الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: صيغ حل عصمة الزوجية

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

من القرآن الكريم

من السنة المطهرة

المقدمة

الباب الأول ـ صيغ حل عصمة الزوجية

أولا ـ أنواع التعبير عن الطلاق وشروطها

1 ـ أنواع التعبير عن الطلاق

النوع الثاني: الكتابة

حكم الطلاق بالكتابة:

أنواع صيغة الطلاق كتابة وأحكامها

الصيغة المقيدة:

الصيغة المطلقة:

شروط الطلاق بالكتابة

1 ـ نية الطلاق في الكتابة:

2 ـ أن تكون مستبينة مرسومة:

النوع الثالث: الإشارة

1 ـ تعريف:

2  ـ حكم الطلاق بالإشارة:

حكم ثبوت الثلاث بالإشارة:

شروط الطلاق بالإشارة:

أن يكون الأخرس عاجزا عن الكتابة:

أن تكون الإشارة مفهمة:

أن يكون الخرس دائما:

النوع الرابع: القصد المجرد عن اللفظ

2 ـ حكم الإشهاد على الصيغة

ثانيا ـ  ألفاظ التعبير عن الطلاق وأحكامها

أولا ـ التعريف

1 ـ الكناية

2  ـ الصريح:

ثانيا: ألفاظ التعبير عن الطلاق في المذاهب الفقهية

مذهب الحنفية:

مذهب المالكية:

مذهب الشافعية :

مذهب الحنابلة:

مذهب الزيدية:

مذهب الظاهرية:

مذهب الإمامية:

 

ثالثا: حكم طلاق الكناية

ألفاظ الكناية في الطلاق أحكامها

1 ـ لفظة الإطلاق:

2 ـ أنت الطلاق:

3 ـ الفراق والتسريح:

4 ـ الحقي بأهلك:

5 ـ قوله: أنت علي حرام :

6 ـ البات , وألبتة :

7 ـ اعتدي:

ثالثا ـ الصيغة المقيدة للطلاق وأحكامها

النوع الأول ـ الطلاق المقيد بإضافة

تعريفه:

أنواع الإضافة وأحكامها

أولا ـ الإضافة إلى الوقت:

إضافة الطلاق إلى زمان ماض:

إضافة الطلاق إلى زمان مستقبل:

ثانيا ـ الإضافة إلى الشخص:

النوع الثاني ـ الطلاق المعلق على شرط

تعريف التعليق:

حكم الطلاق المعلق:

شروط صحة التعليق

كون الزوج أهلا لإيقاع الطلاق عند التعليق:

قيام الزوجية بين الحالف والمحلوف عليها عند التعليق:

عدم استحالة المعلق عليه:

اتصال التعليق بالكلام:

عدم قصد المجازاة:

ذكر المشروط في التعليق:

وجود رابط:

النوع الثالث: الطلاق المقيد بالعدد

صورته:

حكمه:

أثره:

النوع الرابع: الطلاق المقيد بالاستثناء

أحوال الاستثناء وأحكامها

1 ـ استثناء عدد:

2 ـ استثناء مشيئة الله:

3 ـ استثناء مطلقة

وقت الاستثناء:

نية الحالف الاستثناء قبل الفراغ من التلفظ في الطلاق:

الإسرار بالاستثناء:

من القرآن الكريم

قال تعالى:﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) ﴾ (البقرة)

قال تعالى:﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُور﴾ ٌ(المجادلة:2)

 

من السنة المطهرة

قال - صلى الله عليه وسلم -:( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل به) (رواه البخاري ومسلم)

المقدمة

نتناول في هذا الجزء الركن الثالث من أركان الطلاق، وهو الصيغة، والتي اعتبرها بعضهم ـ لأهميتها ـ الركن الوحيد في الطلاق، فهي الكيفية التي يتم بها هذا النوع من التفريق.

وقد بالغ الكثير من الفقهاء في التشديد في صيغة الطلاق، مما قد يفتح مجالات من الطلاق قد تتناقض مع مقصد الشرع من تضييق هذا الباب،  ولهذا احتاج الكلام في هذا الموضوع إلى تفصيل كبير وأدلة مختلف الأقوال، والبحث عن الضوابط التي تقيد هذا الركن وتحصره في الحدود التي أرادها الشارع لتعبر عن حقيقة إرادة المطلق.

وقد قسمنا هذا الجزء إلى بابين:

الباب الأول: وهو مخصص للصيغ التي تكلم عنها الفقهاء باعتبارها من صيغ الطلاق، سواء قالوا بها أو لم يقولوا، وقد استدعى الكلام في هذا الباب الحديث عن ثلاثة مواضيع هي:

·      التعابير التي يمكن استعمالها للتطليق من اللفظ والكتابة والإشارة وغيرها.

·      صيغ التعابير اللفظية، باعتبارها هي الأصل في الاستعمالات العادية للطلاق.

·      تقييد صيغ الطلاق بمختلف التقييدات من الشرط والاستثناء والعدد ونحوها.

وهذه المواضيع الثلاثة هي جملة ما يبحث فيه الفقهاء في هذا الباب، ولا يخفى وجه الحصر فيها.

الباب الثاني: وقد خصصناه للصيغ التي علق الشرع عليها الكفارة، وهما صيغتان نص على كليهما القرآن الكريم هما: الظهار، والإيلاء.

وقد اعتبرناهما في الجزء الأول من (حل عصمة الزوجية المعلق بالكفارة)، وذلك جريا على إلصاق كثير من الفقهاء مسائلهما بمسائل التفريق، وقد حاولنا في هذا الجزء أن نبين الفرق الكبير بينهما وبين سائر أنواع التفريق، بل حاولنا أن نبين أنهما ألصق بأحكام العبادات منهما بأحكام التفريق.

ونحن ننتهج في هذا الجزء ما انتهجناه في أجزاء هذه المجموعة، وهو البحث في أقوال الفقهاء وفي المصادر الشرعية عما يحقق مقصد الشرع من حفظ الأسرة المسلمة، مع مراعاة الأدلة، وعدم بناء ذلك على الأهواء أو المصالح المتوهمة.

 

الباب الأول ـ صيغ حل عصمة الزوجية

أولا ـ أنواع التعبير عن الطلاق وشروطها

1 ـ أنواع التعبير عن الطلاق

لا يخلو التعبير عن الطلاق من أنواع أربعة تقتضيها القسمة العقلية، وهي تتدرج قوة واعتبارا كما يلي:

·      أن يعبر عن الطلاق بالكلام.

·      أن يعبر عن الطلاق بالكتابة.

·      أن يعبر عن الطلاق بالإشارة.

·      أن يعبر في نفسه عن إرادة الطلاق من غير استعمال أي وسيلة.

وقد يذكر البعض الآن بعض وسائل الاتصال الحديثة، وهي كما نرى لا تخرج عن هذه الوسائل الأربعة، فالتلفون والتلفزيون والإذاعة تدخل في التعبير الكلامي، والانترنت والفاكس يدخل في التعبير الكتابي، أو الكلامي، وأحكام هذه الوسائل هي نفس ما نص عليه الفقهاء بشرط كونها مأمونة.

وسنتناول هنا الأنواع الثلاثة الأخيرة بأحكامها وشروطها ونرجئ الحديث عن النوع الأول الذي هو أهم الأنواع إلى سائر الفصول.

النوع الثاني: الكتابة

وهو من أنواع التعبير عن المقاصد، ولكنه مع ذلك أدنى من المشافهة، ومما يدخل في مسمى الكتابة في عصرنا الإنترنت والفاكس وغيرها من الوسائل التي توصل المعلومة عن طريق الكتابة، فيمكن للزوج مثلا في عصرنا أن يرسل بطلاق زوجته عن طريق الفاكس، أو البريد الالكتروني بالإضافة للرسالة، ومن المسائل المتعلق بهذا النوع المسائل التالية:

حكم الطلاق بالكتابة:

اختلف الفقهاء في حكم الطلاق بالكتابة لمن قدر على النطق على قولين:

القول الأول: عدم صحة الطلاق كتابة لمن قدر على الكلام، وهو قول عطاء، فقد قال:)ومن كتب الطلاق ولم يلفظ بشيء فليس بطلاق(، وهو قول للشافعية، وهو مذهب ابن حزم، قال في المحلى:) ومن كتب إلى امرأته بالطلاق فليس شيئا ([1]وقد استدل على ذلك بقوله تعالى:﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ ﴾ (البقرة: 229)، وقوله تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾(الطلاق:1)، ووجه الاستدلال بالآيتين كما قال ابن حزم هو أن ذلك) لا يقع في اللغة التي خاطبنا الله تعالى بها ورسوله - صلى الله عليه وسلم - اسم تطليق على أن يكتب إنما يقع ذلك اللفظ به، فصح أن الكتاب ليس طلاقا حتى يلفظ به إذ لم يوجب ذلك نص([2]

القول الثاني: صحة الطلاق كتابة بالشروط التي سنذكرها، وهو قول جمهور الفقهاء، قال الباجي:) وأما من نوى الطلاق ولم يلفظ بشيء جملة، فلا يخلو أن يقترن به كتابة أو إشارة أو لا يقترن به شيء , فإن اقترنت به كتابة , وذلك أن ينوي إيقاع الطلاق بكتابة , فإنها طالق بذلك ([3]، ومن الأدلة على ذلك[4]:  

·  أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس, وإظهاره بالكتابة كإظهاره بالنطق كلفظه بالتوحيد يكتبه من لا يقدر على الكلام , فإنه يقضى له به.

·  أن البيان بالكتاب بمنزلة البيان باللسان ; لأن المكتوب حروف منظومة تدل على معنى مفهوم كالكلام، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مأمورا بتبليغ الرسالة , وقد بلغ تارة بالكتاب وتارة باللسان.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو صحة وقوع الطلاق كتابة لتعبيرها عن مقصد صاحبها، أما الزوجة، فلا تطلق بالرسالة ونحوها إلا بعد ثبوت ذلك بصفة قطعية لاحتمال تزوير الرسالة، وتزوير توقيع الزوج، فلذلك يمكن القول بصحة الطلاق، وتوقفه على ثبوته من الزوج، وهو ما يدعو إلى التثبت في إمضائه.

أما مجرد كتابة رسالة للزوجة يخبرها فيه بطلاقها من غير عزم، ومن غير إرسال ولا إشهاد  فإن ذلك يشبه حديث النفس، قال الباجي:)وإذا كتب الطلاق على غير عزم فله تركه ما لم يخرجه عن يده أو شهد عليه , فإن أخرجه عن يده على وجه الإرسال به إلى الزوجة فهو إنفاذ له كالإشهاد به وسواء كتب أنت طالق , أو إذا جاءك كتابي فأنت طالق قاله مالك ([5]

وهو كلام صحيح، لكنه عقب عليه بقوله:) فإذا كتب ولم يشهد به، ولم يخرجه عن يده،  فإن له رده ويحلف أنه ما أراد إنفاذ الطلاق، ووجه ذلك أنه يكتبه على وجه الارتياب فيه أو على وجه التهديد فيحلف لما احتمل أنه لم يكتبه إلا على وجه الطلاق([6]فلسنا ندري الضرورة الداعية لتحليفه، ولسنا ندري قبل ذلك الطريقة التي توصل بها من يريد تحليفه للكتاب، بعد أن أخفاه صاحبه، فمثل هذه الأمور الخاصة لا ينبغي التجسس عليها والتضييق على الناس بسببها، بل من ظفر بكتاب مثل هذا ضاع من صاحبه، فالأولى له أن يحرقه، فلعله يحرق بذلك النزغات الشيطانية التي أملت ذلك الكتاب، ويحفظ بيتا من بيوت المسلمين.

أنواع صيغة الطلاق كتابة وأحكامها

الصيغة المقيدة:

وهو أن يعلقها بشرط , أو استثناء , كما لو كتب: إذا أتاك كتابي هذا، وكان في حال كتابته للطلاق مريدا للشرط , لم يقع طلاقه في الحال ; لأنه لم ينو الطلاق في الحال , بل نواه في وقت آخر.

وإن كتب إلى امرأته: أما بعد , فأنت طالق طلقت في الحال , سواء وصل إليها الكتاب , أو لم يصل وعدتها من حين كتبه وإن كتب إليها: إذا وصلك كتابي فأنت طالق فأتاها الكتاب , طلقت عند وصوله إليها , وإن ضاع ولم يصلها , لم تطلق ; لأن الشرط وصوله وإن ذهبت كتابته بمحو , أو غيره , ووصل الكاغد , لم تطلق ; لأنه ليس بكتاب وكذلك إن انطمس ما  فيه لعرق , أو غيره ; لأن الكتاب عبارة عما فيه الكتابة وإن ذهبت حواشيه , أو تخرق منه شيء لا يخرجه عن كونه كتابا , ووصل باقيه طلقت ; لأن الباقي كتاب وإن تخرق بعض ما فيه الكتابة سوى ما فيه ذكر الطلاق فوصل طلقت ; لأن المقصود باق , فينصرف الاسم إليه وإن تخرق ما فيه ذكر الطلاق فذهب , ووصل باقيه , لم تطلق ; لأن المقصود ذاهب.

وقد نص الحنفية في هذا على أنه إذا كتب إلى امرأته كتابا على وجه الرسالة, وكتب فيه: إذا وصل إليك كتابي هذا فأنت طالق , ثم محا ذلك الطلاق منه , أو نفذ الكتاب وسطره باق ; وقع الطلاق، وإن محا جميع ما في الكتاب حتى لم يبق منه كلام يكون رسالة ; لم يقع الطلاق وإن وصل. والفرق أن الشرط في إيقاع الطلاق وصول الكتاب وقد وصل ما يسمى كتابا فوقع. وليس كذلك إذا محا الجميع ; لأن الشرط وصول الكتاب وما بقي لا يسمى كتابا , فلم يوجد شرط وقوعه ; فلم يقع[7].

الصيغة المطلقة:

وهي أن لا يذكر أي قيد في صياغته للطلاق، وحكم طلاقه في هذا يختلف بحسب نيته، فإن نوى الطلاق في الحال , غير معلق بشرط , فإنها تطلق منه حالا عند من يقول بصحة الطلاق بالكتابة.

أما إن لم ينو شيئا , فإن كان استمدادا لسبب من الأسباب , لم يقع طلاق قبل وجود الشرط ; لأنه لو قال: أنت طالق ثم أدركه النفس , أو شيء يسكته, فسكت لذلك , ثم أتى بشرط تعلق به , فالكتابة أولى.

شروط الطلاق بالكتابة

اشترط الفقهاء لوقوع الطلاق بالكتابة شرطين :

1 ـ نية الطلاق في الكتابة:

اختلف الفقهاء في اشتراط النية في الكتابة على قولين:

القول الأول:  إذا كتب الطلاق , فإن نواه طلقت زوجته، وإن لم ينو لم تطلق، وبهذا قال الشعبي , والنخعي , والزهري , والحكم , وأبو حنيفة , ومالك وهو المنصوص عن الشافعي، واستدلوا على ذلك بأن الكتابة محتملة , فإنه يقصد بها تجربة القلم , وتجويد الخط , من غير نية, ككنايات الطلاق فإن نوى بذلك تجويد خطه , أو تجربة قلمه , لم يقع ; لأنه لو نوى باللفظ غير الإيقاع , لم يقع, فالكتابة أولى.

القول الثاني: يقع الطلاق، ولو لم ينو، وهو قول الشعبي , والنخعي , والزهري , والحكم; ورواية عن أحمد، بناء على اعتباره من صيغ الطلاق الصريحة، وهي لا تفتقر إلى نية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لأن جزاء الأعمال مرتبط بالنية لا بصورة العمل، ولكن مع ذلك نرى حرمة التعامل غير الجدي مع هذه المسائل، كأن يكتب شخص ما مثل هذا فيطلع عليه أهله أو غيرهم فيكون في ذلك ضررا عليه وعليهم، بل نرى مثل هذا من الاستهزاء المحرم بآيات الله، ثم إن في هذا بعد ذلك اقترابا من هذه الحمى، ومن رعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.

2 ـ أن تكون مستبينة مرسومة:

والمقصود أن تكون مكتوبة بشكل ظاهر يبقى له أثر يثبت به , كالكتابة على الورق , أو الأرض , بخلاف الكتابة في الهواء أو الماء , فإنها غير مستبينة ولا يقع بها الطلاق , وهذا لدى الجمهور , وفي رواية لأحمد يقع بها الطلاق ولو لم تكن متبينة.

وقد نص الحنفية على أن الكتابة إذا كانت مستبينة ومرسومة يقع الطلاق بها, نوى أو لم ينو , وإذا كانت غير مستبينة لا يقع مطلقا وإن نوى. أما إذا كانت مستبينة غير مرسومة , فإن نوى يقع , وإلا لا يقع وقيل: يقع مطلقا، والكتابة المرسومة عندهم هي  ما كان  معتادا ويكون مصدرا ومعنونا , مثل ما يكتب إلى الغائب , والكتابة المستبينة هي ما يكتب على الصحيفة والحائط والأرض  على وجه يمكن فهمه وقراءته[8].

النوع الثالث: الإشارة

1 ـ تعريف:

لغة: التلويح بشيء يفهم منه ما يفهم من النطق , فهي الإيماء إلى الشيء بالكف والعين والحاجب وغيرها. وأشار عليه بكذا: أبدى له رأيه , والاسم الشورى[9].

اصطلاحا: لا يختلف معناها الاصطلاحي عند الفقهاء عن معناها اللغوي، بخلاف معناها عند الأصوليين، فهم يستعملونها في مبحث الدلالات , ويعرفون دلالة الإشارة بأنها: دلالة اللفظ على ما لم يقصد به , ولكنه لازم له.

2  ـ حكم الطلاق بالإشارة:

اتفق الفقهاء[10] على أن إشارة الأخرس في الطلاق يصح اعتبارها، بخلاف إشارة من له القدرة على الكلام، قال ابن قدامة:) ولا يقع الطلاق بغير لفظ الطلاق , إلا في موضعين ; أحدهما , من لا يقدر على الكلام , كالأخرس إذا طلق بالإشارة , طلقت زوجته. وبهذا قال مالك , والشافعي , وأصحاب الرأي. ولا نعلم عن غيرهم خلافهم ([11]

واستدل لذلك ابن حزم بقوله:) وأما الأخرس، فإن الله تعالى يقول:﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾(البقرة:286)، وليس في وسعه الكلام فلا يجوز أن يكلف إياه، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :) إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم(، فصح أنه يلزم كل أحد مما أمر الله تعالى به ما استطاع، والأخرس يستطيع الإفهام بالإشارة فعليه أن يأتي بها([12]

إلا أن المالكية قد نصوا على ما يشير إلى وقوع طلاق القادر على الكلام، قال الباجي:) إن نوى الطلاق وأشار به لزمه الطلاق، ولا فرق بين إظهاره بالكتابة أو إظهاره بالنطق سواء أشار بيده أو رأسه([13]  واستدل لذلك بما يلي:

·      قوله تعالى :﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ﴾ِ(آل عمران:41)

·      أن طلاق الأخرس إنما يكون بالإشارة.

·      أن الإشارة عبارة عما نواه منه كالنطق.

حكم ثبوت الثلاث بالإشارة:

نص الفقهاء القائلون باعتبار الطلاق الثلاث في مجلس واحد على أن الأخرس إن أشار بأصابعه الثلاث إلى الطلاق , طلقت ثلاثا ; لأن إشارته جرت مجرى نطق غيره، أما القادر على الكلام، فإنه لو قال: أنت طالق، وأشار بأصابعه الثلاث لم يقع إلا واحدة.

أما إن قال: أنت طالق هكذا، وأشار بأصابعه الثلاث , فإنها تطلق ثلاثا، وقد استدلوا على ذلك بأن قوله هكذا تصريح بالتشبيه بالأصابع في العدد , وهو بذلك يصلح أن يكون دليلا على مراده، كما ثبتت الإشارة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم - :) الشهر هكذا وهكذا وهكذا ،وأشار بيديه مرة ثلاثين , ومرة تسعا وعشرين.

شروط الطلاق بالإشارة:

ولكن مع اتفاق الفقهاء على صحة إشارة الأخرس، فإن الأمر ليس على إطلاقه، بل قيد أكثر الفقهاء ذلك بما يضيق الأمر في إطار محدود حتى لا يتخذ من إشارة الأخرس مهما كانت وسيلة للتفريق بينه وبين زوجه، وهذا ما ذكروا من شروط:

أن يكون الأخرس عاجزا عن الكتابة:

اختلف الفقهاء في اشتراط عجز الأخرس عن الكتابة لوقوع طلاقه بالإشارة على قولين:

القول الأول: عدم اعتبار هذا الشرط،  مع أولوية الكتابة على الإشارة للقادر عليها، وهو قول جمهور الفقهاء، ففي المدونة مثلا: أرأيت الأخرس , هل يجوز طلاقه ونكاحه وشراؤه وبيعه وتحده إذا قذف وتحد قاذفه وتقتص له في الجراحات وتقتص منه ؟ قال: نعم هذا جائز فيما سمعت من مالك , وبلغني عنه إذا كان هذا يعرف من الأخرس بالإشارة وبالكتاب يستيقن ذلك منه فإن ذلك لازم للأخرس قلت: وكذلك إن كتب بيده الطلاق والحرية ؟ قال: قد أخبرتك أن مالكا قال: يلزمه ذلك في الإشارة فكيف لا يلزمه في الكتاب؟([14]

القول الثاني: اعتبار هذا الشرط، وعدم صحة إشارة الخرس القادر على الكتابة، وهو قول للحنفية في ظاهر الرواية , وقول للشافعية، قال الغزالي:) وأما كتابة الأخرس فهو طلاق لأنها أظهر من الإشارة، ومع ذلك فلا نكلف الأخرس القادر على الكتابة بأن يكتب الطلاق، بل نقنع بالإشارة،  وأما القادر فإشارته فيها لا نجعلها صريحا لأن عدوله إليها مع القدرة موهم ([15]

وقد نص ابن عابدين على أن هذا هو ظاهر الرواية، قال:) ففي كافي الحاكم الشهيد ما نصه: فإن كان الأخرس لا يكتب، وكان له إشارة تعرف في طلاقه ونكاحه وشرائه وبيعه فهو جائز، وإن كان لم يعرف ذلك منه أو شك فيه فهو باطل(، قال تعليقا على هذه الرواية:) فقد رتب جواز الإشارة على عجزه عن الكتابة فيفيد أنه إن كان يحسن الكتابة لا تجوز إشارته([16]

وقد عبر السرخسي عن العلة في هذا التشديد بقوله:) وإن كان الأخرس لا يكتب , وكانت له إشارة تعرف في طلاقه ونكاحه وشرائه وبيعه فهو جائز استحسانا , وفي القياس لا يقع شيء من ذلك بإشارته ; لأنه لا يتبين بإشارته حروف منظومة ; فبقي مجرد قصده الإيقاع, وبهذا لا يقع شيء , ألا ترى أن الصحيح لو أشار لا يقع شيء من التصرفات بإشارته ولكنه استحسن , فقال: الإشارة من الأخرس كالعبارة من الناطق , ألا ترى أن في العبادات جعل هكذا حتى إذا حرك شفتيه بالتكبير , والقرآن جعل ذلك بمنزلة القراءة من الناطق , فكذلك في المعاملات ; وهذا لأجل الضرورة ; لأنه محتاج إلى ما يحتاج إليه الناطق , فلو لم يجعل إشارته كعبارة الناطق أدى إلى أن يموت جوعا , وهذه الضرورة لا تتأتى في حق الناطق([17]

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار هذا الشرط، لأن الإشارة مهما كان ظهورها لن تعبر عن صريح الطلاق، فلذلك كانت الكتابة هي المؤدية لهذا الغرض، لكن إن كان عاجزا، فإنه لا ينبغي الاستعجال بالحكم عليه بتطليق زوجته إلا بعد التريث لمعرفة حقيقة قراره.

هذا بالنسبة للأخرس العاجز عن السمع، أما القادر على السمع، فإنه يسهل التعرف على رأيه، ولو بدون الحاجة إلى الكتابة.

أن تكون الإشارة مفهمة:

فقد نص الفقهاء على أنه يقع الطلاق بإشارة القادر على الكلام , كالأخرس إن كانت إشارته مفهمة[18] , أما إن لم تكن مفهمة فلا يقع بها الطلاق عند أكثر الفقهاء , وفي قول لبعض المالكية يقع بها الطلاق بالنية، ولسنا ندري كيف يتعرف على النية مادم هذا الأخرس عاجزا عن الكلام وعن التفهيم بالإشارة.

أن يكون الخرس دائما:

وقد نص الحنفية على أن الأخرس هو الذي ولد وهو أخرس أو طرأ عليه ذلك ودام حتى صارت إشارته مفهومة وإلا لم تعتبر[19]، قال الطحاوي:) الخرس مخالف للصمت العارض كما أن العجز عن الجماع العارض بالمرض ونحوه يوما ونحوه مخالف العجز الميؤوس معه الجماع نحو المجبوب ([20]

وبناء على ذلك نصوا على أن المريض، وإن اعتقل لسانه لا ينفذ تصرفه بإشارته ; لأنه لم يقع اليأس عن نطقه , وإقامة الإشارة مقام العبارة عند وقوع اليأس عن النطق ; لأجل الضرورة , وإن لم تكن له إشارة معروفة يعرف ذلك منه , أو يشك فيه فهو باطل ; لأنه لا يوقف على مراده بمثل هذه الإشارة ; فلا يجوز الحكم بها.

النوع الرابع: القصد المجرد عن اللفظ

قسم ابن القيم المراتب التي اعتبرها الشارع من حيث علاقة النية بالتلفظ إلى أربعة أقسام هي: أن يقصد الحكم ولا يتلفظ به، والثانية أن لا يقصد اللفظ ولا حكمه، والثالثة أن يقصد اللفظ دون حكمه، والرابعة أن يقصد اللفظ والحكم[21].

أما المراتب الثلاثة الأخيرة فأحكامها واضحة وسنفصل الكلام عنها في المباحث التالية، وقد اختلف الفقهاء في المرتبة الأولى ـ أي قصد الطلاق المجرد عن التلفظ ـ على قولين[22]:

القول الأول: وقوع الطلاق إذا جزم عليه، وهو رواية أشهب عن مالك وروي عن الزهري، قال الباجي:) إن لم يقترن به كتابة ولا إشارة، ففي كتاب ابن المواز عن مالك من طلق ثلاثا على ذلك فلا شيء عليه، وروى أشهب عن مالك في العتبية يلزمه ذلك، قال ابن عبد الحكم وليس بشيء ([23]ومن الأدلة على ذلك:

·  قوله تعالى :﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(البقرة:284)

·      قوله - صلى الله عليه وسلم - :(إنما الأعمال بالنيات) وهذا قد نوى الطلاق فوجب أن يكون له.

·  أن ألفاظ الطلاق إذا لم يرد بها طلاقا لا يكون طلاقا , إنما يوقع عليه الطلاق ; لأنا لا نعلم صدقه في أنه لم يرد الطلاق فنحمله على مقتضى لفظه. وقد أجمعنا على أنه إذا أراد بها الطلاق وقع بها الطلاق فدل ذلك على أن الاعتبار بالنية دون اللفظ.

·      أن من كفر في نفسه فهو كفر.

·      أن المصر على المعصية مؤاخذ وإن لم يفعلها.

·  أن أعمال القلوب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح يثاب على الحب والبغض والموالاة والمعاداة في الله وعلى التوكل والرضى على الطاعة ويعاقب على الكبر والحسد والعجب والشك والرياء وظن السوء.

القول الثاني: اشتراط التلفظ بالطلاق، وأن ما لم ينطق به اللسان من  طلاق ونحوه غير لازم بمجرد النية والقصد، وهو قول جمهور العلماء، ومن أدلتهم على ذلك[24]:

·  قوله - صلى الله عليه وسلم - :(إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل به) [25]

·      أن حديث إنما الأعمال بالنيات حجة عليهم لأنه أخبر فيه أن العمل مع النية هو المعتبر لا وحدها.

·  أن من اعتقد الكفر بقلبه أو شك فهو كافر لزوال الإيمان الذي هو عقد مع الإقرار، فإذا زال العقد الجازم كان نفس زواله كفرا، لأن الإيمان أمر وجودي محله القلب، فما لم يقم بالقلب حصل ضده وهو الكفر، وهو في ذلك كالعلم والجهل إذا فقد العلم حصل الجهل، ككل نقيضين إذا زال أحدهما خلفه الآخر.

·  أن الآية  التي استدلوا بها ليس فيها أن المحاسبة بما يخفيه العبد إلزامه بأحكامه بالشرع وإنما محاسبته بما يبديه أو يخفيه ثم هو مغفور له أو معذب فأين هذا من وقوع الطلاق.

·  أن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ فهذا إنما هو فيمن عمل المعصية ثم أصر عليها لأنه عمل اتصل به العزم على معاودته، فهذا هو المصر، أما من عزم عليها ولم يعملها فهو بين أمرين: إما أن لا تكتب عليه، وإما أن تكتب له حسنة.

·  أن وقوع الطلاق بالنية من غير تلفظ أمر خارج عن الثواب والعقاب، لأن ما يعاقب عليه من أعمال القلوب هو معاص قلبية يستحق العقوبة عليها كما يستحقه على المعاصي البدنية لأنها منافية لعبودية القلب، كالكبر والرياء وظن السوء، وهي أمور اختيارية يمكن اجتنابها، بخلاف الطلاق فإنه قائم  باللسان أو ما ناب عنه من إشارة.

الترجيح :

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، وهو ما اتفق عليه أكثر الفقهاء، وما تدل عليه النصوص الصحيحة الصريحة، والطلاق في هذا لا يختلف عن سائر العقود فالزواج والبيع والشراء والإجارة وغيرها لا يصح أحد منها بالتصميم الجازم إن لم يبرز هذا التصميم بما يدل عليه من لفظ وغيره من وسائل الدلالة.

2 ـ حكم الإشهاد على الصيغة

 

وهي من المسائل المهمة التي تضيق المجال أمام الطلاق غير المقصود، ومع ذلك نرى بعض التفريط في البحث فيها في كتب فقه أهل السنة، فلا نجد لها أثرا إلا في كتب التفسير عند قوله تعالى :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ﴾(الطلاق: من الآية2)

وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين:

القول الأول: عدم اعتبار الإشهاد على الطلاق شرطا لصحة إيقاع الطلاق، وهو قول جماهير العلماء، بل قد حكي فيه الإجماع، قال الشوكاني:(ومن الأدلة على عدم الوجوب أنه قد وقع الإجماع على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق كما حكاه الموزعي في تيسير البيان والرجعة قرينته فلا يجب فيها كما لا يجب فيه) [26]، ومن الأدلة كذلك عدم الوجوب بالقياس على الأمور التي ينشئها الإنسان لنفسه فإنه لا يجب فيها الإشهاد.

