 ـ أن العبرة في العقود بالمقاصد: فالغضبان ليس له قصد معتبر في حل عقدة النكاح، بخلاف الهازل لأنه قصد التكلم باللفظ وإراده رضا واختيار منه لم يحمل على التلفظ به، فالسبب الذي إليه قد أتي به اختيارا وقصدا مع علمه به لم يحمل عليه، والسبب إلى المشرع ليس إليه فلا يصح قياس أحدهما بالآخر وكيف يقاس الغضبان على المتخذ آيات الله هزؤا؟

ثم إن الشريعة اعتبرت العوارض النفسية، وجعلت لها تأثير في القول إهدارا واعتبارا وإعمالا وإلغاء، كما ذكرنا سابقا، وعارض الغضب لا يقل عنها، بل قد يكون أقوى من كثير من سائر العوارض، فإذا كان الواحد من هؤلاء لا يترتب على كلامه مقتضاه لعدم القصد فالغضبان الذي لم يقصد ذلك أن لم يكن أولى بالعذر منهم لم يكن دونهم.   

الترجيح :

نرى أن الأرجح في المسألة والأوفق بمقاصد الشريعة من تضييق باب الطلاق هو القول الثاني، بأدلته الكثيرة، والتي بذل ابن القيم جهده فيها، قال ابن القيم:(هذا ما ظهر في هذه المسألة بعد طول التأمل والفكر، ونحن من وراء القبول والشكر لمن رد ذلك بحجة يجب المصير إليها، ومن وراء الرد على من رد ذلك بالهوى والعناد) [130]

وقد يرى البعض أن معظم هذه الأدلة عامة، وأكثرها فهوم لا علاقة لها بهذا الباب، وهذا خطأ في التعامل مع الأدلة الشرعية، لأنه لو قلنا ذلك لعطلنا الأدلة العامة، وانغمسنا فيما نتصوره نحن من خصوصيات قد لا تصح، فالفقه الإسلامي هو شرع الله تعالى، وهذا الشرع يتناسق تناسقا تاما في جميع ميادينه، فلذلك لا غرابة أن يستدل ابن القيم لهذه المسألة بعدم إجابة دعاء الغضبان على ولده، وهي مسألة أقرب للغيب منها للعمل، ومع ذلك فإن وجه الاستدلال صحيح، لأن الذي يستجيب الدعاء هو الله تعالى، فإذا لم يستجب لعبده في حال الغضب، وكان دعاء العبد في ذلك الحال لغو، فالأولى أن يلغى كلامه مع عبد مثله لثبوت الضرر في كليهما.

فالقياس على هذا أصح من القياس على المعاوضات ونحوها لتعلقها بحقوق العباد، ولأن الرحمة بأحد المتعاقدين قد تضر الآخر، أما في الطلاق فالضرر يصيب العاقد والمعقود عليه، فلذلك كانت الرحمة بأحدهما رحمة بالآخر.

ثم إن هذه المسألة مما تعم به البلوى، والفتوى بوقوع طلاق الغضبان إما أن ينتج خراب بيوت الورعين، أو أن يظل الشخص مع زوجته، وهو يعتقد في قرارة نفسه على ما أفتي له أنه في حالة عشرة حرام دائمة معها، وفي ذلك ما فيه من المفاسد والأضرار.

وقد استقبلت رسالة ابن القيم في عدم وقوع طلاق الغضبان بالرفض من كثير من الفقهاء حتى الحنابلة أنفسهم، قال ابن عابدين نقلا عن بعض الحنابلة:) وللحافظ ابن القيم الحنبلي رسالة في طلاق الغضبان قال فيها إنه على ثلاثة أقسام أحدها أن يحصل له مبادي الغضب بحيث لا يتغير عقله ويعلم ما يقول ويقصده وهذا لا إشكال فيه، الثاني أن يبلغ النهاية فلا يعلم ما يقول ولا يريده فهذا لا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله، الثالث من توسط بين المرتبتين بحيث لم يصر كالمجنون، فهذا محل النظر والأدلة تدل على عدم نفوذ أقواله(، فبعد أن حكى قول ابن القيم في المسألة قال:) لكن أشار في الغاية [وهو من كتب الحنابلة] إلى مخالفته في الثالث حيث قال: ويقع طلاق من غضب خلافا لابن القيم (، ويعقب عليه في الحاشية بقوله:) وهذا الموافق عندنا([131]

ونقل ابن حجر عن بعضهم قوله في الرد على ابن القيم، فقال:) وقال ابن المرابط: الإغلاق حرج النفس، وليس كل من وقع له فارق عقله، ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان  لكان لكل أحد أن يقول فيما جناه كنت غضبانا(،قال ابن حجر تعقيبا عليه:) وأراد بذلك الرد على من ذهب إلى أن الطلاق في الغضب لا يقع، وهو مروي عن بعض متأخري الحنابلة، ولم يوجد عن أحد من متقدميهم الا ما أشار إليه أبو داود([132]

وفي مقابل ذلك كتب الرصافي قصيدته التي أشرنا إليها سابقا يثني فيها على ابن القيم، ويذكر في ذلك قصة امرأة طلقها زوجها في حال غضب، ثم يذكر لهما ما حصل بعد ذلك من ندم وحسرة، ولهذا التصوير قيمته في الترجيح، فالفقيه هو الذي يتصور ما ينجر عن المسألة من المخاطر قبل الرمي بفتواه، فإن رأى ما لديه من قناعة من حيث الأدلة أو من حيث المذهب الذي يقلده، يتنافى مع المصلحة الشرعية، فالأولى أن يسكت ويتوقف حتى لا يضر غيره لقناعة اقتنعها اليوم قد يقتنع بغيرها غدا، أو لإمام اتبعه اليوم قد يتبع غيره غدا، يقول الرصافي:

بدت كالشمس يحضنها الغروب      فتاة راع نضرتها الشحوب

مـنزهة عن الفحشـاء خود       مـن الخفرات آنسة عروب

نـور تستـجد بـها المعالي        وتبـلى دون عفتها العيوب

وبعد أن وصفها بما شاء أن يصفها به من حسن وجمال ذكر تغير حالها فجأة، فقال:

ولكن الشوائب أدركـتـه                فعاد وصفوه كدر مشوب

ذوي منها الجمال الغض وجدا           وكـاد يجف ناعمه الرطيب

أصابت من شيـبتـها الليالي            ولم يـدرك ذؤابتها المشيب

ثم يذكر سبب هذا التغير المفاجئ الذي حصل لها، وهو تطليق زوجها لها في حالة غضب ليس معها، فقد كان حبل المودة بينهما متصلا، وإنما مع رفقائه وخلطائه:

رعى ورعت فلم تر قط منه    ولم ير قط منها ما يريب

توثق حبل ودهما حضـورا     ولم ينكث توثقه المغيب

فغاضب زوجها الخلطاء يوما   بامر للخلاف به نشوب

فاقسم بالطلاق لهم يمينا        وتلك النية خطا وحوب

وطلقها على جهل ثلاثا   كذلك يجهل الرجل الغضوب

وبعدما حصل هذا الطلاق الثلاث في تلك الحالة ذهب لأصحاب الفتوى الذين سارعوا للتفريق بينه وبين زوجته:

وأفتى بالطلاق طلاق بت      ذوو فتيا تعصبهم عصيب

فبانت عنه لم تأت الدنايا      ولم يعلق بها الذام المعيب

ثم يصور تصويرا جميلا ما حصل لهما بعد الطلاق من حزن وأسف تجعل المفتي الذي يتصور هذه الحالة يتوقف دهرا قبل أن ينبس بكلمة:

فظلت وهي باكية تنادي     بصوت منه ترتجف القلوب

لماذا يا نجيب صرمت حبلي    وهل أذنبت عندك يا نجيب

ابن ذنبي إلي فدتك نفسي    فـإني عـنه بعدئـذ أتوب

أما عاهدتـني بالله أن لا يـفـرق بيننا إلا شعــوب

لئن فارقتـني وصددت عني   فقلبي لا يفـارقه الوجيب

فما لفتت إليه الـجيد حـتى   تخطفه بأزمـتـيه ذيب

فراحت من تحـرقها عليه  بـداء مـالها فيـه طبـيب

تشم الأرض تطلب منه ريحا  وتنجب والبغام هو النحيب

وتمـزع في الفـلاة لغير وجـه وآونة لمصرعـه تؤوب

ويذكر إجابته لها وحسرته عليها، والتي لا تقل عن حسرتها عليه، فيقول:

فأطرق رأسه خجلا وأغضى     وقال ودمع عينيه سكوب

نجيبة اقصري عني فاني      كـفاني من لظي الندم اللهيب

وما والله هجرك باختياري     ولكن هكذا جرت الخطوب

فليس يزول حبك من فؤادي وليس العيش دونك لي يطيب

وفي الأخير يثني على ابن القيم، وموقفه من الطلاق عموما، ومن طلاق الغضبان على الخصوص، فيقول:

فدى ابن القيم الفقهاء كم قد   دعاهم للصواب فلم يجيبوا

ففي إعلامه للناس رشد ومـزدجـر لـمن هو مستريب

نحا فيما اتاه طريق علم  نــحاها شيخه الحـبر الاديب

وبين حكم دين الله لكن   من الغــالين لم تعه  القلوب

لعل الله يحدث بعد أمرا     لــنا فيخيب منهم من يخيب

5 ـ الهزل

تعريفه:

لغة: الهَزْل: نقـيض الـجِدّ، يقال: هَزَلَ يَهْزِلُ هَزْلاً؛ قال الكميت:

أَرانا علـى حُبِّ الـحياةِ وطُولها    تَـجِدُّ بنا فـي كل يوم ونَهْزِلُ

وهَزَل الرجلُ فـي الأَمر إِذا لـم يجدَّ، وهازَلنـي؛ قال:

       ذو الـجِدِّ إِنْ جَدَّ الرجال به     ومُهازِلٌ إِن كان فـي  هَزْلِ 

 ورجل هِزِّيلٌ: كثـير الهَزْل. وأَهْزَلهُ: وجَدَه لَعَّاباً، والهَزْل واللَّعِب من وادٍ واحِد، والـياء زائدة، وفلان يَهْزِل فـي كلامه إِذا لـم يكن جادَّاً؛ تقول: أَجادٌّ أَنت أَم هازِل؟. والـمُشَعْوِذُ إِذا خفَّت يداه بالتَّـخايـيل الكاذبة ففِعْله يقال له الهُزَيْلـي، لأَنها  هَزْل   لا جِدَّ فـيها. والهُزَالة: الفُكاهة. وقال ابن الأَعرابـي: الهَزل استرخاء الكلام وتَفْنـينه [133].

اصطلاحا: عرفه السرخسي بأنه اسم لكلام يكون على نهج كلام الصبيان، لا يراد به ما وضع له[134]، وعرفه ابن القيم بأنه الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته , بل على وجه اللعب[135]، وعرف بأن يراد بالشيء ما لم يوضع له، وهو ضد الجد، وهو أن يراد بالشيء ما وضع له[136].

وليس المراد من الوضع هاهنا وضع أهل اللغة لا غير ،كالأسد للهيكل المعلوم والإنسان للحيوان الناطق، بل المراد وضع العقل أو الشرع،لأن الكلام موضوع عقلا لإفادة معناه حقيقة كان أو مجازا، والتصرف الشرعي موضوع لإفادة حكمه، فإذا أريد بالكلام غير موضوعه العقلي، وهو عدم إفادة معناه أصلا، وأريد بالتصرف غير موضوعه الشرعي، وهو عدم إفادته الحكم أصلا فهو الهزل.

وبهذا يتبن الفرق بين المجاز والهزل، لأن الموضوع العقلي للكلام وهو إفادة المعنى في المجاز مرادا، وإن لم يكن الموضوع له اللغوي مرادا، وفي الهزل كلاهما ليس بمراد، ولهذا فسر الهزل باللعب، لأن اللعب ما لا يفيد فائدة أصلا، وعبر عنه بعضهم بأنه ما لا يراد به معنى، ولتفادي هذا الاشتباه كان أنسب التعاريف أن يقال بأن الهزل هو كلام لا يقصد به ما صلح له الكلام بطريق الحقيقة، ولا ما صلح له بطريق المجاز[137].

حكم طلاق الهازل:

الكلام في حكم طلاق الهازل يختلف عن كل ما سبق ذكره من أحوال المطلق وغيرها، لأن الأدلة فيه مع المصلحة مع أقوال  الفقهاء تجتمع على القول بوقوع طلاقه، فقد اتفق الفقهاء على وقوع طلاقه، بل حكي الإجماع على ذلك،قال المناوي:)يقع طلاق الهازل وحكي عليه الإجماع)[138]

وسنذكر هنا أدلة الاتفاق على هذا القول والمصالح التي تنشأ عنه، والغرض من ذكر هاتين الناحيتين هنا أن الكثير من الأقوال في المسائل السابقة تستند لاعتبار الشرع لطلاق الهازل، ويتصور البعض أن من خالف تلك الأقوال سيخالفها في هذه المسألة، فيقع في مخالفة النص تغليبا للمصلحة.

وهذا لا يصح لأنه لولا خلو الطلاق من المصالح لما اعتبره الشرع، ولكن اعتباره محدود بعدم المضرة، فكان الأنسب في هذا هو أن يتوقف الحكم بالطلاق وعدمه على جلب مصالحه ودرء مفاسده، وليس ذلك بالاستحسان ولا الهوى ولا الآراء التي تختلف فيها العقول، بل يكفي العمل بالأدلة خاصها وعامها في التعرف على المصالح وإعمالها والمفاسد ودرئها.

وفيما يلي عرض لبعض ما يتعلق بذلك:

الأدلة الشرعية:

·  قوله- صلى الله عليه وسلم -:) ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح , والطلاق , والرجعة ([139]

·  ورود الآثار عن السلف الصالح - رضي الله عنهم -  في ذلك، ومنها[140]: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : أربع جائزات إذا تكلم بهن الطلاق, والعتاق, والنكاح، والنذر، وقال علي - رضي الله عنه - : ثلاث لا لعب فيهم: الطلاق , والعتاق , والنكاح، ووقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : ثلاث اللعب فيهن كالجد: الطلاق , والعتاق , والنكاح، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : النكاح جده ولعبه سواء.

·  أن الهازل أتى بالقول غير ملزم لحكمه , وترتيب الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد, فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أم أبى ; لأن ذلك لا يقف على اختياره.

·      أن الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه , وقصد اللفظ المتضمن للمعنى قصد لذلك للمعنى لتلازمهما , إلا أن يعارضه قصد آخر كالمكره والمخادع المحتال ; فإنهما قصدا شيئا آخر غير معنى القول وموجبه.

·  أن الهازل يختلف عن المكره، لأن قصد المكره دفع العذاب عن نفسه ولم يقصد السبب ابتداء، أما الهازل فقصد السبب ولم يقصد حكمه، ولا ما ينافي حكمه فترتب عليه أثره.

·  أن هذا لا ينتقض بلغو اليمين، لأن اللاغي لم يقصد السب , وإنما جرى على لسانه من غير قصده ; فهو بمنزلة كلام النائم والمغلوب على عقله.

·      أن الهزل أمر باطن لا يعرف إلا من جهة الهازل , فلا يقبل قوله في إبطال حق العاقد الآخر.

المصلحة الشرعية:

بناء على الأدلة السابقة، وعلى الواقع الذي ترمي الأدلة إلى سموه ورفعته وترفعه، فإن المصلحة لهذا الواقع هو التشديد في هذا الأمر من نواح متعددة، منها:

الناحية الأولى:  تعظيم ما أمر الله بتعظيمه، فالزواج والطلاق أمور معظمة شرعا، بل هي تشبه العبادات في نفسها، ولهذا يستحب عقد الزواج في المساجد، مع النهي عن البيع فيها، فلذلك يجب التعامل معها بالجد الذي تستحقه، فإذا ما أصبحت ميدانا للنكتة والهزل كان في ذلك المفاسد الكبرى سواء على العقيدة أو في السلوك، وقد روي عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -  قال كان الرجل في الجاهلية يطلق، ثم يراجع ويقول: كنت لاعبا، ويعتق ثم يراجع ويقول: كنت لاعبا، فأنزل الله تعالى:﴿ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ﴾(البقرة:231) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :) من طلق أو حرم أو نكح أو أنكح فقال إني كنت لاعبا فهو جاد([141]

قال ابن العربي في تفسيرها:) قال علماؤنا: معناه لا تأخذوا أحكام الله في طريق الهزء , فإنها جد كلها , فمن هزأ بها لزمته..ومن اتخاذ آيات الله هزوا ما روي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق مائة،  فقال: يكفيك منها ثلاث , والسبعة والتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا (فمن اتخاذها هزوا على هذا مخالفة حدودها فيعاقب بإلزامها , وعلى هذا يتركب طلاق الهازل ([142]

وليس في هذا تحريم للعب والمزاح، ولكن المزاح واللعب له حدوده، وقد كان - صلى الله عليه وسلم -  يمزح مع الصحابة ويباسطهم، أما مع ربه تعالى فيجد كل الجد , ولهذا قال للأعرابي يمازحه: من يشتري مني العبد ؟ فقال: تجدني رخيصا يا رسول الله ؟ فقال: بل أنت عند الله غال، وقد قصد - صلى الله عليه وسلم - أنه عبد الله , والصيغة صيغة استفهام , وهو - صلى الله عليه وسلم - كان يمزح ولا يقول إلا حقا.

أما إذا تعلق الأمر بحدود الله وأحكامه فيجد كل الجد، بل إن النكتة في مثل هذا ثقيلة يرفضها الذوق السليم، قال ابن القيم:)  ولو أن رجلا قال: من يتزوج أمي أو أختي، لكان من أقبح الكلام , وقد كان عمر - رضي الله عنه -  يضرب من يدعو امرأته أخته , وقد جاء في ذلك حديث مرفوع رواه أبو داود أن رجلا قال لامرأته: يا أخته , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أختك هي ؟ إنما جعل إبراهيم ذلك حاجة لا مزاحا([143]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:) ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته ([144]

الناحية الثانية: أن في ذلك مصلحة للزوجة حتى لا يؤذيها زوجها في كل الحين بمثل هذا المزاح الثقيل البارد، الذي كان يمارسه أهل الجاهلية الأولى، بل تمارسه الجاهلية المعاصرة عندما تتخذ من قضايا الأسرة الحساسة ميدانا للمسرحيات الهازلة والأفلام الهابطة، والروايات البذيئة، فتجعل من الزواج لعبة تسلية لا كلمة الله الثقيلة وميثاقه الغليظ.

ولنتصور رجلا يدخل على زوجته كل حين ليرمي لها بصيغ الطلاق ما تنهد له الجبال، ثم بعد أن يرى تغير حالها، واحتيارها من هذا التحول المفاجئ، يضحك ضحكة القلوب الفارغة، ويقول لها: إنما كنت أمزح.

كيف نتصور كرامة هذه المرأة التي أصبحت ميدانا للنكتة والمزاح، وكيف نتصور بعد ذلك قيمة هذا الرجل أمامها، وهو يتلاعب معها بأسس العشرة بينهما؟ ثم كيف يقبل قوله بعد ذلك إن طلقها جادا؟ وكيف يتعامل القاضي مع مثل هذه الأحكام، وكل من يأتيه ويرى أن حجته قد دحضت، ضحك وقال: إنما كنت أمزح.

بل إن طلاق الهازل زيادة على هذا يقف دون طلاق الجاد، فيكون بذلك سدا لذريعة طلاق الجد، لأن من عود لسانه شيئا جدا أو هزلا تعوده، فيتحقق في إيقاع هذا الطلاق ما قالته العرب قديما:) القتل أنفى للقتل(، بل ما نص عليه القرآن الكريم في بيانه المعجز:﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾(البقرة:179)

ثالثا ـ التطليق بالوكالة

عرفنا سابقا الوكالة بأنها إقامه الشخص غيره مقام نفسه في تصرف يملكه شرعاً مما يقبل الإنابة، وقد ذكرنا ما يتعلق منها بأحكام الزواج، أما الوكالة في الطلاق فسنتعرض لتفاصيلها في هذا المبحث.

1 ـ الأحكام العامة للتطليق بالوكالة في المذاهب الفقهية

المذهب الحنفي :

قسم الحنفية[145] الوكالة في الطلاق إلى ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: الرسالة: وهو أن يرسل لها رسولاً يخبرها بأن زوجها يقول لها: اختاري، فالرسول ينقل عبارة الزوج إلى المرأة، فلم ينشئ عبارة من نفسه، فإذا نقل لها الرسول ذلك واختارت نفسها بالشرائط الآتية طلقت منه.

الوجه الثاني: التوكيل: وهو أن يقيم الزوج غيره مقام نفسه في تطليق زوجته، سواء كانت المرأة نفسها أو غيرها إلا أن المرأة لا يمكن أن تكون وكيله،لأن الوكيل يعمل عملاً للغير، وعلى هذا يكون توكيلها تفويضاً.

والفرق بين الرسول والوكيل أن الرسول ينقل عبارة الزوج ولا ينشئ عبارة من نفسه، أما الوكيل فإنه يعبر بعبارته فلم ينقل عبارة موكله.

الوجه الثالث: التفويض: وهو تمليك الغير الطلاق، والفرق بين الوكالة والتفويض أن المفوض مالك يعمل بمشيئته، بخلاف الوكيل فإنه يعمل لمشيئته موكله.

وألفاظ التفويض عندهم ثلاثة، هي: الصريح، سواء كان مقيداً بالمشيئة أو لا، وثانيها: اختاري، وثالثها: أمرك بيدك[146].

ويختلف كل من التوكيل والتفويض عندهم في عدة أحكام، منها أن الزوج المفوض لا يملك الرجوع بعد التفويض فإذا قال لامرأته: طلقي نفسك فإنها تملك الطلاق بمجرد قوله هذا، ولو لم تقل: قبلت، وليس له أن يقول: قد رجعت أو قد عزلتك بخلاف التوكيل، فإن له أن يعزل وكيله، وله أن يبطل توكيله بوطء زوجته.

ومنها أن التفويض لا يبطل بجنون الزوج، بخلاف التوكيل، ومنها أنه لا يشترط في المفوض إليه أن يكون عاقلاً، فإذا فوض لامرأته المجنونة أو فوض لصغير لا يعقل وطلق امرأته أو طلقت نفسها وقع الطلاق بخلاف الوكيل فإنه يشترط فيه أن يكون عاقلاً من أول الأمر.

ومنها أن التفويض يتقيد بالمجلس، فإذا قام المفوض إليه من المجلس قبل أن يطلق أو يختار بطل التفويض.

المذهب المالكي :

قسم المالكية[147] الوكالة في الطلاق إلى قسمين:

القسم الأول: الرسالة: وهي أن يرسل الزوج إلى زوجته رسولاً يعلمها بالطلاق، فدور الرسول هو إعلام الزوجة بثبوت الطلاق بعبارة الزوج نفسه، فليس للرسول سوى نقل عبارة الزوج للزوجة لإعلامها بثبوت الطلاق، فنيابة الرسول نيابة بإعلام الزوجة بثبوت الطلاق، وفي هذه الحالة لا يتوقف طلاقها على تبليغها الرسالة، وقد تطلق الرسالة عندهم مجازاً، على ما إذا قال لشخص: طلق زوجتي.

القسم الثاني: تفويض الطلاق: وهو عندهم على ثلاثة أنواع[148] هي:

النوع الأول: التوكيل: وهو ما جعل فيه إنشاء الطلاق للوكيل نيابة عن الموكل، وهو لا يسلب حق الموكل في عزل الوكيل أو رجوعه عن توكيله قبل تمام الأمر الذي وكله فيه، فلو وكلها في تطليق نفسها ففعلت وقع الطلاق، وليس له حق الرجوع حينئذ لأنها أتمت الفعل الذي وكلها فيه، إنما له الرجوع والعزل قبل أن تطلق نفسها.

النوع الثاني: التخيير: وهو جعل الزوج إنشاء الطلاق ثلاثاً حقاً لغيره نصاً أو حكماً، فصيغة التخيير عندهم جعلت لتمليك الغير الطلاق الثلاث نصاً أو حكماً بأنه يملك إنشاء الطلاق الثلاث، فالمخيرة إذا اختارت الطلاق وجب عليها أن تطلق ثلاثاً، وإلا سقط خيارها.

وصيغة التخيير عندهم هي كل لفظ يدل على أن الزوج فوض لامرأته البقاء على عصمته، أو عدم البقاء ومن ذلك أن يقول لها: اختاري نفسك، أو اختاريني أو اختاري أمرك[149].

النوع الثالث: التمليك: وهو جعل إنشاء الطلاق حقاً للغير راجحاً في الثلاث لا نصاً في الثلاث ولا حكماً، فيخص بأقل من الثلاث بالنية.

وصيغة التمليك هي كل لفظ يدل على أن الزوج جعل الطلاق بيد امرأته أو بيد غيرها بدون تخيير، ومن ذلك أن يقول لها: طلقي نفسك أو ملكتك أمرك، أو وليتك أمرك أو أمرك بيدك أو طلاقك بيدك أو نحو ذلك.

المذهب الشافعي:

قسموا[150] الإنابة في الطلاق إلى قسمين:

القسم الأول :التفويض: وقد اشترطوا لإيقاع الطلاق بالتفويض شرطان، هما :

·   أن يكون الطلاق منجزاً، فإذا كان معلقاً، كما إذا قال لها: إن جاء رمضان فطلقي نفسك، فإنه لا يصح ولا تملك الطلاق بذلك، ولا فرق بين أن يملكها الطلاق بلفظ صريح أو كناية، كأن يقول لها: أبيني نفسك إن شئت، بشرط أن ينوي بذلك التفويض وتنوي الزوجة الطلاق، لأنه كناية ولا يقع بها شيء إلا مع النية، ومن ذلك ما إذا قال لها: اختاري نفسك، فإنه يصح أن يكون كناية عن اختيارها الطلاق، فكأنه قال لها: اختاري طلاق نفسك.

·   أن تطلق نفسها فوراً، فلو أخرته بقدر ما ينقطع به القبول عن الإيجاب، لا يقع الطلاق، وقال بعضهم: لا يضر الفصل بكلام يسير، ومحل اشتراط الفورية إذا لم يقل: طلقي نفسك متى شئت، فإذا قال لها ذلك كان لها الحق في تطلق نفسها في أي وقت.

القسم الثاني :التوكيل: وهو أن ينيب عنه غيره في تطليق زوجته.

المذهب الحنبلي :

النيابة في الطلاق عندهم[151] توكيل على حال، سواء كانت بلفظ يدل على تمليك الطلاق، كقوله لها: طلقي نفسك، أو أمرك بيدك، أو كانت بلفظ التخيير، فللزوج أن يرجع عن النيابة قبل تطليق نفسها بأن يعزلها أو يعزل الأجنبي الذي أنابه، أو يعمل عملاً يدل على الرجوع، كأن يطأ زوجته.

ولكل لفظ من ألفاظ التمليك عندهم أحكام تتعلق به، سنعرض لها في الجانب التفصيلي.

ويشترط في إيقاع الطلاق عندهم بالاختيار شروط، هي:

·  أن ينوي الزوج به الطلاق، أو تفويض الطلاق للزوجة، فإن نوى به الطلاق وقع في الحال بدون حاجة إلى قبولها، لأنه كناية خفية، وقد نوى به الطلاق، أما إذا نوى به التفويض فإنه لا يقع إلا إذا أجابت الزوجة، فإن أجابت بالكناية كقوله اخترت نفسي لا يقع إلا بالنية وإن أجابت بالصريح كقولها طلقت نفسي وقع بدون نية منها، كما تقدم في الأمر باليد.

·      أن تطلق نفسها في المجلس، فإن تفرقا قبل اختيار نفسها بطل تخييرها.

·  أن لا يتشاغلا في المجلس بقول أو فعل أجنبي يقطع الخيار، إلا أن يجعل الزوج الخيار في زمن موسع كأن يقول لها: اختاري نفسك أسبوعاً، أو يوماً، أو شهراً، أو نحو ذلك فإنها تملك الخيار في المدة التي حددها.

المذهب الظاهري:

نص ابن حزم على عدم صحة الوكالة في الطلاق مطلقا ولا لزومها كما هو مذهبه في الوكالة عامة، والذي نص عليه بقوله:) لا تجوز وكالة على طلاق , ولا على عتق , ولا على تدبير , ولا على رجعة , ولا على إسلام , ولا على توبة , ولا على إقرار , ولا على إنكار , ولا على عقد الهبة , ولا على العفو , ولا على الإبراء , ولا على عقد ضمان , ولا على ردة , ولا على قذف , ولا على صلح , ولا على إنكاح مطاق بغير تسمية المنكحة والناكح([152]، وسنعرف أدلته على ذلك في محلها من هذا المبحث.

مذهب الإمامية:

نص الإمامية[153] على جواز الوكالة في الطلاق للغائب إجماعا , وللحاضر على الأصح. واختلفوا فيما لو وكلها في طلاق نفسها , فقيل: لا يصح , وقيل: يصح، وفرعوا على ذلك ما لو قال: طلقي نفسك ثلاثا فطلقت واحدة , قيل: يبطل , وقيل: يقع واحدة. وكذا لو قال: طلقي واحدة , فطلقت ثلاثا , قيل: يبطل , وقيل: يقع واحدة.

مذهب الزيدية:

والوكالة عندهم[154] نوعان:

النوع الأول: التمليك، وهو صريح وكناية , فالصريح أن يملكه مصرحا بلفظ أو يأمرها أو غيرها به , مع إن شئت , أو إذا شئت , ونحوه. كنايته أمرك أو أمرها إليك أو اختاريني أو نفسك , فيقع واحدة بالطلاق أو الاختبار في المجلس قبل الإعراض، ومن صيغ التخيير: أمرك إليك فاختاري. أو لغيره: جعلت أمرها إليك , أو بيدك , فيكون تمليكا فإن قال: أمرك بيدك إن شئت. أو متى شئت , أو إذا شئت. فتمليك لها أيضا وكذا: طلاقك موكول إلى خيرتك أو مشيئتك، وهذه الصيغ كلها كناية تمليك , يعتبر فيهما النية لاحتمالها الطلاق وغيره.

