الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: صيغ حل عصمة الزوجية

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

الباب الثاني  ـ حل عصمة الزوجية المعلق على الكفارة

أولا ـ  الظهار

حقيقة الظهار

حقيقة الظهار:

أحكام الظهار

مظاهرة الرجل لزوجته

مظاهرة المرأة لزوجها

حكم الكفارة في ظهار المرأة:

المواقف العامة للمذاهب الفقهية من أركان الظهار

مذهب الحنفية:

مذهب المالكية:

مذهب الشافعية:

مذهب الحنابلة:

مذهب الزيدية:

مذهب الإمامية:

مذهب الإباضية:

مذهب الظاهرية:

أركان الظهار وشروطها

الركن الأول: المظاهر

إسلام المظاهر:

حرية المظاهر:

الركن الثاني: المظاهر منها

الظهار من أجنبية:

تعميم الظهار:

الظهار من المطلقة :

الظهار من الأمة:

الركن الثالث: صيغة الظهار

أولا ـ التعابير الدالة على الظهار

الألفاظ الصريحة :

ألفاظ الكناية :

قوله: أنت مثل أمي:

ثانيا ـ تقييد الصيغة

1 ـ تأقيت الصيغة:

2 ـ تعليق الصيغة:

تعليق الظهار على مشيئة الله :

الركن الرابع ـ المشبه به

النوع الأول: المحرمات على التأبيد

تشبه الزوجة بالأم من النسب:

تشبيه الزوجة بمن تحرم عليه سوى الأم :

النوع الثاني: المحرمات حرمة مؤقتة:

النوع الثالث: تشبيه الزوجة بأجنبية:

النوع الرابع: تشبيه الزوجة بغير النساء :

النوع الخامس: تشبيه أعضاء الزوجة بأعضاء غيرها:

خامسا: موجبات كفارة الظهار

1 ـ الحنث في اليمين :

حكم معاشرة الزوجة جنسيا قبل التكفير :

الجماع:

المباشرة :

2 ـ العزم على معاشرة المظاهر منها:

3 ـ إعادة التلفظ بصيغة الظهار:

4 ـ النية:

صفة النية:

موضع النية:

تأخر الكفارة عن الظهار:

سادسا ـ أنواع كفارة الظهار

النوع الأول: عتق رقبة:

موجبات عتق الرقبة:

وجود الرقبة:

أن تكون زائدة عن حاجاته الأصلية :

حضور المال الكافي:

شروط الرقبة التي تجزئ في التكفير:

1 ـ الإيمان :

2 ـ السلامة من العيوب :

النوع الثاني: صيام شهرين متتابعين :

شروط صيام الكفارة :

مسوغات قطع التتابع :

المرض المخوف:

المسافر :

حكم معاشرة الزوجة قبل الانتهاء من الشهرين :

 

النوع الثالث: إطعام ستين مسكينا :

مقدار الإطعام :

مستحق الإطعام :

كيفية الإطعام :

التتابع في الإطعام:

إخراج القيمة في الطعام:

أسباب تعدد الكفارة

1 ـ تعدد المظاهر منها :

2 ـ تكرر الظهار :

3 ـ الإشراك في الظهار:

ثانيا ـ الإيلاء

حقيقة الإيلاء

حقيقة الإيلاء:

أحكام الإيلاء

وجود القسم في الإيلاء

القسم بالله تعالى أو بصفة من صفاته

الحلف على ترك المعاشرة الجنسية الواجبة

قصد الإضرار

الإيلاء حال الغضب

مدة الإيلاء

المواقف العامة للمذاهب الفقهية من أركان الإيلاء وشروطه

مذهب الحنفية:

مذهب المالكية:

مذهب الشافعية:

مذهب الحنابلة:

مذهب الظاهرية:

مذهب الزيدية:

مذهب الإمامية:

مذهب الإباضية:

أركان الإيلاء وشروطه

الركن الأول: المولي

التكليف:

القدرة على المعاشرة الجنسية :

الركن الثاني: المولى منها

الإيلاء على أجنبية :

المطلقة طلاقا رجعيا:

الإيلاء قبل البناء :

الركن الثالث: صيغة الإيلاء

لغة الإيلاء :

التعابير الدالة على الإيلاء:

الصيغة الصريحة :

صيغة الكناية:

أحكام تعليق الإيلاء على شرط

تعليقه على شرط مستحيل:

نعليقه على ممكن:

القسم الأول: تعليقه على أمر غير إرادي:

تعليقه على فعل مباح لا مشقة فيه:

تعليقه على فطام ولدها:

القسم الثاني: تعليقه على محرم :

تعليق إتيانها على طلاقها ثلاثا:

تعليقه إتيانها على الظهار:

تعليقه على ما في فعله مضرة:

حكم الجمع بين أكثر من زوجة واحدة في الإيلاء:

أنواع المقسم به وأحكامها

القسم على ما يلزمه بالحنث فيه حق:

القسم على أمر مستحيل:

القسم على حق غير مالي:

الركن الرابع: المدة

تقطيع مدة الإيلاء:

اليمين على ما يقتضي مدة الإيلاء:

آثار الإيلاء

الأثر الأول: التفريق بين الزوجة والمولي عند عدم الفيئ

تفريق القاضي عند عدم الفيئ :

نوع التفريق :

وجود المانع حال المطالبة

الحالة الأولى: وجود المانع من جهة الزوج :

الحالة الثانية: وجود المانع من جهة الزوجة:

الأثر الثاني ـ لزوم الكفارة عند الرجوع للزوجة

 

الباب الثاني  ـ حل عصمة الزوجية المعلق على الكفارة

نتناول في هذا الباب ـ إكمالا لما سبق في الأجزاء الماضية من أنواع حل العصمة ـ النوع الذي ربطه الشرع بناحية تعبدية، هي الكفارة، فهو يختلف عن الطلاق الذي جعله الله تعالى بيد الرجل من غير مشاركة غيره فيه، ويختلف عن الخلع الذي جعل للمرأة، ويختلف كذلك عن أنواع التفريق التي أنيطت بولي الأمر، فهو أقرب إلى المسائل التعبدية منه إلى مسائل التفريق بين الزوجين.

وإنما دعانا لتخصيص باب خاص بهذا وعدم إدراجه في أنواع التفريق الأخرى، حرصنا على بيان عدم تشابه هذا النوع مع سائر الأنواع في حقيقته أو أحكامه، لأن بعض الفقهاء خلطوا أحكام هذا النوع بسائر الأحكام مما نشر الاعتقاد من أن هذا النوع طلاق كسائر الطلاق.

وقد ذكر ابن تيمية هذا الخلط بين أحكام هذا النوع وأحكام الطلاق، فقال: (والله تعالى ذكر فى كتابه الطلاق واليمين والظهار والإيلاء والإفتداء وهو الخلع، وجعل لكل واحد حكما فيجب أن نعرف حدود ما أنزل الله على رسوله وندخل فى الطلاق ما كان طلاقا، وفى اليمن ما كان يمينا، وفى الخلع ما كان خلعا، وفى الظهار ما كان ظهارا، وفى الإيلاء ما كان إيلاء، وهذا هو الثابت عن أئمة الصحابة وفقهائهم والتابعين لهم بإحسان، ومن العلماء من اشتبه عليه بعض ذلك ببعض فيجعل ما هو ظهار طلاقا، فيكثر بذلك وقوع الطلاق الذى يبغضه الله ورسوله، ويحتاجون إما الى دوام المكروه وإما إلى زواله بما هو أكره الى الله ورسوله منه وهو نكاح التحليل([1]

وسنتناول في هذا الباب بناء على هذا فصلين: فصلا خاصا بالظهار، والفصل الثاني خاص بالإيلاء، ونعتذر لطول هذين الفصلين، ويرجع ذلك  لكثرة مسائلهما من جهة، ولاختلاطهما أحيانا بالمسائل المتعلقة بأحكام العبادات، والتي لم نجد مناصا من ذكرها في هذا الجزء تتميما للكلام عن مسائله.

أولا ـ  الظهار

حقيقة الظهار

لغة[2]: الظِّهَارُ وَالْمُظَاهَرَةُ مَصْدَرَانِ لِقَوْلِكَ ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ أَيْ قَالَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَفِيهِ لُغَتَانِ أُخْرَيَانِ إحْدَاهُمَا اظَّاهَرَ يَظَّاهَرُ اظَّاهُرًا وَأَصْلُهُ تَظَاهَرَ فَأُدْغِمَتْ وَشُدِّدَتْ، وَاللُّغَةُ الْأُخْرَى اظَّهَّرَ يَظَّهَّرُ اظَّهُّرًا بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَالْهَاءِ جَمِيعًا وَأَصْلُهُ تَظَهَّرَ وَقُرِئَ بِهَا كُلِّهَا قوله تعالى:﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾(المجادلة:2)

وهو مشتق من الظهر , وإنما خصوا الظهر بذلك من بين سائر الأعضاء ; لأن كل مركوب يسمى ظهرا , لحصول الركوب على ظهره في الأغلب , فشبهوا الزوجة بذلك.

اصطلاحا: عرف الفقهاء الظهار تعاريف مختلفة تدخلت في عمومها الآراء الفقهية المختلفة، ومن هذه التعاريف:

·      هو وصف المظاهر من يحل له وطؤها من زوجة أو أمة بأنها عليه كظهر أمه[3].

·      تشبيه المنكوحة بالمحرمة على سبيل التأبيد اتفاقا بنسب أو رضاع أو مصاهرة[4].

·  هو أن يشبه امرأته أو عضوا من أعضائها يعبر به عن جميعها أو جزءا شائعا منها بمن تحرم عليه على التأبيد[5].

·  هو تشبيه زوج زوجه أو ذي أمة حل وطؤه إياها بمحرم منه أو بظهر أجنبية في تمتعه بهما والجزء كالكل والمعلق كالحاصل[6].

·  هو لفظ مخصوص يوجب تحريم الاستمتاع والنظر لشهوة , يرتفع بالكفارة أو ما في حكمها قبل الوطء بعد العود[7].

حقيقة الظهار:

من أهم ما ينبغي أن يعلم في الظهار قبل البحث في مسائله، التحقق من المراد الشرعي منه، ولا يمكن معرفة ذلك في الحدود والتعاريف التي وضعها الفقهاء، والتي ذكرنا بعض نماذجها، لتغلب الفروع المذهبية عليها، فلذلك نحتاج إلى الرجوع لمصدر هذه المعرفة وأساسها وهو القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فالمعاني الشرعية لا تعرف إلا منهما.

وأساس البحث في حقيقة الظهار هو علاقته بالطلاق، فهل الظهار نوع من الطلاق؟ أم أنه حقيقة مستقلة عنه استقلالا تاما حتى لو عبر عنه بألفاظ يعبر بها عن الطلاق.

وقد ذهبت كثير من الآراء الفقهية المختلفة إلى التفريق بين الظهار وبين الطلاق من الزاوية النظرية، ولكنه من الناحية العملية نجدهم في مواضع كثيرة يحكمون في الظهار بأحكام الطلاق، فالسرخسي مثلا يقول:)اعلم بأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فقرر الشرع أصله ونقل حكمه إلى تحريم مؤقت بالكفارة  من غير أن يكون مزيلا للملك([8]

لكنهم عند ذكر تعليق الظهار بالشروط مثلا، وهو قول المظاهر: إن دخلت الدار , فأنت علي كظهر أمي , فإنهم ينصون على أنه متى دخلت الدار , صار مظاهرا , وإلا فلا، استدلالا بأن أصل الظهار أنه كان طلاقا , والطلاق يصح تعليقه بالشرط , فكذلك الظهار.

ومثل ذلك الكثير من الفروع التي سنراها في خلال هذا المبحث، قال ابن تيمية يذكر هذا الخلط بين الطلاق والظهار :(ومن العلماء من اشتبه عليه بعض ذلك ببعض فيجعل ما هو ظهار طلاقا، فيكثر بذلك وقوع الطلاق الذى يبغضه الله ورسوله ويحتاجون إما الى دوام المكروه وإما إلى زواله بما هو أكره الى الله ورسوله منه وهو نكاح التحليل([9]  

ونرى كما ذكرنا سابقا أن للظهار حقيقة مستقلة، وأن علاقته بالطلاق علاقة مفارقة تامة، وأنه أقرب إلى الأحكام التعبدية منه إلى أحكام الأسرة، فلذلك سنرى في الترجيحات خلاف ما ذكرنا في الطلاق من الميل إلى الأقوال المشددة مراعاة للاحتياط، ودرءا لاستعمال هذا اللفظ الذي جاء القرآن الكريم لتحريمه، ووضع له كعلاج مرحلي عقوبة الكفارة، فمن عاد وظاهر بأي لفظ من الألفاظ التي لها اشتباه بالظهار وجبت عليه العقوبة لتخليصه من لوث الجاهلية.

فأحكام الظهار بهذا تتفق مع أحكام العبادات في كون الغرض منه تغلب عليه التربية والتقويم السلوكي أكثر مما تغلب عليه أحكام الطلاق التي يقصد منها التفريق، فهو تقويم شرعي لسلوك جاهلي منحرف، ومن الخطأ تغليب المعنى الجاهلي للظهار على المعنى الشرعي، قال الشافعي:) سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يذكر أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بثلاثة: الظهار والإيلاء والطلاق، فأقر الله تعالى الطلاق طلاقا، وحكم في الإيلاء بأن أمهل الموالي أربعة أشهر، ثم جعل عليه أن يفيء أو يطلق، وحكم في الظهار بالكفارة، فإذا تظاهر الرجل من امرأته يريد طلاقها، أو يريد تحريمها بلا طلاق فلا يقع به طلاق بحال، وهو متظاهر، وكذلك إن تكلم بالظهار ولا ينوي شيئا فهو متظاهر، لأنه متكلم بالظهار([10]

وقال سيد قطب وهو يرسم الصورة التي جاء القرآن الكريم لتعديلها: (كان الرجل في الجاهلية يقول لامرأته:أنت علي كظهر أمي. أي حرام محرمة كما تحرم علي أمي. ومن ساعتئذ يحرم عليه وطؤها ؛ ثم تبقى معلقة، لا هي مطلقة فتتزوج غيره، ولا هي زوجة فتحل له. وكان في هذا من القسوة ما فيه ؛ وكان طرفا من سوء معاملة المرأة في الجاهلية والاستبداد بها، وسومها كل مشقة وعنت) [11]

فلما جاء الإسلام رفع عن المرأة هذا الخسف الجاهلي ؛ (وكان مما شرعه هذه القاعدة:  وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم، فإن قولة باللسان لا تغير الحقيقة الواقعة، وهي أن الأم أم والزوجة زوجة ؛ ولا تتحول طبيعة العلاقة بكلمة ! ومن ثم لم يعد الظهار تحريما أبديا كتحريم الأم كما كان في الجاهلية، فجعل الظهار تحريما مؤقتا للوطء - لا مؤبدا ولا طلاقا - كفارته عتق رقبة، أو  صيام شهرين متتابعين أو  إطعام ستين مسكينا . وبذلك تحل الزوجة مرة أخرى، وتعود الحياة الزوجية لسابق عهدها. ويستقر الحكم الثابت المستقيم على الحقيقة الواقعة:  وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم .. وتسلم الأسرة من التصدع بسبب تلك العادة الجاهلية، التي كانت تمثل طرفا من سوم المرأة الخسف والعنت، ومن اضطراب علاقات الأسرة وتعقيدها وفوضاها، تحت نزوات الرجال وعنجهيتهم في المجتمع الجاهلي ([12]

ولعل السبب الذي جعل بعض الفقهاء يجنحون في مسائل الظهار إلى أحكام الطلاق بجعلها أصلا يقاس عليه، هو اعتبارهم الظهار نوعا من أنواع الإنشاء كالطلاق، فلذلك يحكمون له بأحكام الطلاق، قال القرافي:) مما يتوهم أنه إنشاء وليس كذلك، وهو الظهار في قول القائل لامرأته أنت علي كظهر أمي يعتقد الفقهاء أنه إنشاء للظهار كقوله أنت طالق إنشاء للطلاق فإن البابين في الإنشاء سواء , وليس كذلك([13]

وقد بحث القرافي الشبه التي ينطلق منها من يسوي بين الظهار والطلاق، وناقشها مناقشة طويلة مهمة، وسنلخص هنا ما ذكره من شبه، وما أورده من رودد، فمن الشبه التي ينطلق منها من يشبه الظهار بالطلاق:

·  أن كتب المحدثين والفقهاء متظافرة على أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فجعله الله تعالى في الإسلام تحريما تحله الكفارة كما تحل الرجعة تحريم الطلاق.

·  أنه مندرج في حد الإنشاء فيكون إنشاء ; لأنه لفظ يترتب عليه التحريم فيكون سببا له والإنشاء من خصائصه أنه سبب لمدلوله وثبوت خصيصية الشيء يقتضي ثبوته فيكون إنشاء كالطلاق.

·  أنه لفظ يستتبع أحكاما تترتب عليه من التحريم والكفارة وغيرهما فوجب أن يكون إنشاء كالطلاق والعتاق وغير ذلك من صيغ الإنشاء فإن خروج هذا اللفظ عن باب الإنشاء بعيد جدا لا سيما وقد نص الفقهاء على أن له صريحا وكناية كالطلاق وغيره.

أما ما يرد به على هذه الشبه، ويجلي في نفس الوقت حقيقة الظهار، فهو كما يلي:

·  أن كونه طلاقا في الجاهلية لا يقتضي أنهم كانوا ينشئون الطلاق، بل يقتضي ذلك أن العصمة في الجاهلية تزول عند النطق به، وجرت عادتهم أن من أخبر بهذا الخبر الكذب لا تبقى امرأته في عصمته متى التزم بجاهليتهم , وليس في حال الجاهلية ما يأبى ذلك،  بل لعبهم في أحوالهم أكثر من ذلك فقد التزموا أن الناقة إذا جاءت بعشرة من الولد تصير سائبة , فمجاز أن يلتزموا ذهاب العصمة عند كذب خاص , ويقوي هذا الاحتمال القرآن الكريم بقوله تعالى :﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ﴾(المجادلة:2) الآية كما تقدم فإن التكذيب من خصائص الخبر فيكون ظهارهم خبرا كذبا التزموا عقيبه ذهاب العصمة كسائر ملتزماتهم الباطلة , وقد عدها العلماء نحو عشرين نوعا من التحريمات التزموها بغير سبب يقتضيها من جهة الشرائع.

·  دلالة القرآن الكريم في آية الظهار على أنه خبر وليس إنشاء كالطلاق، وتتجلى هذه الدلالة في الوجوه التالية:

الوجه الأول: قوله تعالى :﴿ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ﴾ فنفى تعالى ما أثبتوه، ومن قال لامرأته أنت طالق لا يحسن أن يقال له ما هي مطلقة , وإنما يحسن ذلك إذا أخبر عن تقدم طلاقها ولم يتقدم فيها طلاق فدل ذلك على أن قول المظاهر خبر لا إنشاء.

الوجه الثاني: قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ ﴾ والإنشاء للتحريم لا يكون منكرا بدليل الطلاق , وإنما يكون منكرا إذا جعلناه خبرا فإنه حينئذ كذب والكذب منكر.

الوجه الثالث: قوله تعالى :﴿ وَزُورًا ﴾ والزور هو الخبر الكذب فيكون قولهم كذبا وهو المطلوب, وإذا كذبهم الله في هذه المواطن دل ذلك على أن قولهم خبر لا إنشاء.

الوجه الرابع: قول الله تعالى بعد ذكر الكفارة ﴿ ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ﴾ والوعظ إنما يكون عن المحرمات فإذا جعلت الكفارة وعظا دل ذلك على أنها زاجرة لا ساترة , وأنه حصل هنالك ما يقتضي الوعظ وما ذلك إلا الظهار المحرم فيكون محرما لكونه كذبا فيكون خبرا.

الوجه الخامس: قوله تعالى في الآية ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾والعفو والمغفرة إنما يكونان في المعاصي، فدل ذلك على أنه معصية ولا مدرك للمعصية إلا كونه كذبا، والكذب لا يكون إلا في الخبر فيكون خبرا وهو المطلوب.

·  أن الإجماع على أن الظهار محرم , وليس للتحريم مدرك إلا أنه كذب والكذب لا يكون إلا في الخبر فيكون خبرا فإن قلت الطلاق الثلاث إنشاء وهو محرم فلا يستدل بالتحريم على الخبر قلت: الطلاق محرم لا للفظه بل للجمع بين الطلقات الثلاث من غير ضرورة , وأما تحريم الظهار فلأجل اللفظ وليس في اللفظ ما يقتضي التحريم إلا كونه كذبا ; لأن الأصل عدم غيره , ومتى كان كذبا كان خبرا ; لأن التكذيب من خصائص الخبر.

·  أن الله  تعالى شرع فيه الكفارة , وأصل الكفارة أن تكون زاجرة ماحية للذنب، فدل ذلك على التحريم وإنما يثبت التحريم إذا كان كذبا كما تقدم من بقية التقرير.

·  أن الظهار يترتب عليه تحريم لكن التحريم عقيب الشيء قد يكون ; لأن ذلك الشيء اقتضاه بدلالته عليه كالطلاق مع تحريم الوطء , وهذا هو الإنشاء وقد يكون ترتب التحريم عقب القول أو الفعل لا بدلالة اللفظ عليه، بل عقوبة كما ترتب تحريم الإرث على القاتل عمدا، وترتب التعزير على الخبر الكذب وإسقاط العدالة والعزل من الولاية وغير ذلك من الأحكام، فهذا الترتيب كله بالوضع الشرعي لا بدلالة اللفظ , والإنشاء إنما هو أن يكون ذلك اللفظ وضع لذلك التحريم , ويدل عليه كصيغ العقود فسببية القول أعم من كونه سببا بالإنشاء فكل إنشاء سبب وليس كل سبب من القول إنشاء بدليل ما يترتب على الإخبارات الكاذبة من الأحكام الشرعية.

قال القرافي بعد إيراده للوجوه التي تدل على كون الظهار خبرا لا إنشاء بعكس الطلاق: (فظهر الفرق بين ترتب التحريم على الطلاق وبين ترتبه على الظهار فتأمل ذلك، فإن الجهات مختلفة جدا، ونحن نقول التحريم والكفارة الكل عقوبة على الكذب في الظهار) [14]

أحكام الظهار

مظاهرة الرجل لزوجته

أجمع العلماء على تحريم مظاهرة الرجل لزوجته، بل هو من الكبائر، كما قال ابن عباس - رضي الله عنه - ، بل كما نص الحديث، فهو من قول الزور[15]،ومن الأدلة على ذلك:

·  قوله تعالى:﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾(الأحزاب:4)

·  قوله تعالى:﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُور﴾ ٌ(المجادلة:2)، وقد علل ابن القيم كونه منكرا من القول وزورا بقوله:) الظهار حرام لا يجوزُ الإقدامُ عليه لأنه كما أخبر الله عنه منكر من القول وزور، وكلاهما حرام، والفرقُ بـين جهة كونه منكراً وجهةِ كونه زوراً أن قوله: أنت علي كظهر أمي يتضمنُ إخباره عنها بذلك، وإنشاءه تحريمها، فهو يتضمن إخباراً وإنشاءً، فهو خبر زُورٌ وإنشاءٌ منكر، فإن الزور هو الباطل خلاف الحق الثابت، والمنكر خلاف المعروف، وختم سبحانه الآية بقوله تعالى: ﴿وَإِن اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُور﴾. وفيه إشعار بقيام سبب الإثم الذي لولا عفو الله ومغفرتُه لآخذ به([16]

·  قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير﴾ٌ(المجادلة:3)

·  عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة , قالت: ظاهر مني أوس بن الصامت , فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  أشكو , ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -  يجادلني فيه , ويقول: اتق الله ; فإنه ابن عمك. فما برحت حتى نزل القرآن: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾(المجادلة:1)، فقال: يعتق رقبة. فقلت: لا يجد، فقال- صلى الله عليه وسلم - :فيصوم شهرين متتابعين، قلت: يا رسول الله , إنه شيخ كبير , ما به من صيام، فقال - صلى الله عليه وسلم -: فليطعم ستين مسكينا. قلت: ما عنده من شيء يتصدق به. قال: فإني سأعينه بعرق من تمر. فقلت: يا رسول الله , فإني أعينه بعرق آخر، قال: قد أحسنت , اذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينا , وارجعي إلى ابن عمك[17].

·  عن سلمة بن صخر البياضي , قال: كنت أصيب من النساء ما لا يصيب غيري , فلما دخل شهر رمضان , خفت أن أصيب من امرأتي شيئا يتتابع حتى أصبح , فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان , فبينا هي تخدمني ذات ليلة , إذ تكشف لي منها شيء , فلم ألبث أن نزوت عليها , فلما أصبحت خرجت إلى قومي , فأخبرتهم الخبر , وقلت: امشوا معي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،قالوا: لا والله، فانطلقت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته الخبر , فقال: أنت بذاك يا سلمة ؟، فقلت: أنا بذاك يا رسول الله , وأنا صابر لحكم الله , فاحكم في ما أراك الله، قال: حرر رقبة. قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها. وضربت صفحة رقبتي، قال: فصم شهرين متتابعين، قلت: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام ؟، قال: فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا، قلت: والذي بعثك بالحق , لقد بتنا وحشين , ما لنا طعام، قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق , فليدفعها إليك، قال: فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر , وكل أنت وعيالك بقيتها، فرجعت إلى قومي , فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي , ووجدت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعة وحسن الرأي , وقد أمر لي بصدقتكم[18].

مظاهرة المرأة لزوجها

وهو أن تقول المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي، وقد اختلف الفقهاء في اعتبارها مظاهرة بذلك على قولين[19]:

القول الأول: هو ظهار، وروي ذلك عن الحسن , والنخعي، وهو قول الزهري , والأوزاعي، وروي عن الأوزاعي أنها إذا قالت:) إن تزوجته فهو علي كظهر أبي ([20]كانت مظاهرة , ولو قالت وهي تحت زوج كان عليها كفارة يمين، واستدلوا على ذلك بأنها أحد الزوجين ظاهر من الآخر , فكان مظاهرا كالرجل.

القول الثاني :أنها ليست مظاهرة بذلك، وهو قول أكثر العلماء ،واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قول الله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾(المجادلة:3)، فخصهم بذلك، وفي المدونة: (أرأيت إن ظاهرت امرأة من زوجها , أتكون مظاهرة في قول مالك ؟ قال: لا , إنما قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾(المجادلة:3)ولم يقل واللائي يظاهرن منكن من أزواجهن([21]

·      أنه قول يوجب تحريما في الزوجة , يملك الزوج رفعه , فاختص به الرجل , كالطلاق[22].

·      أن الحل في المرأة حق للرجل , فلم تملك المرأة إزالته , كسائر حقوقه.

·  أن خبر عائشة مخصوص بكونها لم تكن زوجته، قال إبراهيم: لو كانت عنده يعني عند زوجها يوم قالت ذلك ما كان عليها عتق رقبة , ولكنها كانت تملك نفسها حين قالت ما قالت.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أنها ترتبط بجانبين :

·  الجانب التكليفي، وهو الحرمة، وهي لا تختلف في ذلك عن الرجل، لأن كليهما بالتصريح بهذا القول قد قال منكرا من القول وزورا، والحرام من الناحية التكليفية لا يختلف فيه الرجل والمرأة.

·  الجانب الوضعي، أو أثر قولها، وهو عدم ارتباط التكفير بالمعاشرة، لأن الظهار من هذه الناحية خاص بالرجل، فهو حقيقة شرعية يلزم العمل بها في محلها، ولا يصح قياس ما لم يذكره الشرع فيها على ما ذكره.

وإنما ذكرنا هذا التفريق لتصور الكثير بأن عدم الكفارة لا يدل على الحرمة، أو أنه يخفف منها، وهذا غير صحيح، فاليمين الغموس أعظم خطرا من اليمين المعقدة، ومع ذلك أمر الشرع بالكفارة في المعقدة، ولم يأمر بها في الغموس.

حكم الكفارة في ظهار المرأة:

اختلف الفقهاء في لزوم الكفارة على المرأة في حال مظاهرتها لزوجها على الأقوال التالية:

القول الأول: ليس عليها أي كفارة، وهو قول مالك , والشافعي , وإسحاق , وأبي ثور، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أنه قول منكر وزور , وليس بظهار , فلم يوجب كفارة , كالسب والقذف.

·  أنه قول ليس بظهار , فلم يوجب كفارة الظهار , كسائر الأقوال , أو تحريم مما لا يصح منه الظهار , فأشبه الظهار من أمته.

القول الثاني: تلزمها كفارة الظهار، وهو رواية عن أحمد، وقد روي عن أبي يوسف، وعلى هذا القول لا تجب عليها الكفارة حتى يطأها وهي مطاوعة , فإن طلقها , أو مات أحدهما قبل وطئها , أو أكرهها على الوطء , فلا كفارة عليها ; لأنها يمين , فلا تجب كفارتها قبل الحنث فيها , كسائر الأيمان، ومن الأدلة على ذلك: 

·      أن المعني في جانب الرجل تشبيه المحللة بالمحرمة وذلك يتحقق في جانبها والحل مشترك بينهما.

·  أن هذا بمنزلة التحريم منها زوجها على نفسها وتحريم الحلال يمين فتلزمها الكفارة كما لو حلفت أن لا تمكنه من نفسها ثم مكنته.

·  عن الشيباني , قال: كنت جالسا في المسجد , أنا وعبد الله بن مغفل المزني , فجاء رجل حتى جلس إلينا , فسألته من أنت ؟ فقال: أنا مولى لعائشة بنت طلحة , التي أعتقتني عن ظهارها , خطبها مصعب بن الزبير , فقالت: هو علي كظهر أبي إن تزوجته. ثم رغبت فيه بعد , فاستفتت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  وهم يومئذ كثير , فأمروها أن تعتق رقبة وتتزوجه , فأعتقتني وتزوجته.

·      أنها زوج أتى بالمنكر من القول والزور , فلزمه كفارة الظهار كالآخر.

·      أن الواجب كفارة يمين , فاستوى فيها الزوجان , كاليمين بالله تعالى.

القول الثالث: عليها كفارة اليمين، وهو قول عطاء ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أنه بمنزلة من حرم على نفسه شيئا مثل الطعام وما أشبه ذلك.

·      أن مجرد القول من المنكر والزور لا يوجب كفارة الظهار , بدليل سائر الكذب.

·      أنه تحريم لا يثبت التحريم في المحل , فلم يوجب كفارة الظهار , كتحريم سائر الحلال.

·  ما روي عن عائشة بنت طلحة , في عتق الرقبة , يجوز أن يكون إعتاقها تكفيرا ليمينها , فإن عتق الرقبة أحد خصال كفارة اليمين , ويتعين حمله على هذا ; لكون الموجود منها ليس بظهار.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أنها تحتمل الأنظار الثلاثة، سواء من ناحية الأدلة، أو من الناحية المقاصدية المصلحية، أما الأدلة، فيدل على احتمالها لذلك وجود الخلاف حتى من أصحاب المذهب الواحد والتفكير الواحد، ففي الحنفية مثلا عليها كفارة الظهار عند أبي يوسف , وعند محمد لا تصير مظاهرة، ولما حكي قولهما للحسن بن زياد قال: هما شيخا الفقه أخطآ , عليهما كفارة اليمين إذا وطئها زوجها[23].

أما من الناحية المقاصدية، فإن المقصد الشرعي من هذا التغليظ في كفارة الظهارة هو ردع وزجر من يقول ذلك القول الجاهلي، فلذلك شدد في تحريمه، ولكن هذا الردع التوجيهي وحده قد لا يؤثر في بعض النفوس الضعيفة، فلذلك احتاج لزجرها بشيء فيه كلفة، وهو كفارة الظهار، أما في الرجل، باعتباره القوام على الأسرة، فلا شك في التشديد عليه حتى لا يصبح بيت الزوجية لعبة بين يديه.

أما المرأة فلم يرد فيها ما يخصها، فلذلك نرى أنه يمكن الجمع بين الأقوال الثلاثة، بالنظر في أحوال المظاهرة، فإن حصل ذلك منها مرة واحدة كفلتة لسان، فإن ذلك تعذر عليه مع التشديد عليها في التوبة والاستغفار، فإن عادت طولبت بكفارة اليمين، فإن عادت وخشي أن يصبح ذلك عادة فيها شدد عليها بكفارة الظهار، فالمفتي ينظر إلى الأحوال المختلفة ويفتي على أساسها.

المواقف العامة للمذاهب الفقهية من أركان الظهار

 

اختلف الفقهاء في تصنيف أركان الظهار على طريقتين:

الطريقة الأولى: طريقة الحنفية، وهي اعتبار ركن واحد هو اللفظ الدال عليه , وهو التعبير المشتمل على تشبيه الزوجة بامرأة محرمة على الزوج تحريما مؤبدا كأنت علي كظهر أمي أو ما يقوم مقامه , فالظهار لا يقوم إلا بالتعبير المنشئ له عندهم.

الطريقة الثانية: طريقة الجمهور، وقد عدوا اربعة أركان للظهار، وهي. 1 - مشبه وهو الزوج المظاهر. 2 - مشبه وهو الزوجة المظاهر منها. 3 - مشبه به وهو المحرم بطريق الأصالة. 4 - الصيغة.

وسنذكر هنا بناء على رأي الجمهور في تصنيف الأركان أقوال المذاهب الفقهية المشتهرة، وسنفصل ما نحتاجه من مسائل في محلها الخاص بها من هذا المبحث، وننبه هنا كما نبهنا سابقا إلى أن اعتمادنا في سرد هذه المواقف العامة على المعتمد أو المشهور بغض النظر عن الخلافات التي قد توجد في بعض فروع المسائل:

مذهب الحنفية:

من الشروط التي ذكروها لأركان الظهار على طريقة الجمهور في تصنيف الأركان ما يلي[24]:

المظاهر: ويشترط أن يكون مسلماً، فلا يصح ظهار الذمي، وأن يكون عاقلاً، فلا يصح من المجنون والمعتوه، والمغمى عليه، والنائم، أما السكران فيصح ظهاره إن كان متعدياً، وأن يكون بالغاً، فلا يصح ظهار الصبي ولو مميزا، ويصح ظهار المكره، والناسي والخاطئ، والهازل، ويصح من الأخرس بكتابته إن كان يعرف الكتابة وإلا فبإشارته المعهودة.

المظاهر منها: ولها شرط واحد هو أن تكون زوجة، ولو أمة، أما إذا كانت مملوكة، فلا ظهار منها، فيصح الظهار من المجنونة، والعاقلة، والصغيرة، والكبيرة، كما تقدم في الطلاق فهذه شروط المظاهر، والمظاهر منها.

