المؤلف: نور الدين أبو
لحية |
العودة للكتاب: المقدمات الشرعية
للزواج |
الناشر: دار الكتاب الحديث |
الفهرس
|
3 ـ أحكام الزواج الأصلية والعارضة 1. الحاجة إلى الزواج مع القطع بظلم الزوجة: 2. الحاجة إلى الزواج مع عدم القدرة على الإنفاق : المفاضلة بين الزواج والتخلي للعبادة |
نتناول في هذا
الفصل ثلاثة أمور تعد من الأساسيات التي يلزم الراغب في الزواج التعرف عليها، وهي
:
v الحقيقة
الشرعية للزواج: وذلك لأن الحقيقة الشرعية للأشياء هي أول ما ينطلق منه المسلم في
أي سلوك أو عمل يقوم به، فالمصطلح الواحد قد يشترك في استعماله المحق والمبطل،
والشرع والهوى.
v مشروعية
الزواج، فلا يحل القدوم على أمر قبل معرفة حكم الله فيه، قال تعالى
:﴿
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الحجرات:1)
v
أحكام الزواج
المرتبطة بالحالات المختلفة لينزلها كل شخص على حالته الخاصة. تعالى
قد خصصنا مبحثا خاصا لكل أمر من هذه
الأمور.
1 ـ الحقيقة الشرعية للزواج
1 ـ لفظ النكاح[1]: يطلق لفظ
النكاح في اللغة على أمور منها:
الزواج: يقال: امرأَة يَنْكِحُها
نِكاحاً إِذا تزوجها، تقول: نَكَحْتُها ونَكَحْت هي أَي تزوَّجت؛ وهي ناكح فـي
بنـي فلان أَي ذات زوج منهم. قال الأَعشى فـي
نَكَحَ بمعنى تزوج:
ولا
تَـقْـرَبَـنَّ جـارةً إِنَّ سِـرَّهـا
علـيـك
حرامٌ فـانْكِحَنْ أَو تَـأَبَّـدا
الوطء: يقال:
نَكَحَها يَنْكِحُها إذا باضعها، قال الأَزهري: أَصل النكاح فـي كلام العرب الوطء،
وقـيل للتزوّج نكاح لأَنه سبب للوطء الـمباح، وقال ابن سيده: النِّكاحُ البُضْعُ،
وذلك من نوع الإِنسان خاصة، واستعمله ثعلب فـي الذُّباب؛ نَكَحَهَا يَنِكحُها
نَكْحاً ونِكاحاً، ورجل نُكَحَةٌ ونَكَحٌ:
كثـير النكاح.
2 ـ لفظ الزواج[2]: الزوج خلاف
الفَرْدِ. يقال: زَوْجٌ أَو فَرْدٌ، كما يقال شَفْعٌ أَو وِتْرٌ؛ ويقال هما
زَوْجان للاثنـين وهما زَوْجٌ كما يقال هما سِيَّانِ وهما سَواءٌ؛ قال ابن سيده:
الزَّوْجُ الفَرْدُ الذي له قَرِينٌ الزوج الاثنان وعنده زَوْجَا نِعالٍ زوجا
حمام؛ يعنـي ذكرين أَو أأُنثـيـين وقـيل يعنـي ذكراً وأُنثى ولا يقال زوج حمام
لأَن الزوج هنا هو الفرد.
قال أَبو بكر: العامة تخطئ فتظن أَن
الزوج اثنان ولـيس ذلك من مذاهب العرب إِذ كانوا لا يتكلـمون بالزَّوْجِ
مُوَحَّداً فـي مثل قولهم زَوْجُ حَمامٍ ولكنهم يثنونه فـيقولون عندي زوجان من
الـحمام يعنون ذكراً وأُنثى وعندي زوجان من الـخفاف يعنون الـيمين والشمال ويوقعون
الزَّوْجَيْنِ على الجنسين الـمختلفـين نـحو الأَسود والأَبـيض والـحلو والـحامض
قال ابن سيده: ويدل علـى أَن الزوجين فـي كلام العرب اثنان قول اللَّه تعالى :﴿
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾(النجم:45)؛ فكل
واحد منهما كما ترى زوج ذكراً كان أَو أُنثى ومثله قوله تعالى:﴿ فَجَعَلَ
مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى﴾(القيامة:39)وقال اللَّه تعالى
:﴿ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾(المؤمنون:27)
ويجمع الزوج أَزْوَاجا وأَزَاويجَ
وقد ازْدَوَجَتِ الطير افْتِعالٌ منه؛ وقوله تعالى ﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ
﴾(الأنعام:143)؛ أَراد ثمانـية أَفراد دل علـى ذلك؛ قال ولا تقول للواحد من
الطير زَوْجٌ كما تقول للاثنـين زوجان يل يقولون للذكر فرد وللأُنثى فَرْدَةٌ.
ويقال للرجل والـمرأَة الزوجان قال
اللَّه تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾(الأنعام:143)؛ يريد ثمانـية
أَفراد؛ والأَصل فـي الزَّوْجِ الصِّنْفُ والنَّوْعُ من كل شيء وكل شيئين مقترنـين
شكلـين كانا أَو نقـيضين فهما زوجان.
اختلفت تعاريف الفقهاء للزواج بحسب
آرائهم فيه وتصوراتهم له، فلذلك سنذكر بعض النماذج لهذه التعاريف، مع إرجاء ما
يتعلق بها من شرح وتفصيل لمحله:
v
عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو بترجمته [3].
v
حصول السكن والازدواج
بين الزوجين لمنفعة المتعة وتوابعها[4].
v
عقد بين
الزوجين يحل به الوطء[5].
v
هو عقد على
مجرد متعة التلذذ بآدمية غير موجب قيمتها ببينة قبله غير عالم عاقدها حرمتها إن
حرمها الكتاب على المشهور أو الإجماع على الآخر[6].
للتعاريف
المتقدمة ضوابط كثيرة سنتعرف عليها في محالها من هذه السلسلة، وسنكتفي هنا
بضابطين، هما ألصق ما يكون بحقيقة النكاح الشرعية، وهما:
اختلف الفقهاء في حقيقة النكاح
الشرعية، هل هي العقد أم الوطء أم كلاهما على الأقوال التالية:
القول الأول: أن لفظ النكاح
يطلق حقيقة على الوطء, مجازا على العقد، وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بما
يلي[7]:
أن اسم النكاح في الشريعة يدل على
معناه الحقيقي، فقد قال الله تعالى:﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا
بَلَغُوا النِّكَاحَ ﴾ِ(النساء:6)يعني الاحتلام، فإن المحتلم يرى في منامه
صورة الوطء.
وقال الله تعالى :﴿ الزَّانِي
لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا
إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِين﴾َ(النور:3)والمراد
الوطء.
أما في الموضع الذي حمل على العقد
فذلك لدليل اقترن به من ذكر العقد أو خطاب الأولياء في قوله: ﴿ وَأَنكِحُوا
الْأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾(النور:32)أو اشتراط إذن الأهل في قوله تعالى :﴿
فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ ﴾(النساء:25)
أن النكاح في اللغة عبارة عن الوطء ,
تقول العرب: تناكحت العرى أي تناتجت ويقول: أنكحنا العرى فسنرى لأمر يجتمعون عليه
وينظرون ماذا يتولد منه , وحقيقة المعنى فيه هو الضم ومنه يقال: أنكح الظئر ولدها
أي ألزمه , وقال القائل: إن القبور تنكح الأيامى والنسوة الأرامل اليتامى أي تضمهن
إلى نفسها واحد الواطئين ينضم إلى صاحبه في تلك الحالة فسمي فعلهما نكاحا.