ويعتبر في التمليك اختيارها نفسها في المجلس , إذ هو كالقبول، ولها المجلس فقط وإن طال, ما لم يعرض لقول إن طال وقوفها ولو دون يوم , ولم تختر بطل , إذ يكون إعراضا ويبطل بفعل ما يعد إعراضا كأن يبدأ صلاة , أو قراءة أو شغلا ولو لمنفعة , أو دفع مضرة , فإن كانت قائمة فقعدت أو أتمت تسبيحا , أو قراءة يسيرين، فإن سكتت سكوتا طويلا أو قصيرا فإعراض.

ولو قال لغيره: طلق امرأتي إن شئت , أو جعلت أمرها إليك , فتمليك يعتبر القبول في المجلس، وليس له الرجوع قبل قبوله كالمشروط , وإذ الطلاق لا يلحقه الفسخ بعد وقوعه , فلا يجوز إبطال مقيده.

النوع الثاني: التوكيل، وهو صريح كوكلتك , أو أن يأمر به أمرا مطلقا كطلقي نفسك طلقها وكناية ككناية التمليك , فلا يعتبر المجلس , ويصح الرجوع قبل الفعل , ومطلقة لواحدة على غير عوض. ويصح تقييده وتوقيته.

مذهب الإباضية:

نص الإباضية[155] على أنه لا تطلق نفسها من رجع أمرها بيدها، بتخيير أو بتعليق لمعلوم،  ولا مأمور به، سواء كان المأمور زوجة أمرت بتطليق نفسها , أو رجلا أمره الزوج به , أو عبدا أمره السيد به في مانع متعلق بصلاة من حيض أو نفاس أو انتظارهما، ولا يطلق  أكثر من تطليقة واحدة ،وكذا السيد لا يطلق على عبده أكثر من واحدة أو لا يعصي باثنتين إلا إن كانت أمة قولان.

ومن أمر من يطلقها إذا كانت في حيض أو علمها في حيض فأمره بطلاقها عصى , ولو لم يفعل المأمور , وكذا إن أمر طفلا أو مجنونا بطلاقها إذا كانت فيه أو علمها فيه فأمره ولو لم يفعل , وفي صحة وقوعه من  مأموره الطفل قولان , ولا يصح من مأموره المجنون إلا إن كان له بعض عقله حين الطلاق.

ومن جعل الطلاق بيد زوجته أو غيرها فطلقت هي أو غيرها تطليقتين أو ثلاثا وقع ذلك، أو لا تقع إلا واحدة إن لم يجعل في يدهما ما فوقها , قولان، وهذا الخلاف على أن طلاقها لنفسها غير بائن , وإن قلنا: إنه بائن فلا يقع إلا واحد , إلا إن طلقت تطليقتين أو ثلاثا بلفظ واحد , فقيل: يقع ما طلقت , وقيل: واحد.

2 ـ أنواع التوكيل وأحكامها

ينقسم التوكيل في الطلاق بحسب ما مر من عرض أقوال المذاهب الفقهية، وبحسب من يوكل بالطلاق إلى قسمين، هما:

القسم الأول: توكيل الزوجة

وقد نص أكثر الفقهاء على أن توكيل الزوجة نوعان: تمليك وتخيير، وفيما يلي تفصيل ما يتعلق بهما من مسائل:

النوع الأول: التمليك:

تعريفه:

لغة: مَلَكَهُ يَمْلِكُه بالكسر مِلْكًا بكسر الميم وهذا الشيء  مِلْكُ   يميني ومَلْكُ   يميني والفتح أفصح ومَلَكَ   المرأة تزوجها ،ومَلَّكَهُ الشيء تَمْلِيكاً جعله مِلكا له يُقال مَلَّكَه المال والمُلْك فهو مُمَلَّك[156].

اصطلاحا: وقد اختلف تعريف بحسب مواقف الفقهاء منه:

1. فعرفه المالكية بأنه جعل إنشائه حقا لغيره راجحا في الثلاث، ومن صيغه:  جعلت أمرك أو طلاقك بيدك.

وقد فرق فقهاء المالكية بين التمليك والتوكيل والتخيير، فقالوا: التوكيل هو جعل إنشاء الطلاق لغيره , باقيا منع الزوج منه , أي لأن للموكل له عزل وكيله متى شاء لأن الوكيل يفعل ما وكل فيه نيابة عن موكله.

أما الفرق بين التخيير والتمليك فأمر عرفي لا دخل للغة فيه , فقولهم في المشهور الآتي: أن للزوج البقاء على العصمة والذهاب لمناكرة المملكة دون المخيرة , إنما نشأ من العرف وعلى هذا ينعكس الحكم بانعكاس العرف , وقال القرافي:) إن مالكا رحمه الله بنى ذلك على عادة كانت في زمانه أوجبت نقل اللفظ عن مسماه اللغوي إلى هذا المفهوم , فصار صريحا فيه أي في الطلاق, أي وليس من الكنايات كما قاله الأئمة، قال: وهذا هو الذي يتجه وهو سر الفرق بين التخيير والتمليك , غير أنه يلزم عليه بطلان هذا الحكم اليوم ووجوب الرجوع إلى اللغة[157].

وقد ذكر القرطبي أن من المالكية من ذهب إلى عدم التفريق بينهما، فقال:) ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء، والقضاء ما قضت فيهما، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، وقال ابن شعبان :وقد اختاره كثير من أصحابنا وهو قول جماعة من أهل المدينة ،قال أبو عمر وعلى هذا القول أكثر الفقهاء، والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما، وذلك أن التمليك عند مالك هو قول الرجل لامرأته: قد ملكتك أي قد ملكتك ماجعل الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض، وادعى ذلك كان القول قوله مع يمينه إذا ناكرها، وقالت طائفة من أهل المدينة له المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها([158]

2. عرفه ابن قدامة بقوله:)هو أن يقول الزوج لزوجته: ملكتك أمرك أو أمرك بيدك([159]

حكم التمليك:

اختلف الفقهاء في حكم تمليك الزوج زوجته حق طلاق نفسها على قولين:

القول الأول: عدم صحة التمليك سواء كان للزوجة أو لغيرها، وعدم نفوذ ذلك، ويروى عن ابن مسعود ،وهو قول الظاهرية، يقول ابن حزم:(ومن خير امرأته فاختارت نفسها، أو اختارت الطلاق، أو اختارت زوجها، أو لم تختر شيئا، فكل ذلك لا شيء، وكل ذلك سواء، ولا تطلق بذلك، ولا تحرم عليه، ولا لشيء من ذلك حكم، ولو كرر التخيير وكررت هي اختيار نفسها، أو اختيار الطلاق ألف مرة. وكذلك إن ملكها أمر نفسها، أو جعل أمرها بيدها ولا فرق) [160]، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أن القوامة بيد الرجل، وبها استحق كون العصمة الزوجية بيده، فلا يصح جعلها بيد المرأة.

·  روي أن رجلا قال لامرأة له: إن أدخلت هذا العدل البيت فأمر صاحبتك بيدك، فأدخلته، ثم قالت: هي طالق، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فأبانها منه، فمروا بعبد الله بن مسعود فأخبروه ؟ فذهب بهم إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى  جعل الرجال قوامين على النساء، ولم يجعل النساء  قوامات على الرجال ؟ فقال عمر: فما ترى ؟ قال: أراها امرأته، قال عمر: وأنا أرى ذلك، فجعلها واحدة) [161]

القول الثاني :صحة التمليك ونفوذه، وأن القضاء ما قضت، وهو قول جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  تخيير النبي - صلى الله عليه وسلم -  نساءه، فاخترنه، وقصة ذلك كما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أن رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - جاءها حين أمر الله أن يخير أزواجه قالت: فبدأ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ،وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: إن الله قال:﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:28) إلى تمام الآيتين، فقلت له:) ففي أي هذا أستأمر أبواي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة([162]

·   أن الطلاق تصرف شرعي قولي , وهو حق الرجل كما تقدم , فيملكه ويملك الإنابة فيه كسائر التصرفات القولية الأخرى التي يملكها , كالبيع والإجارة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن للزوج الحق في تمليك زوجته حق طلاقها على أن لا يتم ذلك الطلاق إلا بتلفظه به، متى احتاجت إلى إيقاعه، والقصد من هذا الحكم مراعاة أمرين:

·  حق الزوج في توكيل وتفويض الزوجة أمر نفسها، وهو حق شرعي لا يمكن إلغاؤه، لأن من ملك الشيء كان له الحق في تمليكه.

·  أن لا يكون ذلك إلا بتلفظ الزوج مراعاة لاشتراط كون التطليق بيد الرجل كما سبق من قوله - صلى الله عليه وسلم -:) الطلاق لمن أخذ بالساق(، ولأن توكيل الأمر وتفويضها تفويضا مطلقا سيؤول لا محالة إلى الفراق بأي سبب من الأسباب، لذلك كان الأوفق بسد باب توسيع أسباب الطلاق هو إبقاء الطلاق بيد الرجل.

زيادة على ذلك، فإن الرجل قد يكون سبب تمليكه لزوجته هذا سبيلا للتخلص منها ثم الادعاء بأن الفراق كان منها، فلذلك كان في هذا تشريكا له في المسؤولية، فهو يملك أن يعطي هذا الحق، ولكن إجازته تبقى رهينة رأيه النهائي.

أما الاستدلال على هذا بما وقع من تخيير النبي - صلى الله عليه وسلم - لنسائه، فلا يصح الاستدلال به، بل إن آية التخيير حِِملت أشياء كثيرة في هذا الباب لا تحتملها[163]، فلذلك لا بأس أن نذكر هنا أساس الاستدلال بها، وما نراه من الترجيح في فهمها، لأن معظم استدلالات الباب ترتبط بها.

وقد ذكر العلماء أن في موضوع التخيير في الآية خلافا على قولين، هما:

·  أن التخيير كان بين البقاء على الزوجية أو الطلاق، وقد قال بذلك عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة.

·  أن التخيير كان بين الدنيا، فيفارقهن وبين الآخرة، فيمسكهن لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن، ولم يخيرهن في الطلاق، ذكره الحسن وقتادة ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال: لم يخير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  نساءه إلا بين   الدنيا  والآخرة.

وقد رجح أكثر العلماء القول الأول، كما قال القرطبي:) قلت القول الأول أصح لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت: قد خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  أفكان طلاقا، وفي رواية فاخترناه فلم يعده طلاقا، ولم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق لذلك قال:) يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي فيه تستأمري أبويك(الحديث ومعلوم أنه لم يرد الإستئمار في اختيار الدنيا وزينتها على الآخرة ،فثبت أن الإستئمار إنما وقع في الفرقة أو النكاح([164]

وبنوا على هذا الترجيح الأحكام الكثيرة التي سنراها سواء فيما يتعلق بالتمليك أو بالتخيير، ونرى أن الخلاف في المسألة غير صحيح، وأن كلا القولين يذكر ناحية من نواحي التخيير، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خير نساءه بين أمرين: بين الحياة الدنيا وزينتها مما أباح الله تعالى، وبين ما تقتضيه مسؤولية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرسالية من زهد وتضحية، وعقب عن كل اختيار من ذينك الخيارين نتيجة تخصه، فنتيجة الخيار الأول الذي هو ابتغاء الحياة الدنيا هي أن يسرحهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سراحا جميلا، والسراح الجميل هو الطلاق الذي لا يحمل أي ضرر، ونتيجة الخيار الثاني هي إمساكهن مع الأجر العظيم المعد لهن.

فهذا ما يفهم من ظاهر الآية، فالتخيير بهذا ومثله التمليك، ليس طلاقا ولا صيغة من صيغ الطلاق كما اختار أكثر الفقهاء، وإنما هو من باب حسن العشرة الزوجية، فالزوج إن كان كريم الأصل، ورأى نفور زوجته منه جعل لها الحق في اختيار نفسها سواء بصيغة التمليك أو صيغة التخيير من غير أن يلزمه ذلك شيئا، لأن الشرع جعل له الحق في حال نفور زوجه منه من غير سبب يرجع إليه في أن تفتدي بمالها وتعوض عليه بعض الضرر الذي أصابه من فراقها له.

فإذا تنازل بحسن وخلقه وخيرها يبقى أمر الطلاق بيده في حال اختيارها مفارقته، وهو ما صرحت به الآية في قوله تعالى:﴿ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:28)، فلم يرتب الله تعالى الفراق بمجرد اختيارهن بل ربطه بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ما جعل للرجال من حق الطلاق.

وقد رجح هذا ابن حزم هذا المعنى للآية عند رده على الفهوم التي استندت لها وجعلتها بابا من أبواب الطلاق، فقال:) وأما غيرهم فنقول: لهم الآية نفسها تبطل دعواكم، لأن نصها ﴿ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:28)، فإنما نص الله تعالى أنه إن أردن الدنيا ولم يردن الآخرة طلقهن حينئذ من قبل نفسه مختارا للطلاق، لا أنهن طوالق بنفس اختيارهن الدنيا، ومن قال هذا فقد حرف كلام الله تعالى وأقحم في حكم الآية كذبا محضا ليس فيها منه نص ولا دليل  ([165]

مدة استحقاق المرأة للتمليك:

اختلف الفقهاء في المدة التي يستمر فيها توكيل الزوج لزوجته على قولين:

القول الأول: أنه متى جعل أمر امرأته بيدها، فهو بيدها أبدا، لا يتقيد ذلك بالمجلس، وقد روي ذلك عن علي - رضي الله عنه - ، وبه قال الحكم، وأبو ثور، وابن المنذر ،واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قول علي - رضي الله عنه -  في رجل جعل أمر امرأته بيدها، قال: هو لها حتى تنكل، وليس له مخالف من الصحابة مخالفا، فيكون إجماعا.

·      أنه نوع توكيل في الطلاق، فكان على التراخي، كما لو جعله لأجنبي.

القول الثاني: أن ذلك مقصور على المجلس، ولا طلاق لها بعد مفارقته، وهو قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي ، واستدلوا على ذلك بأنه تخيير لها، فكان مقصورا على المجلس، كقوله: اختاري.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن ذلك بحسب صيغة التوكيل وملابساته، فإن أفادت الصيغة الديمومة كانت دائمة، وإن اقتصرت على فترة معينة قصرت عليها، وفي حال عدم دلالة الصيغة أو المناسبة أو العرف، فإن الزوج مصدق في مراده من تمليكه، فهو أحق بهذا الأمر الذي وكله الشرع إليه من غيره.

نكول الزوج عن تمليك الزوجة أمرها:

اختلف الفقهاء فيما لو رجع الزوج فيما جعل لزوجته من تلميكها أمر نفسها، أو قال: فسخت ما جعلت إليك، هل يقبل منه أم لا على قولين:

القول الأول: يقبل منه، ويبطل ما جعل لها، وإن وطئها الزوج كان رجوعا، وإن ردت المرأة ما جعل إليها بطل، كما تبطل الوكالة بفسخ الوكيل، وهو قول عطاء، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والأوزاعي، وإسحاق وأحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أنه توكيل، فكان له الرجوع فيه كالتوكيل في البيع، وكما لو خاطب بذلك أجنبيا. 

·  أن الطلاق لا يصح تمليكه، ولا ينتقل عن الزوج، وإنما ينوب فيه غيره عنه، فإذا استناب غيره فيه كان توكيلا لا غير.

·      إن سلم أنه تمليك، فالتمليك يصح الرجوع فيه قبل اتصال القبول به، كالبيع.

القول الثاني: ليس له الرجوع في قوله، وهو قول الزهري، والثوري، ومالك، والحنفية، واستدلوا على ذلك بأنه ملكها ذلك، فلم يملك الرجوع، كما لو طلقت.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن للزوج حق الرجوع فيما ملكه لزوجته، لأنه حقه كما ذكرنا سابقا، فقد يرى الزوج مفسدة في ترك الأمر بيد زوجته، فلذلك كان له حق التراجع، أما الزوجة إن أرادت فراق زوجها، فإن الشرع قد وضع لها ذلك في إطاره المحدد.

وقوع الطلاق بالتمليك حال رد الزوجة :

اختلف الفقهاء في وقوع الطلاق بمجرد تمليك المرأة في حال ردها، لما جعل لها  على قولين:

القول الأول: لا يقع الطلاق بمجرد هذا القول، ما لم ينو به إيقاع طلاقها في الحال، أو تطلق نفسها،  فإذا ردت الأمر الذي جعل إليها بطل، ولم يقع شيء، أما إن نوى بهذا تطليقها في الحال، طلقت في الحال، ولم يحتج إلى قبولها، كما لو قال: حبلك على غاربك، وهو قول أكثر العلماء، لأنه توكيل، أو تمليك لم يقبله المملك، فلم يقع به شيء، كسائر التوكيل والتمليك.

القول الثاني: يقع الطلاق بمجرد هذا القول، فلذلك إن ردت ما جعل لها، تقع واحدة رجعية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار نيته في التلفظ بهذا اللفظ، فإن أراد به الطلاق فهو طلقة واحدة حتى ولو نوى ثلاثا ـ كما سنرى في صيغة الطلاق ـ ولا ينبغي أن يحمل كلامه على غير ما أراده، فهو مصدق على كل حال.

افتقار التمليك لنية الزوج:

اختلف الفقهاء في افتقار تمليك الزوج أو توكيله زوجته إلى نية أم لا على قولين:

القول الأول: أن تمليك الزوج زوجته أمرها كناية في حق الزوج، يفتقر إلى نية أو دلالة حال، كما في سائر الكنايات، فإن عدم لم يقع به طلاق، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة، واستدلوا على ذلك بأنه ليس بصريح، وإنما هو كناية، فيفتقر إلى ما يفتقر إليه سائر الكنايات.

القول الثاني :أنه لا يفتقر إلى نية، وهو قول مالك، لأنه من الكنايات الظاهرة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم اعتباره صيغة من صيغ الطلاق، فلذلك لا يحتاج إلى البحث عن نيته والتشويش عليه بذلك، فقد يحمله الورع أو التورع على تطليقها من غير إرادته، فالوسوسة في الطلاق وصيغه أخطر من الوسوسة في أبواب الطهارة، وكم من البيوت خربت بسبب هذا النوع من الورع، والسبب فيه في أكثر الأحيان من يتجرأ على الفتوى، فيظل يوسوس له بأنه زان إن بقي مع زوجته بعد تلفظه بتلك الصيغة أو غيرها.

فلذلك نرى في مثل هذا أن يترك لحاله، ولو شاء أن يطلق لطلق باللفظ الفصيح الصريح الذي لا يحمل أي شبهة، فمن الخطأ أن ندرأ الحدود بالشبهات، ولا نحفظ البيوت بالشبهات. 

افتقار التمليك لنية الزوجة:

اختلف الفقهاء القائلون بالتمليك فيما لو قبلت المرأة التمليك بلفظ الكناية، هل يفتقر إلى نيتها أم لا على قولين:

القول الأول: يفتقر وقوع الطلاق إلى نيتها، وأنه يقع الثلاث إذا نوت، وهو قول الشافعية والحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

أنها موقعة للطلاق بلفظ الكناية، فافتقر إلى نيتها، كالزوج.

أن اللفظ يحتمل الثلاث ; لأنها تختار نفسها بالواحدة، وبالثلاث، فإذا نوياه وقع، كقوله: أنت بائن.

القول الثاني: لا يفتقر وقوع الطلاق إلى نيتها، لا يقع إلا واحدة بائنة، وإن نوت ثلاثا،وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي: 

·  أن الزوج علق الطلاق بفعل من جهتها، فلم يفتقر إلى نيتها، كما لو قال: إن تكلمت فأنت طالق فتكلمت.

·      أن ذلك تخيير، والتخيير لا يدخله عدد، كخيار المعتقة، إذا نوى الزوج.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم القول بكلا القولين كما ذكرنا سابقا، ولكن أيسرهما هو القول الثاني، من باب تقليل عدد الطلقات.

اختلاف الزوجين في عدد الطلقات المملكة:

اختلف الفقهاء فيما لو طلقت نفسها ثلاثا، وادعى الزوج أنه لم يجعل إليها إلا واحدة على قولين:

القول الأول: لا يلتفت إلى قوله، والقضاء ما قضت، وقد روي هذا القول عن عثمان، وابن عمر، وابن عباس، وروي ذلك عن علي، وفضالة بن عبيد. وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والزهري، وهو قول أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أنه لفظ يقتضي العموم في جميع أمرها ; لأنه اسم جنس مضاف، فيتناول الطلقات الثلاث، كما لو قال: طلقي نفسك ما شئت.

·      أنه من الكنايات الظاهرة، والكنايات الظاهرة تقتضي ثلاثا.

القول الثاني: أنها تطليقة واحدة ،وقد روي عن عمر، وابن مسعود، وبه قال عطاء ومجاهد، والقاسم، وربيعة، ومالك والأوزاعي، والشافعي[166]، واستدلوا على ذلك بأنه نوع تخيير، فيرجع إلى نيته فيه، كقوله: اختاري.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة مثلما ذكرنا سابقا أن له الحق في طلقة واحدة يملكها هو ويتلفظ بها هو تلفظا صريحا، ولا ينبغي أن نتصور هنا أننا نخالف بذلك ما روي عمن ذكر من الصحابة - رضي الله عنهم -  لأن أكثر ما يذكره الفقهاء من هذه النسب تحتاج إلى تمحيص سندي لا يقل عن التمحيص الذي لقيته أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخطورة هذه النقول في حال ضعفها أو وضعها لا تقل عن الأحاديث الشريفة، خاصة وأن دعوى الانتساب للسلف الصالح - رضي الله عنهم -  ترتبط بها.

وسنعرض لأمثال هذه النقول عند الحديث عن حكم الطلاق الثلاث في صيغة الطلاق.

النوع الثاني: تخيير الزوجة

التخيير هو أن يخير الزوج زوجته بين البقاء معه أو الطلاق، وأكثر الفقهاء على جواز ذلك، كما ذكرنا في حكم التوكيل، ويرتبط التخيير بالتمليك في نواح سبق ذكرها، وينفصل عنه في بعضها، وسنذكر هنا بعض المسائل التي قد يبدو تشابهها مع ما سبقها من مسائل، ولكنها تختلف عنها في بعض التفاصيل:

مدة التخيير:

تختلف أحكام مدة التخيير وآثارها بحسب تقييد الزوج لمدة التخيير وعدمها كما سنرى في الحالتين التاليتين:

الحالة الأولى: تقييد المدة:

وهو أن يحدد لها مدة للتخيير كأن يقول لها مقاله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة، رضي الله عنها: لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، أو أن يقول لها: اختاري نفسك اليوم، وغدا.

وقد اتفق الفقهاء على أنه يصح هذا التخيير وتعتبر مدته، واختلفوا فيما لو ردته في اليوم الأول، هل يبطل بذلك في الثاني أم لا ؟ ومثله ما لو خيرها شهرا، فاختارت نفسها، ثم تزوجها، فهل عليه الخيار في ذلك، وقد اختلف العلماء في هاتين المسألتين على قولين:

القول الأول: لا يبطل في الأولى وأن لها الخيار في الثاني، وهو قول أبي حنيفة، لأنهما خياران في زمنين، فلم يبطل أحدهما برد الآخر.

القول الثاني: يبطل في الأولى، وليس لها الخيار في الثانية، وهو قول الجمهور، ومن الأدلة على ذلك:

·  أنه خيار واحد، في مدة واحدة، فإذا بطل أوله بطل ما بعده، كما لو كان الخيار في يوم واحد، وكخيار الشرط وخيار المعتقة.

·  أنهما ليسا خيارين، وإنما هو خيار واحد في يومين بخلاف قوله: اختاري نفسك اليوم، واختاري نفسك غدا. فإنهما خياران ; لأن كل واحد ثبت بسبب مفرد.

·      أنها استوفت ما جعل لها في هذا العقد، فلم يكن لها في عقد ثان.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو قول الجمهور درءا لمفسدة الطلاق من جهة، ولأن موقفها الأول كاف في بيان رأيها، فإذا ما تراجعت عنه لم يكن ذلك لها.

الحالة الثانية: إطلاق المدة:

وهو أن يطلق التخيير دون تحديد المدة، وقد اختلف الفقهاء في هذه الحالة هل هو على الفور أم على التراخي على قولين:

القول الأول: أن التخيير على التراخي، ولها الاختيار في المجلس وبعده، ما لم يفسخ أو يطأ، وهو قول الزهري، وقتادة، وأبو عبيد، وابن المنذر، ومالك في إحدى الروايتين عنه، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قول رسول  الله - صلى الله عليه وسلم -  لعائشة لما خيرها: إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك،  وهذا يمنع قصره على المجلس.

·      أنه جعل أمرها إليها، فأشبه أمرك بيدك.

القول الثاني: أن التخيير على الفور، إن اختارت في وقتها، وإلا فلا خيار لها بعده، وهو قول أكثر العلماء، وقد روي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وجابر w ، وبه قال عطاء، وجابر بن زيد، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعية وأبي حنيفة، وأحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي: 

·  عن سعيد بن المسيب، أنه قال: قضى عمر وعثمان، في الرجل يخير امرأته، أن لها الخيار ما لم يتفرقا.

·  عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنها، قال: ما دامت في مجلسها، ونحوه عن ابن مسعود، وجابر، وليس لهم مخالف في الصحابة، فكان إجماعا.

·      أنه خيار تمليك، فكان على الفور، كخيار القبول.

·  أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  جعل لها الخيار على التراخي ليس دليلا على هذا، لأنه لم يقع به التطليق.

وقد اتفق أصحاب هذا القول على أنهما لو تفرقا عن ذلك الكلام إلى كلام غيره، فإنه يبطل خيارها، وهو قول أبي حنيفة، وقول للشافعي، وظاهر مذهب أحمد[167]، لأنه تمليك مطلق، تأخر قبوله عن أول حال الإمكان، فلم يصح، كما لو قامت من مجلسها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لأن عدم التحديد ينصرف إلى وقت الحديث، فإذا لم تجب في ذلك الحين لم يكن لها الحق في التخيير، إلا إذا دلت القرائن على إرادته التراخي، وحكم ذلك ما ذكرنا في الحالة الأولى.

نوع الطلاق الذي تملكه الزوجة بتخيير الزوج :

اختلف الفقهاء في نوع الطلاق الذي تملكه الزوجة بتوكيل الزوج هل هو طلاق رجعي أم بائن على الأقوال التالية:

القول الأول: أن لفظة التخيير لا تقتضي بمطلقها أكثر من تطليقة رجعية[168]، وهو قول ابن عمر، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وعمر، وعائشة w ،وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأنه كناية خفية لا يلزم به شيء إلا بالنية، لأن لفظ التخيير يحتمل التخيير في الطلاق وغيره , فإن أراد الطلاق فيحتمل الوحدة والكثرة، والأصل بقاء العصمة حتى ينوي.

القول الثاني: هي واحدة بائن، وقد روي ذلك عن جابر، وعبد الله بن عمر w، وهو قول أبي حنيفة، ورواه ابن خويز منداد عن مالك ،واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:28) قالوا هذه الآية تدل على البينونة بالثلاث[169].

·  أن إحدى نسائه - صلى الله عليه وسلم -اختارت نفسها فكانت ألبتة فكان ذلك أصلا في الخيار[170].

·  أن المفهوم من هذا اللفظ عادة إنما هو التخيير في الكون في العصمة أو مفارقتها هذا هو السابق للفهم من قول القائل لزوجته خيرتك.

·  أن قوله: اختاري تفويض مطلق، فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم، وذلك طلقة واحدة، ولا يجوز أن تكون بائنا ; لأنها طلقة بغير عوض، لم يكمل بها العدد بعد الدخول، فأشبه ما لو طلقها واحدة.

·      أن التخيير يخالف التوكيل، بقوله: أمرك بيدك، فإنه للعموم، فإنه اسم جنس، فيتناول جميع أمرها.

القول الثالث: أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث، وقد روي عن زيد بن ثابت، وهو قول الحسن البصري، وبه قال مالك والليث، لأن الملك إنما يكون بذلك.

القول الرابع: أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء، وقد روي عن علي - رضي الله عنه[171]، وسبق ذكر من قال بذلك من العلماء.

الترجيح :

ذكرنا سابقا أن التخيير والتمليك لا ينوبان عن الطلاق، بل إن الطلاق يبقى دائما بيد الزوج، وأن تخيير الزوج من حسن العشرة لا من صيغ الطلاق، وقد سبق ذكر بعض أدلة ذلك، ومما يدل على ذلك أيضا أن عائشة - رضي الله عنه -  لم يثبت ذلك عنها قط , إنما المروي عنها أن مسروقا سألها عن الرجل يخير زوجته فتختاره , أيكون طلاقا ؟ فإن الصحابة اختلفوا فيه. فقالت عائشة: خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  نساءه فاخترنه , أكان ذلك طلاقا ؟ وروي , فلم يكن شيئا.

أما قولها: لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتخيير نسائه بدأ بي , فقال: إني ذاكر لك أمرا، إن الله تعالى قال: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:28)، وليس في هذا تخيير بطلاق ،وإنما يرجع إلى أحد وجهين: التخيير بين الدنيا , فيوقع الطلاق ; وبين الآخرة فيكون الإمساك.

وليس في الحديث ما يدل على التطليق، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  لعائشة: ابعثي إلى أبويك  فقالت: يا رسول الله , لم ؟ فقال: إن الله أمرني أن أخيركن. فقالت: إني أختار الله ورسوله, فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  ذلك. فقالت له عائشة: يا رسول الله ; إن لي إليك حاجة ; لا تخير من نسائك من تحب أن تفارقني , فخيرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  جميعا , فكلهن اخترنه، قالت عائشة: خيرنا فاخترناه , فلم يكن طلاقا.