لكن هذا الإجماع قد يكون منتقضا ببعض ما روي عن السلف من ذلك، فعن عمران بن حصين - رضي الله عنه -  أنه سئل عن الرجل يطلق المرأة ثم يقع بها، ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، وأشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد.

وقال ابن جريج: (كان عطاء يقول في قوله تعالى:﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾(الطلاق:2) قال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل) [27]

القول الثاني: اشتراط الإشهاد على الطلاق، وهو قول الإمامية، وقد نصوا على أنه لا بد من حضور شاهدين , يسمعان الإنشاء , سواء قال لهما: اشهدا أو لم يقل، وأن سماعهما التلفظ , شرط في صحة الطلاق، حتى لو تجرد عن الشهادة لم يقع , ولو كملت شروطه الأخرى، وكذا لا يقع بشاهد واحد ولو كان عدلا , ولا بشهادة فاسقين بل لا بد من حضور شاهدين ظاهرهما العدالة, ولو شهد أحدهما بالإنشاء , ثم شهد الآخر به بانفراد , لم يقع الطلاق، أما لو شهدا بالإقرار , لم يشترط الاجتماع. ولو شهد أحدهما بالإنشاء , والآخر بالإقرار , لم يقبل[28].

قال في مقتنيات الدرر: قال أصحابنا: الإشهاد على الطلاق، وهو المروي عن أئمتنا، وهو أليق بظاهر الآية، وعليه العمل عندنا، لأن العطف على قوله:﴿ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ﴾ في الكافي عن الكاظم - رضي الله عنه -  قال لأبي يوسف: إن الله تبارك وتعالى أمر في كتابه في الطلاق بشاهدين، ولم يرض لهما إلا عدلين  وأمر في كتابه بالتزويج فأهمله بلا شهود، وأنتم أثبتم شاهدين وأوجبتم فيما أهمل، وأبطلتم الشاهدين فيما أكد)[29]

ومن أدلتهم على ذلك[30]:

·  قوله تعالى :﴿  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (الطلاق:2)

فقد نصوا على ان هاتين الآيتين يحمل سياقها الدلالة على اشتراط الإشهاد ولا بأس من إيراد تفاصيل ما ذكروه هنا:

فالمراد من بلوغهن أجلهن: اقترابهن من آخر زمان العدة وإشرافهن عليه.

والمراد بإمساكهن: الرجوع على سبيل الاستعارة، كما أن المراد بمفارقتهن: تركهن ليخرجن من العدة ويبن.

لا شك أن قوله تعالى:﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ ظاهر في الوجوب كسائر الأوامر الواردة في الشرع ولا يعدل عنه إلى غيره إلا بدليل، إنما الكلام في متعلقه. فهناك احتمالات ثلاثة:

1- أن يكون قيداً لقوله تعالى :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾(الطلاق: من الآية1)

2- أن يكون قيداً لقوله تعالى :﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾(الطلاق: من الآية2)

3- أن يكون قيداً لقوله تعالى :﴿ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوف﴾(الطلاق: من الآية2)

لم يقل أحد برجوع القيد إلى الأخير فالأمر يدور بين رجوعه إلى الأول أو الثاني، فالظاهر رجوعه إلى الأول وذلك لأن السورة بصدد بيان أحكام الطلاق، فذكرت للطلاق عدة أحكام:

1- أن يكون الطلاق لعدتهن.

2- إحصاء العدة.

3- عدم خروجهن من بيوتهن.

4- خيار الزوج بين الإمساك والمفارقة عند اقتراب عدتهن من الانتهاء.

5- إشهاد ذوي عدل منكم.

6- عدة المسترابة.

7- عدة من لا تحيض وهي في سن من تحيض.

8- عدة أولات الأحمال.

وإذا لاحظنا مجموع آيات السورة من أولها إلى الآية السابعة تجد أنها بصدد بيان أحكام الطلاق لأنه المقصود الأصلي، لا الرجوع المستفاد من قوله تعالى :﴿  فَأَمْسِكُوهُنَّ ﴾(الطلاق: من الآية2) وقد ذكر تبعاً.

·  أنه المروى عن أئمة آل البيت - رضي الله عنهم - ، روى محمد بن مسلم قال: قدم رجل إلى أمير المؤمنين - رضي الله عنه -  بالكوفة فقال: إني طلقت امرأتي بعد ما طهرت من محيضها قبل أن أُجامعها، فقال أمير المؤمنين - رضي الله عنه -  :(أشهدت رجلين ذوي عدل كما أمرك الله؟ فقال: اذهب فإن طلاقك ليس بشيء) [31]روى بكير بن أعين عن الصادقين - رضي الله عنهم -  أنهما قالا :(وإن طلقها في استقبال عدتها طاهراً من غير جماع، ولم يشهد على ذلك رجلين عدلين، فليس طلاقه إياها بطلاق) [32]روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن - رضي الله عنه -  أنه قال لأبي يوسف :(إن الدين ليس بقياس كقياسك وقياس أصحابك، إن الله أمر في كتابه بالطلاق وأكد فيه بشاهدين ولم يرض بهما إلا عدلين، وأمر في كتابه التزويج وأهمله بلا شهود، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل الله، وأبطلتم شاهدين فيما أكد الله عز وجل، وأجزتم طلاق المجنون والسكران)، ثم ذكر حكم تظليل المحرم[33] .

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني بناء على عدم صحة ما روي من الإجماع في المسألة.

بل نرى أن ما توهم من الإجماع هو الذي صرف الكثير من المحققين القدامى عن البت فيها بقول، وإلا فإنها من أكبر المسائل التي تسد كل ما ذكر من منافذ الطلاق، بل تعطي فرصة للمطلق القاصد لمراجعة نفسه.

ومع ذلك تبقى المسألة موضع بحث ونظر للتوثق من حصول الإجماع فيها أو عدم حصوله، أما من حيث الدليل النصي، فهو كما ذهب الإمامية واضح الدلالة على الأمر بالإشهاد على الطلاق، خلافا لما قال القرطبي: (قوله تعالى:﴿ وَأَشْهِدُوا ﴾(الطلاق:2)أمر بالإشهاد على الطلاق، وقيل على الرجعة والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق) [34]

وقد ذهب من المحدثين سيد سابق ـ رحمه الله ـ إلى ترجيح هذا القول واعتبار الإجماع عليه دعوى غير صحيحة، قال: (إذا تبين لك أن وجوب الإشهاد على الطلاق هو مذهب هؤلاء الصحابة والتابعين المذكورين تعلم أن دعوى الإجماع على ندبه المأثورة في بعض كتب الفقه مراد بها الإجماع المذهبي لا الإجماع الأصولي الذي حده كما في المستصفى اتفاق أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة على أمر من الأمور الدينية لانتقاضه بخلاف من ذكر من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين، وتبين مما نقلناه قبل عن السيوطي وابن كثير أن وجوب الإشهاد لم ينفرد به علماء آل البيت - رضي الله عنهم -  كما نقله السيد مرتضى في كتاب الانتصار، بل هو مذهب عطاء وابن سيرين وابن جريج) [35]

وممّن ذهب إلى هذا أو كاد يذهب إليه عالمان جليلان، وهما: أحمد محمد شاكر القاضي المصري، والشيخ أبو زهرة.

قال الأوّل ـ بعد ما نقل الآيتين من أوّل سورة الطلاق ـ: (والظاهر من سياق الآيتين أنّ قوله  تعالى :﴿ وأشهدوا﴾ راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً، والأمر للوجوب، لأنّه مدلوله الحقيقي، ولا ينصرف إلى غير الوجوب ـ كالندب ـ إلاّبقرينة، ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب، بل القرائن هنا تؤيّد حمله على الوجوب) إلى أن قال: (فمن أشهد على طلاقه، فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدّى حدود اللّه الذي حدّه له فوقع عمله باطلاً، لا يترتّب عليه أيُّ أثر من آثاره) [36].

وقال أبو زهرة: قال فقهاء الشيعة الإمامية الاثنا عشرية والإسماعيلية: إنّ الطلاق لا يقع من غير إشهاد عدلين، لقوله تعالى ـ في أحكام الطلاق وإنشائه في سورة الطلاق: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾ (الطلاق:2) فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر إنشاء الطلاق وجواز الرجعة، فكان المناسب أن يكون راجعاً إليه، وإنّ تعليل الإشهاد بأنّه يوعظ به من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر يرشّح ذلك ويقوّيه، لأنّ حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجونها إلى الزوجين، فيكون لهما مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى اللّه سبحانه وتعالى) [37]

ويضيف: (وأنّه لو كان لنا أن نختار للمعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي، فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين(

وهذه المسألة من المسائل التي تبين فهم فقهاء الإمامية وتطبيقهم للمقاصد الشرعية من تشريع الطلاق، ولهذا، فإنهم يفتون بالإشهاد على الطلاق، ولا يفتون بالإشهاد عند الرجعة، وقد كان هذا محل استغراب من الشيخ أحمد محمد شاكر، القاضي الشرعي بمصر الذي كتب كتاباً حول (نظام الطلاق في الإسلام) وأهدى نسخة منه مشفوعة بكتاب إلى العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وكتب إليه :(إنني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق، وإنه إذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً ولم يعتد به، وهذا القول وإن كان مخالفاً للمذاهب الأربعة المعروفة إلا أنه يؤيده الدليل ويوافق مذهب أئمة أهل البيت والشيعة الإمامية، وذهبت أيضاً إلى اشتراط شاهدين حين المراجعة، وهو يوافق أحد قولين للإمام الشافعي ويخالف مذهب أهل البيت والشيعة، واستغربت من قولهم أن يفرقوا بينهما والدليل له :﴿  وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(الطلاق: من الآية2) واحد فيها)

فأجاب العلامة كاشف الغطاء في رسالة إليه يبين وجه التفريق بينهما، لا بأس من نقل بعضها هنا لأهميتها :(وكأنك ـ أنار الله برهانك - لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة كما في عادتك من الإمعان في غير هذا المقام، وإلا لما كان يخفي عليك أن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه حتى أنها قد سميت بسورة الطلاق، وابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى :﴿  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ﴾(الطلاق: من الآية1)

 ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة أي لا يكون في طهر المواقعة، ولا في الحيض، ولزوم إحصاء العدة، وعدم إخراجهن من البيوت، ثم استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق حيث قال عز شأنه :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾(الطلاق: من الآية2)) أي إذا أشرفن على الخروج من العدة، فلكم إمساكهن بالرجعة أو تركهن على المفارقة، ثم عاد على تتمة أحكام الطلاق فقال :﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم﴾(الطلاق: من الآية2)  أي في الطلاق الذي سيق الكلام كله لبيان أحكامه ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلا تبعاً وستطراداً، ألا ترى لو قال القائل: إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه وإكرامه وأن تستقبله سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه، ويجب المشايعة وحسن الموادعة، فإنك لا تفهم من هذا الكلام إلا وجوب المشايعة والموادعة للعالم لا له ولخادمه ورفيقه، وإن تأخرا عنه، وهذا عمري حسب القواعد العربية والذوق السليم جلي واضح لم يكن ليخفى عليك وأنت خريج العربية لولا الغفلة (والغفلات تعرض للاريب)، هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الآية الكريمة) [38]

وبعد هذا البيان التفسيري للآية ذكر الوجه المقاصدي لهذا الحكم، فقال :(وهنالك ما هو أدق وأحق بالاعتبار من حيث الشرعية والفلسفة الإسلامية وشموخ مقامها وبعد نظرها في أحكامها. وهو أن من المعلوم أنه ما من حلال أبغض إلى الله سبحانه من الطلاق، ودين الإسلام كما تعلمون ـ جمعي اجتماعي - لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة لا سيما في العائلة والأسرة، وعلى الأخص في الزيجة بعد ما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى.

فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة، فكثر قيوده وشروطه على القاعدة المعروفة من أن الشيء إذا كثرت قيوده، عز أو قل وجوده، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أولاً وللتأخير والأناة ثانياً، وعسى إلى أن يحضر الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم ويعودان إلى الألفة كما أشير إليه بقوله تعالى :﴿ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴾(الطلاق: من الآية1)

وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين، لا شك أنها ملحوظة للشارع الحكيم مضافاً إلى الفوائد الأُخر، وهذا كله بعكس قضية الرجوع فإن الشارع يريد التعجيل به ولعل للتأخير آفات فلم يوجب في الرجعة أي شرط من الشروط)

ثانيا ـ  ألفاظ التعبير عن الطلاق وأحكامها

أولا ـ التعريف

تنقسم ألفاظ الطلاق بحسب دلالتها الصريحة وعدمها على الطلاق إلى قسمين: صريحة وكناية، وسنتحدث عن المراد بكلا القسمين هنا:

1 ـ الكناية

لغة: الكِنايةُ أن تتكلم بشيء وتريد به غيره وقد كَتَبْتُ بكذا عن كذا وكَنَوْتُ أيضا  كِنايةً   فيهما ورجل كانٍ وقوم كانُونَ والِكُنْيَةُ بضم الكاف وكسرها واحدة الكُنَى واكْتَنَى فلان بكذا وهو يُكْنَى بأبي عبد الله ولا تقل يكنى بعبد الله وكنَّاهُ أبا زيد وبأبي زيد تَكْنِيةً وهو كَنِيُّهُ كما تقول سميه قلت وكَنَاهُ كذا وبكذا بالتخفيف يكنيه  كِنَايةً[39].

اصطلاحا: الكناية هي اللفظ المستعمل في غير موضوعه لغة[40]، وعرفت بأنها ترك التصريح بذكر الشيء إلى ما يلزمه لينتقل من المذكور إلى المتروك[41].

ونستطيع من خلال هذين التعريفين وغيرهما أن نجمل خصائص الكناية فيما يلي:

·  أن تكون خفية في الدلالة على معناها، لأن أصلها ما فيه خفاء ومنه كنيته أبا عبد الله كأنك أخفيت الاسم بالكنية تعظيما له، ومنه الكن لإخفائه الأجسام وما يوضع فيه.

·  أنها ليست مناقضة للصريح، لأن خلاف الشيء قد يكون نقيضه وقد يكون ضده ; فإن كان المراد من الخلاف ههنا نقيضه، فهو ما لم يظهر المراد به ظهورا بينا, وهو ليس بكناية،

·      أن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة بلفظها وأن مبناها على الانتقال من اللازم إلى الملزوم.

2  ـ الصريح:

لغة: الصَّرِيحُ والصَّراحُ والصِّراح والصُّراحُ، والكسر أَفصح: الـمَـحْضُ الـخالصُ من كل شيء؛ رجل صَريحٌ وصُرَحاء، وهي أَعلـى، والاسم الصَّراحةُ والصُّرُوحةُ. وصَرُحَ الشيءُ: خَـلُصَ. وكل خالص: صَريح. والصَّرِيحُ من الرجال والـخيل: الـمَـحْضُ، ويجمع الرجال علـى الصُّرَحاء، والـخيل علـى الصَّرائح؛ قال ابن سيده: الصَّريح الرجل الـخالص النسب، والـجمع الصُّرَحاء وقد صَرُحَ، بالضم، صَراحة وصُرُوحة؛   وتقول: جاء بنو تميم صَرِيحةً إِذا لـم يخالطهم غيرهم[42].

اصطلاحا: عرفه ابن عرفة بقوله: هو ما لا ينصرف عنه بنية صرفه، وقد فسر بأن معناه ما لا تنفع النية في رفعه[43].

ثانيا: ألفاظ التعبير عن الطلاق في المذاهب الفقهية

اختلف الفقهاء اختلافا شديدا في صيغ الطلاق بحيث لا يمكن حصر أقوالهم في ذلك، ولذلك سنذكر هنا خلاصة المذاهب في صيغ الطلاق مبتورة عن أدلتها، والتي سنذكرها في المطلب الثالث.

مذهب الحنفية:

للتعبير عن الطلاق أسلوبان[44]: صريح وكناية، وصريح الطلاق هو لفظ الطلاق ومشتقاته , وكذلك ترجمته إلى اللغات الأعجمية ; لأن الطلاق وضع لحل قيد النكاح خصيصا , ولا يحتمل غيره.

والكناية تنقسم عندهم إلى الأنواع التالية:

النوع الأول: ما يكون معناه جواب طلب التطليق، فلا يصح سباً للمرأة ولا رداً لها عن طلب التطليق، وهو يشتمل على ألفاظ، يمكن تقسيمها إلى ما يلي:

1 ـ الألفاظ التي تقع بها طلقة واحدة رجعية، وإن نوى أكثر منها. أو نوى البائن، وهي ثلاثة ألفاظ[45] هي :

·      اعتدى: وهو تخيير بين الأمر بالعدة، أو الأمر بعد أيادي الزوج ونعمه عليها.

·  استبرئي رحمك: واستبراء الرحم معناه تعرف طهارته من ماء الرجل، وهو كناية عن العدة، لأن تعرف براءة الرحم تكون بالعدة.

·  أنت واحدة: وهذا اللفظ يحتمل أنت طالق تطليقة واحدة، ويحتمل أنت واحدة، بمعنى منفردة في القبح. أو في الحسن، وعلى هذا يكون لفظ واحدة منصوباً لأنه وصف للمصدر، فهل إذا قال: أنت واحدة بالرفع ونوى الطلاق يقع أو لا؟ والجواب: أنه يقع الطلاق ولو لحناً، لأن الإعراب لا يعتبر في هذه الباب، خصوصاً إذا صدر من العامي، على أن الرفع قد يحمل على وجه صحيح من الإعراب، فيقال: معناه أنت تطليقة واحدة، فجعل المرأة نفس التطليقة مبالغة.

2 ـ الألفاظ التي تقع بها طلقة واحدة رجعية، وتقع بها الثلاث إن نوى الثلاث، وألفاظها هي:

·      أنت حرة: فإنها تحتمل الاخبار بحريتها في تصرفها وتحتمل إنشاء تحريرها من قيد النكاح.

·  سرحتك: من السراح وهو الإسال، فكأنه قال لها: أرسلتك. والإرسال إما لأنه طلقها، أو لتمكث يوماً في دار أبيها، أو نحو ذلك.

·  فارقتك: وهي مثل سرحتك، لأن فراقها إما أن يكون لتطليقها، وإما أن يكون فراقاً مؤقتاً بالانصراف من المنزل مثلاً.

·  اختاري، وأمرك بيدك: وهما كنايتان عن تفويض الطلاق للمرأة، لأن كلاً منهما يحتمل معنيين، فاختار نفسك يصح أن يراد به اختاري نفسك بالطلاق، أو اختاري نفسك في عمل من الأعمال وكذلك أمرك بيدك، فإنه يصح أن يراد به أمرك بيدك في الطلاق، أو في تصرفاتك المختصة بك، وإنما يصح تفويض الطلاق بهذين اللفظين بشرط أن ينوي الزوج الطلاق لها، أو يدل الحال على أنه فوض، كما إذا طلبت منه أن يطلقها في حالة الغضب، فإذا فوض لها في هذه الحالة وطلقت نفسها بانت منه، أما إذا لم تطلق فإنها لا تبين.

حكم هذا النوع: من ينطق بكلمة من هذه الكلمات لا يخلو من الحالات الثلاثة التالية:

الحالة الأولى: أن يكون في حالة غضب، فإذا كان في حالة غضب، وقال لزوجته، اعتدي، أو استبرئي رحمك. أو أنت واحدة الخ وقع عليه الطلاق قضاء، سواء نوى، أو لم ينو، فإذا قال: لم أنو الطلاق لم يصدق، ولكن لا يقع عليه ديانة بينه وبين اللّه.

الحالة الثانية: أن يكون في حالة مذاكرة الطلاق، بمعنى أن المرأة سألته الطلاق. أو سأله شخص طلاقها،، فإذا سألته الطلاق فقال لها: اعتدي، أو استبرئي رحمك وقع عليه الطلاق قضاء، سواء نوى، أو لم ينو، وسواء كان في حالة غضب، أو في حالة رضا.

الحالة الثالثة: أن يكون في حالة رضا: إذا كان في حالة رضا بدون مذاكرة طلاق، وقال كلمة من هذه الكلمات فإنه لا يقع بها طلاق إلا بالنية، وإذا قال: لم أنو بها الطلاق، فإنه يصدق بيمينه.

النوع الثاني: ما يصح جواباً للسؤال عن التطليق وما يصح رداً، أي دفعاً لهذا السؤال، وحكم هذا القسم أن الطلاق لا يقع به إلا بالنية، سواء كان في حالة غضب. أو في حالة رضا، أو في حالة مذاكرة الطلاق.

فإذا قال: لم أنو الطلاق، فإنه يصدق بيمينه قضاء، وهو وشأنه فيما بينه وبين اللّه، وذلك لأنها تحتمل ردها عن طلب الطلاق، وتحتمل إجابتها إلى طلبها، فإذا نوى الرد فقد نوى ما يحتمله اللفظ، فيقبل قوله قضاء في حالة مذاكرة الطلاق، وفي حالة الغضب، بخلاف القسم الأول، فإنه لا يحتمل سوى إجابتها عن سؤال الطلاق، فيقع حال المذاكرة. وحال الغضب مطلقاً، ولا يسمع منه أنه لم ينو الطلاق، أما في حال الرضا. وعدم المذاكرة فإنه يحتمل إرادة غير الطلاق، وهذا القسم يشتمل على ألفاظ، منها:

·  أمرها بالخروج ونحوه: فإذا قالت له: طلقني، فقال لها: اخرجي، فإنه يحتمل أن يكون جوباً لها عن سؤال الطلاق، ويحتمل أن يكون مراده اخرجي الآن من المنزل حتى يهدأ الغضب وتنصرفي عن طلب الطلاق، ومن الألفاظ المشابهة لهذا اللفظ: اذهبي، أو قومي ،أو انتقلي، أو انطلقي.

·  أمرها بالاستتار: كقوله لها تقنعي أو تبرقعي، أي ضعي القناع - وهو البرقع - على وجهك، ومنها تخمري، أي البسي الخمار، وهو الملاءة - أو استتري - فأمرها بلبس البرقع أو الخمار، أو الستر يحتمل أمرين: أن يكون ذلك من أجل تطليقها إذ لا يحل له النظر إليها بعد، أو لئلا ينظرها أحد وهي غضبانة، فيكون على الأول جواباً لسؤال الطلاق، ويكون على الثاني رداً لطلب الطلاق.

·  أمرها بالابتعاد: كفوله لها اغربي - بالغين والراء - ومعناه ابتعدي، وهو مثل اخرجي، يحتمل أن يكون جواباً عن طلب التطليق، ويحتمل أن يكون الغرض منه البعد المؤقت الذي ينكسر به الشر. ومنها اعزبي - بالعين والزاي - من العزوبة بمعنى البعد، وهي مثل اعزبي.

النوع الثالث: ما يصلح جواباً للمرأة عن سؤال الطلاق، وما يصلح شتماً لها، وحكم هذا القسم أنه لا يقطع به الطلاق إلا بالنية في حالة الغضب، وفي حالة الرضا، أما في حالة مذاكرة الطلاق فإنه يقع قضاء بدون نظر إلى نية ويشتمل هذا القسم على ألفاظ ،منها:

·  خلية: بمعنى خالية عن النكاح، أو خالية عن الأدب والخير، فالمعنى الأول يصلح جواباً لسؤال الطلاق، والمعنى الثاني يصلح شتماً للمرأة، كما هو ظاهر.

·  برية، أو بريئة: بمعنى منفصلة عن النكاح، أو منفصلة عن الأدب وحسن الخلق، فهي كالأول تصلح جواباً وسبباً.

·  بائن: من بان الشيء انفصل، فقوله لها: أنت بائن يحتمل أنها منفصلة من النكاح، أو منفصلة عن الخير والأدب، كما في الأول.

·      بتة: بمعنى منقطعة، فإذا قال لها: أنت بتة كان معناه أنت منقطعة إما عن النكاح، أو الأدب.

·  بتلة: وهي مثل بتة بمعنى منقطعة، ومنه فاطمة البتول، أي منقطعة النظير عن نساء العالمين نسباً وديناً رضي اللّه عنها.

النوع الرابع: مشتقات لفظ الطلاق، ومن الألفاظ التي ذكروها:

·  أنت مطلقة - بتخفيف اللام -: فإن هذا اللفظ يحتمل إطلاقها من القيد، ويحتمل إطلاقها من عقد النكاح، فيقع به الطلاق بالنية، ولكن لما كان مشتملاً على مادة الصريح فإنه لا يقع به إلا واحدة رجعية.

·  أن يقول لها: أنت أطلق من امرأة علي: إذا كانت امرأة علي مطلقة، فقوله: أنت أطلق منها أفعل تفضيل، يحتمل أنها أكثر إطلاقاً منها في شؤونها، ويحتمل أنها أشد منها تطليقاً من عقد الزواج، فإذا نوى الثاني طلقت واحدة رجعية، وإنما تلزم النية إذا لم تقل له امرأته: إن محمداً طلق زوجته، فإذا قالت له ذلك وأجابها هو بقوله: أنت أطلق منها وقع الطلاق بدون نية قضاء ديانة، لأن دلالة الحال تجعله من باب الصريح، لا من باب الكناية، فيقع بدون نية، أما إذا لم تقم قرينة فإنه يكون كناية لا يقع إلا بالنية،

·  أن ينطق بالطلاق بحروف الهجاء: كأن يقول: أنت ط ا ل ق وذلك لأن الحروف المقطعة لا تستعمل فيه اللفظ الصريح، فلا بد لوقوع الطلاق بها من النية، وإذا نوى يقع واحدة رجعية.

·  أن يقول لها: الطلاق عليك، أو الطلاق لك، أو أنت طال - بضم اللام وفتحها - أما بكسرها فإنه يكون صريحاً لا يحتاج إلى نية على المعتمد، وذلك لأن حذف آخر الكلمة مشهور في العرف، فإذا حذف الآخر مع بقاء شكل الحرف الذي قبله على حاله فإن معنى الكلمة لا يتغير، أما إذا غير شكله بالرفع، أو النصب فإنه يحتمل أن يكون المراد به أمراً آخر فإذا قال لها: أنت طال يحتمل أن يكون طال فعل، أي طال عمرك مثلاً، وبالرفع يحتمل أن يكون المراد تشبيها باسم.

·  أن يقول لها: وهبتك طلاقك، أو أعرتك طلاقك: وفي هذه الحالة يكون أمر طلاقها بيدها إذا نوى به الطلاق وكذا أقرضتك طلاقك أو قد شاء اللّه طلاقك أو شئت طلاقك، أو قضي اللّه طلاقك أو طلقك اللّه، ففي كل هذه الألفاظ يقع بالنية طلقة واحدة رجعية، وأما إذا قال لها: خذي طلاقك فإنه صريح على المعتمد، ومنها لست لي بامرأة وما أنا لك بزوج.

·  أن يقول لها: أنا بريء من طلاقك ونوى به الطلاق، وقد اختلفوا في هذه الصيغة فقال بعضهم: إنه لا يقع به شيء ولو نوى، وذلك لأن البراءة من الطلاق ترك له، ولا معنى لأن يراد من الشيء ضده.

·  لفظ العتق: فإذا قال لها: أعتقتك ونوى به الطلاق بانت منه، وكذا إذا سألته الطلاق فأجابها بقوله: أعتقتك وإن لم ينو، لأن دلالة الحال تقوم مقام النية.

مذهب المالكية:

للتعبير عن الطلاق أسلوبان[46]:صريح وكناية، وصريح الطلاق عندهم هو لفظ الطلاق ومشتقاته , وكذلك ترجمته إلى اللغات الأعجمية ; لأن الطلاق وضع لحل قيد النكاح خصيصا , ولا يحتمل غيره.

والكناية تنقسم عندهم إلى نوعين، هما:

النوع الأول: الكناية الخفية: وهي ما كانت دلالتها على الطلاق غير ظاهرة، وحكمها يتبع النية، فإن لم تكن له نية أصلاً، أو نوى عدم الطلاق فإنه لا يلزمه بها شيء وإن نوى الطلاق لزمه، ثم إذا نوى واحدة لزمه واحدة، وإن نوى أكثر لزمه الأكثر، فلو قال لامرأته: ادخلي الدار ونوى به ثلاث طلقت منه ثلاثاً، فالمدار فيها على النية.

واختلف فيما إذا نوى بها الطلاق ولكنه لم ينو عدداً، فقال بعضهم: إنه يلزمه الثلاث، ولكنهم اعترضوا على هذا بأن الطلاق الصريح إذا لم ينو به عدداً لا يلزمه إلى واحدة، فكيف تلزمه الثلاث بالكناية الخفية؟! وأجيب بالفرق بين الحالتين، وذلك لأن عدوله عن الصريح أوجب ريبة عنده في ذلك فعومل بالثلاث احتياطاً، ولا فرق في ذلك بين المدخول بها، وغيرها. وبعضهم قال: إنه لا يجب به إلا طلقة واحدة بائنة في غير المدخول بها، ورجعية في المدخول بها، وهي ثلاثة أقسام:

ما يوجد فيه حروف الطلاق، ولكن العرف لم يستعمله في إنشاء الطلاق، وهو ثرثرة ألفاظ مثل: منطلقة، مطلوقة، مطلقة بفتح اللام مخففة.

ما يحتمل الدلالة على الطلاق مع بعد نحو اذهبي، انصرفي، لم أتزوجك، أنت حرة، الحقي بأهلك، ومثل ذلك ما إذا سأله شخص، هل لك امرأة، فقال: لا، أو قال لها: لست لي بامرأة من غير تعليق على شيء، أما إذا قال لها: إن دخلت الدار فلست لي بامرأة، فإن لم ينو به شيئاً. أو نوى الطلاق بدون عدد، فإنه يلزمه ثلاث، وإن نوى غير الطلاق فإنه يصدق بيمينه قضاء، ويصدق بدون يمين في الإفتاء.

أن يكون بين اللفظ وبين الطلاق علاقة ما، نحو كلي واشربي، وادخلي، واسقني الماء، وغير ذلك من الألفاظ التي يقصد بها تطليق زوجته، وليست من الطلاق الصريح، ولا الكناية الظاهرة الآتي بيانها.

النوع الثاني: الكناية الظاهرة: ويشترط في وقوع الطلاق بهذه الألفاظ كلها أن يكون العرف جارياً على أن يطلق الناس بها، أما إذا كانوا لا يطلقون بهذه العبارات، فإنها لا تكون كناية ظاهرة، بل تكون من الكنايات الخفية التي لا يقع بها شيء إلا بالنية، وقد قال المحققون من المالكية: لا يحل للمفتي أن يفتي في الطلاق وغيره من الأحكام المبنية على العوائد والعرف، كالمنافع في الإجارة، والوصايا والنذر، والأيمان، إلا بعد أن يعلم عرف أهل البلد أو القبيلة في ذلك الأمر، ولهذا فإن معظم الكنايات الظاهرة التي قال المالكية إنه يقع الثلاث في المدخول بها بدون نظر إلى نية هي من الكنايات الخفية في زماننا لأنه لم يطلق بها أحد.