المشبه بها: ويشترط أن تكون امرأة محرمة على التأبيد، فلو شبهها برجل، فإنه لا يكون مظاهراً، سواء كان الرجل قريباً، أو أجنبياً، فلو شبهها بامرأة غير محرمة عليه أو محرمة عليه تحريماً مؤقتاً كأختها، وعمتها، ومطلقته ثلاثاً، أو شبهها بامرأة مجوسية، فإنها وإن كانت محرمة عليه تحريماً ولكن التحريم ليس مؤبداً لجواز أن تسلم فتحل له، ومن المحرمات مؤبداً زوجة الابن، والأب، فإذا شبهها بواحدة منهما كان مظاهراً، ومثله ما لو شبهها بأم امرأة زنى بها، أو ببنتها، فإنه يكون ظهاراً وكذا إذا شبهها بامرأة زنى بها أبوه أو ابنه على الصحيح، وإذا شبهها بعين محرمة غير امرأة، كما إذا قال لها: أنت علي كالخمر، والخنزير، والنميمة، والرشوة ونحو ذلك، فإنه لا يكون ظهاراً، ولو نوى به الظهار، أما إذا نوى به الطلاق فإنه يكون طلاقاً وكذا إذا نوى به الإيلاء.

الصيغة: وهي قسمان: صريحة، وكناية، وتفصيلها عندهم كما يلي:

الصيغة الصريحة: ويشترط فيها أن تشتمل على تشبيه زوجته أو تشبيه جزء يعبر به عنها عرفاً، وذلك بأن يذكر العضو الذي لا يحل النظر في المشبه به، كالرأس، والرقبة، ونحو ذلك، أو تشبيه جزء شائع في بدنها، كنصفها وثلثها، وربعها بعضو يحرم النظر إليه من أعضاء محرمة عليه نسباً، أو رضاعاً، أو صهرية كأن يقول أنت علي كظهر أمي، أو أمك، أو رأسك كظهر أمي، أو بطنها، أو فرجها، أو أمك، أما إذا قال: كرأس أمك لا يصح لأنه يشترط في العضو المشبه به أن يكون من الأعضاء التي لا يحل النظر إليها أو يقول: بضعك كظهر أمي، أو كظهر أختي، أو عمتي، أو كفرج أمي أو أختي، أو كبطنها، أو نحو ذلك، فإنه في كل ذلك يكون مظاهراً، ولو لم ينو به الظهار لأنه صريح، فإن نوى به غير الظهار فإنه لا يصدق قضاء ويصدق ديانة.

صيغة الكناية: ولا يشترط فيها ما شرط في الكناية، ومن أمثلتها، أن يقول: أنت علي مثل أمي، أو كأمي، أو مثل أختي أو نحو ذلك، فإن قال ذلك فإنه لا يكون ظهاراً إلا إذا نوى الظهار، أما إذا نوى تشبيهها بأمه، أو بأخته في كرامتها عليه فإنه لا يقع به شيء، وكذا إذا لم ينو شيئاً أو حذف أداة التشبيه إذا قال لها: أنت أمي فإنه لا يلغو ولا يقع شيء، كما تقدم التعريف.

مذهب المالكية:

وقد نصوا على الشروط التالية[25]:

المظاهر: ويشترط أن يكون مسلماً، فلا يصح من ذمي، فلو أسلم بعد ظهاره لم يعامل به، وكذا إذا تحاكما إلينا فإننا لا نقضي بينهما فيه، وأن يكون مكلفاً فلا يصح ظهار الصبي، والمجنون والمغمى عليه والنائم، والسكران بشيء حلال، أما السكران بمحرم، فإن ظهاره يقع كطلاقه، وأن يكون مختاراً فلا يصح ظهار المكره، ويصح الظهار من المجبوب، ومقطوع بعض الذكر أو العنين على المعتمد، لأنه يمكنه الاستمتاع بغير الجماع.

المظاهر منها: ويشترط فيها أن تكون ممن يحل له وطؤها، سواء كانت زوجة، أو أمة، وسواء كانت صغيرة عاقلة أو مجنونة ولو كانت رتقاء أو قرناء أو غير ذلك من العيوب.

المشبه به: وهو ثلاثة أنواع:

·  أن تكون محرماً من محارمه بحيث لا يحل له نكاحها بنسب أو رضاع أو مصاهرة، وهذه يكون التشبيه بها ظهاراً على كل حال سواء كان بها جميعها أو بظهرها أو بجزء منها، ولو كان جزءاً غير ثابت كالشعر والظفر والريق إلا أنه إن كان بظهرها كان صريحاً وإلا كان كناية فلا يلزم إلا بالنية كما ستعرفه.

·  أن تكون أنثى أجنبية، وهذه يشترط في صحة ظهارها أن يكون التشبيه بظاهرها بخصوصه، وأن ينوي به الظهار وإلا فلا ظهار، ومثل الأجنبية في ذلك من تأبد عليه تحريمها بلعان، أو طلاق ثلاث، فإن التشبيه بظهور يكون كناية لا صريحاً.

·  التشبيه بظهر رجل، وفيه خلاف، والمشهور أنه ظهار، ولا بد فيه من التشبيه بالظهر وأن ينوي به الظهار.

صيغة الظهار: وتنقسم قسمين:

صريح الظهار: ويشترط لتحققه أن يكون المشبه به محرماً من المحارم، وأن يكون التشبيه بالظهار خاصة، كأن يقول لها: أنت علي كظهر أمي، أو كظهر أختي، أو كظهر عمتي أو خالتي، أو كظهر أمك، أو أختك، أو نحو ذلك من المحرمات عليه بنسب أو رضاع، أو مصاهرة، واختلفوا في التشبيه بظهر المحرمة عليه بلعان أو بطلاق ثلاث، واختلفوا فيما لو  نوى بالظهار الصريح الطلاق، فبعضهم يقول إنه لا يصح بل تلغى نية الطلاق، ويعامل بالظهار فقط، قضاء وإفتاء، وبعضهم يقول: بل يعامل بالظهار في الإفتاء فقط، وأما في القضاء فإنه يعامل بهما معاً، بحيث ينظر إلى العظة فيحكم عليه بالظهار، وينظر إلى نيته فيحكم عليه بالطلاق الثلاث، بحيث لو تزوجت غيره ورجعت إليه فلا يحل له أن يطأها، حتى يخرج كفارة الظهار.

كناية الظهار: وهي إما أن تكون خفية أو ظاهرة:

الخفية: وهي كل كلام نحو اذهبي، وقومي، وكلي واشربي ونحو ذلك ويشترط في صحة الظهار بمثل هذا أمران: أن ينوي الظهار، وأن لا يكون صريح طلاق أو يمين باللّه، فإذا قال لها: أنت طالق ونوى الظهار فإنه لا يصح ويلزم بالطلاق، وكذا إذا قال واللّه لا آكل مثلاً، ونوى به الظهار فإنه لا يصح.

الظاهرة: وهي أن يكون التشبيه بغير الظهر، وأن تكون المشبه بها محرماً من المحارم كأن يقول لامرأته: أنت علي كأمي، أو أنت أمي، أو أن يكون التشبيه بالظهر، وأن تكون المشبه بها أجنبية، كأن يقول لامرأته: أنت علي كظهر فلانة الأجنبية، ويشترط في صحة الظهار بالأمرين أن ينوي الظهار، فإن نوى الطلاق، فإن كانت مدخولاً بها لزمه الثلاث، ولو لم ينو العدد أو نوى أقل، وإن كانت غير مدخول بها فإنه يلزمه الثلاث ما لم ينو أقل، فإنه يلزم ما نواه.

فإذا لم يذكر لفظ الظهر، أو لفظ الأم، أو نحوها من المحارم، بل قال: أنت كفلانة الأجنبية ونوى به الطلاق، فإنه يلزمه الثلاث في المدخول بها وغيرها، ولكن إن نوى أقل من الثلاث في غير المدخول بها فإنه يصدق، فإن قال، إنه نوى بقوله: أنت كفلانة الأجنبية الظهار صدق ديانة ويلزمه الظهار فقط في الفتوى، أما في القضاء فإنه يلزمه الظهار والطلاق الثلاث في المدخول بها، وفي غيرها إلا أنه يعامل بنيته في غير المدخول بها إن ادعى أنه نوى أقل من الثلاث، فإذا قضي بطلاقها ثلاثاً ثم تزوجت غيره وعادت له فإنه لا يحل له وطؤها حتى يخرج كفارة الظهار.

وإذا قال لها أنت علي كابني، أو كغلامي ناوياً به الظهار فإنه يلزمه به الثلاث، ولا يكون ظهاراً على المعتمد، أما إذا قال: أنت علي كظهر ابني ناوياً به الظهار فإنه يكون ظهاراً ومثل ذلك ما إذا قال لها: أنت علي ككل شيء حرمه الكتاب فإن الكتاب قد حرم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وهذه يلزم بها الثلاث في المدخول بها لغيرها، إلا أن ينوي أقل من الثلاث في غير المدخول بها.

تقييد الصيغة: كما تكون الصيغة منجزة تكون معلقة، فإذا علق ظهارها على مشيئتها أو مشيئة شخص غيرها، كأن قال لها: أنت علي كظهر أمي إن شئت أو إن رضيت، فإن يصح، ولا يقع الظهار إلا إذا شاءت الظهار ورضيت به، ولا يسقط حقها في ذلك أما إذا وقفت ولم تقض برد أو إمضاء فإن للحاكم أن يبطل خيارها في هذه الحالة، وإن علقه بشيء محقق كأنت علي كظهر أمي بعد سنة، أو إن جاء رمضان، فإنه يلزمه حالاً، وإن قال، أنت علي كظهر أمي في هذا الشهر تأبد الظهار ولا ينحل إلا بالكفارة، وإذا قال لها: أنت علي كظهر أمي إن لم أتزوج عليك فلانة، فإنه يكون مظاهراً عند اليأس من الزواج، إما بموت فلانة التي عينها أو بعجزه عن الوطء، أو عند عزمه على عدم الزواج، وإذا قال لها: أنت علي كظهر أمي إن دخلت دار أبيك وأرادت أن تدخل فإنه لا يصح له إخراج الكفارة قبل دخولها.

مذهب الشافعية:

ومن الشروط التي ذكروها[26]:

المظاهر: وييشترط كونه زوجاً، ولو مجبوباً، أو عنيناً، أو خصياً، أو نحو ذلك، فلا يصح الظهار من الأمة المملوكة ولا من امرأة أجنبية لم يتزوجها وإن تزوجها لم يقع الظهار، وكونه عاقلاً، فلا يصح من المجنون ونحوه، وكونه مختاراً، فلا يصح من مكره، وبالجملة فكل من يصح طلاقه يصح ظهاره، قال الشافعي:)يلزم الظهار من لزمه الطلاق ويسقط عمن سقط عنه([27]

المظاهر منها: ويشترط أن تكون زوجة، ولو أمة، أو صغيرة، أو مجنونة أو مريضة، أو رتقاء، أو قرناء، أو كافرة، أو مطلقة طلاقاً رجعياً، وخرج بذلك الأجنبية ولو كانت مطلقة طلاقاً بائناً، فلو قال لأجنبية: إذا تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، ثم تزوجها فإنه لا يصح ظهاره وكذا إذا قال لأمته: أنت علي كظهر أمي فإنه لا يصح إلا إذا عقد عليها.

المشبه بها: ويشترط فيها أن تكون أنثى فإذا شبه بظهر ذكر قريب أو بعيد فإنه يكون لغواً، لأنه ليس محلاً للاستمتاع، ومثله الخنثى، وأن تكون من محارمه التي لا يحل له نكاحها بنسب، كأمه وأخته، وبنته، أو برضاع كمرضعته، أو مرضعة أبيه، أو مصاهرة، كأم زوجته، أو بنتها، أن لا تكون له حلالاً من قبل، كامرأة أبيه التي تزوجها قبل ولادته. أو مع ولادته، أما التي تزوجها بعد ولادته فإنها كانت حلالاً له قبل أن يتزوجها أبوه ومثله زوجة ابنه فإنها كانت حلالاً له قبل أن يتزوجها ابنه، ومطلقته ثلاثاً، ومن حرمت عليه مؤبداً بسبب اللعان، فإن التشبيه بهن لا يكون ظهاراً، لأنهن كن حلالاً له من قبل.

ويصح التشبيه بجميع المرأة، أو بجزئها، ولكن يشترط في الجزء أن يكون من الأجزاء الظاهرة، كاليد والرأس والعين. أما التشبيه بجزء من الأجزاء الباطنة التي لا يمكن الاستمتاع بها، سواء من المشبه، أو المشبه به، كالقلب، والكبد، ونحوهما، فإنه لا يكون ظهاراً. فإذا قال لامرأته: كبدك كظهر أمي، أو رأسك كقلب أمي فإنه لا يكون ظهاراً وكذا يشترط أن لا يكون الجزء فضلة، كاللبن والريق، والمني، ونحو ذلك، فلو شبه ريقها بظهر أمه فإنه لا يصح أما الأجزاء الزائدة فإنه يصح الظهار بتشبيهها أو التشبيه بها كالظفر، والشعر والسن.

ولا يصح الظهار من الأجنبية، فإنه إذا شبهها بها، أو بظهرها فلا يكون ظهاراً.

الصيغة: ويشترط كونها لفظاً يشعر بالظهارة، وتنقسم إلى قسمين:

صريحة: وهي ما اشتهر استعمالها في معنى الظهار كقوله أنت علي كظهر أمي، أو رأسك علي كظهر أمي، أو يدها، أو رأسها.

كناية: وهي غير الصريحة، كقوله: أنت كأمي، أو كعينها، أو نحو ذلك مما يستعمل في الظهار وفي الإعزاز والكرامة، وهي لا يقع بها الظهار إلا بالنية، فإذا قال لها: أنت علي حرام كما حرمت أمي، فإنه يصح أن يكون كناية ظهار إذا نواه، ويصح أن يكون كناية طلاق إذا نوى الطلاق.

تقييد الصيغة: يصح توقيت الظهار بوقت معين قليلاً كان أو كثيراً، فإذا قال لها: أنت علي كظهر أمي يوماً، أو شهراً فإنها تحرم عليه في الوقت الذي عينه بحيث لو وطئها في المدة بإيلاج حشفته وجبت عليه الكفارة، وإذا قال: واللّه أنت علي كظهر أمي ثم وطئها في المدة لزمه كفارتان: كفارة للظهار وكفارة لليمين.

ويصح تعليق الظهار، فإذا قال: إن ظاهرت من ضرتك فأنت علي كظهر أمي، ثم ظاهر من ضرتها كان مظاهراً منهما معاً.

مذهب الحنابلة:

ومن الشروط التي ذكروها[28]:

المظاهر: ويشترط أن يكون رجلاً، فلا يصح ظهار المرأة، وأن يكون بالغاً، فلا يصح ظهار الصبي، سواء كان مميزاً أو لا، وبعضهم يقول: يل يصح ظهار المميز الذي يعقل معنى الظهار، كما يصح طلاقه، وأن يكون عاقلاً فلا يصح ممن زال عقله بجنون أو إغماء أو نوم، أو شرب دواء مسكر، أما إذا شرب حراماً فإنه يقع، كما تقدم، وأن يكون مختاراً، فلا يصح ظهار المكره، ولا يشترط الإسلام، فيصح ظهار الكافر، لأنه تجب عليه الكفارة، ويصح من العبد، ومن المريض.

المظاهر منها: ويشترط أن تكون زوجة، فلا يصح الظهار من الأجنبية، إلا إذا علقه على زواجها، كأن قال: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، فإنه إذا تزوجها لزمه الظهار، ولا يصح له أن يطأها قبل الكفارة، ولا يصح الظهار من الأمة الموطوءة بملك اليمين، إلا إذا عقد عليها، فإنها تصير زوجة، فإذا ظاهر من أمته المملوكة لزمته كفارة يمين لا كفارة ظهار، ومتى كانت زوجته فإنه يصح الظهار منها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، حرة أو أمة، مسلمة أو ذمية وطؤها ممكن أو غير ممكن.

المشبه به: ويشترط أن يكون التشبيه به نفسه أو بعضو من أعضائه الأصلية، أما الأعضاء الزائدة، كالشعر، والسن، والريق، والمني، والظفر، والدم والعرق والدمع والروح، فإن التشبيه بها لا يكون ظهاراً، فلو قال: شعرك علي كظهر أمي لا يصح الظهار، وهكذا.

ولا يشترط أن يكون المشبه امرأة، بل يصح أن يكون رجلاً، لأن الغرض هو تشبيهها بمن لا يحل وطؤه سواء كان رجلاً أو امرأة، وإذا شبه بأنثى فلا يلزم أن تكون من محارمه على التأبيد، فيصح أن يشبه بأمه وأخته، كما يصح أن يشبه بأخت امرأته، وعمتها وخالتها، وكذا يصح أن يشبه بظهر الأجنبية.

الصيغة: ويشترط فها أن تؤدي معنى الظهار وتستعمل فيه، فلو قال أنا مظاهر فإنه يكون لغواً، لأن هذه ليست صيغة ظهار، ومثله ما لو قال: وجهي من وجهك حرام. فإنه ليس بظهار، وتنقسم صيغة الظهار إلى قسمين:

الصيغة الصريحة: وهي ما كان ظاهراً في معنى الظهار نحو: أنت علي كظهر أمي، أو أنت مني مثل أمي، أو أنت علي كأمي، لأن التشبيه بأمه كالتشبيه بعضو منها، بل هو زائد، فإن ادعى أنه أراد التشبيه بها في الكرامة فإنه يسمع منه قضاء لأن اللفظ وإن كان ظاهراً في معنى الظهار، ولكنه يحتمل هذا المعنى الذي ادعاه.

صيغة الكناية: وهي أن يكون اللفظ غير ظاهر الاستعمال في الظهار، كأن يقول لامرأته: أنت أمي، ولم يقل: علي مثل أمي، أو يقول لها: أنت كأمي، ولم يقل: علي أو مني، أو يقول: أنت مثل أمي، ولم يقل: علي أو يقول: امرأتي، فإن كل هذا لا يقع به الظهار إلا إذا نواه أو تقوم قرينة على إرادة الظهار، وإذا قال أمي امرأتي، أو أمي مثل امرأتي فإنه لم يكن مظاهراً لأن اللفظ لا يصلح للظهار على أي حال.

وإذا قال علي الظهار، أو علي الحرام أو الحرام لازم لي، أو أنا عليك حرام، أو أنا عليك كظهر رجل، فإن كل هذا يصح أن يكون كناية في الظهار، فلا يلزم إلا بالنية.

تقييد الصيغة: يصح تقييد الظهار كقوله: إن دخلت دار أبيك فأنت علي كظهر أمي، فمتى دخلت الدار صار مظاهراً، وكذا قال لها: أنت علي كظهر أمي إن شئت، أو شاء زيد فمتى شاء زيد صار مظاهراً، وكذا يصح مطلقاً وموقتاً، كأن يقول: أنت علي كظهر أمي شهراً، أو شهر رمضان، فإذا انقضى الوقت المحدد حلت له بدون كفارة. فإن وطئها في المدة لزمته الكفارة. وإذا قال إن شاء اللّه انحل الظهار لأنها يمين.

مذهب الزيدية:

من الشروط التي ذكروها[29]:

المظاهر: وهو كل زوج بالغ عاقل، فلا يصح من الصبي والمجنون ظهارهما، مختار، فلا يصح من المكره ما لم ينوه، مسلم ولو عبدا فلا يصح من الكافر، ويصح من السكران لأن الكفارة لا تصح منه وهي الرافعة للتحريم.

المظاهر منها: وهي الزوجة، فلا يصح من المرأة مظاهرة الرجل، ولا يصح من الرجل مظاهرة الأجنبية، ولو كان وكيلا فلا يصح التوكيل بالظهار، ولا التمليك لأنه محظور , ولا يصح مظاهرة مملوكته وأم ولده ويشترط أن تكون الزوجة تحته، فلا يصح مظاهرة المطلقة ولو رجعيا والمفسوخة , ومن قال إن الطلاق يتبع الطلاق صحح ظهار المعتدة من الرجعي. ويصح الظهار لزوجة تحته، كيف كانت سواء كانت كبيرة أم صغيرة ولو حملا حرة أم أمة مدخولة أم غير مدخولة ممن تصلح للجماع أم لا.

الصيغة:

الصيغة الصريحة: وهي أن يقول الزوج لزوجته: ظاهرتك أو أنت مظاهرة، فهذان  صريحان في الظهار، أو يشبهها جميعها بجزء من أمه كأنت علي كظهر أمي أو قال أنت كظهر أمي بحذف حرف الصلة أو جزءا منها معلوما أو غير معلوم بجزء من أمه نسبا، فإنه صريح في الظهار ولو كانت الأم ميتة; ويقع الظهار الصريح بأن يشبهها بجزء من أمه مشاع نحو أن يقول: أنت علي كنصف أمي أو كربعها أو نحو ذلك، أو عضو كيد أو فخذ أو رجل , مثال ذلك أن يقول: أنت علي كفخذ أمي أو يدها أو نحو ذلك، بشرط أن يكون متصلا احترازا من المنفصل كاليد المبانة والرجل ونحوهما فلا يقع به الظهار لو قال كيد أمي المبانة , أو يدك المبانة علي كيد أمي وقد أبينت يد زوجته , وكذا لا يقع لو شبهها بالدم والريق من أمه ونحوهما , إلا أن يشبهها بالروح فيقع الظهار لأن الروح كالعضو. وعلى الجملة فما لا يصح إيقاع الطلاق عليه من أجزائها لا يصح إيقاع الظهار عليه.

ولو شبهها بجزء من أمه لا تحله الحياة، كالظفر والسن ونحوهما فإنه يقع - بذلك التشبيه - الظهار , ويعتبر أن يكون المشبه والمشبه به متصلا في كليهما تحله الحياة أيضا لا بعد انفصاله فإنه لا يقع به التحريم.

صيغة الكناية: وهي أن يقول أنت علي كأمي أو مثلها أو في منازلها، أو أنت علي  حرام فيشترط النية في جميع هذه الألفاظ , فإن نوى به الظهار كان ظهارا، وإن لم ينوه لم يكن ظهارا, وهذا بخلاف الصريح ففي الصريح إذا لم ينو شيئا كان ظهارا وهنا لا يقع شيء إلا في لفظ التحريم يكون يمينا حيث لم ينو شيئا.

وصريح الظهار وكنايته كلاهما كناية طلاق، لا العكس، فإذا نوى بأيهما الطلاق كان طلاقا لكن في الصريح لا يسقط عنه حكم الظهار في ظاهر الحكم إن لم تصادقه الزوجة , فأما بينه وبين الله تعالى فيسقط.

تقييد الصيغة: يصح عندهم توقيت الصيغة نحو أن يقول أنت علي كظهر أمي شهرا أو نحو ذلك فإنه يصير مظاهرا ويرتفع حكمه بانقضاء الوقت أو بالكفارة قبله ويصح أن يظاهر في النهار دون الليل ولا تطالبه بالليل وكذا العكس , وله أن يطأها في الوقت الذي لم يظاهر فيه. ويصح أن تتقيد بالشرط، فيوقف على حصول ذلك نحو أن يقول: إن جاء زيد فأنت علي كظهر أمي فإنه متى جاء زيد وهي غير مطلقة أو مفسوخة صار مظاهرا وإلا فلا , ويستخدم هذا في بعض الحيل عندهم، فيطلقها رجعيا قبل حصول الشرط، وهو مجيء زيد، وكيفية الحيلة عندهم هي:) إن كان الشرط بكلما فعلت كذا فأنت مظاهرة فالحيلة في رفعه على أصل المذهب أن يقول: أنت طالق قبيل أن يقع عليك الظهار المشروط، فيتمانعان فلا يقع ظهار ولا طلاق , وكذا إذا كان الشرط بغير كلما فالحكم واحد ([30]

ويصح أن يقيد الظهار بالاستثناء، نحو أن يقول أنت علي كظهر أمي إلا أن يجيء زيد أو إلا أن يكره أبوك أو نحو ذلك ففي الصورتين لا يكون مظاهرا إلا بتحقق عدم المستثنى فإن تحقق العدم صارت مظاهرة من يوم الإيقاع بطريق الانكشاف إلا حيث قيده بمشيئة الله تعالى في الإثبات، نحو أن يقول أنت علي كظهر أمي إن شاء الله لم يصح الظهار، لأنه علقه بمشيئة الله تعالى وهو لا يشاء لكونه محظورا.

مذهب الإمامية:

من الشروط التي نصوا عليها في أركان الظهار[31]:

المظاهر: ويشترط فيه البلوغ , وكمال العقل , والاختيار ،والقصد، فلا يصح ظهار الطفل , ولا المجنون , ولا المكره , ولا فاقد القصد بالسكر والإغماء أو الغضب.

المظاهرمنها: ويشترط أن تكون منكوحة بالعقد الدائم، فلا تقع على الأجنبية , ولو علقه على النكاح، وأن تكون طاهرا طهرا , لم يجامعها فيه , إذا كان زوجها حاضرا وكان مثلها تحيض، ولو كان غائبا صح , وكذا لو كان حاضرا , وهي يائسة , أو لم تبلغ  وفي اشتراط الدخول تردد , والمروي اشتراطه , وفيه قول آخر مستنده التمسك بالعموم وهل يقع بالمستمتع بها ؟ فيه خلاف , والأظهر الوقوع. وفي الموطوءة بالملك , تردد والمروي أنه يقع كما يقع بالحرة ومع الدخول يقع. ولو كان الوطء دبرا , صغيرة كانت أو كبيرة , مجنونة أو عاقلة، وكذا يقع بالرتقاء والمريضة التي لا توطأ.

الصيغة: وهي أن يقول: أنت علي كظهر أمي، وما شاكله من الألفاظ الدالة على تميزها، ولا عبرة باختلاف ألفاظ الصفات , كقوله: أنت مني أو عندي، ولو شبهها بظهر إحدى المحرمات , نسبا أو رضاعا , كالأم أو الأخت , فيه روايتان , أشهرهما الوقوع، ولو شبهها بيد أمه , أو شعرها أو بطنها , قيل لا تقع اقتصارا على منطوق الآية, وبالوقوع رواية فيها ضعف، أما لو شبهها بغير أمه , بما عدا لفظة الظهر لم يقع قطعا.

مذهب الإباضية:

من الشروط التي نصوا عليها في أركان الظهار[32]:

المظاهر: وهو كل مكلف، فيصح ظهار المكره على الظهار بقتل أو ما يؤدي لموت , أو إتلاف عضو , فلو ظاهر لزمه , وقيل: ليس مكلفا بحكم الظهار حينئذ، ويصح ممن عجز عن الجماع كالشيخ الفاني والمجبوب والمستأصل والعنين والمفتول , وقيل: لا يلزمهم الإيلاء ولزمهم الظهار , وقيل: لا يلزم أيضا لعدم إمكان وطئهم وهو متروك , والعبد يصح ظهاره إذا ظاهر بإذن سيده أو سيدته , أو ظاهر فأجاز له سيده أو سيدته , فلا يصح في غير ذلك، ولزم الظهار ولو مريضا أو محرما أو معتكفا في رمضان.

ولا يصح من الطفل والمجنون فلا ظهار لهما , وقيل: يصح ظهار من ناهز البلوغ.

المظاهر منها: وهي كل أنثى تحل له نكاحا أو تسريا، على أن الظهار يقع بالسرية إن كانت بالتسري فلا وقت له , غير أنه لا يمسها حتى يكفر , وإن مسها قبل التكفير حرمت عليه , وإن لم يجد أمة ولا عبدا سواها أعتقها , ولا يجزئه الصوم أو الإطعام , وقيل: يجزئه الصيام , وإن لم يستطعه فالإطعام وهو الصحيح , لأن الكفارة شرعت حفظا للزوجة , والسرية إذا عتقت خرجت عن حكم التسري ولم تحل إلا بنكاح عن رضاها.

المشبه به: وهو كل ظهر محرم ذكرا أو أنثى , فيشمل كل من كان حراما ولو بزنى أو شرك, ودخل بذلك الأم وغيرها من ذوات المحارم.

الصيغة: وهي تشمل كل عضو منها أو بطنها أو شعرها , فقال: هو علي كظهر أمي , أو أنك علي كهذا العضو من أمي , ولو بائنا , أو إلى عضو منه , فقال: أنت علي  كظهر أمي , أو قال: عضوك هذا على عضوي هذا كهذا العضو من أمي فظهار , لا إن قصد إلى بائن من امرأته فقال: عضوك هذا علي كظهر أمي , وإن ألزقه بجسدها فالتصق ففي كونه ظهارا قولان , وكذا في: أنت علي كمثل أمي , قولان أيضا.

مذهب الظاهرية:

وهو أكثر المذاهب تخفيفا في الظهار، بحيث لا يكاد يقع عندهم، وقد عبر ابن حزم عن فروع مذهبه في ذلك بهذه الخلاصة الشاملة الموجزة، قال:) من قال من حر , أو عبد لامرأته , أو لأمته التي يحل له وطؤها: أنت علي كظهر أمي , أو قال لها: أنت مني بظهر أمي , أو كظهر أمي , أو مثل ظهر أمي ؟ فلا شيء عليه , ولا يحرم بذلك وطؤها عليه , حتى يكرر القول بذلك مرة أخرى... فإن أقدم أو نسي فوطئ قبل أن يكفر بالعتق أو بالصيام أمسك عن الوطء حتى يكفر , ولا بد، فإن عجز عن الصيام فعليه أن يطعم ستين مسكينا متغايرين شبعهم. ولا يحرم عليه وطؤها قبل الإطعام , ولا يجب شيء مما ذكرنا إلا بذكر ظهر الأم، ولا يجب بذكر فرج الأم , ولا بعضو غير الظهر , ولا بذكر الظهر أو غيره من غير الأم, لا من ابنة , ولا من أب , ولا من أخت , ولا من أجنبية , والجدة أم ([33]

وقد لخص أدلته بنفس الوجازة التي لخص بها مذهبه، فقال بعد ذكره لآيات الظهار:) فهذه الآية تنتظم كل ما قلناه , لأن الله تعالى لم يذكر إلا الظهر من الأم , ولم يوجب تعالى الكفارة في ذلك إلا بالعود)[34]

أركان الظهار وشروطها

بناء على ما ذكرنا في المطلب السابق من مواقف المذاهب الفقهية المشتهرة حول أركان الظهار وشروطه، فسنفصل هنا في هذا المطلب أهم المسائل، وخاصة مواضع الخلاف فيها، وقد ذكرنا في هذا المطلب أربعة أركان هي:

الركن الأول: المظاهر

اتفق الفقهاء على أنه يشترط في المظاهر أن يكون عاقلا إما حقيقة أو تقديرا، فلا يصح ظهار المجنون والصبي الذي لا يعقل ; لأن حكم الحرمة وخطاب التحريم لا يتناول من لا يعقل، ويدخل في ذلك ما ذكرناه فيمن يقع منه الطلاق أن لا يكون معتوها ولا مدهوشا ولا مبرسما ولا مغمى عليه ولا نائما، فلا يصح ظهار هؤلاء كما لا يصح طلاقهم، وقد اختلف الفقهاء في بعض المسائل، كما مر بيانه في المواقف العامة للمذاهب الفقهية، ومن تلك المسائل:

إسلام المظاهر:

اختلف الفقهاء في اشتراط كون المظاهر مسلما على قولين[35]:

القول الأول: إسلام المظاهر ليس بشرط لصحة الظهار، بل يصح ظهار غير المسلم، وممن نسب لهم ابن قدامة هذا القول بناء على موقفهم من أنكحة الكفار، قال:) وأنكحة الكفار تتعلق بها أحكام النكاح الصحيح , من وقوع الطلاق , والظهار , والإيلاء , ووجوب المهر , والقسم , والإباحة للزوج الأول والإحصان , وغير ذلك، وممن أجاز طلاق الكفار , عطاء , والشعبي , والنخعي , والزهري , وحماد , والثوري , والأوزاعي , والشافعي , وأصحاب الرأي([36] 

وقد نص على أنه لو ارتد الزوج فطلقها في حال ردته أو آلى منها أو تظاهر أو قذفها في عدتها أو كانت هي المرتدة ففعل ذلك وقف على ما فعل منه، فإن رجع إلى الإسلام وهي في العدة وقع ذلك كله عليها[37]، ومن الأدلة على ذلك:

·  عموم قوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾(المجادلة:3)، فقد وردت من غير فصل بين المسلم والكافر.

·  أن الكافر من أهل الظهار ; لأن حكمه الحرمة , والكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات , ولهذا كان أهلا للطلاق فكذا للظهار.

·  أن الله تعالىأضاف النساء إليهم فقال:﴿ وامرأته حمالة الحطب ﴾، وقال: ﴿ امرأة فرعون﴾، وحقيقة الإضافة تقتضي زوجية صحيحة، وإذا ثبت صحتها , ثبتت أحكامها , كأنكحة المسلمين، فإن آلى , ثبت حكم الإيلاء ; لقوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾(البقرة:226)

القول الثاني: عدم اعتبار هذا الشرط، وهو قول الجمهور، ومن الأدلة على ذلك:

·  أن عمومات النكاح لا تقتضي حل وطء الزوجات على الأزواج نحو قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ (المؤمنون:5 ـ 6)، وقوله تعالى ﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾(البقرة: من الآية223)، والظهار لا يوجب زوال النكاح والزوجية; لأن لفظ الظهار لا ينبئ عنه ولهذا لا يحتاج إلى تجديد النكاح بعد الكفارة.

·      أن آية الظهار تتناول المسلم للوجوه التالية:

الوجه الأول: أن أول الآية خاص في حق المسلمين وهو قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ ﴾(المجادلة: من الآية2) فقوله تعالى :﴿ منكم ﴾ كناية عن المسلمين، ويدل على ذلك قوله تعالى بعدها:﴿ إن الله لغفور رحيم ﴾، والكافر غير جائز المغفرة. أما قوله تعالى:﴿ والذين يظاهرون من نسائهم﴾، فهو مبني على الأول.

الوجه الثاني: أن فيها أمرا بتحرير يخلفه الصيام إذا لم يجد الرقبة والصيام يخلفه الطعام إذا لم يستطع، وكل ذلك لا يتصور إلا في حق المسلم.

الوجه الثالث: أن المسلم مراد من هذه الآية بلا شك، لأن العام يبنى على الخاص ومتى بني العام على الخاص خرج المسلم من عموم الآية ولم يقل به أحد.

·  أن المقصود بالكفارة التكفير والتطهير والكافر ليس بأهل له، وما فيه من الشرك أعظم من الظهار بخلاف الحدود فالمقصود هناك الخزي والنكال.

·  أن الكفارة إنما تصح في حق من جاء تائبا مستسلما لحكم الشرع كما فعله ماعز - رضي الله عنه - لأن معنى العبادة يترجح في الكفارة ،لهذا تتأدى بالصوم الذي هو محض عبادة، ولا يتأدى إلا بنية العبادة، والكافر ليس بأهل للعبادة.

·      أن المسلم صار مخصوصا , فمن ادعى تخصيص الذمي يحتاج إلى الدليل.

·  أن حكم الظهار حرمة مؤقتة بالكفارة، أو بتحرير يخلفه الصوم، والكافر ليس من أهل هذا الحكم، فلا يكون من أهل الظهار.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، سواء قلنا بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو غير مخاطبين، لأن علاقتنا بالكفار من ناحية الدعوة هو إقناعهم بأصول الدين لا حثهم على تطبيق فروعه، لعدم صحتها منهم حتى لو طبقوها.

وفي حال إسلام الكفار، فإن الأصلح في حقهم والأوفق بمقاصد الشريعة عدم إرهاقهم بالتكاليف التي ترتبت على ما سبق من كفرهم حتى لا يكون ذلك حائلا بينهم وبين الإسلام.