قال القرافي بعد ذكر اتفاق أبي حنيفة والشافعي وأحمد على أن التخيير كناية لا يلزم به شيء إلا بنيته لاحتماله التخيير في الطلاق :(والصحيح الذي ظهر أن قول الأئمة الثلاثة هو مقتضى اللفظ لغة لا مرية في ذلك , وأن مالكا - رضي الله عنه -   أفتى بالثلاث على عادة كانت في زمانه أوجبت نقل اللفظ عن مسماه اللغوي إلى هذا المفهوم , فصار صريحا فيه , وهذا هو الذي يتجه وهو سر الفرق بين التخيير والتمليك)ثم عقب على ذلك بقوله :(غير أنه يلزم عليه بطلان هذا الحكم اليوم ووجوب الرجوع إلى اللغة , ويكون كناية محضة كما قاله الأئمة الثلاثة لتغير العرف)، وأعطى قاعدة ذلك، وهي :(أن اللفظ متى كان الحكم فيه مبنيا على نقل عادي بطل ذلك الحكم عند بطلان تلك العادة , وتغير إلى حكم آخر إن شهدت له عادة أخرى , هذا هو الفقه) [172]

وقوع الطلاق بالتخيير حال رد الزوجة: 

اختلف الفقهاء في وقوع الطلاق بمجرد تخيير الزوجة وعدم افتقار ذلك إلى قبولها على قولين:

القول الأول: إن خيرها , فاختارت زوجها , أو ردت الخيار , أو الأمر , لم يقع شيء، وقد روي ذلك عن عمر , وعلي , وزيد , وابن مسعود , وابن عباس , وعمر بن عبد العزيز , وهو قول ابن شبرمة , وابن أبي ليلى , والثوري , والشافعي , وابن المنذر وأحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قول عائشة: قد خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أفكان طلاقا , وقالت: (لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -  بتخيير أزواجه , بدأ بي , فقال: إني لمخبرك خبرا , فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك،  ثم قال: إن الله تعالى  قال: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:28)، حتى بلغ: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(الأحزاب:29)، فقلت: في أي هذا استأمر أبوي , فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم فعل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -  مثل ما فعلت.

·      أنها مخيرة اختارت النكاح , فلم يقع بها الطلاق , كالمعتقة تحت عبد.

القول الثاني: تقع واحدة رجعية , وقد روي ذلك عن علي والحسن، وهو رواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بان قوله اختاري كناية عن إيقاع الطلاق فإذا أضافه إليها وقعت طلقة كقوله أنت بائن.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم وقوع الطلاق بالضرورة، ولو اعتبر ذلك طلاقا لكان نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهن مطلقات، وهو ما لا يقبل عقلا ولا شرعا.

ثم كيف يستجاز اعتبار التخيير كناية عن الطلاق، والتخيير في أصل دلالته كناية عن تمسك الزوج بزوجته لا بإرادته فراقها، فلو أراد فراقها لطلقها دون الحاجة لرأيها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنه -  :) إني لمخبرك خبرا , فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك(، وقد استدل به العلماء على حبه - رضي الله عنه -  لعائشة، رضي الله عنها، فكيف بعد ذلك يعتبر ما يدل على المودة الزوجية وحسن العشرة طلاقا.

صيغة قبول التخيير :

شدد الفقهاء في الألفاظ التي تدل على قبولها بالتوكيل أو التخيير، حتى أنهم قالوا: لو قالت: اخترت، ولم تقل: نفسي لم تطلق , وإن نوت، ولو قال الزوج: اختاري ولم يقل: نفسك. ولم ينوه , لم تطلق , ما لم تذكر نفسها, ما لم يكن في كلام الزوج أو جوابها ما يصرف الكلام إليه ; لأن ذلك في حكم التفسير , فإذا عري عن ذلك لم يصح، بخلاف قولها: اخترت أهلي. أو أبوي، فإنه يقع الطلاق بشرط أن تنويه; لأن هذا يصلح كناية من الزوج , فيما إذا قال: الحقي بأهلك. فكذلك منها.

ومن الألفاظ التي رفض الفقهاء قبولها احتياطا:

·  لو قالت: اخترت نفسي، فإن هذه الصيغة تفتقر إلى نيتها، لأنه لفظ كناية منها، فإن نوى أحدهما دون الآخر , لم يقع ; لأن الزوج إذا لم ينو فما فوض إليها الطلاق , فلا يصح أن يوقعه , وإن نوى ولم تنو هي , فقد فوض إليها الطلاق , فما أوقعته , فلم يقع شيء , كما لو وكل وكيلا في الطلاق , فلم يطلق، وإن نويا جميعا , وقع ما نوياه من العدد إن اتفقا فيه , وإن نوى أحدهما أقل من الآخر , وقع الأقل ; لأن ما زاد انفرد به أحدهما , فلم يقع.

·  لو قالت :قبلت. لم يقع شيء ; لاحتمال انصرافه إلى قبول الوكالة , فلم يقع شيء , كما لو قال لأجنبي: أمر امرأتي بيدك. فقال: قبلت.

·      لو قالت: أخذت أمري، ليس بشيء حتى تبين.

تكرار التخيير:

اختلف الفقهاء فيما لو كرر الزوج لفظة الخيار، فقال: اختاري , اختاري , اختاري، وقبلت، هل تقع ثلاثا أم واحدة على الأقوال التالية:

القول الأول: إذا قبلت , وقع ثلاثا ; وهو قول الشعبي , والنخعي وأبي حنيفة, ومالك، واستدلوا على ذلك بأن اللفظة الواحدة تقتضي طلقة , فإذا تكررت اقتضت ثلاثا , كلفظة الطلاق، لأنه كرر ما يقع به الطلاق , فتكرر , كما لو كرر الطلاق.

القول الثاني: أنه واحدة رجعية، وهو قول عطاء , وأبي ثور ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أن تكرير التخيير لا يزيد به الخيار , كشرط الخيار في البيع.

·      أنه يحتمل التأكيد , فإذا قصده قبل منه , كما لو قال: أنت طالق الطلاق.

القسم الثاني ـ توكيل غير الزوجة

حكم توكيل غير الزوجة :

اختلف الفقهاء في  جواز توكيل الزوج من ينوب عنه في التطليق[173] على قولين:

القول الأول: عدم اعتبار التوكيل مطلقا صحة ونفوذا، وهو قول الظاهرية[174]، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أن كل ذلك إلزام حكم لم يلزم قط، وحل عقد ثابت، ونقل ملك بلفظ.

·  أنه لا يجوز أن يتكلم أحد عن أحد إلا حيث أوجب ذلك نص، ولا نص على جواز الوكالة في شيء من هذه الوجوه.

·  أن الأصل أن لا يجوز قول أحد على غيره، ولا حكمه على غيره لقول الله تعالى : ﴿ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾(الأنعام:164)

القول الثاني: جواز ذلك ونفوذه، وهو قول جمهور العلماء، وقد اختلفوا في ذلك مثلما اختلفوا في توكيل الزوجة، هل هو على الدوام أم يبقى خاصا بمجلس التوكيل على ما ذكر سابقا، إلا أن الشافعي وافق على هذا في حق غيرها ; لأنه توكيل، وقال الحنفية: ذلك مقصور على المجلس ; لأنه نوع تخيير، فأشبه ما لو قال: اختاري، وقد سبق ذكر أدلة الفريقين.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول إغلاقا لأبواب الطلاق وسدا لمنافذه وحرصا على الحياة الزوجية، وكل ذلك تدل عليه المقاصد الشرعية، وتصرح به النصوص القطعية، فليس في النصوص ما يدل على جعل أمر الحياة الزوجية بيد الغير.

فالطلاق كالصلاة لا تصح الوكالة فيها مطلقا، لأن التوكيل في الصلاة يؤدي إلى قطع الصلة بين العبد وربه، فكذلك الطلاق، قد يؤدي التوكيل فيه إلى قطع الصلة بين المرأة وزوجها، وقد يستغرب هذا القياس، ولكن الأغرب منه هو قياس الحياة الزوجية على البيع والشراء والمعاوضات المالية، فأي صلة بين الحياة الزوجية والحياة الاقتصادية ؟ وهل الزوجين سلعة  وثمن؟ فلذلك كما يبعد ما ذكرنا من قياس يبعد ما ذكروا منه.

ثم لماذا يلجأ الزوج للتوكيل، إن كان أخرس فتكفيه الإشارة، وإن كان بعيدا تكفيه الرسالة، فليس له عذر يمنعه من إيقاع الطلاق بنفسه، بل إن التكلفة التي يتكلفها للتكليف قد يغنيه ما هو أقل منها على أن يلي الأمر بنفسه، فإن سيبحث عن الوكيل بشروطه الشرعية، ثم يوكله بصيغة شرعية، وفي كل ذلك تكليف ومشقة.

زيادة على ذلك أن التوكيل قد يصبح بابا من أبواب المساومة، فقد يقع الرجل في ضائقة من الضوائق، فيلتف به من يعجب بزوجته أو يحسده على نعمته، فيجعل إعانته موقوفة على توكيله أمر أسرته.

ثم بعد كيف تستقر الأسرة، وفي كل لحظة قد يأتي الوكيل ليخبر بأنه قد قرر قطع العلاقة الزوجية.

إن تصور مثل هذا وغيره يكفي للقول بعدم اعتبار الوكالة في هذا الباب، فإن رحمة الشريعة وعدلها وحفاظها على الحقوق تأبى كل ذلك، بل ما هو أدنى من ذلك.

وفيما سنعرضه من أقوال الفقهاء دليل على أن الوكالة في الطلاق ذريعة من ذرائع الفساد تقتضي المصالح المعتبرة سدها.

صفات الوكيل:

نص الفقهاء على أنه يصح توكيل كل من يصح طلاقه لنفسه، فيصح توكيل الكافر، لأنه ممن يصح طلاقه لنفسه، فصح توكيله فيه، ويصح توكيله لامرأة، لأنه يصح توكيلها في العتق، فصح في الطلاق، وإن جعله في يد صبي يعقل الطلاق، انبنى ذلك على صحة طلاقه لزوجته، على ما مضى سابقا من الخلاف بين العلماء في شأنه.

واختلف الفقهاء ـ هنا ـ في  جواز توكيل من ليست له أهلية التصرف كالمجنون والصبي غير المميز على قولين:

القول الأول: لا يصح أن يجعل الأمر بأيديهم، فإن فعل، فطلق واحد منهم، لم يقع طلاقه، وهو قول الجمهور ،لأنهما ليسا من أهل التصرف، فلم يصح تصرفهم، كما لو وكلهم في العتق.

القول الثاني: يصح أن يجعل الأمر بأيديهم، وهو قول الحنفية.

الترجيح:

إن ما ذكره الفقهاء في هذا دليل على ما ذكرنا سابقا من عدم اعتبار الوكالة، فكيف تستقر الحياة الزوجية بعد توكيل الصبي والمجنون والكافر، وكيف يهنأ عيش الزوجة، وهي تنتظر كل لحظة نوبة من نوبات المجنون تعيدها إلى أهلها أو ترمي بها في الشارع، أو نزوة من نزوات الصبي تدمر البيت على أهله.

إن وجود الاختلاف في مثل هذه المسائل نفسها ينافي المقاصد الشرعية، لأن الحياة الزوجية مبينة على كلمة الله وميثاقه الغليظ، فكيف توضع في أيد لا تعقل ولا تميز ولا تقدر حق الميثاق الغليظ.

ولكن الأساس في كل هذا هو القياس المبني على الوهم أكثر من بنائه عل الواقع، والمبني على الفروع أكثر من بنائه على الأصول، والمغلب للحرفية أكثر من تغليبه للمقاصدية.

توكيل اثنين :

نص الفقهاء على جواز توكيل اثنين في الطلاق، وليس لأحدهما أن يطلق على انفراد، إلا أن يجعل إليه ذلك ; لأنه إنما رضي بتصرفهما جميعا، واختلفوا فيما لو طلق أحدهما واحدة، والآخر ثلاثا، فقيل بوقوعها واحدة لأنهما طلقا جميعا واحدة، مأذونا فيها، فصح لو جعل إليهما واحدة، وقيل: لا يقع شيء، وهو ما نراه راجحا لما ذكرنا سابقا.

ما يخرج به الوكيل عن الوكالة

إكمالا لما ذكرنا من حكم الوكالة وصفات الوكيل نذكر هنا ما يخرج به الوكيل عن الوكالة، وهو من الأحكام المهمة، وهي وإن كانت عامة إلا أن لها أهميتها الخاصة هنا،  على الأقل في تضييق الطلاق عند من يقول باعتبار الوكالة في الطلاق.

وقد نص الحنفية على أن الوكيل يخرج عن الوكالة بأشياء، منها[175] :

عزل الموكل إياه ونهيه:

باعتبار الوكالة عقدا غير لازم[176]، فهو عقد محتمل للفسخ بالعزل والنهي، ويشترط في العزل علم الوكيل به، لأن العزل فسخ للعقد، فلا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، كالفسخ.

ويتحقق العزل بكل ما يدل عليه، فإذا عزله وهو حاضر انعزل، ولو كان غائبا فكتب إليه كتاب العزل، فبلغه الكتاب، وعلم بما فيه، انعزل ; لأن الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر، ومثله لو أرسل إليه رسولا، فبلغ الرسالة، فإنه ينعزل كائنا ما كان الرسول عدلا كان أو غير عدل، حرا كان أو عبدا، صغيرا كان أو كبيرا، لأن الرسول قائم مقام المرسل معبر وسفير عنه فتصح سفارته بعد أن صحت عبارته على أي صفة كان.

وإن أخبره بالعزل رجلان عدلان كانا أو غير عدلين أو رجل واحد عدل، ينعزل سواء صدقه الوكيل أو لم يصدقه إذا ظهر صدق الخبر ; لأن خبر الواحد مقبول في المعاملات، فإن لم يكن عدلا فخبر العدلين أو العدل أولى، وقد اختلفوا فيما لو أخبره واحد غير عدل على قولين:

القول الأول:  إن صدقه ينعزل، وإن كذبه لا ينعزل ،ولو ظهر صدق الخبر، وهو قول أبي حنيفة، لأن الإخبار عن العزل له شبه الشهادة ; لأن فيه التزام حكم المخبر به وهو العزل، وهو لزوم الامتناع من التصرف، ولزوم العهدة فيما يتصرف فيه بعد العزل، فأشبه الشهادة ; فيجب اعتبار أحد شروطها وهو العدالة أو العدد.

القول الثاني: ينعزل إذا ظهر صدق الخبر وإن كذبه، وهو قول صاحبي أبي حنيفة، لأن الإخبار عن العزل من باب المعاملات، فلا يشترط فيه العدد، ولا العدالة كما في الإخبار في سائر المعاملات.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، لعدم الضرر من تبين كذب المخبر، بخلاف المفسدة التي تترتب على صدقه إن كان صادقا.

موت الموكل :

لأن التوكيل بأمر الموكل وقد بطلت أهلية الآمر بالموت فتبطل الوكالة علم الوكيل بموته أم لا.

لحاقه بدار الحرب مرتدا:

وقد اختلف الفقهاء[177] في هذا على قولين:

القول الأول:  يخرج به الوكيل عن الوكالة، وهو قول أبي حنيفة، بناء على أن تصرفات المرتد موقوفة عنده، فكانت وكالة الوكيل موقوفة أيضا، فإن أسلم الموكل نفذت. وإن قتل على الردة أو لحق بدار الحرب، بطلت.

القول الثاني: لا يخرج به الوكيل عن الوكالة، وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أن العدالة غير مشترطة فيه، ومثلها الدين.

·      أنه يصح تصرفه لنفسه، فلم تبطل وكالته، كما لو لم يلحق بدار الحرب.

·      أن الردة لا تمنع ابتداء وكالته فلم تمنع استدامتها، كسائر الكفر.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لأن ارتداده عن دينه وفراره لدار الحرب يجعله عدوا للمسلمين وتحرم موالاته، فكيف يوثق في مثله، ليوكل في مثل هذا، بل لا يصح توكيله مطلقا، لأن التوكيل دليل الثقة والمودة، وقد فرض بغضه في الله، وحرم توليه، أو إلقاء المودة إليه.

رابعا ـ من يقع عليها الطلاق

نتناول في هذا الفصل الركن الثاني من أركان الطلاق، وهو المحل الذي يقع عليه الطلاق، وهو أيضا يحتاج إلى ضبط وحصر حتى يتقد الطلاق في أضيق الأطر، وقد رأينا أن هذه التقييد يستلزم ثلاثة شروط خصصنا كل شرط منها بمبحث خاص، وهي:

·  أن تكون المطلقة زوجة ثابتة الزوجية، وقد يستغرب أن يعتبر هذا شرطا، ولكن ما سنذكره يزيل الغرابة، فمن الفقهاء من يوقع الطلاق ولو على الأجنبية، فتبين من زوجها يوم يدخل بها.

·      أن تكون معينة بأي نوع من أنواع التعيين التي تدل على أنها مقصودة بالذات.

·      أن يتم طلاقها بالصفة السنية، لا البدعية.

وهذه الضوابط الثلاثة التي سنتناولها في هذا الفصل تحمي مراعاتها من أن يقع الطلاق على من لم تقصد، ويضيق أبوابا من الطلاق فتحها الناس على أنفسهم، وأعانهم عليها بعض الفقهاء.

1 ـ ثبوت الزوجية

ونقصد به أن المرأة التي يصح إيقاع الطلاق عليها ينبغي أن تكون زوجة له، وقد عقد عليها بالفعل عقدا شرعيا معتبرا، وقد اختلف الفقهاء في هذا اختلافا شديدا سنخصه بالتفصيل في هذا المبحث:

أولا ـ حكم طلاق غير الزوجة

اتفق الفقهاء على أنه لا يقع الطلاق على المرأة الأجنبية إن كان تنجيزا، وقد نقل الإجماع على ذلك[178]، وهو ظاهر، أما إن كان تعليقا بالنكاح كأن يقول: إن نكحت فلانة، فهي طالق ففيه ثلاث أقوال[179]:

القول الأول: عدم وقوع الطلاق مطلقا، وقد روي هذا عن ابن عباس، وبه قال سعيد ابن المسيب , وعطاء , والحسن , وعروة، وجابر بن زيد , وسوار والقاضي , والشافعي وأبو ثور , وابن المنذر، ورواية عن أحمد[180]، وهو قول الإمامية والظاهرية، ورواه الترمذي عن علي , وجابر بن عبد الله , وسعيد بن جبير , وعلي بن الحسين , وشريح , وغير واحد من فقهاء التابعين , ورواه البخاري عن اثنين وعشرين صحابيا[181]، قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم،  ومن الأدلة على ذلك:

·  قال الله تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:49) [182]، وهي آية المسألة، وقد استدل بها الخلف والسلف، قال ابن جريج: بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز ؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنه -  :) أخطأ في هذا إن الله تعالى يقول: ﴿ إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ﴾ ولم يقل إذا طلقتم المؤمنات، ثم نكحتموهن([183]

·  وقد ذكر ابن كثير من استدل من السلف بالآية، فقال:) وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعلي بن الحسين زين العابدين وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح، لأن الله تعالى قال:﴿ إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ﴾ فعقب النكاح بالطلاق، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله([184]وذكر ابن الجوزي استمرار الخلف في الاستدلال بالآية، فقال:) واستدل أصحابنا بهذه الآية لأنه جعل الطلاق بعد النكاح، وقال سماك بن الفضل النكاح عقدة والطلاق يحلها فكيف يحل عقدة لم تعقد، فجعل بهذه الكلمة قاضيا على صنعاء([185]

·  قال الله  تعالى :﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾(الطلاق:1) قال الشافعي بعد سرده لهذه الآيات: (لم أعلم مخالفا في أن أحكام الله تعالى  في الطلاق والظهار والإيلاء لا تقع إلا على زوجة ثابتة النكاح يحل للزوج جماعها) [186]

·  ورود الأحاديث التي يقوي بعضها بعضا، والتي تدل بمجموعها على عدم صحة الطلاق قبل الزواج، قال ابن الجوزي:) لنا ستة أحاديث ([187]، ومن هذه الأحاديث وأقواها قوله - صلى الله عليه وسلم - (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك , ولا عتق فيما لا يملك , ولا طلاق لابن آدم فيما لا يملك) [188]، قال البيهقي: أصح حديث فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال الترمذي: هو أحسن شيء روي في هذا الباب، قال البيهقي: قال البخاري: أصح شيء فيه وأشهره حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده[189].

·  عن معاذ بن جبل قال:قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :) لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم وإن عينها) [190]

·  عن أبي ثعلبة الخشني قال قال لي عم لي: اعمل عملا حتى أزوجك ابنتي، فقلت: إن تزوجتها فهي طالق ثلاثا، ثم بدا لي أن أتزوجها، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: تزوجها فإنه لا طلاق إلا بعد نكاح، فتزوجتها فولدت لي أسعدا وسعيدا، ومثله ما روي أن رجلا أتى النبي  - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أمي عرضت على قرابة لي أتزوجها فقلت: هي طالق ثلاثا إن تزوجتها فقال النبي  - صلى الله عليه وسلم - :هل كان قبل ذلك من ملك قال: لا قال: لا بأس فتزوجها[191].

·  عن ابن عمر - رضي الله عنه -  قال عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  أنه سئل عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق ،قال:) طلق ما لا يملك([192]

·  وعن جابر - رضي الله عنه -  قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :) لا طلاق إلا بعد نكاح ولا عتق إلا بعد ملك) [193]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:) ليس على رجل طلاق فيما لا يملك ([194]

·  ورود الآثار الكثيرة من السلف الصالح على القول بذلك، ويدل على أن هذا القول هو المفتى به في عهد السلف الصالح ما روي عن المنذر ابن علي بن أبي الحكم أن بن أخيه خطب بنت عمه، فتشاجروا في بعض الأمر فقال الفتى: هي طالق إن نكحتها حتى آكل الغضيض، [ قال: والغضيض طلع النخل الذكر]، ثم ندموا على ما كان من الأمر، فقال المنذر: أنا آتيكم بالبيان من ذلك، فانطلق إلى سعيد بن المسيب فذكر له، فقال ابن المسيب: ليس عليه شيء، طلق ما لم يملك قال: ثم إني سألت عروة بن الزبير فقال مثل ذلك، ثم سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن فقال مثل ذلك، ثم سألت أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال مثل ذلك، ثم سألت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فقال مثل ذلك، ثم سألت عمر بن عبدا لعزيز فقال: هل سألت أحدا قلت: نعم، فسماهم قال: ثم رجعت إلى القوم فأخبرتهم[195].

·  أن ما روي من السلف من ثبوت الطلاق محمول عل الكراهة، كما سئل القاسم وسالم عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق قالا: هي كما قال، وعن أبي أسامة عن عمر بن حمزة أنه سأل سالما والقاسم وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعبد الله بن عبد الرحمن عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق البتة فقالوا كلهم: لا يتزوجها، قال ابن حجر:) وهو محمول على الكراهة دون التحريم، لما أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن أن القاسم سئل عن ذلك فكرهه، فهذا طريق التوفيق بين ما نقل عنه من ذلك) [196]

·  أن القائل إن تزوجت فلانة فهي طالق مطلق لأجنبية، وهو محال حين الطلاق، والمتجدد هو نكاحها والنكاح لا يكون طلاقا، فعلم أنه لو طلقت، فإنما يكون ذلك استنادا إلى الطلاق المتقدم معلقا، وهي إذ ذاك أجنبية الصفة لا يجعله متكلما بالطلاق عند وجودها، فإنه عند وجودها مختار للنكاح غير للطلاق فلا يصح كما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت وهي زوجته تطلق بغير خلاف.

·      عدم صحة القياس على نذر العتق، وذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن العتق له قوة وسراية ولا يعتمد نفوذ الملك لأنه ينفذ في ملك ويصح أن يكون الملك سببا لزواله بالعتق عقلا وشرعا.

الوجه الثاني: أن العتق ومثله النذر قربة محبوبة لله تعالى، والتوسل إليه بكل وسيلة مفضية إلى محبوبه، بخلاف الطلاق فإنه مبغض إلى الله وهو أبغض الحلال إليه ولم يجعل ملك البضع بالنكاح سببا لإزالته.

الوجه الثالث: أن تعليق العتق بالملك من باب نذر القرب والطاعات والتبرر، كقوله: إن آتاني الله من فضله لأتصدقن بكذا وكذا، فإذا وجد الشرط لزمه ما علقه به من المقصودة بخلاف تعليق الطلاق على الزواج.

القول الثاني: وقوع الطلاق مطلقا، وهو قول النخعي والشعبي ومجاهد وعمر بن عبد العزيز، وقول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد، فلم يفرقوا بين من عم أو خص، ومن الأدلة على ذلك:

·  قال الله تعالى:﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:49)، وقد استدلوا بالآية من وجهين:

الوجه الأول: نفي صحة الاستدلال بالآية على صحة القول الأول، قال ابن التين:)احتجاج البخاري بهذه الآية على عدم الوقوع لا دلالة فيه(وقال ابن المنير:) ليس فيها دليل، لأنها إخبار عن صورة وقع فيه الطلاق بعد النكاح، ولا حصر هناك، وليس في السياق ما يقتضيه) [197]

الوجه الثاني: الاستدلال بالآية على وقوع الطلاق، قال الجصاص في بيان وجه الاستدلال:) دلالتها ظاهرة في صحة هذا القول من قائله ولزوم حكمه عند وجود النكاح، لأنها حكمت بصحة وقوع الطلاق بعد النكاح، ومن قال لأجنبية: إذا تزوجتك فأنت طالق فهو مطلق بعد النكاح، فوجب بظاهر الآية إيقاع طلاقه وإثبات حكم لفظه، وهذا القول هو الصحيح([198]

·  قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾(المائدة:1) ،فقد اقتضى ظاهر الآية إلزام كل عاقد موجب عقده ومقتضاه , فلما كان هذا القائل عاقدا على نفسه إيقاع طلاق بعد النكاح وجب أن يلزمه حكمه، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - :(المسلمون عند شروطهم) [199] , فقد أوجب ذلك أن كل من شرط على نفسه شرطا ألزم حكمه عند وجود شرطه.

·  أن النصوص الواردة في الباب محمولة على نفي التخيير، لا على عدم وقوع الطلاق،  وهذا الحمل مأثور عن السلف الصالح - رضي الله عنهم -  كالشعبي والزهري وغيرهما، فعن هشام بن سعد أنه قال لابن شهاب، وهو يذاكره هذا النحو من الطلاق :) ألم يبلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك)، فقال ابن شهاب: بلى قد قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،ولكن أنزلتموه على خلاف ما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،إنما هو أن يذكر الرجل للرجل المرأة، فيقال له تزوجها، فيقول: هي طالق ألبتة فهذا ليس بشيء، فأما من قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق ألبتة، فإنما طلقها حين تزوجها، أو قال هي حرة إن اشتريتها، فإنما أعتقها حين اشتراها.

·  وروي عن الزهري كذلك في قول عائشة، رضي الله عنها:)لا طلاق إلا بعد نكاح(قال الزهري: وإنما تعني بذلك الرجل يقال له نزوجك فلانة، فيقول هي طالق، فأما إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق لزمه الطلاق، قال في الدراية:) وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي والنخعي والزهري وسالم والقاسم وعمر بن عبد العزيز ومكحول والأسود وأبي بكر بن حزم وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبد الله بن عبد الرحمن في رجل قال إن تزوجت فلانة فهي طالق هو كما قال([200] 

·  رواية ذلك عن السلف الصالح - رضي الله عنهم - ، فقد رووا أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  قال في رجل قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق قال: هو كما قال، ورووا أن رجلا خطب امرأة فقال هي علي كظهر أمي إن تزوجتها فأمره عمر بن الخطاب أن يتزوجها ولا يقربها حتى يكفر كفارة الظهار، ورووا عن الأسود أنه قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها ناسيا فأتى ابن مسعود فذكر ذلك له فألزمه الطلاق[201].

·  اتفاق العلماء على أن النذر لا يصح إلا في ملك , واعتبار أن من قال :(إن رزقني الله ألف درهم فلله علي أن أتصدق بمائة منها) أنه ناذر في ملكه من حيث أضافه إليه وإن لم يكن مالكا في الحال , فكذلك الطلاق إذا أضافه إلى الملك كان مطلقا.

·  اتفاق العلماء على أن من قال لجاريته: (إن ولدت ولدا فهو حر) فحملت بعد ذلك وولدت أنه يعتق وإن لم يكن مالكا في حال القول ; لأن الولد مضاف إلى الأم التي هو مالكها , كذلك إذا أضاف الطلاق إلى التزوج.

·  أنه لا يخلو العاقد لهذا القول من أن يكون مطلقا في حال العقد، أو في حال الإضافة ووجود الشرط، فلما اتفق الجميع على أن من قال لامرأته: إذا بنت مني وصرت أجنبية فأنت طالق أنه موقع للطلاق في حال الإضافة، لا في حال القول، وأنه بمنزلة من أبان امرأته، ثم قال لها: أنت طالق، فسقط حكم لفظه، ولم يعتبر حال العقد مع وجود النكاح فيها، صح أن الاعتبار بحال الإضافة دون حال العقد، فإن القائل للأجنبية: إذا تزوجتك فأنت طالق موقع للطلاق بعد الملك.

القول الثالث: التفريق بين التخصيص والتعميم، فيقع الطلاق بالتخصيص ولا يقع بالتعميم، فمن حلف بطلاق من يتزوج إن لم يسم قبيلة أو يعين امرأة أنه لا شيء عليه , إلا إذا سد على نفسه باب الاستمتاع فلا يلزمه شيء , أما إذا لم يسد على نفسه باب الاستمتاع فإنه يلزمه ذلك[202]، وهو مذهب مالك، وبه قال النخعي والشعبي والأوزاعي، وقد استدلوا على ذلك زيادة على ما سبق ذكره من أدلة القول الثاني مارواه مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول فيمن قال: كل امرأة أنكحها فهي طالق أنه إذا لم يسم قبيلة أو امرأة بعينها فلا شيء عليه قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت.