أن لفظ النكاح استعير للعقد مجازا
إما لأنه سبب شرعي يتوصل به إلى الوطء , أو لأن في العقد معنى الضم , فإن أحدهما
ينضم به إلى الآخر ويكونان كشخص واحد في القيام بمصالح المعيشة.
القول الثاني: هو حقيقة في
العقد، مجاز في الوطء، فيحمل عليه بقرينة، وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بما
يلي[8]:
v أن
الأشهر استعمال لفظة النكاح بإزاء العقد في الكتاب والسنة ولسان أهل العرف، وقد
قيل: ليس في الكتاب لفظ نكاح بمعنى الوطء , إلا قوله تعالى:﴿ فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾(البقرة:230)
v أنه
يصح نفيه عن الوطء , فيقال: هذا سفاح وليس بنكاح
وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :(ولدت من نكاح , لا من سفاح)[9] ،ويقال عن
السرية: ليست بزوجة , ولا منكوحة.
v
أن النكاح أحد
اللفظين اللذين ينعقد بهما عقد النكاح , فكان حقيقة فيه, كاللفظ الآخر.
v أن
ما ذكره أصحاب القول الثالث يفضي إلى كون اللفظ مشتركا وهو على خلاف الأصل , وما
ذكره أصحاب القول الأول يدل على الاستعمال في الجملة.
v أنه
لو قدر كونه مجازا في العقد لكان اسما عرفيا , يجب صرف اللفظ عند الإطلاق إليه ; لشهرته
, كسائر الأسماء العرفية.
القول الثالث: أنه حقيقة في
العقد والوطء، وهو قول القاضي من الحنابلة، قال: الأشبه بأصلنا أنه حقيقة في العقد
والوطء جميعا ; لقولنا بتحريم موطوءة الأب من غير تزويج , لدخوله في قوله تعالى: ﴿
وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ ﴾(النساء:22)[10]
الترجيح:
نرى أن الخلاف في هذه المسألة مع
كثرة الجدل حولها خلاف لفظي باعتبارين:
باعتبار الدلالة اللغوية
والشرعية:
فقد ورد اللفظ ـ كما رأينا في اللغة ـ للدلالتين جميعا، ولا يصح ترجيح إحداهما على
الأخرى من هذه الجهة.
وفي النصوص الشرعية ورد كذلك
للدلالتين جميعا، فقد جاء في القرآن للعقد باتفاق كما في قوله تعالى: ﴿
فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾(النساء:3)وقوله تعالى:﴿
فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ ﴾(النساء:25)وقوله: ﴿
وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾(النور:32)، وجاء للوطء كما في قوله
تعالى :﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ﴾ِ(النساء:6)،
أي إذا بلغ اليتامى وقت القدرة على وطء النساء.
وقد وفق بين ابن تيمية بين المرادين
في اللغة والشرع والذي ينفي ما قد يوهم الاشتراك في اللفظ فقال :(لأن النكاح في اللغة الجمع والضم على أتم
الوجوه , فإن كان اجتماعا بالأبدان فهو الإيلاج الذي ليس بعده غاية في اجتماع
البدنين , وإن كان اجتماعا بالعقود فهو الجمع بينهما على وجه الدوام واللزوم ,
ولهذا يقولون استنكحه المذي إذا لازمه وداومه , يدل على ذلك أن ابن عباس - رضي
الله عنه - سئل عن المتعة وكان يبيحها
أنكاح هي أم سفاح فقال: ليست بنكاح ولا سفاح ولكنها متعة , فأخبر عمر - رضي الله
عنه - أنها ليست بنكاح لما لم يكن مقصودها
الدوام واللزوم)[11]
باعتبار الأثر العملي
للخلاف:
وقد اعتبر بعضهم أن لهذا الخلاف أثرا عمليا، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَا
تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ ﴾(النساء:22)فإن معناها
على اعتبار أن النكاح يراد به الوطء :(ولا
تطئوا ما وطئ آباؤكم)ويتناول ذلك الحلال والحرام، وتثبت بالآية حرمة المصاهرة بوطء
الأجنبية، وعلى القول الآخر معناها :(لا تعقدوا على ما عقد عليه آباؤكم)ولا يثبت
بها حرمة المصاهرة بوطء الأجنبية.
ومثله قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾(البقرة:230)[12]فبعضهم حمل
النكاح على العقد، فقال في الآية مد الحرمة إلى غاية وهي العقد وظاهرها يقتضي أن
تنتهي عند العقد ولا يشترط الوطء لحل المطلقة ثلاثا كما هو مذهب سعيد بن المسيب،
لكن زيد عليه الوطء بخبر ذوق العسيلة وهو مشهور،[13]وبعضهم حملها
على الوطء الذي نص عليه الحديث الشريف[14].
ونرى أن ما ذكر من هذا الأثر العملي
غير صحيح، لأن هذه الأقوال والخلافات الواردة فيها لا تستند فقط للتفريق بين معنيي
النكاح، وإنما لها أدلتها الخاصة، كما سنرى في محله إن شاء الله.
اتفق الفقهاء على أن النكاح من باب تمليك الانتفاع لا من باب
تمليك المنفعة لأنه يجوز للزوج أن يباشر بنفسه المنفعة، وليس له أن يمكن غيره من
تلك المنفعة، فهو ليس مالكا للمنفعة، بل مقتضى عقد النكاح أنه ينتفع هو خاصة لا
مالك المنفعة.
والفرق بين النوعين هو أن تمليك
الانتفاع يجيز له أن يباشر هو بنفسه فقط الانتفاع الذي تملكه، ومثاله سكنى المدارس
والمجالس في الجوامع والمساجد والأسواق ومواضع النسك كالمطاف والمسعى ونحو ذلك،
فله أن ينتفع بنفسه فقط، ولو حاول أن يؤاجر بيت المدرسة أو يسكن غيره أو يعاوض
عليه بطريق من طرق المعاوضات امتنع ذلك.
أما تمليك المنفعة فهو أعم وأشمل
فيباشر بنفسه ويمكن غيره من الانتفاع، ومثاله من استأجر دارا أو استعارها فله أن
يؤاجرها من غيره، أو يسكنه بغير عوض ويتصرف في هذه المنفعة تصرف الملاك في أملاكهم
على جري العادة، على الوجه الذي ملكه، فهو تمليك مطلق في زمن خاص حسبما تناوله عقد
الإجارة، أو أشهدت به العادة في العارية[15].