حرية المظاهر:

اتفق الفقهاء[38] على عدم اشتراط الحرية للمظاهر، وإذا كان المظاهر عبدا , لم يكفر إلا بالصيام , وإذا صام , فلا يجزئه إلا شهران متتابعان; وحكي هذا عن الحسن , وأبي حنيفة , والشافعي، ورواية عن أحمد[39] ,، ومن الأدلة على ذلك:

·      أن الظهار تحريم والعبد من أهل التحريم، لأنه يملك التحريم بالطلاق، ومثله الظهار.

·      عموم قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾(المجادلة:3)

·  أن الشرع لم يجعل حكم الظهار التحرير على الإطلاق، بل جعل حكمه في حق من وجد، فأما في حق من لم يجد فإنما جعل حكمه الصيام بقوله تعالى:﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾ (المجادلة:4) والعبد غير واجد ; لأنه لا يكون واجدا إلا بالملك, والعبد ليس من أهل الملك فلا يكون واجدا فلا يكون الإعتاق حكم الظهار في حقه، ومثله الإطعام إذ الإطعام على وجه التمليك أو الإباحة , والإباحة لا تتحقق بدون الملك، فلا يجزيه في الكفارة إلا الصيام وليس لمولاه أن يمنعه من صيام الظهار.

وقد اختلف قول المالكية في المسألة على آراء متعددة منها[40]:

الرأي الأول:  أن له أن يعتق بغير إذن وليه إن كان مليا , وإن لم يكن له إلا رأس لم يستحب له إلا الصيام وهو رواية ابن وهب، وهو مبني على أصلين هما:

·  أن ما تقرر وجوبه بالشرع من حقوق الله ليس مصروفا أداؤه إلى إذن الولي , فإذا أخرجه المولى عنه نفذ إخراجه وأجزأ عنه كزكاة ماله.

·  أن منع الولي من العتق على وجه صحيح من النظر يقوم مقام عدم الرقبة في جواز الانتقال إلى الصوم.

الرأي الثاني: لا يجزئه إلا العتق إن كان له مال , فإن لم يكن له مال صام  ولا يمنع من الصوم , فإن أبى فهو مضار، وهو قول أصبغ في الموازية.

الرأي الثالث: يرفع ذلك إلى السلطان , فإن رأى العتق خيرا له من فراق أهله أعطاه رقبة يكفر بها , وإن رأى ذلك خيرا فرق بينه وبين امرأته ولا يصوم، وهو رواية ابن نافع عن مالك، وهو مبني على أن للسلطان النظر في ذلك لما كان الخروج عن هذا الحق يصح بوجهين كان له النظر في أرشدهما , وعلى أن منع السلطان من العتق لا يبيح الانتقال إلى الصوم مع وجود الرقبة, وإنما له النظر في أرشد الأمرين: العتق عنه أو الطلاق عليه.

ونرى ان ذلك يختلف باختلاف حال العبد وحال سيده، ولا شك في صحة التكفير إن حصل بإذن السيد لما قصد له الشرع من المصالح في تحرير الرقيق، وقد ذكرنا في مواضع مختلفة أن مثل هذه المسائل لا ينبغي أن تطرح من كتب الفقه، لأن الحاجة قد تستدعي لوجودها في أي وقت من الأوقات، بل إن مثل هذه المسائل من مفاخر التشريع الإسلامي، فلم نسمع عن شريعة يفتي علماؤها بتدخل الحاكم ليكفر عن ظهار عبد، وذلك بإعطائه رقبة يعتقها ويكفر بها عن فعل من كسبه وقع باختياره.

الركن الثاني: المظاهر منها

اتفقت معظم أقوال الفقهاء على اشتراط الزوجية في المظاهر منها، قال الشافعي:)لم أعلم مخالفا في أن أحكام الله تعالى في الطلاق والظهار والإيلاء لا تقع إلا على زوجة ثابتة النكاح يحل للزوج جماعها([41]، وخالف بعضهم في ذلك، ومن مسائل الخلاف في المسألة:

الظهار من أجنبية:

اختلف الفقهاء في اعتبار الظهار من الأجنبية هل يصح أم لا على قولين[42]:

القول الأول: لا يثبت حكم الظهار قبل التزويج، ويروى عن ابن عباس - رضي الله عنه - ، وهو قول الثوري , وأبي حنيفة , والشافعي، وابن حزم، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      قول الله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾(المجادلة:3)، والأجنبية ليست من نسائه.

·      أن الظهار يمين ورد الشرع بحكمها مقيدا بنسائه , فلم يثبت حكمها في الأجنبية , كالإيلاء.

·  أن الظهار يختص بوقت النطق به لا بعد ذلك , ومن الباطل أن لا يلزم الحكم للقول حين يقال ثم يلزم حين لا يقال[43].

القول الثاني: أنه يعتبر ظهارا، وبه قال سعيد بن المسيب , وعروة , وعطاء, والحسن , ومالك , وإسحاق، وأحمد، ويستوي في ذلك ما لو قال لامرأة بعينها , أو قال: كل النساء علي كظهر أمي، وسواء أوقعه مطلقا , أو علقه على التزويج , فقال: كل امرأة أتزوجها , فهي علي كظهر أمي، فمتى تزوج التي ظاهر منها , لم يقربها حتى يكفر، ويروى هذا القول عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  , أنه قال في رجل قال: إن تزوجت فلانة , فهي علي كظهر أمي، فتزوجها، فقال: عليه كفارة الظهار.

·      أنها يمين مكفرة , فصح انعقادها قبل النكاح , كاليمين بالله تعالى.

·  أن التخصيص الوارد في الآية بالنساء خرج مخرج الغالب ; فإن الغالب أن الإنسان إنما يظاهر من نسائه , فلا يوجب تخصيص الحكم بهن , كما أن تخصيص الربيبة التي في حجره بالذكر , لم يوجب اختصاصها بالتحريم.

·  أن التخصيص الوارد في الإيلاء , إنما اختص حكمه بنسائه ; لكونه يقصد الإضرار بهن دون غيرهن والكفارة وجبت هاهنا لقول المنكر والزور , ولا يختص ذلك بنسائه.

·  وقد نص أصحاب هذا القول على أنه لو قال الرجل لأجنبية: أنت علي حرام، فيعتبر في الحكم عليه بالظهار نيته في ذلك :

·  إذا أراد بقوله لها: أنت علي حرام، الإخبار عن حرمتها في الحال , فلا شيء عليه ; لأنه صادق ; لكونه وصفها بصفتها , ولم يقل منكرا ولا زورا، ومثله ما لو أطلق هذا القول , ولم يكن له نية , فلا شيء عليه لذلك، ففي المدونة عن مالك:) لو نظر إلى امرأة فقال لها أنت علي كظهر أمي فتزوجها لم يكن مظاهرا، إن لم يكن ينوي إذا تزوجتك ([44]

·  إذا أراد في كل حال , لم يطأها إن تزوجها حتى يأتي بكفارة الظهار وإن أراد تحريمها في كل حال , فهو ظهار ; لأن لفظة الحرام , إذا أريد بها الظهار , ظهار في الزوجة , فكذلك في الأجنبية , فصار كقوله: أنت علي كظهر أمي.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أن قائل هذا الكلام إن قصد به الظهار، فقد ارتكب كبيرة عظيمة لا تقل عن الكبيرة التي وقع فيها من ظاهر من زوجته، وهذا الحكم التكليفي يقتضي التوبة النصوح، وقد تستدعي التوبة النصوح الأخذ بالأورع في هذه المسألة باعتبارها مسألة تعبدية محضة، بل قد يتعدى خيرها إن أعتق أو أطعم، فلذلك فإن الأولى الأخذ بالقول الثاني من باب الاحتياط، وسدا للذريعة، لأن من الناس من لا ترهبه الزواجر، بقدر ما تخيفه الكفارات والعقوبات.

ولعل ما يدل على هذا وجود الخلاف من لدن السلف الصالح - رضي الله عنهم - ، وهو يقتضي أن للمسألة وجهها الشرعي، وهو ظاهر لأن القرآن الكريم علل الظهار بكونه زورا، والزور يتحقق مع الزوجة وهي في ذمته، كما يتحقق في قصده.

وقد يقال هنا: فلماذا لا يقال نفس الشيء في الطلاق، وقد رأينا في الطلاق أن الأرجح خلاف هذا القول، والجواب على ذلك أن أثر الطلاق مفسدة محضة، بخلاف أثر الكفارة، فهو مصلحة عظمى سواء بين العبد وربه بالصوم أو بين الخلق فيما بينهم بالعتق والإطعام، زيادة على أن مسألة الظهار أقرب إلى المسائل التعبدية منها لأحكام المعاملات كما وضحنا ذلك سابقا.

تعميم الظهار:

اختلف الفقهاء القائلون بصحة وقوع الظهار على الأجنبية فيما لو عمم في ظهاره فقال: كل امرأة أتزوجها , فهي علي كظهر أمي، ثم تزوج نساء وأراد العود , فقد اختلف في تعدد الكفارة على قولين:

القول الأول: أن عليه كفارة واحدة , سواء تزوجهن في عقد واحد أو في عقود متفرقة، وهو قول عروة , وإسحاق وأحمد، واستدلوا على ذلك بأنها يمين واحدة , فكفارتها واحدة، كما لو ظاهر من أربع نساء بكلمة واحدة.

القول الثاني: أن لكل عقد كفارة، فلو تزوج اثنتين في عقد , وأراد العود فعليه كفارة واحدة , ثم إذا تزوج أخرى , وأراد العود , فعليه كفارة أخرى، وهو قول إسحاق ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بأن المرأة الثالثة وجد العقد عليها الذي يثبت به الظهار , وأراد العود إليها بعد التكفير عن الأوليين , فكانت عليه لها كفارة , كما لو ظاهر منها ابتداء.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو الاكتفاء بكفارة واحدة، لأن الأصل في الظهار أن يختص بالزوجة، وتعميمه على غيرها من باب التأديب، ولا يصح أن يتجاوز بالتأديب محله.

الظهار من المطلقة :

اتفق الفقهاء على أنه يلحق المطلقة الرجعية ما دامت في عدتها الظهار، قال ابن حزم: (المطلقة طلاقا رجعيا فهي زوجة للذي طلقها ما  لم تنقض عدتها , يتوارثان , ويلحقها طلاقه , وإيلاؤه , وظهاره , ولعانه إن قذفها, وعليه نفقتها, وكسوتها, وإسكانها([45]،وقال السرخسي:) إذا طلقها تطليقة رجعية , فطلاقه يقع عليها ما دامت في العدة , وكذلك الظهار والإيلاء , وإن قذفها , لاعنها , وإن مات أحدهما توارثا ; لبقاء ملك النكاح بعد الطلاق الرجعي([46]

وقد اختلفوا في وجوب الكفارة على من طلق من ظاهر منها , ثم تزوجها , هل يجوز له معاشرتها قبل التكفير أم لا على قولين:

القول الأول: لا تحل له معاشرتها حتى يكفر، سواء كان الطلاق ثلاثا , أو أقل منه، سواء رجعت إليه بعد زوج آخر , أو قبله، وهو قول عطاء , والحسن , والزهري , والنخعي, ومالك وأحمد وأبي عبيد والشافعي في قول ، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1.    عموم قول الله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾(المجادلة:3)، وهذا قد ظاهر من امرأته , فلا يحل أن يتماسا حتى يكفر.

أنه ظاهر من امرأته , فلا يحل له مسها قبل التكفير , كالتي لم يطلقها.

أن يمين الظهار يمين مكفرة , فلم يبطل حكمها بالطلاق , كالإيلاء.

القول الثاني: إذا بانت سقط الظهار , فإذا عاد فنكحها , فلا كفارة عليه، وهو قول قتادة، والحنفية، والشافعي في قول[47]، قال السرخسي:)إن طلقها طلاقا بائنا , فإنه لا يقع عليها ظهار ولا إيلاء ; لأن الظهار منكر من القول وزور ; لما فيه من تشبيه المحللة بالمحرمة , وهذا تشبيه المحرمة بالمحللة ([48]

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكرنا سابقا من التورع في أحكام الظهار ردعا لمن يتساهل فيه، لأن المنكر من القول والزور يتحقق مطلقا، مع الزوجة التي يملك عصمتها والتي لا يملك عصمتها سواء بسواء، مع عدم أي ضرر في هذه العقوبة الشرعية لأي طرف من الأطراف، بل هي مصلحة محضة كما ذكرنا، ودورها التطهيري التربوي لا يخفى، خاصة وأن مثل هذا السلوك الجاهلي يحتاج في تقويمه إلى التأديب، ولو بالمبالغة في التشديد فيه من باب المصلحة كما يبالغ الشيخ مع طلابه فيشدد عليهم رعاية لمصالحهم.

الظهار من الأمة:

اختلف الفقهاء في الظهار من الأمة هل حكمه حكم الظهار من الزوجة أم على الأقوال التالية[49]:

القول الأول: الظهار منها لازم كالظهار من الزوجة الحرة وكذلك المدبرة وأم الولد، وقد روي ذلك عن سعيد بن المسيب , والحسن , وسليمان بن يسار , ومرة الهمداني , وإبراهيم النخعي , وسعيد بن جبير , والشعبي , وعكرمة , وطاوس , والزهري , وقتادة , وعمرو بن دينار ,  ومنصور بن المعتمر، وهو قول مالك , والليث والحسن بن حي , وسفيان الثوري , وأبي سليمان , وجميع أصحابهم، لعموم قوله تعالى:﴿ والذين يظاهرون من نسائهم﴾ والإماء من النساء.    

القول الثاني: لا ظهار من الأمة، وقد روي ذلك عن الشعبي وعكرمة، ولم يصح عنهما،وصح عن مجاهد في أحد قوليه وابن أبي مليكة. وهو قول أبي حنيفة, والشافعي , وأحمد , وإسحاق , وأبي ثور، لأنهم قد أجمعوا أن النساء في قوله تعالى :﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة:226) فكذلك اسم النساء في آية الظهار.     

القول الثالث: إن كان يطأ أمته فهو منها مظاهر، وإن لم يطأها فهي يمين، وفيها كفارة يمين، وهو قول الأوزاعي،  وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري في أحد قوليهما: إن كان يطأ الأمة فعليه كفارة الظهار , وإن كان لا يطؤها فلا كفارة ظهار عليه.

القول الرابع: هو مظاهر لكن عليه نصف كفارة، وهو قول عطاء.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول لاشتراك الزوجة مع الأمة في جواز التمتع، وذلك كاف في قياسها على الزوجة، خاصة وأن علة الحرمة في الظهار هي تشبيه من يحل له التمتع بها بمن لا يحل له ذلك، وقد أرجع ابن رشد سبب الخلاف في المسألة إلى)معارضة قياس الشبه للعموم أعني تشبيه الظهار بالإيلاء، وعموم لفظ النساء أعني أن عموم اللفظ يقتضي دخول الإماء في الظهار، وتشبيهه بالإيلاء يقتضي خروجهن([50]

ولكن الشبه بين الإيلاء والظهار بعيد لأن المرأة تشترك مع الرجل في الضرر عند الإيلاء بخلاف الظهار، ويتعلق بالإيلاء التفريق بخلاف الظهار، فهما وإن اشتركا في كونهما يمينا إلا أن البون بينهما شاسع بحيث لا يصح القياس بينهما.

وقد رد ابن حزم هذا القياس بقوله:) القياس كله باطل , ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل والتحكم , لأنه ليس قياس ذكر النساء في الظهار على ذكر النساء في الإيلاء بأولى من قياس ذكر النساء في الظهار على ذكر النساء فيما حرم الله تعالى علينا , إذ يقول تعالى :﴿ وأمهات نسائكم ﴾ فدخل في ذلك بإجماع منا ومنهم الإماء مع الحرائر،  والعجب أنهم يقولون: إن أضعف النصوص أولى من القياس , وهذا مكان تركوا فيه عموم القرآن لقياس فاسد , وليس في الظهار علة تجمعه بالإيلاء فيجوز القياس عليها عند أصحاب القياس([51]

الركن الثالث: صيغة الظهار

ويتعلق بهذا الركن المسائل التالية[52]:

أولا ـ التعابير الدالة على الظهار

الألفاظ الصريحة :

وهي ما لا يفتقر إلى نية، كقوله :أنت عندي , أو مني , أو معي , كظهر أمي، أو جملتك , أو بدنك , أو جسمك , أو ذاتك , أو كلك علي كظهر أمي، أما إن قال: أنت كظهر أمي، فقد اختلف الفقهاء فيه على قولين:

القول الأول: أنه ظهار، وهو قول الجمهور، لأنه أتى بما يقتضي تحريمها عليه فانصرف الحكم إليه , كما لو قال: أنت طالق.

القول الثاني: أنه ليس بظهار، وهو قول بعض الشافعية، لأنه فيه ما يدل على أن ذلك في حقه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار النية مطلقا في الألفاظ الصريحة وألفاظ الكناية، بل لا نعتقد في صحة هذا التقسيم أصلا لسببين:

أن أكثر هذه الألفاظ لا تستعمل الآن بصورتها الفصيحة بين كل الشعوب العربية، فكيف بغيرها.

أن الظهار يختلف اختلافا جذريا عن الطلاق، فلا يصح التعامل معه بنفس أسلوب التعامل مع الطلاق.

فلذلك كان الأرجح هنا هو اعتبار النية مطلقا كاعتبارها في الأيمان، لأن الظهار مسألة تعبدية أكثر منها مسألة من باب النكاح، ولا يمكن أن نحصر الألفاظ الدالة على ذلك، بل العبرة بالضابط القرآني الذي هو التزوير في الحقائق بالتعامل مع الزوجة كالتعامل مع الأم أو غيرها من المحارم.

ألفاظ الكناية :

وهي ما تفتقر إلى نية، ومن ألفاظ الكناية التي ذكرها العلماء:

قوله: أنت مثل أمي:

أو: علي كأمي[53]، فإنه إن نوى به الظهار , فهو ظهار , باتفاق العلماء، أما إن نوى به الكرامة والتوقير , أو أنها مثلها في الكبر , أو الصفة , فليس بظهار. والقول قوله في نيته، ولهذا كره العلماء أن يسمي الرجل امرأته بمن تحرم عليه , كأمه , أو أخته , أو بنته مع اتفاقهم على عدم اعتبار ذلك ظهارا  ومن أدلة ذلك:

·  أن رجلا قال لامرأته: يا أخية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أختك هي , فكره ذلك , ونهى عنه) [54]، ولم يقل له - صلى الله عليه وسلم -: حرمت عليك، فدل على الكراهة.

·  في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -  أن إبراهيم u  أرسل إليه جبار , فسأله عن سارة فقال: إنها أختي[55]، ولم يعد ذلك ظهارا.

أما إن أطلق، فقد اختلف الفقهاء فيه على قولين:

القول الأول: أنه صريح في الظهار، وهو قول مالك , ومحمد بن الحسن، ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأنه شبه امرأته بجملة أمه , فكان مشبها لها بظهرها , فيثبت الظهار كما لو شبهها به منفردا.

القول الثاني: أنه ليس بظهار حتى ينويه، وهو قول أبي حنيفة , والشافعي، واستدلوا على ذلك بأن هذا اللفظ يستعمل في الكرامة أكثر مما يستعمل في التحريم , فلم ينصرف إليه بغير نية , ككنايات الطلاق.

القول الثالث: ملاحظة القرائن الدالة على الظهار أو على غيره مثل أن يخرجه مخرج الحلف , فيقول: إن فعلت كذا فأنت علي مثل أمي، أو ينطق بذلك حال الخصومة والغضب, فهو ظهار، أما إن عدم هذا فليس بظهار ; لأنه محتمل لغير الظهار احتمالا كثيرا , فلا يتعين الظهار فيه بغير دليل، وهو قول أبي ثور ورجحه ابن قدامة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أنه إذا خرج مخرج الحلف , فالحلف يراد للامتناع من شيء , أو الحث عليه , وإنما يحصل ذلك بتحريمها عليه.

·      أن كونها مثل أمه في صفتها أو كرامتها لا يتعلق على شرط , فيدل على أنه إنما أراد الظهار.

·  أن وقوع ذلك في حال الخصومة والغضب دليل على أنه أراد به ما يتعلق بأذاها , ويوجب اجتنابها , وهو الظهار.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتماد نيته مطلقا باعتباره أمرا تعبديا محضا، ولكن القرائن في حال الإطلاق أو حال الشك في النية تقوي من احتمال كونه قاصدا للظهار، ومع ذلك يبقى حكم المسألة تعبديا محضا خاضعا لقناعة من قال هذا الكلام، ولا يجوز تحميله من المقاصد ما لا يتقبله.

ثانيا ـ تقييد الصيغة

ويتم تقييد الصيغة إما بتوقيتها بوقت معين، أو بتعليقها على شروط معينة، وتفصيل أحكامها كما يلي:

1 ـ تأقيت الصيغة:

وذلك مثل أن يقول: أنت علي كظهر أمي شهرا , أو حتى ينسلخ شهر رمضان، وقد اختلف الفقهاء في اعتباره ظهارا على قولين:

القول الأول: يعتبر ذلك ظهارا، فإذا مضى الوقت زال الظهار , وحلت المرأة بلا كفارة, ولا يكون عائدا إلا بالوطء في المدة، وهو قول ابن عباس , وعطاء , وقتادة , والثوري , وإسحاق , وأبي ثور , وأحد قولي الشافعي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  حديث سلمة بن صخر , وقوله: ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -  أنه أصابها في الشهر , فأمره بالكفارة.

·      أنه منع نفسه منها بيمين لها كفارة , فصح مؤقتا كالإيلاء.

·  أن الظهار يختلف عن الطلاق، لأنه يزيل الملك , أما الظهار فيوقع تحريما يرفعه التكفير , فجاز تأقيته.

·  أن الله تعالى إنما أوجب الكفارة على الذين يعودون لما قالوا , ومن بر وترك العود في الوقت الذي ظاهر فلم يعد لما قال , فلا تجب عليه كفارة.

·  أن هذا يختلف عن التحريم على التأبيد ; لأن تحريمها غير كامل , وهذه حرمها في هذه المدة تحريما مشبها بتحريم ظهر أمه.

القول الثاني: لا يعتبر ظهارا، وهو قول ابن أبي ليلى , والليث، وأحد قولي الشافعي، واستدلوا على ذلك بأن الشرع ورد بلفظ الظهار مطلقا , وهذا لم يطلق , فأشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه في وقت دون وقت.

القول الثالث: يسقط التأقيت , ويكون ظهارا مطلقا ،وهو قول المالكية وطاوس، واستدلوا على ذلك بأن هذا لفظ يوجب تحريم الزوجة , فإذا وقته لم يتوقت كالطلاق.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثالث باعتبار الظهار كبيرة من الكبائر بنص القرآن الكريم، وفيه من سوء الأدب مع المحارم ما فيه، فلذلك كان الأوفق بمقاصد الشريعة رعاية لحرمة المحارم، وتشديدا على تحريم قول الزور القول بوجوب الكفارة مطلقا، فهي كما ذكرنا مصلحة محضة، إلا إذا ترتب على القول بالكفارة مفسدة، كأن يختار الزوج تطليق زوجته هربا من التكفير، فحينئذ يختلف الحال، فسد منافذ الفساد أولى من جلب المصالح.

2 ـ تعليق الصيغة:

اختلف الفقهاء في صحة تعليق الصيغة بالشروط على قولين:

القول الأول: يصح تعليق الظهار بالشروط[56] , مثل قوله: إن دخلت الدار , فأنت علي كظهر أمي , فمتى دخلت الدار , صار مظاهرا , وإلا فلا، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أنه يمين , فجاز تعليقه على شرط كالإيلاء.

·      أن أصل الظهار أنه كان طلاقا , والطلاق يصح تعليقه بالشرط , فكذلك الظهار.

·      أنه قول تحرم به الزوجة , فصح تعليقه على شرط كالطلاق.

القول الثاني: لا يصح تعليق الظهار بالشروط، وهو قول الظاهرية، وقد نص على هذا ابن حزم بقوله:) ومن علق ظهاره بشيء يفعله مثل أن يقول: أنت كظهر أمي إن وطأتك , أو قال: إن كلمت زيدا - وكرر ذلك - فليس ظهارا - فعل ذلك الشيء أو لم يفعله - لأنه لم يمض الظهار ولا التزمه حين نطق به , وكل ما لم يلزم حين التزامه لم يلزم في غير حال التزامه , إلا أن يوجب ذلك نص , ولا نص ههنا([57]

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو التشديد في الباب على عكس ما ذكرناه في الطلاق لاختلاف المقاصد في كلا الحكمين، فالمقصد من الطلاق هو التفريق بين الزوجين، وذلك لا يكون إلا للحاجة التي يؤكدها القصد، فلذلك كان الأولى التشديد فيها إلا أن يظهر قصد المطلق ظهورا بينا لا خفاء فيه.

أما المقصد من الظهار، فهو تشريع تربوي لإصلاح بعض النفوس التي تحمل بعض ألواث الجاهلية الخلقية، وذلك بالكفارة التأديبية، وهي لا تختلف عن كفارة من انتهك حرمة رمضان، فكلاهما سواء ، ولذلك رتبت لهما نفس العقوبة.

وبناء على هذا نرى أن التعليق هنا يصح، ويوجب كفارة الظهار، وليس ذلك قياسا على الطلاق، كما نص بعض الفقهاء، بل لأنه حكم من أحكام اليمين.

تعليق الظهار على مشيئة الله :

اتفق الفقهاء على أن المظاهر إن علق ظهاره على مشيئة الله كقوله: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله، أو قال: ما أحل الله علي حرام , إن شاء الله، أو قال: أنت علي حرام إذا شاء الله , أو إلا ما شاء الله , أو إلى أن يشاء الله , أو ما شاء الله ،لم ينعقد ظهاره،  واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أنها يمين مكفرة , فصح الاستثناء فيها , كاليمين بالله تعالى  , أو كتحريم ماله.

·  قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف على يمين , فقال: إن شاء الله. فلا حنث عليه) [58]، وفي لفظ (من حلف فاستثنى , فإن شاء فعل , وإن شاء رجع غير حنث)

أما إن جمع في ذلك جملا كقوله :(أنت علي كظهر أمي , ووالله لا أكلمك إن شاء الله) فيرجع ذلك إلى نيته، أو أنه ليس ظهار بناء على أن الاستثناء إذا تعقب جملا , عاد إلى جميعها, إلا أن ينوي الاستثناء في بعضها , فيعود إليه وحده.

ونرى أن تعليق المشيئة بالله لا تنفي عنه حرمة ما قاله، وإن نفت عنه عاجل العقوبة.

الركن الرابع ـ المشبه به

لا يخلو المشبه به من خمسة أنواع بحسب القسمة العقلية، وذلك أنه إما أن يكون من محارمه أم لا، فإن كان من محارمه، فلا يخلو أن يكون من المحارم الدائمة أو المؤقتة، وإن كان من غير محارمه فقد يكون امرأة أو غير امرأة، ثم إنه في كل هؤلاء قد يكون تشبيها كاملا أو جزئيا، وتفصيل ذلك كما يلي:

النوع الأول: المحرمات على التأبيد

ولهذا التشبيه حالتان:

تشبه الزوجة بالأم من النسب:

أجمع العلماء على أن من قال لزوجته :(أنت علي كظهر أمي)، فهو ظهار، قال ابن المنذر:(أجمع أهل العلم على أن  تصريح الظهار أن يقول: أنت علي كظهر أمي) [59]، واستدلوا على ذلك بحديث خويلة امرأة أوس بن الصامت, فقد قال لها: أنت علي كظهر أمي، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره بالكفارة[60].

تشبيه الزوجة بمن تحرم عليه سوى الأم :

كجدته وعمته وخالته وأخته، أو أن يشبهها بظهر من تحرم عليه على التأبيد سوى الأقارب , كالأمهات المرضعات , والأخوات من الرضاعة , وحلائل الآباء والأبناء , وأمهات النساء , والربائب اللائي دخل بأمهن، وقد اختلف الفقهاء في  حكم هذا التشبيه، هل يعتبر ظهارا أم لا على قولين:

القول الأول: أنه ظهار، وهو قول أكثر العلماء ذكر منهم ابن قدامة: الحسن , وعطاء , وجابر بن زيد , والشعبي , والنخعي , والزهري , والثوري , والأوزاعي , ومالك , وإسحاق  وأبو عبيد , وأبو ثور , وأصحاب الرأي. وهو جديد قولي الشافعي[61]، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا ﴾ٌ(المجادلة:2)ينطبق على هؤلاء.

·      أنهن محرمات بالقرابة , فأشبهن الأم.

·      أن تعليق الحكم بالأم لا يمنع ثبوت الحكم في غيرها إذا كانت مثلها.

القول الثاني :لا يكون الظهار إلا بأم أو جدة ; لأنها أم أيضا، وهو قول الشافعي القديم، وقول الإمامية[62]، وقول ابن حزم، واستدل على ذلك بأن اللفظ الذي ورد به القرآن مختص بالأم, فإذا عدل عنه , لم يتعلق به ما أوجبه الله تعالى  فيه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لأن العلة في ذكر الأم متوفرة في غيرها من المحارم، ولا يصح أن نطلب من النص القرآني ـ كما ذكر أصحاب القول الثاني ـ بعد جميع المحرمات، فالأم تنوب عنهن جميعا، فالقياس هنا في محله الصحيح.

النوع الثاني: المحرمات حرمة مؤقتة:

وذلك مثل تشبيهها بأخت امرأته , وعمتها , أو الأجنبية، وقد اختلف الفقهاء في  ذلك على قولين:

القول الأول: أنه ظهار، وهو قول المالكية ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أنه شبهها بمحرمة , فأشبه ما لو شبهها بالأم.

·      أن مجرد قوله: أنت علي حرام[63]، ظهار إذا نوى به الظهار , والتشبيه بالمحرمة تحريم , فكان ظهارا.

·  أن الحائض يباح الاستمتاع بها في غير الفرج , والمحرمة يحل له النظر إليها , ولمسها من غير شهوة , وليس في وطء واحدة منهما حد بخلاف هذه الحالة.

القول الثاني: أنه ليس بظهار، وهو قول الشافعي ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأنها غير محرمة على التأبيد , فلا يكون التشبيه بها ظهارا , كالحائض , والمحرمة من نسائه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة مثلما سبق بيانه هو ترجيح الحكم بكونه ظهارا، لأن العلة الموجودة في الظهار بالأم توجد في غيرها ممن ذكر، والمقصد من تحريم الظهار هو كونه قول زور، وهو يصدق هنا كما يصدق على الظهار بالأم، زيادة على المقاصد الشرعية التي تتحقق بترجيح هذا القول من سد الذرائع التي تفتح هذا الباب، وجلب المصالح المترتبة عن الكفارة.

النوع الثالث: تشبيه الزوجة بأجنبية:

اختلف الفقهاء فيما لو كان المشبه به أجنبية على قولين[64]:

القول الأول: هو مظاهر كان لها زوج أو لم يكن لها زوج، وهو قول مالك، لأنه شبه امرأته بظهر محرمة عليه فلزمه حكم الظهار أصله إذا قال: كظهر أمه.

القول الثاني: يكون طلاقا، وهو قول عبد الملك بن الماجشون، لأن الظهار إنما يتعلق بتحريم مؤبد ولا يكون ذلك إلا برفع عقد الاستباحة , وذلك إنما يكون بالطلاق.

القول الثالث: لا يكون طلاقا ولا ظهارا، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، لأنها ليست محرمة على التأبيد.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو كونه ظهارا لأن الأجنبية لا تختلف عن أمه وغيرها من محارمه في التحريم، وما يصدق عليها من الزور يصدق على غيرها.

النوع الرابع: تشبيه الزوجة بغير النساء :

كتشبيهها بظهر أبيه , أو بظهر غيره من الرجال , أو قوله: أنت علي كظهر البهيمة، أو أنت علي كالميتة والدم، وقد اختلف الفقهاء في  ذلك على قولين:

القول الأول: أنه ظهار، وهو رواية عن أحمد وقول ابن القاسم صاحب مالك , فيما إذا قال: أنت علي كظهر أبي.

القول الثاني: أنه ليس بظهار، وهو قول أكثر العلماء، واستدلوا على ذلك بأنه تشبيه بما ليس بمحل للاستمتاع , فأشبه ما لو قال:  أنت علي كمال زيد.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو النظر في مقصده من هذا التشبيه إن كان من باب تحريمها كحرمة أبيه أو الميتة أو الدم فهو ظهار، لأنه من الزور المحرم، وإن كان من باب الضجر منها واستقذارها مثلا من غير قصد التحريم، فهو حرام تعلق به حق الغير، فيتوب ويستحل.

النوع الخامس: تشبيه أعضاء الزوجة بأعضاء غيرها:

وهو تشبيه عضو من امرأته بظهر أمه أو عضو من أعضائها، كقوله: فرجك , أو ظهرك , أو رأسك , أو جلدك علي كظهر أمي , أو بدنها , أو رأسها , أو يدها، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: هو مظاهر، وهو قول مالك والشافعي ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بأنه شبهها بعضو من أمه , فكان مظاهرا , كما لو شبهها بظهرها.

القول الثاني: أنه ليس بمظاهر حتى يشبه جملة امرأته، وهو رواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أنه لو حلف بالله لا يمس عضوا منها , لم يسر إلى غيره , فكذلك المظاهرة.

·  أن هذا ليس بمنصوص عليه , ولا هو في معنى المنصوص ;  لأن تشبيه جملتها تشبيه لمحل الاستمتاع بما يتأكد تحريمه , وفيه تحريم لجملتها , فيكون آكد.

القول الثالث: التفصيل، وهو قول الحنفية، وكيفيته أنه إن شبهها بما يحرم النظر إليه من الأم , كالفرج , والفخذ , ونحوهما , فهو مظاهر , وإن لم يحرم النظر إليه , كالرأس , والوجه, لم يكن مظاهرا، واستدلوا على ذلك بأنه شبهها بعضو لا يحرم النظر إليه , فلم يكن مظاهرا, كما لو شبهها بعضو زوجة له أخرى.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار نيته، والتي يمكن حصرها في المقصدين التاليين:

·  أن يقصد المظاهر التشبيه الوصفي، فوصف بعض أعضاء زوجته بنظيرها من محارمه، وحكمه كسائر التشبيهات لا يعتبر ظهارا، لأن مراده الوصف لا التحريم.

·  أن يقصد تحريمها بذكر البعض وإرادة الكل، أو أن يكون التشبيه في الأعضاء التي  لا يحل النظر إليها كما ذكر الحنفية، بل إن ذكر ما لا يحل النظر إليه من أمه وتشبيه الزوجة به فيه من الوقاحة وسوء الأدب ما يستدعي ما هو أبلغ من الكفارة.

خامسا: موجبات كفارة الظهار

1 ـ الحنث في اليمين :

اختلف الفقهاء في  اعتبار هذا الموجب على قولين:

القول الأول: عليه الكفارة بمجرد الظهار، وهو قول طاوس , ومجاهد , والشعبي , والزهري , وقتادة ، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أنه سبب للكفارة وقد وجد.

·      أن الكفارة وجبت لقول المنكر والزور , وهو يحصل بمجرد الظهار.