صور الاستثناء وأحكامها

بناء على ما سبق من أن القول بالتفصيل عند المالكية، هو عدم إيقاع الطلاق المطلق، والقول بإيقاع الطلاق المقيد، والذي لا يؤثر في حل الاستمتاع تأثيرا مطلقا، فقد اختلفوا في الصيغ التي تسد عليه باب الاستمتاع وبالتالي لا تلزمه بالطلاق، وذلك لا يخلو من احتمالات أربعة، فهو إما أن يستثني امرأة معينة أو صفة معينة، أو مكانا معينا أو زمانا معينا، وتفصيل ذلك فيما يلي[203]:

استثناء امرأة معينة :

وهي أن يعمم في طلاقه بحيث لا يستثني إلا امرأة واحدة، كما لو قال: كل امرأة أتزوجها إلا فلانة فهي طالق، فهل يكون بذلك قد سد باب الاستمتاع أم لا، وقد اختلف قول المالكية في المسألة بحسب الصورتين التاليتين:

الصورة الأولى: أن تكون المستثناة زوجته، وقد اختلف في صحة طلاقه على الرأيين التاليين:

الرأي الأول: يلزمه ذلك إن استثنى زوجته التي عنده، وهو قول ابن القاسم، لأنه إذا كانت التي استثنى زوجة له فقد حلف أن لا يتزوج عليها، ولا خلاف أن ذلك لازم له، بخلاف ما لو كانت غيرها.

الرأي الثاني: لا يلزمه ذلك، وهو قول ابن المواز، لأنه إنما أورده على وجه الامتناع من نكاح غيرها , ولو لزمه ذلك للزمه إذا طلقها أن لا يتزوج غيرها , وهذا يسد باب الاستمتاع فوجب أن لا يلزمه.

الصورة الثانية: أن تكون المستثناة أجنبية، وقد اختلف فيها رأي مالك وأصحابه على ما يلي:

الرأي الأول: أنه لا شيء عليه، ومثله إذا استثنى العدد اليسير كالعشرة ونحوها أو قبيلة أو قرية وهم قليل، ووقد روى عنه ذلك المصريون وروى عيسى عن ابن القاسم أنه لا يحد في ذلك، ولكنه إذا استثنى العدد القليل الذي ليس فيه سعة للنكاح فهو كمن عم , ودليلهم في ذلك أن المراعى فيه أن يترك ما يمكن فيه النكاح فإذا استثنى ما لا يمكنه ذلك غالبا فهو كمن عم.

الرأي الثاني: يلزمه ذلك، وهو رواية المدنيين، روى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون عن عبد الملك أنه إذا قال: إلا فلانة لزمه ذلك , ودليلهم على ذلك أنه إذا استثنى فقد عدل عن الاستيعاب، فوجب أن يلزمه ذلك، كما لو استثنى الكثير.

وقد اختلف أصحاب هذا القول، فقال مطرف: إن كانت ذات زوج أو تزوجها فأبتها لم تلزمه اليمين , ولو طلقها طلقة أو طلقتين لزمته اليمين، لأن اليمين تلزمه ما لم يقطع بتعذر النكاح والتي أبتها لا يقطع بتعذره لجواز أن يتزوجها غيره ثم طلقها الزوج فتزوجها الحالف، فهذا لا يقطع بتعذر النكاح عليه فلزمت اليمين كما لو طلقها طلقة.

وقال ابن الماجشون: يلزمه ذلك , ولو كانت التي استثنى ذات زوج ; لأنه يرجى له أن تخلو من الزوج فيتزوجها وكذلك لو تزوجها وطلقها ألبتة لزمته اليمين إلا أن يتزوجها في عدة فتحرم عليه تحريما مؤبدا.

استثناء صفة معينة:

وهو أن يقول مثلا: كل ثيب أتزوجها فهي طالق، ثم يقول :كل بكر أتزوجها طالق، وقد اختلف المالكية في اليمين التي تلزمه منهما:

الرأي الأول: لا تلزمه الثانية، وهو رواية عيسى عن ابن القاسم، لأن اليمين الثانية تمنع الاستمتاع فوجب أن لا يلزمه.

الرأي الثاني: تلزمه اليمينان، وهو روايةابن وهب عن مالك, لأن اليمين الثانية لا تتناول المنع , وإنما تتناول صنفا من النساء وينفي الكثير فوجب أن يلزمه كالأول.

استثناء مكان معين :

وهو أن يحلف مثلا أن لا يتزوج بالإسكندرية، وقد اتفق المالكية على تدخل النية في تحديد المنطقة التي حلف على عدم الزواج منها هل تشمل قراها أم لا، ولهم بعض الخلافات في حدود المناطق لا نرى الحاجة إليها في عصرنا لأن الحدود مرسومة محددة بين المناطق.

أما إذا حلف بطلاق من يتزوجها بالمدينة ،فعن ابن القاسم أنه لا بأس أن يواعدها بالمدينة ويعقد نكاحها بغيرها , لأن المراعى انعقاد النكاح , والنكاح إنما انعقد بغير المدينة فلا حنث عليه.

استثناء زمان معين :

اتفق المالكية على أنه إذا لم يستثن الزمان فقال مثلا: كل امرأة أتزوجها حياتي طالق، أنه لا يلزمه شيء , أما لو ضرب لذلك أجلا محددا، فينظر إلى الأجل الذي حدده  فإن كان مما يشبه أن يعيش إلى مثله لزمه، وإلا لم يلزمه، وقد اختلف في هذا الزمن على الآراء التالية:

الرأي الأول: روى ابن حبيب عن ابن الماجشون فيمن قال: كل امرأة أتزوجها إلى عشر سنين أو عشرين سنة طالق, والتعمير في ذلك تسعون عاما، لأنه إنما يراعى عمره في الأغلب وما لو زاد عليه لم يمل إلى النساء غالبا , وذلك تسعون عاما فلذا علق يمينه بمدة تبلغ عمره التسعين فهو بمنزلة من علق يمينه بجميع عمره فلا يلزمه شيء , وإن قصر عن ذلك وأبقى يمينه مدة من هذا العمر لزمته اليمين.

الرأي الثاني: قال ابن المواز: قال ابن القاسم: العشرون سنة كثير يتزوج، لأن مدة العشرين سنة كثيرة تلحق فيها المشقة، ولا تخلو غالبا من العنت، وحال نكاحه أولى من الزنا.

الرأي الثالث: قال أشهب وابن وهب: لا يتزوج , وإن خاف العنت في الثلاثين، بناء على تعليق الحكم على لفظ اليمين دون ما يئول إليه من استيفاء عمره.

الرأي الرابع: قال مالك: لا يتزوج في الثلاثين إلا إن خاف العنت، لأنه علق الإباحة بخشية العنت دون طول المدة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، فهو الذي تدل عليه النصوص، وتقتضيه المقاصد الشرعية من تضييق باب الطلاق ومنع التلاعب به، وفيما ذكرنا من أدلة القول ما يكفي للدلالة على هذا.

ثانيا ـ طلاق الزوجة من زواج فاسد

اتفق الفقهاء على أنه لا يقع الطلاق في نكاح باطل إجماعا، كنكاح خامسة وأخت على أختها[204]، واختلفوا في النكاح الفاسد المختلف فيه على قولين:

القول الأول[205]: أن التفريق في النكاح الفاسد إما أن يكون بتفريق القاضي أو بمتاركة الزوج، وهو قول الحنفية والشافعية، وأن هذا التفريق ليس بطلاق.

وقد نص الحنفية على أنه لا يتحقق الطلاق في النكاح الفاسد، بل هو متاركة فيه ولا تحقق للمتاركة إلا بالقول إن كانت مدخولا بها، كقوله: تاركتك أو تاركتها أو خليت سبيلك أو خليت سبيلها أو خليتها.

أما غير المدخول بها فتتحقق المتاركة بالقول وبالترك عند بعضهم وهو تركها على قصد أن لا يعود إليها، وعند البعض لا تكون المتاركة إلا بالقول فيهما حتى لو تركها ومضى على عدتها سنون لم يكن لها أن تتزوج بآخر، وإنكار الزوج النكاح إن كان بحضرتها فهو متاركة وإلا فلا كإنكار الوكيل الوكالة.

أما علم غير المتاركة بالمتاركة، فقد اختلف فيه، فقيل إنه شرط لصحة المتاركة حتى لو لم يعلمها لا تنقضي عدتها، وقيل: إن علم المرأة في المتاركة ليس

واختلفوا في ثبوت المتاركة من المرأة فقيل :إن المتاركة لا تكون من المرأة أصلا كما قيده الزيلعي بالزوج، وقيل: إن لكل واحد منهما أن يستبد بفسخه قبل الدخول وبعده، ومن الأدلة على ذلك: 

·      أن وقوع الطلاق يختص بنكاح صحيح.

·      أنه ليس بطلاق حقيقة إنما هو فسخ.

وقد كان هذا القول من الطرق التي تحلل بها المرأة إلى زوجها، وذلك بالبحث في مفسد من مفسدات الزواج على مذهب من المذاهب، ثم الحكم بعدم وقوع الطلاق لذلك، وكمثال على الفتاوى في ذلك ما سئل شهاب الدين الرملي عما لو طلقها ثلاثا، ثم اتفقا على عدم شرط من شروط النكاح ولم يقبل إقرارهما، فإذا قبلها الحاكم وحكم بفساد العقد هل تحل للزوج بلا محلل أو لا ؟ فأجاب بأنه يحل لمطلقها نكاحها بلا  محلل لوجود الحكم بفساد النكاح فيترتب عليه جميع مقتضاه [206].

القول الثاني: وقوع الطلاق في النكاح الفاسد المختلف فيه، وهو قول المالكية والحنابلة، فقد سئل ابن القاسم:طلق قبل أن يفسخ نكاحه , أيقع طلاقه عليها , وهو إنما هو نكاح لا يقر على حال ؟ فقال: لم أسمع من مالك فيه شيئا وأرى أنه لا يقع طلاقه لأن الفسخ فيه يكون طلاقا قال: وذلك إن كان ذلك النكاح حراما ليس مما اختلف الناس فيه , فأما ما اختلف الناس فيه حتى يأخذ به قوم ويكرهه قوم فإن المطلق يلزمه ما طلق فيه وقد فسرت هذا قبل ذلك ويكون الفسخ فيه عندي تطليقة[207]

وقد بين الشيخ عليش وجه استدلال من قال بوقوع الطلاق، فقال إجابة على سؤال نصه:) أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا مختلفا فيه في المذهب أو غيره بالبينونة , والرجعة , ثم بعد ذلك أوقع الثلاث فهل يلحق به نظرا للمخالف كمن طلق في نكاح مختلف فيه , ويكون محل قولهم البائن لا يرتدف عليه غيره إذا كان متفقا عليه أو لا ؟(

فأجاب:)نعم يلحق به نظرا للمخالف واستحسانا , واحتياطا للفروج إذا كان الإرداف في العدة([208]

وقد نص الحنابلة على أنه لا يكون الطلاق في نكاح مختلف فيه بدعيا في حيض، فيجوز فيه ولا يسمى طلاق بدعة ; لأن الفاسد لا تجوز استدامته كابتدائه. [209]

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على ما سبق ذكره من تضييق دائرة الطلاق ما أمكن، ولأن الزوجة من زواج فاسدة لا تعتبر زوجة حقيقية، لأن الزوجة الحقيقية هي التي تستقر معاشرتها مع زوجها، ولا تطلق إلا برغبته أو بأسباب التفريق المشروعة، وليس في الزواج الفاسد كل ذلك، فهو تفريق بغير رغبته ولا رغبة زوجته، فلذلك كان الأصلح لهما عدم اعتبار ذلك التفريق طلاقا حتى إذا ما صححا العقد وتزوجا زواجا صحيحا خلت ذمتهما من أي طلقة.

ولكن مع ذلك لا يجوز اتخاذ القول بعدم وقوع الطلاق ذريعة للاحتيال على الرجعة عند وقوع الطلاق الثلاث إلا في أضيق الأبواب، وقد ذكر ابن تيمية كيف بالغ المتأخرون في العمل بهذه الحيلة للفرار من الطلاق الثلاث، وعدم الاحتياج إلى المحلل، فقال:) فصار قوم من المتأخرين من أصحاب الشافعي يبحثون عن صفة عقد النكاح , لعله اشتمل على أمر يكون به فاسدا ليرتبوا على ذلك أن الطلاق في النكاح الفاسد لا يقع , ومذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد في إحدى روايتيه أن الولي الفاسق لا يصح نكاحه , والفسوق غالب في كثير من الناس فيقتنون هذه المسألة بسبب الاحتيال لرفع الطلاق([210]

وقد عاب ابن تيمية ذلك معتبرا إياه نوعا من الاستهزاء بالدين، فقال:) وأما عند الوطء والاستمتاع الذي أجمع المسلمون على أنه لا يباح في النكاح الفاسد فلا ينظرون في ذلك , ولا ينظرون في ذلك أيضا عند الميراث وغيره من أحكام النكاح الصحيح , بل عند وقوع الطلاق خاصة , وهذا نوع من اتخاذ آيات الله هزوا ومن المكر في آيات الله إنما أوجبه الحلف بالطلاق والضرورة إلى عدم وقوعه.) [211]

وقد سئل ابن تيمية عن رجل طلق زوجته ثلاثا بعد أن بنى بها من زواج فاسد، فأجاب: (ومثل هذه المسائل يقبح , فإنها من أهل البغي , فإنهم لا يتكلمون في صحة النكاح حين كان يطؤها ويستمتع بها , حتى إذا طلقت ثلاثا أخذوا يسعون فيما يبطل النكاح حتى لا يقال: إن الطلاق وقع , وهذا من المضادة لله في أمره , فإنه حين كان الوطء حراما لم يتحر , ولم يسأل, فلما حرمه الله أخذ يسأل عما يباح به الوطء ومثل هذا يقع في المحرم بإجماع المسلمين , وهو فاسق لأن مثل هذه المرأة إما أن يكون نكاحها الأول صحيحا , وإما أن لا يكون , فإن كان صحيحا , فالطلاق الثلاث واقع , والوطء قبل نكاح زوج غيره حرام , وإن كان الوطء فيه حراما , وهذا الزوج لم يتب من ذلك الوطء , وإنما سأل حين طلق لئلا يقع به الطلاق فكان سؤالهم عما به يحرم الوطء الأول , لأجل استحلال الوطء الثاني. وهذه المضادة لله ورسوله , والسعي في الأرض بالفساد , فإن كان هذا الرجل طلقها ثلاثا فليتق الله وليجتنبها , وليحفظ حدود الله , فإن من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) [212]

فإذا ما حصل ما ذكره ابن تيمية، فإن الأولى هو الأخذ بالقول الثاني، فلكلا القولين مجاله الخاص.

ثالثا ـ إضافة الطلاق إلى بعض أجزاء المرأة

تكلم الفقهاء في تبعيض الطلاق وتجزئته من ناحيتين:

الناحية الأولى: إذا طلق جزءا من طلقة، وسنعرض لها في محلها الخاص من صيغة الطلاق.

الناحية الثانية: إذا طلق جزءا منها، وهو الذي سنتحدث عنه هنا لعلاقته بالزوجة،لأن السؤال الذي يرد بعد معرفة ثبوت الزوجية هو هل الزوجية تتعلق بجميع المرأة أم أنه يصح تعليقها على بعض أجزائها.

وقد اتفق الفقهاء هنا على أنه إن أضاف الطلاق إلى الريق والدمع والعرق والحمل لم تطلق، قال ابن قدامة:) لا نعلم فيه خلافا(; ومن الأدلة على ذلك:

·      أن هذه ليست من جسمها وإنما الريق والدمع والعرق فضلات تخرج من جسمها فهو كلبنها.

·  أن الحمل مودع فيها، وليس جزءا منها، كما قال الله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُون﴾(الأنعام:98) قيل: مستودع في بطن الأم.

وقد اختلفوا فيما لو طلق الزوج من المرأة جزءا من أجزائها الثابتة، على قولين:

القول الأول: يقع بذلك الطلاق، سواء كان ما طلقه جزءا شائعا كنصفها أو سدسها أو جزءا من ألف جزء منها أو جزءا معينا كيدها أو رأسها أو أصبعها،وهو قول الحسن ومذهب الشافعي وأبي ثور وابن القاسم صاحب مالك[213].

ففي المدونة أرأيت الرجل إن قال: لامرأته يدك طالق أو رجلك طالق أو إصبعك طالق ؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئا , وأرى أنه إذا طلق يدا أو رجلا أو ما أشبه ذلك فهي طالق كلها وكذلك الحرية[214]

وفي الأم، قال الشافعي: وإذا قال الرجل لامرأته بدنك أو رأسك أو فرجك أو رجلك أو يدك أو سمى عضوا من جسدها أو إصبعها أو طرفا ما كان منها طالق فهي طالق , ولو قال لها بعضك طالق أو جزء منك طالق أو سمى جزءا من ألف جزء طالقا كانت طالقا والطلاق لا يتبعض وإذا قال لها أنت طالق نصف أو ثلث أو ربع تطليقة أو جزءا من ألف جزء كانت طالقا والطلاق لا يتبعض[215].

ومن الأدلة على ذلك:

·  أن ذلك على سيل الاحتياط، قال العز بن عبد السلام:) إذا طلق من امرأته جزءا معينا أو شائعا سرى الطلاق إلى بقيتها احتياطا للأبضاع بخلاف الأوقاف والصدقات , فإن التصرف فيها مقصور على محله.( [216]

·      أنه أضاف الطلاق إلى جزء ثابت استباحه بعقد النكاح فأشبه الجزء الشائع والأعضاء الخمسة.

·       أنه أضاف الطلاق إلى جزء مستمتع به منها بعقد النكاح، فيقع الطلاق كالوجه والرأس.

·  أن مبنى الطلاق على الغلبة والسراية فإذا أوقعه على جزء منها , يسري إلى جميعها كالجزء الشائع، وبه فارق النكاح فإنه غير مبني على السراية ولهذا لا تصح إضافته إلى جزء شائع.

·  أن الحل والحرمة إذا اجتمعا في المحل يترجح جانب الحرمة في الابتداء والانتهاء , والدليل عليه أنه لو قال لها: أنت طالق شهرا , يقع مؤبدا ولو قال: تزوجتك شهرا , لم يصح النكاح فيجعل ذكر جزء منها كذكر جزء من الزمان في الفصلين.

·  أنها جملة لا تتبعض في الحل والحرمة وجد فيها ما يقتضي التحريم والإباحة فغلب فيها حكم التحريم كما لو اشترك مسلم ومجوسي في قتل صيد.

·  أن قياسهم لا يصح، لأنه الشعر والظفر ليس بثابت فإنهما يزولان ويخرج غيرهما ولا ينقض مسهما الطهارة.

القول الثاني:  أنه إن أضافه إلى جزء شائع أو واحد من أعضاء خمسة ; الرأس والوجه والرقبة والظهر والفرج[217] طلقت، وإن أضافه إلى جزء معين غير هذه الخمسة لم تطلق، وهو قول الحنفية، وقد قيدوا ذلك بما لو قصد بالجزء الكل، قال السرخسي:) لو قال لها: رأسك طالق , كانت طالقا لا بإضافة الطلاق إلى الرأس بعينه، فإنه لو قال: الرأس منك طالق أو وضع يده على رأسها وقال: هذا العضو منك طالق , لا يقع شيء ولكن باعتبار أن الرأس يعبر به عن جميع البدن يقال هؤلاء رءوس القوم، ومع الإضافة إلى الشخص أيضا يعبر به عن جميع البدن يقول الرجل: أمري حسن ما دام رأسك أي ما دمت باقيا([218]، ومن الأدلة على ذلك:

·  قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾(الطلاق:1)، أمر الله تعالى بتطليق النساء , والنساء جمع المرأة والمرأة اسم لجميع أجزائها، والأمر بتطليق الجملة يكون نهيا عن تطليق جزء منها لا يعبر به عن جميع البدن ; لأنه ترك لتطليق جملة البدن , والأمر بالفعل نهي عن تركه والمنهي لا يكون مشروعا فلا يصح شرعا.

·  أن الوجه يعبر به عن جميع البدن يقول الرجل لغيره: يا وجه العرب , وكذلك الجسد والبدن والرقبة والعنق يعبر بها عن جميع البدن قال الله تعالى :﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾(النساء:92) وقال الله تعالى :﴿ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِين﴾(الشعراء:4)، وكذلك الروح يعبر بها عن جميع البدن فصار هو بهذا اللفظ مضيفا الطلاق إلى جميعها فكأنه قال: أنت طالق.

·      أن سائر الأعضاء ليست بمحل لإضافة النكاح إليها , فكذلك الطلاق.

·  أن هذه الأعضاء تبع في حكم النكاح والطلاق، ولهذا صح النكاح والطلاق وإن لم يكن لها أصبع، ويبقى بعد فوات الأصبع.

·  أن ذكر التبع , لا يصير الأصل مذكورا وإذا كان تبعا , لا يكون محل الإضافة التصرف إليه, والسراية إنما تتحقق بعد صحة الإضافة، ولذلك فإن وقوع الطلاق بذكر الوجه والرأس ليس بطريق السراية، بل باعتبار دلالتها عن جميع البدن.

·  أنه لا يمكن تصحيح الكلام هنا بطريق الإضمار، وهو أن يقدم الإيقاع على البدن لتصحيح كلامه ; لأنه لو كان هذا كلاما مستقيما , لصح إضافة النكاح إلى اليد بهذا الطريق.

·      أن المقتضى تبع للمقتضي , وجعل الأصل تبعا للأصبع متعذر فلهذا لا يصح بطريق الاقتضاء.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لأن الطلاق منصرف إلى الزوجة، وأجزاء الزوجة لا تعبر عنها بالضرورة، أما تحديد الأجزاء بما ذكره الحنفية فلا يصح على الإطلاق، لأن ذلك يختلف باختلاف الأعراف، ولذلك فإن الأرجح هو اعتبار العرف بدل التحديد، وهو ما عبر عنه السرخسي بقوله:) حتى لو كان عرف ظاهر القوم أنهم يذكرون اليد عبارة عن جميع البدن نقول: يقع الطلاق في حقهم ([219]

 

2 ـ تعيين المطلقة

أولا ـ طرق تعيين المطلقة

اتفق الفقهاء على اشتراط تعيين المطلقة , وقد اتفقوا على أن طرق التعيين كلها يقع بها الطلاق، وقد خصوا بالتفصيل ثلاثة طرق هي: الإشارة , والوصف , والنية , فأيها قدم جاز , ولعلاقة هذه الطرق ببعضها حالتان:

الحالة الأولى: توافق طرق التعيين:

اتفق الفقهاء على أنه لو عين المطلقة بالإشارة والصفة والنية وقع الطلاق على المعينة , كأن قال لزوجته التي اسمها ليلى مشيرا إليها: يا ليلى , أنت طالق , قاصدا طلاقها , فإنها تطلق بالاتفاق , لتمام التعيين بذلك.

فإن أشار إلى واحدة من نسائه دون أن يصفها بوصف , ولم ينو غيرها , وقال لها: أنت طالق , وقع الطلاق عليها, لأن الإشارة كافية للتعيين.

ومثل ذلك ما لو وصفها بوصفها دون إشارة ودون قصد غيرها , فإنها تطلق أيضا , كما إذا قال: ليلى طالق.

ومثل ذلك ما لو نوى واحدة من نسائه , ولم يشر إليها ولم يصفها , كما إذا قال: إحدى نسائي طالق , ونوى واحدة منهن , فإنها تطلق دون غيرها , وكذلك لو قال: امرأتي طالق , وليس له غير زوجة واحدة , فإنها تطلق.

الحالة الثانية: تعارض طرق التعيين:

ولها صور كثيرة، مثل أن ينوي خلاف ما يتلفظ، أو يشير خلاف ما يصف، كأن يشير إلى واحدة من نسائه ,  ويسمي غيرها , ومثال ذلك أن يقول لإحدى زوجاته واسمها سلمى: أنت يا ليلى طالق , وكانت الأخرى اسمها ليلى، وسنذكر هنا آراء المذاهب الفقهية في المسألة لكثرة التفاصيل بين المذاهب المختلفة، ثم نعقبها ببيان الأقوال العامة في المسألة:

مذهب الحنفية: 

نص الحنفية[220] على أنه لو قال: يا زينب , فأجابته عمرة ; فقال: أنت طالق ثلاثا طلقت التي أجابته , لأنه أتبع الإيقاع الجواب فيصير مخاطبا للمجيبة , وإن قال: أردت زينب قلنا تطلق زينب بقصده , ولكنه لا يصدق في صرف الكلام عن ظاهره فتطلق عمرة أيضا بالظاهر كما لو قال: زينب طالق , وله امرأة معروفة بهذا الاسم تطلق، فإن قال: لي امرأة أخرى بهذا الاسم تزوجتها سرا , وإياها عنيت قلنا تطلق تلك بنيته , والمعروفة بالظاهر.

ولو قال: يا زينب أنت طالق ولم يجبه أحد طلقت زينب ; لأنه أتبع الإيقاع النداء فيكون خطابا للمنادى وهي زينب.

وإن قال لامرأته يشير إليها: يا زينب أنت طالق فإذا هي عمرة طلقت عمرة , إن كانت امرأته , وإن لم تكن امرأته , لم تطلق زينب ; لأن التعريف بالإشارة أبلغ من التعريف بالاسم , فإن التعريف بالإشارة يقطع الشركة من كل وجه , وبالاسم لا , فكان هذا أقوى , ولا يظهر الضعيف في مقابلة القوي ; فكان هو مخاطبا بالإيقاع لمن أشار إليها خاصة.

وإن قال: يا زينب أنت طالق , ولم يشر إلى شيء غير أنه رأى شخصا فظنها زينب، وهي غيرها طلقت زينب في القضاء ; لأنه بنى الإيقاع على التعريف بالاسم هنا فإنما يقع على المسماة , ولا معتبر بظنه ; لأن التعريف لا يحصل به في الظاهر , والقاضي مأمور باتباع الظاهر، فأما فيما بينه وبين الله تعالى لا تطلق هي ولا الأخرى ; لأنه عناها بقلبه , والله تعالى مطلع على ما في ضميره فيمنع ذلك الإيقاع على زينب التي لم يعنها بقلبه , وعلى التي عناها بقلبه ; لأنه لم يخاطبها بلسانه حين أتبع الخطاب النداء.

مذهب الشافعية:

نص الشافعية على طلاق المجيبة في الأصح , أما المناداة فلم تطلق , وفي قول آخر لم تطلقا، ولو قال الرجل لزوجته وأجنبية معها: إحداكما طالق , ثم قال: قصدت الأجنبية , قبل قوله في الأصح لدى الشافعية , لاحتمال كلامه ذلك ولكون الأجنبية من حيث الجملة قابلة - أي للطلاق - فتقدم النية , وفي قول آخر تطلق زوجته , لأنها محل الطلاق دون الثانية , فلا يصرف قوله إلى قصده , للقاعدة الفقهية الكلية: إعمال الكلام أولى من إهماله , فإن لم يكن له قصد أصلا , طلقت زوجته قولا واحدا للقاعدة السابقة , فلو قال لزوجته ورجل: أحدكما طالق ,  وقصد الرجل , بطل قصده , وطلقت زوجته , لأن الرجل ليس محل الطلاق أصلا. ولو قال لإحدى زوجتيه: إحداكما طالق إن فعلت كذا , ثم فعل المحلوف عليه بعد موت إحداهما , تعينت الثانية الحية للطلاق , طلقت[221].

مذهب المالكية:

نص المالكية على لو كان له زوجتان: سلمى وعمرة , فدعا سلمى فأجابته عمرة , فظنها سلمى فطلقها , طلقت سلمى ديانة وقضاء عند المالكية للقصد , أما عمرة فتطلق قضاء لا ديانة لعدم القصد، ففي المدونة، سئل ابن القاسم:) أرأيت لو أن رجلا قال: حكمة طالق، وامرأته تسمى حكمة وله جارية يقال لها حكمة ؟ قال: لم أرد امرأتي وإنما أردت جاريتي حكمة، فقال: سمعت مالكا وسألناه عن الرجل يحلف للسلطان بطلاق امرأته طائعا فيقول امرأتي طالق إن كان كذا وكذا لأمر يكذب فيه , ثم يأتي مستفتيا ويزعم أنه إنما أراد بذلك امرأة كانت له قبل ذلك وأنه إنما ألغز على السلطان في ذلك , قال مالك: لا أرى أن ذلك ينفعه وأرى امرأته طالقا وإن جاء مستفتيا فأما مسألتك إن كان على قوله بينة لم ينفعه قوله إنما أراد جاريته , وإن لم تكن عليه بينة , وإنما جاء مستفتيا لم أرها مثل مسألة مالك ولم أر عليه في امرأته طلاقا ; لأن هذا سمى حكمة , وإنما أراد جاريته وليست عليه بينة ولم يقل امرأتي([222]

تعيين المطلقة بالنية:

اختلف الفقهاء في أثر النية في تعيين المطلقة ،وذلك عند احتمال وجود غيرها، وعند احتمال خطئه دون تعمده، ومن الأمثلة التي ضربها الفقهاء لذلك[223]:

المثال الأول:

ما لو كانت لرجل امرأتان، فدعا إحداهما فأجابته، فقال: أنت طالق، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: تطلق المجيبة وحدها ; لأنها مخاطبة بالطلاق , فطلقت , كما لو لم ينو غيرها , ولا تطلق المنوية ; لأنه لم يخاطبها بالطلاق , ولم تعترف بطلاقها , وهو قول الشافعية والحنفية.

وقد نص الحنفية على أن هذا يعتبر في القضاء، أما فيما بينه وبين الله  تعالى  فإنما يقع على التي نوى، وقد نصوا على أنه لو قال لزوجته: أنت فلانة فقالت: الأخرى: نعم، فقال: إذن أنت طالق لا تطلق، أما لو أجابها بقوله: عليك الطلاق أو لك اعتبرت النية، ولو كان له امرأتان اسمهما واحد ونكاح إحداهما فاسد فقال: فلانة طالق وقال: عنيت التي نكاحها فاسد لا يصدق في القضاء[224].