2 ـ مشروعية الزواج
دلت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة
على مشروعية الزواج، ولهذا انعقد الإجماع على ذلك، وصار معلوما من الدين بالضرورة
بحيث يكفر جاحده، وسنسوق في هذا المبحث ما أمكن من النصوص المثبتة لهذه المشروعية:
وردت النصوص القرآنية الكثيرة الدالة
على مشروعية الزواج والحث عليه وبيان الكثير من أحكامه، والمصححة لكثير من الأخطاء
حوله، وسنسرد هذه النصوص وما يتعلق بها من أحكام في مواضعها الخاصة، ولكنا سنذكر
هنا بعض النصوص كنماذج لما ورد في القرآن الكريم:
v قال
تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الروم:21)ففي هذه الآية توجيه
للأنظار للنعم التي وضعها الله تعالى في الزواج، وكيف هيأ الزوجين لبعضهما لتنتج
عن ذلك المودة والرحمة.
v قال
تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ
أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب﴾ٌ(الرعد: 38)وفي هذه الآية إخبار
بأن الزواج من سنن المرسلين، وفيه رد بليغ على الممتنعين عنه بحجة التعبد والتبتل.
v قال
تعالى :﴿ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(النور:32)وفي هذه الآية حث على تزويج
من للمسلم ولاية عليهم، ونهي عن جعل الفقر حاجزا بين المؤمن والزواج.
v قال
تعالى :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا
مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى
أَلَّا تَعُولُوا﴾(النساء:3) وفي هذه الآية إجازة للتعدد في إطاره الشرعي
الصحيح، وتنبيه للعلة من إجازته.
وردت النصوص الكثيرة عنه - صلى الله
عليه وسلم - في الحث عل الزواج والترغيب فيه، وقد أفردت لها المصنفات، قال ابن حجر
الهيثمي :(الأصل فيه قبل الإجماع الآيات
والأخبار الكثيرة، وقد جمعتها فزادت على المائة بكثير في تصنيف سميته الإفصاح عن
أحاديث النكاح)[16]، وسنسوق
الأحاديث المتعلقة بكل باب من أبواب الزواج في محله، وسنذكر هنا بعض الأمثلة
المرغبة في الزواج:
v قال
- صلى الله عليه وسلم - :(ما استفاد
المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيراً من زوجة صالحة , إن أمرها أطاعته , وإن نظر
إليها سرته , وان أقسم عليها أبرته , وان غاب عنها حفظته في نفسها وماله)[17] فقد اعتبر - صلى
الله عليه وسلم - في هذا الحديث الزوجة الصالحة للرجل أفضل ثروة يكتنزها من دنياه
- بعد الإيمان بالله وتقواه - وعدها أحد أسباب السعادة.
v
قال - صلى الله
عليه وسلم - :(الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)[18]
v قال
- صلى الله عليه وسلم - :(من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة , والمسكن الصالح ,
والمركب الصالح)[19]
v قال
- صلى الله عليه وسلم - :(يا معشر الشباب
من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه
بالصوم فإنه له وجاء[20])[21]
v
عن أنس بن مالك
- رضي الله عنه - أنه قال: جاء ثلاثة رهط
إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله
عليه وسلم -، فلما أخبروا كأنهم تقالوها[22]، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ،وقال آخر: أنا
أصوم الدهر ولا أفطر ،وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: أنتم
الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي
وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني[23])[24] قال ابن حجر
:(فيه إشارة إلى رد ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد
في العبادة بخلاف غيره , فأعلمهم أنه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أخشى
لله وأتقى من الذين يشددون وإنما كان كذلك لأن المشدد لا يأمن من الملل بخلاف
المقتصد فأنه أمكن لاستمراره وخير العمل ما داوم عليه صاحبه)[25]
v عن
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له :(يا علي ثلاث لا تؤخرها الصلاة إذا آنت
والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفئا)[26]
v عن
أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - :(أربع من
سنن المرسلين الحياء والتعطر والسواك والنكاح)[27]
v عن
أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال :(ثلاثة حق
على الله عونهم[28] المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي
يريد العفاف)[29]، قال الطيبي: إنما
آثر هذه الصيغة إيذانا بأن هذه الأمور من الأمور الشاقة التي تفدح الإنسان وتقصم
ظهره , لولا أن الله تعالى يعينه عليها لا يقوم بها , وأصعبها العفاف لأنه قمع
الشهوة الجبلية المركوزة فيه , وهي مقتضى البهيمية النازلة في أسفل السافلين ,
فإذا استعف وتداركه عون الله تعالى ترقى إلى منزلة الملائكة وأعلى عليين[30].
v عن
عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :(إن الدين يقضى من صاحبه يوم القيامة إذا
مات إلا من يدين في ثلاث خلال: الرجل تضعف قوته في سبيل الله فيستدين يتقوى به
لعدو الله وعدوه، ورجل يموت عنده مسلم لا يجد ما يكفنه ويواريه إلا بدين، ورجل خاف
الله على نفسه العزبة فينكح خشية على دينه فإن الله يقضي عن هؤلاء يوم القيامة)[31]
وردت الآثار الكثير عن الصحابة - رضي
الله عنهم - وهم قدوة المسلمين في كل
الأجيال تحث على الزواج وترغب فيه، وسنسوق هنا بعضها لما تحوي عليه من فهوم جليلة
لمقاصد الزواج وحقيقته بالإضافة إلى تأكيد مشروعيته[32].
فعن أبي بكر الصديق -
رضي الله عنه - قال: ابتغوا الغنى
في النكاح، وعنه قال :(أطيعوا الله فيما
أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى :﴿إِنْ يَكُونُوا
فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم﴾(النور:32)
وعن عمر - رضي الله عنه - قال: ابتغوا الغنى في الباءة وتلا ﴿إِنْ
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم﴾(النور:32)،
وعنه قال: والله إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله مني نسمة تسبح.، وعن
قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال: ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة،
وقد وعد الله فيما وعده فقال: ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم﴾(النور:32)
واعتبر عمر - رضي الله عنه - المانع من الزواج أحد أمرين العجز أو الفجور،
فقال لأبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور، وعنه قال: إني لأقشعر من
الشاب ليست له امرأة، ولو علم أنه ليس عيش من الدنيا إلا ثلاثة أيام لأحببت أن
أتزوج فيهن.
وعن ابن سيرين أن عتبة بن فرقد عرض
على ابنه التزويج فأبى، فذكر ذلك لعثمان فقال، له عثمان: أليس قد تزوج النبي - صلى
الله عليه وسلم - وقد تزوج أبو بكر وقد تزوج عمر، وعندنا منهن ما عندنا، فقال: يا أمير
المؤمنين! من له عمل مثل عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ومثل
عملك، فلما قال: مثل عملك، قال: كف، إن شئت فتزوج، وإن شئت فلا.
وعن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن
عباس: تزوج: قلت: ما ذاك في نفسي اليوم، قال: إن قلت ذاك لما كان في صلبك مستودعا ليخرجن،
وعنه قال: قال لي ابن عباس: تزوج، فإن خير هذه الأمة كان أكثرها نساء، وعن مجاهد
أن ابن عباس دعا مهجعا وكريبا فقال لهم: إنكم قد بلغتم ما تبلغ الرجال من شأن
النساء، فمن أحب منكم أن أزوجه زوجته، لم يزن رجل قط إلا نزع الله منه نور
الإسلام، يرده إليه إن شاء أن يرده أو يمنعه إياه إن شاء أن يمنعه.