القول الثاني: متى أمسكها بعد ظهاره زمنا يمكنه طلاقها فيه , فلم يطلقها , فعليه الكفارة، وهو قول الشافعي، ويتحقق ذلك بإمساكها زمناً يتسِعُ لقوله: أنت طالق، فمتى لم يَصِل الطلاق بالظهار، لزمته الكفارة، قال الشافعي:) إذا حبس المتظاهر امرأته بعد الظهار قدر ما يمكنه أن يطلقها ولم  يطلقها فكفارة الظهار له لازمة، ولو طلقها بعد ذلك أو لاعنها فحرمت عليه على الأبد لزمته كفارة الظهار، وكذلك لو ماتت أو ارتدت فقتلت على الردة) [65]

وهو قريب من القول السابق، قال ابن القيم:) قال منازعوه: وهو في المعنى قول مجاهد، والثوري، فإن هذا النفَسَ الواحدَ لا يُخرِجُ الظهارَ عن كونه موجبَ الكفارة، ففي الحقيقة لم يُوجب الكفارة إلا لفظُ الظهار([66]

وبما أن هذا القول مما انفرد به الشافعي من فهمه لمعنى العود كما فهم ابن حزم، فسنورد هنا نص فهمه للآية، قال الشافعي:) الذي علقت مما سمعت في ﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ﴾(المجادلة:3) أن المتظاهر حرم عليه مس امرأته بالظهار، فإذا أتت عليه مدة بعد القول بالظهار لم يحرمها بالطلاق الذي يحرم به، ولا شيء يكون له مخرج من أن تحرم عليه به فقد وجب عليه كفارة الظهار، كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرم على نفسه أنه حلال فقد عاد لما قال فخالفه فأحل ما حرم، ولا أعلم له معنى أولى به من هذا ولم أعلم مخالفا في أن عليه كفارة الظهار وإن لم يعد بتظاهر آخر، فلم يجز أن يقال لما لم أعلم مخالفا في أنه ليس بمعنى الآية ([67].

أما قوله تعالى: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾(القصص: من الآية3)، والذي استدل به المخالفون، فقد فهم منه الشافعي أنه)وقت لأن يؤدي ما أوجب عليه من الكفارة فيها قبل المماسة، فإذا كانت المماسة قبل الكفارة، فذهب الوقت لم تبطل الكفارة ولم يزد عليه فيها كما يقال له: أد الصلاة في وقت كذا وقبل وقت كذا، فيذهب الوقت فيؤديها، لأنها فرض عليه فإذا لم يؤدها في الوقت أداها قضاء بعده، ولا يقال له زد فيها لذهاب الوقت قبل أن تؤديها(

القول الثالث: أن الكفارة لا تجب بمجرد الظهار , فلو مات أحدهما[68] أو فارقها قبل العود  فلا كفارة عليه، وهو قول عطاء , والنخعي , والأوزاعي , والحسن والثوري , ومالك, وأبي عبيد , وأصحاب الرأي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قول الله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾(المجادلة:3)، فأوجب الكفارة بأمرين , ظهار وعود , فلا تثبت بأحدهما.

·  أن الكفارة في الظهار كفارة يمين بغير الحنث , كسائر الأيمان , والحنث فيها هو العود, وذلك فعل ما حلف على تركه وهو الجماع , وترك طلاقها ليس بحنث فيها , ولا فعل لا حلف على تركه , فلا تجب به الكفارة.

·      أنه لو كان الإمساك عودا , لوجبت الكفارة على المظاهر الموقت وإن  بر.

ومن الوجوه التي ردوا بها على قول الشافعي[69]:

الوجه الأول: أن زمن قوله: أنت طالق لا تأثيرَ له في الحكم إيجاباً ولا نفياً، فتعليقُ الإيجابَ به ممتنع، ولا تُسمى تلك اللحظةُ والنفَسُ الواحد مِن الأنفاس عوداً لا في لغة العرب ولا في عُرف الشارع، وأيُّ شيء في هذا الجزء اليسير جداً مِن الزمان من معنى العود أو حقيقته.

الوجه الثاني: أن هذا ليس بأقوى مِن قول من قال: هو إعادةُ اللفظ بعينه، فإن ذلك قولٌ معقول يفهم منه العودُ لغةً وحقيقةً، وأما هذا الجزءُ مِن الزمان، فلا يفهمُ من الإنسان فيه العود مطلقا.

الوجه الثالث: أن الله تعالى أوجبَ الكفارةَ بالعودِ بحرف [ ثم] الدالة على التراخي عن الظهار، فلا بد أن يكونَ بـينَ العود وبـين الظهار مدةٌ متراخية، وهذا ممتنع عندكم، وبمجردِ انقضاء قوله: أنت علي كظهر أمي صار عائداً ما لم يصله بقوله: أنتِ طالق، فإين التراخي والمهلة بـين العود والظهار.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة من حيث رعاية المقاصد الشرعية القول الأول، وذلك للاعتبارين التاليين:

·  أن القول بوجوب الكفارة مطلقا ينسجم مع ما ذكرنا من أن العلة في الكفارة هي كونه قال منكرا من القول وزورا، وهو يتحقق بغض النظر عن بقائه معها أو عدم بقائه، وفي ذلك ردع عن هذا القول العظيم.

·  أن ربط الكفارة بعدم تطليقه لها ـ كما ذهب إلى ذلك أصحاب القول الثاني والثالث ـ قد يكون ذريعة لتطليقها، فكانت المصلحة لبيت الزوجية سد هذه الذريعة، فيقال للزوج: كفر مطلقا طلقت زوجتك أو لم تطلقها.

ففي هذين الاعتبارين تتحقق المصلحة للفرد بتهذيب لسانه عن كل ألواث الجاهلية، وفي نفس الوقت تتحقق مصلحة بيت الزوجة بالحيلولة دون تعرضه لما يهزه، وكلاهما من المقاصد الشرعية.

ونرى من حيث الأدلة أن آيات الظهار تحتمل هذا المعنى، أما ما أورده أصحاب القول الثالث من توجيهات، فيمكن حملها على أن الآية ذكرت الحالة العامة للظهار، وهي أن الزوج يريد العودة لزوجته، فبينت له طريق ذلك، ولكنها لم تتعرض للحالات الأخرى كطلاق المظاهر منها أو موتها، فلذلك لا يصح تحميل الآية ما لا يحتمله ظاهر لفظها، زيادة على الاختلاف الكبير بين الفقهاء والمفسرين في معنى العود كما سنرى، وقد قال ابن حزم في معرض دفاعه عن تصوره لمعنى العود ردا على المخالفين بأن هذا القولَ لم يَقُل به أحد من الصحابة، فقال:(فأرونا مِن الصحابة من قال: إن العود هو الوطء، أو العزم، أو الإِمساك، أو هو العود إلى الظهار في الجاهلية ولو عن رجل واحدٍ من الصحابة، فلا تكونون أسعدَ بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منا أبداً) [70]

بل إن في تعليل آيات الظهار التحريم والكفارة بكونه منكرا من القول وزروا يدل دلالة كافية على وجوب الكفارة مطلقا عاد أو لم يعد.

ولا يصح قياسه أيضا على الأيمان، لأن الأيمان مباحة، ومشروعة، فلا يصح قياس غير المشروع على المشروع، بل إن في ألفاظ الأيمان نواح تعبدية بخلاف يمين الظهار، إن صح اعتبارها يمينا.

حكم معاشرة الزوجة جنسيا قبل التكفير :

وهي لا تخلو من أن تكون معاشرة جنسية كاملة بالجماع، أو ناقصة بالمباشرة، وحكمهما كما يلي:

الجماع:

اتفق الفقهاء على أن المظاهر يحرم عليه معاشرة امرأته جنسيا قبل أن يكفر إذا كانت الكفارة عتقا أو صوما لقول الله تعالى : ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾(المجادلة:3)، وقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾(المجادلة:4)

أما التكفير بالإطعام، فقد اختلف الفقهاء في جواز المعاشرة قبل التكفير على قولين[71]:

القول الأول: أنه تحرم عليه معاشرتها قبل التكفير[72]، وهو قول أكثر العلماء، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -  فقال: يا رسول الله , إني تظاهرت من امرأتي , فوقعت عليها قبل أن أكفر. فقال: ما حملك على ذلك , يرحمك الله ؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله[73].

·  أنه مظاهر لم يكفر , فحرم عليه جماعها , كما لو كانت كفارته العتق أو الصيام , وترك النص عليها لا يمنع قياسها على المنصوص الذي في معناها.

القول الثاني: أن معاشرتها جنسا تحل له قبل التكفير، وهو قول أبي ثور ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بأن الله تعالى  لم يمنع المسيس قبله , كما في العتق والصيام.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أن حكمه يختلف بحسب حاله من الفقر والغنى في الوقت الذي وجبت عليه الكفارة، فإن كان ميسورا وجبت عليه قبل المسيس، وإن كان فقيرا بقيت واجبة في ذمته، وحل له معاشرة زوجته، والحديث الذي أورده أصحاب القول الأول لا يدل على المبالغة الشديدة في التحريم، ولذلك اختلف الحكم بحسب اختلاف الحال.

المباشرة :

وقد اختلف الفقهاء في  ذلك على قولين:

القول الأول: حرمة ذلك، وهو قول الزهري , ومالك , والأوزاعي , وأبي عبيد وأصحاب الرأي ،وأحد قولي الشافعي، لأن ما حرم الوطء من القول حرم دواعيه , كالطلاق والإحرام.

القول الثاني: إباحة ذلك، وهو قول الثوري , وإسحاق , وأبي حنيفة، وحكي عن مالك، وهو القول الثاني للشافعي وقول لأحمد، لأنه وطء يتعلق بتحريمه مال , فلم يتجاوزه التحريم , كوطء الحائض.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني بناء على أن المسيس يطلق في الاصطلاح القرآني عادة على المعاشرة الجنسية الكاملة، وفي النهي عن المباشرة تشديد بالغ، يحتاج إلى ما يدل عليه، لأنه لا يصح أن نعاقب بما لم يعاقب به الشرع.

2 ـ العزم على معاشرة المظاهر منها:

اختلف الفقهاء في اعتبار العزم على معاشرة الزوجة من موجبات الكفارة بناء على تفسير العود الوارد في الآية على أقوال كثيرة منها:

القول الأول: أن العود هو الوطء , فمتى وطئ لزمته الكفارة , ولا تجب قبل ذلك , إلا أنها شرط لحل الوطء , فيؤمر بها من أراده ليستحله بها , كما يؤمر بعقد النكاح من أراد حل المرأة، وقد حكي هذا القول عن الحسن , والزهري، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قوله تعالى:﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾(المجادلة:3)فأوجب الكفارة بعد العود قبل التماس , وما حرم قبل الكفارة, لا يجوز كونه متقدما عليها.

·  أن العود فعل ضد قوله , ومنه العائد في هبته , هو الراجع في الموهوب , والعائد في عدته, التارك للوفاء بما وعد , والعائد فيما نهي عنه فاعل المنهي عنه، قال الله تعالى : ﴿ ثُم يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنهُ﴾(المجادلة:8)، فالمظاهر محرم للوطء على نفسه , ومانع لها منه , فالعود فعله.

·  أن معنى: ثم يعودون أي يريدون العود , كقول الله تعالى : ﴿ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ (المائدة:6)  أي أردتم ذلك، ومثله قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾(النحل:98) أن الظهار يمين مكفرة , فلا تجب الكفارة إلا بالحنث فيها , وهو فعل ما حلف على تركه كسائر الأيمان, وتجب الكفارة بذلك كسائر الأيمان , ولأنها يمين تقتضي ترك الوطء , فلا تجب كفارتها إلا به , كالإيلاء.

·      أنه قصد بالظهار تحريمها , فالعزم على  وطئها عود فيما قصده.

·      أن الظهار تحريم , فإذا أراد استباحتها , فقد رجع في ذلك التحريم , فكان عائدا.

القول الثاني: أن العود هو العزم على الوطء، وهو قول مالك[74] وأبي عبيد[75]، ومن الأدلة على ذلك:

·  قوله تعالى:  ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾(المجادلة:3) وثم تقتضي المهلة، فدل ذلك على أن العودة تكون بعد إيقاع الظهار بمهلة.

·  أن قوله تعالى :﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ﴾(المجادلة:3) يقتضي أن تكون العودة من فعل المظاهر  إما عزم وإما غيره وإما أن تكون بمضي الزمان وترك طلاق فهو عدول عن الظاهر.

·      أن هذه كفارة يمين فجاز أن يتأخر وجوبها عن اليمين.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكرنا سابقا من أن كفارة الظهر ترتبط بتلفظه بالكلمة الآثمة التي ذكرها القرآن وما يشابهها بغض النظر عن عزمة على العود أو عدم عزمه، بناء على أن العود المذكور في الآية قد يكون وصفا للحالة الغالبة للظهار لا تقييدا لها.

3 ـ إعادة التلفظ بصيغة الظهار:

اختلف الفقهاء في اشتراط العود للفظ الظهار لوجوب الكفارة على قولين:

القول الأول:  هو إعادة لفظِ الظهارِ، وهو قول الظاهرية كما ذكرنا قول ابن حزم سابقا، قال ابن القيم:) ولم يحكُوا هذا عن أحد من السلف ألبتة، وهو قولٌ لم يُسبقوا إليه، وإن كنت هذه الشكاةُ لا يكاد مذهب من المذاهب يخلو عنها([76]، ومن الأدلة على ذلك[77]:

·  أن الله تعالى لم يوجب الكفارة إلا بالظهار المعاد لا المبتدأ، وذلك في قوله تعالى:﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ﴾(المجادلة:3)

·  أن العرب لا يُعقل في لغاتها العودُ إلى الشيء إلا فعل مثله مرةً ثانية، وهذا وارد في كتابُ الله تعالى، وكلامُ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكلامُ العرب قال تعالى: ﴿ وَلَو رُدُّوا لَعَادوا لِمَا نُهوا عَنهُ ﴾(الأنعام:28) فهذا نظيرُ الآية سواء في أنه عدى فعل العود باللام، هو إتيانُهم مرة ثانية بمثل ما أتوا به أولاً، وقال تعالى: ﴿وَإِن عُدتُم عُدنا﴾(الإسراء:8) أي: إن كررتم الذنب، كررنا العقوبة، ومنه قوله تعالى:﴿ أَلَم تَرَ إلى الذِينَ نُهُوا عَن النجوَى ثُم يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنهُ﴾(المجادلة:8) وهذا في سورة المجادلة نفسها، وهو يُبـين المرادَ مِن العود فيه، فإنه نظيرُه فعلاً وإرادة، والعهد قريبٌ بذكره، وهذا كله جار على لسان العرب.

·  أن ما عدا تكرار اللفظ إما إمساكٌ، وإما عزم، وإما فعل، وليس واحدٌ منها بقول، فلا يكون الإتيان به عوداً، لا لفظاً ولا معنى، ولأن العزم والوطءَ والإمساكَ ليس ظهاراً، فيكون الإتيانُ بها عوداً إلى الظهار.

·  أنه لو أريد بالعودِ الرجوعُ في الشيء الذي منع منه نفسه كما يُقال، عاد في الهبة، لقال: ثم يعودون فيما قالوا، كما في الحديث، قال - صلى الله عليه وسلم -: (العَائِدُ في هِبتِهِ، كَالعَائِدِ في قَيئهِ).

·  أن أوس بن الصامت كان به لمم، فكان إذا اشتد بهِ لَمَمُه، ظاهَرَ من زوجته، فأنزل الله عز وجَل فيه كفارةَ الظهار، وهذا يقتضي التكرارَ ولا بُد، ولا يصِحُّ في الظهارِ إلا هذا الخبرُ وحده.

القول الثاني: عدم اشتراط تكرار الصيغة، وأن التعبير عن الظهار مرة واحدة كاف لحصول حكمه، وهو قول الجمهور عدا الظاهرية، ومن الأدلة على ذلك[78]:

·  أنه ليسَ معنى العود إعادة اللفظ الأول، لأن ذلك لو كان هو العود، لقال: ثُم يُعيدون ما قالوا، لأنه يُقال: أعاد كلامَه بعينه، وأما عاد، فإنما هو في الأفعال، كما يقال: عاد في فعله، وفي هبته، فهذا استعماله بـ(في). ويقال: عاد إلى عمله وإلى ولايته، وإلى حاله، وإلى إحسانه وإِساءتهِ، ونحو ذلك، وعاد له أيضاً، أما القول: فإنما يقال: أعاده[79].

·  أن القولَ في معنى المقول، والمقول هو التحريم، والعود له هو العودُ إليه، وهو استباحته عائداً إليه بعد تحريمه، وهذا جار على قواعد اللغة العربـية واستعمالِها. وهذا الذي عليه جمهورُ السلف والخلف، كما قال قتادة، وطاوس، والحسن، والزهريُّ، ومالك، وغيرُهم، ولا يُعرف عن أحد مِن السلف أنه فسر الآية بإعادة اللفظ ألبتة لا من الصحابة، ولا مِن التابعين، ولا مَن بعدهم.

·  أن العودَ إلى الفعل يستلزِمُ مفارقة الحال التي هو عليه الآن، وعوده إلى الحال التي كان عليها أولاً، كما قال تعالى:﴿ وإن عُدتُم عُدنَا﴾(الإسراء:8) لأن عودهم مفارقة ما هم عليه من الإحسان، وعودُهم إلى الإساءة، والحَالُ التي هو عليها الآن التحريمُ بالظهار، والتي كان عليها إبا حةُ الوطء بالنكاح الموجِبِ للحل. فَعَودُ المظاهر عودٌ إلى حِلَ كان عليهِ قبلَ الظهار، وذلك هو الموجبُ للكفارة.

·  أن هناك فرقا بـينَ العود في الهبة، وبـينَ العود لما قال المظاهِرُ، فإِن الهبة بمعنى الموهوب وهو عين يتضمن عودُه فيه إدخالَه في مُلكه وتصرُّفَه فيه، كما كان أولاً، بخلاف المظاهر، فإنه بالتحريم قد خرج عن الزوجية، وبالعودِ قد طلب الرجوعَ إلى الحالِ التي كان عليها معها قبلَ التحريم، فكان الأَليق أن يقال: عاد لكذا، يعني: عاد إليه. وفي الهبة: عاد إليها.

·  أن النبـيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمر أوسَ بن الصامِت، وسلمةَ بن صخر بكفارة الظهار، ولم يتلفظا به مرتين، فإنهما لم يُخبرا بذلك عن أنفسهما، ولا أخبر به أزواجُهما عنهما، ولا أحدٌ من الصحابة، ولا سألهما النبـيُّ - صلى الله عليه وسلم - :هَل قلتُما ذلك مرة أو مرتين؟ ومثلُ هذا لو كان شرطاً لما أهمل بـيانه.

·  أن العودَ يتضمن أمرين: أمراً يعود إليه، وأمراً يعود عنه. ولا بُد منهما فالذي يعود عنه يتضمن نقضَه وإِبطاله، والذي يعودُ إليه يتضمن إيثاره وإرادته، فعودُ المظاهر يقتضي نقضَ الظِهار وإبطاله، وإيثار ضده وإرادته، وهذا عينُ فهم السلفِ من الآية، فبعضُهم يقول: إن العود هو الإصابة. وبعضُهم يقول: الوطء، وبعضُهم يقول: اللمس، وبعضُم يقول: العزم.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو قول الجمهور لعدم تصريح النصوص باشتراط العود كما فهمه الظاهرية، ولأن المنكر من القول والزور يتحقق بتلفظه ولو مرة واحدة، كما أن الكفر يتحقق بكلمة واحدة، ولا حاجة إلى الإعادة إن صح القصد وتوفر الاختيار، ولكن قول الظاهرية له قيمته التربوية في صيغ الظهار المختلف فيها، وقد نبهنا سابقا إلى أن الأرجح فيما اختلف فيه هو تحري الورع وخاصة ممن تكرر منه اللفظ، لأن العود إلى المعصية يؤدي إلى الإصرار عليها، وقد قالوا: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار.

ونحب أن نشير هنا إلى أنه لا ينبغي أن يستهجن قول الظاهرية هنا لقلة من يقول به، فإنه اجتهاد وقع من أهله، وحل في محله، فإما أن يقبل بتقليد أو اتباع أو يرد بعلم وحجة، أما التعصب فلا مجال له هنا، وقد قال ابن القيم متعجبا ممن أنكر على ابن حزم مع تهافت رده:) والعجبُ مِن متعصب يقول: لا يُعتَد بخلاف الظاهرية، ويبحثُ معهم بمثل هذه البحوث، ويردُّ عليهم بمثل هذا الرد) [80]

4 ـ النية:

اتفق الفقهاء على اشتراط النية لصحة الكفارة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إنما الأعمال بالنيات) [81]، ولأن أنواع الكفارة يقع متبرعا به , وعن كفارة أخرى , أو نذر , فلم ينصرف إلى هذه الكفارة إلا بنية.

صفة النية:

هي أن ينوي العتق , أو الصيام , أو الإطعام عن الكفارة , فإن زاد الواجبة كان تأكيدا , وإلا أجزأت نيته الكفارة، وإن نوى وجوبها , ولم ينو الكفارة , لم يجزئه ; لأن الوجوب يتنوع عن كفارة ونذر , فوجب تمييزه.

واتفق الفقهاء على أنه لا يجب تعيين سبب النية إن اجتمعت عليه كفارات من جنس واحد , فلو كان مظاهرا من أربع نساء , فصام شهرين عن ظهاره , أجزأه عن إحداهن , وحلت له واحدة غير معينة ; لأنه واجب من جنس واحد, فأجزأته نية مطلقة , كما لو كان عليه صوم يومين من رمضان.

أما إن كانت الكفارة من أجناس مختلفة كظهار , وقتل , وفطر في رمضان, ويمين فقد اختلف الفقهاء فيها على قولين:

القول الأول: لا يفتقر إلى تعيين السبب، فلو كانت عليه كفارة واحدة , لا يعلم سببها, فكفر كفارة واحدة , أجزأه ذلك، وهو قول الشافعي ; لأنها عبادة واجبة , فلم تفتقر صحة أدائها إلى تعيين سببها , كما لو كانت من جنس واحد.

القول الثاني: يشترط تعيين سببها , ولا تجزئ نية مطلقة، فلو كانت عليه كفارة واحدة لا يعلم سببها , وهو قول أبي حنيفة ; لأنهما عبادتان من جنسين , فوجب تعيين النية لهما , كما لو وجب عليه صوم من قضاء ونذر.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو تحديد النية، وتعيين سببها، حرصا على أداء العبادة بصفتها المثلى، ولأن لكل كفارة أثرها الخاص بها.

موضع النية:

اختلف الفقهاء في موضع النية على قولين:

القول الأول: موضعها مع التكفير , أو قبله بيسير، وهو قول الجمهور.

القول الثاني: لا يجزئ حتى يستصحب النية , وهو قول بعض الشافعية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح درءا للوسوسة التي يقع فيها الكثير بسبب اشتراط مصاحبة النية أن موضعها مع التكفير بدون اشتراط استصحابها.

تأخر الكفارة عن الظهار:

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز تقديم كفارة الظهار قبله ; لأن الحكم لا يجوز تقديمه على سببه ،كما لو قدم كفارة اليمين عليها , أو كفارة القتل قبل القتل.

ومثله الظهار المعلق بأن قال لامرأته: إن دخلت الدار  فأنت علي كظهر أمي، فإنه لا يصح التكفير قبل دخول الدار ; لأنه تقديم للكفارة قبل الظهار.

سادسا ـ أنواع كفارة الظهار

النوع الأول: عتق رقبة:

اتفق الفقهاء على أن كفارة المظاهر القادر على الإعتاق , عتق رقبة , لا يجزئه غير ذلك لقول الله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾(المجادلة:3)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -  لأوس بن الصامت , حين ظاهر من امرأته: يعتق رقبة. قلت: لا يجد. قال: فيصوم)

موجبات عتق الرقبة:

وجود الرقبة:

اتفق الفقهاء على  أنه إن لم يجد رقبة يعتقها كما هو حاصل في عصرنا، فإن له الانتقال إلى الصيام , ومثله من وجد رقبة تباع بزيادة على ثمن المثل تجحف بماله , فإنه لا يلزمه شراؤها; لأن فيه ضررا عليه بذلك.

أن تكون زائدة عن حاجاته الأصلية :

اتفق الفقهاء على  على أن من وجد رقبة فاضلة عن حاجته , فليس له الانتقال إلى الصيام، واختلفوا فيما لو كانت له رقبة يحتاج إلى خدمتها لزمن , أو كبر , أو مرض , ولا يجد رقبة فاضلة عن خدمته على قولين:

القول الأول: ليس عليه الإعتاق، وهو قول الشافعي وأحمد، واستدلوا على ذلك بأن ما استغرقته حاجة الإنسان , فهو كالمعدوم , في جواز الانتقال إلى البدل , كمن وجد ماء يحتاج إليه للعطش , يجوز له الانتقال إلى التيمم.

القول الثاني: أن عليه الإعتاق ،ولا يجوز له الانتقال إلى الصيام , سواء كان محتاجا إليها , أو لم يكن، وهو قول أبي حنيفة , ومالك[82] , والأوزاعي، واستدلوا على ذلك بأن الله تعالى  شرط في الانتقال إلى الصيام أن لا يجد رقبة , بقوله: ﴿ فمن لم يجد ﴾،  وهذا واجد.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو التقيد بالنص القرآني، فوجود الرقبة يقتضي وجوب عتقها، لأن الكفارة عقوبة، ولا بد فيها من حصول نوع من الضرر لمن تسبب في جلبه لنفسه.

حضور المال الكافي:

اتفق الفقهاء على  أن المظاهر إن كان موسرا حين وجوب الكفارة , إلا أن ماله غائب , وكان المال مرجو الحضور قريبا , لم يجز له الانتقال إلى الصيام ; لأن ذلك بمنزلة الانتظار لشراء الرقبة، أما إن كان بعيدا فقد اختلف الفقهاء في الانتظار وهل يجوز في كفارة الظهار أم لا على قولين:

القول الأول: لا يجوز ; لوجود الأصل في ماله , فأشبه سائر الكفارات.

القول الثاني: أنه يجوز ; لأنه يحرم عليه المسيس , فجاز له الانتقال لموضع الحاجة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو وجوب عتق الرقبة ما دام يجد المال الكافي لذلك، ولا يضر بعد المال عنه، فهو غني كان ماله قريبا أو بعيدا.

شروط الرقبة التي تجزئ في التكفير:

1 ـ الإيمان :

اختلف الفقهاء في اشتراط الإيمان في الرقبة على قولين: 

القول الأول: أنه لا يجزئه إلا عتق رقبة مؤمنة في كفارة الظهار , وسائر الكفارات، وهو قول الحسن , ومالك , والشافعي , وإسحاق , وأبي عبيد وأحمد في رواية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  عن معاوية بن الحكم , قال: كانت لي جارية , فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -  فقلت: علي رقبة أفأعتقها ؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أين الله[83] ؟ قالت: في السماء. قال: من أنا ؟. قالت: أنت رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعتقها ; فإنها مؤمنة) [84]، فعلل جواز إعتاقها عن الرقبة التي عليه بأنها مؤمنة , فدل على أنه لا يجزئ عن الرقبة التي عليه إلا مؤمنة.

·      أنه تكفير بعتق , فلم يجز إلا مؤمنة , ككفارة القتل.

·  أن المطلق يحمل على المقيد من جهة القياس إذا وجد المعنى فيه , ولا بد من تقييده لأنه مجمع على أنه لا يجزئ إلا رقبة سليمة من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا , فالتقييد بالسلامة من الكفر أولى.

القول الثاني: أنه يجزئ فيما عدا كفارة القتل من الظهار وغيره , عتق رقبة ذمية،  وهو قول عطاء , والنخعي , والثوري , وأبي ثور , وأصحاب الرأي , وابن المنذر ورواية عن أحمد، وهو مذهب الظاهرية، واستدلوا على ذلك بأن الله تعالى  أطلق الرقبة في هذه الكفارة , فوجب أن يجزئ ما تناوله الإطلاق.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو وجوب عتق الرقبة المؤمنة إلا إذا كان في عتق غيرها تأليفا لقلب المعتق رجاء إسلامه، فإن له أن يعتقه على هذه النية، فعتق الرقبة عبادة، ومن كمال العبادة أن تؤدى بأحسن وجوهها، ولا معنى لعتق رقبة كافر لا يعود خيره للمسلمين.

2 ـ السلامة من العيوب :

اختلف الفقهاء في اشتراط السلامة من العيوب في الرقبة المجزئة في كفارة الظهار على قولين:

القول الأول: اعتبار هذا الشرط، فلا يجزئه إلا رقبة سالمة من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا، فلا يجزئ الأعمى ; لأنه لا يمكنه العمل في أكثر الصنائع , ولا المقعد , ولا المقطوع اليدين أو الرجلين، والشلل كالقطع في هذا، ولا يجزئ المجنون جنونا مطبقا , لأنه وجد فيه المعنيان , ذهاب منفعة الجنس , وحصول الضرر بالعمل[85]، وهو قول مالك , والشافعي , وأبي ثور , وأصحاب الرأي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن المقصود تمليك العبد منافعه , مما يمكنه من التصرف لنفسه , ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضررا بينا.

·  أن هذا نوع كفارة , فلم يجزئ ما يقع عليه الاسم كالإطعام ; فإنه لا يجزئ أن يطعم مسوسا ولا عفنا , وإن كان يسمى طعاما.

القول الثاني: جواز عتق كل رقبة يقع عليها الاسم، وهو قول الظاهرية كما مر معنا سابقا , أخذا بإطلاق اللفظ.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عتق الرقبة المؤمنة سواء كانت سليمة أم معيبة عملا بإطلاق النصوص، ومراعاة لمقاصد الشرع من التعامل مع المسلمين على أسس التقوى لا على التفريق بينهم بأي عارض من العوارض، بل قد يكون عتق المعيبة أصلح أحيانا من عتق السليمة إن كان في ذلك تخفيفا عليها.

النوع الثاني: صيام شهرين متتابعين :

اتفق الفقهاء على  أن المظاهر إذا لم يجد رقبة فإن فرضه صيام شهرين متتابعين، لقول الله تعالى : ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾(المجادلة:4)، ولحديث أوس بن الصامت, وسلمة بن صخر السابقين.

شروط صيام الكفارة :

1 ـ التتابع: أجمع العلماء على وجوب التتابع في الصيام في كفارة الظهار،  وأجمعوا على أن من صام بعض الشهر , ثم قطعه لغير عذر , وأفطر , أن عليه استئناف الشهرين، وأجمعوا على أن الصائمة متتابعا , إذا حاضت قبل إتمامه , تقضي إذا طهرت , وتبني لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في الشهرين إلا بتأخيره إلى الإياس[86]، وأجمعوا على أن من  أفطر لجنون , أو إغماء , لم ينقطع التتابع ; لأنه عذر لا صنع له فيه،  واستدلوا على ذلك بورود لفظ الكتاب والسنة بشرط التتابع , ومعنى التتابع الموالاة بين صيام أيامها, فلا يفطر فيهما , ولا يصوم عن غير الكفارة.

وقد اختلف الفقهاء في اشتراط تجديد النيةكل ليلة على قولين:

القول الأول: عدم اشتراط التجديد، وهو قول للشافعية والحنابلة، واستدلوا على ذلك بأنه تتابع واجب في العبادة , فلم يفتقر إلى نية , كالمتابعة بين الركعات، ويختلف ذلك عن الجمع بين الصلاتين , لأنه رخصة , فافتقر إلى نية الترخص.

القول الثاني: أنها واجبة لكل ليلة وهو قول للشافعية، لأن ضم العبادة إلى العبادة إذا كان شرطا , وجبت النية فيه , كالجمع بين الصلاتين.

القول الثالث: يكتفى بنية التتابع في الليلة الأولى، وهو قول المالكية.

الترجيح:

هذه المسألة يحتاج الترجيح فيها إلى بسط الأدلة فيها، وذلك لا علاقة له بهذا الباب، وإنما ذكرنا هذه المسائل هنا لعلاقتها بالظهار، ولكن مع ذلك يمكن القول بأن أرجح الأقوال فيها من الناحية المقاصدية التي يفرضها الواقع هو القول الثالث، لأنه أبعد الأقوال عما يؤدي إليه القول بوجوبها كل ليلة من التكلف والوسوسة، خاصة وأن النية هي عزم القلب على أداء الطاعة، فليس لها ذلك الشكل العادي لسائر التكاليف.

مسوغات قطع التتابع :

اتفق الفقهاء على أنه إن أفطر في أثناء الشهرين لغير عذر , أو قطع التتابع بصوم نذر , أو قضاء , أو تطوع , أو كفارة أخرى , لزمه استئناف الشهرين ; لأنه أخل بالتتابع المشروط , ويقع صومه عما نواه، واختلفوا في بعض الأحوال التي يقطع فيها التتابع، ومن هذه الأحوال :

المرض المخوف:

اختلف الفقهاء في انقطاع التتابع للمرض الخطير المخوف على قولين:

القول الأول: لا ينقطع التتابع بذلك[87]، وقد روي عن ابن عباس، وبه قال ابن المسيب , والحسن , وعطاء , والشعبي , وطاوس , ومجاهد , ومالك , وإسحاق , وأبو عبيد , وأبو ثور،  وابن المنذر , والشافعي في القديم، واستدلوا على ذلك بأنه أفطر لسبب لا صنع له فيه , فلم يقطع التتابع , كإفطار المرأة للحيض.

القول الثاني: ينقطع التتابع، وهو قول سعيد بن جبير , والنخعي , والحكم , والثوري , وأصحاب الرأي وقول الشافعي في الجديد، واستدلوا على ذلك بأنه أفطر بفعله , فلزمه الاستئناف , كما لو أفطر لسفر.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

المسافر :

اختلف الفقهاء في قطع الفطر في السفر للتابع في صيام الكفارة على قولين:

القول الأول: أنه لا يقطع التتابع، وهو قول الحسن ورواية عن أحمد وقول للشافعية، واستدلوا على ذلك بأن السفر حصل باختياره , فقطع التتابع , كما لو أفطر لغير عذر.

القول الثاني: ينقطع به التتابع، وهو قول مالك والحنفية ورواية عن أحمد، وقول للشافعية، واستدلوا على ذلك بأن هذ فطر لعذر مبيح للفطر , فلم ينقطع به التتابع , كإفطار المرأة بالحيض.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول لأن السفر من الأعذار المبيحة للفطر، فكان بذلك مسوغا لقطع التتابع.

حكم معاشرة الزوجة قبل الانتهاء من الشهرين :

اختلف الفقهاء فيما لو أصابها في ليالي الصوم[88]، هل يفسد ما مضى من صيامه أم لا على قولين:

القول الأول: يفسد ما مضى من صيامه، وبهذا قال مالك , والثوري , وأبو عبيد , وأصحاب الرأي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن الله تعالى  قال: ﴿ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾(المجادلة:4)، فأمر بهما خاليين عن وطء , ولم يأت بهما على ما أمر , فلم يجزئه , كما لو وطئ نهارا.

·      أنه تحريم للوطء لا يختص النهار , فاستوى فيه الليل والنهار كالاعتكاف.