القول الثاني: ينظر إلى نيته في هذه الحالة، فإن لم تكن له نية , أو نوى المجيبة وحدها , طلقت وحدها ; لأنها المطلقة دون غيرها، أما إن قال: ما خاطبت بقولي: أنت طالق، إلا الزوجة الأخرى, وكانت حاضرة , فإنها تطلق وحدها إلا إذا قال: علمت أن المجيبة هي الزوجة الأولى , فخاطبتها  بالطلاق , وأردت طلاق ثانية، فإنهما تطلقان معا، باتفاق الفقهاء.

أما إن قال: ظننت المجيبة الزوجة الأولى فطلقتها، فقد اختلف الفقهاء في المطلقة منهما على الأقوال التالية:

القول الأول: تطلق الأولى والثانية، وهو قول النخعي , وقتادة , والأوزاعي , وأصحاب الرأي، ورواية عن أحمد ،لأنه خاطبها بالطلاق , وهي محل له , فطلقت , كما لو قصدها.

القول الثاني: لا تطلق إلا التي نوى، وهو قول الحسن , والزهري , وأبي عبيد , ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بأنه لم يقصدها بالطلاق , فلم تطلق , كما لو أراد أن يقول: أنت طاهر. فسبق لسانه , فقال: أنت طالق.

المثال الثاني :

لو لقي أجنبية , ظنها زوجته , فقال: يا فلانة أنت طالق، يقصد زوجته، فإذا هي أجنبية ,وقد اختلف الفقهاء في حصول الطلاق لزوجته بهذا القول على قولين:

القول الأول: طلقت زوجته , وهو قول الجمهور، لأنه قصد زوجته بلفظ الطلاق , فطلقت , كما لو قال: علمت أنها أجنبية , وأردت طلاق زوجتي.

أما إن قال لها: أنت طالق، ولم يذكر اسم زوجته، فإن ذلك يحتمل أنه قصد امرأته بلفظ الطلاق , واحتمل أن لا تطلق ; لأنه لم يخاطبها بالطلاق , ولا ذكر اسمها معه، وإن علمها أجنبية , وأراد بالطلاق زوجته , طلقت. وإن لم يردها بالطلاق , لم تطلق.

القول الثاني: لا تطلق ; لأنه خاطب بالطلاق غيرها , فلم يقع , كما لو علم أنها أجنبية , فقال: أنت طالق، وهو قول الشافعية.

المثال الثالث :

نص الفقهاء على أنه إن أشار إلى زوجته الأولى , فقال: يا فلانة , أنت طالق، ونيته طلاق الثانية , فسبق لسانه إلى نداء الأولى , طلقت الأولى وحدها ; لأنه لم يرد بلفظه إلا طلاقها , وإنما سبق لسانه إلى غير ما أراده , فأشبه ما لو أراد أن يقول: أنت طاهر، فسبق لسانه إلى أنت طالق.

أما إن أتى باللفظ مع علمه أن المشار إليها الزوجة الثانية , فإنهما تطلقان معا , الثانية بالإشارة إليها , وإضافة الطلاق إليها , والأولى بنيته , وبلفظه بها، وإن ظن أن المشار إليها الثانية , طلقت، واختلف في تطليق الثانية كما سبق بيانه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار النية مطلقا سواء وصف خلاف ما أشار، أو أشار إلى خلاف من وصف، ويستوي في ذلك كل الأمثلة والحالات التي ذكرها الفقهاء.

ونرى أنه لا يصح التفريق في هذا بين وقوع الطلاق قضاء دون وقوعه ديانة، لأن الغرض من الحكم القضائي هو تقرير وتطبيق الناحية التعبدية لا التعارض بينه وبينها، والأصل في القضاء في مثل هذه الأحوال التي قد تنهار بسببها البيوت الحرص على استمرار العلاقة لا البحث عن أي سبيل لقطعها، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يمارس القضاء في قصة ماعز، وقد كان ماعز أدلى باعترافه كاملا، والاعتراف سيد الأدلة، ومع ذلك قال له: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت، حتى ذكر له أصرح الألفاظ في الدلالة على ذلك، وقد ترجم له البخاري:) باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت([225]

فهذا جاء مقرا بمعصية، وهو في حكم الفاسق ظاهرا، ومع ذلك سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه، ولو كذبه لصدقه - صلى الله عليه وسلم - خوفا عليه من الحد، والحد في كثير من الأحيان لا يقل عن الحد الذي ترمى به البيوت من غير قصد أصحابها، فكيف يقبل أن تطلق امرأتان في لحظة واحدة لأن إحداهما قصدت بالنية، والأخرى لم تفعل شيئا إلا أنها سارعت لإجابة زوجها مع أنه دعا ضرتها، مع التعليل بأن ذلك أتبع لإيقاع الجواب، فيصير مخاطبا للمجيبة، ومن أدرانا بحال الزوج حينذاك، وهل سمع حقيقة الجواب أم أن ما هو فيه جعله غافلا حتى على من أجابته؟

ومثل ذلك ما قالوا بأنه لو قال لامرأته يشير إليها: يا زينب أنت طالق فإذا هي عمرة طلقت عمرة، فأي ذنب تطلق به عمرة؟ وهي لم تقصد في القلب، ولم يتلفظ باسمها باللسان، ولعل زوجها أعماه حاله عن تثبيت النظر إليها، وهكذا يقال في كل المسائل الأخرى، وأن العبرة من كل ذلك هو نيته بدون تفريق بين الديانة والقضاء، وأن المرجع في ذلك كله قول الزوج، فهو أعلم بمراد نفسه، وقد قال الله تعالى : ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(الأحزاب:5)، وقال - صلى الله عليه وسلم - :(إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى) فالعبرة بالنية قبل أن تكون بالوصف أو بالإشارة، وقد سبق ذكر حديث خيثمة بن عبد الرحمن قال: قالت امرأة لزوجها: سمني ؟ فسماها الظبية , قالت: ما قلت شيئا ؟ قال: فهات ما أسميك به ؟ قالت: سمني خلية طالق , قال: فأنت خلية طالق , فأتت عمر بن الخطاب فقالت: إن زوجي طلقني ؟ فجاء زوجها فقص عليه القصة ؟ فأوجع عمر رأسها , وقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها.

فإنه لا فرق بين الحالتين، لأن عمرة التي ذكرها الفقهاء قد تريد أن تطلق من زوجها فتحتال على ذلك بإجابة زوجها بدل ضرتها.

الجمع بين زوجته وأجنبية:

اتفق الفقهاء على أنه لو قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق. أو قال لحماته: ابنتك طالق، ولها بنت سوى امرأته، أو كان اسم زوجته زينب , فقال: زينب طالق، طلقت زوجته ; لأنه لا يملك طلاق غيرها.

أما إن قال: أردت الأجنبية، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على الأقوال التالية:

القول الأول: لم يصدق، وهو قول أحمد، فقد نص في رجل تزوج امرأة, فقال لحماته: ابنتك طالق. وقال: أردت ابنتك الأخرى , التي ليست بزوجتي , فقال: يحنث, ولا يقبل منه.

وهذا في الحكم , فأما فيما بينه وبين الله تعالى , فيدين فيه , فمتى علم من نفسه أنه أراد الأجنبية , لم تطلق زوجته ; لأن اللفظ محتمل له , وإن كان غير مقيد، ولو كانت ثم قرينة دالة على إرادته الأجنبية , مثل أن يدفع بيمينه ظلما , أو يتخلص بها من مكروه , قبل قوله في الحكم ; لوجود الدليل الصارف إليها، ومن الأدلة على ذلك:

·  أنه لا يحتمل غير امرأته على وجه صحيح , فلم يقبل تفسيره بها , كما لو فسر كلامه بما لا يحتمله.

·  أن ما ذكروه من الفرق لا يصح , فإن) إحداكما(ليس بصريح في واحدة منهما , إنما يتناول واحدة لا بعينها , وزينب يتناول واحدة لا بعينها , ثم تعينت الزوجة لكونها محل الطلاق , وخطاب غيرها به عبث , كما إذا قال: إحداكما طالق، ثم لو تناولها بصريحه لكنه صرفه عنها دليل , فصار ظاهرا في غيرها.

·  أنه لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين:) أحدكما كاذب (لم ينصرف إلا إلى الكاذب منهما وحده , ولما قال حسان للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا سفيان: فشركما لخيركما الفداء لم ينصرف شرهما إلا إلى أبي سفيان وحده , وخيرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده.

القول الثاني: يقبل هاهنا , ولا يقبل فيما إذا قال: زينب طالق، وقال: أردت أجنبية اسمها زينب، وهو قول الشافعي، لأن زينب لا يتناول الأجنبية بصريحه , بل من جهة الدليل , وقد عارضه دليل آخر وهو أنه لا يطلق غير زوجته أظهر , فصار اللفظ في زوجته أظهر , فلم يقبل خلافه , أما إذا قال: إحداهما. فإنه يتناول الأجنبية بصريحه.

القول الثالث: يقبل في الجميع، وهو قول الحنفية وأبي ثور، لأنه فسر كلامه بما يحتمله.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة مثلما ذكرنا سابقا أن العبرة بالنية، وأن قوله يقبل في كل حالة قضاء وديانة، لأن العبرة بنيته وقصده لا بما تلفظ به، ولمثل هذه المسائل بعض التفاصيل المتعلقة بالتفريق القضائي وكيفيته، فانظره هناك.

ثانيا ـ حكم التشريك في الطلاق

اتفق الفقهاء على وقوع طلاق من جمع بين زوجاته في صيغة الطلاق دون تحديد واحدة معينة، واختلفوا في اعتبار عدد الطلقات، وفي كيفية التعامل مع أنواع صيغ التشريك في الطلاق،  وسنذكر هنا آراء المذاهب الفقهية في ذلك مع بيان أن للمسألة علاقة بصيغ الطلاق من جهة، وبحكم الطلاق الثلاث من جهة أخرى، وسنعرض لهما في الفصل الخاص بالصيغة:

مذهب المالكية:

اختلف المالكية في بعض صيغ التشريك على رأيين:

الرأي الأول: إذا قال لزوجاته الأربع شركت بينكن في طلقة، فإن كل واحدة تطلق عليه طلقة، وإن قال شركت بينكن في تطليقتين طلقت كل واحدة منهن طلقتين، وإن قال شركت بينكن في ثلاث تطليقات طلقت كل واحدة منهن ثلاث تطليقات، وهو قول سحنون[226].

الرأي الثاني: أنه إذا قال لزوجاته الأربع بينكن طلقة واحدة أو طلقتان أو ثلاث تطليقات وقع على كل واحدة طلقة واحدة،  لأنه قد ناب كل واحدة ربع طلقة أو نصف طلقة أو ثلاثة أرباع طلقة فكملت عليها، لأن الكسر في الطلاق حكمه التكميل، وإذا قال لهن: بينكن خمس تطليقات أو ست تطليقات أو سبع تطليقات أو ثمان تطليقات فإنه يقع على كل واحدة منهن طلقتان وإن قال لهن: بينكن تسع تطليقات إلى أكثر فإنه يقع على كل واحدة منهن ثلاث تطليقات،وهو قول جمهور المالكية[227].

مذهب الحنفية:

نص الحنفية على أنه لو قال لأربع نسوة: بينكن طلقة طلقت كل واحدة منهن واحدة , وكذا لو قال بينكن طلقتان , أو ثلاث , أو أربع إلا إذا نوى أن كل طلقة بينهن جميعا فتقع على كل واحدة منهن ثلاث إلا في التطليقتين، فتقع على كل واحدة منهن ثنتان , ولو قال بينكن خمس تطليقات ولا نية له طلقت كل واحدة منهن طلقتين , وكذا ما زاد إلى ثمان تطليقات، فإن زاد على الثمان فكل واحدة منهن طالق ثلاثا.

ولو قال: فلانة طالق ثلاثا وفلانة معها , أو قال أشركت فلانة معها في الطلاق طلقتا ثلاثا ثلاثا , ولو قال: لأربع أنتن طوالق ثلاث طلقت كل واحدة ثلاثا[228].

مذهب الشافعية:

نص الشافعية على أنه لو قال لأربع: أوقعت عليكن أو بينكن طلقة أو طلقتين أو ثلاثا أو أربعا وقع على كل منهن طلقة، لأن كلا يصيبها عند التوزيع واحدة أو بعضها فتكمل، فإن قصد توزيع كل طلقة عليهن وقع على كل منهن في ثنتين ثنتان وفي ثلاث وأربع ثلاث عملا بقصده , بخلاف ما لو أطلق لبعده عن الفهم , ولو قال خمسا أو ستا أو سبعا أو ثمانيا فطلقتان ما لم يرد التوزيع أو تسعا فثلاث مطلقا.

فإن قال: أردت بينكن أو عليكن لم يقبل ظاهرا في الأصح، لأنه خلاف ظاهر اللفظ من اقتضاء الشركة، أما باطنا فيدين والثاني يقبل  لاحتمال بينكن لما أراده بخلاف عليكن فلا يقبل إرادة بعضهن به جزما.

ولو أوقع بينهن ثلاثا ثم قال أردت اثنتين على هذه وقسمت الأخرى على الباقيات قبل , وعليه لو أوقع بين أربع أربعا، ثم قال أردت على ثنتين طلقتين طلقتين دون الأخريين لحق الأوليين طلقتان طلقتان عملا بإقراره , ولحق الأخريين طلقة طلقة لئلا يتعطل الطلاق في بعضهن.

ولو قال أوقعت بينكن سدس طلقة وربع طلقة وثلث طلقة طلقن ثلاثا لأن تغاير الأجزاء وعطفها مشعر بقسمة كل جزء بينهن[229]

ولو طلقها ثم قال للأخرى أشركتك معها، أو جعلتك شريكتها، أو أنت مثلها , أو كهي, فإن نوى بذلك طلاقها المنجز طلقت وإلا فلا تطلق لاحتمال قصده أن الأولى لا تطلق حتى تدخل الأخرى ولم يقبل منه ; لأنه رجوع عن التعليق الأول , وإن قال: أردت إذا دخلت الأولى طلقت الثانية قبل وطلقتا بدخولها , أو أردت تعليق  طلاق الثانية بدخولها نفسها كما في الأولى قبل وتعلق طلاق كل منهما بدخول نفسها , وإن أطلق فالظاهر حمله على هذا الأخير.

ولو طلق رجل زوجته , وقال رجل آخر ذلك لامرأته، كقوله: أشركتك مع مطلقة هذا الرجل أو جعلتك شريكتها , فإن نوى طلاقها طلقت وإلا فلا ; لأنه كناية وإن أشركها مع ثلاث طلقهن هو أو غيره ونوى وأراد أنها شريكة كل منهن طلقت ثلاثا , أو أنها مثل إحداهن طلقت واحدة , وكذا إن أطلق نية الطلاق ولم ينو واحدة ولا عددا لأن جعلها كإحداهن أسبق إلى الفهم وأظهر من تقدير توزيع كل طلقة , وإن أشركها مع امرأة طلقها هو أو غيره ثلاثا ونوى الشركة في عدد الطلاق طلقت طلقتين ; لأنه أشركها معها في ثلاث فيخصها طلقة ونصف وتكمل , وقيل واحدة ; لأنها المتيقنة , وقيل ثلاث لأنه أشركها معها في كل طلقة. أما إذا لم ينو ذلك فيقع واحدة كما جزم به صاحب الأنوار , ولو أوقع بين ثلاث طلقة ثم أشرك الرابعة معهن وقع على الثلاث طلقة طلقة , وعلى الرابعة طلقتان , إذ يخصها بالشركة طلقة ونصف.

ولو طلق إحدى نسائه الثلاث ثلاثا ثم قال للثانية: أشركتك معها ثم للثالثة أشركتك مع الثانية طلقت الثانية طلقتين ; لأن حصتها من الأولى طلقة ونصف , والثالثة طلقة ; لأن حصتها من الثانية طلقة.

وهذا كله فيما إذا علم طلاق التي شوركت , فإن لم يعلم كما لو قال: طلقت امرأتي مثل ما طلق زيد، وهو لا يدري كم طلق زيد ونوى عدد طلاق زيد , فمقتضى كلام الرافعي أنه لا يقع قاله الزركشي , ومراده العدد لا أصل الطلاق[230].

مذهب الحنابلة:

اختلف الحنابلة فيما لو قال لزوجاته الأربع: أوقعت عليكن طلقة , أو اثنتين , أو ثلاثا , أو أربعا هل تقع لكل واحدة طلقة أم يبن جميعا على رأيين:

الرأي الأول:  وقع بكل واحدة طلقة، هذا المذهب , وعليه أكثر الحنابلة.

الرأي الثاني: إذا قال: أوقعت بينكن ثلاثا بن منه , واختاره أبو بكر , والقاضي، قال في الرعاية الصغرى: وعنه: إن أوقع ثنتين وقع ثنتان , وإن أوقع ثلاثا أو أربعا فثلاث , قال ابن عبدوس في تذكرته: والأقوى يقع ثلاثة في غير الأولى.

وبناء على هذا الاختلاف وقع اختلافهم في سائر الصيغ، فلو قال: أوقعت بينكن خمسا , فعلى الأول: يقع بكل واحدة طلقتان كذا لو أوقع ستا أو سبعا , أو ثمانيا , وعلى الثانية: يقع ثلاث , وإن أوقع تسعا فأزيد فثلاث على كلا الروايتين.

أما لو قال: أوقعت بينكن طلقة وطلقة وطلقة، فثلاث على كلا الروايتين على الصحيح من المذهب، وقيل: واحدة على الرواية الأولى[231].

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار قصد الزوج في طلاقه، فإن قصد طلاق الجميع طلق الجميع، ولكن بشرط تحقق جميع الضوابط التي رجحناها في هذا الكتاب، فإن كانت إحداهن حائضا مثلا، فإنه لا يشملها الطلاق، أو طلق واحدة مثلا برضى، وطلق الأخريات بعدها وهو في حالة غضب، لم يقع طلاقهن.

ولا يستعصي علينا تصور ذلك، فإنه قد يطلق واحدة منهن مثلا لرغبته في طلاقها، فيلمنه على ذلك ويعاتبنه فيه، أو يعاتبه أجنبي، فيغضب، ويرمي الطلاق على سائر أزواجه، فإن الطلاق في هذه الصورة لا يقع لأن الدافع له غضب الزوج لا الرغبة في الطلاق، وهكذا في سائر الضوابط.

أما التفاصيل التي ذكرها الفقهاء هنا، فلا حاجة لها إذا قلنا بأن الطلاق الثلاث في مجلس واحد لا يقع إلا طلقة واحدة، وهو الأرجح الذي تدل عليه الأدلة الكثيرة كما سنرى في صيغة الطلاق، وهو الأوفق كذلك بالمقاصد الشرعية من تشريع العدة والرجعة والعدد في الطلاق، وسنرى تفاصيل ذلك في محالها. 

ثالثا ـ نسيان المطلقة المعينة

فقد يطلق رجل ما امرأة من زوجاته، ثم ينسى من وقع عليها الطلاق، وقد اختلف الفقهاء في التعامل مع هذه الحالة على الأقوال التالية[232]:

القول الأول: أنه يعين في المبهمة , ويقف في حق المنسية عن الجميع , فينفق عليهن ويكسوهن , ويعتزلهن إلى أن يفرق بينهما الموت أو يتذكر، ولا يقرع بينهن , وإذا كان الطلاق لواحدة لا بعينها ولا نواها , فإنه يختار صرف الطلاق إلى أيتهن شاء , وإن كان الطلاق لواحدة بعينها ونسيها , فإنه يتوقف فيهما حتى يتذكر , وهو قول أبي حنيفة[233] والشافعي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن التحريم قد حصل في واحدة لا بعينها , فكان له تعيينها باختياره , كما لو أسلم الحربي وتحته خمس نسوة , أو أختان: اختار.

·  أن المنسية والمشتبهة يجوز أن تذكر , وتعلم عينها بزوال , الاشتباه ; فلهذا لم يملك صرف الطلاق فيها إلى من أراد , بخلاف المبهمة فإنه لا يرجى ذلك فيها.

·  التحريم هاهنا حكم تعلق بفرد لا بعينه من جملة، فكان المرجع في تعيينه إلى المكلف , كما لو باع قفيزا من صبرة. 

·      لما كان له تعيين المطلقة في الابتداء , كان له تعيينها في ثاني الحال.

القول الثاني: يقع الطلاق على الجميع، وهو قول المالكية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن الحكم إنما عم احتياطا للفروج ودليل مشروعية هذا الاحتياط كل دليل دل على وجوب توقي الشبهات[234].

·  أن مفهوم أحد الأمور قدر مشترك بينها لصدقه على كل واحد منها والصادق على عدد وأفراد مشترك فيه بين تلك الأفراد[235].

·      أن الطلاق تحريم لأنه رافع لموجب النكاح والنكاح للإباحة ورافع الإباحة محرم، فالطلاق محرم.

·      أن تحريم المشترك يلزم منه تحريم جميع الجزئيات، فيحرمن كلهن بالطلاق.

·  أنه لا يصح قياس هذه المسألة على خصال الكفارة، لأن إيجاب إحدى الخصال إيجاب للمشترك ووجوب المشترك يخرج المكلف عن عهدته بفرد إجماعا، وأما الطلاق في هذه الصورة فهو تحريم لمشترك فيعم أفراده وأفراده هم النسوة فيعمهن الطلاق[236].

·  أن عمر بن عبد العزيز قضى به في رجل من أهل البادية كان يسقي على مائه , فأقبلت ناقة له فنظر إليها من بعيد فقال: إحدى امرأتيه طالق ألبتة إن لم تكن فلانة الناقة له , فأقبلت ناقة غير تلك الناقة فقدم الأعرابي المدينة فدخل على أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهو عامل لعمر بن عبد العزيز على المدينة وعمر يومئذ الخليفة فقص عليه قضيته فأشكل عليه القضاء فيها , فكتب إلى عمر في ذلك , فكتب إليه عمر إن كان نوى واحدة منهما حين حلف فهو ما نوى وإلا نطلقهما عليه جميعا[237].

القول الثالث: أنه لا يقع الطلاق بواحدة منهن; قال ابن القيم عنه :(ولا يعرف له قائل) [238]، واستدل له بأن النكاح ثابت بيقين , وكل واحدة منهن مشكوك فيها: هل هي المطلقة أم لا ؟ فلا تطلق بالشك , ولا يمكن إيقاع الطلاق بواحدة غير معينة , وليس البعض أولى بأن يوقع عليها الطلاق من البعض.

القول الرابع: استعمال القرعة لتعيين المطلقة المنسية، أو اختيار إحدى النساء للتطليق[239]، وهو قول أحمد واختيار ابن تيمية وابن القيم[240]، فقد روي عن أحمد في رجل له أربع نسوة طلق إحداهن , ولم تكن له نية في واحدة بعينها: يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهي المطلقة , وكذلك إن قصد إلى واحدة بعينها ثم نسيها، قال: والقرعة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد جاء بها القرآن، ومن الأدلة على ذلك:

·  حديث عمران بن حصين في عتق الأعبد الستة , فإن تصرفه في الجميع لما كان باطلا , جعل كأنه أعتق ثلثا منهم غير معين , فعينه النبي - صلى الله عليه وسلم -  بالقرعة , والطلاق كالعتاق في هذا , لأن كل واحد منهما إزالة ملك مبني على التغليب والسراية , فإذا اشتبه المملوك في كل منهما بغيره: لم يجعل التعيين إلى اختيار المالك.

·  أن الحقوق إذا تساوت على وجه لا يمكن التمييز بينها إلا بالقرعة صح استعمالها فيها , مثلما لو أراد أن يسافر بإحدى نسائه , أو إذا تساوى المدعيان في الحضور عند الحاكم , وكذلك الأولياء في النكاح إذا تساووا في الدرجة وتشاحوا في العقد.

·  أن الله تعالى القرعة طريقا إلى الحكم الشرعي في كتابه , وفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  وأمر بها , وحكم بها علي بن أبي طالب في المسألة بعينها.

·  قال وكيع: سمعت عبد الله قال: سألت أبا جعفر عن رجل له أربع نسوة , فطلق إحداهن , لا يدري أيتهن طلق , فقال: علي - رضي الله عنه -  يقرع بينهن.

·  أن تعيين المكلف تابع لاختياره وإرادته , وتعين القرعة إلى الله تعالى  , والعبد يفعل القرعة وهو ينتظر ما يعينه له القضاء والقدر , شاء أم أبى.

·  أن التعيين إذا لم يكن لنا سبيل إليه بالشرع فوض إلى القضاء والقدر , وصار الحكم به شرعيا قدريا: شرعيا في فعل القرعة , وقدريا: فيما تخرج به , وذلك إلى الله , لا إلى المكلف.قال ابن القيم :(فلا أحسن من هذا ولا أبلغ في موافقته شرع الله وقدره)

·  أنه قد وقع الشك في سبب الحل , فلا يرفع التحريم الأصلي إلا بالنكاح , ثم وقع في عين غير معينة , ومعنا أصل الحل المستصحب , فلا يمكن تعميم التحريم , ولا إلغاؤه بالكلية , ولم يبق طريق إلى تعيين محله إلا بالقرعة , فتعينت طريقا.

·  أن الطلاق قد وقع على واحدة منهن معينة ; لامتناع وقوعه في غير معين , فلم  يملك المطلق صرفه إلى أيتهن شاء , لكن التعيين غير معلوم لنا , وهو معلوم عند الله , وليس لنا طريق إلى معرفته , فتعينت القرعة.

·  أن التعيين بالقرعة تعيين بسبب قد نصبه الله ورسوله سببا للتعيين عند عدم غيره , والتعيين بالاختيار تعيين بلا سبب , حيث انتفت أسباب التعيين وعلاماته. ولا يخفى أن التعيين بالسبب الذي نصبه الشرع له أولى من التعين الذي لا سبب له.

الترجيح :

نرى أن الأرجح في المسألة القول بعدم وقوع الطلاق للجميع، وهو القول الثالث، بشرط صحة ثبوت هذا القول، وأنه ليس مخالفا للإجماع، بناء على ما ذكرناه من قاعدة التضييق في الطلاق.

لكن إن لم يصح ذلك، فإن الأرجح هو استمرار الزوجية على ما هي عليه بكل متطلباتها وحقوقها إلى حين تذكره من وقع عليها الطلاق، قال ابن القيم عند ذكره للأقوال المختلفة في المسألة :(وإذا بطلت هذه الأقسام كلها تعين هذا التقرير , وهو بقاء النكاح في حق كل واحدة منهن حتى يتبين أنها المطلقة , وإذا كان النكاح باقيا فيها , فأحكامه مترتبة عليه , وأما بقاء النكاح وتحريم الوطء دائما، فلا وجه له، فهذا القول والقول بوقوع الطلاق على الجميع متقابلان , وأدلتهما تكاد أن تتكافأ , لا احتياط في إيقاع الطلاق بالجميع , فإنه يتضمن تحريم الفرج على الزوج , وإباحته بالشك لغيره.) [241]

ويلي هذا القول من حيث الترجيح القول بحق الزوج في اختيار امرأة من زوجاته يطلقها، لتنوب عن غيرها، فهو أقل الأقوال مفسدة، لأن توكيل الأمر إلى اختيار الزوج، يجعله يختار من كان يرغب سلفا في تطليقها، وبالتالي قد يجعله ذلك يتذكر من عينها بالطلاق.

أما القول الأول، فقد يصح اعتباره كحل مؤقت، أما إن طال فهو ضرر على الزوج وزوجاته جميعا، لأنه ينفق عليهن دون أن يكون له حق في اعتبارهن زوجاته، وهن كذلك يتضررن، فلا هن زوجات ولا هن مطلقات، قال ابن القيم:)  المنسية والمشكلة إذا عدم أسباب العلم بتعيينها , فإنه يصير في إبقائها إضرار به وبها , ووقف للأحكام , وجعل المرأة معلقة باقي عمرها , لا ذات زوج ولا مطلقة وهذا لا عهد لنا به في الشريعة (

أما القول الثاني فهو ضرر محض للزوج وزوجاته جميعا وحسبه بذلك أن يكون مرجوحا، قال ابن القيم:) أن القول بأن يطلق عليه الجميع , مع الجزم بأنه إنما طلق واحدة , لا الجميع , ترده أصول الشرع وأدلته،  لأن وقوع الطلاق على الجميع - مع العلم بأنه إنما أوقعه على واحدة - تطليق لغير المطلقة , وغايته: أنه قد تيقن تحريما في واحدة لا بعينها , فكيف يحرم عليه غيرها ؟ (

أما القول الرابع، فإن القرعة، وإن كانت وسيلة معتبر شرعا إلا أنه لا يصح اعتبارها في هذا، لأنها في هذا كالمقامرة، فقد يخسر الزوجة التي يرغب فيها، ويظفر بمن لا رغبة له في إمساكها، والزوجات كذلك تستوي مع القرعة محسنتهن مع مسيئتهن، بل إن ابن القيم مع انتصاره للقرعة واعتبارها الوسيلة الوحيدة قال في رده على أصحاب القول الأول :) بأن الشارع خيره [ أي من تزوج على أكثر من أربع] بين من يمسك ومن يفارق ; نظرا له , وتوسعة عليه , ولو أمره بالقرعة هاهنا فربما أخرجت القرعة عن نكاحه من يحبها , وأبقت عليه من يبغضها , ودخوله في الإسلام يقتضي ترغيبه فيه , وتحبيبه إليه , فكان من محاسن الإسلام: رد ذلك إلى اختياره وشهوته , بخلاف ما إذا طلق هو من تلقاء نفسه واحدة منهن ([242]

ولا نرى فرقا في هذه الحالة بين محاسن الإسلام مع المؤلفة قلوبهم ومع من قدم جذره في الإسلام، لأن التوسعة أصل من أصول الشريعة تشمل كل مجالاتها.

طلاق المبهمات عند موت إحداهن :

اختلف الفقهاء فيما لو طلق إحدى زوجتيه لا بعينها , ثم ماتت إحداهما، على قولين:

القول الأول: لم يتعين الطلاق في الباقية وأقرع بين الميتة والحية، وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأنه لا يملك التعيين باختياره، وإنما يملك الإقراع، ولم يفت محله , فإنه يخرج المطلقة , فيتبين وقوع الطلاق من حين التطليق , لا من حين الإقراع.