3 ـ أحكام
الزواج الأصلية والعارضة
يختلف حكم الزواج باختلاف أحوال
الناس من حيث القدرة على التحصن والعفاف، والقدرة على الإنفاق على الزوجة، وعلى
هاتين الدلالتين حمل لفظ)الباءة)في قوله - صلى الله عليه وسلم - :(يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة،
فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)[33]
وقد اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين:
القول الأول: أن المراد معناها
اللغوي: وهو الجماع , فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤن
النكاح فليتزوج , ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته،
ويقطع شر منيه كما يقطع الوجاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم
مظنة شهوة النساء، ولا ينفكون عنها غالبا، وقد رجحه النووي.
القول الثاني: أن المراد
بالباءة مؤن النكاح، وسميت باسم ما يلازمها , وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح
فليتزوج , ومن لم يستطع فليصم، قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع
الشهوة , فوجب تأويل الباءة على المؤن، وهذا التعليل للبازري[34].
الترجيح :
لعل الأرجح في هذا الخلاف هو أن الحديث يحتمل
كلا المعنيين، لاحتمال اللغة ذلك، قال ابن حجر: ولا مانع من الحمل على المعنى
الأعم بأن يراد بالباءة القدرة على الوطء ومؤن التزويج[35]، وقال القاضي عياض: لا يبعد أن تختلف الاستطاعتان فيكون المراد
بقوله: من استطاع منكم الباءة ،أي بلغ الجماع وقدر عليه فليتزوج , ويكون قوله
:(ومن لم يستطع)أي لم يقدر على التزويج.
وقد أجاب ابن حجر على ما استشكله
المازري بأنه يجوز أن يرشد من لا يستطيع الجماع من الشباب لفرط حياء أو عدم شهوة
إلى ما يهيئ له استمرار تلك الحالة، لأن الشباب مظنة ثوران الشهوة الداعية إلى
الجماع، فلا يلزم من كسرها في حالة أن يستمر كسرها، فلهذا أرشد إلى ما يستمر به
الكسر المذكور فيكون قسم الشباب إلى قسمين: قسم يتوقون إليه ولهم اقتدار عليه
فندبهم إلى التزويج دفعا للمحذور، بخلاف الآخرين فندبهم إلى أمر تستمر به حالتهم
لأن ذلك أرفق بهم للعلة التي ذكرت في الرواية الأخرى[36].
وبناء على هذين الاعتبارين اختلفت
آراء الفقهاء في حكمه حسب أحواله المختلفة، فلا يخلو حال المتأهل للزواج من ثلاثة
أحوال :
اتفق الفقهاء على أنه إذا كان الشخص
قادراً على تكاليف الزواج واثقاً من نفسه القدرة على العدل مع زوجته وأنه لا يلحق
بها الضرر، ويتيقن أنه لو لم يتزوج وقع في الفاحشة ولا يستطيع التحرز عنها بأي
وسيلة، فإنه يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء ; قال الكاساني:(لا خلاف أن
النكاح فرض حالة التوقان , حتى أن من تاقت نفسه إلى النساء بحيث لا يمكنه الصبر
عنهن وهو قادر على المهر والنفقة ولم يتزوج يأثم)[37]
لأنه يلزمه إعفاف نفسه , وصونها عن
الحرام , وطريقه النكاح، ولأن ترك الزنى مفروض عليه والمانع من وقوعه فيه هو
التزوج فيكون وسيلة إلى الفرض.
ونفس الحكم ينطبق على المرأة فإنه
يفرض عليها الزواج إذا عجزت عن اكتساب قوتها وليس لها من ينفق عليها، وكانت عرضة
لمطامع أهل الفساد فيها ولا تستطيع أن تصون نفسها إلا بالزواج.
وهي أن يكون قادراً على تكاليف
الزواج واثقاً من نفسه أنه يؤدي حقوق الزوجة دون جور أو ظلم ولا يخشى في نفس الوقت
على نفسه الوقوع في الفاحشة إذا لم يتزوج.
وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه الحالة
على الأقوال التالية:
القول الأول: أنه فرض عين، وهو مذهب
الظاهرية، قال ابن حزم :(فرض على كل قادر على الوطء إن وجد من أين يتزوج أو يتسرى
أن يفعل أحدهما ولا بد , فإن عجز عن ذلك فليكثر من الصوم)[38]
وظاهر كلام أحمد أنه لا فرق بين
القادر على الإنفاق والعاجز عنه , حيث قال
:(ينبغي للرجل أن يتزوج , فإن كان عنده ما ينفق , أنفق , وإن لم يكن عنده ,
صبر , ولو تزوج بشر كان قد تم أمره)، وقال في رجل قليل الكسب , يضعف قلبه عن
العيال: الله يرزقهم , التزويج أحصن له , ربما أتى عليه وقت لا يملك قلبه. وهذا في
حق من يمكنه التزويج , فأما من لا يمكنه , فقد قال الله تعالى:﴿ وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ
نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾(النور:33)[39]، واستدلوا على
ذلك بما يلي:
v أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح وما عندهم شيء , ويمسي وما عندهم شيء ومع
ذلك لم يترك الزواج، ومثله كان حال كثير من الصحابة - لاضي الله عنهم -.
v أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - زوج رجلا لم يقدر على خاتم حديد , ولا وجد إلا إزاره
, ولم يكن له رداء.
v
الرد على ما
استدل بها المخالفون، ومنها:
قوله تعالى: ﴿ وَسَيِّدًا
وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ﴾(آل عمران:39)، قال ابن حزم
:(وهذا لا حجة فيه ; لأننا لم نأمر الحصور باتخاذ النساء , إنما أمرنا بذلك من له
قوة على الجماع)[40]
من الحديث :(خيركم في المائتين
الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد)، والآخر :(إذا كان سنة خمس ومائة فلأن يربي
أحدكم جرو كلب خير من أن يربي ولدا)قال ابن حزم :(وهذان خبران موضوعان ; لأنهما من
رواية أبي عصام رواد بن الجراح العسقلاني - وهو منكر الحديث - لا يحتج به، وبيان
وضعهما أنه لو استعمل الناس ما فيهما من ترك النسل لبطل الإسلام , والجهاد ,
والدين , وغلب أهل الكفر مع ما فيه من إباحة تربية الكلاب , فظهر فساد كذب رواد
بلا شك)[41]
القول الثاني: أنه فرض
كفاية، إن فعله البعض سقط الإثم عن الآخرين، وإليه ذهب بعض الفقهاء الحنفية.
وقد احتج لذلك بالأوامر الواردة في
باب النكاح والأمر المطلق للفرضية والوجوب قطعا , والنكاح لا يحتمل ذلك على طريق
التعيين ; لأن كل واحد من آحاد الناس لو تركه لا يأثم , فيحمل على الفرضية والوجوب
على طريق الكفاية , فأشبه الجهاد , وصلاة الجنازة , ورد السلام[42].
القول الثالث: أنه مباح
كالأكل والشرب، وإليه ذهب بعض الشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:
v قوله
تعالى:﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا
حَكِيمًا﴾(النساء:24)، فأخبر عن إحلال النكاح , والمحلل والمباح من الأسماء
المترادفة , ولأنه قال: ﴿ وأحل لكم ﴾ ولفظ لكم يستعمل في المباحات.
v قوله
تعالى: ﴿ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ﴾(آل
عمران:39)، وقد خرج هذا النص مخرج المدح ليحيى - عليه السلام - بكونه حصورا ,
والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة ولو كان واجبا لما استحق المدح بتركه ; لأن
ترك الواجب لأن يذم عليه أولى من أن يمدح[43].
v أن
النكاح سبب يتوصل به إلى قضاء الشهوة فيكون مباحا كشراء الجارية للتسري بها , وهذا
لأن قضاء الشهوة إيصال النفع إلى نفسه , وليس يجب على الإنسان إيصال النفع إلى
نفسه بل هو مباح في الأصل , كالأكل والشرب
, وإذا كان مباحا لا يكون واجبا لما بينهما من التنافي.