القول الثاني :أن التتابع لا ينقطع بهذا، وهو مذهب الشافعي , وأبي ثور , وابن المنذر، ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أنه وطء لا يبطل الصوم , فلا يوجب الاستئناف , كوطء غيرها.

·  أن التتابع في الصيام عبارة عن إتباع صوم يوم للذي قبله , من غير فارق , وهو متحقق , وإن وطئ ليلا , لأن ارتكاب النهي في الوطء قبل إتمامه إذا لم يخل بالتتابع المشترط , لا يمنع صحته وإجزاءه , كما لو وطئ قبل الشهرين , أو وطئ ليلة أول الشهرين وأصبح صائما , والإتيان بالصيام قبل التماس في حق هذا لا سبيل إليه , سواء بنى أو استأنف.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لعدم العلاقة بين فعل المحرم وأداء الكفارة، فهو عاص في الأول، ومطيع في الثاني، والمعصية لا تنسخ الطاعة إلا بدليل خاص، ولا دليل هنا على ذلك.

النوع الثالث: إطعام ستين مسكينا :

أجمع العلماء على أن المظاهر إذا لم يجد الرقبة , ولم يستطع الصيام , أن فرضه إطعام ستين مسكينا سواء عجز عن الصيام لكبر , أو مرض يخاف بالصوم تباطؤه أو الزيادة فيه , أو الشبق فلا يصبر فيه عن الجماع ،فعن أوس بن الصامت , لما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  بالصيام , قالت امرأته: يا رسول الله , إنه شيخ كبير , ما به من صيام. قال: فليطعم ستين مسكينا) [89].

ولما أمر سلمة بن صخر بالصيام قال: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام , قال: فأطعم) [90]، فنقله إلى الإطعام لما أخبر أن به من الشبق والشهوة ما يمنعه من الصيام.

ويجوز أن ينتقل إلى الإطعام إذا عجز عن الصيام للمرض , وإن كان مرجو الزوال، بخلاف السفر، فإنه لا يجوز ،لأن السفر لا يعجزه عن الصيام , وله نهاية ينتهي إليها وهو من أفعاله الاختيارية، وذلك كله لقولهتعالى: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ﴾(المجادلة:4)

مقدار الإطعام :

اختلف الفقهاء في المقدار الذي يكفر به في الإطعام على قولين:

القول الأول :أن قدر الطعام في الكفارات كلها مد من بر لكل مسكين , أو نصف صاع[91] من تمر أو شعير، وقد روي عن زيد بن ثابت , وابن عباس , وابن عمر، وهو قول أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -  للمظاهر: أطعم هذا ; فإن مدي شعير مكان مد بر[92].

·  أنه قول زيد , وابن عباس , وابن عمر , وأبي هريرة , ولم يعرف لهم في الصحابة مخالف, فكان إجماعا.

·  ما روى عطاء بن يسار , أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  قال لخويلة امرأة أوس بن الصامت اذهبي إلى فلان الأنصاري , فإن عنده شطر وسق من تمر , أخبرني أنه يريد أن يتصدق به , فلتأخذيه , فليتصدق به على ستين مسكينا.

·  في حديث أوس بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  قال: إني سأعينه بعرق من تمر. قلت: يا رسول الله , فإني سأعينه بعرق آخر. قال: قد أحسنت , اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكينا , وارجعي إلى ابن عمك  وقد حدد العرق بأنه زنبيل يأخذ خمسة عشر صاعا. فعرقان يكونان ثلاثين صاعا , لكل مسكين نصف صاع[93].

·  قال سليمان بن يسار: أدركت الناس إذا أعطوا في كفارة اليمين مدا من حنطة بالمد الأصغر , مد النبي - صلى الله عليه وسلم -.

·  أنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام , فكان لكل مسكين نصف صاع من التمر والشعير, كفدية الأذى.

القول الثاني: يطعم مدا من أي الأنواع كان، وهو مروي عن أبي هريرة، وبه قال عطاء, والأوزاعي , والشافعي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  عن أوس أبن أخي عبادة بن الصامت , أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه  يعني المظاهر خمسة عشر صاعا من شعير , إطعام ستين مسكينا[94].

·  القياس على ما ورد في حديث المجامع في رمضان , أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  أتي بعرق فيه خمسة عشر صاعا , فقال: (خذه وتصدق به) [95]، لأنه إطعام واجب , فلم يختلف باختلاف أنواع المخرج , كالفطرة وفدية الأذى.

القول الثالث: لكل مسكين مدان من جميع الأنواع،  وهو قول مجاهد , وعكرمة , والشعبي , والنخعي ومالك، واستدلوا على ذلك بأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام , فكان لكل مسكين نصف صاع , كفدية الأذى.

القول الرابع: من القمح مدان , ومن التمر والشعير صاع، وهو قول الثوري والحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      قول النبي - صلى الله عليه وسلم -  في حديث سلمة بن صخر: فأطعم وسقا من تمر[96].

·  ما ورد في حديث خويلة قالت: فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر، والعرق ستون صاعا[97].

·      أنه إطعام للمساكين , فكان صاعا من التمر والشعير , أو نصف صاع من بر , كصدقة الفطر.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أن ذلك يختلف بحال الشخص من الفقر والغنى، والدليل عليه ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه -  قال: (كفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  بصاع من تمر , وأمر الناس: فمن لم يجد فنصف صاع من بر) [98]، فهذا الخلاف الوارد هنا ليس اختلاف تضاد، بل هو اختلاف تابع لأحوال الناس المختلفة، بل من قدر على ما هو أكثر مما ذكر، فهو أولى واعظم تكفيرا، لأن ما ذكر هو الحد الأدنى الذي يطيقه كل الناس.

مستحق الإطعام :

اتفق الفقهاء على أن مستحق الكفارة هم المساكين الذين يعطون من الزكاة, لقول الله تعالى: ﴿ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ﴾(المجادلة:4)،والفقراء يدخلون فيهم ; لأن فيهم المسكنة وزيادة , أما الأغنياء فلا  حق لهم في الكفارة , سواء كانوا من أصناف الزكاة , كالغزاة والمؤلفة , أو لم يكونوا , لأن الله تعالى  خص بها المساكين، واتفقوا على أن الواجب في الإطعام إطعام ستين مسكينا، واختلفوا فيما لو جمع هذا الإطعام لمسكين واحد، هل يجزئه ذلك أم لا على قولين:

القول الأول :لا يجزئه ذلك، وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      قول الله تعالى: ﴿فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ﴾(المجادلة:4)، وهذا لم يطعم إلا واحدا , فلم يمتثل الأمر.

·      أن الله أمر بعدد المساكين , لا بعدد الأيام , وقائل هذا يعتبر عدد الأيام دون عدد المساكين.

القول الثاني: لو أطعم مسكينا واحدا في ستين يوما , أجزأه، وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بأن هذا المسكين لم يستوف قوت يومه من هذه الكفارة , فجاز أن يعطى منها , كاليوم الأول.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو مراعاة النص القرآني، وفي ذلك من المصالح الشرعية ـ زيادة على ما يطعمهم به ـ البحث عن الفقراء وإحصاؤهم والتعرف عليهم، بخلاف تسليمها لفقير واحد قد يتفق الناس على إعطاء صدقاتهم وكفاراتهم ونذورهم له مع الغفلة عن غيره ممن قد يكونون أحوج منه.

كيفية الإطعام :

اختلف الفقهاء في كيفية الإطعام، هل هي تمليك الطعام أم التغذية على قولين:

القول الأول: أن الواجب تمليك كل إنسان من المساكين القدر الواجب له من الكفارة , ولو غدى المساكين أو عشاهم لم يجزئه , سواء فعل ذلك بالقدر الواجب , أو أقل , أو أكثر , ولو غدى كل واحد بمد , لم يجزئه , إلا أن يملكه إياه، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن المنقول عن الصحابة إعطاؤهم ; ففي قول زيد , وابن عباس , وابن عمر , وأبي هريرة , مد لكل فقير.

·  قال النبي - صلى الله عليه وسلم -  لكعب في فدية الأذى: أطعم ثلاثة آصع من تمر , بين ستة مساكين[99].

·      أنه مال وجب للفقراء شرعا , فوجب تمليكهم إياه كالزكاة.

القول الثاني: أنه يجزئه إذا أطعمهم القدر الواجب لهم، وهو قول النخعي, وأبي حنيفة ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      ما روي أن أنس أطعم في فدية الصيام، قال أحمد: أطعم شيئا كثيرا , وصنع الجفان.

·      قول الله تعالى : ﴿ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ﴾(المجادلة:4)، وهذا قد أطعمهم , فينبغي أن يجزئه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أن كلا الأمرين جائز، فهو مخير بين تسليم الطعام لهم ليأكلوه جاهزا أو تسليم القمح ونحوه من غالب قوت أهل البلد من باب التمليك، أو دعوتهم للطعام، فكل هذا يصح إطلاق الطعام عليه، وفي كل نوع من هذه الأنواع مصالح شرعية تخصها، ليس هذا مجال تفصيلها.

التتابع في الإطعام:

نص الفقهاء على أنه لا يجب التتابع في الإطعام، فلو أطعم اليوم واحدا , وآخر بعد أيام , وآخر بعد حتى يستكمل عشرة، فلا بأس بذلك، لأن الله تعالى  لم يشترط التتابع فيه، وقد اختلف الفقهاء فيما لو وطئ في أثناء الإطعام , هل تلزمه إعادة ما مضى أم لا على قولين:

القول الأول: لا تلزمه إعادة ما مضى منه، وبه قال أبو حنيفة , والشافعي، وأحمد، لأنه وطئ في أثناء ما لا يشترط التتابع فيه , فلم يوجب الاستئناف , كوطء غير المظاهر منها , أو كالوطء في كفارة اليمين , وبهذا فارق الصيام.

القول الثاني: يستأنف، وهو قول مالك، لأنه وطئ في أثناء كفارة الظهار, فوجب الاستئناف , كالصيام.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة عدم لزوم الإعادة، لأن المعصية كما ذكرنا سابقا لا تنسخ الطاعة، فلكل منهما ميدانه الخاص، ولا بصح قياس الإطعام هنا على الصيام، لأن الشرع اشترط في الصيام التتابع ولم يشترطه في الصيام.

إخراج القيمة في الطعام:

اختلف الفقهاء في جواز إخراج القيمة في الطعام على قولين:

القول الأول: لا تجزئ القيمة في الكفارة، وهو قول الجمهور.

القول الثاني: تجزئ القيمة في الكفارة، وهو قول الحنفية ورواية عن أحمد.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو النظر إلى حاجة الفقير الذي يريد أن يسلم له الطعام، فإن كان مستقيما بحيث يضع هذا المال في موضعه الصحيح، فلا بأس بتقديم القيمة له، وقد ورد في الآثار ما يؤيد ذلك، أما إن كان مسرفا، لا يضع المال في مواضعه الصحيحة، فإن الأولى هو تقديم الطعام بدل القيمة.

وهذا يدل على أن المكفر لا يبذل جهدا فقط بإخراج المال، وإنما يضيف إليه البحث عن الفقراء ونوع حاجاتهم، ولعل هذا هو السر في تفريق القرآن الكريم بين الفقراء والمساكين والترتيب بينهم ليبحث عن الأولى فالأولى.

أسباب تعدد الكفارة

لتعدد الكفارة أسباب ذكرها الفقهاء مع اختلافهم في بعضها، منها:

1 ـ تعدد المظاهر منها :

اختلف الفقهاء في وجوب تعدد الكفارة على المظاهر لو تظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة، فقال: أنتن علي كظهر أمي، على قولين:

القول الأول: ليس عليه أكثر من كفارة، وهو قول علي , وعمر وعروة, وطاوس, وعطاء , وربيعة , ومالك , والأوزاعي , وإسحاق , وأبي ثور والشافعي في القديم وأحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      عموم قول عمر وعلي w  ولا يعرف لهما في الصحابة مخالفا , فكان إجماعا.

·  أن الظهار كلمة تجب بمخالفتها الكفارة , فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة , كاليمين بالله تعالى.

·      أن هذا يختلف عما لو ظاهر بكلمات متفرقة، فإن كل كلمة تقتضي كفارة ترفعها, وتكفر إثمها.

القول الثاني: أن عليه لكل امرأة كفارة، وهو قول الحسن , والنخعي , والزهري , ويحيى الأنصاري , والحكم , والثوري , والحنفية , والشافعي في الجديد، وهو قول الإمامية[100]، واستدلوا على ذلك بأنه وجد الظهار والعود في حق كل امرأة منهن , فوجب عليه عن كل واحدة كفارة , كما لو أفردها به، ومن الأدلة على ذلك:

·  أن الظهار وإن كان بكلمة واحدة فإنها تتناول كل واحدة منهن على حيالها فصار مظاهرا من كل واحدة منهن.

·      أن الظهار تحريم  لا يرتفع إلا بالكفارة، فإذا تعدد التحريم تتعدد الكفارة.

·  أن الكفارة تجب في الإيلاء لحرمة اسم الله تعالى جبرا لهتكه، والاسم اسم واحد فلا تجب إلا كفارة واحدة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الكفارة الواحدة تغني في الردع عن العود لما قال، فلذلك يمكن الاكتفاء بها في هذه المسألة، خاصة وأنه خاطبهن بلفظ واحد، زيادة على أن التكليف المرهق فوق الطاقة قد ينتج التفلت من التكليف كلية.

ولكنه في حال كون التكفير بالإطعام، وكان المطعم موسرا، فإن الأورع هو القول بتعدد الكفارة في حقه مراعاة للخلاف.

2 ـ تكرر الظهار :

اتفق الفقهاء على أن المظاهر إن كفر عن الظهار الأول , ثم ظاهر مرة ثانية، فإنه يلزمه للظهار الثاني كفارة، لأن الظهار الثاني مثل الأول , لأنه حرم الزوجة المحللة , فأوجب الكفارة كالأول، واختلفوا فيما لو ظاهر من زوجته مرارا , فلم يكفر، هل عليه كفارة واحدة أم أكثر على قولين:

القول الأول: عليه كفارة واحدة سواء كان ذلك في مجلس واحد  أو مجالس متعدد, ينوي بذلك التأكيد , أو الاستئناف , أو أطلق، وقد روي ذلك عن علي - رضي الله عنه -  ، وبه قال عطاء, وجابر بن زيد , وطاوس , والشعبي , والزهري , ومالك , وإسحاق , وأبو عبيد , وأبو ثور، وهو قول الشافعي القديم،ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أنه قول لم يؤثر تحريما في الزوجة , فلم تجب به كفارة الظهار , كاليمين بالله تعالى، لأنها قد حرمت بالقول الأول , ولم يزد تحريمها.

·      أنه لفظ يتعلق به كفارة , فإذا كرره كفاه واحدة , كاليمين بالله تعالى.

·      أنه لا يصح قياس ذلك على الطلاق  لأنه ما زاد فيه عن ثلاث , لا يثبت له حكم بالإجماع.

القول الثاني: أن عليه أكثر من كفارة، وقد اختلفوا في تفاصيل ذلك على رأيين:

الرأي الأول: اعتبار النية، فإن أراد تأكيد اليمين , فكفارة واحدة، وإن نوى الاستئناف فكفارتان، وهو قول الثوري , والشافعي في الجديد، ورواية عن أحمد، ونص الحنفية على أنه لو ظاهر من امرأة واحدة في مجلس واحد ثلاثا أو أربعا، فإن لم يكن له نية فعليه لكل ظهار كفارة ; أما إن نوى به الظهار الأول فعليه كفارة واحدة ; لأن صيغته صيغة الخبر وقد يكرر الإنسان اللفظ على إرادة التغليظ والتشديد دون التجديد، ومن الأدلة على ذلك:

·      أن كل ظهار يوجب تحريما لا يرتفع إلا بالكفارة.

·  أن الثاني إن كان لا يفيد تحريما جديدا، فإنه يفيد تأكيد الأول، فلئن تعذر إظهاره في التحريم أمكن إظهاره في التكفير، فكان مفيدا فائدة التكفير ,

الرأي الثاني: إن كان في مجلس واحد , فكفارة واحدة , وإن كان في مجالس متعددة, فكفارات متعددة، وقد روي ذلك عن علي , وعمرو بن دينار, وقتادة، واستدلوا على ذلك بأنه قول يوجب تحريم الزوجة , فإذا نوى الاستئناف تعلق بكل مرة حكم حالها, كالطلاق.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو الرأي الثاني من القول الثاني لأن ربط التكفير بالعود في المجالس المختلفة يدل على إصرار المظاهر على العود بخلاف كونه في مجلس واحد، لأن الحال الذي دعاه للنطق به في ذلك المجلس قد يدعوه لتكريره، فلذلك منحت له الفرصة للعودة إلى عقله، وتحكيم الشرع، فإن لم يعد استحق عقوبة تعدد الكفارة.

أما القول بعدم تعدد الكفارة فإنه سيصبح ذريعة للتمادي على هذا القول، فالكثير من الناس يلاحظون العقوبة أكثر من ملاحظتهم للإثم، فإذا قيل له إنك مهما ظاهرت امرأتك لا تكفر إلا كفارة واحدة قد يجعله قد يتراخى في التكفير إلى أن يجمع الكثير من الذنوب ليكفر عنها جميعا مرة واحدة.

3 ـ الإشراك في الظهار:

اتفق الفقهاء على أنه إذا ظاهر من امرأة , ثم قال لأخرى: أشركتك معها , أو أنت شريكتها , ونوى المظاهرة من الثانية , صار مظاهرا منها، أما إن أطلق، فقد اختلف الفقهاء في  ذلك على قولين:

القول الأول: صار مظاهرا إذا كان عقيب مظاهرته من الأولى , وهو قول مالك، ورواية عن أحمد، ومثله ما لو أفرد كل واحدة منهن بلفظ ظهار في مجلس أو مجالس فيقول لإحداهن أنت علي كظهر أمي ثم يقول للأخرى: أنت علي كظهر أمي، ثم قال للثالثة كذلك ويقول للرابعة كذلك لوجب عليه لكل واحدة منهن كفارة كاملة بالعودة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أنه كمن حلف لا يأكل الطعام، ثم حلف لا يلبس الثوب، ثم حلف لا يدخل الدار، فحنث لزمته بكل يمين كفارة كاملة

·  أن الشركة والتشبيه لا بد أن يكون في شيء , فوجب تعليقه بالمذكور معه , كالعطف مع المعطوف عليه , والصفة مع الموصوف.

·      أنه وجد دليل النية , فيكتفى بها.

القول الثاني: أنه لا يصير مظاهرا منها، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أنه ليس بصريح في الظهار , ولا نوى به الظهار فلم يكن ظهارا , كما لو قال ذلك قبل أن يظاهر من الأولى.

·  أنه يحتمل أنها شريكتها في دينها , أو في الخصومة , أو في النكاح , أو سوء الخلق , فلم تخصص بالظهار إلا بالنية , كسائر الكنايات.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة مثلما ذكرنا سابقا هو أن العبرة باختلاف المجلس، لأن حاله مع زوجه الأولى قد لا يختلف عن حاله مع زوجه الثانية في تلك اللحظة، بخلاف ما لو تعدد المجلس، فإن ذلك ينبئ عن الإصرار الداعي لمضاعفة العقوبة.

ثانيا ـ الإيلاء

حقيقة الإيلاء

لغة: آلَـى يُؤْلـي  إِيلاءً:   حَلَفَ، وتَأَلَّى يتأَلَّـى تَأَلِّـياً وأْتَلـى يَأْتَلِـي ائْتِلاَءً. وفـي التنزيل العزيز: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ﴾(النور:2)قال الفراء: الائْتِلاءُ الـحَلِفُ، قال الشاعر:

قليل الألايا حافظ ليمينه      إذا صدرت منه الألية برت

وقد تَأَلَّـيْتُ وأْتَلَـيْت وآلَـيْتُ علـى الشيء وآلَـيْتُه، علـى حذف الـحرف: أَقْسَمْت. وآلـى من نسائه أَي حلف لا يدْخُـل علـيهن، وإِنما عَدَّاهُ بِمِن حملاً علـى الـمعنى، وهو الامتناع من الدخول، وهو يتعدى بمن[101].

اصطلاحا: اختلفت تعاريف الإيلاء بحسب الآراء الفقهية المختلفة، ومن تعاريفه:

·  هو عبارة عن اليمين على ترك الوطء في الزوجة مدة مخصوصة بحيث لا يمكنه الوطء إلا بحنث يلزمه بسبب اليمين[102]. 

·  هو حلف زوج يمكنه الوطء بالله تعالى أو صفته كالرحمن الرحيم على ترك وطء زوجته في قبلها أبدا أو أكثر من أربعة أشهر[103].

حقيقة الإيلاء:

اختلف الفقهاء اختلافا شديدا من لدن السلف الصالح - رضي الله عنهم -  في حقيقة الإيلاء، فروي عن علي وابن عباس - رضي الله عنهم -  أنه إذا حلف أن لا يقربها لأجل الرضاع لم يكن موليا , وإنما يكون موليا إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار والغضب، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه -  أن كل يمين حالت دون الجماع إيلاء ; ولم يفرق بين الرضا والغضب , وهو قول إبراهيم وابن سيرين والشعبي، وروي عن سعيد بن المسيب: أنه في الجماع وغيره من الصفات , نحو أن يحلف أن لا يكلمها فيكون موليا[104]، وروي عن ابن عمر - رضي الله عنه -  أنه إن هجرها فهو إيلاء , ولم يذكر الحلف.

وانطلاقا من هذه التعاريف وغيرها يمكن القول بأن الإيلاء يتكون من حقيقتين متغايرتين على أساسهما تبنى المقاصد الشرعية في هذا الباب، إحدى الحقيقتين تعبدية محضة، وهي كون الإيلاء يمينا كسائر الأيمان، والأخرى تتعلق بالزوجة، ويتعدى أثرها إليها، وهي المقصودة من الإيلاء بالأصالة، وهي الامتناع عن معاشرة الزوجة فترة معينة.

ولعل هذا هو السر في ترتيب النظم القرآني بين الإيلاء والقسم من جهة، والإيلاء والطلاق من جهة أخرى، بل في هذا الترتيب من النواحي التي نستفيد منها في استنباط المقاصد القرآنية من تشريع أحكام الإيلاء ما فيه.

فقد قال تعالى:﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾(البقرة:224)، وكأن هذه الآية وهي عامة في دلالتها تتحدث عن الإيلاء خصوصا، لتشير إلى عدم اتخاذ الأيمان حائلا بين العبد والرجوع لزوجته، فإن اسم الله عظيم، ومع ذلك لا ينبغي أن يتخذ اسمه تعالى ذريعة للتقاطع والفساد.

ثم جاء بعدها رفع المؤاخذة عن اللغو في الأيمان التي ليس فيها أي ضرر، فقال تعالى :﴿لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ (البقرة: 225)

وبعدها جاءت آية الإيلاء، وجمع فيها بين كلتا الحقيقتين، أما الحقيقة الأولى فعبر عنها بقوله تعالى :﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(البقرة:226)، فختمت بالمغفرة، وقدمت لبيان كونها الأولى، وعبر عن الحقيقة الثانية بقوله تعالى :﴿ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(البقرة:227)

وبعدها جاءت أحكام الطلاق في سورة البقرة، مبتدأة بقوله تعالى :﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ.. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(البقرة:228)

أحكام الإيلاء

اتفق الفقهاء على حرمة الإيلاء، بل عده بعضهم من الكبائر، كما عد الظهار، قال ابن حجر:) عدي لهذا كبيرة غير بعيد , وإن لم أر من ذكره كالذي قبله ; لأن فيه مضارة عظيمة للزوجة; لأن صبرها عن الرجل يفنى بعد الأربعة أشهر كما قالته حفصة أم المؤمنين لأبيها عمر - رضي الله عنه - ، فأمر أن لا يغيب أحد عن زوجته ذلك , ولعظيم هذه المضرة أباح الشارع للقاضي إذا لم يطأ الزوج بعد الأربعة أشهر أن يطلق عليه طلقة([105]

وسنفصل هنا الكلام عن أحكام الإيلاء بحسب ما ذكرناه في حقيقته، فحقيقة الإيلاء تتكون من هذه الأسس الخمسة التي ترجع إلى المعنيين اللذين ذكرناهما في حقيقته:

وجود القسم في الإيلاء

لأن معنى الإيلاء لغة وشرعا هو القسم، ولذلك لو ترك الوطء بغير يمين , لم يكن موليا، ولكن إن ترك ذلك لعذر من مرض , أو غيبة , ونحوه , لم تضرب له مدة , أما إن تركه مضرا بها , فقد اختلف الفقهاء في  ضرب مدة له على قولين:

القول الأول: تضرب له مدة أربعة أشهر , فإن وطئها , وإلا دعي بعدها إلى الوطء, فإن امتنع منه , أمر بالطلاق , مثلما يفعل في الإيلاء , وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أنه أضر بها بترك الوطء في مدة الإيلاء , فيلزم حكمه , كما لو حلف , ولأن ما وجب أداؤه إذا حلف على تركه , وجب أداؤه إذا لم يحلف , كالنفقة وسائر الواجبات.

·  أن اليمين لا تجعل غير الواجب واجبا إذا أقسم على تركه , فوجوبه معها يدل على , وجوبه قبلها.

·  أن وجوبه في الإيلاء إنما كان لدفع حاجة المرأة , وإزالة الضرر عنها , وضررها لا يختلف بالإيلاء وعدمه , فلا يختلف الوجوب.

·  أن الإيلاء إنما خص ذكره في الشرع بتلك التفاصيل، لأنه  يدل على قصد الإضرار , فيتعلق الحكم به , فإذا لم يظهر منه قصد الإضرار , اكتفي بدلالته , وإذا لم توجد اليمين, احتجنا إلى دليل سواه يدل على المضارة , فيعتبر الإيلاء لدلالته على المقتضى لا لعينه.

القول الثاني: لا تضرب له مدة، وهو مذهب أبي حنيفة , والشافعي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أنه ليس بمول , فلم تضرب له مدة , كما لو لم يقصد الإضرار.

·  أن تعليق الحكم بالإيلاء يدل على انتفائه عند عدمه , إذ لو ثبت هذا الحكم بدونه , لم يكن له أثر.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن من آلى بغير قسم لا يعتبر موليا، من الناحية التعبدية في الإيلاء، ولكن حكمه في حال مطالبة الزوجة لا يختلف عن حكم المولي، لأن الغرض من الأثر الذي رتبه الشرع على الإيلاء هو الضرر الذي يصيب المرأة، وهذا الضرر يتحقق بالقسم وعدمه، بل إن أثر القسم أمر خاص بالمولي لأن وجوب الكفارة لا علاقة له بالزوجة من قريب ولا من بعيد، إنما هو أمر تعبدي شرع لقصد تربوي.

وهذا التفريق أمر أساسي لأن معظم أحكام الإيلاء المرتبطة بالأيمان، لا تخرج من حيث مقاصدها وأدلتها عن سائر الأيمان، وإنما يخص هذا الباب هنا الضرر المتعدي للمرأة بسبب ذلك اليمين.

القسم بالله تعالى أو بصفة من صفاته

اتفق الفقهاء على  أن الحلف بذلك إيلاء، واختلفوا فيما لو حلف بغير ذلك، مثل أن يحلف بطلاق، أو عتاق، أو صدقة المال، أو الحج، أو الظهار على الأقوال التالية:

القول الأول: أنه لا يكون موليا بذلك، وهو قول الشافعي القديم، ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قول الله تعالى: ﴿ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(البقرة:226)، وإنما يدخل الغفران في اليمين بالله.

·  النصوص الناهية عن الحلف بغير الله كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(من حلف بغير الله فقد أشرك) [106]

·  أن الإيلاء المطلق إنما هو القسم، ولهذا قرأ أبي وابن عباس (يقسمون) مكان: يؤلون، وروي عن ابن عباس في تفسير يؤلون قال: يحلفون بالله.

·  أن التعليق بشرط ليس بقسم ولهذا لا يؤتى فيه بحرف القسم، ولا يجاب بجوابه، ولا يذكره أهل العربية في باب القسم، فلا يكون إيلاء، وإنما يسمى حلفا تجوزا، لمشاركته القسم في المعنى المشهور في القسم، وهو الحث على الفعل أو المنع منه، أو توكيد الخبر، والكلام عند إطلاقه لحقيقته.

القول الثاني: كل يمين من حرام أو غيرها، يجب بها كفارة، يكون الحالف بها موليا، وأما الطلاق والعتاق، فليس الحلف به إيلاء، وهو قول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأنه يتعلق به حق آدمي، وما أوجب كفارة تعلق بها حق الله تعالى.

القول الثالث: أنه مول بذلك، وقد روي عن ابن عباس، وبه قال الشعبي، والنخعي، ومالك، وأهل الحجاز والثوري، وأبو حنيفة، وأهل العراق والشافعي، وأبو ثور، وأبو عبيد، وغيرهم، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أنها يمين منعت جماعها فكانت إيلاء، كالحلف بالله تعالى.

·  أن تعليق الطلاق والعتاق على وطئها حلف، بدليل أنه لو قال: متى حلفت بطلاقك، فأنت طالق. ثم قال: إن وطئتك، فأنت طالق. طلقت في الحال.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار هذا النوع من القسم إيلاء مع القول بأنه أشد حرمة من الإيلاء الذي يقسم فيه باسم الله تعالى، لأن هذا جمع بين الإيلاء المحرم، والقسم المحرم، ولكن القسم المحرم مع ذلك لا يغنيه عن الكفارة من الناحية الشرعية النصية أو من الناحية المقاصدية.

أما الناحية الشرعية النصية، فلا يمكن ذكر الأدلة عليها هنا فمحلها أبواب الأيمان من الفقه، ولكن النظرة المقاصدية المبنية على ملاحظة الواقع قد تشير إلى استحباب القول بوجوب التكفير عن اليمين مطلقا، فالكثيرمن الناس إذا علم أن الحلف بالله يوجب الكفارة انتقل عنه للحلف بغيره، فيكون في القول بعدم الكفارة داعية للحلف بغير الله.

هذا بالنسبة للأيمان مطلقا، أما بالنسبة للإيلاء خصوصا، فإن هذا النص القرآني يكاد يصرح به، فالله تعالى ذكر الإيلاء الذي هو الحلف مطلقا، والحلف هو نوع من العزم المؤكد، وهذا العزم المؤكد يتوفر في كل قسم، وقوله - صلى الله عليه وسلم - السابق دليل على تسمية الحلف بغير الله حلفا، ولكن الإنكار تعلق بكونه بغير الله.

ثم إن فتح القول بعدم اعتبار الحلف بغير الله إيلاء يجعل من هذه الثغرة حيلة للإيلاء الذي يرضي الهوى ويحيي الجاهلية بدون تعب ولاتكلف.

الحلف على ترك المعاشرة الجنسية الواجبة

فلذلك لو حلف على ترك المعاشرة الحرام كقوله: والله لا وطئتك في الدبر فإنه لا يكون موليا ; لأنه لم يترك الوطء الواجب عليه , ولا تتضرر المرأة بتركه , وإنما هو وطء محرم , وقد أكد منع نفسه منه بيمينه.

ومثله ما لو قال: والله لا وطئتك دون الفرج، لأنه لم يحلف على الوطء الذي يطالب به في الفيئة , ولا ضرر على المرأة في تركه.

أما لو قال: والله لا جامعتك إلا جماع سوء، فإنه يسأل عن نيته من ذلك، فإن أراد ما لا تتم الفيئة به فهو مول، أما إن قال: أردت جماعا ضعيفا , لا يزيد على التقاء الختانين، فإنه لا يكون موليا ; لأنه يمكنه الوطء الواجب عليه في الفيئة بغير حنث، بخلاف ما لو قال: أردت وطئا لا يبلغ التقاء الختانين، لأنه لا يمكنه الوطء الواجب عليه في الفيئة بغير حنث، وإن لم تكن له نية , فليس بمول; لأنه محتمل , فلا يتعين ما يكون به موليا.

قصد الإضرار

وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:

القول الأول: عدم اعتبار هذا الشرط، وقد روي ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، وبه قال الثوري , والشافعي , وأهل العراق وابن المنذر، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      عموم آية الإيلاء.

·      أنه منع نفسه عن جماعها بيمينه فكان موليا , كحال الغضب.

·  أن حكم الإيلاء يثبت لحق الزوجة , فيجب أن يثبت سواء قصد الإضرار أو لم يقصد, كاستيفاء ديونها , وإتلاف مالها.

·      أن الطلاق والظهار وسائر الأيمان سواء في الغضب والرضى , فكذلك الإيلاء.

·      أن حكم اليمين في الكفارة وغيرها سواء في الغضب والرضى , فكذلك في الإيلاء.

القول الثاني: اعتبار هذا الشرط، فمن  حلف مثلا أن لا يطأ زوجته حتى تفطم ولده , لا يكون إيلاء , إذا أراد الإصلاح لولده، وقد وروي عن علي وابن عباس w، والحسن, والنخعي , وقتادة، وبه قال مالك , والأوزاعي , وأبو عبيد، واستدلوا على ذلك بما يلي[107]:

·      عن علي  - رضي الله عنه - قال: ليس في إصلاح إيلاء.

·      عن ابن عباس - رضي الله عنه -  قال: إنما الإيلاء في الغضب.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار القصد، لأن أنواع المقاصد في الأيمان كثيرة، فيها الطيب والخبيث والصالح والفاسد، فقد يحلف الإنسان لضرورة من الضرورات أو مصلحة من المصالح على عدم معاشرة زوجته فترة معينة، ويجعل من ذلك الحلف وسيلته لتحقيق مقصده، لأنه لو ترك لنفسه لاستعصت عليه، فيجعل من اليمين أو النذر ونحوهما رادعا يردعه عن الإتيان بما يرى المصلحة في خلاله.

ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: (إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها , إلا أتيت الذي هو خير , وتحللتها) [108]

الإيلاء حال الغضب

اختلف الفقهاء في اعتبار الإيلاء إن وقع في حال الغضب على قولين:

القول الأول: لا يصح الإيلاء  إلا على وجه مغاضبة ومناكدة ألا يجامعها إضرار بها سواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أم لم يكن، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء،  وهو قول ابن عباس، وروى عن علي بن أبى طالب في  المشهور عنه، وقاله الليث والشعبى والحسن وعطاء.

القول الثاني:  أنها إيلاء سواء كانت اليمين في غضب أم لا، وهو قول ابن مسعود والثورى ومالك وأهل العراق والشافعى وأصحابه وأحمد إلا أن مالكا قال ما لم يرد إصلاح ولد،  قال ابن المنذر:) وهذا أصح لأنهم لما أجمعوا أن الظهار والطلاق وسائر الأيمان سواء في حال الغضب والرضا كان الإيلاء) [109]، ومن الأدلة على ذلك:

·      عموم القرآن الكريم.

·      أن تخصيص حالة الغضب يحتاج إلى دليل ولا يؤخذ من وجه يلزم.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار القصد مطلقا سواء حصل منه في حال الغضب أم في حال الرضا، مثلما ذكرنا في الطلاق، ولكن الكفارة تترتب عليه في حال فيئه في كلتا الحالتين لعلاقتها باليمين.

وقد يكون الخلاف في المسألة مع ذلك خلافا لفظيا، لأن العبرة بفيئه في المدة المعينة وعدم فيئه، فإن فاء فبها، وإن لم يفئ وطالبت زوجته بفيئه، فإن لها الحق في ذلك كما رأينا سابقا، ولو بدون قسم.