وقد قسم المالكية ألفاظ الكناية الظاهرة إلى خمسة أقسام هي:

1 ـ ما يلزم فيه الطلاق الثلاث، سواء كانت الزوجة مدخولاً بها أو لا بدون نظر إلى نية، وإنما يقع بهما الثلاث إذ كان العرف جارياً على أن يطلق الرجل بهما، وإلا كانت من الكنايات الخفية التي تقدم حكمها، ولهذا القسم لفظان:

·  أن يقول لها: أنت بتة: فإذا قال لها هذه الكلمة طلقت منه ثلاثاً سواء قال: إنه نوى الطلاق أو لا، وسواء قال إنه نوى واحدة أو أكثر، وذلك لأن البت معناه القطع، فكأنه قطع عقدة النكاح التي بينهما بتاتاً.

·  أن يقول لها: حبلك على غاربك: فهذا كناية عن أنه ألقى عصمتها من يده على كتفها، فلا شأن له بها فيقع عليه الطلاق الثلاث.

2 ـ ما يلزم فيه الطلاق الثلاث إذا كانت الزوجة مدخولاً بها، أما إن كانت غير مدخول بها فإنه يلزمه فيه طلقة واحدة إن لم ينو أكثر، وهو ثلاثة أنواع من الألفاظ:

·  أن يقول لها: أنت طالق واحدة بائنة: فإذا قال لها ذلك، وكانت مدخولاً بها، وقع عليه الطلاق الثلاث وذلك لأن البينونة بغير عوض وبغير لفظ الخلع بعد الدخول تنحصر في البينونة الكبرى، وهي الطلاق الثلاث أما إذا كانت قبل الدخول، أو كانت مقارنة لعوض الخلع فإنها تكون واحدة، وقد أهملوا لفظ الواحدة الدال على الرجعية للاحتياط.

·  أن يذكر لفظ الطلاق صريحاً وينوي به الواحدة البائنة: كأن يقول لها: أنت طالق، وهو ينوي به واحدة بائنة فإن كانت الزوجة مدخولاً بها طلقت منه ثلاثاً لأن نية الواحدة البائنة كالنطق بها، فإن لم تكن مدخولاً بها طلقت واحدة إن لم تكن له نية، فإن نوى أكثر عومل بما نواه.

أن يذكر لفظ كناية خفية، ويريد به تطليقها واحدة بائنة: كما إذا قال لها: ادخلي الدار ونوى به تطليقها واحدة بائنة، فكأنه قال لها: أنت طالق واحدة بائنة فإنه يلزم بذلك الطلاق الثلاث إذا كانت الزوجة مدخولاً بها فإن لم تكن مدخولاً بها، لزمته طلقة واحدة إلا أن ينوي أكثر.

أما التعبير عنها بالكناية الظاهرة، كما إذا قال لها: خليت سبيلك، فإنه، لا فائدة فيه، وذلك لأن الكناية الظاهرة يلزمه فيها الطلاق الثلاث في المدخول بها وإن لم ينو الواحدة البائنة، فإذا قال لامرأته المدخول بها: خليت سبيلك طلقت منه ثلاثاً وإن لم ينو الواحدة البائنة.

3 ـ ما يلزم به الطلاق الثلاث في المدخول بها وغيرها، ولكن في المدخول بها تلزمه الثلاث وإن لم ينو، أو نوى واحدة، أو ثنتين، أما غير المدخول بها فإنه يلزمه الثلاث إن نوى، أو لم ينو شيئاً، لأنه من الكنايات الظاهرة التي لا تتوقف على نية، ومن ألفاظ هذا القسم:

·      أن يقول لها: أنت كالميتة والدم ولحم الخنزير، وهبتك لأهلك، أو وهبتك لنفسك.

·  أن يقول لها: ما أرجع إليه من أهل الحرام، ويريد من الأهل الزوجة أما إذا أراد أقاربه غيرها فإنه يقبل منه.

·      أن يقول لها: أنت خلية أو برية، أو أنا منك خلي أو بري، أو أنت بائنة أو أنا منك بائن.

فكل هذه الألفاظ يقع بها الطلاق الثلاث في المدخول بها ولو نوى أقل، أو لم ينو، وفي غير المدخول بها يقبل منه إذا نوى أقل من الثلاث إلا إذا دلت قرينة على أنه لا يريد الطلاق، وقال: إنه لم ينو الطلاق فإنه يقبل منه قضاء وإفتاء بيمينه، وذلك كما إذا كان يتكلم معها في نظافتها ورائحتها، فقال لها: أنت كالميتة والدم ولحم الخنزير وأراد بذلك قذارتها ونتنها، أو كان يتكلم معها في حسن الأدب والمعاشرة فقال لها: أنت خلية، أو برية، أي خالية من الأدب، أو بريئة منه، أو كانت تتكلم معه في احتياج أبويها إلى خدمتها، أو في احتياجها إلى الراحة، فقال لها: وهبتك لأهلك، أو وهبتك لنفسك. أو طلب منها أن تقرب منه وكان بينهما فرجة، وقال لها: أنت بائنة مني، أي منفصلة عن ملاصقتي، أو نحو ذلك وهذا ما يسميه المالكية بساط اليمين، فإذا دل البساط على أنه لا يريد الطلاق فإنه يقبل منه في المدخول بها وغيرها.

4 ـ ما يلزم به الطلاق الثلاث إلا إذا نوى أقل منها في المدخول بها وغيرها، وهي أن يقول لها: خليت سبيلك فإذا قال لامرأته ذلك فإنه يلزمه الثلاث إن نوى الثلاث، أو لم ينو شيئاً، أما إذا نوى واحدة، أو اثنتين فإنه يلزمه ما نواه، سواء دخل بها، أو لم يدخل فإذا نوى بقوله: خليت سبيلك طلقة واحدة بائنة في المدخول بها لزمه الثلاث، وإن لم ينو الثلاث، لما عرفت من أن الواحدة البائنة يلزم بها الثلاث، فكذا ما يعبر به عنها، أما في غير المدخول بها فإنه يلزمه واحدة، كما تقدم.

5 ـ ما يلزم فيه واحدة في المدخول بها وغيرها إلا إذا نوى أكثر، وهو اعتدي، وفارقتك.

مذهب الشافعية :

للتعير عن الطلاق أسلوبان[47]: صريح وكناية، وصريح الطلاق عندهم هو لفظ الطلاق ومشتقاته , ولفظي: الفراق والسراح , وما  تصرف منهما من صريح الطلاق، وكذلك ترجمته إلى اللغات الأعجمية ; لأن الطلاق وضع لحل قيد النكاح خصيصا , ولا يحتمل غيره.

ويشترط في الكناية التي يقع بها الطلاق أن تكون محتملة للطلاق بحيث يكون اللفظ دالاً على الفرقة دلالة ظاهرة، فليس من الكنايات ما لو قال لها: أغناك اللّه، لأنه يحتمل أغناك اللّه عني لأني طلقتك، ولكن هذا تعسف، ومثله اقعدي وقومي، وزوديني، وأحسن اللّه عزاءك، وكذا عليّ السخام لا أفعل كذا، لأن السخام لا يحتمل الطلاق، أما كلي، واشربي فقيل: ليست من الكناية، ولكن المعتمد أنها من الكناية، لأنها تحتمل كلي واشربي مرارة الفراق، وقد يقال إن هذا تعسف ظاهر.

أما ألفاظ الكنايات التي تنبئ عن الفراق. فمنها:

·      ما يشتمل على حروف الصريح، وهي: أطلقتك، أنت طالق، أنت مطلقة.

·  ما ليس كذلك، كأنت خلية، أنت برية، بتة، أي مقطوعة الوصلة، بتلة، متروكة النكاح، بائن، اعتدي، استبرئي رحمك فإنه يحتمل افعلي ذلك لأني طلقتك، وكذا الحقي بأهلك، حبلك على غاربك. لا أنده سربك - بفتح السين - وهو الإبل، وهو كناية عن أنه لا يهتم بشأنها لأنه طلقها، وكذا اعزبي واغربي، وكذا دعيني - أي لأني طلقتك - ومنها أن يقول لها: أشركتك مع فلانة المطلقة ومنها تجردي، أي من الزوج وكذا تزودي، أي اخرجي، سافري أي لأني طلقتك.

·  أن يقول لها: أنا طالق منك، أو بائن. وذلك لأن الزوج وإن لم يصلح لإضافة الطلاق إليه ولكن لما كان محجوراً عليه زواج أختها، أو التزوج بأكثر من أربعة صح أن يطلق نفسه من هذا القيد، فإذا أضاف الطلاق إلى نفسه، أو نوى تطليقها فإنه يعمل بنيته، فإن لم ينو طلاقها فلا يقع به شيء، سواء نوى الطلاق في ذاته، أو نوى طلاق نفسه، أو لم ينو شيئاً، وهذا بخلاف ما إذا قال لها: استبرئ رحمي منك، أو أنا معتد منك، فإنه محال في حقه فلا يقع به طلاقها.

·      أن يقول لها: أعتقتك، أو لا ملك لي عليك، ونوى طلاقها فإنه يلزمه.

·  أن يقول لها: الزمي الطريق، لك الطلاق، عليك الطلاق، وهكذا كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره فإنه يكون كناية يقع بها ما نواه.

·  ومن كنايات الطلاق لفظ العتق، فإذا قال لزوجته: أعتقتك، ونوى به الطلاق لزمه ما نواه، وكذلك لفظ الطلاق يستعمل كناية عن العتق، فإذا قال لعبده: أنت طالق وأراد به العتق فإنه يصح.

مذهب الحنابلة:

للتعبير عن الطلاق أسلوبان[48]:صريح وكناية، وصريح الطلاق عندهم هو لفظ الطلاق ومشتقاته , وكذلك ترجمته إلى اللغات الأعجمية ; لأن الطلاق وضع لحل قيد النكاح خصيصا, ولا يحتمل غيره.

والكناية تنقسم عندهم إلى ثلاثة أقسام هي:

الكناية الظاهرة: هي الألفاظ الموضوعة للبينونة، وهي ست عشرة كناية، وهي:

أنت خلية، وبرية، أو بريئة، وبائن، وبتة، وبتلة، وحرة، وأنت الحرج، يعني لحرام، الإثم، وحبلك على غاربك، وتزوجي من شئت، وحللت للأزواج، ولا سبيل لي عليك، ولا سلطان لي عليك، وأعتقتك، وغطي شعرك، وتقنعي، وأمرك بيدك.

واختلف فيما يقع بالكناية الظاهرة، فقيل: يقع بها الطلاق الثلاث إذا نوى الطلاق سواء نوى واحدة، أو أكثر أما إذا لم ينو بها الطلاق فلا يقع شيء، وهذا هو المشهور في المتون.

ثانيا: الكناية الخفية: وهي أخفى في دلالتها على الطلاق من الأولى، وهي ألفاظ منها: أخرجي، اذهبي، ذوقي، تجرعي، خليتك، أنت مخلاة، أنت واحدة، لست لي امرأة، اعتدي، استبرئي رحمك، اعزبي، الحقي بأهلك، لا حاجة لي فيك، ما بقي شيء، أعفاك اللّه أراحك اللّه مني، اختاري، جرى القلم. ومنه لفظ الفراق، والسراح، وما تصرف منهما، وكذا طلقك اللّه بيني وبينك في الدنيا والآخرة، وأبرك اللّه لك.

وحكم هذه أنه إن لم ينو بها الطلاق فلا يلزمه شيء، وإن نوى الطلاق ولم ينو عدداً لزمه طلاق واحدة، وإن نوى واحدة أو أكثر لزمه ما نواه.

ويشترط لوقوع الطلاق بالكناية سواء كانت ظاهرة، أو خفية شرطان:

الشرط الأول: أن ينوي بها الطلاق، لأن اللفظ يحتمل غير الطلاق، فلا يتعين الطلاق إلا بالنية، ويقوم مقام النية دلالة الحال كما إذا كانت بينهما خصومة، أو كان في حالة غضب، أو كان جواب سؤالها الطلاق، ففي هذه الحالة يقع الطلاق بالكناية ولو بلا نية لأن دلالة الحال تغير حكم الأقوال والأفعال.

فإذا ادعى في حال الغضب أو في حال سؤالها الطلاق أو في حال الخصومة أنه لم يرد به الطلاق فإنه لا يسمع منه قضاء، ولكن بينه وبين اللّه لا يقع عليه شيء إن كان صادقاً، أما في غير هذه الأحوال، كما إذا كان في حالة رضا ولم تسأله طلاقها، وقال لها: أنت بائن، وادعى أنه لم ينو طلاقاً فإنه يسمع منه قضاء أيضاً، لأن النية خفية، وقد نوى ما يحتمله اللفظ.

والخلاصة أنه لا يقع طلاق بلفظ الكناية إلا بالنية، سواء كانت ظاهرة أو خفية ثم إن أمر النية موكول للمطلق قضاء وديانة إلا أنه إذا نوى الطلاق ولم ينو عدداً فإنه في الكنايات الظاهرة يقع به الثلاث على المشهور، وكذا إذا نوى واحدة، أما على القول الثاني وهو أنه لا يقع بالكنايات إلا ما نوى، فإنه إذا نوى طلاقاً ولم ينو عدداً وقعت عليه طلقة واحدة كما إذا نوى واحدة، فإذا نوى أكثر وقع ما نواه.

أما دلالة الحال فإنه لا يقبل دعوة عدم نية الطلاق قضاء، ولكن بينه وبين اللّه يعامل بما نواه.

الشرط الثاني: أن تكون النية مقارنة للفظ الكناية، فإذا قال لها: أنت بتة، ولم يرد بها طلاقاً ثم نوى الطلاق بها بعد انقضاء النطق فإنه لا يقع بها شيء، ومثله ما لو ترك النية في أول جزء من لفظ الكناية ونوى في الجزء الثاني فإنه لا يقع بها شيء، أما إذا نوى في أول جزء وترك النية في الجزء الثاني فإنه يقع.

مذهب الزيدية:

للتعبير عن الطلاق أسلوبان[49]:صريح وكناية، وصريح الطلاق عندهم هو لفظ الطلاق ومشتقاته , وكذلك ترجمته إلى اللغات الأعجمية ; لأن الطلاق وضع لحل قيد النكاح خصيصا, ولا يحتمل غيره.

والكناية هي ما احتمل الطلاق وغيره , ومن الألفاظ التي ذكروها: أنت حرة , خلية , برية بتلة بتة. بابن حرام مقطوعة منقطعة. انطلقي. اخرجي. الزمي الطريق إلى بلدك. اجمعي ثيابك. تزوجي غيري. اختاري لنفسك زوجا. أنفقي على نفسك. اذهبي. ابعدي اعتدي. استبرئي رحمك ذوقي. استفلحي حبلك على غاربك , رفعت يدي عنك , انصرفت عنك , أنت الآن أعلم بشأنك وهبتك لأهلك.

وتعتبر النية فيها ولا تكفي القرينة والكناية عندهم كلها رجعية , إلا أن يريد اثنتين أو ثلاثا فعلى ما نوى.

مذهب الظاهرية:

وقد حصروا ألفاظ الطلاق في ثلاثة ألفاظ لا تعدوها، وبشروط حددها، يقول ابن حزم في التعبير عن مذهبه في الألفاظ التي يصح بها الطلاق، وهي الألفاظ الصريحة:(لا يقع طلاق إلا بلفظ من أحد ثلاثة ألفاظ: إما الطلاق , وإما السراح , وإما الفراق.  مثل أن يقول: أنت طالق , أو يقول: مطلقة , أو قد طلقتك - أو أنت طالقة , أو أنت الطلاق - أو أنت مسرحة, أو قد سرحتك , أو أنت السراح - أو أنت مفارقة , أو قد فارقتك , أو أنت الفراق هذا كله إذا نوى به الطلاق , فإن قال في شيء من ذلك كله: لم أنو الطلاق , صدق في الفتيا , ولم يصدق في القضاء في الطلاق , وما تصرف منه , وصدق في سائر ذلك في القضاء) [50]

ويقول عن ألفظ الكناية:) ما عدا هذه الألفاظ فلا يقع بها طلاق ألبتة - نوى بها طلاقا أو لم ينو - لا في فتيا ولا في قضاء -: مثل: الخلية , والبرية , وأنت مبرأة , وقد بارأتك , وحبلك على غاربك , والحرج , وقد وهبتك لأهلك , أو لمن يذكر غير الأهل , والتحريم , والتخيير , والتمليك([51]

مذهب الإمامية:

وهو أيسر المذاهب في هذا[52]، وأشد من ضيق هذا الباب، لأن الأصل كما قرروا أن النكاح عصمة مستفادة من الشرع , لا تقبل التقابل , فيقف رفعها على موضع الإذن، فالصيغة المتلقاة لإزالة قيد النكاح: أنت طالق , أو فلانة , أو هذه , وما شاكلها من الألفاظ الدالة على تعيين المطلقة فلو قال: أنت الطلاق , أو طلاق , أو من المطلقات , لم يكن شيئا , ولو نوى به الطلاق وكذا لو قال: أنت مطلقة، وقيل إنه يقع , إذا نوى الطلاق، ولو قيل له: طلقت فلانة, فقال: نعم،  لا يقع.

ونصوا على أنه لا يقع الطلاق بالكناية، ولا بغير العربية مع القدرة على التلفظ باللفظة المخصوصة، ولو قال: أنت طالق للسنة صح , إذا كانت طاهرة.

ثالثا: حكم طلاق الكناية

اختلف الفقهاء في وقوع الطلاق بألفاظ الكناية على قولين:

القول الأول: عدم وقوع الطلاق بها، وهو قول الظاهرية والإمامية، كما سبق ذكره في المواقف العامة للمذاهب الفقهية، ومن الأدلة على ذلك[53]:

·  أن الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم اقتصرت على ما ذكره من ألفاظ، كقوله تعالى ﴿ ثم طلقتموهن ﴾ وقوله تعالى: ﴿ فطلقوهن ﴾ , ﴿ وللمطلقات متاع﴾وقوله تعالى: ﴿ وسرحوهن سراحا جميلا ﴾، وقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾(الطلاق:2)، قال ابن حزم بعد إيراده لهذه الآيات:(لم يذكر الله تعالى حل الزوج للزوجة إلا بهذه الألفاظ , فلا يجوز حل عقدة عقدت بكلمة الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -  إلا بما نص الله تعالى عليه: ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾(الطلاق:1)، وقد استدل على اشتراط النية مع التلفظ بقوله - صلى الله عليه وسلم - :(إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) [54]

·  الدليل على التفريق بين ألفاظ الطلاق , من حيث عدم اعتبار نيته قضاء في لفظ الطلاق وحده دون سائر الألفاظ أن لفظة الطلاق وما تصرف منها لا يقع في اللغة إلا على عقد الزواج فقط، فلا يجوز أن يصدق في دعواه في حكم قد ثبت بالبينة عليه وفي إسقاط حقوق وجبت يقينا للمرأة بالطلاق قبله، أما في الفتيا , فإنه قد يريد لفظا آخر فيسبقه لسانه إلى ما لم يرده , فإذا لم يعرف ذلك إلا بقوله , فقوله كله مقبول لا يجوز أخذ بعضه وإسقاط بعضه.

·  أن لفظي السراح , والفراق يدلان في اللغة على حل عقد النكاح , وعلى معان أخر وقوعا مستويا ليس معنى من تلك المعاني أحق بتلك اللفظة من سائر تلك المعاني , فيكون: أنت مسرحة , أي: أنت مسرحة للخروج إذا شئت , وبقوله قد فارقتك , وأنت مفارقة , في شيء مما بينهما ما لم توافقه فيه.

·  أن ما ذهب إليه العلماء من صيغ الكناية، وهي ألفاظ جاءت فيها آثار مختلفة الفتيا عن نفر من الصحابة - رضي الله عنهم -  ولم يأت فيها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  شيء أصلا , ولا حجة في كلام غيره - صلى الله عليه وسلم - لا سيما في أقوال مختلفة ليس بعضها أولى من بعض.

القول الثاني: وقوع الطلاق بألفاظ الكناية، وهو قول جمهور العلماء، واستدلوا لذلك بما سنذكره من أدلة ألفاظ الكناية.

ومنها ما روي عن مالك أنه بلغه أنه كتب إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  من العراق أن رجلا قال لامرأته: حبلك على غاربك فكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  إلى عامله أن مره يوافيني بمكة في الموسم فبينما عمر يطوف بالبيت إذ لقيه الرجل فسلم عليه فقال عمر: من أنت فقال أنا الذي أمرت أن أجلب عليك، فقال له عمر أسألك برب هذه البنية، ما أردت بقولك حبلك على غاربك، فقال له الرجل: لو استحلفتني في غير هذا المكان ما صدقتك، أردت بذلك الفراق، فقال عمر بن الخطاب: هو ما أردت[55].

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة بناء على ما ذكرنا من أن العبرة في الطلاق بمقصد المطلق، لا باللفظ المعبر عنه، فإن صيغة الطلاق بالتالي لا يصح تقسيمها إلى هذين القسمين من الصريح والكناية، لأن كل لفظ من الألفاظ المذكورة في الصريح أو الكناية يحتمل معاني متعددة في اللغة العربية بحسب الوضع وبحسب الاصطلاح فكيف بتغاير الأعراف واللهجات، ولذلك فإن المرجع في تحديد معنى اللفظ هو المتلفظ بذلك اللفظ، لا ما حدده الفقهاء، قال ابن القيم: (والله سبحانه ذكر الطلاقَ ولم يُعين له لفظاً، فعلم أنه رد الناسَ إلى ما يتعارفونه طلاقاً، فأيُّ لفظ جرى عرفهم به، وقع به الطلاقُ مع النية) [56]

وعلل ذلك بأن الألفاظ لا تُراد لعينها، بل للدلالة على مقاصد لافظها، فإذ تكلم بلفظ دال على معنى، وقصد به ذلك المعنى، ترتب عليه حكمه، ولهذا يقع الطلاقُ مِن العجمي والتركي والهندي بألسنتهم، بل لو طلق أحدهم بصريحِ الطلاق بالعربـية ولم يفهم معناه، لم يقع به شيء قطعاً، فإنه تكلّم بما لا يفهم معناه ولا قصده.

ولذلك، فإن الجهد الذي بذله الفقهاء في ضبط صيغ الطلاق وأنواع دلالتها، وجهد الطلبة على مدى الأجيال في حفظ كل ذلك يكاد يكون كله هدرا، فهو في أحسن حالاته ينطبق على بيئة معينة وواقع محدود وزمان ضيق لا يكاد يعدو الفترة القريبة من أزمنة السلف الأول، في البيئة العربية وحدها أو ما قاربها.

وقد أشار ابن القيم إلى هذا الجهد الذاهب هدرا في قوله: (وتقسيمُ الألفاظ إلى صريح وكناية، وإن كان تقسيماً صحيحاً في أصل الوضع، لكن يختلِفُ باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فليس حكماً ثابتاً للفظ لذاته، فرُب لفظٍ صريح،عند قوم كناية عند آخرين، أو صريح في زمان أو مكان كنايةٌ في غير ذلك الزمان والمكان، والواقعُ شاهد بذلك)

ويضرب مثالا لذلك بلفظ السراح فقال: (فهذا لفظ السراحِ لا يكادُ أحدٌ يستعمله في الطلاق لا صريحاً ولا كناية، فلا يسوغُ أن يقال: إن من تكلم به، لزمه طلاقُ امرأته نواه أو لم ينوه، ويدعي أنه ثبت له عُرف الشرع والاستعمال، فإن هذه دعوة باطلة شرعاً واستعمالاً. أما الاستعمال، فلا يكاد أحدٌ يطلق به ألبتة، وأما الشرعُ، فقد استعمله في غير الطلاق، كقوله تعالى:  ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:49)، فهذا السراح غير الطلاق قطعاً، وكذلكَ الفراق استعمله الشرعُ في غير الطلاق، كقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾(الطلاق:1) إلى قوله:﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾(الطلاق:2) فالإمساك هنا: الرجعة، والمفارقةُ: تركُ الرجعة لا إنشاء طلقة ثانية، هذا مما لا خلاف فيه ألبتة، فلاَ يجوز أن يُقال: إن من تكلم به طلقت زوجته، فهم معناه أو لم يفهم، وكلاهما في البطلان سواء) [57]

وقد رد ابن حزم على ما ذهب إليه الفقهاء من هذا التقسيم ردا علميا، حيث جمع الألفاظ التي ذكرها الفقهاء واعتبروها من صيغ الكناية  وقسمها إلى ثلاثة أقسام وناقشها جميعا، وهذه الأقسام هي:

·  الألفاظ التي وردت بها النصوص، والتي تشكل الدعامة الأساسية التي تقوم عليها صيغ الكناية في الطلاق، ووجه الأحاديث الواردة فيها كما سنراه عند ذكر ألفاظ التعبير عن الطلاق.

·  الألفاظ  التي لم يأت في شيء منها أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا صحيح ولا سقيم , ولا عن أحد من الصحابة - رضي الله عنه - ، ولكن جاءت فيها فتاوى مختلفة عن نفر من التابعين، وهذه لا تشكل دليلا يمكن الاعتماد عليه في هذا المجال.

·  الألفاظ التي لم يأت فيها أثر لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم -  ولا عن أحد من التابعين - رحمهم الله - وإنما جاءت فيها فتاوى عن فقهاء الأمصار بآرائهم , قال ابن حزم:(فلا معنى للاشتغال بها , لأنه لا يستحل تفريق نكاح مسلم , وإباحة فرج مسلمة لغير من أباحه الله تعالى له إلا مقلد ضال بتقليده , مستهلك هالك)

ألفاظ الكناية في الطلاق أحكامها

 

سنذكر في هذا المطلب الصيغ التي ذكرها الفقهاء، واختلفوا فيها فاعتبرها بعضهم كناية، وبعضهم صريحة، وحملها بعضهم على الرجعي، وحملها آخرون على البائن، ولا يمكن حصر كل ما ذكروا، وإنما سنركز على الصيغ المشهورة، أما ما عداها، فقد ذكرت أقوال الفقهاء فيها في محلها من المطلب الثاني.

1 ـ لفظة الإطلاق:

اختلف الفقهاء في اعتبار لفظة الإطلاق من صيغ الطلاق الصريحة على قولين:

القول الأول: أنها ليست صريحة في الطلاق، وهو قول الجمهور; لأنها لم يثبت لها عرف الشرع , ولا الاستعمال , فأشبهت سائر كناياته.

القول الثاني:  احتمال كونها صريحة، وقد ذكره القاضي فيها، ومن الأدلة على ذلك عدم تفريقه بين فعلت وأفعلت , نحو عظمته وأعظمته , وكرمته وأكرمته.

وقد رد ابن قدامة على هذا بأنه ليس هذا الذي ذكره بمطرد ; فإنهم يقولون: حييته من التحية , وأحييته من الحياة , وأصدقت المرأة صداقا , وصدقت حديثها تصديقا[58].

2 ـ أنت الطلاق:

وقد اختلف الفقهاء في هذه الصيغة على قولين:

القول الأول: أنه لفظ كناية، وهو قول أبي حنيفة , ومالك، وأحمد وقول للشافعية، لأنه مصدر , والأعيان لا توصف بالمصادر إلا مجازا.

القول الثاني: أنه لفظ صريح , فلم يفتقر إلى نية , كالمتصرف منه , وهو قول للشافعية، واستدلوا على ذلك بأنه مستعمل في عرفهم , كما قال الشاعر:

نوهت باسمي في العالمين             وأفنيت عمري عاما فعاما

فأنت الطلاق وأنت الطلاق  وأنت الطلاق ثلاثا تماما

3 ـ الفراق والتسريح:

وقد اختلف الفقهاء فيها هل هي من الألفاظ الصريحة أم لا على قولين:

القول الأول: أن صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ ; الطلاق , والفراق , والسراح, وما تصرف منهن، وهو قول الشافعي وأحمد، واستدلوا على ذلك بأن هذه الألفاظ ورد بها الكتاب بمعنى الفرقة بين الزوجين , فكانا صريحين فيه , كلفظ الطلاق , قال الله تعالى: ﴿ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾(البقرة:229)، وقال:﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾(الطلاق:2)، وقال :﴿ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ﴾، وقال: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(الأحزاب:28)

القول الثاني: أن صريح الطلاق لفظ الطلاق وحده , وما تصرف منه لا غير، وهو قول أبي حنيفة , ومالك , وعلى هذا لو قال: أردت بقولي: فارقتك أي بجسمي , أو بقلبي أو بمذهبي , أو سرحتك من يدي , أو شغلي , أو من حبسي , أو أي سرحت شعرك. قبل قوله. وإن قال: أردت بقولي: أنت طالق أي: من وثاقي. أو قال: أردت أن أقول: طلبتك. فسبق لساني , فقلت: طلقتك. ونحو ذلك , دين فيما بينه وبين الله تعالى , فمتى علم من نفسه ذلك , لم يقع عليه فيما بينه وبين ربه.إلا أن مالكا يوقع الطلاق بلفظ الطلاق بغير نية ; لأن الكنايات الظاهرة لا تفتقر عنده إلى النية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أن لفظ الفراق والسراح يستعملان في غير الطلاق كثيرا , فلم يكونا صريحين فيه كسائر كناياته.

·  أن الصريح في الشيء ما كان نصا فيه لا يحتمل غيره , إلا احتمالا بعيدا , ولفظة الفراق والسراح إن وردا في القرآن بمعنى الفرقة بين الزوجين , فقد وردا لغير ذلك المعنى وفي العرف كثيرا , قال الله تعالى :﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ﴾ ،وقال:﴿ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ﴾ فلا معنى لتخصيصه بفرقة الطلاق , أما قوله تعالى :﴿ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ (الطلاق:2)  فلم يرد به الطلاق , وإنما هو ترك ارتجاعها , وكذلك قوله: ﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾(البقرة:229) فلا يصح قياسه على لفظ الطلاق , فإنه مختص بذلك , سابق إلى الأفهام من غير قرينة ولا دلالة , بخلاف الفراق والسراح.

4 ـ الحقي بأهلك:

اختلف الفقهاء في هذه الصيغة على قولين:

القول الأول: أنها من ألفاظ الطلاق إذا نوى بها الطلاق، وهو قول الجمهور، ومن الأدلة على ذلك:

·  أن إسماعيل بن إبراهيم u طلق به امرأته لما قال لها إبراهيم u: مريه فليغير عتبة بابه، فقال لها: أنت العتبة، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك[59].