القول الرابع: أنه سنة، وهو
قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية[44]، ووافقهم الحنابلة في المشهور عندهم وبعض الشافعية، واستدلوا على
ذلك بما يلي:
v أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أركان
الدين من الفرائض وبين الواجبات , ولم يذكر من جملتها النكاح.
v أنه
كان في الصحابة - رضي الله عنهم - من لم
يتزوج , ولم ينكر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك, والصحابة - رضي الله
عنهم - فتحوا البلاد ونقلوا ما جل ودق من
الفرائض , ولم يذكروا من جملتها النكاح.
v أنه
كما يتوصل بالنكاح إلى التحرز عن الزنا يتوصل بالصوم إليه , كما قال - صلى الله
عليه وسلم - :(يا معشر الشبان عليكم
بالنكاح فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)[45]
v قال
- صلى الله عليه وسلم - :(النكاح سنتي فمن
رغب عن سنتي فليس مني)[46]فأخبر - صلى
الله عليه وسلم - أن ليس من سنته، وهو يفيد عدم الوجوب.
v أنه
قد وردت آثار كثيرة عن السلف الصالح ترغب في الزواج، وهي تفيد سنيته وفضله دون
وجوبه:
ومنها ما روي عن شداد بن أوس - رضي
الله عنه -، وكان قد ذهب بصره قال: زوجوني فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- أوصاني أن لا ألقى الله أعزب.
وقال معاذ - رضي الله عنه - في مرضه الذي مات فيه: زوجوني إني أكره أن ألقى
الله أعزبا.
وعن ميسرة قال: قال لي طاوس: لتنكحن
أو لأقولن لك ما قال عمر لأبي الزوائر: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور.
وعن طاوس قال: لا يتم نسك الشاب حتى
يتزوج.
وعن ابن مسعود قال: لو لم أعش أولم
أكن في الدنيا إلا عشرا لأحببت أن يكون عندي فيهن امرأة.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة في الحال
الذي وصفنا، وهو توفر القدرة وانتفاء الموانع هو القول بالوجوب للنصوص الكثيرة التي
لا يصح حملها على غيره، ولأن مقاصد شرعية كثيرة تتعلق بالفرد أو بالمجتمع ترتبط
ارتباطا كبيرا بالزواج.
ولكنه مع القول بوجوبه لا يصح إلزام
الناس به، أو اعتبارهم عاصين بتركه في هذه الحالة، لأن الموانع الشرعية تختلف باختلاف
الأفراد والأحوال، فلذلك يترك تحديد وقت الزواج، أو تركه كلية للحرية الشخصية لكل
فرد، فقد يمنعه من الزواج من الموانع الشرعية ما لا يستطيع التصريح به.
وهو من لا شهوة له , إما لأنه لم
يخلق له شهوة كالعنين , أو كانت له شهوة فذهبت بكبر أو مرض ونحوه , وقد تعارض فيه
عند الفقهاء وجهان وبناء على تغليب أحدهما يكون الحكم :
v
أن عموم النصوص
التي ترغب في الزواج تحمل حكمه على الاستحباب.
v
أن المضرة التي
قد تنتج عن الزواج، مثل منع زوجته من التحصين بغيره, ويضر بها , ويحبسها على نفسه
, ويعرض نفسه لواجبات وحقوق لعله لا يتمكن من القيام بها , ويشتغل عن العلم
والعبادة بما لا فائدة فيه تحمله على
الكراهة أو التحريم بحسب المضرة الناتجة.
وحكم هذه
الحالة يتردد بين الكراهة والتحريم كما يلي:
الحرمة: وهو فيما إذا
كان الشخص غير قادر على تكاليف الزواج أو كان قادراً عليها لكنه يقطع بأنه يظلم
زوجته إذا تزوج سواء كان ظلمها بالإيذاء أو بعدم القدرة على المخالطة الجنسية،
وذلك لأن الظلم حرام فما يكون طريقاً إليه يأخذ حكمه غير أن حرمته لا لذاته.
الكراهة: وهو فيما إذا
خاف الوقوع في الظلم إن تزوج إما لعجزه عن الإنفاق أو إساءة العشرة لشذوذ في خلقه
أو عدم قدرته على المخالطة الجنسية، فإذا خاف الوقوع في واحدة من ذلك كره له
التزوج كراهة تحريم أو تنزيه حسبما يخشاه من أنواع الظلم.
أما من يرجى منه النسل ولو لم يكن له
في الوطء شهوة , وكذا من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير المعاشرة
الجنسية مع عدم الإساءة إلى المرأة، فهو مندوب في حقه ـ كما قال القاضي عياض ـ أما
من لا نسل له ولا أرب له في النساء ولا في الاستمتاع فهذا مباح في حقه إذا علمت
المرأة بذلك ورضيت[47].
وهو قول جيد في المسألة خاصة مع
اشتراط علم المرأة بذلك، لأن مقاصد
الزواج لا تقتصر على المعاشرة الجنسية.
بقيت حالات أخرى، وهي تعرض هذه
الأحوال فيما بينها[48]، وهي:
1. الحاجة إلى الزواج مع القطع بظلم
الزوجة:
وهو ما إذا كان يقطع بالوقوع في الفاحشة
إن لم يتزوج كما يقطع بظلم الزوجة إن تزوج، والأرجح في هذه الحالة أن لا يتزوج
دفعاً للظلم، لأنه العلاج المتعين لذلك لقوله تعالى: ﴿ وَلْيَسْتَعْفِفْ
الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾(النور:33)
وهذا لا يعني إباحة الزنا، بل عليه
بعد أن يترك الزواج أن يقاوم كلا المحظورين، فيحارب شهوته بشتى الوسائل ليتغلب
عليها، ويقوم نفسه ليخلصها من رذيلة ظلم الغير، وما يجده سهلاً عليه يسير على ما
يقتضيه، فإن سهل عليه محاربة الشهوة دون الأخرى بقي على كفه عن التزويج، وان
استعصى عليه محاربة الشهوة ووجد من نفسه ميلاً إلى ترك الظلم تزوج.
ومن العلاجات الشرعية لمثل هذه
الحالة الصوم كما ورد في حديث
الباءة، والتداوي، وقد استدل الخطابي بنفس
الحديث على جواز التداوي لقطع الشهوة بالأدوية, وحكاه البغوي في شرح السنة , ولكن
ينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة , ولا يقطعها بالأصالة لأنه قد يقوى على وجدان
مؤن النكاح، بل قد وعد الله من يستعف أن يغنيه من فضله لأنه جعل الإغناء غاية
للاستعفاف, ولأنهم اتفقوا على منع الجب والإخصاء فيلحق بذلك ما في معناه[49].
2. الحاجة إلى الزواج مع عدم القدرة
على الإنفاق :
وهو ما إذا ما كان يقطع بالوقوع في
الفاحشة إن لم يتزوج كما يقطع بعدم القدرة على الإنفاق على الزوجة إلا من حرام إن
تزوج.