مدة الإيلاء

ربما يكون أهم الأسس التي يقوم عليها الإيلاء هو تحديد المدة، بل إن تحديدها هو المفرق بين أنواع الإيلاء المختلفة، المباح منها والمحرم، فإذا آلى المؤمن مثلا من أهله لمصلحة من المصالح مدة معينة لا تتضرر بها المرأة وكان في ذلك مصلحة معينة، فلا حرج عليه في ذلك، بل قد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهرا.

وقد بين سيد سر التشريع القرآني لتحديد المدة في الإيلاء بقوله:) إن هناك حالات نفسية واقعة، تلم بنفوس بعض الأزواج، بسبب من الأسباب في أثناء الحياة الزوجية وملابساتها الواقعية الكثيرة، تدفعهم إلى الإيلاء بعدم المباشرة، وفي هذا الهجران ما فيه من إيذاء لنفس الزوجة ؛ ومن إضرار بها نفسيا وعصبيا ؛ ومن إهدار لكرامتها كأنثى ؛ ومن تعطيل للحياة الزوجية ؛ ومن جفوة تمزق أوصال العشرة، وتحطم بنيان الأسرة حين تطول عن أمد معقول، ولم يعمد الإسلام إلى تحريم هذا الإيلاء منذ البداية، لأنه قد يكون علاجا نافعا في بعض الحالات للزوجة الشامسة المستكبرة المختالة بفتنتها وقدرتها على إغراء الرجل وإذلاله أو اعناته. كما قد يكون فرصة للتنفيس عن عارض سأم، أو ثورة غضب، تعود بعده الحياة أنشط وأقوى([110]

فهذه هي الناحية الأولى الملاحظة في تشريع الإيلاء وعدم اعتباره طلاقا، فهو تعبير عن حالة من الأحوال النفسية التي تعتري الحياة الزوجية، ولكن هذه الحالة لو تركت على إطلاقها تكون فيها المفسدة العظيمة، قال سيد موضحا هذا المعنى:(ولكنه لم يترك الرجل مطلق الإرادة كذلك، لأنه قد يكون باغيا في بعض الحالات يريد إعنات المرأة وإذلالها ؛ أو يريد إيذاءها لتبقى معلقة، لا تستمتع بحياة زوجية معه، ولا تنطلق من عقالها هذا لتجد حياة زوجية أخرى، فتوفيقا بين الاحتمالات المتعددة، ومواجهة للملابسات الواقعية في الحياة. جعل هنالك حدا أقصى للإيلاء لا يتجاوز أربعة أشهر، وهذا التحديد قد يكون منظورا فيه إلى أقصى مدى الاحتمال، كي لا تفسد نفس المرأة،  فتتطلع تحت ضغط حاجتها الفطرية إلى غير رجلها الهاجر) [111]

وهذا التحديد للمدة بهذه الدقة قد يحوي من المعاني ما قد يكشف عنه المستقبل، ولكن ما كشف هو أن المرأة في حالتها العادية تتضرر في حدود هذه المدة، وقد روي أن عمر - رضي الله عنه -  أنه كان يطوف ليلة في المدينة، فسمع امرأة تقول:

تطاول هذا الليل وازور جانبه     وليس إلى جنبي خليل ألاعبه

فوالله لولا الله لا شيء غيره      لزعزع من هذا السرير جوانبه

مخافة ربي والحياء يكـفـني       وأكرم بعلي أن تنال مراكبه

فسأل عمر نساء: كم تصبر المرأة عن الزوج ؟ فقلن: شهرين، وفي الثالث يقل الصبر، وفي الرابع ينفد الصبر. فكتب إلى أمراء الأجناد، أن لا تحبسوا رجلا عن امرأته أكثر من أربعة أشهر[112].

والشيء الملاحظ ثانيا في المدة زيادة على حاجة المرأة هو رغبة الرجل فـ) أربعة أشهر مدة كافية ليختبر الرجل نفسه ومشاعره. فإما أن يفيء ويعود إلى استئناف حياة زوجية صحيحة، ويرجع إلى زوجه وعشه، وإما أن يظل في نفرته وعدم قابليته. وفي هذه الحالة ينبغي أن تفك هذه العقدة ؛ وأن ترد إلى الزوجة حريتها بالطلاق. فإما طلق وإما طلقها عليه القاضي. وذلك ليحاول كل منهما أن يبدأ حياة زوجية جديدة مع شخص جديد. فذلك أكرم للزوجة وأعف وأصون ؛ وأروح للرجل كذلك وأجدى ؛ وأقرب إلى العدل والجد في هذه العلاقة التي أراد الله بها امتداد الحياة لا تجميد الحياة) [113]

المواقف العامة للمذاهب الفقهية من أركان الإيلاء وشروطه

انطلاقا مما سبق بيانه من حقيقة الإيلاء وأحكامه، نلقي نظرة على تفاصيل المذاهب الفقهية المعمول بها في العالم الإسلامي، لنعرف من خلالها المفهوم المذاهبي للإيلاء من جهة، ولننتقل من خلالها إلى معرفة مواضع الاتفاق والاختلاف وتلمس ما نرى فيه مصلحة شرعية من جهة أخرى، وننبه كما ذكرنا سابقا إلى أنا لن نعرض إلا التفاصيل المهمة على الأقوال المعتمدة في المتون الفقهية التي لخص بها الآخرون أقوال الأولين:

مذهب الحنفية:

ويعتبرون[114] له ركنا واحد كسائر العقود الشرعية خلافا للجمهور، وركن الإيلاء  عندهم هو اللفظ الدال على ترك الوطء في عرف الشرع مؤكدا باليمين[115]، ولكنا سنذكر هنا الأركان والشروط على طريقة الجمهور من باب التبسيط:

المولي: ويشترط فيه أن يكون أهلاً للطلاق، بأن يكون عاقلاً بالغاً، فلا يصح إيلاء المجنون، والصبي، ولا يشترط الإسلام، فيصح إيلاء الذمي، إلا إذا حلف بما هو قربة دينية، كما لو قال: إن وطئتك فعلي حج، فإنه لا يكون بهذا مولياً باتفاق، أما إن قال: إن وطئتك فعلي عتق عبد فإنه يكون مولياً باتفاق ويلزمه العتق، فإن حلف باللّه أنه لا يطؤها فإن إيلاءه يصح عند أبي حنيفة ولا يصح عندهم، ويصح إيلاء العبد إذا حلف بشيء غير مالي لأن تصرفاته المالية لا تنفذ، فلو قال: إن وطئتك فعلي عتق رقبة أو فعلي صدقة، فإنه لا يكون مولياً بذلك، ويصح الإيلاء مع مانع يمنع الوطء، ولو كان خلقياً كالجب، والصغر ونحوه.

الصيغة: وتنقسم إلى قسمين:

الصيغة الصريحة: وهي كل لفظ يدل على إتيان المرأة بمجرد سماعه بحيث يكون استعماله في هذا المعنى غالباً، كالجماع، والوطء، والقربان، والمباضعة، وإدخال الذكر في الفرج، ونحو ذلك، فلو ادعى في الصريح أنه لم يرد الجماع فإنه لا يصدق قضاء، ولكن يصدق ديانة.

ولو جمع بين زوجته وامرأة أخرى، فقال: واللّه لا أطأ زوجتي وأمتي أو لا أطأ زوجتي وفلانة الأجنبية، فإنه يكون مولياً من امرأته بذلك، إذ يمكنه أن يطأها وحدها ولا كفارة عليه.

صيغة الكناية: وهي ما دل على الجماع، ولكن يحتمل غيره، ولا يتبادر إلى الذهن، كقوله: واللّه لا أمسها، لا آتيها، لا أدخل بها، لا أغشاها، لا تجمع بين رأسي ورأسها مخدة، لا أبيت معها في فراش، لا أصاحبها، أو واللّه ليغيظها، ولا يكون بذلك مولياً إلا بالنية.

تقييد الصيغة: يشترط في الصيغة أن لا يستثني بعض المدة، فإذا استثنى فإنه لا يكون مولياً في الحال، فلو قال: واللّه لا أقربك سنة إلا ساعة، فإن الساعة لا يجعله مولياً في الحال، أما إذا قال: واللّه لا أقربك سنة إلا يوماً أقربك فيه فإنه لا يكون مولياً أبداً، سواء قربها أو لا، وذلك لأنه قد صرح بقربانها في يوم من أيام السنة ومتى صرح بذلك فقد انحلت اليمين فلا إيلاء، ولو قال: واللّه لا أقربك إلا يوماً، وحذف سنة، فإنه لا يكون مولياً إلا إذا قربها، فإذا قربها كان مولياً إيلاء مؤبداً.

ومثل ذلك ما لو قيدها بمكان، فإذا قال: واللّه لا أطأ زوجتي في دار أبيها لا يكون مولياً لانحلال اليمين بوطئها في مكان آخر.

ومثل ذلك ما لو اشتملت على المنع عن القربان فقط، فلو قال لها: إن وطئتك إلى الفراش فأنت طالق، فإنه لا يكون مولياً لأنه يمكن أن يحل اليمين بدعوتها إلى الفراش، فإذا دعاها إلى الفراش طلقت، ثم بعد ذلك له إتيانها في أي وقت بدون أن يلزمه شيء.

مدة الإيلاء: ويشترط فيها أن تكون أربعة أشهر كاملة للحرة بدون زيادة، أما إذا كان متزوجاً أمة فإن مدة الإيلاء منها شهران، سواء كان الزوج حراً أو عبداً.

مذهب المالكية:

وأركانه أربعة عندهم[116]، وهي: المولى، والمحلوف به، والمدة والمحلوف عليه، وسنفصل شروط هذه الأركان عندهم هنا باعتبار المحلوف عليه، والمحلوف به شطرا الصيغة، وشروط هذه الأركان هي:

المولي: ويشترط فيه أن يكون مسلماً ولو عبداً، وأن يكون مكلفاً فلا يصح إيلاء الصبي، والمجنون، وأن يتصور منه الإيلاء، فخرج المجنون، والصغير، والخصي، والشيخ الفاني.

المولى عليها: ويشترط فيها أن لا تكون مرضعة،، فإنه إذا حلف أن لا يطأها ما دامت مرضعة فإنه لا يكون مولياً، بشرط أن يقصد مصلحة الولد أو لم يقصد شيئاً، أما إن قصد منع نفسه من جماعها بدون سبب فإنه يكون مولياً، ويصح الإيلاء في قول عندهم من الأجنبية، ومثال ذلك أن يقول: إن تزوجت فلانة فواللّه لا أطؤها مدة خمسة أشهر مثلاً، أو يقول: واللّه لا أطأ فلانة وهي أجنبية، ثم يتزوجها فإنه يكون مولياً بذلك، وهذا هو المشهور، وبعضهم يقول: لا إيلاء على الزوجة المعلقة.

الصيغة: ويشترط فيها شروط، هي:

·  أن لا تشتمل على ترك وطء الزوجة تنجيزاً أو تعليقاً، فلو قال: واللّه لأهجرن زوجتي أو لا أكلمها، فإنه لا يكون مولياً بذلك.

·  أن لا يقيدها بزمان خاص، كأن يقول: واللّه لا أطؤها ليلاً، أو واللّه لا أطؤها نهاراً، وهذا بخلاف ما إذا قال: واللّه لا أطؤك حتى تخرجي من البلد، فإنه يكون مولياً إذا كان خروجها من البلد فيه معرة عليها، ومثل ذلك ما إذا قال: في هذه الدار وإذا ترك وطأها بدون إيلاء أو حلف لا ينزل فيها منيه فإن لها أن ترفع الأمر للقاضي ليطلقها عليه وللقاضي أن يطلق عليه فوراً بدون أن يضرب له أجلاً، وله أن يضرب له أجلاً.

·  أن لا يستثني، فلو قال: واللّه لا أطؤك في هذه السنة إلا مرتين، فإنه لا يلزمه الإيلاء، لأنه يمكنه أن يترك وطأها أربعة أشهر، ثم يطؤها، ثم يتركها أربعة أشهر أخرى، ثم يطؤها، وتبقى أشهر أخرى أقل من مدة الإيلاء، فلا يحنث ولا يكون مولياً بذلك، وإذا قال لها: واللّه لا أطؤك في هذه السنة إلا مرة، فإنه لا يكون مولياً حتى يطأها، ثم تكون المدة الباقية من السنة أكثر من أربعة أشهر للحر وأكثر من شهرين للعبد.

·  أن لا يلزمه بيمينه حكم، كما إذا قال: إن وطئتك فكل ما أملكه يكون صدقة فهذه اليمين حرج ومشقة، فلا يلزمه بها حكم، فلا يكون مولياً بها.

المدة: ويشترط فيها أن تكون أكثر من أربعة أشهر ولو بيوم على المعتمد، وبعضهم يقول: بعشرة أيام إذا كان حراً، وأما العبد فيشترط أن تكون زيادة عن شهرين.

مذهب الشافعية:

وأركانه أربعة عندهم[117]، وهي:الحالف والمحلوف به والمحلوف عليه والمدة المحلوف فيها، وبعضهم يذكر ستة أركان هي:محلوف به ومحلوف عليه ومدة وصيغة وزوجان[118]، وهي تفصيل الأركان الأربعة المذكورة

المولي والمولى عليها: ويشترط فيهما أن يتأتى من كل واحد منهما الجماع، فإذا كان الزوج صغيراً أو مجبوباً أو نحو ذلك، فإنه لا يصح منه الإيلاء.

الصيغة:  ويشترط فيها أن تكون اسماً من أسماء اللّه أو صفة من صفاته، أو تعليقاً، أو نذراً، ويشترط في المحلوف عليه أن يكون ترك الوطء بخصوصه، فلو حلف على ترك الاستمتاع بها فيما دون ذلك فإنه لا يصح، ويشترط في المدة أن تزيد على أربعة أشهر ولو بلحظة، ويشترط في الصيغة أن تكون لفظاً يشعر بترك الوطء، وتنقسم الصيغة إلى قسمين:

الصيغة الصريحة: وذلك مثل أن يقول: واللّه لا يقع مني تغييب حشفة في فرجك، أو واللّه لا أطؤك، أو لا أجامعك، فإن قال: أردت الوطء بشيء آخر، فإنه يصدق ديانة لا قضاء، ولو قال: أردت بالفرج الدبر فإنه يصدق ديانة أيضاً.

صيغة الكناية: وذلك مثل قوله واللّه لا أمسك أو لا أباضعك، أو لا أباشرك، أو لا آتيك، أو لا أغشاك، فإنه لا يكون مولياً إلا إذا نوى الجماع، لأن هذه الألفاظ لم تشهر فيه.

مذهب الحنابلة:

وأركانه عندهم[119]:

المولي: ويصح من مسلم، وكافر، وحر، وعبد، وبالغ، ومميز، وغضبان، وسكران، ومريض مرضاً يرجى برؤه، ولا يصح من مجنون وعاجز عن الوطء بسبب شلل في عضو التناسل أو قطع أو نحو ذلك.

المولى عليها: يصح الإياء من زوجة يمكن وطؤها، سواء دخل بها أو لم يدخل.

صيغة الإيلاء: ويشترط فيها أن يحلف الزوج على ترك الجماع في القبل خاصة، وأن يحلف باللّه أو صفة من صفاته، وتنقسم إلى قسمين:

الصيغة الصريحة: وهي كل لفظ دل على إتيان المرأة صريحاً، كإدخال الذكر في الفرج ونحو ذلك من العبارات الصريحة التي لا تحتمل غير هذا المعنى، ويعامل به قضاء وديانة.

صيغة الكناية: وهي إما أن تكون صريحة في القضاء فقط، وهي كل لفظ دل على الجماع عرفاً. ومن ذلك أن يقول: واللّه لا وطئتك، أو لا جامعتك، أو لا باضعتك، أو نحو ذلك، وحكم هذا أنه يعامل به قضاء، ولا يسمع منه أنه أراد معنى آخر، ولكن إن كان صادقاً فإنه ينفعه بينه وبين اللّه، وتارة لا يكون مولياً إلا بالنية، كقوله: واللّه لا أنام معك في فراش واحد ونحو ذلك، فإذا لم ينو ترك الجماع فإنه لا يكون مولياً.

المدة: وهي أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر.

مذهب الظاهرية:

ويختلف عن سائر المذاهب في كثير من الفروع، وخلاصة المذهب في الإيلاء كما يعبر عنه ابن حزم هي[120]:

المولي والمولى عليها: ويصح من العبد والحر من زوجته الحرة , أو الأمة المسلمة , أو الذمية، الكبيرة أو الصغيرة، ويشترط أن تكون زوجة، فلو آلى من أجنبية ثم تزوجها لم يلزمه حكم الإيلاء , لكن يجبر على وطئها.

ومن آلى من أربع نسوة له بيمين واحدة وقف لهن كلهن من حين يحلف , فإن فاء إلى واحدة سقط حكمها , وبقي حكم البواقي , فلا يزال يوقف لمن لم يفئ إليها حتى يفيء أو يطلق , وليس عليه في كل ذلك إلا كفارة واحدة ; لأنها يمين واحدة على أشياء متغايرة , ولكل واحدة حكمها , وهو مؤل من كل واحدة منهن.

صيغة الإيلاء:  وهي أن يحلف بالله تعالى , أو باسم من أسمائه تعالى: أن لا يطأ امرأته , أو أن يسوءها , أو أن لا يجمعه , وإياها فراش , أو بيت , سواء قال ذلك في غضب أو في رضا لصلاح رضيعها , أو لغير ذلك - استثنى في يمينه أو لم يستثن - فسواء وقت وقتا - ساعة فأكثر إلى جميع عمره - أو لم يوقت، فالحكم في ذلك واحد.

ومن حلف في ذلك بطلاق , أو عتق , أو صدقة , أو مشي , أو غير ذلك فليس مؤليا، وعليه الأدب , لأنه حلف بما لا يجوز الحلف به.

مدة الإيلاء: يؤجل له في ذلك أربعة أشهر من حين يحلف , سواء طلبت المرأة ذلك أو لم تطلب , رضيت ذلك أو لم ترض، فإن فاء في داخل الأربعة الأشهر فلا سبيل عليه , وإن أبى لم يعترض حتى تنقضي الأربعة الأشهر , فإذا تمت أجبره الحاكم بالسوط على أن يفيء فيجامع أو يطلق , حتى يفعل أحدهما , كما أمره الله تعالى أو يموت قتيل الحق إلى مقت الله تعالى , إلا أن يكون عاجزا عن الجماع لا يقدر عليه أصلا , فلا يجوز تكليفه ما لا يطيق , لكن يكلف أن يفيء بلسانه , ويحسن الصحبة , والمبيت عندها , أو يطلق , ولا بد من أحدهما.

مذهب الزيدية:

وأركانه عندهم [121] هي:

المولي: ويشترط فيه أن يكون مكلفا، ولو عبدا أو مجبوب الذكر، احتراز من الصبي والمجنون فلا يصح إيلاؤهما، ويصح من السكران، وأن يكون مختارا، فلا ينعقد من المكره إلا أن ينويه،  وأن يكون مسلما، فلا يصح من الكافر ولو ذميا، وأن يكون غير أخرس، فلا يصح من أخرس بالإشارة.

المولى منها: ويشترط فيها أن تكون زوجة، ولو بنكاح فاسد لا مملوكته أو أجنبية، فلا يقع الإيلاء عليهما، ويشترط كون الزوجة المحلوف منها تحته في الحال ولو ناشزة، فلو كانت مطلقة في الحال ولو رجعيا لم يصح إيلاؤه منها , أما المظاهرة فيصح الإيلاء منها، ومتى آلى من زوجته بالشروط المعتبرة ثبت حكم الإيلاء كيف كانت سواء كانت حرة أم أمة صغيرة أم كبيرة مدخولة أم غير مدخولة صحيحة أم رتقاء.

ويصح الإيلاء من زوجة واحدة أو أكثر نحو أن يحلف لا وطئ زوجاته، ولو وطئ بعد مضي الأربعة الأشهر أو مات بعضهن فللباقيات أن يرافعن وإذا وطئ واحدة منهن قبل الأربعة الأشهر لم يبطل حكم الإيلاء ولم يحنث ومتى مضت أربعة أشهر ثبت لكل واحدة حق المرافعة سواء نوى الجميع أو أطلق.

ولا يقع الإيلاء عندهم بتشريك نحو أن يحلف لا وطئ فلانة ثم قال وأنت يا فلانة مثلها أو أشركتك معها فإنه لا يقع الإيلاء في حق التي شركها ويقع في حق الأولى. لأن التشريك كناية واليمين كناياتها محصورة، أما لو قال وأنت يا فلانة كان موليا منهما لأنه صريح إذا لم يقل أو معها بل سكت , وكذا لو خير فقال فلانة أو فلانة وقع

الصيغة:ويشترط أن تكون قسما، وهو أن يحلف بالله تعالى ولو ملحونا أو بصفة لذاته كقدرته وعظمته أو بصفة لفعله لا يكون على ضدها كالعهد والأمانة، ويصح ولو بالفارسية لمن يعرفها، فلو حلف بغير ما تقدم لم يكن إيلاء، وذلك كالحرام نحو أن يقول هي علي حرام لا وطئتها أربعة أشهر، وذلك كاليمين المركبة نحو أن يقول امرأته طالق أو عبدي حر أو ماله صدقة أو عليه صوم كذا إلا وطئ امرأته  أربعة أشهر فإنه لا يقع بذلك إيلاء وإن لزم المحلوف به لو جامعها.

ويشترط أن يكون قسمه متعلقا بأن لا وطء، ولو كان حلفه من الوطء لها لعذر أوجب تلك اليمين سواء كان العذر يرجع إليه بأن يكون ممن يضره الجماع أو يرجع إلى غيره كالرضيع ونحو ذلك فإنه ينعقد مع ذلك الإيلاء، وتنقسم الصيغة إلى قسمين:

الصيغة الصريحة: وهي أن يكون حلفه متعلقا بالوطء إما مصرحا بذلك، فلا يحتاج إلى نية، كأن يحلف لا جامعها في فرجها ولو لم يقل في قبلها لأنه ينصرف إلى القبل أو لا غشيها أو لا أدخل ذكره في فرجها , أو لا افتضها وهي بكر ولو لم  يقل بذكره لأن العرف فيه أنه يريد بذكره فلا يحتاج إلى ذكره لأنه في حكم المنطوق به ويدين باطنا فقط.

صيغة الكناية: ومثالها: لا قرب منها أو لا آتاها أو لا جمع رأسهما وسادة فهذه ونحوها تحتاج إلى نية.

تقييد الصيغة: يشترط أن يكون المولى مطلقا لعدم وطئه لها كأن يحلف لا وطئها وأطلق ولم يؤقته بوقت أو كان موقتا لعدم وطئه لها إما بموت الزوجة أو موته أو موت أيهما، فيثبت حكم الإيلاء بذلك , لا لو وقت بموت غيرهما فلا يثبت حكم الإيلاء.

ويشترط أن لا يستثني باللفظ، لا بالنية فإن استثنى وكان المستثنى من الإيلاء غير معين فإنه يبطل به الإيلاء كأن يقول: لا جامعتك سنة إلا مرة واحدة أو إلا مرتين أو نحو ذلك، فهذا لا يكون إيلاء لأنه لم يعلم أن مدة الإيلاء أربعة أشهر فصاعدا لعدم تعيين الوقت المستثنى من الإيلاء إلا إذا استثنى ما تبقى معه الأربعة، فإنه يصح إيلاؤه.

مدة الإيلاء: وهي أربعة أشهر فصاعدا من يوم اليمين فإنه يكون موليا، لا دون الأربعة الأشهر فلا يكون موليا، فلو حلف منها ثلاثة أشهر ثم في الشهر الثاني حلف منها كذلك ثم لم يزل كذلك فلا يكون موليا وإن حصل الضرار لأنه لم يقيده بأربعة أشهر.

ولو وقته بما يعلم أو يظن أنه لا يأتي إلا بعد مضي الأربعة فإنه يكون موليا , كأن يقول: لا وطئتك حتى تطلع الشمس من المغرب, أو حتى يصل فلان وهو في تلك الحال في جهة بعيدة لو سار لم يصل إلا لأربعة أشهر فصاعدا فإنه يكون في جميع هذه الصور موليا ويقع الإيلاء ولو وصل في الحال لأن العبرة بالظن لعدم وصوله لدون الأربعة الأشهر ولها مرافعته بعد مضي أربعة أشهر.

فإذا آلى من زوجته رافعته إلى الحاكم بعد مضي أربعة أشهر فتطالبه برفع التحريم، وإن  كانت قد عفت عن المطالبة فلها أن تطالبه بعد العفو إن رجعت عن العفو، ولو كانت ناشزة في مدة الحلف، فإن رجعت بعد مضيها لم يكن لها أن ترافعه بعد ذلك، لأنه قد ارتفع التحريم , فإن لم تعف عنه كان لها مطالبته بعد أربعة أشهر ولو قد مضت مدة الإيلاء.

مذهب الإمامية:

وأركانه عندهم [122] هي:

المؤلي: ويعتبر فيه البلوغ , وكمال العقل , والاختيار , والقصد ويصح من المملوك , حرة كانت زوجته أو أمة , ومن الذمي ومن الخصي، وفي صحته من المجبوب تردد , أشبهه الجواز , وتكون فيئته كفيئة العاجز.

المؤلى منها: ويشترط أن تكون منكوحة بالعقد لا بالملك , وأن تكون مدخولا بها  وفي وقوعه بالمستمتع بها اختلاف , أظهره: المنع، ويقع بالحرة والمملوكة، والمرافعة إلى المرأة لضرب المدة , وإليها بعد انقضائها المطالبة بالفيئة ولو كانت أمة , ولا اعتراض للمولي. ويقع الإيلاء بالذمية كما يقع بالمسلمة.

الصيغة: لا ينعقد الإيلاء إلا بأسماء الله تعالى , مع التلفظ،  ويقع بأي لغة , مع القصد إليه صريحه أن يقول: والله لا أدخلت فرجي في فرجك، أو يأتي باللفظة المختصة بهذا الفعل , أو ما يدل عليه صريحا، وكنايته أن يقول: لا جامعتك أو لا وطئتك , فإن قصد الإيلاء صح، ولا يقع مع تجرده عن النية، أما لو قال لا أجمع رأسي ورأسك في بيت أو مخدة , أو لا ساقفتك , فقد اختلف فيه ،ولو قال: لا جامعتك في دبرك , لم يكن موليا، واختلف في تقييد الصيغة على قولين أظهرهما اشتراطه، فلو علقه بشرط , أو زمان متوقع كان لاغيا.

ولو حلف بالعتاق أن لا يطأها , أو بالصدقة , أو بالتحريم , لم يقع ولو قصد الإيلاء، ولو قال إن أصبتك , فعلي كذا لم يكن إيلاء. ولو آلى من زوجة , وقال للأخرى: شركتك معها لم يقع بالثانية ولو نواه , إذ لا إيلاء إلا مع النطق باسم الله، ولا يقع إلا في إضرار , فلو حلف لصلاح اللبن , أو لتدبير في  مرض , لم يكن له حكم الإيلاء , وكان كالأيمان.

مذهب الإباضية:

وأركانه عندهم[123] هي:

المولي والمولى منها: وشروطهما هي نفس شروط الظهار كما مر، ويستوى المرضع وغيرها, ويستوي الخصي والمجبوب والحر والعبد والصحيح والمريض، أما العبد فيصح إيلاؤه بسيده أو أمره أو إجازته , وقد قيل بأن الإيلاء لا يلحق زوج المرضع لأن عدم وطء المرضع نفع لولدها.

الصيغة: هي الكلام المانع من وطء الزوجة ولو أمة غير الظهار , فدخل ما لا حلف فيه , كأن يقول: علي أن أتصدق بكذا , أو علي كذا نذرا أو عتق أو طلاق أو مشي إلى بيت الله سبحانه وتعالى إن مسستها أو إن لم أمسها , وإن حلف بغير الله وغير صفته فلا إيلاء ولا كفارة , وإن آلى من الأربع أو أقل بكلام واحد فكفارة أو بكل على حدة فكل بكفارة , ومن آلى على شيء فأراد فعله فليفاد ويفعل ثم يراجع , ولا يضر الفعل بعد ذلك.

وإن ترك الوطء لئلا يهزل جسمه أو مخافة من الغسل أو نحو ذلك لم يكن إيلاء , وإذا جمع ما يكون إيلاء وما لا يكون إيلاء حكم بالإيلاء , فلو قال: والله لا أمسها لئلا يهزل جسمي أو لبرودة الماء علي لكان إيلاء , وإذا نفى الحالف المس ولم يقيده فهو لأربعة أشهر , وإن قيده فله حكم قيده.

مدة الإيلاء: وأجل الإيلاء من يوم الحلف مدة أربعة أشهر.

أركان الإيلاء وشروطه

الركن الأول: المولي

ومن الشروط التي ذكرها الفقهاء لهذا الركن مع اختلاف بينهم في تفاصيلها:

التكليف:

اتفق الفقهاء على اعتبار هذا الشرط، فلذلك لا يصح إيلاء الصبي والمجنون لعدم تكليفهما، ولأنه قول تجب بمخالفته كفارة أو حق , فلم ينعقد منهما كما لم تنعقد سائر التكاليف الشرعية.

القدرة على المعاشرة الجنسية :

اختلف الفقهاء فيمن آلى وهو مريض أو بينه وبين زوجته مسيرة أربعة أشهر أو هي رتقاء أو صغيرة أو هو مجبوب على أقوال متعددة يرجع معظمها إلى صحة الفيء باللسان مع اختلاف في بعض التفاصيل التي قد تستدعيها الإجراءات القضائية، وسنذكر هنا بعض ما ورد في ذلك مجردا من أدلته[124]:

·  إذا فاء إليها بلسانه ومضت المدة والعذر قائم، فذلك فيء صحيح ولا تطلق بمضي المدة , ولو كان محرما بالحج وبينه وبين الحج أربعة أشهر لم يكن فيؤه إلا الجماع، وهو قول الحنفية، وقال زفر :فيؤه بالقول.

·  إن مضى الأربعة الأشهر وهو مريض أو محبوس لم يوقف حتى يبرأ ; لأنه لا يكلف ما لا يطيق، وهو قول مالك، وفي المدونة:) قلت: أرأيت إن كان آلى منها وهو مريض فحل أجل الإيلاء وهو مريض فوقفته , أيطلق عليه السلطان أم لا ؟ قال: يطلق عليه إذا لم يفئ, فإن كان فاء وكان لا يقدر على الوطء فإن له في ذلك عذرا , ومما يعلم به فيئته إن كانت عليه يمين يكفرها: مثل عتق رقبة بعينها أو صدقة بعينها أو حلف بالله فإن فيئته تعرف إذا سقطت عنه  اليمين، قال مالك: وكذلك لو كان في سجن أو في سفر كتب إلى ذلك الموضع حتى يوقف على مثل هذا ،قال ابن القاسم: فإن لم تكن يمينه التي حلف بها أن لا يجامع امرأته مما يكفرها فإن الفيئة بالقول , فإن صح أو خرج من السجن أو قدم من سفر فوطئ وإلا طلقت عليه ([125]

·  أن المولي إذا كان له عذر من مرض أو كبر أو حبس أو كانت حائضا أو نفساء ،فليفئ بلسانه , يقول: قد فئت إليك , يجزيه ذلك، وهو قول الحسن بن صالح.

·  إذا آلى من امرأته ثم مرض أو سافر فأشهد على الفيء من غير جماع وهو مريض أو مسافر ولا يقدر على الجماع فقد فاء , فليكفر عن يمينه وهي امرأته , وكذلك إن ولدت في الأربعة الأشهر أو حاضت أو طرده السلطان فإنه يشهد على الفيء ولا إيلاء عليه، وهو قول الأوزاعي.

·  إذا مرض بعد الإيلاء ثم مضت أربعة أشهر فإنه يوقف كما يوقف صحيح فإما فاء وإما طلق , ولا يؤخر إلى أن يصح، وهو قول الليث بن سعد.

·  إذا آلى المجبوب ففيؤه بلسانه، ولو كانت صبية فآلى منها استؤنفت به أربعة أشهر بعدما تصير إلى حال يمكن جماعها , والمحبوس يفيء باللسان , ولو أحرم لم يكن فيؤه إلا الجماع , ولو آلى وهي بكر فقال لا أقدر على افتضاضها أجل أجل العنين، وهو قول الشافعي، وقال في الإملاء:) لا إيلاء على المجبوب(

·  أن العاجز عن المعاشرة الجنسية , يختلف حكمه بحسب حالة عجزه، فإن كان عجزه عارضا مرجو زواله كالمرض والحبس , فإنه يصح إيلاؤه ; لأنه يقدر على ذلك , فصح منه الامتناع منه , إما إن كان غير مرجو الزوال كالجب والشلل , فإنه لا يصح إيلاؤه ; لأنها يمين على ترك مستحيل , فلم تنعقد , ولأن الإيلاء هو اليمين المانعة من المعاشرة , وهذا لا يمنعه يمينه , فإنه متعذر منه , ولا يضر المرأة يمينه، وقد نص عليه الحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الفيء في هذه الحالة يتحقق بأي تعبير يدل على رجوعه لزوجته، سواء كان بلسانه أم بإشارته أم بهدية يرسلها إليها، لأن القصد هو الرجوع للزوجة، وهو يتحقق بكل ما سبق، أما الرجوع للمعاشرة فيترك ذلك للرغبة التي تدعو إلى ذلك، ولا يصح تدخل القضاء بصورة قد تنفره عن هذه الرغبة، وللزوجة دخل كبير في توفيرها، فلا يصح أن تتهرب للقضاء ونحوه.

وقد ذكر الجصاص بعض الأدلة التي تدل على صحة الفيئة باللسان، وسنذكرها هنا لنستدل بها على غير اللسان، فالدلالة في كليهما واحدة:

·  قوله تعالى :﴿ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(البقرة:226) وهذا قد فاء ; لأن الفيء الرجوع إلى الشيء, وهو قد كان ممتنعا من وطئها بالقول وهو اليمين , فإذا فاء بالقول فقال: قد فئت إليك، فقد رجع عما منع نفسه منه بالقول إلى ضده , فتناوله العموم.

·      أنه لما تعذر جماعها قام القول فيه مقام  الوطء في المنع من البينونة.

الركن الثاني: المولى منها

اتفق الفقهاء على أن الإيلاء لا يكون إلا من الزوجة لقول الله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾(البقرة:226)، ولأن غير الزوجة لا حق لها في وطئه , فلا يكون موليا منها , كالأجنبية، ويتعلق بهذا الشرط المسائل التالية:

الإيلاء على أجنبية :

اختلف الفقهاء فيما لو حلف على ترك وطء أجنبية , ثم نكحها , فهل يكون موليا بذلك على قولين:

القول الأول :لم يكن موليا لذلك، وهو قول الشافعي , وإسحاق , وأبي ثور , وابن المنذر ،ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      قول الله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾(البقرة:226)، وهذه ليست من نسائه.

·      أن الإيلاء حكم من أحكام النكاح , فلم يتقدمه كالطلاق والقسم.