·  عن عائشة أم المؤمنين أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك ؟ قال لها: لقد عذت بعظيم , الحقي بأهلك[60]، وهو كالصريح في أنه كان عقد عليها، فإنها قالت: لما أدخلت، فهذا دخول الزوج بأهله، ويؤكده قولها: ودنا منها.

·      أن حديث أبي أسيد غاية ما فيه قوله: هبي لي نفسك، وهذا لا يدل على أنه لم يتقدم لها، وجاز أن يكون هذا استدعاء منه للدخول لا للعقد.

·  أنه لم يزل هذا اللفظ من الألفاظ يطلق بها في الجاهلية والإسلام، ولم يغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بل أقرهم عليه، وقد أوقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح  الطلاق وهم القدوة بـ) أنت حرام، وأمرك بيدك واختاري، ووهبتك لأهلك، خلية وقد خلوت مني وأنت برية وقد أبرأتك وأنت مبرأة وحبلك على غاربك (

القول الثاني: ليس هذا بطلاق، ولا يقع به الطلاق نواه أو لم ينوه، وهو قول الظاهرية والإمامية، وقد رد ابن حزم على هذا بقوله :(وليس في هذا الخبر حجة لمن ادعى أن [الحقي بأهلك ] لفظ يقع به الطلاق، ثم ساق الروايات التي تدل على غير ما فهم منه هذا اللفظ  ومنها: 

·  عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أوتي بالجونية فأنزلت في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل في نخل ومعها دابتها فدخل - صلى الله عليه وسلم - عليها فقال لها: هبي لي نفسك ؟ قالت: وهل تهب الملكة نفسها لسوقة ؟ فأهوى ليضع يده عليها لتسكن فقالت: أعوذ بالله منك , فقال: قد عذت بمعاذ , ثم خرج فقال: يا أبا أسيد اكسها رازقيتين وألحقها بأهلها.

·  وعن سهل بن سعد قال: ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من العرب فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها: فأرسل إليها , فقدمت فنزلت في أجم بني ساعدة , فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  فلما كلمها قالت: أعوذ بالله منك ؟ قال: قد أعذتك مني , فقالوا لها: أتدرين من هذا ؟ قالت: لا , قالوا: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءك ليخطبك ؟ قالت: أنا كنت أشقى من ذلك.

قال ابن حزم بعد روايته للحديثين السابقين: (فهذه كلها أخبار عن قصة واحدة , في امرأة واحدة , في مقام واحد , فلاح أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن تزوجها بعد , وإنما دخل عليها ليخطبها، فبطل تعلقهم بقوله عليه الصلاة والسلام: الحقي بأهلك. ثم لو صح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد تزوجها فليس فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه إنما طلقها بقوله الحقي بأهلك ؟ ولا تحل النكاحات الصحاح إلا بيقين)

ثم ساق من النصوص ما يدل على أن هذا اللفظ كان لا يقصد به في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -  إيقاع الطلاق، ومنها حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه -  في حديث تخلفه عن تبوك , فذكر فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليه يأمره أن يعتزل امرأته ؟ قال: فقلت لرسوله: أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال: لا , بل اعتزلها فلا تقربها ؟ قال كعب فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني فيهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال ابن حزم: فهذا كعب لم ير [ الحقي بأهلك ] من ألفاظ الطلاق, ولا يعرف له مخالف في ذلك من الصحابة  - رضي الله عنهم - .

5 ـ قوله: أنت علي حرام :

وهي من الصور الواقعية المهمة، والتي اشتد فيها الخلاف بين السلف والخلف، ولا بأس أن نعرض هنا لبعض ما ورد في المسألة من خلاف لشدة الحاجة إليها، وقد ذكر العلماء لهذا التعبير صورا مختلفة حصرها ابن العربي في عشرة صور، هي: قوله: حرام. الثانية: قوله: علي حرام  الثالثة: أنت حرام. الرابعة: أنت علي حرام. الخامسة: الحلال علي حرام. السادسة: ما أنقلب إليه حرام. السابعة: ما أعيش فيه حرام. الثامنة: ما أملكه حرام علي. التاسعة: الحلال حرام.  العاشرة: أن يضيف التحريم إلى جزء من أجزائها.

أما حكم هذه الألفاظ والتي لا يزال بعضها وما يشببها مستعملا فقد اختلف الفقهاء فيه اختلافا شديدا يعسر حصره أو ضبطه، وقد عد ابن العربي من الأقوال في المسألة خمسة عشر قولا، سنسردها هنا كما سردها ابن العربي دون ذكر أدلتها، لنرى مبلغ الخلاف فيها، والذي استمر من لدن السلف الصالح - رضي الله عنهم - ، وهذه الأقوال هي[61]:

·      أنها يمين تكفر ; قاله أبو بكر الصديق , وعائشة , والأوزاعي.

·  تجب فيها كفارة , وليست بيمين , وبه قال ابن مسعود وابن عباس في إحدى روايتيه, والشافعي في أحد قوليه.

·      أنها طلقة رجعية ; قاله عمر بن الخطاب , والزهري , وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون.

·      أنها ظهار ; قاله عثمان , وأحمد بن حنبل.

·      أنها طلقة بائنة ; قاله حماد بن سلمة , ورواه ابن خويز منداد عن مالك.

·      أنها ثلاث تطليقات ; قاله علي بن أبي طالب , وزيد بن ثابت , وأبو هريرة ومالك.

·      إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى , وإلا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته، وهو قول أبي حنيفة.

·      أنه لا تنفعه نية الظهار , وإنما يكون طلاقا ; قاله ابن القاسم.

·      يكون طلاقا , فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار، وهو قول يحيى ابن عمر.

·      هي ثلاث قبل وبعد , لكنه ينوي في التي لم يدخل بها في الواحدة ; قاله مالك , وابن القاسم.

·      أنها ثلاث , ولا ينوي بحال , ولا في محل ; قاله عبد الملك في المبسوط.

·  أنها واحدة في التي لم يدخل بها واحدة , وفي التي دخل بها ثلاث ; قاله أبو مصعب , ومحمد بن عبد الحكم.

·  أنه إن نوى الظهار , وهو أن ينوي أنها محرمة كتحريم أمه كان ظهارا , وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين , وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين ; قاله الشافعي.

·      أنه إن لم ينو شيئا لم يكن شيء.

·      أنه لا شيء عليه فيها ; قاله مسروق بن ربيعة من أهل المدينة.

وذكر زيادة على هذه الأقوال قولا لسعيد بن جبير - رضي الله عنه -  أن عليه عتق رقبة , وإن لم يجعلها ظهارا، قال ابن العربي:) ولست أعلم له وجها , ولا يتعدد في المقالات عندي ([62]

وقد أضاف ابن القيم إلى هذه الأقوال غيرها نقلا عن ابن حزم وغيره، فقال:) وهذه المسألة فيها عشرون مذهبا للناس (، وقد حاولنا أن نحصر أهم الأقوال مما ذكره ابن العربي وابن القيم وابن حزم وغيرهم في الأقوال الأربعة التالية مع أدلتها:

القول الأول: أن التحريم لغو لا شيء فيه لا في الزوجة، ولا في غيرها لا طلاق ولا إيلاء يمين ولا ظهار، وقد روي عن بعض السلف، فقد روي عن مسروق أنه قال:) ما أبالي حرمت امرأتي أو قصعة من ثريد(، وعن الشعبي أنه قال في تحريم المرأة:) لهي أهون علي من نعلي (، وعن أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه قال:) ما أبالي حرمتها يعني امرأته أو حرمت النهر)، وقال قتادة سأل رجل حميد بن عبد الرحمن الحميري عن ذلك فقال قال الله تعالى:﴿ فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب﴾ وأنت رجل تلعب فاذهب، فالعب، وهو قول الظاهرية، ومن الأدلة على ذلك[63]:

·  أن الله تعالى لم يجعل للعبد تحريما ولا تحليلا، وإنما جعل له تعاطي الأسباب التي بها تحل العين وتحرم كالطلاق والنكاح والبيع والعتق، أما مجرد قوله حرمت كذا وهو  حرام، فليس إليه كما قال تعالى :﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾(النحل:116)، وقال تعالى ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾(التحريم:1)

·      إذا كان تعالىلم يجعل لرسوله أن يحرم ما أحل الله له فكيف يجعل لغيره التحريم؟

·      أنه لا فرق بين تحريم الحلال وتحليل الحرام، وكما أن هذا الثاني لغو لا له فكذلك الأول.

·      أنه لا فرق بين قوله لامرأته: أنت علي حرام، وبين قوله لطعامه هو علي حرام.

·  أن قوله: أنت علي حرام، إما أن يريد به إنشاء تحريمها، أو الإخبار عنها بأنها حرام، وإنشاء تحريم محال، فإنه ليس إليه إنما هو إلى من أحل الحلال وحرم الحرام وشرع الشرائع،  وإن أراد الإخبار فهو كذب، فهو إما خبر كاذب أو إنشاء باطل، وكلاهما لغو.

·  أن ما سوى هذا القول أقوال مضطربة متعارضة يرد بعضها بعضا، فيحرم الزوجة بشيء منها بغير برهان من الله ورسوله.

·  أنه بتحريمها نكون قد ارتكبنا أمرين تحريمها على الأول وإحلالها لغيره والأصل استمرار النكاح حتى تجمع الأمة أو يأتي برهان من الله ورسوله على زواله.

القول الثاني: اعتباره من صيغ الطلاق، وقد اختلف أصحاب هذا القول على الآراء التالية:

الرأي الأول: أن التحريم في الزوجة طلاق ثلاث، وقد ذكر ابن حزم أنه قول علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت وابن عمر[64] وهو قول الحسن ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وروي عن ابن عتيبة، ومن الأدلة على ذلك:

·  أن التحريم جعل كناية على الطلاق، وأعلى أنواعه تحريم الثلاث، فيحمل على أعلى أنواعه احتياطا للأبضاع.

·  أنا إذا تيقنا التحريم بذلك، وشككنا هل هو تحريم تزيله الكفارة كالظهار أو تجديد العقد كالخلع، أو لا يزيله إلا زوج وإصابة كتحريم الثلاث، وهذا متيقن ودونه مشكوك فيه فلا يحل بالشك.

·  أن الصحابة أفتوا في الخلية والبرية بأنها ثلاث، ومعلوم أن غاية الخلية والبرية أن تصير إلى التحريم، فإذا صرح بالغاية فهي أن تكون ثلاثا.

·  أن المحرم لا يسبق إلى وهمه تحريم امرأته بدون الثلاث فكأن اللفظ صار حقيقة عرفية في إيقاع الثلاث.

·      أن الواحدة لا تحرم إلا بعوض أو قبل الدخول أو عند تقييدها بكونها بائنة عند من يراه فالتحريم بها مقيد، فإذا أطلق التحريم ولم يقيد انصرف إلى التحريم المطلق الذي يثبت قبل الدخول أو بعده وبعوض وغيره وهو الثلاث.

الرأي الثاني: أنه ثلاث في حق المدخول بها لا يقبل منه غير ذلك، وإن كانت غيرها وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلاث، فإن أطلق فواحدة، وإن قال لم أرد، فإن كان قد تقدم كلام يجوز صرفه إليه قبل منه، وإن كان ابتداء لم يقبل، وإن حرم أمته أو طعامه أو متاعه فليس بشيء، وهو قول مالك، ومن الأدلة على ذلك أن المدخول بها لا يحرمها إلا الثلاث، وغير المدخول بها تحرمها الواحدة، فالزائدة عليها ليست من التحريم.

القول الثالث: اعتبار النية، وقد اختلفوا في المرجح من النية عند الإطلاق على الآراء التالية:

الرأي الأول: أنه إن نوى الطلاق كان طلاقا، فإن نوى به الثلاث فثلاث، وإن نوى واحدة فواحدة بائنة[65]، وإن نوى يمينا فهو يمين فيها كفارة، وإن لم ينو شيئا فهو إيلاء له حكم الإيلاء، فإن نوى الكذب صدق في الفتيا ولم يكن شيئا، وهو قول أبي حنيفة.

وقد عبر السرخسي عن هذا القول مبينا وجه استدلاله بما نقتبسه هنا ببعض التصرف: (إذا قال الرجل لامرأته أنت علي حرام، فإنه يسأل عن نيته، لأنه تكلم بكلام مبهم محتمل لمعان، وكلام المتكلم محمول على مراده ومراده إنما يعرف من جهته، فيسأل عن نيته، فإن نوى الطلاق فهو طلاق لأنه نوى ما يحتمله كلامه، فإنه وصفها بالحرمة عليه، وحرمتها عليه من موجبات الطلاق، ثم إن نوى ثلاثا فهو ثلاث لأن حرمتها عليه عند وقوع الثلاث، فقد نوى نوعا من أنواع الحرمة، وإن نوى واحدة بائنة فهي واحدة بائنة، لأنه نوى الحرمة بزوال الملك ولا يحصل ذلك إلا بالتطليقة البائنة.. وإن لم ينو الطلاق ولكن نوى اليمين كان يمينا فإن تحريم الحلال يمين قال الله تعالى :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾(التحريم:2) جاء في التفسير أنه (كان حرم مارية القبطية على نفسه) , وفي بعض الروايات (حرم العسل على نفسه) [66]

أما في حال عدم النية، فقال :(إن لم يكن له نية فهو يمين لأن الحرمة الثابتة باليمين دون الحرمة التي تثبت بالطلاق، وعند الاحتمال لا يثبت إلا القدر المتيقن، فكان يمينا إن قربها كفر عن يمينه للحنث، وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت بالإيلاء، وكذلك لو نوى الإيلاء فهو ونية اليمين سواء وإن نوى الكذب فهو كذب لا حكم له لأن كلامه من حيث الظاهر كذب، فإنه وصفها بالحرمة وهي حلال له، هذا فيما بينه وبين الله تعالى، فأما في القضاء فلا يدين لأن كلام العاقل محمول على الصحة والعمل به شرعا، فلا يلغى مع إمكان الإعمال وفي حمله على الكذب إلغاؤه) [67]

الرأي الثاني: أنه إن نوى به الطلاق كان طلاقا، ويقع ما نواه فإن أطلق وقعت واحدة، وإن نوى الظهار كان ظهارا، وإن نوى اليمين كان يمينا وإن نوى تحريم عينها من غير ظهار فعليه كفارة يمين، وإن لم ينو شيئا ففيه قولان أحدهما: لا يلزمه شيء، وقيل: يلزمه كفارة يمين، وهو قول الشافعي، ومن الأدلة على ذلك:

·  أن التحريم يفيد مطلق انقطاع الملك، وهو يصدق منه بواحدة، وما زاد عليها فلا تعرض في اللفظ له، فلا يسوغ إثباته.

·      أنه إذا أمكن إعمال اللفظ في الواحدة فقد وفى بموجبه، فالزيادة عليه لا موجب لها.

الرأي الثالث: أنه ظهار بإطلاقه نواه أو لم ينوه إلا أن يصرفه بالنية إلى الطلاق أو اليمين فينصرف إلى ما نواه، وهو ظاهر مذهب أحمد، ومن الأدلة على ذلك:

·  أن اللفظ لم يوضع لإيقاع الطلاق خاصة، بل هو محتمل للطلاق والظهار، فإذا صرف إلى بعضها بالنية، فقد استعمله فيما هو صالح له، وصرفه إليه بنيته إلى ما أراده، ولا يتجاوز به ولا يقصر عنه، ومثله ما لو نوى عتق أمته بذلك، فإنها تعتق، ولو نوى الإيلاء من الزوجة واليمين من الأمة لزمه ما نواه، أما إذا نوى عينها لزمه بنفس اللفظ كفارة يمين اتباعا لظاهر القرآن.

·  حديث ابن عباس :)  إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها، وتلا ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾(الأحزاب:21)

القول الرابع: الفرق بين أن يوقع التحريم منجزا أو معلقا تعليقا مقصودا وبين أن يخرجه مخرج اليمين، فالأول ظهار بكل حال، ولو نوى به الطلاق ولو وصله بقوله أعني الطلاق، والثاني يمين يلزمه به كفارة يمين، فإذا قال: أنت علي حرام، أو قال: إذا دخلت فأنت علي حرام، فظهار، وإذا قال: إن سافرت أو إن أكلت هذا الطعام أو كلمت فلانا فأنت علي حرام فيمين مكفرة وهذا اختيار ابن تيمية، ومن الأدلة على ذلك:

·  أن الله تعالى ذكر تحلة عقب قوله ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾(التحريم:1)وهذا صريح في أن تحريم الحلال قد فرض تحلة الأيمان إما مختصا به، وإما شاملا له ولغيره، فلا يجوز أن يخلى سبب المذكورة في السياق عن حكم الكفارة ويعلق بغيره، وهذا ظاهر الإمتناع. 

·  أن الحنث إما جائز وإما واجب أو مستحب، وما جوز الله لأحد ألبتة أن حرمة اسمه وقد شرع الحنث مع الكفارة وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا حلف على يمين، ورأى غيرها خيرا منها كفر عن يمينه وأتى المحلوف عليه، ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تعالىلم يبح في قط، وإنما الكفارة كما سماها الله تعالى تحلة وهي تفعلة من الحل، فهي تحل ما به اليمين ليس إلا،وهذا العقد كما يكون باليمين يكون بالتحريم.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن حكم هذا اللفظ تابع لنية صاحبه، فإن أراد به الطلاق كان طلاقا بالشروط التي ذكرناها، ولا يكون إلا طلقة واحدة لعدم صحة طلاق الثلاث بكلمة واحدة أو في مجلس واحد.

وإن نوى به تحريم معاشرتها كان إيلاء، فيتربص أربعة أشهر، ولا تطلق منه إلا بعد الرفع للقاضي كما سنراه في محله.

وإن نوى به الظهار لم يصح اعتباره ظهارا لافتقاره للمشبه به، فالمشبه به من الأم وغيرها من المحارم ركن من أركان الظهار، وهي سبب جعله منكرا من القول وزورا.

وإن لم ينو شيئا لم يجب عليه شيء، لا كفارة يمين ولا غيرها، لأن هذا اللفظ ليس من صيغ اليمين إلا إذا نواه، وكثيرا ما يستعمل عندنا بهذه الصورة، فيتلفظ الرجل بهذه الكلمة من غير أن يعلم لها معنى أو يريد بها شيئا.

6 ـ البات , وألبتة :

وقد اختلف الفقهاء في هذه الصيغة على الأقوال التالية:

القول الأول: اعتبارها من صيغ الكناية التي يقع بها الطلاق، وهو قول الجمهور، وقد اختلفوا في العدد المراد منها، فروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  أنه قال: هي واحدة، وبه قال أبان بن عثمان وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -  :هي ثلاث، وروي أيضا عن عمر، وبه قال الزهري وعمر بن عبد العزيز , وهو قول المالكية[68]، ومن الأدلة على ذلك:

·  عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني كنت تحت رفاعة القرظي فطلقني ألبتة فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإن ما معه إلا مثل الهدبة وأخذت هدبة من جلبابها فقال تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك[69]، ووجه الدليل من هذا الحديث أنها قالت: كنت تحت رفاعة القرظي فطلقني ألبتة، ثم أجابها أنها لا ترجع إليه حتى يمسها غيره , وهذا يقتضي أن هذا حكم طلاق البتة , ولو اختلف حكم البتة لما منعها حتى سألها عن أنواع البتة كان طلاقه إياها.

·  أن معنى البتة القطع , وهذا يقتضي قطع العصمة بينهم , والمبالغة في ذلك، ولذلك يقال ما بقي بينهما شيء ألبتة يريدون المبالغة في قطع ما كان بينهما.

·  قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - : (لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا، ومن قال ألبتة فقد رمى الغاية القصوى) قال الباجي:(يريد أنه من قال ألبتة في طلاقه، فقد بلغ أقصى الغايات في الطلاق ومنع التراجع الذي لا توصف الفرقة التي لا تمنعه بالبتة , وهذا المعنى من المبالغة في ذلك لا يكون إلا بالثلاث) [70]

·  أن مروان بن الحكم كان يقضي في البتة بالثلاث، وهذا يقتضي تكرار هذا القضاء منه , قال الباجي:(وإنما استظهر مالك بذلك ; لأن مروان كان أميرا بالمدينة في زمان جماعة من الصحابة وأجلة التابعين وعلمائهم، وكان لا يقضي إلا عن مشورتهم، وبما اتفق عليه جميعهم أو أكثرهم وأعلمهم , فإذا تكرر قضاؤه في البتة أنها ثلاث دل ذلك على أنه كان الظاهر من أقوالهم , والمعمول به من مذاهبهم أو أنه الذي اتفق عليه جميعهم) [71]

القول الثاني: لا يقع بها الطلاق، وهو قول ابن حزم، وقد ساق ابن حزم ما روي من ذلك عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم -  ثم قال :لا حجة في قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا سيما في أقوال مختلفة لا برهان على صحة شيء منها , فلم يبق إلا الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن مناقشاته لما استدل به المخالفون من نصوص:

·  أنه يتبن من الروايات الواردة في حديث فاطمة أنه صح طلاق زوجها لها كان ثلاثا هكذا, أو آخر ثلاث , فوجب ضرورة أن قول من قال في خبرها ألبتة , أو بت طلاقها , أو بائنا أنه إنما عنى من عند نفسه آخر ثلاث طلقات - فبطل التعلق بها.

·  أن حديث امرأة رفاعة فكذلك أيضا لما روي عن عائشة أم المؤمنين أن رفاعة القرظي طلق امرأته فجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -  فقالت: يا رسول الله: إن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات - وذكرت الخبر، قال ابن حزم: ففسر عبد الرزاق عن معمر ما أجمله غيره، وصح أن طلاقه لها كان آخر ثلاث تطليقات.

·  أن حديث ركانة، ورد من طريق عبد الله بن علي بن يزيد عن نافع عن عجير وكلاهما مجهول، قال ابن حزم:(ولو صح لقلنا به مبادرين إليه)

·      أن حديث الزبير بن سعيد فهو ضعيف , والزبير متروك الحديث.

·      قال ابن حزم بعد إيراده لذلك:(فبطل التعلق بكل أثر في هذه المسألة , ولا يحل تحريم فرج على من أباحه الله عز وجل له , وإباحته لمن حرمه الله عليه بغير قرآن ولا سنة) [72]

7 ـ اعتدي:

وقد استدل القائلون باعتباره من صيغ الطلاق كناية بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  قال لسودة أم المؤمنين: اعتدي , فكان طلاقا ثم راجعها.

وقد رد ابن حزم على هذا الحديث بأنه كذب موضوع ما صح قط أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق امرأة من نسائه إلا حفصة فقط ثم راجعها , وأما سودة فلم يطلقها إنما جاء فيها: أنها وهبت يومها وليلتها - لما أسنت - لعائشة رضي الله عنها. وجاء أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد فراقها، فلما رغبت إليه - صلى الله عليه وسلم - في إمساكها وتجعل يومها وليلتها لعائشة لم يفارقها[73]. 

ثالثا ـ الصيغة المقيدة للطلاق وأحكامها

ينقسم الطلاق من حيث تقييد صيغته إلى الأنواع التالية:

النوع الأول ـ الطلاق المقيد بإضافة

تعريفه:

لغة: لإضافة في اللغة تأتي بمعنى: الضم , والإمالة , والإسناد , والتخصيص. 

اصطلاحا: هو الطلاق الذي قرنت صيغته بوقت بقصد وقوع الطلاق عند حلول ذلك الوقت , كقوله: أنت طالق أول الشهر القادم , أو آخر النهار , أو أنت طالق أمس.

أنواع الإضافة وأحكامها

إضافة الطلاق نوعان:

أولا ـ الإضافة إلى الوقت:

ومعناها تأخير الآثار المترتبة على الطلاق إلى حلول الوقت الذي أضيف إليه، وقد نص أكثر الفقهاء على أن الطلاق من التصرفات التي تصح إضافتها[74]، واختلفوا في بعض الأزمنة التي تعتبر فيها الإضافة على الأحوال التالية:

 

إضافة الطلاق إلى زمان ماض:

اختلف الفقهاء في وقوع هذا الطلاق على قولين:

القول الأول: أنه إن أضاف الطلاق إلى الماضي وقع في الحال، وهو قول جمهور الفقهاء، قال الشافعي:) ولو قال لها: أنت طالق الشهر الماضي طلقت مكانها وإيقاعه الطلاق الآن في وقت مضى محال , ولو قال: عنيت أنها مطلقة من غيري لم يقبل منه إلا أن يعلم أنها كانت في ذلك الوقت مطلقة من غيره فالقول قوله مع يمينه([75]

القول الثاني: أنه يلغو، وهو قول للشافعية، وقول ابن حزم.

القول الثالث: وقوع الطلاق إن نواه , وإلا فهو لغو، وهو قول الحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول بعدم وقوع الطلاق، لأن القول بوقوعه يستلزم أحد احتمالين: إما أن الزوج قد راجع زوجته إن كان الطلاق رجعيا، أو أنه بعد الفترة التي أضاف إليها طلاقه كان معاشرا لزوجته بغير الطريق الشرعي إن كان طلاقا بائنا.

ولم يقل بأحد هذين الاحتمالين أحد من الفقهاء، فكيف يستقيم أن تطلق زوجته بما استحال شرعا، وأي فرق بين الاستحالة الشرعية والاستحالة العقلية، وهم يقولون بعدم وقوع الطلاق إن أضيف إلى مستحيل عقلي.

إضافة الطلاق إلى زمان مستقبل:

اختلف الفقهاء في حكم هذه الحالة على الأقوال التالية:

القول الأول: أن الطلاق المضاف إلى المستقبل ينعقد سببا للفرقة في الحال , ولكن لا يقع به الطلاق إلا عند حلول أجله المضاف إليه بعد استيفائه لشروطه الأخرى , فإذا قال لها: أنت طالق آخر هذا الشهر , لم تطلق حتى ينقضي الشهر , ولو قال: في أوله طلقت أوله , ولو قال: في شهر كذا , طلقت في أوله، وهو قول الجمهور.

قال الشافعي :) وأي أجل طلق إليه لم يلزمه قبل وقته , ولو قال في شهر كذا أو في غرة هلال كذا طلقت في المغيب من الليلة التي يرى فيها هلال ذلك الشهر , ولو قال: إذا رأيت هلال شهر كذا حنث إذا رآه غيره إلا أن يكون أراد رؤية نفسه , ولو قال: إذا مضت سنة وقد مضى من الهلال خمس لم تطلق حتى تمضي خمس وعشرون ليلة من يوم تكلم وأحد عشر شهرا بالأهلة وخمس بعدها([76]

وقد ذكر الفقهاء القائلون بهذا الصور الكثيرة من الإضافات، بحيث لا تكاد تنحصر، واختلفوا في كل واحدة منها اختلافا يعسر ضبطه، وقد ذكر القرافي عن بيت واحد من الشعر من ألغاز هذا الباب، بأنه اشتمل على سبعمائة مسألة وعشرين مسألة من المسائل الفقهية المتعلقة بهذا الباب، فقال:) أنشد بعض الفضلاء:

ما يقول الفقيه أيده الله     ولا زال عنده إحسان

في فتى علق الطلاق بشهر قبل ما قبل قبله رمضان

ولصعوبة ضبط هذه الصور نكتفي هنا بالإشارة المختصرة لبعضها كنماذج عن أقوال الفقهاء في هذه المسائل:

·  لو قال الرجل لامرأته: أنت طالق قبل قدوم فلان، فقد نص بعضهم على وقوع الطلاق، واستدل الجصاص لذلك بقوله تعالى:﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾(النساء:47) قال الجصاص في بيان وجه الاستدلال بالآية:)فكان الأمر بالإيمان صحيحا قبل طمس الوجوه ولم يوجد الطمس أصلا , وكان ذلك إيمانا قبل طمس الوجوه وما وجد ; وهو نظير قوله تعالى:  ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾(المجادلة:3) فكان الأمر بالعتق للرقبة أمرا صحيحا وإن لم يوجد المسيس([77]، وفي مقابل ذلك نص آخرون على عدم وقوع الطلاق إلى أن يجيء من علق عليه الطلاق.

·  لو قال لزوجته:)أنت طالق ليلة القدر[78] (، فقال أبو حنيفة :إن قال لها ذلك قبل شهر رمضان , لم يقع الطلاق حتى يمضي شهر رمضان , لما قد اختلف في موضع ليلة القدر من ليالي شهر رمضان، ومما روي أنها في الشهر كله , ومما قد روي أنها في خاص منه قال أبو حنيفة:) فلا أحكم بوقوع الطلاق , إلا بعد مضي الشهر , لأني أعلم بذلك أنه قد مضى الوقت الذي أوقع الطلاق فيه , وأن الطلاق قد وقع ([79]

·  أما إن قال لها ذلك في شهر رمضان , في أوله , أو في آخره , أو في وسطه , فلا يقع الطلاق عنده, حتى يمضي ما بقي من ذلك الشهر , وحتى يمضي شهر رمضان أيضا كله , من السنة القابلة، واستدل على ذلك بأنه يجوز أن تكون فيما مضى من هذا الشهر الذي هو فيه، ويجوز أن تكون فيما بقي من ذلك الشهر الذي هو فيه , قال:) فلما أشكل ذلك, لم أحكم بوقوع الطلاق إلا بعد علمي بوقوعه , ولا أعلم ذلك , إلا بعد مضي شهر رمضان , الذي هو فيه , وشهر رمضان الجائي بعده([80]

·  وفي مقابل ذلك قال أبو يوسف:) إذا قال لها ذلك القول في بعض شهر رمضان , لم يحكم بوقوع الطلاق حتى يمضي مثل ذلك الوقت من شهر رمضان , من السنة الجائية (، واستدل على ذلك) لأن ذلك إذا كان , فقد كمل حول , منذ قال ذلك القول وهي في كل حول فعلمنا بذلك وقوع الطلاق (

·  لو قال لامرأتيه:) أطولكما حياة طالق الساعة(، فقال أكثر الحنفية:لم يقع الطلاق حتى تموت إحداهما ; لأن المراد طول الحياة في المستقبل لا في الماضي حتى إذا كانت إحداهما بنت عشر سنين , والأخرى بنت ستين سنة لم تطلق العجوز فعرفنا أن طول الحياة في المستقبل مراد وذلك غير معلوم ; لجواز أن يموتا معا , فإن ماتت إحداهما طلقت الأخرى في الحال، وذهب زفر إلى أنها تطلق من حين تكلم الزوج ; لأنه تبين أنها كانت أطولهما حياة , وأن الزوج علق الطلاق بشرط موجود[81].