ففي هذه الحالة تعارض مقصدان للشرع
هما حفظ المال وحفظ العرض.
والأولى في هذه الحالة ـ والله أعلم
ـ حفظ العرض، وقد أشار الصاوي إلى الاحتمالين جميعا بقوله:( ولكن اعترض بأن الخائف
من الزنا مكلف بترك الزنا , لأنه في طوقه كما أنه مكلف بترك التزوج الحرام , فلا
يفعل محرما لدفع محرم فلا يصح أن يقال إذا خاف الزنا وجب النكاح , ولو أدى الإنفاق
من حرام , وقد يقال إذا استحكم الأمر فالقاعدة ارتكاب أخف الضررين)[50]، ونرى أن أشد
الضررين في هذه الحالة هو ضرر الفواحش والمنكرات لأنها تمس صميم الجانب الاجتماعي
بخلاف المال.
وقد فصل المسألة تفصيلا جيدا مبينا
أحكامها وطرق الموازنة فيها أبو حامد الغزالي، بعد ذكره لفوائد الزواج وآفاته
واعتبارها موازين يفضل على أساسها الزواج أو العزوبة، فقال :(فهذه مجامع الآفات
والفوائد، فالحكم على شخص واحد بأن الأفضل له النكاح أو العزوبة مطلقاً قصور عن
الإحاطة بمجامع هذه الأمور، بل تتخذ هذه الفوائد والآفات معتبراً ومحكماً ويعرض
المريد عليه نفسه)[51]
وقد جمع الغزالي بذلك بين النصوص
الواردة عن السلف المرغبة في الزواج أو المرغبة عنه، قال الغزالي :(فهكذا ينبغي أن
توزن هذه الآفات بالفوائد ويحكم بحسبها، ومن أحاط بهذا لم يشكل عليه شيء مما نقلنا
عن السلف من ترغيب في النكاح مرة ورغبة عنه أخرى، إذ ذلك بحسب الأحوال صحيح)[52]
ثم بين طريقة الموازنة في المسألة
وضابطها فيما يمكن تلخيصه فيما يلي:
v
إن انتفت في
حقه الآفات واجتمعت الفوائد بأن كان له مال حلال وخلق حسن وجدّ في الدين تام لا
يشغله النكاح عن الله، وهو مع ذلك شاب محتاج إلى تسكين الشهوة ومنفرد يحتاج إلى
تدبـير المنزل والتحصن بالعشيرة، فلا يماري في أن النكاح أفضل له مع ما فيه من
السعي في تحصيل الولد.
v
إن انتفت
الفوائد واجتمعت الآفات فالعزوبة أفضل له.
v إن
تقابل الأمران، فينبغي أن يوزن بالميزان القسط حظ تلك الفائدة في الزيادة من دينه
وحظ تلك الآفات في النقصان منه، فإذا غلب على الظن رجحان أحدهما حكم به.
v
وقد اعتبر
الغزالي أن أظهر الفوائد طلب الولد وتسكين الشهوة، وأظهر الآفات الحاجة إلى كسب
الحرام والاشتغال عن الله، فإن تعارضت هذه الأمور فإن أحكامها كما يلي:
v من
لم يكن في أذية من الشهوة وكانت فائدة نكاحه في السعي لتحصيل الولد وكانت الآفة
الحاجة إلى كسب الحرام والاشتغال عن الله فالعزوبة له أولى، فلا خير فيما يشغل عن
الله، ولا خير في كسب الحرام، ولا يفي بنقصان هذين الأمرين أمر الولد، فإن النكاح
للولد سعي في طلب حياة للولد موهومة، وهذا نقصان في الدين ناجز، فحفظه لحياة نفسه
وصونها عن الهلاك أهم من السعي في الولد وذلك ربح والدين رأس مال. وفي فساد الدين
بطلان الحياة الأخروية وذهاب رأس المال، ولا تقاوم هذه الفائدة إحدى هاتين
الآفتين.
v إذا
انضاف إلى أمر الولد حاجة كسر الشهوة لتوقان النفس إلى النكاح نظر: فإن لم يقو
لجام التقوى في رأسه وخاف على نفسه الزنا فالنكاح له أولى، لأنه متردد بـين أن
يقتحم الزنا أو يأكل الحرام، والكسب الحرام أهون الشرين.
v إن
كان يثق بنفسه أنه لا يزني ولكن لا يقدر مع ذلك على غض البصر عن الحرام فترك
النكاح أولى، لأن النظر حرام والكسب من غير وجهه حرام، والكسب يقع دائماً وفيه
عصيانه وعصيان أهله، والنظر يقع أحياناً وهو يخصه وينصرم على قرب، والنظر زنا
العين ولكن إذا لم يصدّقه الفرج فهو إلى العفو أقرب من أكل الحرام، إلا أن يخاف
إفضاء النظر إلى معصية الفرج فيرجع ذلك إلى خوف العنت فهو إلى العفو أقرب من أكل
الحرام، إلا أن يخاف إفضاء النظر إلى معصية الفرج فيرجع ذلك إلى خوف العنت.
v أن
يقوى على غض البصر ولكن لا يقوى على دفع الأفكار الشاغلة للقلب فذلك أولى بترك
النكاح، لأن عمل القلب إلى العفو أقرب، وإنما يراد فراغ القلب للعبادة ولا تتم
عبادة مع الكسب الحرام وأكله وإطعامه.
المفاضلة بين الزواج والتخلي للعبادة
اختلف الفقهاء في المفاضلة بين
الزواج والتخلي للعبادة على قولين:
القول الأول: إن النكاح
أفضل من التخلي لعبادة الله في النوافل , وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بما
يلي[53]:
v أن
الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾(المزمل:8)، فبين النبي - صلى الله عليه
وسلم - التبتل بفعله ; وشرح أنه امتثال الأمر , واجتناب النهي , وليس بترك
المباحات , ومن رغب عن سنته فليس منه.
v أن
حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى من الاستدلال بحال يحيى - عليه السلام -
مع أنه كان في شريعتهم العزلة أفضل من العشرة , وفي شريعتنا العشرة أفضل من
العزلة.
v
قال - صلى الله
عليه وسلم - :(لا رهبانية في الإسلام)[54]
v عن
أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن نفرا من
أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا
أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله
في السر ؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء وقال بعضهم: لا آكل اللحم وقال بعضهم: لا
أنام على فراش فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال أقوام قالوا
كذا ؟ لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر , وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)[55]
v عن
أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول: تزوجوا الودود
الولود , فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة[56]
v أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج حتى انتهى العدد المشروع المباح له , ولا
يجوز أن يقال بأنه إنما فعل ذلك ; لأن نفسه كان تواقة إلى النساء فإن هذا المعنى
يرتفع بالمرأة الواحدة , ولما لم يكتف بالواحدة دل أن النكاح أفضل.
v أن
عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - نهاه
النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التبتل , كما مر ذكره سابقا.
v أن
النكاح مشتمل على مصالح جمة، فالاشتغال به أولى من الاشتغال بنفل العبادة، فليس
المقصود بهذا العقد قضاء الشهوة فقط , وإنما المقصود المصلحة الشرعية المعتبرة.
v أن
الله تعالى علق بالزواج قضاء الشهوة ليرغب
فيه المطيع والعاصي المطيع للمعاني الدينية والعاصي لقضاء الشهوة مثل الإمارة ,
ففيها قضاء شهوة الجاه , والنفوس ترغب فيه لهذا المعنى مع أن المقصود بها ليس قضاء
شهوة الجاه بل قضاء إظهار الحق والعدل , ولكن الله تعالى قرن به معنى شهوة الجاه
ليرغب فيه المطيع والعاصي فيكون الكل تحت طاعته والانقياد لأمره، وبذلك يكون
الزواج موافقة لمراد الله التشريعي والتكويني.
v أن
منفعة العبادة قاصرة على العابد بخلاف منفعة النكاح فإنها لا تقتصر على الناكح بل
تتعدى إلى غيره وما يكون أكثر نفعا فهو أفضل.