القول الثاني: يتعين الطلاق في الباقية، وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أنه مخير في التعيين , ولم يبق من يصح إيقاع الطلاق عليها إلا الحية , ومن خير بين أمرين ففاته أحدهما: تعين الآخر.

·      أنه لا يصح أن يبتدئ في الميتة الطلاق , فلا يصح أن يعينه فيها بالقرعة , كالأجنبية.

القول الثالث: لا يتعين فيها، وله تعيينه في الميتة، وهو قول الشافعية. 

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو قول الشافعية، فهو أوفق الأقوال مع مقصد الشريعة من تضييق دائرة الطلاق.

موت المطلق قبل تعيين مطلقته:

وهي مسألة تتعلق بالميراث لا بالحياة الزوجية، وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين[243]:

القول الأول: يقسم الميراث بين الجميع , وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بأنهما قد تساويا في سبب الاستحقاق , لأن حجة كل واحدة منهما كحجة الأخرى , فوجب أن يتساويا في الإرث , كما لو أقامت كل واحدة منهما البينة بالزوجية.

القول الثاني: يوقف ميراث الزوجات حتى يصطلحن عليه، وهو قول الشافعية، وهو مذهب الشافعية في معظم المسائل التي لا يستبين فيها وجه الحق.

القول الثالث: إذا طلق إحدى نسائه , ومات قبل البيان , فإن الورثة يقرعون بينهن , فمن وقعت عليها القرعة لم ترث , وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن القرعة تخلص من المفاسد التي تلزم من القولين السابقين، فإن لازم القول الأول توريث من يعلم أنها أجنبية , لأنها مطلقة في حال الصحة ثلاثا , ولازم القول الثاني وقف المال , وتعريضه للفساد والهلاك , وعدم الانتفاع به , وإن كان حيوانا فربما كانت مئونته تزيد على أضعاف قيمته , وهذا لا مصلحة فيه، ثم إنهن إذا علمن أن المال يهلك إن لم يصطلحن عليه كان ذلك إلجاء لهن إلى إعطاء غير المستحقة.

·  أنه بما أن المستحقة للميراث إحداهما دون الأخرى , فوجب أن يقرع بينهما كما يقرع بين العبيد إذا أعتقهم في المرض , وبين الزوجات إذا أراد السفر بإحداهن.

·  أن الحاكم إنما نصب لفصل الأحكام , لا لوقفها وجعلها معلقة , فتوريث الجميع  على ما فيه أقرب للمصلحة من حبس المال وتعريضه للتلف , مع حاجة مستحقيه إليه.

·  أن الأصل العام في الشريعة عدم وقف القضايا على اصطلاح المتخاصمين , بل يشير عليهما بالصلح , فإن لم يصطلحا فصل الخصومة , وبهذا تقوم مصلحة الناس.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول لأن تعيين المطلقة إنما يكون بيد الزوج، والزوج قد مات، فكيف تحرم حقها الثابت بالأدلة القطعية بمجرد توهم أن الزوج طلقها من غير بينة تثبت ذلك.

3 ـ الصفة البدعية لطلاق المرأة وأحكامها

معظم أحكام الطلاق السني والبدعي مرتبطة بمن يقع عليها الطلاق، فلذلك سنتكلم عنها في هذا المبحث، وبعضها الآخر متعلقة بالصيغة، وسنتكلم عنها في محلها من الجزء الخاص بالصيغة.

أولا ـ تقسيم الطلاق إلى سني وبدعي

اتفق الفقهاء على تقسيم الطلاق من حيث وصفه الشرعي إلى سني وبدعي، والسني والبدعي لا يراد بهما هنا ما يراد بهما في سائر الإطلاقات الشرعية، فإن السني هنا هو  ما وافق السنة في طريقة إيقاعه , لا أنه سنة , لما تقدم من النصوص المنفرة من الطلاق , وأنه أبغض الحلال إلى الله تعالى، أما البدعي، فهو ما خالف السنة في ذلك[244].

وقد استند العلماء في تحديد صفات الطلاق السني والبدعي إلى الأدلة التالية:

·  قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾(الطلاق:1)، وقد فسر ابن مسعود - رضي الله عنه -  ذلك بأن يطلقها في طهر لا جماع فيه , ومثله عن ابن عباس - رضي الله عنه -.

·  ما رواه ابن عمر - رضي الله عنه -  أنه طلق امرأته وهي حائض , فسأل عمر - رضي الله عنه -  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مره فليراجعها , ثم ليتركها حتى تطهر , ثم تحيض , ثم تطهر , ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس , فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ([245]، وقد جاء في بعض الروايات بلفظ السنة، فقد وردت بلفظ) يا ابن عمر ما هكذا أمر الله، أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء) [246]

·  قال ابن عبد البر:) هذا حديث مجتمع على صحته من جهة النقل، ولم يختلف أيضا في ألفاظه عن نافع، وقد رواه عنه جماعة أصحابه كما رواه مالك سواء ([247]، وقد كان لاختلاف رواية الحديث أثرها في الخلاف الفقهي في هذه المسائل كما سنرى، قال ابن القيم:) ففى تعدد الحيض والطهر ثلاثة ألفاظ محفوظة متفق عليها من رواية ابنه سالم ومولاه نافع وعبد الله بن دينار وغيرهم والذين زادوا قد حفظوا ما لم يحفظه هؤلاء،  ولو قدر التعارض فالزائدون أكثر وأثبت في ابن عمر وأخص به فرواياتهم أولى لأن نافعا مولاه أعلم الناس بحديثه وسالم ابنه كذلك وعبد الله بن دينار من أثبت الناس فيه وأرواهم عنه فكيف يقدم اختصار أبي الزبير ويونس بن جبير على هؤلاء([248]

·  وما ورد عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -  أنه قال: طلاق السنة تطليقة وهي طاهر في غير جماع , فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى , فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى , ثم تعتد بعد ذلك بحيضة[249].

·  عن عكرمة أنه سمع بن عباس - رضي الله عنه -  يقول:)الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلال ووجهان حرام، فأما الحلال فإن يطلقها طاهرا جماع أو يطلقها حاملا مستبينا حملها، وأما الحرام فإن يطلقها حائضا، أو يطلقها حين يجامعها لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا) [250] 

·      عن علي - رضي الله عنه -  قال:) ما طلق رجل طلاق السنة فيندم أبدا([251]

طرق تصنيف الطلاق السني والبدعي:

قبل أن نعرض للأحكام المتعلقة بمن يقع عليها الطلاق، لا بأس أن ننظرة نظرة مجملة للطرق الفقهية في أقسام الطلاق السني والبدعي، ومواقفها العامة من هذين النوعين من أنواع الطلاق، لعلاقتها بما سنتكلم عنه من الأحكام[252]:

طريقة الحنفية:

قسم الحنفية الطلاق إلى سني وبدعي , وقسموا السني إلى قسمين: حسن وأحسن، وذلك يختلف عندهم بحسب كون الزوجة مدخولا بها، كما يلي:

أما بالنسبة للمدخول أو المختلى بها،  فالأحسن عندهم: أن يوقع المطلق على زوجته طلقة واحدة رجعية في طهر لم يطأها فيه , ولا في حيض أو نفاس قبله , ولم يطأها غيره فيه بشبهة أيضا , فإن زنت في حيضها ثم طهرت , فطلقها لم يكن بدعيا.

وأما الحسن: فأن يطلقها واحدة رجعية في طهر لم يطأها فيه ولا في حيض أو نفاس قبله , ثم يطلقها طلقتين أخريين في طهرين آخرين دون وطء , هذا إن كانت من أهل الحيض , وإلا طلقها ثلاث طلقات في ثلاثة أشهر , كمن بلغت بالسن ولم تر الحيض.

أما غير  المدخول أو المختلى بها , فالحسن: أن يطلقها واحدة فقط , ولا حرج أن يكون ذلك في حيض أو غيره , ولا يضر أن طلاقها يكون بائنا ; لأنه لا يكون إلا كذلك.

وما سوى هذه الأنواع فبدعي عندهم , كأن يطلقها مرتين أو ثلاثا في طهر واحد معا أو متفرقات , أو يطلقها في الحيض أو النفاس , أو يطلقها في طهر مسها فيه , أو في طهر مسها في الحيض قبله. فإن طلقها في الحيض , ثم طلقها في الطهر الذي بعده , كان الثاني بدعيا أيضا ; لأنهما بمثابة طهر واحد , وعليه أن ينتظر حيضها الثاني , فإذا طهرت منه طلقها إن شاء , ويكون سنيا عند ذلك , ولو طلقها في الحيض , ثم ارتجعت , ثم طلقها في الطهر الذي بعده كان بدعيا في الأرجح , وهو ظاهر المذهب , وقال القدوري: يكون سنيا.

وهذا كله ما لم تكن حاملا , أو صغيرة دون سن الحيض , أو آيسة , فإن كانت كذلك كان طلاقها سنيا , سواء مسها أم لم يمسها ; لأنها في طهر مستمر , ولكن لا يزيد على واحدة, فإن زاد كان بدعيا.

واستثنى الحنفية من البدعي عامة: الخلع , والطلاق على مال , والتفريق للعلة , فإنه لا يكون بدعيا ولو كان في الحيض , لما فيه من الضرورة , وكذلك تخييرها في الحيض سواء اختارت نفسها في الحيض أم بعده وكذلك اختيارها نفسها في الحيض , سواء أخيرها في الحيض أم قبله , فإنه لا يكون بدعيا لأنه ليس من فعله المحض.

طريقة الجمهور:

قسم جمهور الفقهاء الطلاق من حيث وصفه الشرعي إلى سني وبدعي , ولم يذكروا للسني تقسيما , فهو عندهم قسم واحد, إلا أن بعض الشافعية قسموا الطلاق إلى سني وبدعي, وما ليس سنيا ولا بدعيا، وهو ما استثناه الحنفية من البدعي كما تقدم.

والسني عند الجمهور هو ما يشمل الحسن والأحسن عند الحنفية معا، والبدعي هو ما يقابل البدعي عند الحنفية , إلا أنهم خالفوهم في أمور منها:

·      أن الطلاق الثلاث في ثلاث حيضات سني عند الحنفية , وهو بدعي عند الجمهور.

·  أن الطلاق ثلاثا في طهر واحد لم يصبها فيه , فإنه سني عند الشافعية أيضا , وهو رواية عند الحنابلة , اختارها الخرقي. وذهب المالكية إلى أنه محرم كما عند الحنفية , وهو رواية ثانية عند الحنابلة.

أما مذهب الظاهرية، فقد نص ابن حزم على قول المذهب في قوله:) من أراد طلاق امرأة له قد وطئها لم يحل له أن يطلقها في حيضتها , ولا في طهر وطئها فيه.  فإن طلقها طلقة أو طلقتين في طهر وطئها فيه , أو في حيضتها: لم ينفذ ذلك الطلاق وهي امرأته كما كانت , إلا أن يطلقها كذلك ثالثة أو ثلاثة مجموعة فيلزم،  فإن طلقها في طهر لم يطأها فيه فهو طلاق سنة لازم - كيفما أوقعه - إن شاء طلقة واحدة , وإن شاء طلقتين مجموعتين , وإن شاء ثلاثا مجموعة. فإن كانت حاملا منه أو من غيره: فله أن يطلقها حاملا وهو لازم , ولو إثر وطئه إياها فإن كان لم يطأها قط فله أن يطلقها في حال طهرها وفي حال حيضتها - إن شاء - واحدة , وإن شاء اثنتين وإن شاء ثلاثا.  فإن كانت لم تحض قط , أو قد انقطع حيضها طلقها أيضا كما قلنا في الحامل متى شاء ([253]

ثانيا ـ أثر الطلاق في الحيض

اتفق الفقهاء على أن إيقاع الطلاق في فترة الحيض حرام[254] , وهو أحد أقسام الطلاق البدعي لنهي الشارع عنه , لما مر من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -  ولمخالفته قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾(الطلاق:1)، أي في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة , وزمن الحيض لا يحسب من العدة , ولأن في إيقاع الطلاق في زمن الحيض ضررا بالمرأة لتطويل العدة عليها حيث إن بقية الحيض لا تحسب منها، وقد نقل العلماء الإجماع على ذلك قال ابن تيمية:) إن الطلاق في الحيض محرم بالكتاب والسنة والإجماع ; فإنه لا يعلم في تحريمه نزاع , وهو طلاق بدعة([255]، واختلفوا في وقوعه وعدم وقوعه على قولين:

القول الأول: وقوع الطلاق، وهو ما عليه جماهير العلماء[256]، حتى قال ابن عبد البر: (وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار وجمهور علماء المسلمين وإن كان الطلاق عند جميعهم في الحيض بدعة غير سنة، فهو لازم عند جميعهم ولا مخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال والجهل، فإنهم يقولون: إن الطلاق لغير السنة غير واقع ولا لازم، وروي مثل ذلك عن بعض التابعين، وهو شذوذ لم يعرج عليه أهل العلم من أهل الفقه والأثر في شيء من أمصار المسلمين لما ذكرنا) [257]، ومن أدلتهم على ذلك:

·  قول الله تعالى :﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾(الطلاق:1)، فسرها ابن عبد البر بقوله:(يريد أنه عصى ربه، وفارق امرأته) [258]

·  أن ابن عمر - رضي الله عنه -  طلق امرأته وهي حائض , فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم -  أن يراجعها , ثم يمسكها حتى تحيض وتطهر , ثم تحيض وتطهر , ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق , فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها أن يطلق لها النساء [259]، وقد استدل بهذا الحديث من وجوه:

الوجه الأول: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  ابن عمر - رضي الله عنه -  بمراجعة امرأته إذ طلقها حائضا، والمراجعة لا تكون إلا بعد لزوم الطلاق، ولو لم يكن الطلاق في الحيض واقعا ولا لازما ما قال له راجعها، لأنه محال أن يقال لرجل امرأته في عصمته لم يفارقها راجعها، بدليل قول الله تعالى في المطلقات :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ﴾(البقرة:228) ولم يقل هذا في الزوجات اللاتي لم يلحقهن الطلاق[260].

الوجه الثاني: أن ابن عمر - رضي الله عنه -  الذي عرضت له القضية احتسب بذلك الطلاق، وأفتى بذلك وهو ممن لا يدفع علمه بقصة نفسه، قال نافع بعد روايته للحديث :(وكان عبد الله ابن عمر إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم: إذا أنت طلقت امرأتك وهي حائض مرة أو مرتين، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  أمر بهذا، وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت الله فيما أمرك به من طلاق امرأتك([261]، وعن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله  - صلى الله عليه وسلم -   فقال: نعم[262].

·      أن ما رواه الشعبي عن ابن عمر - رضي الله عنه -  من عدم الاعتداد بها، فهو مؤول، وأن معناه: لا يعتد بتلك الحيضة في العدة، ولم يرد لا يعتد بتلك التطليقة، وقد روي عنه ذلك منصوصا كما رواه شريك عن جابر عن عامر في رجل طلق امرأته وهي حائض، فقال: يقع عليه الطلاق ولا يعتد بتلك الحيضة.

·  لو جاز أن تكون الطلقة الواحدة في الحيض لا يعتد بها لكانت الثلاث أيضا لا يعتد بها، وهذا ما لا إشكال فيه عند كل ذي فهم، لأن كليهما طلاق بدعي.

·  أن الطلاق ليس من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى فلا تقع إلا على حسب سنتها، وإنما هو زوال عصمة فيها حق لآدمي فكيفما أوقعه وقع، فإن أوقعه لسنة هدي ولم يأثم، وإن أوقعه على غير ذلك أثم ولزمه ذلك.

·  أنه محال أن يلزم المطيع ولا يلزم العاصي، ولو لزم المطيع الموقع له إلا على سنته ولم يلزم العاصي لكان العاصي أخف حالا من المطيع.

القول الثاني: عدم وقوع الطلاق، وقد نسبه ابن تيمية لطاوس , وعكرمة , وخلاس , وعمر , ومحمد بن إسحاق , وحجاج بن أرطاة. وأهل الظاهر: كداود , وأصحابه وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، ويروى عن أبي جعفر الباقر , وجعفر بن محمد الصادق, وغيرهما من أهل البيت, وهو قول ابن حزم كما مر ذكر تفاصيل مذهبه في ذلك، وقد انتصر له ابن القيم وابن تيمية في محال مختلفة من كتبهما، وسنسوق هنا ما ذكره هؤلاء الفقهاء الثلاثة من أدلة[263]:

·  قوله تعالى في غير الموطوءة: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:49)

·  قوله تعالى: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾(البقرة:236)، قال ابن حزم:) فأباح عز وجل طلاق التي لم تمس بالوطء , ولم يحد في طلاقها وقتا , ولا عددا، فوجب من ذلك أن هذا حكمها وإن دخل بها , وطال مكثها معه , لأنه لم يمسها(

·  قوله تعالى في الموطوءة: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾(الطلاق:1) قال ابن حزم:) والعدة لا تكون من الطلاق إلا في موطوءة فعلمنا الله عز وجل كيف يكون طلاق الموطوءة , وأخبرنا أن تلك حدود الله , وأن من تعداها ظالم لنفسه. فصح أن من ظلم وتعدى حدود الله - عز وجل - ففعله باطل مردود , لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:) من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ([264]، فصح أن الطلاق المذكور لا يكون إلا للعدة كما أمر الله عز وجل.

·  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)،وفي لفظ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد، والرد فعل بمعنى المفعول أي فهو مردود، وعبر عن المفعول بالمصدر مبالغة حتى كأنه نفس الرد، وهو تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده وعدم اعتباره في حكمه المقبول، فالمطلق في الحيض قد طلق طلاقا ليس عليه أمر الشارع فيكون مردودا فلو صح ولزم لكان مقبولا منه وهو خلاف النص.  

·  أن دعوى الإجماع في المسألة لا تصح، قال ابن حزم راد على على دعوى الإجماع:) ثم اختلف الناس في الطلاق في الحيض إن طلق الرجل كذلك , أو في طهر وطئها فيه , هل يلزم ذلك الطلاق أم لا ؟ ادعى بعض القائلين بهذا أنه إجماع ؟ وقد كذب مدعي ذلك, لأن الخلاف في ذلك موجود , وحتى لو لم يبلغنا لكان القاطع - على جميع أهل الإسلام - بما لا يقين عنده به , ولا بلغه عن جميعهم -: كاذبا على جميعهم(، قال ابن حزم:) والعجب من جرأة من ادعى الإجماع على خلاف هذا - وهو لا يجد فيما يوافق قوله في إمضاء الطلاق في الحيض , أو في طهر جامعها فيه كلمة عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم -  غير رواية عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسن منها عن ابن عمر , وروايتين ساقطتين عن عثمان , وزيد بن ثابت(.

·  رواية ذلك عن السلف الصالح - رضي الله عنهم - ، وممن نقل عنهم ابن حزم القول بذلك ابن عباس، وقد مر معنا قوله سابقا، قال ابن حزم:)ومن المحال أن يخبر ابن عباس عما هو جائز بأنه حرام(، وروى عن ابن عمر - رضي الله عنه -  أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض , قال ابن عمر- رضي الله عنه - : لا يعتد لذلك، وروى عن خلاس بن عمرو أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض ؟ قال: لا يعتد بها.

·  أن وصف العقد المحرم بالصحة إما أن يعلم بنص من الشارع أو من قياسه أو من توارد عرفه في محال حكمه بالصحة أو من إجماع الأمة،   وليس في هذه المسألة شيء من ذلك، بل نصوص الشرع تقتضي رده وبطلانه وكذلك قياس الشريعة ،واستقراء موارد عرف الشرع في مجال الحكم بالصحة إنما يقتضي البطلان في العقد المحرم لا الصحة، وكذلك الإجماع فإن الأمة لم تجمع قط على صحة شيء حرمه الله ورسوله لا في هذه المسئلة ولا في غيرها فالحكم بالصحة فيها لا يستند إلى دليل.

·  أن للشارع في الطلاق المباح حكمان: أحدهما إباحته والإذن فيه، والثاني جعله سببا للتخلص من الزوجة، فإذا لم يكن الطلاق مأذونا فيه انتفى الحكم الأول وهو الإباحة، فما الموجب لبقاء الحكم الثاني، وقد ارتفع سببه؟ مع العلم أن بقاء الحكم بدون سببه ممتنع.

·  أن دعوى أن الطلاق المحرم سبب لذلك، فليس في لفظ الشارع ما يدل عليه، وليس هناك ما يستدل به على الصحة والفساد إلا موافقة الأمر والإذن وعدم موافقتهما، فإن حكم بالصحة مع مخالفة أمر الشارع وإباحته لم يبق طريق إلى معرفة الصحيح من الفاسد، إذ لم يأت من الشرع إخبار بأن هذا صحيح وهذا فاسد غير الإباحة والتحريم، فإذا جوز ثبوت الصحة مع التحريم فبأي شيء به بعد ذلك على فساد العقد وبطلانه.

·  مخالفته للقياس، لأن الطلاق لما كان منقسما إلى حلال وحرام ،فإن قياس قواعد الشرع أن حرامه باطل غير معتد به كالنكاح وسائر العقود التي تنقسم إلى حلال وحرام، ولا ينقض ذلك الظهار لأنه لا يكون قط إلا حراما، فهو منكر من القول وزور، ولا شبه له بالطلاق.

·  أن قواعد الشريعة تنص على أن النهي يقتضي التحريم فكذلك يقتضي الفساد وليس هناك ما يستدل به على فساد العقد إلا النهي عنه، لأنه إذا صحح استوى هو والحلال في الحكم الشرعي وهو الصحة، وإنما يفترقان في موجب ذلك من الإثم والذم ومعلوم أن الحلال المأذون فيه لا يساوي المحرم الممنوع منه أبدا، فالمحرم إنما حرم لئلا ينفذ ولا يصح فإذا نفذ وصح وترتب عليه حكم الصحيح كان ذلك عائدا على مقتضى النهي بالابطال. 

·  أن هذا الطلاق منع منه الشارع وحجر على العبد في اتباعه فكما أفاد منعه وحجره عدم جواز الإيقاع أفاد عدم نفوذه، وإلا لم يكن للحجر فائدة، لأن فائدة الحجر عدم صحة ما حجر على المكلف فيه، وقد ضرب لابن القيم مثالا لذلك بما لو أن الزوج أذن لرجل بطريق الوكالة أن يطلق امرأته طلاقا معينا فطلق غير ما أذن له فيه، فإنم ذلك لا ينفذ لعدم إذنه، فالله تعالى إنما أذن للعبد في الطلاق المباح، ولم يأذن له في المحرم، فكيف يصحح ما لم يأذن به ويقع ويجعل من صحيح أحكام الشرع.

·  أن الشارع جعل للمكلف مباشرة الأسباب، أما أحكامها المترتبة عليها فليست له وإنما هي إلى الشارع، فإذا كان السبب محرما كان ممنوعا منه ولم ينصبه الشارع مقتضيا لآثار السبب المأذون فيه، والحكم ليس للمكلف حتى يكون إيقاعه إليه غير مأذون فيه، ولا نصبه الشارع لترتب الآثار عليه فترتيبها عليه إنما هو بالقياس على السبب المباح المأذون فيه، وهو قياس في غاية الفساد إذ هو قياس أحد النقيضين على الآخر في التسوية بينهما في الحكم ولا يخفى فساده. 

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة من حيث الأدلة هو كونها متكافئة بحيث لا يصح تغليب واحد منها على الآخر إلا في رأي من اقتنع بوجه من وجوهها، حتى اعتقده قطعيا، أما الأدلة في نفسها فإن بعضها ينفي قطعية بعض، وهو ما يحيلها جميعا أدلة ظنية، قد يرجحها بعضهم تورعا أو احتياطا دون أن يكون له الحق في فرضها على غيره.

والسب في ذلك لا يرجع فقط إلى ما ذكر من نصوص قد تجد أسانيدها محلها من البحث ومتونها محلها من التأويل، ولكن السبب هو وجود اتجاهين بين العلماء في مثل هذه المسائل سنرى له أمثلة أخرى في أبواب الطلاق البدعي، وقد لخص ابن رشد هذين الاتجاهين بقوله:)وبالجملة فسبب الاختلاف، هل الشروط التي اشترطها الشرع في الطلاق السني هي شروط صحة وإجزاء، أم شروط كمال وتمام؟ فمن قال شروط إجزاء قال: لا يقع الطلاق الذي عدم هذه الصفة، ومن قال شروط كمال وتمام قال: يقع ويندب إلى أن يقع كامل([265]

ونرى أن في سكوت الشارع عن تقرير مثل هذا بصفة قطعية يحمل مصلحة عظيمة لأدائه إلى الخلاف الذي يحمل معاني الرحمة والسعة كما يحمل الحزم والتشديد في نفس الوقت.

وكلا القولين الواردين في المسألة يتعاونان ويتفقان على حمل هذا المعنى، أما القول الأول فيشدد على من يستهين بحدود الله، فيعامل بخلاف مقصوده، من الإثم مع لزوم الطلاق ووجوب الرجعة عند من يقول بذلك، فقد قالوا:) أوجبنا عليه الرجعة معاملة له بنقيض قصده لأنه ارتكب محرما يقصد به الخلاص من الزوجة فعومل بنقيض قصده فأمر برجعتها(

والقول الثاني يحمل معنى السماحة والرحمة للزوجين جميعا، فلا يقع طلاقه لزوجته، وهو ما يضيق دائرة الطلاق، ويضعها في إطار محدود، فلذلك كان هذا القول أولى وأنسب وأرفق بالناس وأقرب للسنة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.

ولا بأس من أن نذكر هنا بعض النواحي المقاصدية التي أرادها ونظر من خلالها أصحاب القول الثاني لهذه المسألة، فمن المقاصد التي ذكرها ابن القيم:

·  أنه لو كان الطلاق نافذا في الحيض لكان الأمر بالمراجعة والتطليق بعده تكثيرا من الطلاق البغيض إلى الله وتقليلا لما بقي من عدده الذي يتمكن من المراجعة معه، ومعلوم أنه لا مصلحة في ذلك.  

·  أن مفسدة الطلاق الواقع في الحيض لو كان واقعا لا يرتفع بالرجعة والطلاق بعدها، بل إنما يرتفع بالرجعة المستمرة التي تلم شعث النكاح وترقع خرقه، فأما رجعة يعقبها طلاق، فلا تزيل مفسدة الطلاق الأول لو كان واقعا.  

·  أن الشارع إنما حرمه ونهى عنه لأجل المفسدة التي تنشأ من وقوعه لأن ما نهى عنه الشرع وحرمه لا يكون قط إلا مشتملا عن مفسدة خالصة أو راجحة فنهى عنه قصدا لإعدام تلك المفسدة، فلو حكم بصحته ونفوذه لكان ذلك تحصيلا للمفسدة التي قصد الشارع إعدامها وإثباتا لها.

·  أن ما حرمه الله تعالى من العقود فهو مطلوب الإعدام بكل طريق حتى يجعل وجوده كعدمه في حكم الشرع، ولهذا كان ممنوعا من فعله باطلا في حكم الشرع والباطل شرعا كالمعدوم، ومعلوم أن هذا هو مقصود الشارع مما حرمه ونهى عنه، فالحكم ببطلان ما حرمه ومنع منه أدنى إلى تحصيل هذا المطلوب وأقرب بخلاف ما إذا صحح فإنه يثبت له حكم الوجود.

·  أن صحة العقد هو عبارة عن ترتب أثره المقصود للمكلف عليه، وهذا الترتب نعمة من الشارع أنعم بها على العبد وجعل له طريقا إلى حصولها بمباشرة الأسباب التي أذن له فيها، فإذا كان السبب محرما منهيا عنه كانت مباشرته معصية، فكيف تكون المعصية سببا لترتب النعمة التي قصد المكلف حصولها؟

حكم إجبار من طلق امرأته في الحيض والنفاس على مراجعتها:

اختلف الفقهاء فيمن طلق زوجته وهي حائض أو نفساء، هل يجبر على رجعتها أم لا على الأقوال التالية :

القول الأول: يؤمر برجعتها إذا طلقها حائضا،  ولا يجبر على ذلك، هو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل وأبي ثور والطبري.

القول الثاني: كل من طلق امرأته حائضا أجبر على رجعتها، وإن طلقها نفساء لم يجبر على رجعتها، وهو مذهب داود بن علي. 

القول الثالث: يجبر على مراجعتها إذا طلقها في الحيض أو في النفاس، وهو قول المالكية، واستدلوا بما يقتضيه الأمر من وجوب الائتمار واستعمال المأمور ما أمر به حتى يخرجه عن جبر الوجوب، ولم يستدلوا بغير هذا، قال ابن عبد البر: (ولا دليل ههنا على ذلك والله أعلم.) [266]، وقد اختلف قول المالكية في الوقت الذي تتم فيه الرجعة على رأيين :

الرأي الأول: يجبر على الرجعة أبدا ما لم تخرج من عدتها سواء أدرك ذلك في تلك الحيضة التي طلق فيها أو الطهر الذي بعده أو الحيضة الثانية أو الطهر بعدها ما لم تنقض العدة، وهو قول مالك وأكثر أصحابه.