·  لو قال: أنت طالق في شهر عينه, كشهر رمضان مثلا, فقيل: يقع الطلاق في أول جزء من الليلة الأولى منه , وذلك حين تغرب الشمس من آخر يوم من الشهر الذي قبله , وهو شهر شعبان. وبهذا قال أبو حنيفة والحنابلة، واستدلوا على ذلك بأنه جعل الشهر ظرفا للطلاق , فإذا وجد ما يكون ظرفا له طلقت , كما لو قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق، وقيل يقع الطلاق في آخر رمضان ; لأن ذلك يحتمل وقوعه في أوله وآخره , فلا يقع إلا بعد زوال الاحتمال، وهو قول أبي ثور. 

·  لو قال: أنت طالق إذا رأيت هلال رمضان طلقت برؤية الناس له في أول الشهر، وهو قول الشافعي والحنابلة، , لأن الرؤية للهلال في عرف الشرع العلم به في أول الشهر، والمراد به رؤية البعض , وحصول العلم , فانصرف لفظ الحالف إلى عرف الشرع،وفي مقابل ذلك قال الحنفية: لا تطلق إلا أن يراه ; لأنه علق الطلاق برؤية نفسه , فأشبه ما لو علقه على رؤية زيد[82].

·      وقد استدلوا على وقوع هذا الطلاق بما يلي:

·      قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾(المائدة:1)

·      قوله - صلى الله عليه وسلم -:) المسلمون عند شروطهم([83]

·  أن ابن عباس كان يقول: من قال لامرأته: أنت طالق إلى رأس السنة -: أنه يطؤها ما بينه وبين رأس السنة، وعن عطاء من قال لامرأته: أنت طالق إذا ولدت ؟ فله أن يصيبها ما لم تلد، ولا يطلق حتى يأتي الأجل. وكذلك من قال: أنت طالق إلى سنة، وعن سفيان الثوري قال: من قال لامرأته: إذا حضت فأنت طالق ؟ فإنها إذا دخلت في الدم طلقت عليه.

·  أن الإضافة صحت إلى محلها , والطلاق بعد الوقوع لا يحتمل الرفع فلا ينعدم بذكر التوقيت فيما وراء المدة، بخلاف النكاح فإنه يحتمل الرفع فبالتوقيت ينعدم فيما وراء الوقت ولا يمكن تصحيحه موقتا[84].

القول الثاني: إذا أضيف إلى وقت محقق  الوقوع وقع في الحال , وهو قول المالكية، ففي المدونة:) قلت: أرأيت إن قال لها أنت طالق بعد قدوم فلان بشهر ؟ قال مالك: إذا قدم فلان وقع الطلاق عليها مكانه ولا ينتظر بها الأجل الذي قال ([85]، ومن الأدلة على ذلك:

·  أن إضافة الطلاق إلى الزمن المستقبل أو المحقق مجيئه تجعل النكاح مؤقتا , فحينئذ يشبه نكاح المتعة , وهو حرام , فينجز الطلاق.

·  عن سعيد بن المسيب فيمن طلق امرأته إلى أجل ؟ قال: يقع الطلاق ساعتئذ ولا يقربها، وعن الحسن: أنه كان لا يؤجل في الطلاق، وعن الزهري من طلق إلى سنة ؟ فهي طالق حينئذ، وعن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه كان لا يؤجل في الطلاق أجلا.

القول الثالث: عدم وقوع الطلاق مطلقا ،وهو مذهب الظاهرية، قال ابن حزم: (من قال: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق , أو ذكر وقتا ما ؟ فلا تكون طالقا بذلك , لا الآن , ولا إذا جاء رأس الشهر) [86]واستدل لذلك بما يلي:

·  أنه لم يأت قرآن ولا سنة بوقوع الطلاق بذلك , وقد علمنا الله الطلاق على المدخول بها , وفي غير المدخول بها , وليس هذا منها ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾(الطلاق:1)، قال ابن حزم :ولم نجد لمن فرق بين الأجل الآتي والآبد , وبين الأجل الذي لا يأتي حجة أصلا , غير دعواه ؟ لا سيما وهم يفسدون النكاح إذا أجل الصداق إلى أجل قد يكون وقد لا يكون , بعكس قولهم في الطلاق ؟ وكلا الأمرين أجل ولا فرق. وأيضا - فقد يأتي الأجل الذي قالوا فيه: إنه يجيء - وهو ميت أو وهي ميتة , أو كلاهما , أو قد طلقها ثلاثا فظهر فساد هذا القول جملة.

·      إن كان كل طلاق لا يقع حين إيقاعه فمن المحال أن يقع بعد ذلك في حين لم يوقعه فيه.

·      أن في القول بالطلاق تحريما للزوجة على زوجها بالظن على من أباحه الله تعالى له باليقين.

·  أن الاستدلال بأن هذا طلاق إلى أجل , باطل كالنكاح إلى أجل ـ كما استدل به المالكية ـ مردود بعدم قولهم باطراد هذا القياس، وقد رد ابن حزم على ذلك بقوله :(لم قلتم: إنه إن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق ؟ أنها لا تطلق إلا بدخول الدار , فإنه طلاق إلى أجل, فأوقعتموه حين لفظ به، وبهذا نعارضهم في قولهم: إن ظاهر أمره أنه ندم إذ قال: أنت طالق , فأتبع ذلك بالأجل ؟ فيلزمهم ذلك فيمن قال: أنت طالق إن دخلت الدار)

·  الاستدلال بأنه إذا قال: أنت طالق , فالطلاق مباح , فإن أتبعه أجلا فهو شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ـ كما استدل به أصحاب القول الثاني ـ مردود بأنه لا يجوز إلزامه بعض ما التزم دون سائره.

·  أن قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾(المائدة:1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:) المسلمون عند شروطهم (خاص بكل عقد أمر الله تعالى بالوفاء به , أو ندب إليه - لا في كل عقد جملة , ولا في معصية , ومن المعاصي أن يطلق بخلاف ما أمر الله تعالى به , فلا يحل الوفاء به.

·  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  قال: (كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل). والطلاق إلى أجل مشترط بشرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثالث، فهو أقوى الأقوال أدلة وأوفقها بالمقاصد الشرعية:

أما من حيث الأدلة، فإن الطلاق في الوضع الشرعي تعبير يراد منه التفريق في الحال بناء على مقصد تعلق به، أو لاستحالة الاستمرار في الحياة الزوجية، أما القول بالإضافة فيناقض ذلك، فهو على أحسن أحواله وعد بالطلاق، ولا يصح تسمية الوعد بغير مسماه، فالوعد قد يقع وقد لا يقع، بل إنه هنا أليق بالوعيد منه بالوعد، فلذلك لا نرى صحة ما استدلوا به من النصوص الموجبة للوفاء بالوعد، لأن الوعد لا يجب الوفاء به في كل حين، بل حكمه يتبع موضوعه وما يترتب عنه.

ونعجب من الفقهاء القائلين بهذا مع أنهم في الشروط المقيدة للعقد، والتي قد تتعلق بها مصالح الحياة الزوجية لا يستدلون بهذا ويعتبرون هذه الشروط مجرد وعود أخلاقية لا شروطا إلزامية.

أما من حيث المصلحة، فكيف تستقيم الحياة الزوجية، والزوجة تنتظر في كل حين مطلع الشمس أو مغربها، أو ترقب الهلال أو تعد الأشهر، أو تضع يديها على قلبها وهي تنتظر مجيء زيد أو سفر عمرو، بل تنتظر موت ضرتها لتطلق بموتها، وعندما يتطلع الناس لليلة القدر يلتمسون بركاتها تتطلع إليها تشاؤما ورهبة لأن مصير حياتها الزوجية معلق بليلة القدر.

أما الزوج، فقد لا يقل عن زوجه أسفا على ذلك التوقيت الذي حدد به حياته مع زوجته، فهو يعد الأيام والليالي والدقائق والثواني ويحتار أيأخذ بقول زفر أم أبي يوسف.

فلذلك كان قول مالك في هذا أقرب مقاصدية من القول الثاني، لأن انتظار المؤلم ألم، وهو كمن يذبح الشاة دون أن يحد الشفرة ليقتلها قتلا بطيئا.

انطلاقا من هذا نرى أن هذا اللفظ مجرد وعيد لا أثر له، وأنه نوع من الألفاظ المحرمة التي لا يجوز ذكرها والتلاعب بها، فللطلاق صيغته الشرعية المحدودة بشروطها، كشروط الصلاة وفرائضها سواء بسواء.

ونرى كذلك أن الورع في هذا الوعيد ليس تنفيذه كما ينص كثير من الفقهاء، بل الورع والسنة عدم الوفاء به كما قال - صلى الله عليه وسلم - :) من نذر أن   يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه([87]

وقد قال تعالى :﴿ وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة:224)، وقوله تعالى :﴿ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور:22)، وقد ورد في سبب نزولها أن أبا بكر - رضي الله عنه -  ـ وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره ـ قال بعد حديثه في الإفك :(واللّه لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة، فأنزل اللّه تعالى الآية السابقة، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -  :(بلى واللّه إني لأحب أن يغفر اللّه لي)، فرجَّع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال :(واللّه لا أنزعها منه أبداً) 

ثانيا ـ الإضافة إلى الشخص:

وقد تحدثنا عن أحكامها الخاصة بها في الفصل الثاني عند الحديث عن التوكيل في الطلاق، ويتعلق بها أيضا التعليق بالمشيئة، وسنتحدث عنه في هذا الفصل عند الحديث عن تقييد الطلاق بالاستثناء.

النوع الثاني ـ الطلاق المعلق على شرط

تعريف التعليق:

لغة: مصدر علق , يقال: علق الشيء بالشيء , ومنه , وعليه تعليقا: ناطه به.

اصطلاحا: هو ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى سواء أكان ذلك المضمون من قبل المطلق أو المطلقة أو غيرها , أو لم يكن من فعل أحد.

فإن كان من فعل المطلق أو المطلقة أو غيرهما سمي يمينا لدى الجمهور مجازا , وذلك لما فيه من معنى القسم , وهو: تقوية عزم الحالف أو عزم غيره على فعل شيء أو تركه , كما إذا قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت دار فلان , أو: أنت طالق إن ذهبت أنا إلى فلان , أو: أنت طالق إن زارك فلان.

والفرق بين الإضافة والتعليق من وجهين: أحدهما: أن التعليق يمين , وهي للبر إعدام موجب المعلق , ولا يفضي إلى الحكم. أما الإضافة فلثبوت حكم السبب في وقته , لا لمنعه , فيتحقق السبب بلا مانع , إذ الزمان من لوازم الوجود وثانيهما: أن الشرط على خطر , ولا خطر في الإضافة[88].

حكم الطلاق المعلق:

اختلف الفقهاء في أثر الطلاق المعلق، هل يقع أم لا على ثلاثة أقوال:

القول الأول: يقع الطلاق إذا حصل ما علق عليه الطلاق، وهو قول جمهور الفقهاء، قال ابن تيمية:) وهذا هو المشهور عند أكثر الفقهاء المتأخرين , حتى اعتقد طائفة منهم أن ذلك إجماع ; ولهذا لم يذكر عامتهم عليه حجة ([89]، وقد ذكر ابن تيمية أن دليلهم على هذا هو أنه التزم أمرا عند وجود شرط فلزمه ما التزمه.

القول الثاني: إن الطلاق المعلق يمين يجري فيها ما يجري في أيمان المسلمين من الكفارة عند الحنث ; إلا أن يختار الحالف إيقاع الطلاق فله أن يوقعه ولا كفارة، وقد نسبه ابن تيمية لطائفة من السلف والخلف، كطاوس , وغيره، قال:) وهو مقتضى المنقول عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، وبه يفتي كثير من المالكية وغيرهم , حتى يقال: إن في كثير من بلاد المغرب من يفتي بذلك من أئمة المالكية , وهو مقتضى نصوص أحمد بن حنبل , وأصوله في غير موضع([90]

ولصعوبة معرفة اختيار الحالف الطلاق وعدمه، فقد وضعوا لكلا الخيارين ما يدل عليه من العلامات، وهي من المسائل المهمة التي يحتاج المفتي لمعرفتها، لأن قوله للمستفتي: ماذا تقصد من هذا؟ قد يشوش عليه أمره، وأكثرهم لا يدري ما كان مقصده حين نطق ما نطق به، وهذه الضوابط هي:

قصد الطلاق دون اليمين: كأن يختار طلاقها إذا أعطته العوض , فيقول: إن أعطيتني كذا فأنت طالق، ويختار طلاقها إذا أتت كبيرة , فيقول: أنت طالق إن زنيت , أو سرقت، وقصده الإيقاع عند الصفة ; لا الحلف، قال ابن تيمية:) فهذا يقع فيه الطلاق باتفاق السلف ; فإن الطلاق المعلق بالصفة روي وقوع الطلاق فيه عن غير واحد من الصحابة: كعلي , وابن مسعود , وأبي ذر , وابن عمر , ومعاوية , وكثير من التابعين , ومن بعدهم، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد وما علمت أحدا نقل عن أحد من السلف أن الطلاق بالصفة لا يقع , وإنما علم النزاع فيه عن بعض الشيعة[91] , وعن ابن حزم من الظاهرية([92].

قصد اليمين دون الطلاق: وقد جعل أصحاب هذا القول علامة ذلك أن يكره  الحالف وقوع الجزاء وإن وجدت الصفة , كقول المسلم: إن فعلت كذا فأنا يهودي , أو نصراني، فهو يكره الكفر وإن وجدت الصفة ; إنما التزامه لئلا يلزم , وليمتنع به من الشرط ; لا لقصد وجوده عند الصفة.

وهكذا الحلف بالنذر والحرام والظهار والطلاق والعتاق إذا قال: إن فعلت كذا فعلي الحج, وعبيدي أحرار , ونسائي طوالق , ومالي صدقة فهو يكره هذا اللوازم وإن وجد الشرط, وإنما علقها ليمنع نفسه من الشرط ; لا لقصد وقوعها، وإذا وجد الشرط فالتعليق الذي يقصد به الإيقاع من باب الإيقاع , والذي يقصد به اليمين من باب  اليمين.

بناء على هذين القصدين فإنه  لو قال لها: إن سرقت، أو زنيت فأنت طالق، فهذا قد يقصد به اليمين , وهو أن يكون مقامها مع هذا الفعل أحب إليه من طلاقها ; وإنما قصده زجرها وتخويفها لئلا تفعل: فهذا حالف لا يقع به الطلاق , وقد يكون قصده إيقاع الطلاق وهو أن يكون فراقها أحب إليه من المقام معها مع ذلك , فيختار إذا فعلته أن تطلق منه: فهذا يقع به الطلاق.

ومن أدلة هذا القول:

·  قوله تعالى: ﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم﴾(التحريم:2)، وقوله تعالى:﴿ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾(المائدة:89)، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:) من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها , فليأت الذي هو خير , وليكفر عن يمينه (، وهو يتناول أيمان جميع المسلمين لفظا ومعنى ; ولم يخصه نص ولا إجماع ولا قياس ; بل الأدلة الشرعية تحقق عمومه.

·  أن المعروف عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم  أنه لا فرق بين أن يحلف بالطلاق , أو العتاق , أو النذر،  إما أن تجزئه الكفارة في كل يمين، وإما أن لا شيء عليه، وإما أن يلزمه كما حلف به ; بل إذا كان قوله: إن فعلت كذا فعلي أن أعتق رقبة  وقصد به اليمين لا يلزمه العتق ; بل يجزئه كفارة يمين , ولو قاله على وجه النذر لزمه بالاتفاق.

·  أن ثبوت الحقوق في الذمم أوسع نفوذا ; فإن الصبي والمجنون والعبد قد تثبت الحقوق في ذممهم مع أنه لا يصح تصرفهم , فإذا كان قصد اليمين مع ثبوت العتق المعلق في الذمة  ممنوع, فلأن يمنع وقوعه أولى وأحرى، وإذا كان العتق الذي يلزمه بالنذر لا يلزمه إذا قصد به اليمين فالطلاق الذي لا يلزم بالنذر أولى أن لا يلزم إذا قصد به اليمين.

·  أن التعليق إنما يلزم فيه الجزاء إذا قصد وجوب الجزاء عند وجوب الشرط , كقوله: إن أبرأتني من صداقك فأنت طالق , وإن شفا الله مريضي فثلث مالي صدقة، أما إذا كان يكره وقوع الجزاء وإن وجد الشرط، وإنما التزمه ليحض نفسه أو يمنعها , أو يحض غيره أو يمنعه، فهذا مخالف لقوله: إن فعلت كذا فمالي صدقة وعبيدي أحرار , ونسائي طوالق , وعلي عشر حجج.

القول الثالث: لا يقع به طلاق , ولا يلزمه كفارة، وهو مذهب الإمامية، قال ابن تيمية:) ويذكر ما يدل عليه عن طائفة من السلف ; بل هو مأثور عن طائفة صريحا كأبي جعفر الباقر رواية جعفر بن محمد([93]، وذكر أنه يفتي به في اليمين التي يحلف بها بالتزام الطلاق بعض الحنفية والشافعية، وهو مذهب الظاهرية،  قال ابن حزم:(واليمين بالطلاق لا يلزم - سواء بر أو حنث - لا يقع به طلاق , ولا طلاق إلا كما أمر الله تعالى , ولا يمين إلا كما أمر الله تعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -)[94]، وقال: (والطلاق بالصفة عندنا كما هو الطلاق باليمين , كل ذلك لا يلزم، وبالله تعالى التوفيق، ولا يكون طلاقا إلا كما أمر الله تعالى به وعلمه , وهو القصد إلى الطلاق وأما ما عدا ذلك فباطل, وتعد لحدود الله تعالى)، ومن الأدلة على ذلك:

·  قول الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾ (المائدة:89)، وجميع المخالفين هاهنا لا يختلفون في أن اليمين بالطلاق والعتاق والمشي إلى مكة  وصدقة المال بأنه لا كفارة عندهم في حنثه في شيء منه إلا بالوفاء بالفعل , أو الوفاء باليمين، فصح بذلك أنه ليس شيء من ذلك يمينا , إذ لا يمين إلا ما سماه الله تعالى يمينا.

·  قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله)، وذلك يدل على أن كل حلف بغير الله عز وجل معصية وليس يمينا.

·  ما روي عن الحسن البصري - رضي الله عنه -  أن رجلا تزوج امرأة وأراد سفرا فأخذه أهل امرأته , فجعلها طالقا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر , فجاء الأجل ولم يبعث إليها بشيء فلما قدم خاصموه إلى علي - رضي الله عنه -  فقال علي: اضطهدتموه حتى جعلها طالقا , فردها عليه، قال ابن حزم: (لا متعلق لهم بما روي من قول علي - رضي الله عنه -  اضطهدتموه , لأنه لم يكن هنالك إكراه , إنما طالبوه بحق نفقتها فقط، فإنما أنكر على اليمين بالطلاق فقط ولم يرد الطلاق يقع بذلك).

·  ما روي عن شريح أنه خوصم إليه في رجل طلق امرأته إن أحدث في الإسلام حدثا فاكترى بغلا إلى حمام أعين فتعدى به إلى أصبهان فباعه واشترى به خمرا ؟ فقال شريح: إن شئتم شهدتم عليه أنه طلقها ؟ فجعلوا يرددون عليه القصة ويردد عليهم، فلم يطلقها مع هذا الحدث العظيم. 

·  القياس على عدم إجازة الجمهور لنكاح التعليق أو الرجعة على التعليق، قال ابن حزم:) ثم نقول لهم: من أين أجزتم الطلاق بصفة ولم تجيزوا النكاح بصفة ؟ والرجعة بصفة ؟ كمن قال: إذا دخلت الدار فقد راجعت زوجتي المطلقة - أو قال: فقد تزوجتك ؟ وقالت هي مثل ذلك , وقال الولي مثل ذلك - ولا سبيل إلى فرق)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الطلاق يتوقف على قصد المطلق حين إيقاعه الطلاق، لا على ما ارتبط به من قيود قد لا تكون مقصودة للمطلق، وهذا القول يتوافق مع كلا القولين الثاني والثالث، فالفرق بينهما ليس بعيدا.

أما لزوم التكفير في حال النطق بمثل هذه التعليقات، فقد يقال به من باب التورع والاحتياط، ولكن الألزم من التكفير هو الاستغفار والتوبة، لأن مثل هذه الألفاظ إذا استعملت في غير مقصودها الشرعي كانت نوعا من الاستهزاء بآيات الله، وهي لا تقل عن الاستهزاء بالألفاظ الشرعية المحترمة كالصلاة والذكر وغيرها.

وحسبنا في ترجيح هذا القول أن نلزم المخالفين بأقوالهم في المسائل الأخرى والمشابهة لهذه المسألة، وقد كان هذا أكثر سلوك ابن تيمية وابن القيم في الرد على المخالفين فيها، قال ابن تيمية:) وهذا منقوض بصور كثيرة , وبعضها مجمع عليه: كنذر الطلاق والمعصية , والمباح , وكالتزام الكفر على وجه اليمين ; مع أنه ليس له أصل يقال به إلا وبينهما فرق مؤثر في الشرع ولا دل عليه عموم نص ولا إجماع , لكن لما كان موجب العقد لزوم ما التزمه صار يظن في بادئ الرأي أن هذا عقد لازم وهذا يوافق ما كانوا عليه في أول الإسلام قبل أن ينزل الله كفارة اليمين موجبة ومحرمة ([95]

ولهذا الترجيح زيادة على ما سبق ذكره من أدلة القولين الثاني والثالث دليل نعتبره من أهم الأدلة، وهو ما ينجر عن القول الأول من المفاسد، ولا نقصد بذلك ما ذكرنا سابقا من تضييق باب الطلاق، وإنما نقصد مفاسد هي أهم وأخطر امتلأت بها كتب الفقهاء، وتشوشت بها أذهان طلبة العلم وهم يحفظونها ويتبارون في الإلغاز بها كما يتبارى اللاعبون في سائر أنواع اللهو.

وهذه المفسدة هي تلك الفتاوى الكثيرة المتعلقة بالصيغ المختلفة لأنواع التعليق، والكثير منها يحمل أنواعا من التشويش الذهني والتسلط الزوجي الذي يحمل الزوج على أن يقول لزوجته، وهي واقفة على سلم: إن صعدت فيه أو نزلت منه أو قمت عليه أو رميت نفسك , أو حطك إنسان فأنت طالق، فتبقى الزوجة محتارة ما تصنع، ويسرع زوجها لرجال الفتوى الذي يعملون عقولهم لا ليئنبوه على هذا الظلم المجحف، وإنما ليطلبوا منه شراء سلم أو كراءه، لتنتقل إليه زوجته، فتسلم من الطلاق.

وقد فتح بهذا القول باب من التلاعب على الأحكام الشرعية، فأصبح العقل المسلم الذي هذبه القرآن وترفعت به السنة وسمت به سير السلف الصالح منغمسا في البحث عن حيل لأنواع غريبة من الصيغ  يحتال بها على ربه، فأفتوا فيمن قال لزوجته: لا وطئتك إلا وأنت لابسة عارية راجلة راكبة , وطئها بليل عريانة في سفينة، ولسنا ندري سبب عدم اعتبار العاري في الليل عاريا، إن كان قوله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾(النبأ:10) فإنه ليس في الآية دلالة على عدم اعتبار العري في الليل، وإلا لجوز عدم ستر العورة في الليل، ولسنا ندري كذلك عدم اعتبار راكب السفينة راكبا.

وأفتوا فيمن حلف لا يأكل بيضا، وليأكلن مما في كمه فإذا هو بيض , عمل منه ناطف يستهلك، ومثله أفتوا فيمن حلف ليطبخن قدرا برطل ملح، ويأكل منه لا يجد طعم الملح , سلقت بيضا، بل وصلت الجرأة إلى المسائل العقدية نفسها، فأفتوا فيمن قال: إن لم تخرج الفساق من النار فأنت طالق ثلاثا، لا تطلق لتعارض الأدلة[96].

بل وصل الإغراب إلى القول بأنه إذا قال:) إن كنت تحبين أن يعذبك الله في نار جهنم فأنت طالق(فقالت: أحب، تطلق إن كانت صادقة لشدة بغضها إياه، فقد تحب التخلص منه بالعذاب، أما إن تيقن كذبها، بأن كانت تحبه وتحب المقام معه فإنه لا يقع الطلاق عليها[97].

بل أفتوا بفعل المحرم لأجل تفادي الطلاق في بعض الأحوال، فقالوا فيمن حلف في شعبان بثلاث ليطأنها في نهار شهرين متتابعين , سافر في رمضان , فإن حاضت وطئ وكفر لحيض[98].

بل كانت هذه الفتاوى شعرت أو لم تشعر، تشرع لطرق ظلم الزوجة، وتعلم طلبة العلم ماذا يقال للزوجات، قال في الفتاوى الهندية:) سئل والدي عمن قال لامرأته في حالة الغضب: إن لم أكسر عظامك وأشج لحومك فأنت طالق ثلاثا فقال: لو ضربها حتى لا تكاد تبرح عن مكانها لا يحنث ويكون هذا مجازا عن الضرب الشديد([99].

وفيها: ولو قال لامرأته: إن لم أضربك حتى أتركك لا حية ولا ميتة، قال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - هذا على أن يضربها ضربا موجعا شديدا، فإذا فعل ذلك بر في يمينه، وقوله حتى تبولي أو تشتكي أو حتى تستغيثي ما لم يوجد حقيقة هذه الأشياء لم يبر.

وفيها لو قال رجل لامرأته: إن لم أضرب اليوم ولدك حتى ينشق نصفين طلقت ثلاثا، ثم ضربه على الأرض، فلم ينشق طلقت ثلاثا.

إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي لا نكاد نفقدها في أي باب من أبواب الفقه، بل انتقلت للتفسير والحديث وكل العلوم الشرعية، وأصبحت ميدانا للتعرف على أعلم العلماء وحيد دهره وعلامة زمانه، فإذا ما جلس مصلح أو داعية ليرشد الناس ويعلمهم نهض إليه متفيهق ليسأله عن مثل هذه المسألة، والويل له منهم إن لم يجب، والويل للشريعة إن أجاب.

وقد يقال بعد هذا: ولكنه قول جمهور العلماء، وبعض الناس في الترجيح يستعمل هذا الأسلوب، فيعد القائلين بأي قول من الأقوال، كما تعد الآن الأصوات في الانتخابات، ولهؤلاء نقدم بعض وجوه التناقض التي وقع فيها أصحاب القول الأول، وقد ذكر ابن القيم وابن تيمية وابن حزم كثيرا من تلك الوجوه، سنقتصر على ذكر بعضها هنا:

·  أنهم لم يقيسوا التعليق في الطلاق في قوله مثلا) الطلاق يلزمني لا أكلم فلانا (ثم كلمه , على قوله) إن كلمت فلانا فعلي صوم سنة , أو حج إلى بيت الله , أو فمالي صدقة (حيث يقولون: أن هذا يمين لا تعليق مقصود.

·  أنهم قالوا: إذا قال الرجل:) إن شفى الله مريضي فعلي صوم شهر , أو صدقة , أو حجة (لزمه ; لأنه قاصد للنذر , فإذا قال:) إن كلمت فلانا فعلي صوم , أو صدقة (لم يلزمه ; لأنه لجاج وغضب , فهو يمين فيه كفارة اليمين , فجعلوا قصده لعدم الوقوع مانعا من ثلاثة أشياء: إيجاب ما التزم , ووجوبه عليه , ووقوعه. وفي نفس الوقت قالوا: لو قال: " إن فعلت كذا فعلي الطلاق (وفعله لزمه , ولم يمنع قصد الحلف من وقوعه , وهو أبغض الحلال إلى الله , ومنع من وجوب القربات التي هي أحب شيء إلى الله.

·  أنهم ناقضوا القياس فنصوا على أنه إذا قال) الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله (ثم لم يفعله لم يحنث ; لأنه أخرجه مخرج اليمين , وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك)فجعلوه يمينا , ثم قالوا: يلزمه وقوع الطلاق ; لأنه تعليق فليس بيمين.

·  أنهم تناقضوا في الحكم على ما لو قال:) الطلاق يلزمني لا أجامعها سنة(فهو مول فيدخل في قوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(البقرة:226) والألية والإيلاء والائتلاء هو الحلف بعينه كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى ﴾(النور:2)، ثم قالوا: وليس بيمين فيدخل في قوله: ﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم﴾(التحريم:2)، قال ابن القيم:(فيالله العجب, ما الذي أحله عاما وحرمه عاما , وجعله يمينا وليس بيمين؟)

·  أنهم ناقضوا قولهم فقالوا: إن قال:) إن فعلت كذا فأنا كافر (وفعله لم يكفر ; لأنه لم يقصد الكفر , وإنما قصد منع نفسه من الفعل بمنعها من الكفر , وهذا حق , لكن نقضوه  في الطلاق والعتاق مع أنه لا فرق بينهما في هذا المعنى الذي منع من وقوع الكفر.

·  أنهم ناقضوا قولهم فنصوا على أنه إن قال:) إن فعلت كذا فعلي أن أطلق امرأتي (فحنث لم يلزمه أن يطلقها , ولو قال:) إن فعلته فالطلاق يلزمني (، فحنث لم يلزمه أن يطلقها  ولو قال:) إن فعلته فالطلاق يلزمني (فحنث وقع عليه الطلاق ,مع أنه لا تفرق اللغة ولا الشريعة بين المصدر وأن والفعل[100].

·  أنهم ناقضوا قولهم، فنصوا على أنه إن قال:) إن حلفت بطلاقك أو وقع مني يمين بطلاقك (أو لم يقل بطلاقك بل قال:) متى حلفت أو أوقعت يمينا فأنت طالق (ثم قال:) إن كلمت فلانا فأنت طالق (حنث وقد وقع عليه الطلاق ; لأنه قد حلف وأوقع اليمين , فأدخلوا الحلف بالطلاق في اسم اليمين والحلف في كلام المكلف , ولم يدخلوه في اسم اليمين والحلف في كلام الله ورسوله.

شروط صحة التعليق

اشترط الفقهاء القائلون بوقوع الطلاق المعلق على شرط الشروط التالية مع اختلاف بينهم في بعضها، وفي بعض تفاصيلها:

كون الزوج أهلا لإيقاع الطلاق عند التعليق:

بأن يكون بالغا عاقلا عند الجمهور , خلافا للحنابلة، ولا يشترط كونه كذلك عند حصول الشرط المعلق عليه , فلو قال لها الزوج عاقلا: إن دخلت دار فلان فأنت طالق , ثم جن , ثم دخلت الدار المحلوف عليها , فإنها تطلق , وكذلك إذا دخلتها قبل جنونه , فإنها تطلق أيضا , بخلاف ما لو علق طلاقها وهو مجنون , فإنه لغو.