القول الثاني: أن التخلي
لعبادة الله تعالى أفضل إلا أن تتوق نفسه إلى النساء , ولا يجد الصبر على التخلي
لعبادة الله، واستدلوا على ذلك بما يلي[57]:
v قوله
تعالى في الثناء على يحي - عليه السلام -: ﴿ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ﴾(آل
عمران:39)، فقد مدح يحيى - صلى الله عليه وسلم -
بأنه كان حصورا، والحصور هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على الإتيان فدل
أن ذلك أفضل.
v أن
النكاح من جنس المعاملات حتى يصح من المسلم والكافر , والمقصود به قضاء الشهوة,
وذلك مما يميل إليه الطبع فيكون بمباشرته عاملا لنفسه , وفي الاشتغال بالعبادة هو
عامل لله تعالى بمخالفة هوى النفس.
v أن
فيه اشتغالا بما خلقه الله تعالى لأجله , كما قال الله تعالى :﴿ وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي﴾(الذاريات:56)فكان هذا
أفضل إلا أن تكون نفسه تواقة إلى النساء فحينئذ في النكاح معنى تحصين الدين والنفس
عن الزنا كما قال عمر - رضي الله عنه - : أيما شاب تزوج فقد حصن ثلثي دينه فليتق
الله في الثلث الباقي فلهذا كان النكاح أفضل في حقه.
الترجيح:
لا ريب أن القول الأرجح في المسألة
هو ما عليه جمهور الفقهاء من فضل الزواج على التفرغ للعبادة، لأن العبادة بمعناها
الحقيقي الكامل لا تقتصر على الشعائر التعبدية، بل تتعداها إلى كل مناحي الحياة
بما فيها تكوين أسرة مسلمة صالحة.
وقد نص على هذا الترجيح الغزالي بعد
بيانه لفوائد وآفات الزواج فقد تساءل بعد بيانها :(فإن قلت: فمن أمن الآفات فما
الأفضل له: التخلي لعبادة الله، أو النكاح؟
ثم أجاب :(يجمع بـينهما، لأن النكاح ليس
مانعاً من التخلي لعبادة الله من حيث إنه عقد، ولكن من حيث الحاجة إلى الكسب، فإن
قدر على الكسب الحلال فالنكاح أيضاً أفضل، لأنّ الليل وسائر أوقات النهار يمكن
التخلي فيه للعبادة، والمواظبة على العبادة من غير استراحة غير ممكن، فإن فرض كونه
مستغرقاً للأوقات بالكسب حتى لا يبقى له وقت سوى أوقات مكتوبة والنوم والأكل وقضاء
الحاجة، فإن كان الرجل ممن لا يسلك سبـيل الآخرة إلا بالصلاة النافلة أو الحج وما
يجري مجراه من الأعمال البدنية فالنكاح له أفضل، لأن في كسب الحلال والقيام بالأهل
والسعي في تحصيل الولد والصبر على أخلاق النساء أنواعاً من العبادات لا يقصر فضلها
عن نوافل العبادة وإن كان عبادته بالعلم والفكر وسير الباطن، والكسب يشوّش عليه
ذلك، فترك النكاح أفضل)[58]
ولكن هذه الحالة التي يذكرها
الغزالي، والتي قد تمنع السالك طريق العلم والتدبر من الزواج حالة مؤقتة، وهي حالة
الضعف، والأكمل منها حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نص الغزالي على
ذلك بقوله :(فإن قلت: فلم ترك عيسى - عليه السلام - النكاح مع فضله؟ ووإن كان
الأفضل التخلي لعبادة الله فلم استكثر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - من الأزواج؟
فاعلم أنّ الأفضل الجمع بـينهما في حق من قدر ومن قويت منته وعلت همته فلا يشغله
عن الله شاغل، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - أخذ بالقوّة، وجمع بـين فضل العبادة
والنكاح، ولقد كان مع تسع من النسوة
متخلياً لعبادة الله، وكان قضاء الوطر بالنكاح في حقه غير مانع، كما لا
يكون قضاء الحاجة في حق المشغولين بتدبـيرات الدنيا مانعاً لهم عن التدبـير، حتى
يشتغلون في الظاهر بقضاء الحاجة وقلوبهم مشغوفة بهممهم غير غافلة عن مهماتهم، وكان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلوّ درجته لا يمنعه أمر هذا العالم عن حضور
القلب مع الله تعالى، فكان ينزل عليه الوحي وهو في فراش امرأته، أما عيسى - عليه
السلام - فإنه أخذ بالحزم لا بالقوّة، واحتاط لنفسه، ولعل حالته كانت حالة يؤثر
فيها الاشتغال بالأهل، أو يتعذر معها طلب الحلال، أو لا يتيسر فيها الجمع بين
النكاح والتخلي للعبادة فآثر التخلي للعبادة، وهم أعلم بأسرار أحوالهم وأحكام
أعصارهم في طيب المكاسب وأخلاق النساء، وما على الناكح من غوائل النكاح وما له
فيه، ومهما كانت الأحوال منقسمة حتى يكون النكاح في بعضها أفضل وتركه في بعضها
أفضل، فحقنا أن ننزل أفعال الأنبـياء على الأفضل في كل حال)[59]
وقد رد في موضع آخر على من يعتبر ترك
الزواج زهدا وتقربا لله، بقوله:(فإن علم أن المرأة لا تشغله عن ذكر الله ولكن ترك
ذلك احترازا من لذة النظر والمضاجعة والمواقعة، فليس هذا من الزهد أصلا، فإن الولد
مقصود لبقاء نسله وتكثير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من القربات، واللذة التي
تلحق الإنسان فيما هو من ضرورة الوجود لا تضره إذا لم تكن هي المقصد والمطلب، وهذا
كمن ترك أكل الخبز وشرب الماء احترازا من لذة الأكل والشرب، وليس ذلك من الزهد في
شئ ،لأن في ترك ذلك فوات بدنه فكذلك في ترك النكاح انقطاع نسله، فلا يجوز أن يترك
النكاح زهدا في لذته من غير خوف آفة أخرى)[60]
ولأجل هذا الاختلاف بين أحوال الناس
قوة وضعفا لا ينبغي الإنكار على من تأخر زواجه بسبب انشغال بعبادة من العبادات إن
لم يكن قصده من ذلك التنطع والرهبانية، قال الصنعاني بعد إيراده لحديث الثلاثة
السابق ذكره:(يحتمل أن تكون هذه الكراهة للتنطع , والغلو في الدين وقد يختلف ذلك
باختلاف المقاصد فإن من ترك اللحم - مثلا - يختلف حكمه بالنسبة إلى مقصوده , فإن
كان من باب الغلو والتنطع , والدخول في الرهبانية: فهو ممنوع مخالف للشرع وإن كان
لغير ذلك من المقاصد المحمودة , كمن تركه تورعا لقيام شبهة في ذلك الوقت في اللحوم
, أو عجزا , أو لمقصود صحيح غير ما تقدم لم يكن ممنوعا)
ثم عقب على ذلك بقوله: :(ولا شك أن
الترجيح يتبع المصالح , ومقاديرها مختلفة وصاحب الشرع أعلم بتلك المقادير فإذا لم
يعلم المكلف حقيقة تلك المصالح , ولم يستحضر أعدادها: فالأولى اتباع اللفظ الوارد
في الشرع)[61]
([6]) هذا التعريف الذي أورده المالكية للزواج من أشهر التعاريف عندهم، ومعناه أن
النكاح عبارة عن عقد على متعة التلذذ المجردة:
فقوله: عقد شمل سائر العقود.