الرأي الثاني:  يجبر على الرجعة ما لم تطهر وحتى تحيض ثم تطهر فإذا صارت في الحال التي أباح له النبي  - صلى الله عليه وسلم - طلاقها لم يجبر على رجعتها، وهو قول أشهب بن عبدالعزيز.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة في هذه الحالة بالإضافة إلى ما سبق ذكره في الترجيح السابق أن الأولى هو القول الأول لما يفضي عليه القول الثاني من تكثير عدد الطلقات، وبالتالي قد يؤدي إلى البينونة الكبرى، وهو ما لم يقصده الشارع بتعديد فرص الطلاق، ولهذا كان الأولى إما القول بعدم وقوع الطلاق كما ذكرنا ذلك سابقا، أو القول بعدم إجباره على الرجعة، أما القول بوقوع الطلاق مع وجوب الرجعة ففيه تناقض واضح ومفسدة عظيمة،  وقد قال ابن رشد مع مالكيته:) من قال بوقوع الطلاق وجبره على الرجعة فقد تناقض، فتدبر ذلك([267]

ثالثا ـ حكم الطلاق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها

اختلف الفقهاء[268]  في جواز طلاقها في الطهر التالي للحيضة التي طلق فيها على قولين :

القول الأول: يجوز طلاقها في الطهر التالي لتلك الحيضة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى، ومن أدلتهم على ذلك :

·  أن في بعض طرق حديث ابن عمر - رضي الله عنه -  في الصحيح:) ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا(وفي لفظ:)ثم ليطلقها طاهرا من غير جماع قبل عدتها(وفي لفظ)فإذا طهرت فليطلقها لطهرها(قال فراجعها ثم طلقها لطهرها، وفي حديث أبي الزبير قال:)إذا طهرت فليطلق أو ليمسك(وكل هذه الألفاظ في الصحيح.

·  أن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التحريم فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الطهر الذي بعده وكما يجوز أيضا طلاقها فيه لو لم يتقدم   طلاق في الحيض.

القول الثاني: المنع حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى تلك الحيضة، ثم تطهر كما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مذهب بعض المالكية ورواية عن أحمد، ومن أدلتهم على ذلك:

·  أمره - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر- رضي الله عنه -  بإمساكها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر.

·  أن الرجعة لا تكاد تعلم صحتها إلا بالوطء لأنه المبتغى من النكاح، ولا يحصل الوطء إلا في الطهر، فإذا وطئها حرم طلاقها فيه حتى تحيض، ثم تطهر فاعتبرنا مظنه الوطء ومحله ولم يجعله محلا للطلاق.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة والأوفق بالمقاصد الشرعية من حيث تضييق دائرة الطلاق هو القول الثاني الذي دل عليه الحديث، أما رعاية هذا القول للمقاصد الشرعية، فمن وجوه متعددة ذكرها وانتصر لها ابن القيم، ومثله ابن تيمية، ومنها:

·  أنه لو طلقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة فإن الله تعالى إنما شرع الرجعة لإمساك المرأة وإيوائها ولم شعث النكاح وقطع سبب الفرقة، ولهذا سماه إمساكا فأمره الشارع أن يمسكها في ذلك الطهر، وأن لا يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر لتكون الرجعة للامساك لا للطلاق.

·  أن من مقاصد تحريم الطلاق في الحيض عدم إطالة العدة عليها، فلو طلقها عقب الرجعة من غير معاشرة لم تكن قد استفادت بالرجعة فائدة، لأن تلك الحيضة التي طلقت فيها لم تكن تحتسب عليها من العدة وإنما تستقبل العدة من الطهر الذي يليها أو من الحيضة الأخرى على الاختلاف في الأقراء، فإذا طلقها عقب تلك الحيضة كانت في معنى ممن طلقت ثم راجعها ولم يمسها حتى طلقها، فإنها تبنى على عدتها في أحد القولين لأنها لم تنقطع بوطء، فالمعنى المقصود إعدامه من تطويل العدة موجود بعينه هنا لم يزل بطلاقها عقب الحيضة، فأراد الشارع قطع حكم الطلاق جملة بالوطء، فاعتبر الطهر الذي هو موضع الوطء فإذا وطىء حرم طلاقها حتى تحيض ثم تطهر.

·  أنها ربما كانت حاملا وهو لا يشعر، لأن الحامل قد ترى الدم أثناء حملها، فأراد الشارع أن يستبرئها بعد تلك الحيضة بطهر تام، ثم بحيض تام فحينئذ تعلم هل هي حامل أو حائل، فإنه ربما يمسكها إذا علم أنها حامل منه، وربما تكف هي عن الرغبة في الطلاق إذا علمت أنها حامل ،وربما يزول الشر الموجب للطلاق بظهور الحمل، فأراد الشارع تحيق علمها بذلك نظرا للزوجين ومراعاة لمصلحتهما، وحسما لباب الندم وهذا من أحسن محاسن الشريعة.

الطهر الذي يقع فيه الطلاق السني:

اختلف العلماء في الطهر الذي يقع فيه الطلاق السني على الأقوال التالية[269] :

القول الأول: انقطاع الدم، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد، لأن الحائض إذا انقطع دمها صارت كالجنب يحرم عليها ما يحرم عليه ويصح منها ما يصح منه ومعلوم أن المرأة الجنب لا يحرم طلاقها.

القول الثاني: التطهر بالغسل أو ما يقوم مقامه من التيمم، وهو رواية عن أحمد، ومن الأدلة على ذلك :

·  ما رواه نافع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -  أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة، فانطلق عمر فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :مر عبد الله فليراجعها فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى، فلا يمسها حتي يطلقها فإن شاء أن يمسكها فليمسكها، فإنها العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) وهذا على شرط الصحيحين وهو مفسر لقوله: فإذا طهرت، فيجب حمله عليه.

·      أنها لو كانت كالجنب لحل وطؤها.

القول الثالث: إن طهرت لأكثر الحيض حل طلاقها بانقطاع الدم، وإن طهرت لدون أكثره لم يحل طلاقها حتى تصير في حكم الطاهرات بأحد ثلاثة أشياء إما أن تغتسل، وإما أن تتيمم عند العجز وتصلي، وإما أن يخرج عنها وقت صلاة لأنه متى وجد أحد هذه الأشياء حكمنا بانقطاع حيضها، وهو مذهب الحنفية. 

الترجيح :

نرى أن الأرجح في المسألة للاعتبارات السابقة الأخذ بالقول الثاني، لأن اغتسالها وتطهرها قد يصرف الزوج عن طلاقها، فقد تدعوه رغبته الجنسية فيها لإمساكها، خاصة بعد اغتسالها، فإذا ما عاشرها حرم عليه طلاقها شهرا كاملا بعد ذلك، وقد يغير الله في ذلك الشهر من حال إلى حال.

ففي هذا القول مصلحة كبيرة من حيث تضييق وقت الطلاق، وهو ما قد يضيق الطلاق نفسه.

ثم إن المرأة بعد طهرها وقبل تطهرها قد لا تتغير حالتها النفسية مع زوجها لوجود أثر الحيضة فيها، فإذا ما تطهرت واغتسلت كان ذلك طهرا لنفسها قد يدعوها إلى ما يصرف عن زوجها التفكير في طلاقها.

وزيادة على ذلك كله تصريح الحديث بذلك في بعض رواياته ،هو تفسير لقوله)فإذا طهرت([270]

رابعا ـ أحكام الطلاق في الطهر الذي مسها فيه

أثر الطلاق في طهر مسها فيه:

والخلاف في المسألة مثلما ذكرنا سابقا في طلاق الحائض، وتكاد تتفق على نفس الأدلة، وسنذكر هنا بعض النقول عن أصحاب الأقوال للدلالة على ذلك:

القول الأول: وقوع الطلاق في هذه الحالة، وهو قول الجمهور، وقد ذكرنا أن هناك من ادعى الإجماع في المسألة، أما أقوال الأئمة في ذلك، ففي المدونة) قلت: هل كان مالك يكره أن يطلق الرجل امرأته في طهر قد جامعها فيه أم لا ؟ قال: نعم كان يكرهه ويقول: إن طلقها فيه فقد لزمه([271]، وقال الشافعي:) ولو طلقها طاهرا بعد جماع أحببت أن يرتجعها ثم يمهل ليطلق كما أمر وإن كانت في طهر بعد جماع فإنها تعتد به ([272]

القول الثاني: عدم وقوع الطلاق في هذه الحالة، وهو قول من ذكرنا سابقا يتزعمهم ابن حزم وابن تيمية ابن القيم،  قال ابن حزم:) فإن طلقها طلقة أو طلقتين في طهر وطئها فيه , أو في حيضتها: لم ينفذ ذلك الطلاق وهي امرأته كما كانت , إلا أن يطلقها كذلك ثالثة أو ثلاثة مجموعة فيلزم(، وقال ابن تيمية:) الطلاق في زمن الحيض محرم لاقتضاء النهي الفساد، ولأنه خلاف ما أمر الله به وإن طلقها في طهر أصابها فيه حرم ولا يقع([273]

حكم الرجعة من الطلاق في الطهر الذي مسها فيه:

اتفق الفقهاء[274] على أن من طلق زوجته في الطهر الذي مسها فيه قد ارتكب بذلك حراما، وهو طلاق بدعة، واختلفوا هل يجب عليه مراجعتها أم لا على قولين :

القول الأول: لا يجب عليه مراجعتها، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن عبد البر وابن قدامة، قال ابن عبدالبر:(أجمعوا على أن الرجعة لا تجب في هذه الصورة)، ولكن هذا الإجماع ليس ثابتا، ومن الأدلة على هذا القول :

·  عدم صحة القياس على الأمر بالرجعة في الطلاق من الحيض، لأن زمن الطهر وقت للوطء والطلاق وزمن الحيض ليس وقتا لواحد منهما، فظهر الفرق بينهما فلا يلزم من الأمر بالرجعة في غير زمن الطلاق الأمر بها في زمنه.

·  أن المعنى الذي وجبت لأجله الرجعة إذا طلقها حائضا منتف في صورة الطلاق في الطهر الذي مسها فيه، فإنه إنما حرم طلاقها في زمن الحيض لتطويل العدة عليها فإنها لا تحتسب ببقية الحيضة قرءا اتفاقا، فتحتاج إلى استئناف ثلاثة قروء كوامل، أما الطهر فإنها تعتد بما بقي منه قرءا ولو كان لحظة، فلا حاجة بها إلى أن يراجعها، فإن من قال الأقراء الأطهار كانت أول عدتها عنده عقب طلاقها، ومن قال هي الحيض استأنف بها بعد الطهر وهو لو راجعها، ثم أراد أن يطلقها لم يطلقها إلا في طهر فلا فائدة في الرجعة، وهذا هو الفرق المؤثر بين الصورتين.

القول الثاني: وجوب الرجعة في هذا الطلاق، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد كما ذكر ابن القيم، ومن الأدلة على ذلك :

·  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يطلقها إذا شاء قبل أن يمسها ،وقال: فتلك العدة التي أمر بها الله أن تطلق النساء)، وهذا ظاهر في التحريم.

·  أنه طلاق محرم فتجب الرجعة فيه كما تجب في الطلاق في زمن الحيض، ولأن زمن الطهر متى اتصل به المسيس صار كزمن الحيض في تحريم الطلاق، ولا فرق بينهما.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة مثلما ذكرنا سابقا هو عدم القول بالرجعة ـ إن قلنا بوقوع الطلاق ـ حتى لا تكثر عدد الطلقات، لأن الشرع قصد أمرين: تضييق الطلاق، وتقليل عدد الطلقات في حال عدم وجود مسلك له، حتى لا تنقطع علاقة الزوجية بالكلية.

حكم العدة في الطهر الذي مسها فيه :

اختلف الفقهاء القائلون بإيقاع الطلاق البدعي في بداية عدة من طلقها في طهر مسها فيه على قولين :

القول الأول: لو بقي من الطهر لحظة حسبت لها قرءا، وإن كان قد جامع فيه، باعتبار الأقراء الأطهار، وهو مذهب الإمام أحمد والشافعي ومالك وأصحابهم، ومن أدلتهم على ذلك:

·  أنه إنما حرم الطلاق في زمن الحيض دفعا لضرر تطويل العدة عليها، فلو لم تحتسب ببقية الطهر قرءا كان الطلاق في زمن الطهر أضر بها وأطول عليها.

·  لم يحرم الطلاق في الطهر لأجل التطويل الموجود في الحيض، ولكنه حرم لكونها مرتابة فلعلها قد حملت من ذلك الوطء، فيشتد ندمه إذا تحقق الحمل ويكثر الضرر،  فإذا أراد أن يطلقها طلقها طاهرا من غير جماع، لأنهما قد تيقنا عدم الريبة، وأما إذا ظهر الحمل فقد دخل على بصيرة وأقدم على فراقها حاملا.

القول الثاني: أن العدة إنما يكون استقبالها من طهر لم يمسها فيه، إن دل على أنها بالاطهار، وهو قول أبي عبيد، ومن الأدلة على ذلك:

·  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى بينهما في المنع من الطلاق فيهما، وأخبر أن العدة التي أمر بها الله أن يطلق لها النساء هي من وقت الطهر الذي لم يمسها فيه، فمن أين لنا أن الطهر الذي مسها فيه هو أول العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء.

·  أنه كما لا تكون عدتها متصلة بالحيضة التي طلق فيها ينبغي أن لا تكون متصلة بالطهر الذي مسها فيه، وكما لا تحتسب ببقية الحيضة لا تحتسب ببقية هذا الطهر الممسوسة فيه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة والأوفق بمقاصد الشريعة من ترك مدة كافية للعدة لتكون فرصة للمراجعة، هو الأخذ بالقول الثاني، ولا حرج في طول مدة العدة للزوجة بسبب ذلك، لأن ذلك قد يكون في مصلحة بيت الزوجية، أو في مصلحة الزوجة نفسها، ثم ما هو ضررها من طول العدة وزوجها مكلف برعايتها من كل النواحي.

وقد أشار ابن القيم إلى بعض النواحي المقاصدية في هذا، فذكر بأن الشارع إنما جعل استقبال عدة المطلقة من طهر لم يمسها فيه ليكون المطلق على بصيرة من أمره والمطلقة على بصيرة من عدتها أنها بالإقراء، فأما إذا مسها في الطهر ثم طلقها، فإنه لا يدري أحاملا هي أم حائلا، ولم تدر المرأة أعدتها بالحمل أم بالأقراء ؟فكان الضرر عليهما في هذا الطلاق أشد من الضرر في طللاقها وهي حائض ،فلا تحتسب ببقية ذلك الطهر قرءا كما لم يحتسب الشارع به في جواز إيقاع الطلاق فيه.

خامسا ـ حكم طلاق الحامل

اتفق الفقهاء على وقوع طلاق الحامل حتى من قال بعدم وقوع الطلاق البدعي لعدم بدعية هذا الطلاق، قال ابن تيمية:) أما طلاق السنة أن يطلقها في طهر لا يمسها فيه , أو يطلقها حاملا قد استبان حملها ; فإن طلقها في الحيض ; أو بعد ما وطئها وقبل أن يستبين حملها له: فهو طلاق بدعة ([275]

وقد اختلف العلماء في حكم طلاق الحامل هل هو سني أم بدعي على قولين:

القول الأول: أن طلاقها سني، وهو قول جمهور العلماء، قال ابن عبدالبر:(لا خلاف بين العلماء أن الحامل طلاقها للسنة) [276]، ومن الأدلة على ذلك:

·  ما ورد في الرواية الأخرى عن ابن عمر - رضي الله عنه - : أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(مره فليراجعها , ثم ليطلقها طاهرا , أو حاملا)

·      أنه إذا لم يكن طلاقها سنيا كان بدعيا بالضرورة، لأن القسمة منحصرة بينهما.

·  أن المرأة لها حالتان أحدهما أن تكون حائلا فلا تطلق إلا في طهر لم يمسها فيه، أو أن تكون حاملا فيجوز طلاقها، والفرق بين الحامل وغيرها في الطلاق إنما هو بسبب الحمل وعدمه، لا بسبب حيض ولا طهر، ولهذا يجوز طلاق   الحامل بعد المسيس دون الحائل.

·  أن حيض الحامل ـ في حال اعتبار حيضها ـ  ليس له تأثير في العدة لا في تطويلها ولا تخفيفها إذا عدتها بوضع الحمل.

القول الثاني: أن طلاق الحامل ليس بسني ولا بدعي[277]، وهو قول الشافعية، قال الشافعي: ولو لم يدخل بها أو دخل بها وكانت حاملا أو لا تحيض من صغر أو كبر، فقال: أنت طالق ثلاثا للسنة أو البدعة طلقت مكانها ; لأنها لا سنة في طلاقها ولا بدعة(وإنما يثبت لها ذلك من جهة العدد لامن جهة الوقت، والذي اقتضى هذا القول هو الجمع بين دليلين يحتملان كلا النوعين :

الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أباح طلاقها في طهر لم يمسها فيه، فإذا مسها في الطهر وحملت واستمر حملها استمر المنع من الطلاق، فكيف يبيحه تجدد ظهور الحمل ،فهذا الدليبل يقتضي بدعية طلاق الحامل.

الدليل الثاني: أن المعنى الذي لأجله حرم الطلاق بعد المسيس معدوم عند ظهور الحمل،  لأن المطلق عند ظهور الحمل قد دخل على بصيرة، فلا يخاف ظهور أمر يتجدد به الندم، وليست المرأة مرتابة لعدم اشتباه الأمر عليها، بخلاف طلاقها مع الشك في حملها، وهذا الدليل يقتضي سنية طلاق الحامل.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة بناء على ما ورد من نصوص، وما انتفى من محاذير سنية طلاق الحامل ونفوذه، لطول فترة الحمل، وهي كافية للرجعة إن أراداها.

ومن جهة ثانية، يكون طلاق الزوج بعد ثبوت حمل زوجته دليلا على عدم رغبته في الاستمرار بالزواج بها، وقد أشار إلى هذه الناحية السرخسي بقوله:) وإذا أراد أن يطلق امرأته وهي حامل طلقها واحدة متى شاء حتى أنه لا بأس بأن يطلقها عقيب الجماع، لأن كراهة الإيقاع عقيب الجماع لاشتباه أمر العدة عليها، وخوف الندم إذا ظهر بها حبل، وذلك غير موجود هنا، ولأن الحبل يزيد في رغبته فيها فيكون إيقاع الطلاق بعد ظهوره دليل عدم موافقة الأخلاق ([278]

وقد بين في الفروق سر الفرق بين التطليق بعد جماع الحامل والآيس والصغيرة دون غيرهما بقوله:) يجوز أن يطلق الحامل والآيسة والصغيرة عقيب جماعه، ولا يجوز أن يطلق ذوات الحيض في طهر قد جامعها فيه، والفرق أن الوطء في الآيسة , والصغيرة والحامل لا يفيد حبلا, فأمن الندم عقيب الوطء , لحدوث الحبل، فجاز له أن يطلقها كما لو مضت حيضة في ذوات الأقراء، وأما في ذوات الأقراء فلم يوجد ما يؤمن معه وجود الحبل من الوطء , فلم يؤمن الندم, فلا ينبغي له أن يطلقها , لقوله تعالى: ﴿ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ﴾(الطلاق:1)) [279]

ولكن مع ذلك فإن دائرة الطلاق، وإن توسعت من جهة الوقت، فإنها تضيق من جهة العدد، لأنه لا يصح تطليقها إلا مرة واحدة طول فترة الحمل، وقد سئل ابن القاسم:) أرأيت الحامل إذا أراد زوجها أن يطلقها ثلاثا كيف يطلقها ؟ قال: قال مالك: لا يطلقها ثلاثا ولكن يطلقها واحدة متى شاء ويمهلها حتى تضع جميع ما في بطنها..وقد قال مالك في طلاق الحامل للسنة أن يطلقها واحدة ثم يدعها حتى تضع حملا قال ذلك عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وغيرهما وقاله ابن المسيب وربيعة والزهري ([280]

أما لو أراد أن يضيق على نفسه فيجمع الطلقات جميعا، فإن لذلك حكمه الشرعي الذي سنراه في صيغة الطلاق.

 



([1])   سبق تخريجه.

([2])   انظر: لسان العرب: 13/98.

([3])   شرح التلويح: 3/334.

([4])   شرح التلويح: 3/334.

([5])   اختلف الحنفية في حد الجنون المطبق على قولين:

القول الأول: هو ما يستوعب الشهر، وهو قول أبو يوسف، لأن هذا القدر أدنى ما يسقط به عبادة الصوم، فكان التقدير به أولى.

القول الثاني: هو ما يستوعب الحول، وهو قول محمد، لأن المستوعب للحول هو المسقط للعبادات كلها فكان التقدير به أولى، شرح التلويح: 3/334..

([6])   سبق تخريجه.

([7])   قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن عجلان وعطاء بن عجلان ضعيف ذاهب الحديث، الترمذي:3/496،مصنف ابن أبي شيبة: 4/73.

([8])   الأم:5/235.

([9])   تبيين الحقائق:2/195.

([10])   المصباح المنير: 202.

([11])   فتح القدير:3/488.

([12])   المدونة:2/79.

([13])   فتح الباري:9/393.

([14])   طلبة الطلبة:125.

([15])   المدونة:2/79.

([16])   ابن أبي شيبة:4/29.

([17])   المغني:7/278.

([18])   ابن أبي شيبة:4/280.

([19])   شرح السير الكبير:5/2027.

([20])   نص الفقهاء على أن هذا بالنسبة لزوجته , أما إذا طلق الصبي أو الكافر زوجة غيره فتصح إجازة الزوج ; لأن المطلق حقيقة الزوج , ولذلك تعتد المطلقة من يوم إجازته لا من يوم الطلاق، انظر:حاشية العدوي:2/98.

([21])   اختلف الفقهاء القائلون بإيقاع طلاق الصبي المميز في السن الذي يكون به مميزا على الأقوال التالية، والتي حكاها ابن قدامة :

القول الأول:  تحديد من يقع طلاقه من الصبيان بكونه يعقل، وهو أكثر الروايات عن أحمد , وهو اختيار القاضي.

القول الثاني:  تحديده بما بين عشر إلى اثنتي عشرة إذا عقل الطلاق , وهو رواية عن أحمد، وهو يدل على أنه لا يقع لدون العشر. وهو اختيار أبي بكر، ووجه ذلك بأن العشر حد للضرب على الصلاة والصيام , وصحة الوصية , فكذلك هذا.

القول الثالث:  إذا أحصى الصلاة , وصام رمضان , جاز طلاقه، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن.

القول الرابع:   إذا بلغ أن  يصيب النساء، وهو قول عطاء.

القول الخامس:  إذا جاوز اثنتي عشرة، وهو قول إسحاق، انظر: المغني:7/290.

([22])   مجمع الزوائد: 4/334، البيهقي: 7/370، الدارقطني: 4/37، ابن ماجة: 1/672، قال ابن حجر: وفي إسناده بن لهيعة وهو ضعيف، وله طريق أخرى عند الطبراني في الكبير، وفيه يحيى الحماني ورواه بن عدي والدارقطني من حديث عصمة بن مالك وإسناده ضعيف، تلخيص الحبير:3/219، وانظر: الدراية: 2/199، كشف الخفاء:2/52.

([23])   سبق تخريجه.

([24])   الأم :5/270.

([25])   سبق تخريجه.

([26])   نص المالكية على أن للولي أن يطلق زوجة الصغير إن رأى المصلحة في ذلك، انظر: حاشية العدوي:2/98.

([27])   المبسوط :25/24.

([28])   مختار الصحاح:1/237، المصباح المنير:532.

([29])   عرف التفتازاني الاختيار بأنه القصد إلى مقدور متردد بين الوجود والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر، شرح التلويح على التوضيح:2/390.

([30])   شرح التلويح على التوضيح:2/390، البحر المحيط:2/75.

([31])   انظر: الفروع: 5/285، منار السبيل: 2/211، كشاف القناع: 5/235، كتب ورسائل ابن تيمية في الفقه: 33/38، المغني: 7/291، المهذب: 2/78، إعانة الطالبين: 4/6، الوسيط: 5/387، حاشية البجيرمي: 4/4، الهداية شرح البداية: 1/229، البحر الرائق: 3/266، حاشية ابن عابدين: 3/235، التاج والإكليل: 4/45، الشرح الكبير: 4/48.

([32])   وقد ذكر ابن حزم قولا ثالثا هو أن طلاق المكره إن أكرهه اللصوص لم يلزمه , وإن أكرهه السلطان لزمه، نسبه إلى الشعبي، ووروى قولا رابعا نسبه إلى إبراهيم وأحد قولي سفيان، وهو أن من أكره ظلما على الطلاق فورك إلى شيء آخر لم يلزمه , فإن لم يورك لزمه , ولا ينتفع الظالم بالتوريك.المحلى:9/464، وما ذكره من هذه الأقوال يؤول إلى ما ذكرنا.

([33])   القرطبي:10/184، نيل الأوطار:7/22، فتح الباري: 9/390، المغني:7/291.

([34])   أخرجه سعيد بن منصور عنه بإسناد صحيح، نيل الأوطار: 7/22.

([35])   قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، الحاكم: 2/216، وانظر: مجمع الزوائد: 6/250، البيهقي: 6/84، ابن ماجة: 1/959، وقد اختلف في الحكم على الحديث على ما يلي:

1. قال ابن رجب:  حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي r وخرجه ابن حبان في صحيحه والدارقطني وعندهما عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس عن النبي r وهذا إسناد صحيح في رواته كلهم محتج بهم في الصحيحين.

2. وقد أنكره الإمام أحمد جدا وقال ليس يروى فيه إلا عن الحسن عن النبي r مرسلا،وقال أبو حاتم هذه أحاديث منكرةكأنها موضوعة، وقال لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث عن عطاء وإنما سمعه من رجل لم يسمه توهم أنه عبدالله بن عامر أو إسماعيل بن مسلم قال: ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده، انظر: كشف الخفاء: 1/522، جامع العلوم والحكم: 1/373.

([36])   فتح الباري: 9/390.

([37])   قال ابن حجر: رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وأبو يعلى والحاكم والبيهقي من طريق صفية بنت شيبة عنها، وصححه الحاكم ،وفي إسناده محمد بن عبد بن أبي صالح وقد ضعفه أبو حاتم الرازي ورواه البيهقي من طريق ليس هو فيها لكن لم يذكر عائشة، وزاد أبو داود وغيره ولا إعتاق، تلخيص الحبير: 3/210، وانظر: الحاكم: 2/216، البيهقي: 7/357، الدارقطني: 4/36، ابن ماجة: 1/660، ابن أبي شيبة: 4/83، أحمد: 6/276.

([38])   انظر: تلخيص الحبير: 3/210، نيل الأوطار:7/22.

([39])   انظر الآثار الواردة عن الصحابة في ذلك في: المحلى:9/463، المصنف لابن أبي شيبة:4/39.

([40])   المحلى:9/463.

([41])   نص الحنفية على أن طلاق المكره واقع سواء كان المكره سلطانا , أو غيره أكرهه بوعيد متلف , أو غير متلف، المبسوط:24/40.

([42])   شرح معاني الآثار:3/95.

([43])   التحقيق في أحاديث الخلاف :2/294، وانظر: نصب الراية: 3/222.

([44])   الحاكم: 2/216، الترمذي: 3/490، البيهقي: 7/340، أبو داود: 2/259، ابن ماجة: 1/658، المنتقى لابن الجارود: 1/178، وهو من رواية عبد الرحمن بن حبيب بن أردك وهو مختلف فيه قال النسائي منكر الحديث ووثقه غيره فهو على هذا حسن، تلخيص الحبير:3/210.

([45])   سبق تخريجه.

([46])   قال ابن حجر: ذكره بن أبي حاتم في العلل عن أبي زرعة وأنه واه جدا، تلخيص الحبير:3/217، وقال البخاري: حديث منكر، نصب الراية: 3/222.

([47])   مسلم: 3/1414، البيهقي: 9/145.

([48])   مشكل الآثار:1/127.

([49])   شرح معاني الآثار: 3/95.

([50])   يحتمل أن ذلك لأنه لم ير ذلك إكراها.

([51])   انظر الآثار الواردة عن الصحابة في ذلك في: المحلى:9/463، المصنف:4/39، نصب الراية: 3/223.

([52])   بدائع الصنائع:7/182.

([53])   انظر ما يتعلق بطلاق الهازل في هذا المبحث.

([54])   والمقصود بخوف الإيقاع اليقين أو غلبة الظن , لأن غلبة الظن معتبرة عند عدم الأدلة , وتعذر التوصل إلى الحقيقة.

([55])   مختار الصحاح:49.

([56])   البحر المحيط:1/101، كشف الأسرار:4/330، شرح التلويح:2/359.

([57])   المنثور في القواعد الفقهية:2/16.

([58])   الأشباه والنظائر:200.

([59])   المنثور في القواعد الفقهية:2/13.

([60])   قواعد الأحكام:2/121.

([61])   مختار الصحاح:274، لسان العرب:15/322.

([62])   ذكر بعضهم عدم الحاجة لتعريف النسيان معللا ذلك بأنه من الوجدانيات التي لا تفتقر إلى تعريف بحسب المعنى فإن كل عاقل يعلم النسيان كما يعلم الجوع والعطش، انظر: التقرير والتحبير:2/177، ولكن مع ذلك يحتاج لهذا التعريف ولغيره مهما كان معروفا لضرورة الضبط.

([63])   التقرير والتحبير:2/177.

([64])   شرح التلويح:2/335.

([65])   غمز عيون البصائر:1/83.

([66])   مجمع الأنهر:1/148.

([67])   الفتاوى الفقهية الكبرى:4/178.

([68])   المبسوط:6/145.

([69])   درر الحكام:1/360.

([70])   سبل السلام:2/259.

([71])   شرائع الإسلام:3/4.

([72])   فتاوى الرملي:3/294.

([73])   الفتاوى الفقهية الكبرى:4/178.

([74])   الفتاوى الفقهية الكبرى:4/178.

([75])   أحكام القرآن لابن العربي:3/241.

([76])   البخاري: 1/3، ابن حبان: 2/113، البيهقي: 1/215، أبو داود: 2/262، ابن ماجة: 2/1413.

([77])   إعلام الموقعين:3/79.

([78])   .

([79])   المصباح المنير:320، لسان العرب:10/452.

([80])   انظر التعاريف الكثيرة للشك في:البحر المحيط:1/107.

([81])   المنثور في القواعد:2/255.

([82])   البخاري: 1/64، مسلم: 1/276، ابن خزيمة: 1/16، ابن حبان: 6/389، مسند أبي عوانة: 1/201، الترمذي: 1/109، الدارمي: 1/198.