قيام الزوجية بين الحالف والمحلوف عليها عند التعليق:

بأن تكون زوجته أو معتدته من رجعي أو بائن , فإذا لم تكن زوجته عند التعليق , ولا معتدته , لغا التعليق ولم يقع عليها به شيء , كما إذا قال لأجنبية عنه: أنت طالق إن دخلت دار فلان , فإنه لغو , إلا أن تكون زوجة لغيره , فإنه يتوقف التعليق عندها على إجازة زوجها ; لأنه فضولي , فإن أجازه الزوج صح التعليق , ثم إن دخلت بعد الإجازة وقع الطلاق عليها , وإلا فلا.

عدم استحالة المعلق عليه:

وذلك بان يكون المعلق عليه مستحيلا عقلا كما إذا قال لها: إن عاد أبوك حيا وهو ميت في الحياة الدنيا فأنت طالق، أو أن يقول لها: أنت طالق إن قتلت الميت، أو شربت الماء الذي في الكوز ولا ماء فيه، أو جمعت بين الضدين، أو كان الواحد أكثر من اثنين.

ومثله ما لو كان مما يستحيل عادة , كقوله: إن طرت، أو صعدت إلى السماء، أو  قلبت الحجر ذهبا، أو شربت هذا النهر كله، أو حملت الجبل، أو شاء الميت.

وقد اختلف الفقهاء في هذا على قولين[101]:

القول الأول: يشترط لصحة التعليق أن يكون المعلق عليه ممكن الحصول في المستقبل , فإذا كان مستحيل الحصول لغا التعليق , ولم يقع به شيء , لا في الحال ولا في المستقبل، وهو مذهب الحنفية، ومن الأدلة على ذلك:

·      أنه علق الطلاق بصفة لم توجد.

·      أن ما يقصد تبعيده يعلق على المحال , كقوله :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي      وصار القار كاللبن الحليب

أي لا آتيهم أبدا.

القول الثاني: وقوعه منجزا , وهو مذهب المالكية، ووجه للحنابلة، ومن الأدلة على ذلك أنه أردف الطلاق بما يرفع جملته , ويمنع وقوعه في الحال وفي الثاني , فلم يصح , كاستثناء الكل, كما لو قال: أنت طالق طلقة لا تقع عليك، أو لا تنقص عدد طلاقك.

القول الثالث:  إن علقه على ما يستحيل عقلا , وقع في الحال ; لأنه لا وجود له , فلم تعلق به الصفة, وبقي مجرد الطلاق فوقع، وإن علقه على مستحيل عادة لم يقع ; لأن له وجودا، وقد وجد جنس ذلك في معجزات الأنبياء عليهم السلام , وكرامات الأولياء , فجاز تعليق الطلاق به , ولم يقع قبل وجوده.

اتصال التعليق بالكلام:

فإذا فصل عنه بسكوت , أو بكلام أجنبي , أو كلام غير مفيد , لغا التعليق ووقع الطلاق منجزا , كما لو قال لها: أنت طالق , وسكت برهة , ثم قال: إن دخلت دار فلان , أو قال لها: أنت طالق , ثم قال لها: أعطني ماء , ثم قال: إن لم تدخلي دار فلان.

إلا أنه يغتفر الفاصل الضروري , كما إذا قال لها: أنت طالق , ثم تنفس لضرورة , ثم قال: إن دخلت دار فلان , فإنه معلق , ولا يقع إلا بدخولها الدار المحلوف عليها , وكذلك إساغة اللقمة , أو كلمة مفيدة , كأن يقول لها: أنت طالق بائنا إن دخلت دار فلان , فإنه معلق ويقع به بائنا عند الدخول.

عدم قصد المجازاة:

ويضرب الفقهاء لذلك مثالا بما لو قالت له: يا خسيس , فقال لها: إن كنت كذلك فأنت طالق , يريد معاقبتها, لا تعليق الطلاق على تحقق الخساسة فيه، فإذا قصد به المجازاة  وقع منجزا ولم يتعلق بالشرط , فلهذا يقع الطلاق منجزا , سواء أكان خسيسا أم لا , فإن أراد التعليق لا المجازاة تعلق الطلاق.

ذكر المشروط في التعليق:

وهو المعلق عليه , فلو لم يذكر شيئا , كما إذا قال لها: أنت طالق إن , فإنه لغو في الراجح لدى الحنفية , وهو قول أبي يوسف , وقال محمد بن الحسن: تطلق للحال. 

 

وجود رابط:

وهو أداة من أدوات الشرط , إلا أن يفهم الشرط من المعنى , فإنه يتعلق بدون رابط , كما إذا قال لها: علي الطلاق سأذهب إلى فلان , فإنه تعليق صحيح مع عدم الرابط.

وقد ذكر الفقهاء الكثير من حروف التعليق، واختلفوا في بعضها، وأكثرها قد يستعمل الآن عرفا في غير ما ذكروا، وسنذكر هنا بعض الأمثلة لطول كلامهم في المسألة، وهي تفترض في المطلق أن يكون نحويا حتى يعلم مقصده من ذلك[102]:

كلما: ومثالها قول المطلق كلما لم أطلقك فأنت طالق: ويقع بها الثلاث في الحال , إذا كان مدخولا بها, لأن كلما تقتضي التكرار , كما قال الله تعالى:﴿ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ ﴾(المؤمنون:44)، فيقتضي تكرار الطلاق بتكرر الصفة.

إذا، ومتى، وأي وقت: كقوله لها: إذا لم أطلقك فأنت طالق، أو متى لم أطلقك فأنت طالق، أو أي وقت لم أطلقك فأنت طالق، فإنها تطلق واحدة , ولا يتكرر إلا على قول أبي بكر في) متى (, فإنه يراها للتكرار , فيتكرر الطلاق بها مثل) كلما (إلا أن)متى (و) أي وقت (يقتضيان الطلاق على الفور، فمتى مضى زمن يمكن أن يطلقها فيه , ولم يطلقها في الحال، أما إذا ففيها وجهان ; أحدهما , هي على الفور ; لأنها اسم وقت فهي كمتى. والثاني , أنها على التراخي ; لأنها كثر استعمالها في الشرط.

وهذه الحروف إذا تقدم جزاؤها عليها , لم تحتج إلى حرف في الجزاء , كقوله: أنت طالق إن دخلت الدار، وإن تأخر جزاؤها , احتاجت في الجزاء إلى حرف الفاء إذا كان جملة من مبتدإ وخبر , كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق. وإنما اختصت بالفاء لأنها للتعقيب , فتربط بين الجزاء وشرطه , وتدل على تعقيبه به.

النوع الثالث: الطلاق المقيد بالعدد

والمراد منه ذكر المطلق عددا لطلقاته، كطلقة أو طلقتين أو أكثر، والعلماء تكلموا في هذا النوع عن مسألة تشعبت فيها الأقوال وتنازعت فيها الأدلة، وكان أثرها الاجتماعي على الأسرة المسلمة خطيرا جدا، بحيث ألغي الطلاق الشرعي العادي ليحل هذا النوع من التقييد بدله، وهي الطلاق الثلاث في مجلس واحد، فأصبح الرجل لا يرضيه ولا يشفي غليله إلا أن يعدد الطلقات، فيرمي بها بالمئات بل بالآلاف، فإذا ما عاد إليه عقله التمس الحيل ليعود لزوجته، ولم تدخل الحيل التي يطلق عليها شرعية في باب كما دخلت هذا الباب، وهذا ما يستدعي ذكر المسألة بما يجلي صورتها، ويبين منازع الأقوال فيها دون غلو في التفصيل.

صورته:

وهو أن يطلقها ثلاثا في طهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات ; مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا. أو أنت طالق وطالق وطالق، أو أنت طالق , ثم طالق , ثم طالق. أو أنت طالق , ثم يقول: أنت طالق , ثم يقول: أنت طالق , أو يقول: أنت طالق ثلاثا , أو عشر طلقات , أو مائة طلقة، أو ألف طلقة ونحو ذلك من العبارات.

حكمه:

اختلف الفقهاء في حكم هذه الصيغة من الطلاق على الأقوال التالية:

القول الأول :أنه طلاق مباح لازم , وهو مذهب الشافعي وأبي ثور , والظاهرية, ورواية عن أحمد، وروي عن الحسن بن علي , وعبد الرحمن بن عوف , والشعبي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أن الآيات التي استدل بها المخالفون نزلت فيمن طلق واحدة أو اثنتين فقط.

·  أن معنى قوله تعالى:﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ ﴾(البقرة: 229) كقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا﴾ (الأحزاب:31) أي مضاعفا معا، قال ابن حزم:) وهذه الآية أيضا تعليم لما دون الثلاث من الطلاق، وهو حجة لنا عليهم , لأنهم لا يختلفون في أن طلاق السنة هو أن يطلقها واحدة , ثم يتركها حتى تنقضي عدتها في قول طائفة منهم، وفي قول آخرين منهم  أن يطلقها في كل طهر طلقة، وليس شيء من هذا في هذه الآية , وهم لا يرون من طلق طلقتين متتابعتين في كلام متصل: طلاق سنة , فبطل تعلقهم بقوله تعالى: ﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ ﴾(البقرة: 229)( [103]

·  أن عويمر العجلاني لما لاعن امرأته , قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - [104].

·  ما روي عن عائشة، رضي الله عنها، قالت جاءت امرأة رفاعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -  فقالت: كنت عند رفاعة، فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن ابن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثوب[105]، فتبسم رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - فقال:)أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك([106]

·      في حديث فاطمة بنت قيس , أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات[107].

·      أنه طلاق جاز تفريقه , فجاز جمعه , كطلاق النساء.

القول الثاني: أنه طلاق بدعي محرم، وهو قول جماهير العلماء عدا من ذكروا في القول الأول، ومن الأدلة على ذلك:

·  قوله تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾(الطلاق:1) إلى قوله ﴿ لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ﴾ ثم قال بعد ذلك: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾(الطلاق:2)، وقال تعالى:﴿ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ﴾، ومن جمع الثلاث لم يبق له أمر يحدث , ولا يجعل الله له مخرجا ولا من أمره يسرا.

·  قوله تعالى: ﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ (البقرة: 229) ولا يخلو هذا أن يكون أمرا بصفة الطلاق , والأمر يقتضي الوجوب، أو يكون إخبارا عن صفة الطلاق الشرعي، ثم إن الألف , واللام تكون للحصر , وهذا يقتضي أن لا يكون الطلاق الشرعي على غير هذا الوجه, ويدل على ذلك أنه قال بعد ذلك ﴿ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾(البقرة:229)، ثم أفرد الطلقة الثالثة لما لم تكن رجعية وفارق حكمها حكم الطلقتين فقال تعالى:﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾(البقرة:230)

·  أن الزعم بأن لفظ التكرار إذا علق باسم أريد به العدد دون تكرار الفعل كما يدل على ذلك قوله تعالى: نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾(الأحزاب:31)لا يصح لأن المعنى: مرة بعد مرة في الجنة وعلى هذا لم يخرج اللفظ عن بابه الأعدل به عن حقيقته.

·  عن محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فغضب , ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله , ألا أقتله[108].

·  عن ابن عمر - رضي الله عنه -  قال: قلت: يا رسول الله , أرأيت لو طلقتها ثلاثا ؟ قال: إذا عصيت ربك , وبانت منك امرأتك.

·  عن علي - رضي الله عنه -  قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا طلق امرأته ألبتة , فغضب , وقال: تتخذون آيات الله هزوا , أو لعبا ؟ من طلق ألبتة ألزمناه ثلاثا, لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.

·  أنه قول كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - ، بل لم يصح في عصرهم خلاف قولهم , فيكون ذلك إجماعا، ومن الآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم -: قال علي - رضي الله عنه -: لا يطلق أحد للسنة فيندم، وفي رواية قال: يطلقها واحدة , ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاث حيض , فمتى شاء راجعها,  وعن عمر - رضي الله عنه -  أنه كان إذا أتي برجل طلق ثلاثا أوجعه ضربا، وعن مالك بن الحارث قال: جاء رجل إلى ابن عباس - رضي الله عنه -  فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا، فقال: إن عمك عصى الله  وأطاع الشيطان , فلم يجعل الله له مخرجا.

·      أن حديث المتلاعنين غير لازم ; للوجوه التالية:

الوجه الأول: أن الفرقة لم تقع بالطلاق , بل وقعت بمجرد لعانهما، بل يرى الشافعي أنها تقع بمجرد لعان الزوج , فلذلك لا يصح الاحتجاج به.

الوجه الثاني: أن اللعان يوجب تحريما مؤبدا , فالطلاق بعده كالطلاق بعد انفساخ النكاح بالرضاع أو غيره.

الوجه الثالث: أن جمع الثلاث إنما حرم لما يعقبه من الندم , ويحصل به من الضرر , ويفوت عليه من حل نكاحها , ولا يحصل ذلك بالطلاق بعد اللعان, لحصوله باللعان  وسائر الأحاديث لم يقع فيها جمع الثلاث بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون مقرا عليه , ولا حضر المطلق عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أخبر بذلك لينكر عليه.

     الوجه الرابع: أن حديث  فاطمة , قد جاء فيه أنه أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها , وحديث امرأة رفاعة جاء فيه أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات , فلم يكن في شيء من ذلك جمع الثلاث.

·  أنه لا خلاف بين الجميع في أن الاختيار والأولى أن يطلق واحدة , ثم يدعها حتى تنقضي عدتها , إلا ما على قول من قال: إنه يطلقها في كل قرء طلقة، لأن في ذلك امتثالا لأمر الله سبحانه وموافقة لقول السلف، وأمنا من الندم, فإنه متى ندم راجعها , فإن فاته ذلك بانقضاء عدتها , فله نكاحها، كما روى محمد بن سيرين عن علي - رضي الله عنه -  قال: لو أن الناس أخذوا بما أمر الله من الطلاق , ما يتبع رجل نفسه امرأة أبدا , يطلقها تطليقة ثم يدعها , ما بينها وبين أن تحيض ثلاثا , فمتى شاء راجعها، وعن عبد الله قال: من أراد أن يطلق الطلاق الذي هو الطلاق , فليمهل , حتى إذا حاضت ثم طهرت , طلقها تطليقة في غير جماع , ثم يدعها حتى تنقضي عدتها , ولا يطلقها ثلاثا وهي حامل , فيجمع الله عليه نفقتها وأجر رضاعها , ويندمه الله , فلا يستطيع إليها سبيلا.

·  أنه تحريم للزوجة بقول الزوج من غير حاجة , فحرم كالظهار , بل هذا أولى ; لأن الظهار يرتفع تحريمه بالتكفير , وهذا لا سبيل للزوج إلى رفعه بحال.

·  أنه ضرر وإضرار بنفسه وبامرأته من غير حاجة , فيدخل في عموم النهي , وربما كان وسيلة إلى عوده إليها حراما , أو بحيلة لا تزيل التحريم , ووقوع الندم , وخسارة الدنيا والآخرة , فكان أولى بالتحريم من الطلاق في الحيض الذي يقتصر ضرره بقاؤها في العدة أياما يسيرة , أو الطلاق في طهر مسها فيه والذي يقتصر ضرره على احتمال الندم بظهور الحمل ; فإن ضرر جمع الثلاث يتضاعف على ذلك أضعافا كثيرة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة بناء على ما سبق من أدلة، وبناء على ما تقتضيه المقاصد الشرعية اعتبار الطلاق الثلاث بدعيا من الجهات التالية:

·  أنه استهزاء بآيات الله تعالى، لأن الله جعل الطلاق ثلاثا من باب الفسحة والتيسير، فجاء هذا المطلق ليرد هذا التيسير بأقبح رد وأوقحه، وكأنه يقول لربه تعالى إن كنت شرعت هذا التشريع، فأنا أناقضه بجمعها جميعا.

·  أن فيه ضررا بالغا للزوجين، والشرع جاء لتحريم الضرر، فقد يندم الزوج، وقد يزول الخلاف، فيحب مراجعتها، ثم لا يجد السبيل لذلك.

·  ما أنشأ مثل هذا النوع من الطلاق في المجتمعات الإسلامية من شرخ وانحرافات حيث أصبح الرجل لا يكتفي بطلاق واحد، وذلك ما يدعو إلى التشدد في بيان تحريمه والإثم المعلق عليه.

وغير ذلك من الأدلة والتي سنذكرها عند بيان أثر هذا النوع من الطلاق.

أثره:

اختلف الفقهاء في أثر جمع الطلاق الثلاث في مجلس واحد أو بكلمة واحدة على أربعة أقوال:

القول الأول: لزومه بناء على عدم بدعيته، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور , والظاهرية, ورواية عن أحمد، وروي عن الحسن بن علي , وعبد الرحمن بن عوف , والشعبي، وقد استدلوا على ذلك بعدم بدعيته، وهو ما ذكرنا أدلته سابقا.

القول الثاني: أنه طلاق محرم لازم وهو قول مالك , وأبي حنيفة , وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، وهو منقول عن كثير من السلف , من الصحابة , والتابعين، وقد روي ذلك عن عمر , وعلي , وابن مسعود , وابن عباس , وابن عمر، وهو قول مالك , وأبي حنيفة , وقد استدلوا علىذلك بأدلة كثيرة، وكان الخلاف بينهم وبين أصحاب القول الثالث شديدا، فلذلك اقتصرت أكثر أدلتهم على الرد على أصحابه[109]:

·  قوله تعالى: ﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ (البقرة: 229) الآية , يدل على وقوع الثلاث معا مع كونه منهيا عنها ،قد أبان عن حكمه إذا أوقع اثنتين بأن يقول) أنت طالق أنت طالق (في طهر واحد ; فإذا كان في مضمون الآية الحكم بجواز وقوع الاثنتين على هذا الوجه , دل ذلك على صحة وقوعهما لو أوقعهما معا ; لعدم وجود من يفرق بينهما.

·  قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ (البقرة:230) فحكم بتحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين، ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار , فوجب الحكم بإيقاع الجميع على أي وجه أوقعه من مسنون أو غير مسنون ومباح أو محظور.

·  أنه لا تناقض بين اعتبار الطلاق الثلاث طلاقا بدعيا مع عدم اعتبار أثره، قال الجصاص :) قد دلت الآية على هذه المعاني كلها من إيقاع الاثنتين والثلاث لغير السنة , وأن المندوب إليه والمسنون تفريقها في الأطهار , وليس يمتنع أن يكون مراد الآية جميع ذلك ; ألا ترى أنه لو قال طلقوا ثلاثا في الأطهار وإن طلقتم جميعا معا وقعن، كان جائزا ؟ فإذا لم يتناف المعنيان واحتملتهما الآية وجب حملها عليهما(، فالمندوب إليه المأمور به هو الطلاق للعدة, وإن طلق لغير العدة وجمع الثلاث وقعن لما اقتضته الآية الأخرى , وهي قوله تعالى: ﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ (البقرة: 229) وقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾(البقرة:230)، إذ ليس في قوله ﴿ فطلقوهن ﴾ نفي لما اقتضته هذه الآية الأخرى.

·  أن في فحوى الآية التي فيها ذكر الطلاق للعدة، وهي قوله تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾(الطلاق:1) دلالة على وقوعها،  إذا طلق لغير العدة , لقوله تعالى بعدها: ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾(الطلاق:1) فلولا أنه إذا طلق لغير العدة وقع ما كان ظالما لنفسه بإيقاعه ولا كان ظالما لنفسه بطلاقه، وفي هذه الآية دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة.

·  قوله تعالى في سياق آيات الطلاق: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾(الطلاق:2) وفي ذلك دلالة على أنه إذا أوقع الطلاق على ما أمره الله كان له مخرجا مما أوقع إن لحقه ندم وهو الرجعة، وعلى هذا المعنى تأوله ابن عباس - رضي الله عنه -  حين قال للسائل الذي سأله وقد طلق ثلاثا:) إن الله يقول: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾(الطلاق:2)، وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك , وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :) لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ما ندم رجل طلق امرأته (.

·  إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -  ; لأن القول بهذا مروي عن ابن عمر وعمران بن حصين وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم -  ولا مخالف لهم، وما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه -  في ذلك من رواية طاوس فهي  وهم.

·  أن ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه -  وهو أقوى ما يستدل به أصحاب القول الثالث، وهو قوله:) كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  طلاق الثلاث واحدة فقال عمر - رضي الله عنه - :)قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم([110]مردود من وجوه، منها[111]:

الوجه الأول: ضعف سند ما روي في ذلك، ولكنهم اختلفوا في ذلك، قال الباجي:) وعندي أن الرواية عن ابن طاوس بذلك صحيحة، فقد رواه عنه الأئمة معمر وابن جريج وغيرهما وابن طاوس إمام (

الوجه الثاني: تأويل ذلك بأنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاث تطليقات، ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  قال: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كانت لهم فيه أناة، فلو كان حالهم ذلك من أول الإسلام في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قاله , ما عاب عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة.

الوجه الثالث: أن ابن عباس - رضي الله عنه -  مع قوله ذلك روي عنه من غير طريق أنه أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة , فإن كان هذا معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه , إن حمل حديث ابن طاوس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله , فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع.

·  أن الصحابة اجتمعوا على أشياء كثيرة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن في عهده - صلى الله عليه وسلم -، ولم يخالفهم فيها أحد، كتدوين الدواوين والمنع من بيع أمهات الأولاد , وقد كن يبعن قبل ذلك، والتوقيت في حد الخمر , ولم يكن فيه توقيت قبل ذلك فلما كان ما عملوا به من ذلك , ووقفنا عليه , لا يجوز لنا خلافه.

·  أن كونه عاصيا في الطلاق غير مانع صحة وقوعه لأن  الله تعالى جعل الظهار منكرا من القول وزورا وحكم مع ذلك بصحة وقوعه , فكونه عاصيا لا يمنع لزوم حكمه , والإنسان عاص لله في ردته عن الإسلام ولم يمنع عصيانه من لزوم حكمه وفراق امرأته , وقد نهاه الله عن مراجعتها ضرارا بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾(البقرة:231) فلو راجعها وهو يريد ضرارها لثبت حكمها وصحت رجعته.

·  أنه لا يصح القياس هنا على الوكالات , لأن الوكلاء إنما يفعلون ذلك للموكلين , فيحلون في أفعالهم تلك محلهم، فإن فعلوا ذلك كما أمروا لزم وإن فعلوا ذلك على غير ما أمروا به لم يلزم، والعباد في طلاقهم إنما يفعلونه لأنفسهم لا لغيرهم , لا لربهم تعالى  ولا يحلون في فعلهم ذلك محل غيرهم.

·  حديث ابن عمر حين قال:) أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان لي أن أراجعها  فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا،  كانت تبين ويكون معصية ([112].

·  عن ركانة أنه طلق امرأته ألبتة , فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما أردت بالبتة ؟ قال: واحدة , قال: الله ؟ قال: الله قال: هو على ما أردت، فلو لم تقع الثلاث إذا أرادها لما استحلفه بالله ما أراد إلا واحدة[113].

·  أن النهي دليل ظاهر على تحقق المنهي عنه، لأن النهي عما لا يتحقق لا يكون، فإن موجب النهي الانتهاء على وجه يكون المنهي فيه مختارا حتى يستحق الثواب إذا انتهى، ويستوجب العقاب إذا أقدم، وما لم يكن المنهي عنه متحققا في نفسه لا يتصور كونه مختارا في الانتهاء.

·  أن النهي إذا كان لمعنى في غير المنهي عنه لا يعدم المنهي عنه، ولا يمنع نفوذه شرعا كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة، والنهي عن البيع عند النداء يوم الجمعة، وهنا النهي لمعنى في غير الطلاق من تطويل العدة  واشتباه أمر العدة عليها أو سد باب التلاقي عند الندم فلا يمنع النفاذ.

القول الثالث: أنه لا يلزم منه إلا طلقة واحدة، وهو منقول عن طائفة من السلف والخلف كالزبير بن العوام , وعبد الرحمن بن عوف , ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس; وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم ; مثل طاوس وخلاس بن عمرو ; ومحمد بن إسحاق ; ويروى عن أبي جعفر وابنه جعفر بن محمد , ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة , وهو قول عند الإباضية[114]، وهو قول بعض أتباع المذاهب الأربعة.

وقد كان هذا القول مغمورا، والقائل به شاذا حتى قال ابن القيم:)لقد طوفت في الآفاق، ولقيت من علماء الإسلام وأرباب المذاهب كل صادق فما سمعت لهذه المقالة بخبر ولا أحسست لها بأثر إلا الشيعة الذين يرون نكاح المتعة جائزا، ولا يرون الطلاق واقعا([115]

بل كان هذا القول في كتب الفقهاء ينسب للمبتدعة، قال الباجي:) إذا ثبت ذلك، فمن أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث، وبه قال جماعة الفقهاء، وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة , وعن بعض أهل الظاهر لا يلزمه شيء) [116]

ومن الأدلة على ذلك ما سبق ذكره من الاستدلال على بدعية الطلاق الثلاث، وزيادة على ذلك ما يدل على اقتصار البدعية على الإثم دون أن يكون لها أثر عملي، ومن هذه الأدلة:

·  قوله تعالى :﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ ﴾(البقرة: 229)وهو يدل على تفريق الطلاق، وتدل عليه النصوص الكثيرة والأحكام الشرعية، كقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ﴾(النور:58)،  فلو قال الرجل ثلاث مرات هكذا كانت مرة واحدة حتى يستأذن مرة بعد مرة، ولو قال الملاعن:) أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين (كان مرة واحدة , ولو حلف في القسامة وقال:) أقسم بالله خمسين يمينا أن هذا قاتله (كان ذلك يمينا واحدة , ولو قال المقر بالزنا:) أنا أقر أربع مرات أني زنيت (كان مرة واحدة ; فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارا واحدا.

·  ومثله ما ورد من الأحاديث كقوله - صلى الله عليه وسلم -:) من قال في يومه سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر ([117]فلو قال:) سبحان الله وبحمده مائة مرة (لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة , وكذلك كل ما ورد من هذا الباب، قال ابن القيم:) فهذا المعقول من اللغة والعرف في الأحاديث المذكورة , وهذه النصوص المذكورة وقوله تعالى: ﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾(البقرة: 229)كلها من باب واحد ومشكاة واحدة , والأحاديث المذكورة تفسر المراد من قوله: ﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾(البقرة: 229)كما أن حديث اللعان تفسير لقوله لقوله تعالى: ﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ﴾(النور:6) فهذا كتاب الله , وهذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهذه لغة العرب , وهذا عرف التخاطب([118]

·  ضعف ما استدل به المخالفون من نصوص، قال ابن تيمية:) كل حديث فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  ألزم الثلاث بيمين أوقعها جملة , أو أن أحدا في زمنه أوقعها جملة فألزمه بذلك، مثل حديث يروى عن علي , وآخر عن عبادة بن الصامت , وآخر عن الحسن عن ابن عمر , وغير ذلك , فكلها أحاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث , بل هي موضوعة , ويعرف أهل العلم بنقد الحديث أنها موضوعة([119]

·  أن المروي عن ابن عباس في حديث ركانة من وجهين , وهو رواية عكرمة عن ابن عباس من وجهين عن عكرمة , وهو أثبت من رواية عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة ونافع بن عجين أنه طلقها ألبتة , وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - استحلفه , فقال: ما أردت إلا واحدة ؟  فإن هؤلاء مجاهيل لا تعرف أحوالهم , وليسوا فقهاء , وقد ضعف حديثهم أحمد بن حنبل وأبو عبيد , وابن حزم , وغيرهم، قال الأثرم: قلت لأحمد: حديث ركانة في البتة , فضعفه[120].

·  الإجماع القديم على هذا القول, ولم  يأت بعده إجماع يبطله , فعن أبي الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر ؟ قال ابن عباس: نعم، قال ابن القيم:) هذا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب ; فلو عدهم العاد بأسمائهم واحدا واحدا لوجد أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة إما بفتوى وإما بإقرار عليها , ولو فرض فيهم من لم يكن يرى ذلك فإنه لم يكن منكرا للفتوى به, بل كانوا ما بين مفت ومقر بفتيا وساكت غير منكر. وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر , وهم يزيدون على الألف قطعا(

·  استمرار الخلاف في المسألة، فلم يجمع أبدا على خلاف هذا القول، وقد ذكر ابن القيم العصور المختلفة للفقه الإسلامي، ومن كان يفتي بهذا القول وسنده، وهذا ملخص ما ذكر هنا، قال ابن القيم:) ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه , بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن , وإلى يومنا هذا , فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وأفتى أيضا بالثلاث , أفتى بهذا وهذا، وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف, وعن علي كرم الله وجهه وابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس , وأما التابعون فأفتى به عكرمة، وأفتى به طاوس , وأما تابعو التابعين فأفتى به محمد بن إسحاق وأفتى به خلاس بن عمرو والحارث العكلي , وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه , وأفتى به بعض أصحاب مالك , وأفتى به بعض الحنفية , وأفتى به بعض أصحاب أحمد , حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه , قال: وكان الجد يفتي به أحيانا ([121]

·  أن كل طلاق شرعه الله في القرآن في المدخول بها إنما هو الطلاق الرجعي; لم يشرع الله لأحد أن يطلق الثلاث جميعا , ولم يشرع له أن يطلق المدخول بها طلاقا بائنا , ولكن إذا طلقها قبل الدخول بها بانت منه , فإذا انقضت عدتها بانت منه.

·  أن الشرع وضع للطلاق ضوابط لا يجوز تجاوزها، فأجاز الطلاق على وصف ولم يجزه على غيره، فلا يجوز تعدي ما وضع الشرع من ذلك، ومثاله ما لو أمر رجل رجلا أن يطلق امرأته في وقت على صفة , فطلقها في غيره , أو أمره أن يطلقها على شريطة , فطلقها على غير تلك الشريطة , أن ذلك لا يقع , إذ كان قد خالف ما أمر به.

القول الرابع: هو محرم، ولا يلزمه شيء، وهو قول الإمامية، قال المحقق الحلي:)أقسام الطلاق ولفظه يقع على البدعة والسنة، فالبدعة: طلاق الحائض بعد الدخول , مع حضور الزوج معها ومع غيبته , دون المدة المشترطة. وكذا النفساء , أو في طهر قربها فيه , وطلاق الثلاث من غير رجعة بينها والكل عندنا باطل لا يقع معه طلاق([122]ومن الأدلة على ذلك:

·      الروايات الثابتة عن علي - رضي الله عنه -  في عدم إيقاع الطلاق الثلاث.

·  أن الزوج مأمور شرعا بإيقاع الطلاق للسنة، والمأمور من جهة الزوج بإيقاع الطلاق للسنة وهو الوكيل إذا أوقع لغير السنة لا يقع، فكذلك المأمور شرعا بل أولى لأن أمر الشرع ألزم ولأن نفوذ تصرفه بالإذن شرعا والمنهي عنه غير مأذون فيه فلا يكون نافذا كطلاق الصبي والمعتوه.