·  أن المدة تضرب له لقصده الإضرار بها بيمينه , وإذا كانت اليمين قبل النكاح , لم يكن قاصدا للإضرار , فأشبه الممتنع بغير يمين.

القول الثاني: يصير موليا إذا بقي من مدة يمينه أكثر من أربعة أشهر ; لأنه ممتنع من وطء امرأته بحكم  يمينه مدة الإيلاء , فكان موليا , كما لو حلف في الزوجية، وهو قول المالكية.

القول الثالث: التفصيل في الحكم، وهو قول الحنفية، وهو أنه إن مرت به امرأة , فحلف أن لا يقربها , ثم تزوجها , لم يكن موليا، أما إن قال: إن تزوجت فلانة , فوالله لا قربتها، فإنه يصير موليا ; لأنه أضاف اليمين إلى حال الزوجية , فأشبه ما لو حلف بعد تزويجها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثالث لصحة التعليق في الأيمان، فمثل هذا كمثل من حلف على أن لا يأكل طعاما معينا، فإنه لو أكله وجبت عليه الكفارة، وهذه المسألة تعبدية محضة علاقتها بالأيمان أكثر من علاقتها بالإيلاء.

المطلقة طلاقا رجعيا:

اختلف الفقهاء في صحة الإيلاء من الرجعية على قولين:

القول الأول: لا يصح إيلاؤه ; لأن الطلاق يقطع مدة الإيلاء إذا طرأ , فلأن يمنع صحته ابتداء أولى، وهو رواية عن أحمد.

القول الثاني: يصح إيلاؤه، وهو قول مالك ; والشافعي , وأصحاب الرأي، ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بأنها زوجة يلحقها طلاقه , فصح إيلاؤه منها , كغير المطلقة.

وقد اختلف أصحاب هذا القول في الوقت الذي تحتسب فيه مدة الإيلاء على رأيين:

الرأي الأول: إذا آلى منها احتسب بالمدة من حين آلى , وإن كانت في العدة، وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد ،واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أن من صح إيلاؤه , احتسب عليه بالمدة من حين إيلائه , كما لو لم تكن مطلقة.

·      أنها مباحة , فاحتسب عليه بالمدة فيها , كما لو لم يطلقها.

·  أنه لا يصح قياسها على البائن , لأنها ليست زوجة , ولا يصح الإيلاء منها بحال , فهي كسائر الأجنبيات.

الرأي الثاني: أنه لا يحتسب عليه بالمدة إلا من حين راجعها , وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أنها معتدة منه , فأشبهت البائن.

·  أن الطلاق إذا طرأ قطع المدة , ثم لا يحتسب عليه بشيء من المدة قبل رجعتها , فأولى أن لا يستأنف المدة في العدة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أنه يصح إيلاؤه إن راجعها، وتجب عليه الكفارة إن أطلق المدة أو حددها بمدة حنث فيها، وللزوجة الحق في أحكام الإيلاء الخاصة بها إذا مضت عليها أربعة أشهر بعد إرجاعها لا بعد يمينه.

فللمدة بهذا معنيان مدة متعلقة بالكفارة، تبدأ من حين إيلائه، ومدة متعلقة بحق الزوجة تبدأ من حين رجعتها. 

الإيلاء قبل البناء :

اختلف الفقهاء في صحة الإيلاء قبل الدخول على قولين:

القول الأول: يصح قبل الدخول، وهو قول النخعي , ومالك , والأوزاعي , والشافعي، لعموم الآية، لأنه ممتنع من جماع زوجته بيمينه , فأشبه ما بعد الدخول.

القول الثاني: لا يصح الإيلاء إلا بعد الدخول، وهو قول عطاء , والزهري , والثوري ومثله الإيلاء من الرتقاء والقرناء , فإنه لا يصح الإيلاء منهما ; لأن الوطء متعذر دائما , فلم تنعقد اليمين على تركه , كما لو حلف لا يصعد السماء. 

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول إذا علق يمينه كما ذكرنا سابقا، أو قصد التعليق، فتجب عليه الكفارة متى حنث، أما حكم الإيلاء المختص بالزوجة، فيبدأ عده من يوم الدخول، فتستطيع المطالبة بحقها بعده بأربعة أشهر.

الركن الثالث: صيغة الإيلاء

ويتعلق بهذا الركن المسائل التالية:

لغة الإيلاء :

اتفق الفقهاء على أن الإيلاء يصح بكل لغة ولو كان ذلك ممن يحسن العربية, لأن اليمين تنعقد بغير العربية , وتجب بها الكفارة. والمولي هو الحالف بالله على ترك وطء زوجته , الممتنع من ذلك بيمينه، فلذلك لو آلى بالعجمية من لا يحسنها , وهو لا يدري معناها , لم يكن موليا, وإن نوى موجبها عند أهلها. وكذلك الحكم إذا آلى بالعربية من لا يحسنها ; لأنه لا يصح منه قصد الإيلاء بلفظ لا يدري معناه. فإن اختلف الزوجان في معرفته بذلك , فالقول قوله إذا كان متكلما بغير لسانه ; لأن الأصل عدم معرفته بها، فأما إن آلى العربي بالعربية أو العجمي بالعجمية , ثم قال: جرى على لساني من غير قصد  لم يقبل في الحكم ; لأنه خلاف الظاهر.

التعابير الدالة على الإيلاء:

قسم الفقهاء الألفاظ التي يتم بها الإيلاء إلى قسمين :

الصيغة الصريحة :

وقد قسموها تقسيمات مختلفة نختار منها هذا التقسيم:

الصيغة الصريحة حكما وديانة: وهي الصيغة الصريحة في الحكم والباطن جميعا , كقوله: والله لا آتيك , ولا أدخل , ولا أغيب أو أولج ذكري في فرجك، ولا افتضضتك إذا كان ذلك للبكر خاصة, وهي صريحة , لأنها لا تحتمل غير الإيلاء.

الصيغة الصريحة حكما:  وهي ما كانت صريحة في الحكم , ويدين فيما بينه وبين الله تعالى مثل قوله: لا وطئتك , ولا جامعتك , ولا أصبتك , ولا باشرتك , ولا مسستك , ولا قربتك , ولا أتيتك , ولا باضعتك , ولا باعلتك , ولا اغتسلت منك، فهي صريحة في الحكم[126]، وإنما لم يقبل حكما لاشتهار هذه الألفاظ في الدلالة على المعاشرة الجنسية، ولهذا لا يقبل منه تأويله لها كقوله: أردت بالوطء الوطء بالقدم , وبالجماع اجتماع الأجسام , وبالإصابة الإصابة باليد، دين فيما بينه وبين الله تعالى  , ولم يقبل في الحكم ; لأنه خلاف الظاهر والعرف، ومن الأدلة على هذه الصيغ:

·  أن القرآن الكريم ورد ببعضها كما قال تعالى :﴿ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾(البقرة:222)، وقال تعالى :﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ (البقرة:187)

·      أنها تستعمل عرفا للتعبير عن المعاشرة الجنسية في الوطء.

صيغة الكناية:

وهي ما يعتبر فيه النية , وهو ما عدا الألفاظ السابقة مع الاختلاف الوارد فيها بشرط أن يحتمل الجماع , كقوله: والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء، لا ساقف رأسي رأسك  لأغيظنك، لتطولن غيبتي عنك، لا مس جلدي جلدك، لا قربت فراشك، لا نمت عندك، فإن أراد بهذا الكلام ونحوه الجماع , واعترف بذلك , كان موليا , وإلا فلا ; لأن هذه الألفاظ ليست ظاهرة في الجماع , ولم يرد النص باستعمالها فيه.

وتنقسم هذه الألفاظ إلى ما يفتقر فيه إلى نية الجماع والمدة معا , كقوله: لأسوأنك , ولأغيظنك , ولتطولن  غيبتي عنك، فلا يكون موليا حتى ينوي ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر ; لأن غيظها يكون بترك الجماع فيما دون ذلك، أما في في سائر الألفاظ فإنه يكون موليا ولو بنية ترك الجماع فقط.

وقد ذكرنا سابقا أن هذا التقسيم لا يصح، وأن تكلف حفظ مثل هذه العبارات وامتلاء كتب الفقه بها قد لا يجدي شيئا من النفع لأن التعابير تختلف بحسب الزمان والمكان والأعراف واللغات، فلا يصح تجاهلها جميعا والاكتفاء بعرف من الأعراف ربما لم يكن له وجود حتى في الوقت الذي صنفت فيه تلك التصانيف.

وقد رجح ابن تيمية هذا في كل العقود فقال:) والصحيح أن المعنى إذا كان واحدا فالإعتبار بأى لفظ وقع، وذلك أن الإعتبار بمقاصد العقود وحقائقها لا باللفظ وحده، فما كان خلعا فهو خلع بأى لفظ كان، وما كان طلاقا فهو طلاق بأى لفظ كان، وما كان يمينا فهو يمن بأى لفظ كان، وما كان  إيلاء   فهو  إيلاء   بأى لفظ كان، وما كان ظهارا فهو ظهار بأى لفظ كان، والله تعالى ذكر فى كتابه الطلاق واليمين والظهار والإيلاء والإفتداء وهو الخلع، وجعل لكل واحد حكما فيجب أن نعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، وندخل فى الطلاق ما كان طلاقا، وفى اليمين ما كان ييمنا، وفى الخلع ما كان خلعا، وفى الظهار ما كان ظهارا، وفى  الإيلاء ما كان  إيلاء) [127]

أحكام تعليق الإيلاء على شرط

ينقسم الإيلاء بحسب إمكانية حصول المعلق عليه وعدمها إلى ما يلي:

تعليقه على شرط مستحيل:

كقوله[128]: والله لا وطئتك حتى تصعدي السماء، أو يشيب الغراب، وقد اتفق الفقهاء على أنه مول بذلك، لأن مقصوده من ذلك ترك وطئها، لأن ما يراد إحالة وجوده يعلق على المستحيلات كما قال تعالى في الكفار:﴿ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾(الأعراف:40)، ومعناه لا يدخلون الجنة أبدا، ومثله الإيلاء من الرتقاء والقرناء , فإنه لا يصح الإيلاء منهما ; لأن الوطء متعذر دائما , فلم تنعقد اليمين على تركه , كما لو حلف لا يصعد السماء. 

وقد اختلفوا في قوله:(والله لا وطئتك حتى تحبلي)، هل هو مول بذلك أم لا، على قولين:

القول الأول: هو مول بذلك، وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بأن الحمل بدون الوطء مستحيل عادة، فكان تعليق اليمين عليه إيلاء، كصعود السماء، ودليل استحالته قول مريم :﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾(آل عمران:47)، وقولهم :﴿ يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾(مريم:28)، ولولا استحالته لما نسبوها إلى البغاء بوجود الولد.

القول الثاني: ليس بمول إلا أن تكون صغيرة يغلب على الظن أنها لا تحمل في أربعة أشهر، أو آيسة، فأما إن كانت من ذوات الأقراء، فلا يكون موليا، لأنه يمكن حملها، وهو قول الشافعية والقاضي، لأنه يمكن حبلها من وطء غيره، أو باستدخال منيه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن المرجع في كل ذلك مقصده، فقد يكون اللفظ من حيث ظاهره صريحا في الدلالة على شيء معين، ولكن مقصد قائله خلاف ما يفهم منه، فلهذا يترك الأمر من الناحية التعبدية إلى مراد قائله، فيكفر بحسبه، أما من الناحية القضائية فيكلف بالفيئة في المدة التي حددها الشرع بغض النظر عن الصيغة التي قالها، وقد رأينا سابقا، بأن الإيلاء بمعناه المقاصدي قد يتحقق ولو بدون يمين، كما أن الفيئة قد تتحقق بدون معاشرة ولا كلام. 

نعليقه على ممكن:

وهو على نوعين هما[129] :

القسم الأول: تعليقه على أمر غير إرادي:

وينقسم هذا النوع بحسب اليقين بوجوده مدة الإيلاء وعدم وجوده إلى الأقسام التالية:

تعليقه على معلوم عدم الوجود مدة الإيلاء: وهو ما يعلم أنه لا يوجد قبل أربعة أشهر، كقيام الساعة، فإن لها علامات تسبقها، فلا يوجد ذلك في أربعة أشهر.

تعليقه على مظنون عدم الوجود مدة الإيلاء: وهو تعليقه على ما يغلب عليه عدم وجوده في أربعة أشهر، كخروج الدجال، والدابة، وغيرهما من أشراط الساعة، أو قوله :حتى أموت، أو حتى تموتي، فيكون موليا بذلك، لأن الغالب أن ذلك لا يوجد في أربعة أشهر.

تعليقه على أمر مشكوك فيه: وهو ما يحتمل الوجود في أربعة أشهر، ويحتمل أن لا يوجد، احتمالا متساويا، كقدوم زيد من سفر قريب، أو من سفر لا يعلم قدره،  فهذا ليس بإيلاء، لأنه لا يعلم حلفه على أكثر من أربعة أشهر، ولا يظن ذلك.

تعليقه على أمر معلوم الوجود: وهو أن يعلقه على ما يعلم أنه يوجد في أقل من أربعة أشهر، أو يظن ذلك، كذبول بقل، وجفاف ثوب، ومجيء المطر في أوانه، وقدوم الحاج في زمانه. فهذا لا يكون موليا، لأنه لم يقصد الإضرار بترك وطئها  أكثر من أربعة أشهر، فأشبه قوله: والله لا وطئتك شهرا.

تعليقه على الأفعال الإرادية :

ويشمل كل فعل منها تقدر عليه أو فعل من غيرها، وينقسم ذلك إلى ثلاثة أقسام :

تعليقه على فعل مباح لا مشقة فيه:

كقوله: والله لا أطؤك حتى تدخلي الدار، أو لا وطئتك ليلا، أو والله لا وطئتك نهارا، أو والله لا وطئتك في هذه البلدة، أو نحو ذلك من الأمكنة المعينة فهذا ليس بإيلاء، لأنه ممكن الوجود بغير ضرر عليها فيه.

ومثل ذلك ما لو قال: والله لا وطئتك حائضا. ولا نفساء , ولا محرمة , ولا صائمة. ونحو هذا , لم يكن موليا ; لأن ذلك محرم ممنوع منه شرعا , فقد أكد منع نفسه منه بيمينه.

أما لو قال: والله لا وطئتك مريضة، فإنه لا يكون موليا لذلك , إلا أن يكون بها مرض لا يرجى برؤه , أو لا يزول في أربعة أشهر , لأنه بذلك يكون حالفا على ترك وطئها أربعة أشهر، أما لو قال ذلك لها وهي صحيحة , ثم مرضت مرضا يمكن برؤه قبل أربعة أشهر , فإنه لا يصير موليا , فإذا لم يرج برؤه فيها , صار موليا، ومثله مالو كان الغالب أنه لا يزول في أربعة أشهر , لأن ذلك بمنزلة ما لا يرجى زواله.

ومثله ما لو قال: والله لا وطئتك إلا برضاك ،لأنه يمكنه وطؤها بغير حنث , ولأنه محسن في كونه ألزم نفسه اجتناب سخطها، ويقاس على ذلك كل حال يمكنه الوطء فيها بغير حنث, كقوله: والله لا وطئتك مكرهة , أو محزونة. ونحو ذلك فإنه لا يكون موليا.

أما لو قال: والله لا وطئتك إن شئت، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: إن شاءت على الفور جوابا لكلامه صار موليا , وإن أخرت المشيئة , انحلت يمينه، وهو قول للشافعية، لأن ذلك تخيير لها , فكان على الفور , كقوله: اختاري في الطلاق.

القول الثاني: إنه يكون موليا بذلك، وهو قول الحنابلة، لأنه علق اليمين على المشيئة بحرف إن , فكان على التراخي , كمشيئة غيرها، والفرق بين هذا القول وقوله لها: لا وطئتك إلا برضاك، هو أنها إذا شاءت , انعقدت يمينه مانعة من وطئها , بحيث لا يمكنه بعد ذلك الوطء بغير حنث، أما إذا قال: والله لا وطئتك إلا برضاك، فما حلف إلا على ترك وطئها في بعض الأحوال , وهو حال سخطها , فيمكنه الوطء في الحال الأخرى بغير حنث. 

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكرنا سابقا من التفريق بين الناحية التعبدية والناحية القضائية، ففي الناحية التعبدية تعتبر نيته ومقصده من اليمين كما تعتبر في سائر الأيمان، وفي الناحية القضائية تعتبر معاشرته وعدمها في الفترة المحددة لذلك شرعا، بغض النظر عن الصيغة التي تلفظ بها.

تعليقه على فطام ولدها:

اختلف الفقهاء[130] في  فيمن حلف ألا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها لئلا يتضرر ولدها، ولم يرد الإضرار بها حتى ينقضى أمد الرضاع على قولين:

القول الأول :لا يكون موليا بذلك، وهو قول مالك، قال: وقد بلغنى أن علي بن أبى طالب - رضي الله عنه -  سئل عن ذلك فلم يره إيلاء، وبه قال الشافعي في أحد قوليه.

القول الثاني:  يكون موليا، ولا اعتبار برضاع الولد، وبه قال أبو حنيفة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لأن القصد الشرعي من تحريم الإيلاء هو ما ينتج عنه من مضرة، فإذا انتفى المقصد انتفى معه الحكم، بل إنه لا يستبعد أن يقال باستحباب مثل هذه اليمين إن كانت وسيلته للمقصد الصحيح.

لكن المقصد الصحيح هنا يستدعي أمرين:

·      العلم بصحة ما قصده، ويتحقق بسؤال المختصين عن تأثير المعاشرة الجنسية مثلا في الرضاع.

·      استئذان الزوجة في ذلك، حتى لا تعتقد خلاف ما قصد.

القسم الثاني: تعليقه على محرم :

كقوله[131]: والله لا أطؤك حتى تشربي الخمر، أو تسقطي ولدك، فهذا إيلاء، لأنه علقه بممتنع شرعا، فأشبه الممتنع حسا.

ومثله ما لو قال:والله لا وطئتك طاهرا، أو لا وطئتك وطئا مباحا، فإنه يصير موليا ; لأنه حالف على ترك الوطء الذي يطالب به في الفيئة , فكان موليا، ومن المسائل الخلافية المرتبطة بهذا القسم:

تعليق إتيانها على طلاقها ثلاثا:

وذلك بأن يقول مثلا: إن وطئُتك، فأنتِ طالق ثلاثاً، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على الأقوال التالية[132]:

القول الأول: لم يؤمر بالفيئة , وأمر بالطلاق، وهو قول بعض الشافعية ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أن الوطء غير ممكن ; لكونها تبين منه بإيلاج الحشفة , فيصير مستمتعا بأجنبية.

·  أن النزع يلتذ به كما يلتذ بالإيلاج , فيكون في حكم الوطء , ولذلك قالوا في من طلع عليه الفجر وهو مجامع , فنزع: أنه يفطر

·      أن لمسها على وجه التلذذ بها محرم , فلمس الفرج بالفرج أولى بالتحريم.

·  أنه بالوطء يحصل الطلاق بعد الإصابة , وهو طلاق بدعة , وكما يحرم إيقاعه بلسانه, يحرم تحقيق سببه.

·  القياس على الصائم إذا تيقن أنه لم يبق إلى طلوع الفجر إلا قدر إيلاج الذكر دون إخراجه، حَرُمَ عليه الإيلاجُ، وإن كان في زمن الإباحة، لوجود الإخراج في زمن الحظر، كذلك ها هنا يحرُم عليه الإيلاجُ، وإن كان قبل الطلاق لوجود الإخراج بعده.

وقد رتبوا على هذا القول أن من وطئ فعليه أن ينزع حين يولج الحشفة , ولا يزيد على ذلك , وإن لبث أو تمم الإيلاج , فلا حد عليه , لتمكن الشبهة منه , لكونه وطئا بعضه في زوجته , واختلفوا في المهر فقيل بلزومه لأنه حصل منه وطء محرم في محل غير مملوك , فأوجب المهر , كما لو أولج بعد النزع، وقيل بعدم لزومه لأنه تابع الإيلاج في محل مملوك , فكان تابعا له في سقوط المهر.

القول الثاني: تجوز الفيئة، وهو رواية عن أحمد، وقول الشافعية، وهو ظاهر نص الشافعي، فإنه قال: (ولو قال: إن وطئتُك، فأنتِ طالق ثلاثاً. وقف، فإن فاء، فإذا غيب الحشفة، طلقت منه ثلاثاً، فإن أخرجه ثم أدخله، فعليه مهرُ مثلها)

·      أن النزع ترك للوطء , وترك الوطء ليس  بوطء.

·  يدل على الجواز أن رجلاً لو قال لرجل: ادخل داري، ولا تقم، استباح الدخول لوجوده عن إذن، ووجب عليه الخروجُ لمنعه من المقام، ويكون الخروجُ وإن كان في زمن الحظر مباحاً، لأنه تركٌ، كذلك هذا المؤلي يستبـيحُ أن يولج، ويستبـيحُ أن ينزع، ويحرم عليه استدامةُ الإيلاج.

القول الثالث: لا تحرُمُ عليه معاشرة زوجته، ولا تطلقُ عليه الزوجةُ، بل يُوقف، ويقال له: ما أمر الله إما أن تفيء، وإما أن تُطلق، وهو قول الظاهرية، وطاوس، وعكرمة، واختيار ابن تيمية،  لأن اليمينَ بالطلاق لا يُوجب طلاقاً، وإنما يُجزئه كفارة يمين، وقد سبق ذكر ذلك في صيغة الطلاق وأحكام الطلاق المعلق.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم حرمة المعاشرة، لأن الإيلاء مهما اختلفت صيغه لا يعتبر طلاقا، فلا يصح أن نجمع بين تفريقين في صيغة واحدة، ثم نربط بينهما ليترتب عليهما من الأحكام ما لم يرتبه الشرع، فالإيلاء في المسألة التي ذكرنا يترتب على الفيئة فيه وفق القولين الأولين الطلاق، مع أن الشرع رتب على الفيئة كفارة اليمين بغض النظر عن الصيغة المذكورة مادام يقصد منها الإيلاء، فلذلك نرى أن الأرجح هو القول الثالث بناء عل ما ذكرنا في صيغة الطلاق من حكم الطلاق المعلق.

تعليقه إتيانها على الظهار:

مثل قوله لها: إن وطئتك , فأنت علي كظهر أمي، وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا أتاها، فقد صار مظاهرا من زوجته , وزال حكم الإيلاء، ولو كفر قبل الظهار لم يجزئه.

تعليقه على ما في فعله مضرة:

مثل أن يقول[133]: والله لا أطؤك حتى تسقطي صداقك عني، أو حتى تكفلي ولدي، أو تهبيني دارك، أو حتى يبيعني أبوك داره ونحو ذلك، فهذا إيلاء، لأن أخذه لمالها أو مال غيرها من غير رضى صاحبه محرم، فجرى مجرى شرب الخمر.

ومثله أن يقول: إن وطئتك , فوالله لا وطئتك، وقد اختلف الفقهاء في هذا اليمين على قولين:

القول الأول: أنه لا يكون موليا في الحال ; لأنه لا يلزمه بالوطء حق , لكن إن وطئها صار موليا; لأنها تبقى يمينا تمنع الوطء على التأبيد، وهو قول الحنابلة والصحيح عن الشافعي.

القول الثاني: أنه يكون موليا من الأول ; لأنه لا يمكنه الوطء إلا بأن يصير موليا , فيلحقه بالوطء ضرر، وهو قول الشافعي القديم.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكرنا من التفريق بين الناحية التعبدية التي ترجع لأحكام اليمين والناحية القضائية التي ترجع لمطالبة الزوجة في المدة المحددة شرعا.

حكم الجمع بين أكثر من زوجة واحدة في الإيلاء:

اتفق الفقهاء[134] على أنه إن قال لزوجاته: والله لا وطئت واحدة منكن، وهو ينوي واحدة بعينها , فإن يمينه تعلقت بها وحدها , وصار موليا منها دون غيرها، ويقبل قوله في تحديد نيته في ذلك.

أما إن نوى واحدة مبهمة منهن، بأن قال مثلا لنسائه: والله لا أقربكن، ولم ينو واحدة منهن، أو قال :والله لا وطئت كل واحدة منكن، فقد اختلف الفقهاء في اعتباره موليا منهن جميعا في الحال أم لا على الأقوال التالية:

القول الأول:  أنه يكون موليا منهن كلهن , يوقف لكل واحدة منهن , فإذا أصاب بعضهن , خرجت من حكم الإيلاء , ويوقف لمن بقي حتى يفيء أو يطلق , ولا يحنث حتى يطأ الأربع، وهو قول الشافعي والحنفية.

القول الثاني: لا يكون موليا منهن في الحال ; لأنه يمكنه وطء كل واحدة منهن من غير حنث , فلم يمنع نفسه بيمينه من وطئها , فلم يكن موليا منها، فإن وطئ ثلاثا , صار موليا من الرابعة ; لأنه لا يمكنه وطؤها من غير حنث في يمينه، وإن مات بعضهن , أو طلقها , انحلت يمينه , وزال الإيلاء ; لأنه لا يحنث بوطئهن , وإنما يحنث بوطء الأربع. فإن راجع المطلقة , أو تزوجها بعد بينونتها, عاد حكم يمينه، وهو قول عند الشافعية ووجه عند الحنابلة.

القول الثالث: أنه مول منهن كلهن في الحال ; لأنه لا يمكنه وطء واحدة بغير حنث، فصار مانعا لنفسه من وطء كل واحدة منهن في الحال , فإن وطئ واحدة منهن , حنث , وانحلت يمينه , وزال الإيلاء من البواقي، وإن طلق بعضهن أو مات , لم ينحل الإيلاء في البواقي، وهو قول عند الشافعية ووجه عند الحنابلة[135]، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن النكرة في سياق النفي تعم , كقوله تعالى ﴿ مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾(الجن:3)، وقوله ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد﴾(الإخلاص:4)،  وقوله :﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور﴾ٍ(النور:40) ،ومثل قول: والله لا شربت ماء من إداوة، فإنه يحنث بالشرب من أي إداوة كانت , لحمل اللفظ عند الإطلاق على مقتضاه في العموم.

·      أنها يمين واحدة حنث فيها , فوجب أن تنحل , كسائر الأيمان.

·  أنه إذا وطئ واحدة حنث , ولزمته الكفارة , فلا يلزمه بوطء الباقيات شيء , فلم يبق ممتنعا من وطئهن بحكم يمينه , فانحل الإيلاء , كما لو كفرها.

·      أن من لا يحنث بوطئها , لا يكون موليا منها , كالتي لم يحلف عليها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أنه إن قصد الإيلاء من الجميع، فإن الناحية التعبدية تتطلب منه كفارة واحدة، لأنهن جميعا صرن كشيء واحد بالنسبة له، كقوله: والله لا آكل عنبا، فلفظ العنب لا ينصرف لحبة واحدة، بل ينصرف لكل عنب، فكلذلك لو قال ما ذكر في هذه المسألة.

أما من الناحية القضائية، فإن ذلك حق لكل زوجة على الحياد، فإن شاءت إحداهن أو بعضهن المطالبة في المدة المحددة شرعا، فإن لهن ذلك.

أنواع المقسم به وأحكامها

يتنوع المقسم به إلى أنواع كثيرة يمكن حصرها فيما يلي:

القسم على ما يلزمه بالحنث فيه حق:

اتفق الفقهاء القائلون بالإيلاء المعلق على أنه إذا حلف بما يلزمه بالحنث فيه حق كقوله: إن وطئتك فأنت طالق، أو فأنت علي كظهر أمي، أو فأنت علي حرام، أو فلله علي صوم سنة أو الحج أو صدقة، فإنه يكون إيلاء، لأنه يلزمه بوطئها حق يمنعه من وطئها خوفه من وجوبه.

ففي المدونة: (قلت: أرأيت إن قال لامرأة إن تزوجتك فوالله لا أقربك وأنت علي كظهر أمي. فتزوجها أيلزمه الإيلاء والظهار جميعا في قول مالك ؟ قال: نعم , وهو بمنزلة رجل قال لامرأته والله لا أقربك وأنت علي كظهر أمي فهو مول مظاهر منها.) [136]

وقال السرخسي: (إن قال: إن قربتك فأنت علي كظهر أمي فهو مول ; لأنه لا يملك قربانها في المدة إلا بظهار يلزمه , وكذلك إن قال إن قربتك فأنت علي حرام وهو ينوي الطلاق بذلك فهو مول ; لأنه لا يملك قربانها في المدة إلا بطلاق يلزمه وإن كان ينوي اليمين فهو مول أيضا في قول أبي حنيفة رحمه الله , ولا يكون موليا في قول أبي يوسف ومحمد) [137]

وقد سبق ذكر أن الإيلاء في هذه المسائل جميعا إيلاء محض لا علاقة له بالظهار أو بالطلاق، فيكفر كفارة الإيلاء فقط.

القسم على أمر مستحيل:

كقوله[138]: إن وطئتك فأنت زانية، لم يكن موليا بذلك، لأنه لا يلزمه بالوطء حق، ولا يصير قاذفا بالوطء، لأن القذف لا يتعلق بالشرط، ولا يجوز أن تصير زانية بوطئه لها، كما لا تصير زانية بطلوع الشمس، ومثله ما لو قال: إن وطئتك، فلله علي صوم أمس.

القسم على حق غير مالي:

كما لو قال: إن وطئتك، فلله علي أن أصلي عشرين ركعة، وقد اختلف الفقهاء في هذا القسم على قولين:

القول الأول: أنه يكون موليا بذلك، وبنذر فعل المباحات والمعاصي أيضا، فإن نذر المعصية موجب للكفارة،  وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بأن الصلاة تجب بالنذر، فكان الحالف بها موليا، كالصوم والحج.

القول الثاني: لا يكون موليا، وهو قول الحنفية، لأن الصلاة لا يتعلق بها مال، ولا تتعلق بمال، فلا يكون الحالف بها موليا، كما لو قال: إن وطئتك، فلله علي أن أمشي في السوق.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أن هذا من الناحية التعبدية نذر يلزم الوفاء به، أما من الناحية القضائية، فإن حكم ذلك للزوجة في المدة المحددة لها شرعا.

الركن الرابع: المدة

اختلف الفقهاء في  المدة التي يعتبر فيها الحالف على مقاطعة الزوجة موليا[139] على الأقوال التالية[140]:

القول الأول: من حلف على ترك الوطء في قليل من الأوقات أو كثير، وتركها أربعة أشهر، فهو مول، وهو قول النخعي، وقتادة، وحماد، وابن أبي ليلى، وإسحاق، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾(البقرة:226)، وهو مول، لأن الإيلاء الحلف، وهذا حالف.

القول الثاني: أن المولي من يحلف على ترك الوطء أبدا أو مطلقا، وهو مروي عن ابن عباس، لأنه إذا حلف على ما دون ذلك، أمكنه التخلص بغير حنث، فلم يكن موليا، كما لو حلف أن لا يقربها في مدينة بعينها.

القول الثالث: إذا حلف على أربعة أشهر فما زاد كان موليا، وهو قول عطاء، والثوري، وأصحاب الرأي، ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بأنه ممتنع من الوطء باليمين أربعة أشهر، فكان موليا، كما لو حلف على ما زاد.

القول الرابع:  أن يحلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر، بأن يقول مثلا: والله لا وطئتك، لأنه قول يقتضي التأبيد[141]، وهو قول ابن عباس، وطاوس، وسعيد بن جبير، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد وأبي ثور، وأبي عبيد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أن الله تعالى عقب الفيء عقيب التربص بفاء التعقيب، فيدل على تأخرها عنه.

·  أنه لم يمنع نفسه من الوطء باليمين أكثر من أربعة أشهر، فلم يكن موليا، كما لو حلف على تركه قبلها.

·  أن الآية جعلت له تربص أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر أو ما دونها، فلا معنى للتربص، لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك ومع انقضائه.

·      أن تقدير التربص بأربعة أشهر يقتضي كونه في مدة تناولها الإيلاء.

·  أن المطالبة إنما تكون بعد أربعة أشهر، فإذا انقضت المدة بأربعة فما دون، لم تصح المطالبة من غير إيلاء.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن العبرة بمقصده في اليمين من الناحية التعبدية، فيكفر عن يمينه بحسبه، أطلق المدة أو حددها، أما من الناحية المختصة بالمرأة فإن العبرة بمضي المدة المقررة شرعا، لا بتحليل ما قاله وتوجيهه وجهة قد لا تكون مقصودة منه.

تقطيع مدة الإيلاء:

وهو أن يجمع في يمينه بين مدتين متواليتين يزيد مجموعهما على أربعة , كثلاثة أشهر وثلاثة, أو ثلاثة وشهرين , بأن يقول مثلا: والله لا وطئتك أربعة أشهر , فإذا مضت , فوالله لا وطئتك أربعة أشهر، أو فإذا مضت , فوالله لا وطئتك شهرين، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه ليس بمول، واستدلوا على ذلك بما يلي: 

أنه حالف بكل يمين على مدة ناقصة عن مدة الإيلاء , فلم يكن موليا , كما لو لم ينو إلا مدتها.

أنه يمكنه الوطء بالنسبة إلى كل يمين عقيب مدتها من غير حنث فيها , فأشبه ما لو اقتصر عليها.

القول الثاني: أنه يصير موليا بقوله ذلك، واستدلوا على ذلك بما يلي:

أنه منع نفسه من الوطء بيمينه أكثر من أربعة أشهر متوالية , فكان موليا , كما لو منعها بيمين واحدة.

أنه لا يمكنه الوطء بعد المدة إلا بحنث في يمينه , فأشبه ما لو حلف على ذلك بيمين واحدة.

أنه لو لم يكن هذا إيلاء , فإن ذلك يفضي إلى أن يمنع من الوطء طول دهره باليمين , فلا يكون موليا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار نيته من ذلك اليمين من الناحية التعبدية، واعتبار المدة المقررة شرعا للمطالبة في حق المرأة.

اليمين على ما يقتضي مدة الإيلاء:

وذلك بأن يقول مثلا: والله لا وطئتك في السنة إلا مرة، وقد اختلف الفقهاء في هذه اليمين، هل يعتبر صاحبها موليا أم لا على قولين:

القول الأول: لا يصير موليا في الحال، وهو قول أبي ثور , وأصحاب الرأي , وظاهر مذهب الشافعي، لأنه يمكنه الوطء متى شاء بغير حنث , فلم يكن ممنوعا من الوطء بحكم يمينه, فإذا وطئها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر , صار موليا[142].

القول الثاني: يصير موليا في الابتداء، وهو قول الشافعي القديم ,; لما ذكرنا في التي قبلها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار نيته مطلقا، واعتبار مضي المدة للمرأة إن قصر في حقها، ولا ينبغي للمراة في مثل هذه الأحوال جميعا أن تعد الأشهر والأيام لتذهب به إلى القاضي، بل عليها أن تتلطف بالوسائل التي تعيده إليها من غير لجوء لأحد.