([83])   البخاري: 2/724، ابن خزيمة: 4/59، ابن حبان: 2/498، الحاكم: 1/116.

([84])   قواعد الأحكام :2/18.

([85])   مختار الصحاح:75.

([86])   شرح التلويح:2/390، المبسوط:26/67، البحر المحيط:1/111.

([87])   بدائع الصنائع :3/101.

([88])   المغني: 7/294، المحلى :9/459.

([89])   نقلا عن المحلى :9/459، وهذا بخلاف من حلف بطلاق على شيء فوجده خلافا أو أن لا يكلم فلانا فكلمه ناسيا، ففي المدونة: سئل ابن شهاب عن رجل قال: هذا فلان , فقال رجل: ليس به , قال: امرأته طالق ثلاثا إن لم يكن فلانا , أو قال: إن كلم فلانا فامرأته طالق ثلاثا , فكلمه ناسيا قال: نرى أن يقع عليه الطلاق، وفيها عن يونس أنه سأل ربيعة عن رجل ابتاع سلعة فقال له رجل: بكم أخذتها فأخبره , فقال: لم تصدقني فطلق امرأته إن لم يخبره , فقال: بكم ؟ فقال: بدينار ودرهمين ثم إنه ذكر فقال: أخذتها بدينار وثلاثة دراهم قال ربيعة أرى إن خطأه بما نقص أو زاد سواء قد طلق امرأته ألبتة. انظر: المدونة: 2/80.

([90])   واتفقوا  على أن من صرح بذلك في اللفظ , فقال: طلقتك من وثاقي , أو فارقتك بجسمي , أو سرحتك من يدي. فلا شك في أن الطلاق لا يقع ; لأن ما يتصل بالكلام يصرفه عن مقتضاه , كالاستثناء والشرط.

([91])   سبق تخريجه.

([92])   إعلام الموقعين: 4/63.

([93])   إعلام الموقعين :4/65.

([94])   إعلام الموقعين:4/66.

([95])   مختار الصحاح:129، لسان العرب: 4/372.

([96])   أحكام القرآن لابن العربي: 1/552.

([97])   كشف الأسرار:4/352.

([98])   شرح التلويح على التوضيح:2/369.

([99])   المحلى: 9/472.

([100])   معالم القربة في معالم الحسية:35.

([101])   للشافعي في ذلك قولان: أحدهما: يلزمه الطلاق وعليه أكثر أصحابه. والثاني لا يلزمه وبه قال المزني.

([102])   اختلف قول المالكية في تصرفات السكران فقال مالك: طلاق السكران ونكاحه وجميع أفعاله جائزة إلا الردة فقط , فلا يحكم له في شيء من أموره بحكم المرتد، وروى عنه ابن وهب يجوز طلاقه ولا يجوز نكاحه، وقال مطرف بن عبد الله: لا يلزم السكران شيء ولا يؤاخذ بشيء , إلا بأربعة أشياء لا خامس لها - هكذا قال , ثم سماها - فقال: الطلاق , والعتق , والقتل , والقذف.

      وقال أبو عبدالله المازري: وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزم طلاق السكران، وقال محمد بن عبدالحكم لا يلزمه طلاق ولا عتاق، وقد نزل ابن رشد الخلاف على المخلط الذي معه بقية من عقله إلا أنه لا يملك الإختلاط من نفسه فيخطئ ويصيب قال فأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة فلا إختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعاله وأحواله فيما بينه وبين الناس وفيما بينه وبين الله تعالى، انظر: القرطبي: 5/204، المدونة:6/24، مواهب الجليل:3/452، التاج والإكليل:4/43.

([103])   سبق تخريجه.

([104])   سبق تخريجه.

([105])   قال ابن حزم: هذا خبر مكذوب قد نزه الله تعالى عليا وعبد الرحمن عنه، لأنه لا يصح إسناده، وقد رد عليه من باب المعنى بقوله:» ثم عظيم ما فيه من المناقضة، لأن فيه إيجاب الحد على من لا حد عليه، وهلا قلتم إذا هذى كفر وإذا كفر قتل« المحلى: 10/211، وانظر: زاد المعاد :5/213.

([106])   الأم:5/270.

([107])   منار السبيل: 2/210.

([108])   فتح القدير:1/468.

([109])   المحلى:10/209.

([110])   سبق تخريجه.

([111])   المحلى:10/210.

([112])   المحلى:10/210.

([113])   التعاريف:539، التعريفات:209.

([114])   انظر: الروض المريع: 3/145، زاد المستقنع: 181، كشاف القناع: 5/235، حواشي الشرواني: 8/32، حاشية ابن عابدين: 3/244، حاشية الدسوقي: 2/366.

([115])   نقل ابن القيم عن جعفر الصادق t قوله: « لا طلاق الا على بينة، ولا طلاق الا على طهر من غير جماع، وكل طلاق في غضب او يمين او عتق فليس بطلاق الا لمن اراد الطلاق »، فهم يشترطون في وقوع الطلاق اذن الشارع فيه ومالم يأذن فيه الشارع فهو عندهم لاغ غير نافذ، قال ابن تيمية:« وقولهم اصح في الدليل من قول من يوقع الطلاق الذي لم يأذن فيه الله وسوله ويراه صحيحا لازما»، انظر: طلاق الغضبان لابن القيم:64.

([116])   انظر: تفسير الطبري:2/409.

([117])   طلاق الغضبان:34.

([118])   البخاري: 5/2267، ابن حبان: 12/505، النسائي: 6/104.

([119])   أحمد: 4/226، مسند الطيالسي:.25، المعجم الكبير: 17/167.

([120])   سبق تخريجه.

([121])   طلاق الغضبان: 37.

([122])   البخاري: 6/2718، مسلم: 4/2063، ابن حبان: 3/257، النسائي: 6/150، الموطأ: 213، أحمد: 2/243.

([123])   البيهقي: 10/70، المجتبى: 7/28، المعجم الأوسط: 2/297، أحمد: 4/440، المعجم الكبير:18/164.

([124])   البخاري: 6/2616، ابن حبان: 11/449، الترمذي:3/620، البيهقي: 10/105، أبو داود: 3/302، ابن ماجة:2/776.

([125])   مسلم: 4/2009، البيهقي: 7/61، أحمد: 3/333.

([126])   البخاري: 5/2019.

([127])   طلاق الغضبان:38.

([128])   ولهذا ذهب بعض الفقهاء الى انه لا يجلد القذف في حال الخصومة والغضب وانما يجلد به اذا اتى به اختيارا وقصدا لقذفه وهو قول قوي جدا ويدل عليه ان الخصم لا يعذر بجرحه لخصمه وطعنه فيه حال الخصومة بقوله: هو فاجر ظالم غاشم يحلف على الكذب ونحو ذلك.

([129])   طلاق الغضبان:55.

([130])   طلاق الغضبان:71.

([131])   حاشية ابن عابدين:3/244.

([132])   فتح الباري: 9/389.

([133])   مختار الصحاح:290، لسان العرب:11/696..

([134])   المبسوط: 7/61.

([135])   إعلام الموقعين:3/100.

([136])   كشف الأسرار :4/357.

([137])   انظر: كشف الأسرار:4/357، شرح التلويح على التوضيح:2/373، التقرير والتحبير:2/195، تحفة المحتاج:8/29.

([138])   فيض القدير:3/300.

([139])   قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد وعبد الرحمن بن حبيب هذا هو بن أردك من ثقات المدنيين ولم يخرجاه، الحاكم:2/216، قال الترمذي:حديث حسن غريب والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي  r وغيرهم، الترمذي: 3/490، البيهقي: 7/340، أبو داود: 2/259، ابن ماجة: 1/658.

([140])   انظر هذه الآثار في: ابن أبي شيبة:4/115، مصنف عبد الرزاق: 6/133.

([141])   مجمع الزوائد:4/387.

([142])   أحكام القرآن لابن العربي:1/271.

([143])   إعلام الموقعين:3/100.

([144])   . ابن ماجة: 1/650، البيهقي: 7/322

([145])   انظر: المبسوط:6/202، 19/125، فما بعدها، بدائع الصنائع:6/37، كشف الأسرار: 1/122، تبيين الحقائق: 2/132، العناية: 4/99، 4/162.

([146])   واللفظان الأخيران عندهم كناية لا يقع بهما الطلاق إلا بالشروط التالية:

ـ أن ينوي الزوج والزوجة بها الطلاق.

ـ أن تضيف الطلاق إلى نفسها وإلى زوجها..

([147])   مواهب الجليل: 4/92، شرح حدود ابن عرفة: 332، التاج والإكليل: 5/387.

([148])   خلاصة الفرق بين التوكيل وبين التخيير والتمليك عند المالكية هي: أن الوكيل يعمل على سبيل النيابة عن موكله، والمملك والمخير يفعلان عن نفسهما لأنهما قد ملكا ما كان الزوج يملكه، والفرق بين التخيير والتمليك أن التخيير يجعل للمخير - سواء كانت الزوجة أو غيرها - الحق في إنشاء الطلاق الثلاث وإن لم ينو الزوج بها الثلاث، أما التمليك فإنه يجعل للغير الحق في الثلاث راجحاً ولكن يخص ما دون الثلاث بالنية، فإذا ملك الزوج امرأته الطلاق فطلقت نفسها ثنتين أو ثلاثاً، وقال هو: بل نويت تمليكها واحدة فإنه يسمع منه، أما إذا خيرها وكانت مدخولاً بها فطلقت نفسها ثلاثاً وقال: إنني نويت واحدة أو ثنتين فلا يسمع قوله، وحاصل الفرق أن المخيرة إذا كانت مدخولاً بها وطلقت نفسها ثلاثاً فإنه ينفذ ولا يسمع من الزوج دعوى أنه نوى أقل من ذلك، أما المملكة فإن له أن يعترض على ما زاد على الواحدة.

([149])   واختلف المالكية في الفرق بين التخيير والتمليك، فقيل :هو أمر عرفي لا مشاركة للغة فيه فقولهم في المشهور إن للزوج أن يناكر المملكة دون المخيرة إنما هو أمر مستفاد من العرف وعلى هذا ينعكس الحكم بانعكاس العرف.

 وقيل هو وإن كان تابعا للعرف إلا أن العرف تابع للغة أو قريب منها ; لأن التمليك إعطاء ما لم يكن حاصلا فلذلك قلنا إن للزوج أن يناكرها ; لأن الأصل بقاء ملكه بيده فلا يلزمه إلا ما اعترف أنه إعطاء.

وأما التخيير فقال أهل اللغة خير فلان بين الشيئين إذا جعل له الخيار , فيكون تخيير الزوجة معناه أن الزوج فوض إليها البقاء على العصمة والذهاب عنها , وذلك  إنما يتأتى لها إذا حصلت على حال لا يبقى للزوج عليها حكم وإنما يكون ذلك بعد الدخول في إيقاع الثلاث.

([150])   أ سنى المطالب: 2/261، شرح البهجة: 3/176، تحفة المحتاج: 8/83، مغني المحتاج: 3/239.

([151])   المغني: 5/51، 5/74، الفروع: 4/337، الإنصاف: 5/356،قواعد ابن رجب: 117.

([152])   المحلى:7/91.

([153])   شرائع الإسلام:3/4، الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية:4/374.

([154])   البحر الزخار:4/162.

([155])   شرح النيل:7/465.

([156])   مختار الصحاح:264.

([157])   انظر: حاشية الصاوي:2/593، الخرشي:4/69.

([158])   القرطبي:14/172.

([159])   المغني:7/308.

([160])   المحلى:9/291.

([161])   ذكره ابن حزم:المحلى:10/119.

([162])   البخاري: 4/1796، مسلم: 2/1103، ابن حبان: 10/89، الترمذي: 5/350 مجمع الزوائد: 5/10، البيهقي: 7/36، النسائي: 3/260، ابن ماجة: 1/662، المعجم الأوسط: 8/326، أحمد: 6/163.

([163])   ومن ذلك قول القرطبي:» إن شرط وجوابه ) فتعالين﴾ فعلق التخيير على شرط ،وهذا يدل على أن التخيير والطلاق المعلقين على شرط صحيحان، فينفذان ويمضيان خلافا للجهال المبتدعة الذين يزعمون أن الرجل إذا قال لزوجته أنت طالق إن دخلت الدار أنه لايقع الطلاق إن دخلت الدار، لأن الطلاق الشرعي هو المنجز في الحال«  القرطبي:14/170.، وما ذكره من فهمه وفهم الفقهاء لذلك لا دليل عليه في الآية ولا غيرها كما سنرى في الطلاق المعلق.

([164])   القرطبي:14/171.

([165])   المحلى:10/123.

([166])   وقال الشافعي: إن نوى ثلاثا، فلها أن تطلق ثلاثا، وإن نوى غير ذلك، لم تطلق ثلاثة، والقول قوله في نيته.

([167])   قال أحمد: الخيار على مخاطبة الكلام أن تجاوبه ويجاوبها، إنما هو جواب كلام، إن أجابته من ساعته، وإلا فلا شيء.

([168])   بخلاف تقييدها، كما لو جعل إليها أكثر من ذلك، فلها ما جعل إليها، سواء جعله بلفظه، مثل أن يقول: اختاري ما شئت. أو اختاري الطلقات الثلاث إن شئت. فلها أن تختار ذلك.

أما إن قال: اختاري من الثلاث ما شئت. فلها أن تختار واحدة أو اثنتين، وليس لها اختيار الثلاث بكمالها ; لأن من للتبعيض، فقد جعل لها اختيار بعض الثلاث، فلا يكون لها اختيار الجميع.

أو حدد بنيته، وهو أن ينوي بقوله: اختاري عددا، فإنه يرجع إلى ما نواه ; لأن قوله: اختاري كناية خفية، فيرجع في قدر ما يقع بها إلى نيته، كسائر الكنايات الخفية، فإن نوى ثلاثا، أو اثنتين، أو واحدة، فهو على ما نوى، وإن  أطلق النية، فهي واحدة، وإن نوى ثلاثا، فطلقت أقل منها، وقع ما طلقته ; لأنه يعتبر قولهما جميعا، فيقع ما اجتمعا عليه، كالوكيلين إذا طلق واحد منهما واحدة والآخر ثلاثا.

([169])   وقد تعقب هذا الدليل بأربعة أوجه ،هي:

الوجه الأول: أنه r كان المطلق لا النساء لقوله I :)وأسرحكن سراحا جميلا

الوجه الثاني :لو سلمنا أن الأزواج كن اللاتي طلقن لكن السراح لا يوجب إلا واحدة كما لو قال سرحتك.

الوجه الثالث: لو سلمنا أنه الثلاث لكنه مختص به r; لأن تحريم الطلاق الثلاث معلل بالندم وهو rأملك لنفسه منا.

الوجه الرابع :أن التخيير إنما كان بين الحياة الدنيا والدار الآخرة.انظر: أنوار البروق:3/211.

([170])   وهذا غير صحيح، ففي الصحيحين: أن عائشة رضي الله عنها قالت إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة , ثم فعل أزواجه مثل ذلك، انظر ما ذكرنا سابقا من تخريج الحديث.

([171])   القرطبي:14/171.

([172])   أنوار البروق :3/211.

([173])   مثل قوله للموكل: أمر امرأتي بيدك، أو جعلت لك الخيار في طلاق امرأتي،  طلق امرأتي.

([174])   المحلى:7/91.

([175])   بدائع الصنائع :6/37، المبسوط:19/131، المغني :5/53، 5/72.

([176])   ومثله أن يتصرف الموكل بنفسه فيما وكل به قبل تصرف الوكيل، لأن تصرف الموكل نفسه يتضمن عزل الوكيل ; لأنه أعجزه عن التصرف فيما وكله به والوكيل بعد ما انعزل لا يعود وكيلا، إلا بتجديد التوكيل.

([177])   وقد اتفقوا على أنه إن كان الموكل امرأة فارتدت، فالوكيل على وكالته حتى تموت أو تلحق بدار الحرب، لأن ردة المرأة لا تمنع نفاذ تصرفها ; لأنها لا تؤثر فيما رتب عليه النفاذ وهو الملك.

([178])   انظر: سبل السلام:3/179.

([179])   المدونة :2/71، الأم: 5/268، المصنف لابن أبي شيبة:4/20  مشكل الآثار: 1/131، المحلى 9/199، المغني: 9/415، أنوار البروق: 1/101، التاج والإكليل: 5/339، بدائع الصنائع: 3/138، شرائع الإسلام :3/5، تبيين الحقائق: 2/232.

([180])   إذا قال: إن اشتريت هذا الغلام فهو حر. فاشتراه عتق , وإن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق. فهذا غير الطلاق , هذا حق لله تعالى , والطلاق يمين , ليس هو لله تعالى , ولا فيه قربة إلى الله U، انظر: المبدع:7/324.

([181])   انظر: فتح الباري:9/381.

([182])   اختلف الفقهاء في الاستدلال بهذه الآية، فكل حملها على مراده، قال الجصاص:« تنازع أهل العلم في دلالة هذه الآية في صحة إيقاع طلاق المرأة بشرط التزويج، وهو أن يقول: » إن تزوجت امرأة فهي طالق « , فقال قائلون: قد اقتضت الآية إلغاء هذا القول وإسقاط حكمه ; إذ كانت موجبة لصحة الطلاق بعد النكاح , وهذا القائل مطلق قبل النكاح، وقال آخرون: دلالتها ظاهرة في صحة هذا القول من قائله ولزوم حكمه عند وجود النكاح ; لأنها حكمت بصحة وقوع الطلاق بعد النكاح , ومن قال لأجنبية: إذا تزوجتك فأنت طالق , فهو مطلق بعد النكاح ; فوجب بظاهر الآية إيقاع طلاقه وإثبات حكم لفظه. انظر: أحكام القرآن للجصاص:5/232.

([183])   انظر: المحلى:10/207.

([184])   ابن كثير:3/499.

([185])   زاد المسير:6/402.

([186])   الأم:5/268.

([187])   التحقيق في أحاديث الخلاف:2/289.

([188])   قال الترمذي: هذا حديث حسن , الترمذي: 3/486، الحاكم: 2/222، أحمد: 2/190.

([189])   انظر: فتح الباري:9/381.

([190])   الدارقطني: 4/17، وقال: يزيد بن عياض ضعيف، انظر: الحقيق في أحاديث الخلاف: 12/290.

([191])   الدارقطني:4/19، وانظر: التحقيق في أحاديث الخلاف:2/290.

([192])   الدارقطني: 4/16.

([193])   رواه أبو يعلى وصححه الحاكم وهو معلول، وأخرج ابن ماجه عن المسور بن مخرمة مثله وإسناده حسن لكنه معلول أيضا، قال الحاكم: أنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه، لقد صح على شرطهما من حديث ابن عمر وعائشة وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر، وهو معلول بما قاله الدارقطني: الصحيح مرسل ليس فيه جابر،  قال يحيى بن معين: لا يصح عن النبي r »لا طلاق قبل نكاح «، وقال ابن عبد البر:» روي من وجوه إلا إنها عند أهل العلم بالحديث معلولة «، سبل السلام:3/179.

([194])   أحمد: 2/189.

([195])   فتح الباري:9/384.

([196])   فتح الباري:9/384.

([197])   فتح الباري:9/384.

([198])   أحكام القرآن للجصاص: 5/232.

([199])   سبق تخريجه.

([200])   الدراية :2/72.

([201])   انظر هذه الآثار بأسانيدها وتخريجها في أحكام القرآن للجصاص:5/235.

([202])   وهو أن يقول مثلا: إن تزوجت امرأة من قبيلة كذا،  أو يضيف ذلك إلى بلد فيقول:: إن تزوجت امرأة من مصر أو تزوجت امرأة بالشام، أو يضيف ذلك إلى زمن لا يستوعب عمره أو أكثر مثل أن يقول: إن تزوجت هذا العام أو هذه العشرة الأعوام فمثل هذا يلزمه ; لأنه لم يسد على نفسه باب الاستمتاع.

([203])   المنتقى: 4/117، التاج والإكليل :5/339، أنوار البروق:1/101.

([204])   كشاف القناع:5/237.

([205])   تيببن الحقائق:2/153، الفتاوى الهندية:1/330، الجوهرة النيرة:2/78.

([206])   فتاوى الرملي:3/176.

([207])   المدونة:2/121.

([208])   فتح العلي المالك:2/9.

([209])   مطالب أولي النهى:5/327.

([210])   الفتاوى الكبرى:4/142.

([211])   الفتاوى الكبرى:4/142.

([212])   الفتاوى الكبرى:3/84.

([213])   اختلف المالكية في الشعر , والكلام على قولين:

القول الأول: تعليق الطلاق أو العتق بالشعر غير لازم وكذلك الكلام،, وكذلك من قال سعالك علي حرام، وهو قول سحنون ورواه ابن المواز عن ابن عبد الحكم، لأنه مما لا تحله الحياة.

القول الثاني:  أنه لازم، وقد روي عن أشهب، لأنه مما يقع به الالتذاذ على وجه الاستمتاع،  فأشبه الوجه , واليدين، انظر: المنتقى:4/6، قال ابن العربي:» فأما إذا قال لها: كلامك طالق ; فلا إشكال فيه، فإن الكلام حرام سماعه , فهو من محللات النكاح فيلحقه الطلاق« أحكام القرآن لابن العربي:1/651.

واختلفوا في إضافة الطلاق إلى الروح، وهو نفس الخلاف عند الشافعية، قال ابن العربي:» وأما الروح والحياة فليس للنكاح فيهما متعلق , فوجه وقوع الطلاق بتعليقه عليهما خفي , وهو أن بدنها الذي فيه المتاع لا قوام له إلا بالروح والحياة. وهو باطن فيها ; فكأنه قال لها: باطنك طالق , فيسري الطلاق إلى ظاهرها فإنه إذا تعلق الطلاق بشيء منها سرى إلى الباقي» أحكام القرآن:1/651.

([214])   المدونة:2/69.

([215])   الأم:5/200.

([216])   قواعد الأحكام:2/90.

([217])   لو أضاف الطلاق إلى دبرها لا يقع ; لأن الدبر لا يعبر به عن جميع البدن بخلاف الفرج، بدائع الصنائع:3/144.

([218])   المبسوط:6/89.

([219])   المبسوط:6/89.

([220])   انظر: المبسوط: 6/121.

([221])   مغني المحتاج:3/304.

([222])   المدونة:2/291.

([223])   المغني :7/304.

([224])   فتح القدير:4/3.

([225])   البخاري:6/1502.

([226])   قد جعل بعضهم كلام سحنون خلافا للأول وبعضهم موافقا وكأنه قال: وطلقة في أربع قال لهن بينكن ما لم يشرك فإن شرك طلقن ثلاثا ثلاثا وعلى أنه خلاف يكون المعول عليه الأول ومسألة التشريك الآتية  تدل على أنه مقابل وكلام المؤلف في التوضيح يستشعر منه أنه مرتضيه لأنه قال ونسبها ابن الحاجب لسحنون لاحتمال أنه لا يوافق عليه ابن القاس، الخرشي:4/52.

([227])   الخرشي:4/52.

([228])   مجمع الأنهر:1/389.

([229])   نهاية المحتاج:6/464..

([230])   مغني المحتاج:4/485.

([231])   الإنصاف:9/17.

([232])   الطرق الحكمية :252.

([233])   وللحنفية قول آخر هو أنه إذا طلق امرأة من نسائه لا بعينها , فإنه لا يحال بينه وبينهن , وله أن يطأ أيتهن شاء , فإذا وطئ انصرف الطلاق إلى الأخرى , واختاره ابن أبي هريرة من الشافعية.

([234])   هذا هو الدليل الأصلي للمسألة عند المالكية، ولكن القرافي ذكر لها الأدلة التالية، وقال بعد ذكرها منبها على عدم إيراد من سبقه على دليل ذلك :«فإذا قيل لهم: ما الدليل على مشروعية هذا الاحتياط في الشرع لم يجدوه وأما مع ذكر هذه القواعد فتصير هذه المسألة ضرورية بحيث يتعين الحق فيها تعينا ضروريا»، وقد تعقبه ابن الشاط بالرد على ما ذكره من قواعد، وقالبعدها:« والجواب الصحيح ما أجاب به الأكابر وهو أن الحكم إنما عم احتياطا للفروج ودليل مشروعية هذا الاحتياط كل دليل دل على وجوب توقي الشبهات.»أنوار البروق:1/157.

([235])   هذه هي القاعدة الأساسية التي اعتمد عليها القرافي، وقد تعقبها ابن الشاط بقوله:« ليس الأمور هو القدر المشترك بل أحد الأمور واحد غير معين منها، ولذلك صدق على كل واحد منها، وقوله والصادق على عدد وأفراد مشترك فيه بين تلك الأفراد إن أراد بذلك الحقيقة الكلية فليس أحد الأمور هو الحقيقة الكلية وإن أراد أن لفظ أحد الأمور يختص به معين من تلك الأمور فذلك صحيح ولا يحصل ذلك مقصوده.» أنوار البروق:1/157.

([236])   أنوار البروق:1/157.

([237])   المدونة: 2/70.

([238])   الطرق الحكمية :253.

([239])   اتفق الفقهاء القائلون بالقرعة على أن المطلقة بالقرعة إذا تزوجت لا يقبل قوله بأن المطلقة كانت غيرها , لما فيه من إبطال حق الزوج، حتى لو أقام بينة على أن المطلقة غيرها، لأن القرعة تصيب طريقا إلى وقوع الطلاق فيمن أصابتها، ولو كانت غير المطلقة في نفس الأمر , فالقرعة فرقت بينهما , وتأكدت الفرقة بتزويجها.

واتفقوا كذلك فيما إذا كانت القرعة بحكم الحاكم، فإن حكمه يجري مجرى التفريق بينهما فلا يقبل قوله بأن المطلقة غيرها، واختلفوا فيما لو لم تتزوج على قولين:

 القول الأول: تعود إليه من حين وقعت عليها القرعة , ويقع الطلاق بالمذكورة , وقد نص عليه أحمد، لأن القرعة إنما كانت لأجل الاشتباه , وقد زال بالتذكر.

القول الثاني: أنها لا ترد إليه بعد انقضاء عدتها وملكها نفسها , إلا أن تصدقه , ولهذا لو قال بعد انقضاء عدتها: كنت راجعتك قبل انقضاء العدة , لم تقبل منه إلا ببينة أو تصديقها , ولو قال ذلك والعدة باقية , قبل منه لأنه يملك إنشاء الرجعة، وهو اختيار ابن القيم، انظر: الطرق الحكمية:264.

([240])   قال ابن القيم:وبالجملة: فالقرعة طريق شرعي , شرعه الله ورسوله للتمييز عند الاشتباه , فسلوكه أولى من غيره من الطرق، الطرق الحكمية:261.

([241])   الطرق الحكمية:253.

([242])   الطرق الحكمية:257.

([243])   الطرق الحكمية:262.

([244])   انظر: القرطبي:3/132.

([245])   للحديث روايات مختلفة سنعرض لما تمس إليه الحاجة منها في أثناء هذا المبحث، انظر هذه الروايات في: البخاري: 5/2011، مسلم: 2/1095، المنتقى: 1/183، مسند أبي عوانة: 3/144، الدارمي: 2/213، البيهقي: 7/323، الدارقطني:4/6، مسند الشافعي: 101، أبو داود: 2/25، النسائي: 3/339، ابن ماجة: 1/651، الموطأ:2/576، أحمد: 2/61، مسند ابن الجعد: 409..

([246])   مجمع الزوائد:4/136.

([247])   التمهيد:15/51.

([248])   حاشية ابن القيم:6/174.

([249])   كتاب الآثار لأبي يوسف:129.

([250])   البيهقي: 7/325.

([251])   البيهقي: 7/325.

([252])   انظر: المغني: 7/278، بدائع الصنائع: 3/88، الفتاوى الكبرى: 3/225، الفروع: 5/274، فتح القدير: 3/483، التاج والإكليل: 5/302، أسنى المطالب: 3/263.

([253])   المحلى:9/365.

([254])   وهو نفس حكمهم في النفاس، والاختلاف نفسه جار فيه، فلذلك لم نذكر النفاس كل مرة بجنب الحيض، قال ابن عبد البر: » الحائض  والنفساء لا يجوز طلاق  واحدة منهما حتى تطهر، فإن طلقها زوجها في دم حيض أو دم نفاس طلقة أو طلقتين لزمه ذلك«التمهيد:15/68.

([255])   الفتاوى الكبرى:3/247.

([256])   انظر: القرطبي: 18/152، الجصاص: 3/99، المبدع:7/250، الإنصاف للمرداوي:8/448، روضة الطالبين: 8/7، المجموع: 2/386، شرح فتح القدير: 6/460، الفواكه الدواني: 2/33 وغيرها.

([257])   التمهيد:15/58.

([258])   التمهيد  :15/59.

([259])   سبق تخريجه.

([260])   التمهيد :15/58.

([261])   التمهيد: 15/64.

([262])   مسند الشافعي: 193، اختلاف الحديث: 261.

([263])   حاشية ابن القيم على سن أبي داود: 6/166 فما بعدها، المحلى:9/365، وانظر: زاد المعاد: 5/218، 5/634، شرح العمدة: 1/514، مجموع الفتاوى: 33/82، 3/31، 29/378.

([264])   سبق تخريجه.

([265])   بداية المجتهد:2/49.

([266])   التمهيد: 15/67.

([267])   بداية المجتهد:2/49.

([268])   حاشية ابن القيم: 6/174.

([269])   حاشية ابن القيم: 6/177.

([270])   انظر: نيل الأوطار:6/255.

([271])   المدونة:2/3.

([272])   الأم:8/295.

([273])   الفتاوى الكبرى:5/490.

([274])   حاشية بان القيم: 6/ 177.

([275])   الفتاوى الكبرى:3/247.

([276])   التمهيد:15/80.

([277])   ذكره ابن القيم في: حاشيةابن القيم على سن أبي داود  6/17، وابن تيمية في الفتاوى الكبرى: 3/277.

([278])   المبسوط:6/10.

([279])   الفروق:1/160.

([280])   المدونة:2/4..