الترجيح: 

نرى أن الأرجح في المسألة، والأوفق بمقاصد الشريعة، والجامع بين الأقوال، هو النظر إلى المسألة من ناحيتين:

الناحية الأولى: الناحية الدينية المحضة، والتي يتولى الحكم فيها المفتي، والذي لا سلطة له على أحد غير سلطة العلم، ونرى أن الأرجح في حق هذا هو الفتوى بوقوعه طلقة واحدة إذا كان قصد المطلق الطلاق لا التهديد ونحوه، فإن قصد التهديد ولم يقصد الطلاق لا يعتبر قوله مع كونه آثما بذلك، لأن تقييده بالطلاق الثلاث قد يحمل معنى التهديد أكثر من حمله معنى التطليق، وربما كان هذا هو ما ذهب إليه الإمامية ورووه عن علي - رضي الله عنه - ، فأسانيدهم ثابتة عنه في ذلك.

وربما يتحرج البعض من أن يكون القول بعدم وقوع الطلاق الثلاث لم يرو إلا عن الإمامية، فلذلك نقول بأنه لازم قول الظاهرية، لأنهم يقولون بعدم اعتبار الطلاق البدعي، ولم يمنعهم من القول بعدم وقوع هذا الطلاق إلا ما رأوه من عدم بدعيته، بل هو لازم قول ابن تيمية وابن القيم وغيرهما في موقفهما من الطلاق البدعي، كما رأينا ذلك في حكم طلاق الحائض.

ولن يشق علينا هنا ذكر الأدلة لذلك لأن نفس أدلة عدم وقوع الطلاق البدعي التي ذكرناها سابقا تنطبق على هذا.

الناحية الثانية: الناحية القضائية، وهي التي يتولى الحكم فيها ولي الأمر بما ولاه الله من سلطة تنفيذية على المسلمين، فمثل هذا الولي إذا شكت إليه المرأة زوجها وأنه طلقها ثلاثا، فإن له أن يمضيه ثلاثا كما فعل عمر - رضي الله عنه - ، لأن المصلحة الشرعية تقتضي ذلك، لأن هذا الرجل الذي رمى زوجته بالبينونة الكبرى بكلمة واحدة رجل غير مأمون على زوجته، فيمكن أن يفعل ذلك المرة بعد المرة، فلذلك كان لولي الأمر أن ينفذه حرصا على المرأة أن تصبح لعبة بيد الرجل.

وإن رأى خلاف ذلك، وأن هذه فلتة لسان، ليس لها ما بعدها، ورأى رغبتها فيه ورغبته فيها، فإن الأولى في هذه الحالة عدم إيقاع الطلاق إلا إذا أصبح ذلك نوعا من الاستهزاء بآيات الله، فيمضيه سدا للذريعة.

ويدل على هذا في هذه المسألة قول عمر بن  الخطاب - رضي الله عنه -  :)إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أنفذناه عليهم(،  فأنفذه عليهم هو بيان أن الناس أحدثوا ما استحقوا عنده أن ينفذ عليهم الثلاث.

ويدل على هذا أيضا اجتهادات عمر - رضي الله عنه -  وأسبابها كاعطاء المؤلفة قلوبهم فإنه ثابت بالكتاب والسنة، ومع ذلك لم يعطهم عمر - رضي الله عنه -  وليس في ذلك نسخا كما يزعم البعض، ولا جرأة على النصوص، ولكن عمر استغنى في زمنه عن اعطاء المؤلفة قلوبهم فترك ذلك لعدم الحاجة إليه لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل والغارم ونحو ذلك.

ومثل ذلك موقفه من متعه الحج قد روى عن عمر - رضي الله عنه -  أنه نهي عنها، وكان ابنه عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -  وغيره يقولون :لم يحرمها وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دويره أهله في غير اشهر الحج، فإن هذه العمرة أفضل من عمرة المتمتع والقارن باتفاق الأئمة.

وبالتفريق بين هاتين الناحيتين نرى أن كل الأقوال يمكن اجتماعها، وأن تقديم قول على قول آخر من باب العموم، فيه من المفاسد ما فيه لأن المصالح الشرعية متفرقة في هذه الأقوال جميعا.

وما رأيناه هنا ليس بدعا من القول، وإنما هو ما تقتضيه الروايات المختلفة عن السلف الصالح - رضي الله عنهم - ، بل حتى من المتأخرين، فقد قال ابن تيمية: (كان طائفة من العلماء مثل أبى البركات يفتون بلزوم الثلاث في حال دون حال كما نقل عن الصحابة - رضي الله عنهم - ، وهذا إما لكونهم رأوه من باب التعزير الذى يجوز فعله بحسب الحاجة كالزيارة على أربعين في الخمر والنفي فيه وحلق الرأس،  وإما لاختلاف اجتهادهم فرأوه تا رة لازما وتارة غير لازم)

ويدل على هذا أيضا أن الألفاظ المنقولة عن الصحابة - رضي الله عنهم -  تدل على أنهم ألزموا بالثلاث لمن عصى الله بايقاعها جملة، فأما من كان يتقي الله فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾(الطلاق:2)، فمن لا يعلم التحريم حتى أوقعها ثم لما علم التحريم تاب والتزم أن لا يعود الى المحرم فهذا لا يستحق أن يعاقب وليس في الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ما يوجب لزوم الثلاث له.

النوع الرابع: الطلاق المقيد بالاستثناء

 

وهو[123] الإخراج بإلا أو بإحدى أخواتها , بعضا مما يوجبه عموم سابق , تحقيقا أو تقديرا, والأول هو المتصل , والثاني هو المنقطع , والأول هو المراد هنا دون الثاني لدى الفقهاء،  ويضاف إلى الأول الاستثناء الشرعي , وهو التعليق على مشيئة الله تعالى , أخذا من قوله تعالى: ﴿ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ(17)وَلَا يَسْتَثْنُونَ﴾(القلم: 17،18)وقد سبق الكلام عنه.

أحوال الاستثناء وأحكامها

1 ـ استثناء عدد:

اتفق جمهور الفقهاء القائلين بوقوع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة على أن الاستثناء اللغوي بإلا وأخواتها مؤثر وملغ للطلاق بحسبه إذا استوفى شروطه , وعلى ذلك لو قال لزوجته:  أنت طالق ثلاثا إلا واحدة , طلقت اثنتين فقط , ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين طلقت واحدة فقط[124]، قال ابن المنذر: (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم , على أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة أنها تطلق طلقتين منهم ; الثوري , والشافعي , وأصحاب الرأي. وحكي عن أبي بكر أن الاستثناء لا يؤثر في عدد الطلقات , ويجوز في المطلقات , فلو قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة. وقع الثلاث. ولو قال نسائي طوالق إلا فلانة. لم تطلق ; لأن الطلاق لا يمكن رفعه بعد إيقاعه , والاستثناء يرفعه لو صح)

وقد رد ابن قدامة على ما حكي عن أبي بكر بأن الاستثناء ليس رفعا لما وقع, إذ لو كان كذلك , لما صح في المطلقات , ولا الإعتاق , ولا في الإقرار , ولا الإخبار , وإنما هو مبين أن المستثنى غير مراد بالكلام , فهو يمنع أن يدخل فيه ما لولاه لدخل , فقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾(العنكبوت:14) عبارة عن تسعمائة وخمسين، وقوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إلا الذي فطرني﴾ (الزخرف:26،27) تبرؤ من غير الله[125].

أما إن ألغى الاستثناء بأن قال مثلا: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا , فإنه يقع ثلاثا ; لأنه إلغاء , وليس استثناء , والإلغاء باطل هنا، قال الكرابيسي في بيان الفرق بين الطلاقين: (إذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وقعت اثنتين.  ولو قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق إلا واحدة وقعت ثلاثا. والفرق أنه إذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة , فقد استثنى بعض ما نطق به والاستثناء مع المستثنى أحد اسمي ما بقي , فصار كما لو قال: أنت طالق اثنتين. وأما إذا قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق إلا واحدة. فقد استثنى جميع ما نطق به ; لأنه تلفظ بالواحدة واستثنى الواحدة وإذا عقد ثلاث عقود , واستثنى أحد العقود لم يصح , كما لو قال: عمرة طالق إلا عمرة. فإنه لا يصح الاستثناء , كذلك هذا) [126]

واختلفوا فيما لو قال: أنت طالق ثلاثا إلا طلقة وطلقة وطلقة على قولين:

القول الأول: يلغو الاستثناء , ويقع ثلاث ; وهو وجه عند الشافعية , وقول أبي حنيفة، ووجه للحنابلة،  لأن العطف يوجب اشتراك المعطوف مع المعطوف عليه , فيصير مستثنيا لثلاث من ثلاث.

القول الثاني: يصح الاستثناء في طلقة ; وهو وجه للحنابلة، لأن الاستثناء الأقل جائز , وإنما لا يصح استثناء الثانية والثالثة , فيلغو وحده.

القول الثالث: يصح استثناء اثنتين , ويلغو في الثالثة، وهو قول أبي يوسف ومحمد وهو وهو وجه عند الشافعية ; بناء على أن استثناء الأكثر جائز.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكرنا سابقا من عدم اعتبار الطلاق الثلاث في مجلس واحد أو كلمة واحدة، وذلك الترجيح يستدعي طرح مثل هذه المسألة، لأن كل ما تلفظ به من طلاق يؤول إلى طلقة واحدة، ولكن عند عدم اعتبار الطلاق الثلاث، فإن الأرجح في الخلاف في هذه المسائل هو اعتبار نية صاحبها دون التفريعات النحوية الكثيرة التي ذكرها الفقهاء للمسألة، لأن أكثرها مما يجهله العامة.

فلذلك لو نوى ثلاثا ثم استدرك في حينه وألغى اثنتين صح ذلك منه، بل هو الأفضل والأولى، لأنه ترك الطلاق البدعي إلى الطلاق السني، كما لو أراد أن يحلف بغير الله، ثم استدرك وحلف بالله، وهكذا يقال في كل المسائل التي يؤول الطلاق فيها إلى واحدة.

أما التلفظ بالاستثناء الملغي للطلاق، كأن يقول: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، فإنه نوع من الاستهزاء أو الهزل أو استعمال لفظ الطلاق في غير مراده، فلذلك نرى أن يعتبر التلفظ بهذا طلقة واحدة بدل اعتباره طلاقا ثلاثا، لأنه قصد الاستثناء فأخطأه، فيعامل بأدنى عدد للطلاق.

2 ـ استثناء مشيئة الله:

وهو أن يستثني في صيغة الطلاق مشيئة الله تعالى سواء كان على جهة الشرط مثل أن يقول أنت طالق إن شاء الله، أو على جهة الاستثناء مثل أن يقول أنت طالق إلا أن يشاء الله[127]، وقد اختلف الفقهاء في وقوع الطلاق بذلك على قولين:

القول الأول: لا يؤثر هذا في الطلاق شيئا وهو واقع ولا بد، وهو قول المالكية، ومن الأدلة على ذلك[128]:

·  عن أبي سعيد الخدري وابن عمر قال: كنا معاشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرى الاستثناء جائزا في كل شيء إلا في الطلاق والعتاق، وروي عن ابن عباس قال: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله  فهي طالق , وكذلك روي عن أبي بردة.

·  أنه استثناء يرفع جملة الطلاق فلم يصح , كقوله  أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، ولأنه إنشاء حكم في محل , فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح.

·      أنه إزالة ملك فلم يصح تعليقه على مشيئة الله تعالى كما لو قال: أبرأتك إن شاء الله.

·  أنه تعليق على ما لا سبيل إلى العلم به , فلم يمنع وقوع الطلاق , كما لو قال: أنت طالق إن شاءت السموات والأرض.

·  أن الله تعالى وضع لإيقاع الطلاق هذه اللفظة شرعا , وقدرا ; فإذا أتى بها المكلف فقد أتى بما شاءه الله ; فإنه لا يكون شيء قط إلا بمشيئة الله عز وجل , والله شاء الأمور بأسبابها ; فإذا شاء تكوين شيء , وإيجاده شاء سببه ; فإذا أتى المكلف بسببه فقد أتى به بمشيئة الله , ومشيئة السبب مشيئة للمسبب , فإنه لو لم يشأ وقوع الطلاق لم يمكن المكلف أن يأتي به ; فإن ما لم يشأ الله يمتنع وجوده كما أن ما شاءه وجب وجوده.

·  أن هذا في القول نظير المشيئة في الفعل , فلو قال:  أنا أفعل كذا إن شاء الله تعالى  وهو متلبس بالفعل صح ذلك , ومعنى كلامه أن فعلي هذا إنما هو بمشيئة الله , كما لو قال حال دخوله الدار  أنا أدخلها إن شاء الله  أو قال من تخلص من شر:  تخلصت إن شاء الله  , وقد قال يوسف لأبيه , وإخوته: ﴿ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾(يوسف:99) في حال دخولهم , والمشيئة راجعة إلى الدخول المقيد بصيغة الأمر ; فالمشيئة متناولة لهما جميعا.

·  أنه لو أتى بالشهادتين ثم قال عقيبهما:  إن شاء الله  أو قال:  أنا مسلم إن شاء الله، فإن ذلك لا يؤثر في صحة إسلامه شيئا , ولا يجعله إسلاما معلقا على شرط.

·  أنه من المعلوم قطعا أن الله قد شاء تكلمه بالطلاق , فقوله بعد ذلك:  إن شاء الله  تحقيق لما قد علم قطعا أن الله شاءه , فهو بمنزلة قوله:  أنت طالق إن كان الله أباح الطلاق , وأذن فيه, ولا فرق بينهما , وهذا بخلاف قوله:  أنت طالق إن كلمت فلانا  فإنه شرط في طلاقها ما يمكن وجوده وعدمه ; فإذا وجد الشرط وقع ما علق به , ووجود الشرط في مسألة المشيئة إنما يعلم بمباشرة العبد سببه ; فإذا باشره علم أن الله قد شاءه.

·  أن الكفارة أقوى من الاستثناء ; لأنها ترفع حكم اليمين , والاستثناء يمنع عقدها , والرافع أقوى من المانع , وأيضا فإنها تؤثر متصلة ومنفصلة , والاستثناء لا يؤثر مع الانفصال , ثم الكفارة مع قوتها لا تؤثر في الطلاق والعتاق ; فأن لا يؤثر فيه الاستثناء أولى وأحرى.

·  أن قوله:  إن شاء الله  إن كان استثناء فهو رافع لجملة المستثنى منه , فلا يرتفع , وإن كان شرطا فإما أن يكون معناه إن كان الله قد شاء طلاقك , أو إن شاء الله أن أوقع عليك في المستقبل طلاقا غير هذا ; فإن كان المراد هو الأول فقد شاء الله طلاقها بمشيئته لسببه , وإن كان المراد هو الثاني فلا سبيل للمكلف إلى العلم بمشيئته تعالى , فقد علق الطلاق بمشيئة من لا سبيل إلى العلم بمشيئته ; فيلغو التعليق , ويبقى أصل الطلاق فينفذ.

·      أن هذا الطلاق المعلق على المشيئة إما أن يريد به طلاقا ماضيا أو مقارنا للتكلم به أو مستقبلا; فإن أراد الماضي أو المقارن وقع ; لأنه لا يعلق على الشرط. وإن أراد المستقبل - ومعنى كلامه إن شاء الله أن تكوني في المستقبل طالقا فأنت طالق - وقع أيضا ; لأن مشيئة الله بطلاقها الآن يوجب طلاقها في المستقبل ; فيعود معنى الكلام إلى أني إن طلقتك الآن بمشيئة الله فأنت طالق , وقد طلقها بمشيئته , فتطلق، فهاهنا ثلاث دعاوى: إحداها: أنه طلقها , والثانية: أن الله شاء ذلك , والثالثة: أنها قد طلقت ; فإن صحت الدعوى الأولى صحت الأخريان , وبيان صحتها أنه تكلم بلفظ صالح للطلاق , فيكون طلاقا , وبيان الثانية: أنه حادث ; فيكون بمشيئة الله , فقد شاء الله طلاقها فتطلق.

·  وقد ذكر القرافي هذه المسألة في فروقه، ونص على أنها مبنية على أربع قواعد، وهي تشكل وجهة نظر المالكية في هذه المسألة وغيرها من المسائل المرتبطة بهذا الباب، ولا بأس من ذكر هذه القواعد هنا كأدلة بالإضافة إلى ما سبق ذكره من أدلة[129]:

·  كل من له عرف يحمل كلامه على عرفه كقوله - صلى الله عليه وسلم -:) من حلف واستثنى عاد كمن لم يحلف (، فهو يحمل على الحلف الشرعي، وهو الحلف بالله تعالى، لأن الحلف بالطلاق والعتاق جعلهما - صلى الله عليه وسلم - من أيمان الفساق فلا يحمل الحديث المتقدم عليها.

·  أنه تعالى كما شرع الأحكام شرع مبطلاتها ودوافعها، فشرع الإسلام وعقد الذمة سببين لعصمة الدماء، والردة والحرابة وزنى المحصن وحرابة الذمي روافع، والسبي سبب الملك والعتق رافع له، ولا يلزم من شرعه رافع لحكم سبب أن يرفع حكم غيره، فالاستثناء بالمشيئة شرعه رافعا لحكم اليمين، فلا يلزم أن يكون رافعا لحكم العتق والتعليق، كما أن التطليق رافع لحكم النكاح، ولا يرفع حكم اليمين، ومثله سائر الروافع، فليس إطلاق لفظ اليمين على البابين بالتواطؤ حتى يعم الحكم، بل بالاشتراك أو المجاز في التعليق بالطلاق وغيره، والذي يسمى يمينا  حقيقة إنما هو القسم ولو أقسم بالطلاق ونحوه لم يلزمه شيء وإذا كان البابان مختلفين لا يعم الحكم.

·  أن مشيئة الله تعالى واجبة النفوذ، فلذلك كل عدم ممكن يعلم وقوعه نعلم أن الله تعالى أراده وكل وجود ممكن يعلم وقوعه نعلم أن الله تعالى أراده، فتكون مشيئة الله تعالى معلومة قطعا.

·  أن الشرط وجوابه لا يتعلقان إلا بمعدوم مستقبل، فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق يحمل على دخول مستقبل وطلاق لم يقع قبل التعليق إجماعا، والمشيئة قد جعلت شرطا ولا بد لها من مفعول، والتقدير إن شاء الله طلاقك فأنت طالق فمفعولها إما أن يكون الطلاق الذي صدر منه في الحال أو طلاقا في المستقبل، فإن كان الأول فنحن نقطع أن الله تعالى أراده في الأزل فقد تحقق الشرط في الأزل، وإن كان المفعول طلاقا مستقبلا فيكون التقدير إن شاء الله طلاقك في المستقبل فأنت طالق، لأن  مشيئة الله تعالى مؤثرة في حدوث مفعولها فإذا لم يحدث لفظ الطلاق انقطع بعدم مشيئة الله تعالى.

القول الثاني: إذا استثنى المطلق مشيئة الله لم يقع الطلاق، وهو قول الجمهور، ومن الأدلة على ذلك:

·  أن قوله: إن شاء الله لا يريد به إن شاء الله طلاقها ماضيا قطعا , بل إما أن يريد به هذا الطلاق الذي تلفظ به أو طلاقا مستقبلا غيره , فلا يصح أن يراد به هذا الملفوظ ; فإنه لا  يصح تعليقه بالشرط ; إذ الشرط إنما يؤثر في الاستقبال , فحقيقة هذا التعليق أنت طالق إن شاء الله طلاقك في المستقبل , ولو صرح بهذا لم تطلق حتى ينشأ لها طلاقا آخر.

·      أنه علقه بمشيئة من له مشيئة صحيحة معتبرة , فهو أولى بالصحة من تعليقه بمشيئة آحاد الناس.

·  أنه لو علقه بمشيئة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته لم يقع في الحال , ومعلوم أن ما شاءه الله فقد شاءه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ; فلو كان التعليق بمشيئة الله موجبا للوقوع في الحال لكان التعليق بمشيئة رسوله في حياته كذلك.

·  أن مشيئة اللفظ لا تكون مشيئة للحكم حتى يكون اللفظ صالحا للحكم , ولهذا لو تلفظ المكره أو زائل العقل أو الصبي أو المجنون بالطلاق فقد شاء الله منهم وقوع هذا اللفظ , ولم يشأ وقوع الحكم , فإنه لم يرتب على ألفاظ هؤلاء أحكامها ; لعدم إرادتهم لأحكامها , فهكذا المعلق طلاقه بمشيئة الله يريد أن لا يقع طلاقه , وإن كان الله قد شاء له التلفظ بالطلاق.

·  أن المعنى الذي منع الاستثناء عقد اليمين لأجله ; هو بعينه في الطلاق والعتاق ; فإنه إذا قال: والله لأفعلن اليوم كذا إن شاء الله  فقد التزم فعله في اليوم إن شاء الله له ذلك , فإن فعله فقد علمنا مشيئة الله له , وإن لم يفعله علمنا أن الله لم يشأه ; إذ لو شاءه لوقع , ولا بد , ولا يكفي في وقوع الفعل مشيئة الله للعبد إن شاءه فقط , فإن العبد قد يشاء الفعل , ولا يقع , فإن مشيئته ليست موجبة , ولا تلزمه , بل لا بد من مشيئة الله له أن يفعل , وقد قال تعالى في المشيئة الأولى :﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾(الإنسان:30)، وقال تعالى:﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(التكوير:29) وقال في المشيئة الثانية: ﴿ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة﴾ِ(المدثر:56) وإذا كان تعليق الحلف بمشيئته تعالى يمنع من انعقاد اليمين , وكذلك تعليق الوعد.

·  أن الآثار المذكورة عن الصحابة - رضي الله عنهم -  غير ثابتة عنهم، فعطية ضعيف , وجميع بن عبد الحميد مجهول , وخالد بن يزيد ضعيف ؟ قال ابن عدي: أحاديثه لا يتابع عليها , وأثر ابن عباس لا يعلم حال إسناده حتى يقبل أو يرد، على أن هذه الآثار مقابلة بآثار أخر لا تثبت أيضا[130].

·      أنه لا يصح قياس الاستثناء بالمشيئة على قوله: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، لأن الاستثناء لم يرفع حكم الطلاق بعد وقوعه , وإنما منع من انعقاده منجزا , بل انعقد معلقا , كقوله:  أنت طالق إن شاء فلان  فلم يشأ فلان ; فإنها لا تطلق , ولا يقال: إن هذا الاستثناء رفع جملة الطلاق.

·  أن استدلال المخالفين بقول يوسف u لأبيه , وإخوته: ﴿ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾(يوسف:99) لا حجة فيه ; لأن الاستثناء إن عاد إلى الأمر المطلوب دوامه واستمراره فظاهر , وإن عاد إلى الدخول المقيد به فمن أين لكم أنه قال لهم هذه المقالة حال الدخول أو بعده ؟ ولعله إنما قالها عند تلقيه لهم , ويكون دخولهم عليه في منزل اللقاء فقال لهم حينئذ ﴿ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾(يوسف:99)، فهذا محتمل، وإن كان إنما قال لهم ذلك بعد دخولهم عليه في دار مملكته فالمعنى ادخلوها دخول استيطان واستقرار آمنين إن شاء الله.

·   أن الإسلام لا يقبل التعليق بالشرط , فإذا علقه بالشرط تنجز , كما لو علق الردة بالشرط فإنها تنجز , وأما الطلاق فإنه يصح تعليقه بالشرط.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو توقفها على مقصد قائلها كما ذكرنا في المسائل السابقة، هل هو التحقيق أم التعليق، لأن العبرة بمقصد المطلق ورغبته في التطليق وعدمها، قال ابن القيم بعد إفاضته في ذكر مسائل الفريقين (التحقيق في المسألة أن المستثني إما أن يقصد بقوله:  إن شاء الله  التحقيق أو التعليق ; فإن قصد به التحقيق والتأكيد وقع الطلاق , وإن قصد به التعليق وعدم الوقوع في الحال لم تطلق , هذا هو الصواب في المسألة , وهو اختيار شيخنا وغيره من الأصحاب) [131]

وبناء على أن العادة الجارية في استعمال هذه اللفظة ليس التحقيق، وإنما تجري على سبيل الوعد والوعيد دون الجزم، فإن الأرجح هو ما ذكره أصحاب القول الثاني، وقد استدل ابن حزم لعدم وقوع الطلاق من القرآن استدلالا جيدا، فقد استدل بقول الله تعالى:﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا(23)إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾(الكهف:23،24)، وقوله تعالى:﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾(التكوير:30) قال ابن حزم:) ونحن نعلم أن الله تعالى لو أراد إمضاء هذا الطلاق ليسره لإخراجه بغير استثناء، فصح أنه تعالىلم يرد وقوعه إذ يسره لتعليقه بمشيئته تعالى) [132]

وبذلك يمكن اعتبار الاستثناء بالمشيئة مخرجا من المخارج التي يلغي بها من تلفظ بالتطليق آثار ما تلفظ به، وخاصة على ما نص عليه الحنفية من عدم اشتراط النية، فلو قال لها:  أنت طالق إن شاء الله  ولا يدري أي شيء شاء الله لا يقع الطلاق ; لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع , فعلمه وجهله يكون سواء , ولو قال لها:  أنت طالق  فجرى على لسانه من غير قصد  إن شاء الله , وكان قصده إيقاع الطلاق لا يقع الطلاق ; لأن الاستثناء قد وجد حقيقة, والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعا.

وهو مخرج من المخارج قد يفتى به للحاجة، ولو أن الأصل هو اعتبار القصد والنية.

3 ـ استثناء مطلقة

وقد مر ذكر المسألة بصورها والخلاف الواقع فيها في الفصل الخاص بمن يقع عليها الطلاق.

وقت الاستثناء:

أي اتصال المستثنى بالمستثنى منه , بحيث يعدان كلاما واحدا عرفا , فإن فصل بينهما بكلام أو سكوت، بأن قال لها: أنت طالق , ثم قال: إن شاء الله تعالى منفصلا , أو قال: أنت طالق اثنتين , ثم سكت , ثم قال: إلا واحدة، فقد اختلف الفقهاء في صحة ذلك الاستثناء على الأقوال التالية[133]:

القول الأول: أنه لا حد لوقت الاستثناء، وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية أنهم قالوا: إذا استثنى بعد سنة صح استثناؤه، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا(23)إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت﴾(الكهف:23،24) فتأولوا قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت  ﴾ على الاستثناء[134].

القول الثاني:  يجوز الاستثناء ما دام في المجلس، وهو قول الحسن وطاوس والأوزاعي.

القول الثالث:  لا يصح الاستثناء إلا موصولا بالكلام، وهو قول جمهور العلماء، ومن الأدلة على ذلك:

·  أن الاستثناء بمنزلة الشرط والشرط لا يصح، ولا يثبت حكمه إلا موصولا بالكلام من غير فصل , مثل قوله: أنت طالق إن دخلت الدار، فلو قال: أنت  طالق ثم قال: إن دخلت الدار بعد ما سكت , لم يوجب ذلك تعلق الطلاق بالدخول.

·  أنه لو جاز هذا لجاز أن يقول لامرأته: أنت طالق ثلاثا , ثم يقول بعد سنة: إن شاء الله , فيبطل الطلاق ولا تحتاج إلى زوج ثان في إباحتها للأول , وفي تحريم الله تعالى إياها عليه بالطلاق الثلاث إلا بعد زوج دلالة على بطلان الاستثناء بعد السكوت , ولما صح ذلك في الإيقاع في أنه لا يصح الاستثناء إلا موصولا بالكلام كان كذلك حكم اليمين.

·  قال الله تعالى في شأن أيوب u حين حلف على امرأته أنه إن برأ ضربها , فأمره الله تعالى أن يأخذ بيده ضغثا ويضرب به ولا يحنث , ولو صح الاستثناء متراخيا عن اليمين لأمره بالاستثناء فيستغني به عن ضربها بالضغث وغيره.

·  قوله - صلى الله عليه وسلم - :(من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) , ولو جاز الاستثناء متراخيا عن اليمين لأمره بالاستثناء واستغنى عن الكفارة.

·  قوله - صلى الله عليه وسلم - :(إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني) , ولم يقل إلا قلت إن شاء الله.

·  أن ما تأوله أصحاب القول الأول غير صحيح ; لأن قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت﴾(الكهف:24) يصح أن يكون كلاما مبتدأ مستقلا بنفسه من غير تضمين له بما قبله , وغير جائز فيما كان هذا سبيله تضمينه بغيره.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة بناء على ما سبق ذكره من التضييق في هذا الباب هو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني، بل إن قولهم يغلق كثيرا من المنافذ المفتوحة للطلاق، فقد يتلفظ الشخص بالطلاق، قاصدا واعيا ثم يندم على ذلك، فيكون حله الشرعي في ذلك أن يسارع للاستثناء، فقد سئل الأوزاعي عن رجل حلف: والله لأفعلن  كذا وكذا , ثم سكت ساعة لا يتكلم ولا يحدث نفسه بالاستثناء , فيقول له إنسان إلى جانبه: قل إن شاء الله , فقال: إن شاء الله , أيكفر عن يمينه ؟ فقال: أراه قد استثنى.

وعنه أنه سئل عن رجل وصله قريبه بدراهم فقال: والله لا آخذها , فقال قريبه: والله لتأخذنها , فلما سمعه قال:  والله لتأخذنها  استثنى في نفسه فقال: إن شاء الله , وليس بين قوله والله لا آخذها وبين قوله إن شاء الله كلام إلا انتظاره ما يقول قريبه , أيكفر عن يمينه إن هو أخذها ؟ فقال: لم يحنث ; لأنه قد استثنى.

وقد ذكر ابن القيم الاختلاف الشديد في الوقت الذي يمكن أن يستثنى فيه[135]، وذكر أن أضيق الأقوال قول من يشترط النية من أول الكلام , وأوسع منه قول من يشترطها قبل فراغه , وأوسع منه قول من يجوز إنشاءها بعد الفراغ من الكلام , وأوسع منه قول من يجوزه بالقرب , ولا يشترط اتصاله بالكلام , استدلالا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق :(والله لأغزون قريشا , والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال: إن شاء الله) [136] إذ هو استثناء بالقرب , ولم يخلط كلامه بغيره،  وأوسع من ذلك قول من قال: ينفعه الاستثناء , ويصح ما دام في المجلس.