آثار الإيلاء

نص الفقهاء على أنه ينتج عن الإيلاء الآثار التالية مع اختلاف بين الفقهاء في تفاصيلها:

الأثر الأول: التفريق بين الزوجة والمولي عند عدم الفيئ

اختلف الفقهاء في كيفية التفريق بين المولي والزوجة، هل تطلق بنفس مضي المدة أم لا، على قولين:

القول الأول: لا تطلق بنفس مضي المدة، بل يضاف إلى ذلك أن ترافعه امرأته إلى الحاكم, الذي يوقفه , ويأمره بالفيئة , فإن أبى أمره بالطلاق، وهو قول  ابن عمر , وعائشة وأبي الدرداء، وبهذا قال سعيد بن المسيب , وعروة , ومجاهد , وطاوس , ومالك , والشافعي, وإسحاق , وأبو عبيد , وأبو ثور , وابن المنذر، واستدلوا على ذلك بما يلي:

2.    قول الله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(البقرة:226)، وظاهر الآية يدل على أن الفيئة بعد أربعة أشهر ; لذكره الفيئة بعدها بالفاء المقتضية للتعقيب.

قوله تعالى بعدها :﴿ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(البقرة:227) ،ولو وقع بمضي المدة , لم يحتج إلى عزم عليه , وقوله ﴿ سَمِيعٌ عَلِيمٌ  ﴾ يقتضي أن الطلاق مسموع , ولا يكون المسموع إلا كلاما.

أنه قول أكثر الصحابة، قال سليمان بن يسار: كان تسعة عشر رجلا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -  يوقفون في الإيلاء، وقال سهيل بن أبي صالح: سألت اثني عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -  فكلهم يقول: ليس عليه شيء , حتى يمضي أربعة أشهر , فيوقف, فإن فاء , وإلا طلق[143].

أنها مدة ضربت له تأجيلا , فلم يستحق المطالبة فيها , كسائر الآجال.

أن هذه مدة لم يتقدمها إيقاع , فلا يتقدمها وقوع , كمدة العنة، لأن الطلاق لا يقع إلا بمضيها , لأن مدة العنة ضربت له ليختبر فيها , ويعرف عجزه عن الوطء بتركه في مدتها , وهذه ضربت تأخيرا له وتأجيلا , ولا يستحق المطالبة إلا بعد مضي الأجل , كالدين.

القول الثاني: إذا مضت أربعة أشهر , طلقت منه من غير رفع للحاكم، لأن الإيلاء عندهم طلاق معلق، قال الكاساني: (أما الذي يرجع إلى الوقت فهو مضي مدة الإيلاء , وهو شرط وقوع الطلاق بالإيلاء حتى لا يقع الطلاق قبل مضي المدة ; لأن الإيلاء في حق أحد الحكمين - وهو البر - طلاق معلق بشرط ترك الفيء في مدة الإيلاء لقوله تعالى:﴿ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(البقرة:227)، وروي عن ابن عباس , وعدة من الصحابة - رضي الله عنهم -  أنه إن عزم الطلاق ترك الفيء إليها أربعة أشهر فقد جعل ترك الفيء أربعة أشهر شرط وقوع الطلاق في الإيلاء([144]

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول لأن ذلك حق للمرأة كسائر حقوقها، تستطيع أن تطالب بالتفريق على أساسه ولها أن لا تطالب، والقول بوقوع الطلاق بعد مضي المدة بدون طلب يحول الإيلاء إلى نوع من أنواع الطلاق، وتنتفي بذلك الخصوصية التي جعلها الشرع له، وأعظم مضرة لذلك هي الإكثار من الطلاق الذي حصره الشرع في أضيق الأبواب.

تفريق القاضي عند عدم الفيئ :

نص الفقهاء على أنه إذا امتنع المولي من الفيئة بعد التربص , أو امتنع المعذور من الفيئة بلسانه , أو امتنع من الوطء بعد زوال عذره , أمر بالطلاق، فإن طلق, وقع طلاقه الذي أوقعه , واحدة كانت أو أكثر، وليس للحاكم إجباره على أكثر من طلقة ; لأنه يحصل الوفاء بحقها بها ; فإنها تفضي إلى البينونة , والتخلص من ضرره، وقد اختلفوا في حال امتناعه من الطلاق , هل يطلق لحاكم عليه أم لا، على قولين:

القول الأول: يطلق الحاكم عليه، وليس للحاكم أن يأمر بالطلاق ولا يطلق إلا أن تطلب المرأة ذلك ; لأنه حق لها , وإنما الحاكم يستوفي لها الحق , وهو قول مالك ورواية عن أحمد، وقول للشافعية، لأن ما دخلته النيابة , وتعين مستحقه , وامتنع من هو عليه , قام الحاكم مقامه فيه , كقضاء الدين.

القول الثاني: ليس للحاكم الطلاق عليه، بل يحبسه , ويضيق عليه , حتى يفيء , أو يطلق، وهو رواية عن أحمد، وقول للشافعية، وهو قول الظاهرية، لأن ما خير الزوج فيه بين أمرين , لم يقم الحاكم مقامه فيه كالاختيار لبعض الزوجات في حق من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أنه إن اقتصرت المدة على أربعة اشهر فقط هو الأخذ بالقول الثاني، أما إن طالت المدة، واستعملت كل الوسائل، ولم يرجع الزوج لزوجته، بل بقي مصرا على إضراره بها، فإن لها الحق في طلب التفريق من زوجها، وللقاضي أن يطلقها منه دفعا للضرر.

نوع التفريق :

اختلف الفقهاء في نوع الطلاق الواجب على المولي، هل هو رجعي أو بائن على قولين:

القول الأول: هي تطليقة بائنة، وروي ذلك عن عثمان , وعلي , وزيد , وابن عمر , وابن مسعود , وابن عباس , وعكرمة , وجابر بن زيد , وعطاء , والحسن , ومسروق , وقبيصة , والنخعي , والأوزاعي , وابن أبي ليلى , وأصحاب الرأي  واستدلوا على ذلك بما يلي: 

·  أن ابن مسعود وعمر بن الخطاب كانا يقولان:(إذا مضت أربعة أشهر فهي طالق بائنة وهي أحق بنفسها) [145]

·      أن هذه مدة ضربت لاستدعاء الفعل منه , فكان ذلك في المدة كمدة العنة.

القول الثاني: هو طلاق رجعي , سواء أوقعه بنفسه , أو طلق الحاكم عليه، وقد روي عن أبي بكر بن عبد الرحمن , ومكحول , والزهري، وهو قول الشافعي، وروي عن أحمد  أن فرقة الحاكم تكون بائنة، واستدلوا على ذلك بما يلي: 

·  أنه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض , ولا استيفاء عدد , فكان رجعيا ,  كالطلاق في غير الإيلاء.

·  أنه لا يصح قياسه على فراق العنة، لأنها فسخ لعيب , وهذه طلقة , ولأنه لو أبيح له ارتجاعها , لم يندفع عنها الضرر , وهذه يندفع عنها الضرر ; فإنه إذا ارتجعها , ضربت له مدة أخرى , ولأن العنين قد يئس من وطئه , فلا فائدة في رجعته , وهذا غير عاجز , ورجعته دليل على رغبته وإقلاعه عن الإضرار بها , فافترقا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة التفريق بين طلاقه هو وتطليق الحاكم عليه، أما طلاقه هو، فهو كسائر الطلاق، طلاق رجعي يمكن رجعتها في العدة، ولا يحتسب عليه إلا طلقة واحدة، كما ذكرنا أدلة ذلك في صيغة الطلاق.

أما تطليق الحاكم، فهو فسخ، لأن الطلاق لا يكون إلا من الزوج، وكل تطليق للحاكم فسخ كما رأينا في الفصل الخاص بحل العصمة الزوجية بيد القضاء، وفي ذلك من المصلحة عدم تكثير الطلاق رعاية لمقصد الشارع من إتاحة أكثر الفرص للرجعة.

وجود المانع حال المطالبة

وذلك يختلف حكمه بحسب الحالتين التاليتين:

الحالة الأولى: وجود المانع من جهة الزوج :

وقد سبق ذكر المسألة عند بيان شروط المولي، وهي ترجع على اختلاف التفاصيل فيها إلى قولين هما:

القول الأول: يلزمه أن يفيء بلسانه , فيقول: متى قدرت جامعتها، وهو قول ابن مسعود , وجابر بن زيد , والنخعي , والحسن , والزهري , والثوري , والأوزاعي , وعكرمة, وأبي عبيد , وأصحاب الرأي، وقد اكتفى بعضهم بأن يقول: فئت إليك، وقال بعض الشافعية: لا بد أن يقول: قد ندمت على ما فعلت , إن قدرت وطئت، أما العاجز لجب أو شلل , ففيئته أن يقول: لو قدرت لجامعتها ; لأن ذلك يزيل ما حصل بإيلائه، لأن القصد بالفيئة ترك ما قصده من الإضرار , وقد ترك قصد الإضرار بما أتى به من الاعتذار , والقول مع العذر يقوم مقام فعل القادر.

القول الثاني: لا يكون الفيء إلا بالجماع , في حال العذر وغيره، وهو قول سعيد بن جبير وأبي ثور، واستدلوا على ذلك بأن الضرر بترك الوطء لا يزول بالقول.

الترجيح:

قد ذكرنا عند الحديث عن شروط المولي أن الرجوع يصح بكل ما يدل عليه من إشارة وهدية وابتسامة وغيرها، وقد رجح ابن قدامة القول بصحة الفيء باللسان بقوله:(وهو أحسن; لأن وعده بالفعل عند القدرة عليه , دليل على ترك قصد الإضرار , وفيه نوع من الاعتذار , وإخبار بإزالته للضرر عند إمكانه , ولا يحصل بقوله: فئت إليك شيء من هذا) [146]

الحالة الثانية: وجود المانع من جهة الزوجة:

إذا كان المانع من جهة الزوجة فإن له حالتان كذلك:

تعين مدة لزوال العارض: وذلك حين يكون المانع حيضا , لأنه لو منع لم يمكن ضرب المدة ; لأن الحيض في الغالب لا يخلو منه شهر , فيؤدي ذلك إلى إسقاط حكم الإيلاء , واختلف في النفاس، فقيل هو كالحيض ; لأن أحكامه أحكام الحيض، وقيل: هو كسائر الأعذار التي من جهتها ; لأنه نادر غير معتاد, فأشبه سائر الأعذار.

عدم تعين المدة: وذلك في سائر الأعذار التي من جهتها ; كصغرها ومرضها , وحبسها, وإحرامها , وصيامها واعتكافها المفروضين , ونشوزها , وغيبتها , فمتى وجد منها شيء حال الإيلاء , لم تضرب له المدة حتى يزول ; لأن المدة تضرب لامتناعه من وطئها , والمنع هاهنا من قبلها.

وإن وجد شيء من هذه الأسباب في كلتا الحالتين , استؤنفت المدة , ولم يبن على ما مضى ; لأن قوله تعالى :﴿ تربص أربعة أشهر ﴾ يقتضي كونها متوالية. فإذا قطعتها , وجب استئنافها , كمدة الشهرين في صوم الكفارة، وإن حنث وهربت من يده , انقطعت المدة، وإن بقيت في يده وأمكنه وطؤها , احتسب عليه بها.

الأثر الثاني ـ لزوم الكفارة عند الرجوع للزوجة

اتفق الفقهاء على أن الفيئة[147] للزوجة هي الجماع، قال ابن المنذر: (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم , على أن الفيء الجماع) [148]، واتفقوا على أن أدنى الوطء الذي تحصل به الفيئة أن تغيب الحشفة في الفرج لأن أحكام الوطء تتعلق به، أما لو وطئ دون الفرج , أو في الدبر , فلا يكون ذلك  فيئة، لأنه ليس بمحلوف على تركه , ولا يزول الضرر بفعله.

واختلفوا في لزوم الكفارة له إذا فاء على قولين:

القول الأول: تلزمه الكفارة، وهو قول أكثر العلماء، وقد روي ذلك عن زيد , وابن عباس، وبه قال ابن سيرين , والنخعي , والثوري , وقتادة , ومالك , وأبو عبيد , وأصحاب الرأي , وابن المنذر. وهو ظاهر مذهب الشافعي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قول الله تعالى :﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾إلى قوله: ﴿ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾(المائدة:89)،وقال تعالى:﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾(التحريم:2)

·  قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(إذا حلفت على يمين , فرأيت غيرها خيرا منها , فأت الذي هو خير , وكفر عن يمينك) [149]

·  أنه حالف حانث في يمينه , فلزمته الكفارة كما لو حلف على ترك فريضة ثم فعلها , والمغفرة لا تنافي الكفارة , لأن الله تعالى  قد غفر لرسوله - صلى الله عليه وسلم -  ما تقدم من ذنبه وما تأخر , ومع ذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يقول :(إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها , إلا أتيت الذي هو خير , وتحللتها)[150]

القول الثاني: لا كفارة عليه، وهو قول الحسن وقول للشافعية، واستدلوا على ذلك بما قال النخعي: كانوا يقولون ذلك ; لأن الله تعالى قال :﴿ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(البقرة:226)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول لأن الإيلاء يمين كسائر الايمان، فلذلك تكفر بما تكفر به، والمغفرة والرحمة التي استدل بها أصحاب القول الثاني لا تتنافى مع الكفارة، بل هي دليل مستأنس به على وجوبها زيادة على الأدلة النصية.

 



([1])   كتب ورسائل ابن تيمية في الفقه: 33/156.

([2])   انظر: طلبة الطلبة:25، المغرب:300.

([3])   المنتقى:4/38.

([4])   العناية:4/246.

([5])   الجوهرة النيرة:2/62.

([6])   شرح حدود ابن عرفة:205.

([7])   وهو تعريف الزيدية، انظر: التاج المذهب: 2/243، ومن المحترزات التي ذكروها لهذا التعريف: قوله لفظ مخصوص يحترز من الكتابة والإشارة من الأخرس فلا يصح بهما تشبيها له بالشهادة , وقوله يرتفع بالكفارة أو ما في حكمها يحترز من الظهار المؤقت وهو انقضاء الوقت. وقولنا قبل الوطء يحترز من الإيلاء فالكفارة فيه بعد الوطء.

([8])   المبسوط: 6/223.

([9])   كتب ورسائل ابن تيمية في الفقه: 33/156.

([10])   الأم:5/294.

([11])   في ظلال القرآن:5/2824.

([12])   في ظلال القرآن:5/2824.

([13])   الفروق للقرافي:1/31.

([14])   الفروق للقرافي:1/33.

([15])   انظر: الزواجر:2/84.

([16])   زاد المعاد: 5/326.

([17])   قال ابن حجر: أصله في البخاري من هذا الوجه إلا أنه لم يسمها ورواه أبو داود والحاكم، انظر: تلخيص الحبير:3/220، الحاكم: 2/523، البيهقي: 7/382، أبو داود: 2/266، المعجم الكبير:11/265.

([18])   ابن خزيمة: 4/73، الحاكم: 2/221، الترمذي: 5/405، الدارمي: 2/217، البيهقي: 7/390، أبو داود: 2/265، ابن ماجة: 1/665، أحمد: 4/37.

([19])   بدائع الصنائع: 3/231، المغني: 8/34، الفروع: 5/489، فتح القدير: 4/250، مواهب الجليل: 4/112، المنتقى: 4/48.

([20])   الجصاص:3/634.

([21])   المدونة:2/309.

([22])   الأم:5/295.

([23])   بدائع الصنائع: 3/231.

([24])   انظر التفاصيل المذكورة في :تحفة الفقهاء: 2/211، بدائع الصنائع: 3/229، بداية المبتدي: 81، البحر الرائق: 4/102، حاشية ابن عابدين: 3/465، المبسوط: 6/223، الدر المختار: 3/465.

([25])   انظر التفاصيل المذكورة في: كفاية الطالب: 2/134، حاشية الدسوقي: 2/439، الشرح الكبير: 2/439، مواهب الجليل: 4/111، مختصر خليل: 148، حاشية العدوي: 2/134.

([26])   انظر التفاصيل المذكورة في :التنبيه: 185، المهذب: 2/111، الإقناع للماوردي: 156، الوسيط: 6/27، حاشية البجيرمي: 4/52، خبايا الزوايا: 380، روضة الطالبين: 8/261، منهاج الطلاب: 98.

([27])   الأم:5/294.

([28])   انظر التفاصيل المذكورة في: المبدع: 8/30، دليل الطالب: 268، المحرر في الفقه: 2/89، عمدة الفقه: 115، الإنصاف للمرداوي: 9/193، منار السبيل: 2/236، الروض المريع: 3/194، الكافي في فقه ابن حنبل: 3/255.

([29])   التاج المذهب:2/243، البحر الزخار:4/168.

([30])   التاج المذهب:2/247.

([31])   شرائع الإسلام:3/45.

([32])   شرح النيل:7/92.

([33])   المحلى:9/189.

([34])   المحلى:9/189.

([35])   انظر: المدونة: 2/309، المبسوط: 6/231، ابن العربي: 4/158، بدائع الصنائع: 3/230.

([36])   المغني:7/132.

([37])   الأم: 6/173.

([38])   انظر: المبسوط: 6/231، بدائع الصنائع: 3/230، المغني: 8/31، التاج والإكليل: 5/418.

([39])   ولأحمد رواية أخرى , هي إن أذن له سيده في التكفير بالمال جاز، وهو مذهب الأوزاعي , وأبي ثور ; لأنه بإذن سيده يصير قادرا على التكفير بالمال، المغني:8/31.

([40])   المنتقى:4/51.

([41])   الأم:5/268.

([42])   الأم: 5/295، الجصاص: 3/631، المحلى: 9/200، المنتقى: 4/41، بدائع الصنائع: 3/138، المغني: 8/11، شرائع الإسلام: 3/148.

([43])   وقد استدل بهذا ابن حزم بناء على مذهبه في حكم التعليق، كما سنرى، انظر: المحلى:9/200.

([44])   المدونة:2/343.

([45])   المحلى:10/15.

([46])   المبسوط:6/93.

([47])   وقوله الثالث هو: إن كانت البينونة بالثلاث , لم يعد الظهار , وإلا عاد، قال الشافعي: إذا طلق امرأتيه فكان يملك رجعة إحداهما ولا يملك رجعة الأخرى فتظاهر منهما في كلمة واحدة لزمه الظهار من التي يملك رجعتها ويسقط عنه من التي لا يملك رجعتها، الأم:5/294، وبناه على الأقاويل في عود صفة الطلاق في النكاح الثاني.

([48])   المبسوط:6/93.

([49])   بداية المجتهد:2/81.

([50])   بداية المجتهد:2/81، المحلى:9/190.

([51])   المحلى: 9/191.

([52])   انظر تفاصيل هذه الألفاظ على المذاهب المختلفة في المطلب الثالث من هذا المبحث، وقد ذكرنا المراجع الموثقة لذلك هناك، فلا نطيل بإعادتها هنا.

([53])   .

([54])   البيهقي: 7/366، أبو داود: 2/264.

([55])   البخاري: 3/1225، مسلم: 4/1840، ابن حبان: 13/45، الحاكم: 2/612، البيهقي: 7/366، النسائي: 5/97.

([56])   ويستثنى من ذلك لو قال: أنت حرام إن شاء الله , وشاء زيد. فشاء زيد , لم يصر مظاهرا ; لأنه علقه على مشيئتين , فلا يحصل بإحداهما.

([57])   المحلى:9/200.

([58])   البيهقي: 10/46، ابن حبان: 10/184، أبو داود: 3/225، النسائي: 3/129، أحمد:2/6.

([59])   منار السبيل: 2/236.

([60])   سبق تخريجه.

([61])   وقد نص عليه في الأم بقوله: »إذا قال لامرأته أنت علي كظهر أختي أو كظهر امرأة محرمة عليه من نسب أو رضاع قامت في ذلك مقام الأم. أما الرحم فإن ما يحرم عليه من أمه يحرم عليه منها , وأما الرضاع فإن النبي r  قال » يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب « فأقام النبي r  الرضاع مقام النسب فلم يجز أن يفرق بينهما، الأم:5/295.

([62])   فقد نصو على أنه لو شبهها بمحرمة بالمصاهرة , تحريما مؤبدا , كأم الزوجة , وبنت زوجته المدخول بها , وزوجة الأب والابن لم يقع [ به ] الظهار. وكذا لو شبهها بأخت الزوجة أو عمتها أو خالتها ولو قال: كظهر أبي أو أخي أو عمي لم تكن شيئا وكذا لو قالت هي: أنت علي كظهر أبي وأمي، شرائع الإسلام:3/45.

([63])   ذكرنا الخلاف في المسألة في محلها من صيغة الطلاق.

([64])   المنتقى:4/40، المغني:8/5.

([65])   الأم:5/296.

([66])   زاد المعاد:5/333.

([67])   الأم:5/296.

([68])   سواء كان ذلك متراخيا عن يمينه , أو عقيبه وأيهما مات ورثه صاحبه في قول الجمهور، لأن من ورثها إذا كفر ورثها وإن لم يكفر , خلافا لقتادة الذي قال: إن ماتت , لم يرثها حتى يكفر.

([69])   انظر: زاد المعاد:5/334.

([70])   المحلى: 9/194.

([71])   وذكر ابن قدامة قولا آخر لم يذكر قائله ،قال :حكي عن بعض الناس أن الكفارة تسقط ; لأنه فات وقتها ; لكونها وجبت قبل المسيس، المغني:8/4.

([72])   فإذا عاشرها كان عاصيا وليس عليه كفارة إلا ما حكي عن عمرو بن العاص , أن عليه كفارتين. وروي ذلك عن قبيصة , وسعيد بن جبير , والزهري , وقتادة ; لأن الوطء يوجب كفارة , والظهار موجب للأخرى.

([73])   ذكره في المغني:8/4، والذي في أحمد عن سلمة بن صخر الزرقي قال: تظاهرت من امرأتي  ثم وقعت بها قبل أن أكفر  فسألت النبي  r   فأفتاني بالكفارة، أحمد:4/37.

([74])   لمالك في المسألة ثلاثة أقوال قال الشيخ أبو القاسم: إحدى الروايتين العزم على إمساكها , والثاني العزم على وطئها، قال الباجي:» وهما عندي راجعان إلى معنى الإمساك ; لأن من عزم على الوطء فقد عزم على إمساكها إلى أن يطأ , وليس من شرط العزم على الإمساك أن ينوي إمساكها أبدا بل لو عزم على إمساكها سنة لكان عازما على الإمساك « والرواية الثالثة هي أن العزم هو نفس الوطء، انظر: المنتقى:4/50..

([75])   وقد اختلفوا في وجوب الكفارة على العازم على الوطء , إذا مات أحدهما أو طلق قبل الوطء ،فقال بعدم وجوبها القاضي وأصحابه، وقال بوجوبها مالك , وأبو عبيد، وقول مالك بهذا يقربه من قول من يرى بأن الظهار نفسه موجب للكفارة كما سبق ذكره، وقد قال أحمد: وقال مالك: إذا أجمع، لزمته الكفارة، فكيف يكون هذا لو طلقها بعد ما يُجمع، أكان عليه كفارة إلا أن يكون يذهبُ إلى قول طاوس إذا تكلم بالظهارِ، لزمه مثلُ الطلاق؟ انظر: زاد المعاد:5/335.

([76])   زاد المعاد:5/329، المنتقى :4/50.

([77])   انظر: المحلى:9/192، زاد المعاد:5/330.

([78])   زاد المعاد:5/330.

([79])   وقد رد ابن القيم على هذا الاستدلال بقوله:» وهذا ليس بلازم، فإنه يقال: أعاد مقالته، وعاد لِمقالته، وفي الحديث: «فعاد لمقالته»، بمعنى أعادها سواء، وأفسدُ مِن هذا ردُّ مَن رَد عليهم بأن إعادةَ القول محال، كإعادة أمس. قال: لأنه لا يتهيأ اجتماعُ زمانين، وهذا في غاية الفساد، وأفسدُ مِن هذا ردُّ مَن رَد عليهم بأن إعادةَ القول محال، كإعادة أمس. قال: لأنه لا يتهيأ اجتماعُ زمانين، وهذا في غاية الفساد، فإن إعادةَ القولِ مِن جنس إعادة الفعل، وهي الإتيان بمثل الأول لا بعينه«، زاد المعاد:5/331..

([80])   زاد المعاد:5/331.

([81])   سبق تخريجه.

([82])   واختلفوا فيما لو وجد ثمنها , وهو محتاج إليه , فلا يلزمه شراؤها عند  أبي حنيفة، وقال مالك: يلزمه ; لأن وجدان ثمنها كوجدانها.

([83])   قال النووي :« هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيها مذهبان: أحدهما الإيمان به من غير خوض في معناه مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء وتنزيهه عن سمات المخلوقات. والثاني: تأويله بما يليق به، فمن قال بهذا قال: كان المراد امتحانها هل هي موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة وليس ذلك لأنه منحصر في السماء كما أنه ليس منحصراً في جهة الكعبة، بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين، كما أن الكعبة قبلة المصلين، أو هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان التي بين أيديهم فلما قالت في السماء علم أنها موحدة وليست عابدة للأوثان »

وقال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم، فمن قال بإثبات جهة فوق من غير تحديد ولا تكييف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين تأول في السماء أي على السماء، ومن قال من دهماء النظار والمتكلمين وأصحاب التنزيه بنفي الحد واستحالة الجهة في حقه سبحانه وتعالى تأولوها تأويلات بحسب مقتضاها ».

([84])   مسلم: 1/381، ابن حبان: 1/383، البيهقي: 7/387، أبو داود: 1/244، النسائي: 4/110.

([85])   وقد ذكرالفقهاء فروعا أخرى من أنواع العيوب اختلفوا فيها، لا نطيل بذكرها، انظر: المغني:8/18.

([86])   واختلفوا في النفاس هل حكمه كالحيض , في أنه لا يقطع  التتابع أم لا على قولين:

القول الأول: أنه كالحيض لا يقطع بالتتابع، لأنه بمنزلته في أحكامه , ولأن الفطر لا يحصل فيهما بفعلهما , وإنما ذلك الزمان كزمان الليل في حقهما.

القول الثاني: أن النفاس يقطع التتابع ; لأنه فطر أمكن التحرز منه , لا يتكرر كل عام. فقطع التتابع , كالفطر لغير عذر ،ولا يصح قياسه على الحيض ; لأنه أندر منه , ويمكن التحرز عنه.

([87])   وقد اختلف القائلون بهذا فيما لو كان المرض غير مخوف , لكنه يبيح الفطر على قولين:

القول الأول :لا يقطع التتابع ; لأنه مرض أباح الفطر , أشبه المخوف.

القول الثاني: يقطع التتابع ; لأنه أفطر اختيارا , فانقطع التتابع , كما لو أفطر لغير عذر.

([88])   أجمع العلماء على أنه إن وطئها , أو وطئ  غيرها , في نهار الشهرين عامدا , أفطر , وانقطع التتابع.

([89])   سبق تخريجه.

([90])   سبق تخريجه.

([91])   مقدار الصاع بالمكاييل الحديثة يساوى 2.75 لترًا، والمد هو ربع هذا المقدار، والأرجح أنه لا خلاف في المكاييل المختلفة كما نص على ذلك كثير من الفقهاء القدامى.

([92])   ذكره في المغني: 8/25.

([93])   سبق تخريجه.

([94])   سبق تخريجه.

([95])   البخاري: 6/2620، مسلم: 2/723، البيهقي: 5/186، النسائي: 2/56، أحمد: 1/21.

([96])   سبق تخريجه.

([97])   سبق تخريجه.

([98])   ابن ماجة: 1/582.

([99])   مسلم: 2/861، ابن حبان: 9/297، البيهقي: 5/55، الدارقطني: 2/299، أبو داود: 2/172، أحمد: 4/242.

([100])   فقد نصوا على أنه لو ظاهر من أربع بلفظ واحد , كان عليه عن كل واحدة كفارة. ولو ظاهر من واحدة مرارا , وجب عليه بكل مرة كفارة فرق الظهار أو تابعه، شرائع الإسلام:3/49..

([101])   لسان العرب: 14/40.

([102])   تحفة الفقهاء:2/203.

([103])   الروض المربع:3/190.

([104])   وقد روى عن ابن عباس t ما يؤيد هذا، فعن جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم قال: تزوجت فلقيت ابن عباس فقال: بلغني أن في حلقها شيئا قال: تالله لقد خرجت وما أكلمها قال: عليك بها قبل أن تمضي أربعة أشهر. فهذا يدل على موافقة قول  سعيد بن المسيب.

([105])   الزواجر:2/84.

([106])   ابن حبان: 10/200، الحاكم: 1/117، الترمذي:4/110، البيهقي: 10/29، أبو داود: 3/223.

([107])   القرطبي: 3/106، الطبري: 2/419.

([108])   البخاري: 3/1140، مسلم: 3/1270، الحاكم: 4/334، البيهقي: 10/31، أبو داود: 3/229، النسائي: 3/126، ابن ماجة: 1/681.

([109])   القرطبي: 3/106.

([110])   في ظلال القرآن:1/244.

([111])   في ظلال القرآن:1/244.

([112])   روضة المحبين :210.

([113])   في ظلال القرآن:1/245.

([114])   انظر التفاصيل المذكورة في: بداية المبتدي: 78، الهداية: 2/6، البحر الرائق:4/65، المبسوط: 7/19، الدر المختار: 3/422، تحفة الفقهاء: 2/203، شرح فتح القدير:4/188.

([115])   تحفة الفقهاء:2/203.

([116])   كفاية الطالب: 2/131، التاج والإكليل: 4/105، مواهب الجليل: 4/105، حاشية العدوي:2/131.

([117])   المهذب:2/105، الإقناع للماوردي: 155، الوسيط: 6/3، حاشية البجيرمي: 4/46، خبايا الزوايا: 379، فتح الوهاب: 2/155، مغني المحتاج: 3/343، منهج الطلاب: 97، منهاج الطالبين: 111.

([118])   انظر: فتح الوهاب:2/155.

([119])   المبدع: 8/3، دليل الطالب: 267، منار السبيل:2/234، الروض المربع: 3/190، الكافي في فقه ابن حنبل: 3/238 زاد المستقنع: 195، المغني: 7/414.

([120])   المحلى:9/178.

([121])   التاج المذهب: 2/254.

([122])   شرائع الإسلام:3/62.

([123])   شرح النيل: 7/180.

([124])   انظر: الجصاص:1/488.

([125])   المدونة:2/247.

([126])   وقد اختلف في اعتبار صراحة بعض هذه الألفاظ فقصرها الشافعي في قول علىالوطء والجماع، وقال في: باضعتك: ليس بصريح ; لأنه يحتمل أن يكون من التقاء البضعتين , البضعة من البدن بالبضعة منه، كقوله r :« فاطمة بضعة مني »، وقد رد عليه بأن قوله: باضعتك مشتق من البضع , ولا يستعمل هذا اللفظ في غير الوطء , فهو أولى أن يكون صريحا من سائر الألفاظ..

([127])   مجموع الفتاوى:33/156.

([128])   المبدع: 8/10، كشاف القناع: 5/357، المغني: 7/416.

([129])   المغني: 7/419، المهذب: 2/108، حواشي الشرواني: 8/168، مغني المحتاج: 3/348.

([130])   القرطبي:3/107.

([131])   المبدع: 8/12، المغني: 7/418.

([132])   الفروع: 6/12، المغني: 7/340، حواشي الشرواني: 8/43، خبايا الزوايا: 154، روضة الطالبين: 8/69، مغني المحتاج: 3/293، البحر الرائق: 4/38، حاشية الدسوقي: 2/430مختصر اختلاف العلماء: 2/479.

([133])   المبدع: 8/12، المغني: 7/418.

([134])   المبدع: 8/15، الفروع: 5/366، كشاف القناع: 5/360، المغني: 7/422، روضة الطالبين: 12/163، التاج والإكليل: 4/120، الشرح الكبير: 2/444.

([135])   وقد اتفق قول هؤلاء فيما إذا طالبن كلهن بالفيئة , فإنه يوقف لهن كلهن , أما إن طالبن في أوقات مختلفة، فقد اختلفوا في ذلك على قولين:

القول الأول :يوقف للجميع وقت مطالبة أولاهن، وهو ظاهر كلام أحمد.

القول الثاني: يوقف لكل واحدة منهن عند مطالبتها، فإذا وقف للأولى , وطلقها ووقف للثانية , فإن طلقها , وقف للثالثة , فإن طلقها , وقف للرابعة. وكذلك من مات منهن , لم يمنع من وقفه للأخرى ; لأن يمينه لم تنحل , وإيلاؤه باق ; لعدم حنثه فيهن. وإن وطئ إحداهن حين وقف لها , أو قبله  انحلت يمينه , وسقط حكم الإيلاء في الباقيات , وهو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد..

([136])   المدونة: 2/316.

([137])   المبسوط: 7/33.

([138])   المبدع: 8/8، كشاف القناع: 5/356، المهذب: 2/105، روضة الطالبين: 8/245.

([139])   اتفق الفقهاء على أنه إن حلف شخص على ترك معاشرة زوجته عاما , ثم كفر عن يمينه , فإنه ينحل الإيلاء، لأنه لم يبق ممنوعا من الوطء بيمينه , فأشبه من حلف واستثنى، فإن كان تكفيره قبل مضي الأربعة الأشهر , انحل الإيلاء حين التكفير , وصار كالحالف على ترك الوطء أقل  من أربعة أشهر، وإن كفر بعد الأربعة وقبل الوقوف , صار كالحالف على أكثر منها , إذا مضت مدة يمينه قبل وقفه.

([140])   انظر: القرطبي: 3/108، كشاف القناع: 5/357، المبدع: 8/11، المغني: 7/414، إعانة الطالبين: 4/33، حاشية البجيرمي:  4/46، مغني المحتاج: 3/344، حاشية الدسوقي: 2/427، التاج والإكليل: 4/106، الشرح الكبير: 2/433بداية المجتهد: 2/76.

([141])   أما إن قال: والله لا وطئتك مدة، أو ليطولن تركي لجماعك، فإن ذلك يخضع لنيته في تقدير المدة، فإن نوى مدة تزيد على أكثر من أربعة أشهر , فهو إيلاء، وإن نوى مدة قصيرة , لم يكن إيلاء لذلك، وإن لم ينو شيئا , لم يكن إيلاء، لأن لفظه يقع على القليل والكثير , فلا يتعين للكثير.

([142])   ومثله ما لو قال: والله لا وطئتك سنة إلا يوما، لأن اليوم منكر , فلم يختص يوما دون يوم , ولذلك لو قال: صمت رمضان إلا يوما. لم يختص اليوم الآخر. ولو قال: لا أكلمك في السنة إلا يوما. لم يختص يوما منها، وخالف في ذلك زفر بقوله بأنه يصير موليا في الحال، لأن اليوم المستثنى يكون من آخر المدة , كالتأجيل ومدة الخيار , بخلاف قوله: لا وطئتك في السنة إلا مرة , فإن المرة لا تختص وقتا بعينه.

([143])   انظر: سنن سعيد بن منصور: 2/56.

([144])   بدائع الصنائع:3/161.

([145])   الطبري: 2/431.

([146])   المغني :7/435.

([147])   وأصل الفيء الرجوع , ولذلك يسمى الظل بعد الزوال فيئا ; لأنه رجع من المغرب إلى المشرق , فسمي الجماع من المولي فيئة ; لأنه رجع إلى فعل ما تركه.

([148])   المغني: 7/432، وانظر: الأم: 5/274، الطبري: 2/423، الجصاص: 2/45.

([149])   سبق تخريجه.

([150])   سبق تخريجه.