وقوله: على متعة التلذذ خرج به كل عقد على متعة التلذذ؛ كالبيع والشراء.
وخرج بكلمة التلذذ العقد على متعة معنوية كالعقد على منصب أو جاه.
وخرج بقوله: المجردة عقد شراء أمة للتلذذ بها. فإن العقد في هذه الحالة لم
يكن لمجرد التلذذ بوطئها وإنما هو لملكها قصداً والتلذذ بها ضمناً فهو عقد شراء لا
عقد نكاح.
وقوله: بآدمية خرج به عقد المتعة بالطعام والشراب.
وقوله: غير موجب قيمتها خرج به عقد تحليل الأمة إن وقع ببينة، وذلك كأن
يملك شخص منفعة الاستمتاع بأمته فإن هذا لا يقال له عقد نكاح كما لا يقال له إجازة
وهو يوجب قيمة الأمة إن وقع، أما عقد النكاح فإنه لا يوجب قيمة العقود عليها.
وقوله: غير عالم عاقده حرمتها أي حرمة المعقود عليها بالكتاب أو الإجماع
فإن كانت محرمة عليه بالكتاب وعقد عليها وقع العقد باطلاً فلا يسمى نكاحاً من
أصله، وإن كانت محرمة بالإجماع سمي نكاحاً فاسداً هذا هو المشهور، وغير المشهور
أنه لا يسمى نكاحاً أصلاً سواء كان التحريم بالكتاب أو الإجماع، فقوله: غير عالم
عاقده حرمتها ان حرمها الكتاب معناه أن هذا قيد يخرج به عقد العالم بالتحريم
بالكتاب من عقد النكاح أصلاً.
وقوله: أو الإجماع على غير المشهور معناه أن هذا قيد يخرج به عقد العالم
بالتحريم بالإجماع فلا يسمى نكاحاً ولكن على خلاف المشهور.
وقوله: ببينة قبله أي قبل التلذذ وأخرج به ما إذا دخل بها قبل أن يشهد على
الدخول، فإن العقد لا يكون عقد نكاح، ويرد عليه أنه إذا دخل بها بدون شهود يفسخ
بطلقة وهذا فرع ثبوت النكاح، والجواب أن الفسخ حصل بناء على إقرارهما بالعقد ورفع
عنهما الحد بشبهة العقد، انظر: شرح حدود ابن عرفة: 152.
([9]) رواه الطبراني والبيهقي من طريق أبي الحويرث عن بن عباس وسنده ضعيف ورواه
الحارث بن أبي أسامة ومحمد بن سعد من طريق عائشة وفيه الواقدي ورواه عبد الرزاق عن
بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا، انظر: تلخيص الحبير: 3/176، خلاصة البدر
المنير: 2/198.
([12]) وبعض المحققين من الحنفية حملوا النكاح المذكور في هذه الآية على الوطء،
وقالوا ذكر العقد مستفاد بذكر قوله تعالى:) زوجا غيره ﴾، فلا يصير زوجا إلا بالعقد، فلا يحمل النكاح على العقد لأنه يكون تكرارا
غير مفيد فحملوه على الوطء وصار معناه: فلا تحل هذه المطلقة ثلاثا حتى تمكن من
وطئها رجلا، وقد تزوجها بعد انقضاء عدتها من الأول.
([20]) الوجاء: بكسر الواو وبجيم ومد وهو رض الخصيتين , وقيل رض عروقهما , ومن
يفعل به ذلك تنقطع شهوته , ومقتضى الحديث أن الصوم قامع لشهوة النكاح. وقد استشكل
ذلك بأن الصوم يزيد في تهييج الحرارة وذلك مما يثير الشهوة , لكن ذلك ـ كما أجاب
ابن حجر ـ إنما يقع في مبدأ الأمر، فإذا تمادى عليه واعتاده سكن ذلك. انظر: فتح
الباري:4/119.
([21]) مسلم: 2/1018، البخاري: 2/673، ابن حبان: 9/335، الدارمي: 2/177، البيهقي:
4/296، أبو داود: 2/219، النسائي: 2/95.
([23]) قوله t :« فليس مني » فرق العلماء في أمثال هذه العبارات
بين ما لو كانت الرغبة بضرب من التأويل، فإنه يعذر صاحبه فيه فمعنى " فليس
منى " أي على طريقتي ولا يلزم أن يخرج عن الملة، أما إن كان إعراضا وتنطعا
يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، فمعنى العبارة حينئذ « ليس على ملتي »لأن اعتقاد ذلك
نوع من الكفر.
([32]) انطر هذه الآثار وغيرها في: مصنف عبد الرزاق: 6/170، حي الولياء: 4/6، سير
أعلام النبلاء: 5/48، الإصابة: 7/157، المحلى: 9/440.
([33]) مسلم: 2/1018، البخاري: 2/673، ابن حبان: 9/335، الدارمي: 2/177، البيهقي:
4/296، أبو داود: 2/219، النسائي: 2/95.
([34]) ويعكر عليه قوله r في الرواية الأخرى :» كنا مع النبي
r شبابا لا نجد شيئا« فإنه يدل على أن المراد بالباءة الجماع، فتح الباري:
9/106.
([48]) لخص الصاوي هذه الأقسام جميعا في قوله: « وحاصل ما في المقام أن الشخص إما
راغب في النكاح أو لا , والراغب إما أن يخشى العنت أو لا , فالراغب إن خشي العنت
وجب عليه ولو مع إنفاق عليها من حرام , أو مع وجود مقتضى التحريم غير ذلك , فإن لم
يخش ندب له رجا النسل أم لا , ولو قطعه عن عبادة غير واجبة. وغير الراغب إن خاف به
قطعه عن عبادة غير واجبة كره , رجا النسل أم لا, وإن لم يخش ورجا النسل ندب , فإن
لم يرج أبيح. واعلم أن كلا من قسم المندوب والجائز والمكروه مقيد بما إذا لم يكن
موجب التحريم , والمرأة مساوية للرجل في هذه الأقسام إلا في التسري » حاشية
الصاوي:2/330.
([54]) قال الحافظ :لم أره بهذا اللفظ لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبران:ي
أن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة ،انظر: نيل الأوطار: 6/231.