ثم قال مبينا قيمة هذا القول وما يدل عليه والمصالح المترتبة عن القول به :(ولا ريب أن هذا أفقه وأصح من قول من اشترط نيته مع الشروع في اليمين ; فإن هذا القول موافق للسنة الصحيحة فعلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكاية عن أخيه سليمان أنه لو قال:  إن شاء الله  بعدما حلف وذكره ذلك كان نافعا له , وموافقا للقياس ومصالح العباد ومقتضى الحنيفية السمحة , ولو اعتبر ما ذكر من اشتراط النية في أول الكلام والاتصال الشديد لزالت رخصة الاستثناء , وقل من انتفع بها إلا من قد درس على هذا القول وجعله منه على بال) [137]

أما القول الأول، فإنه من الظهور بحيث لا يحتاج للرد عليه، ولو صح لأبطل كل ما يتعلق بصيغ الطلاق واليمين إبطالا كليا،  ولا نرى صحة روايته عن ابن عباس وغيره من التابعين، وقد حكى ابن العربي ومثله القرطبي حكاية في هذا لا بأس من ذكرها هنا، للاستدلال على ظهور المسألة من جهة وعلى انتشار العلم الشرعي بين العامة في المجتمعات الإسلامية في العصور الزاهرة من جهة ثانية:

فقد ذكروا أن أبا الفضل المراغي كان يقرأ بمدينة السلام , فكانت الكتب تأتي إليه من بلده , فيضعها في صندوق , ولا يقرأ منها واحدا مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه أو يقطع به عن طلبه , فلما كان بعد خمسة أعوام , وقضى غرضا من الطلب , وعزم على الرحيل شد رحله , وأبرز كتبه , وأخرج تلك الرسائل وقرأ منها ما لو أن واحدة منها قرأها في وقت وصولها ما تمكن بعدها من تحصيل حرف من العلم , فحمد الله تعالى , ورحل على دابته قاشه، وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان , وتقدمه الكري بالدابة، وأقام هو على فامي يبتاع منه سفرته.

فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفامي آخر: أي فل , أما سمعت العالم يقول يعني الواعظ: إن ابن عباس يجوز الاستثناء ولو بعد سنة , لقد اشتغل بالي بذلك منه منذ سمعته يقوله، وظللت فيه متفكرا ; ولو كان ذلك صحيحا لما قال الله تعالى لأيوب: ﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ﴾(صّ: من الآية44) وما الذي كان يمنعه من أن يقول حينئذ: قل إن شاء الله ؟ فلما سمعته يقول ذلك قلت: بلد يكون الفاميون به من العلم في هذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة ؟ لا أفعله أبدا ; واقتفى أثر الكري , وحلله من الكراء , وصرف رحله، وأقام بها حتى مات رحمه الله[138].

نية الحالف الاستثناء قبل الفراغ من التلفظ في الطلاق:

اختلف الفقهاء في اشتراط نية الحالف الاستثناء قبل الفراغ من تلفظه بالطلاق على قولين:

القول الأول: إن نواه بعده لم يصح ويقع الطلاق، وهو قول المالكية والشافعية  في الأصح.

القول الثاني: إن نواه بعده جاز، وهو قول ثان للشافعية.

القول الثالث: يصح بغير نية مطلقا, وهو قول الحنفية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثالث لأن العبرة بالصيغة التي تلفظ بها مقرونة بمراده منها بخلاف البحث عن نيته، هل سبقت الاستثناء أم لم تسبقه لما يؤدي إليه البحث في مثل هذا من وسوسة قد تؤدي إلى إعمال الطلاق في أبغض حالاته.

فقد قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا(23)إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت﴾(الكهف:24،23)، وروي أن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام قال: لأطوفن الليلة على كذا وكذا امرأة تحمل كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله , فقال له الملك الموكل به: قل إن شاء الله , فلم يقل , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(والذي نفسي بيده لو قالها لقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعون) [139], وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال :(والله لأغزون قريشا , والله لأغزون قريشا , والله لأغزون قريشا) , ثم سكت قليلا ثم قال: إن شاء الله ثم لم يغزهم[140] , وقال - صلى الله عليه وسلم - :(من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه) [141] 

قال ابن القيم تعليقا على هذه النصوص :(فهذه النصوص الصحيحة لم يشترط في شيء منها ألبتة في صحة الاستثناء ونفعه أن ينويه مع الشروع في اليمين , ولا قبلها , بل حديث سليمان صريح في خلافه , وكذلك حديث (لأغزون قريشا) , وحديث ابن عمر متناول لكل من قال إن شاء الله بعد يمينه , سواء نوى الاستثناء قبل الفراغ أو لم ينوه , والآية دالة على نفع الاستثناء مع النسيان أظهر دلالة) [142]، ولا بأس أن نسوق بعض ما ذكر من أدلة غير ما سبق ذكره من نصوص:

·  قوله - صلى الله عليه وسلم - عن مكة: إنه لا يختلى خلاها فقال له العباس: إلا الإذخر فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   ثم قال: إلا الإذخر[143]، وقال في أسرى بدر :(لا ينفلت أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق فقال له ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء , فقال: إلا سهيل بن بيضاء[144]، قال ابن القيم تعليقا على هذين الحديثين :(ومعلوم أنه لم ينو واحدا من هذين الاستثناءين في أول كلامه , بل استثناه لما ذكر به) [145]

·  أن الكلام بآخره , وهو كلام واحد متصل بعضه ببعض , , ولا معنى لاشتراط النية في أجزائه , وأبعاضه.

·  أن الرجل قد يستحضر بعد فراغه من الجملة ما يرفع بعضها , ولا يذكر ذلك في حال تكلمه بها , فيقول: لزيد عندي ألف درهم , ثم في الحال يذكر أنه قضاه منها مائة فيقول: إلا مائة , فلو اشترط نية الاستثناء قبل الفراغ لتعذر  عليه استدراك ذلك وألجئ إلى الإقرار بما لا يلزمه والكذب فيه.

·  أن الحالف قد يبدو له فيعلق اليمين بمشيئة الله , وقد يذهل في أول كلامه عن قصد الاستثناء , أو يشغله شاغل عن نيته , فلو لم ينفعه الاستثناء حتى يكون ناويا له من أول يمينه لفات مقصود الاستثناء , وحصل الحرج الذي رفعه الله تعالى عن الأمة به , ولما قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - إذا نسيه: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت﴾(الكهف:24) وهذا متناول لذكره إذا نسي الاستثناء قطعا , فإنه سبب النزول , ولا يجوز إخراجه وتخصيصه ; لأنه مراد قطعا.

·  أن هذه الشبهة لو صحت لما نفع الاستثناء في طلاق , ولا عتاق , ولا إقرار ألبتة , نواه أو لم ينوه ; لأنه إذا لزمه موجب كلامه لم يقبل منه رفعه , ولا رفع بعضه بالاستثناء, وقد طرد هذا بعض الفقهاء فقالوا: لا يصح الاستثناء في الطلاق ; توهما لصحة هذه الشبهة.

الإسرار بالاستثناء:

اختلف الفقهاء في حكم الإسرار بالاستثناء على الأقوال التالية[146]:

القول الأول: يصح استثناؤه، وقد ظلم المحلوف له، لأن الأيمان تعتبر بالنيات، وهو قول للمالكية[147]، وقد فرق الحنابلة بين ما لو قال:  نسائي طوالق  , واستثنى بقلبه  إلا فلانة  صح استثناؤه, ولم تطلق , ولو قال : نسائي الأربع طوالق  , واستثنى بقلبه إلا فلانة لم ينفعه، وفرقوا بينهما بأن الأول ليس نصا في الأربع , فجاز تخصيصه بالنية , بخلاف الثاني.

قال ابن قدامة: (إذا قال:  أنت طالق  ونوى بقلبه من غير نطق إن دخلت الدار أو بعد شهر أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى , وهل يقبل في الحكم ؟ على روايتين , وقد قال الإمام أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم فيمن حلف لا يدخل الدار وقال:  نويت شهرا:  قبل منه , أو قال:  إذا دخلت دار فلان فأنت طالق  ونوى تلك الساعة , أو ذلك اليوم قبلت نيته , قال: والرواية الأخرى لا تقبل ; فإنه قال: إذا قال لامرأته : أنت طالق  , ونوى في نفسه إلى سنة تطلق , ليس ينظر إلى نيته , وقال: إذا قال:  أنت طالق  وقال: نويت إن دخلت الدار, لا يصدق) [148]

القول الثاني: لايصح حتى يتكلم به، قال ابن القيم :(المشهور من مذاهب الفقهاء أنه لا ينفعه حتى يتلفظ به , ونص عليه أحمد فقال في رواية ابن منصور: لا يجوز له أن يستثني في نفسه حتى يتكلم به لأن ذلك حق للمحلوف له) [149] لأنه إنما يقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم، فلما لم تكن اليمين على اختيار الحالف، بل كانت مستوفاة منه وجب ألا يكون له فيها حكم، وقد اختلف هؤلاء في اشتراط أن يسمع نفسه على رأيين:

الرأي الأول: يصح إذا حرك به لسانه وشفتيه، وإن لم يسمع المحلوف له، لأن من لم يحرك به لسانه وشفتيه لم يكن متكلما، والاستثناء من الكلام يقع بالكلام دون غيره، وهو قول الحنفية.

الرأي الثاني: أنه يشترط أن يسمع نفسه، قال ابن القيم :(وكان الفقيه أبو جعفر يقول: لا بد وأن يسمع نفسه , وبه كان يفتي الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل , وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى هذا القول)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة بناء على ما ذكرنا من تضييق منافذ الطلاق هو القول الأول، واعتبار النية في ذلك مع حرمة هذا الفعل لأدائه إلى اتخاذ آيات الله هزؤا، فهذا الذي نطق بالطلاق وأسر بالاستثناء بالمشيئة أو غيرها لا يقصد من ذلك إلا أحد أمرين كلاهما محرم:

·      الأول هو الهزل وهو من اتخاذ آيات الله هزؤا كما ذكرنا ذلك في محله.

·  والثاني هو الترهيب والوعيد وهو لا يحل، فإذية المسلم حرام، ولا يجوز أن يتخذ من لفظ الطلاق وسيلة للتهديد واللعب بمشاعر الزوجة.

قال القرطبي: (إذا قال والله لا دخلت الدار، وأنت طالق إن دخلت الدار، واستثنى في يمينه الأول إن شاء الله في قلبه، واستثنى في اليمين الثانية في قلبه أيضا ما يصلح للاستثناء الذي يرفع اليمين لمدة أو سبب أو مشيئة أحد، ولم يظهر شيئا من الاستثناء  إرهابا على المحلوف له، فإن ذلك ينفعه اليمينان عليه، وهذا في   الطلاق ما لم تحضره البينة، فإن حضرته بينة لم تقبل منه دعواه الاستثناء، وإنما يكون ذلك نافعا له إذا جاء مستفتيا) [150]

 



([1])   المحلى:9/454.

([2])   المحلى:9/454.

([3])   المنتقى:4/15.

([4])   المبسوط:6/143.

([5])   المنتقى:4/15.

([6])   المنتقى:4/15.

([7])   الفروق: 1/194.

([8])   المبسوط:6/143.

([9])   انظر: لسان العرب:4/436.

([10])   انظر: المبدع: 7/274، منار السبيل: 2/216، كشاف القناع: 5/249، المغني: 7/373، المهذب: 2/83، إعانة الطالبين: 4/16، الإقناع للشربيني: 2/449، البحر الرائق: 3/267، حاشية ابن عابدين: 3/21، التاج والإكليل: 4/58، المدونة:6/24، القوانين الفقهية: 153، المحلى:10/147، مختصر اختلاف العلماء: 2/451.

([11])   المغني:7/374.

([12])   المحلى:10/147.

([13])   المنتقى:4/15.

([14])   المدونة:2/79.

([15])   الوسيط:5/378.

([16])   حاشية ابن عابدين: 3/241.

([17])   المبسوط: 6/144.

([18])   وقد ذكر الحنفية قيد الاقتران بالتصويت، فنصوا على أنه يقع  بإشارته المعهودة أي المقرونة بتصويت منه، لأن العادة منه ذلك فكانت الإشارة بيانا لما أجمله الأخرس، حاشية ابن عابدين:3/241.

([19])   حاشية ابن عابدين:3/241.

([20])   مختصر اختلاف العلماء:2/451.

([21])   زاد المعاد:5/205.

([22])   هناك قول ثالث، هوالتوقف فيها، فقد سئل ابن سيرين عمن طلق في نفسه فقال قد علم الله ما في نفسك قال بلى قال فلا أقول فيها شيئا.

([23])   المنتقى:4/15.

([24])   زاد المعاد :5/206.

([25])   البخاري: 6/2454، مسلم: 1/116، ابن خزيمة: 2/52، ابن حبان: 10/178، الترمذي: 3/489، البيهقي: 7/209، أبو داود: 2/264، النسائي: 3/360، ابن ماجة: 1/658، أحمد: 2/393.

([26])   نيل الأوطار: 6/300، وانظر: القرطبي: 3/120.

([27])   انظر: ابن كثير: 4/380.

([28])   شرائع الإسلام/ 3/12، وقد نصوا على أن الشهادة ليست شرطا في شيء من العقود إلا في الطلاق , ويستحب في النكاح , والرجعة , وكذا في البيع.

([29])   مقتنيات الدرر: 11/171، وانظر الآثار في ذلك في: البرهان: 5/347.

([30])   انظر: العلامة جعفر السبحاني: الإشهاد على الطلاق.

([31])   الوسائل: ج 15 الباب 10 من أبواب مقدمات الطلاق الحديث 7/3/12 ولاحظ بقية أحاديث الباب.

([32])   الوسائل: ج 15 الباب 10 من أبواب مقدمات الطلاق الحديث 7/3/12.

([33])   الوسائل: ج 15 الباب 10 من أبواب مقدمات الطلاق الحديث 7/3/12.

([34])   القرطبي: 18/157.

([35])   فقه السنة: 2/292.

([36])   نظام الطلاق في الإسلام: 118 وقد نقل الشيخ جعفر السبحاني أنّ الشيخ أحمد محمد شاكر، كتب كتاباً حول «نظـام الطلاق في الإسلام» وأهدى نسخة منه مشفوعة برسالة إلى العلامة الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وكتب إليه: إنّني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق، وإنّه إذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً ولم يعتد به، وهذا القول وإن كان مخالفاً للمذاهب الأربعة المعروفة إلاّ أنّه يؤيّده الدليل ويوافق مذهب أئمّة أهل البيت والشيعة الإمامية» الشيخ جعفر السبحاني، سلسلة المسائل الفقهية، ص17 فما بعدها.

([37])   الأحوال الشخصية: 365.

([38])   انظر: العلامة جعفر السبحاني: الإشهاد على الطلاق.

([39])   مختار الصحاح:242، لسان العرب:15/233.

([40])   أنوار البروق: 3/152.

([41])   كشف الأسرار:1/66.

([42])   لسان العرب: 2/509.

([43])   شرح حدود ابن عرفة: 193.

([44])   انظر: حاشية ابن عابدين: 3/300، المبسوط: 6/75، شرح فتح القديرك 4/74 لسان الحكيم: 327، فتاوى السغدي:1/ 322.

([45])   جميع الألفاظ التي ذكرت في الأنواع الثلاثة يقع بها الطلاق بائناً ما عدا الألفاظ التي سنذكرها، فإنه يقع بكل لفظ منها طلاق رجعي، فإذا نوى بالبائن ثنتين فإنه لا يقع به إلا واحدة. أما إذا نوى به الثلاث فإنه يصح ويقع به الثلاث، وذلك لأن المراد بلفظ البائن بينونة المرأة من الزواج، والبينونة لا تحتمل التثنية لأنها مصدر لا يراعى فيه العدد، فإما أن يراعى فيه الوحدة فيكون مقيداً بها، أو يراعى فيه الجنس المستغرق لأفراده فيشتمل الثلاث، ويستثنى لفظ اختاري فإنه لا يصح فيها تفويض الثلاث لها.

([46])   حاشية الدسوقي: 2/365، الفواكه الدواني: 2/34، الشرح الكبير:2/365، مواهب الجليل: 4/116، حاشية العدوي: 2/102.

([47])   انظر: المهذب: 2/81، إعانة الطالبين: 4/10، الإقناع للشربيني: 2/439، الوسيط: 5/375، حاشية البجيرمي: 4/3 حواشي الشرواني: 4/221، روضة الطالبين: 8/26، فتح المعين:4/17، فتح الوهاب:2/127.

([48])   المغني :7/300، المبدع: 7/275، دليل الطالب: 258، الفروع: 5/298، المحرر في الفقه: 2/54، عمدة الفقه: 108، الإنصاف للمرداوي: 8/476،كشاف القناع: 5/284.

([49])   البحر الزخار:4/156، التاج المذهب:2/123.

([50])   المحلى:9/437.

([51])   المحلى:9/439.

([52])   شرائع الإسلام:3/8.

([53])   المحلى:9/437.

([54])   سبق تخريجه.

([55])   انظر: المنتقى: 4/7.

([56])   زاد المعاد: 5/320.

([57])   زاد المعاد:  5/320.

([58])   انظر: المغني:7/295.

([59])   سبق تخريجه.

([60])   البخاري: 5/2012، ابن حبان: 10/83، الحاكم: 4/38، البيهقي: 7/39، النسائي: 3/355، ابن ماجة: 1/661.

([61])   انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 4/256.

([62])   أحكام القرآن لابن العربي: 4/256.

([63])   المحلى: 10/127.

([64])   قال ابن القيم:» الثابت عن زيد بن ثابت وابن عمر ما رواه هو من طريق الليث بن عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي هبيرة عن قبيصة أنه سأل زيد بن ثابت وابن عمر عمن لامرأته  أنت علي حرام فقالا جميعا: كفارة يمين، ولم يصح عنهما خلاف ذلك»، زاد المعاد: 5/303.

([65])   واختلفوا فيما لو نوى اثنتين على قولين:

      القول الأول: هي واحدة بائنة، وهو قول جمهور الحنفية، لأن نية الثنتين فيه عدد، وهذا اللفظ لا يحتمل العدد، لأنها كلمة واحدة وليس فيها احتمال التعدد، والنية إذا لم تكن من محتملات اللفظ لا تعمل، أما صحة نية الثلاث ليس باعتبار العدد، بل باعتبار أنه نوى حرمة وهي الحرمة الغليظة، فإنها لا تثبت بما دون الثلاث فأما الثنتان فلا يتعلق بهما في حق الحرة حرمة.

      القول الثاني: هي بحسب نيته، وهو قول زفر، لقوله r :« وإنما لكل امرئ ما نوى» ولأن الثنتين بعض الثلاث فإذا كانت نية الثلاث تسع في هذا اللفظ فنية الثنتين أولى.

([66])   المبسوط: 6/71.

([67])   المبسوط: 6/71.

([68])   وهذا في المدخول بها فأما غير المدخول بها , فإن نوى الثلاث أو لم ينو شيئا فلا خلاف في المذهب أنها ثلاث , إن نوى واحدة فهل ينوي أو لا فيه روايتان إحداهما لا ينوي وتلزمه الثلاث وبه قال سحنون وابن حبيب , والرواية الثانية أنه ينوي وبها قال مالك فالرواية الأولى مبنية على أن ألبتة لا تتبعض ولا يصح الاستثناء منها , وهو معنى قول أصبغ في العتبية ونص عليه سحنون في المجموعة. والرواية الثانية مبنية على أنها تتبعض ويصح الاستثناء منها , وقد روي عنه في العتبية ورواه سحنون عن العتبي , وعلى هذا الاختلاف يجب أن يجري القول في الخلع وكل طلاق لا تتعقبه رجعة يوقعه الزوج باختياره، انظر: المنتقى: 4/7.

([69])   ابن حبان: 10/97، الحاكمك 2/218، الترمذي: 3/480، الدارمي: 2/216، البيهقي: 7/329، الدارقطني: 4/33، أبو داود: 2/259، ابن ماجة: 1/661، أحمد: 1/265، مسند أبي يعلى: 4/379.

([70])   المنتقى: 4/6.

([71])   المنتقى: 4/6.

([72])   المحلى:9/446.

([73])   سبق تخريجه.

([74])   الإضافة تتبع طبيعة التصرفات , ومن التصرفات ما يضاف إلى الوقت , ومنها ما لا يضاف إليه. فالتصرفات التي تصح إضافتها إلى الوقت عند أكثر الفقهاء هي: الطلاق , وتفويضه , والخلع , والإيلاء , والظهار , واليمين , والنذر , والعتق , والإجارة , والمعاملة , والإيصاء , والوصية , والقضاء , والمضاربة , والكفالة , والوقف , والمزارعة , والوكالة وهناك تصرفات لا تصح إضافتها إلى الوقت كالنكاح , والبيع , وغيرهما.

([75])   الأم:2/297.

([76])   الأم:2/297.

([77])   أحكام القرآن للجصاص:2/291.

([78])   انظر الخلاف في المسألة في: أحكام القرآن لابن العربي:4/376.

([79])   شرح معاني الآثار:3/94.

([80])   شرح معاني الآثار:3/94.

([81])   المبسوط:6/120.

([82])   المغني:7/326.

([83])   سبق تخريجه.

([84])   المبسوط:6/90.

([85])   المدونة:2/62.

([86])   المحلى:9/479.

([87])   البخاري: 6/2463، ابن خزيمة: 3/352، ابن حبان: 10/233، الدارمي: 2/241، الترمذي: 4/104، البيهقي:9/231.

([88])   انظر: تبيين الحقائق:2/205.

([89])   الفتاوى الكبرى:3/241.

([90])   الفتاوى الكبرى:3/241.

([91])   وقد عذر ابن تيمية هذا النزاع الوارد عن الشيعة في المسألة، واعتبر أنه نفس ما حصل للجمهور في موقفهم من الطلاق المعلق، فقال:» هؤلاء الشيعة بلغتهم فتاوى عن بعض فقهاء أهل البيت فيمن قصده الحلف، فظنوا أن كل تعليق كذلك , كما أن طائفة من الجمهور بلغتهم فتاوى عن بعض الصحابة والتابعين فيمن علق الطلاق بصفة أنه يقع عندها، فظنوا أن ذلك يمين، وجعلوا كل تعليق يمينا , كمن قصده اليمين , ولم يفرقوا بين التعليق الذي يقصد به اليمين , والذي يقصد به الإيقاع ; كما لم يفرق أولئك بينهما في نفس الطلاق « الفتاوى الكبرى:3/246.

([92])   الفتاوى الكبرى:3/246.

([93])   الفتاوى الكبرى:3/241.

([94])   المحلى:7/476.

([95])   الفتاوى الكبرى:3/241.

([96])   البحر الرائق:4/24.

([97])   البحر الرائق: 4/28.

([98])   الفروع :6/366، , فلو وطئ مع الحيض وعصى فهل يتخلص من الحنث ؟ فيه وجهان في مذهب مالك وأحمد هما: 

      الأول: يتخلص , وإن أثم بالوطء كما لو حلف بالطلاق ليشربن هذه الخمر فشربها فإنه لا تطلق عليه زوجته.

      الثاني:  لا يبر ; لأنه إنما حلف على فعل وطء مباح , فلا تتناول يمينه المحرم.

      قال ابن القيم :« إذا كان إنما حلف على وطء مأذون فيه شرعا لم تتناول يمينه المحرم فلا يحنث بتركه بعين ما ذكرتم من الدليل , وهذا ظاهر , وحرف المسألة أن يمينه لم تتناول المعجوز عنه لا شرعا ولا قدرا فلا يحنث بتركه» إعلام الموقعين:4/93.

([99])   الفتاوى الهندية:1/445.

([100])   سبب تفريقهم كما نص عليه ابن القيم هو أنه التزم في الأول التطليق وهو فعله , وفي الثاني وقوع الطلاق وهو أثر فعله، وقد رد على ذلك بأن هذا الفرق لا يجدي شيئا , لأن الطلاق هو التطليق بعينه , وإنما أثره كونها طالقا , وهذا غير الطلاق , فههنا ثلاثة أمور مرتبة: التزام التطليق , وهذا غير الطلاق بلا شك. والثاني: إيقاع التطليق , وهو الطلاق بعينه الذي قال الله فيه: « الطلاق مرتان »وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « الطلاق لمن أخذ بالساق ». الثالث: صيرورة المرأة طالقا وبينونتها , فالقائل " إن فعلت كذا فعلي الطلاق " لم يرد هذا الثالث قطعا , فإنه ليس إليه ولا من فعله , وإنما هو إلى الشارع , والمكلف إنما يلزم ما يدخل تحت مقدرته وهو إنشاء الطلاق , فلا فرق أصلا بين هذا اللفظ وبين قوله: " فعلي أن أطلق " فالتفريق بينهما تفريق بين متساويين , وهو عدول عن محض القياس من غير نص ولا إجماع ولا قول صاحب.

([101])   واختلفوا في نقيض ذلك فيما لو علق طلاقها على نفي فعل المستحيل , فقال: أنت طالق إن لم تقتلي الميت أو تصعدي السماء على قولين:

      القول الأول: تطلق في الحال ; لأنه علقه على عدم ذلك , وعدمه معلوم في الحال وفي الثاني, فوقع الطلاق، لأن الحالف على فعل الممتنع كاذب حانث , كما قال الله U: ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ﴾ إلى قوله: ) وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ﴾

      القول الثاني: لا يقع طلاقه , كما لو حلف ليصعدن السماء , أو ليطيرن , فإنه لا يحنث، انظر: المغني: 7/359..

([102])   انظر: المغني:7/342، أنوار البروق:1/95، بدائع الصنائع:3/140،وغيرها.

([103])   المحلى:9/385.

([104])   البخاري: 5/2014، مسلم: 2/1129، الدارمي: 2/201،  المنتقى لابن الجارود:189، البيهقي:7/398 الدارقطني: 3/277، النسائي: 3/371.

([105])   هو طرف الثوب الذي لم ينسج، مأخوذ من هدب العين وهو شعر الجفن، وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار، فتح الباري:9/465.

([106])   البخاري: 5/2014، البيهقي: 7/374.

([107])   سبق تخريجه.

([108])   قال ابن حجر: أخرجه النسائي ورجاله ثقات لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي  r ولم يثبت له منه سماع وأن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع، فتح الباري: 9/362.

([109])   انظر: القرطبي: 3/130، فتح الباري: 9/362، التمهيد: 13/227، سبل السلام: 3/172، نيل الأوطار: 7/11، شرح معاني الآثار:3/55.

([110])   مسلم: 2/1099، الحاكم: 2/214، الدارقطني: 4/46، مصنف عبد الرزاق: 6/392.

([111])   انظر: عون المعبود: 6/190، شرح الزرقاني: 3/218، سبل السلا:3/171، نيل الأوطار: 7/14.

([112])   قال في نصب الراية: ذكره عبد الحق في أحكامه من جهة الدارقطني وأعله بمعلى بن منصور، وقال رماه أحمد بالكذب قلت: لم يعله البيهقي في المعرفة إلا بعطاء الخراساني وقال: إنه أتى في هذا الحديث بزيادات لم يتابع عليها وهو ضعيف في الحديث لا يقبل ما تفرد به، نصب الراية: 3/220، وانظرك نيل الأوطار:7/12.

([113])   ابن حبان: 10/97، الحاكمك 2/218، الترمذي: 3/480، الدارمي: 2/216، البيهقي: 7/329، الدارقطني: 4/33، أبو داود: 2/259، ابن ماجة: 1/661، أحمد: 1/265، مسند أبي يعلى: 4/379.

([114])   انظر: شرح النيل:6/438.

([115])   حاشية ابن القيم :6/201.

([116])   المنتقى:4/3.

([117])   مسلم: 4/2071، أحمد: 2/302، شعب الإيمان: 1/422.

([118])   إعلام الموقعين:3/33.

([119])   الفتاوى الكبرى:3/253.

([120])   إعلام الموقعين:3/33.

([121])   إعلام الموقعين:3/33.

([122])   شرائع الإسلام:3/13.

([123])   المدونة: 2/80، الأم: 5/201، الجصاص: 3/315، المنتقى: 4/2، المبسوط: 6/91، 9/26، المغني: 7/321.

([124])   وقد اختلفوا في استثناء الأكثر، فنص أحمد  على أنه لو قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين. وقع ثلاث، والأكثرون على أن ذلك جائز، وفي اللغة العربية يجوز في القليل من الكثير , انظر: المغني: 7/322.

([125])   المغني: 7/322.

([126])   الفروق: 1/166.

([127])   ولاختلاف الصيغة تبحث المسألة في الطلاق المعلق، وتبحث في الاستثناء في الطلاق.

([128])   إعلام الموقعين: 4/62.

([129])   الفروق للقرافي: 1/76.

([130])   منها ما روي عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله r: يا معاذ , ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق , وما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق , فإذا قال الرجل لمملوكه: أنت حر إن شاء الله , فهو حر , ولا استثناء له , وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله , فله استثناؤه , ولا طلاق عليه، وقد ذكرناه مع كونه موضوعا للتنبيه إلى وضعه، وهو ظاهر، ومع ذلك يستدل به كثيرا في هذا، قال ابن القيم :« ولو كنا ممن يفرح بالباطل ككثير من المصنفين الذين يفرح أحدهم بما وجده مؤيدا لقوله لفرحنا بهذه الآثار , ولكن ليس فيها غنية ; فإنها كلها آثار باطلة موضوعة على رسول الله r » انظر: إعلام الموقعين: 4/68.

([131])   إعلام الموقعين: 4/77.

([132])   المحلى:9/485.

([133])   الجصاص: 3/315.

([134])   للمفسرين في معنى الآية ثلاثة أقوال:

1.أن المعنى اذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فقل إن شاء الله ولو كان بعد يوم أو شهر أو سنة قاله سعيد بن جبير والجمهور.

2.أن معنى إذا نسيت إذا غضبت قاله عكرمة قال ابن الدفع وليس ببعيد لأن الغضب ينتج النسيان.

3.إذا نسيت الشيء فاذكر الله ليذكرك إياه، انظر: زاد المسير: 5/128..

([135])   انظر: إعلام الموقعين: 4/78.

([136])   سبق تخريجه.

([137])   إعلام الموقعين: 4/78.

([138])   أحكام القرآن لابن العربي: 2/154.

([139])   البخاري: 3/1038، مسلم: 3/1276، الترمذي: 4/108، البيهقي: 10/44، النسائي: 3/141.

([140])   ابن حبان: 10/185، البيهقي: 10/47، أبو داود: 3/231.

([141])   الترمذي: 4/108، البيهقي: 10/47، مصنف عبد الرزاق: 8/516.

([142])   إعلام الموقعين: 4/55.

([143])   البخاري: 4/1567.

([144])   الحاكم: 3/24، الترمذي: 5/271، البيهقي: 6/321.

([145])   إعلام الموقعين: 4/56.

([146])   القرطبي: 6/273.

([147])   القرطبي: 6/273.

([148])   المغني: 7/320، وانظر: 5/256.

([149])   إعلام الموقعين: 4/80.

([150])   القرطبي: 6/274.