الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: الأساليب الشرعية لتربية الأولاد

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

من القرآن الكريم

من السنة المطهرة

المقدمة

أولا  ـ الموعظة

1 ـ ضوابط الموعظة المؤثرة

أولا: اعتماد الصدق

ثانيا ـ الإقناع

ثالثا ـ الابتعاد عن أسباب الملل

رابعا ـ الموازنة بين التبشير والإنذار

خامسا ـ البساطة

سادسا ـ انتهاز المواقف

سابعا ـ استخدام أسلوب التشويق

2 ـ مصارد الموعظة المؤثرة

أولا: القصة

ثانيا ـ المثال

ثالثا ـ المعلومة

البعد الإيماني:

البعد الروحي:

البعد الأخلاقي:

 

 

 من القرآن الكريم

قال تعالى:﴿  وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ (لقمان:13)

قال تعالى:﴿  يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ (لقمان:16)

قال تعالى:﴿  فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (لأعراف: من الآية176)

من السنة المطهرة

قال - صلى الله عليه وسلم -:( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر) (رواه أبو داود والحاكم)

 

 

المقدمة

هل البحث عن الأساليب الشرعية لتربية الأولاد من الفقه الإسلامي ؟

وهل توفير الأساليب الشرعية في التربية حق من حقوق الأولاد ؟

هذان السؤالان قد يكونان أول ما يطرحه من يطالع عنوان هذا الجزء، ولذلك كان لزاما علينا الإجابة عليه قبل الخوض فيما يحتاجه الموضوع من عناوين وفصول.

أما الإجابة على السؤال الأول، فقد ذكرنا في مواضع مختلفة من هذه السلسلة أن تصورنا للفقه ـ كما هو في أصل مصطلحه، وكما هو في واقع السلف الأول ـ لا يحد في إعطاء الحكم على المشكلات الحادثة، بل إنه في صميم هدفه وغايته يبحث عن المظان والبدائل العملية التي تحقق المقاصد الشرعية، فلا يكفي الفقيه ـ في أصل وظيفته ـ أن يحكم بأن تربية الأولاد التربية الصالحة واجبة، بل عليه أن يسعى ليبين كيفيتها المثلى، وأبعادها الرفيعة، لينتقل قوله من قوقعة الإجمال إلى فضاء التفصيل، ومن الغموض الذي قد يؤول التأويلات المختلفة إلى الضوابط التي تقي من كل التفسيرات، فلا تنحرف بها التحريفات، ولا تتدخل فيها الأهواء.

أما الإجابة عن السؤال الثاني، وهي في صميم الموضوع، فهي أن التربية الشرعية لا تعنى بالهدف بقدر ما تعنى بالوسيلة، لأن الوسيلة الصالحة لا بد أن تحقق الهدف العالي، ولذلك كان من حق الولد أن يربى بالطرق الشرعية الصحيحة التي تحفظ عليه شخصيته السوية، فلا تحرفها لأي غرض.

فمن انتهج في تربية أولاده أو تلاميذه ـ مثلا ـ أسلوب العنف والشدة، فإنه، وإن كان هدفه نبيلا إلا أن خطأ الوسيلة، وعدم تقيدها بالضوابط الشرعية قد يجعل من عمله عبثا، بل قد يحول من يحاول تربيتهم إلى مجموعة متمردين، لا على شخصه فحسب، بل على ما يمثله من أهداف سامية رفيعة.

ونحن لا نزعم هنا أننا قد استوفينا كل أساليب التربية، فذلك هدف بعيد، قد لا يكفي فيه هذا الجزء أو غيره، ولكنا مع ذلك حاولنا انطلاقا من القرآن الكريم أن نذكر الأركان الكبرى لتلك الأساليب مع تقييدها بضوابطها الشرعية خشية خروجها عما أريد منها.

وقد رأينا أن هذه الأساليب لا تعدو الأساليب الأربعة التالية:

الموعظة: وهي تمثل كل أساليب التأثير النفسي والعاطفي التي يستعملها المربي مع من يقوم بتربيته.

القدوة: وهي تمثل ناحية مهمة في التربية، لأن المتلقي لا يكتفي بالسماع، بل يقارن ما يسمعه بما يراه، فلذلك يكون تقليده الأعمال والسلوكات في أكثر الأحيان أكثر من استماعه للمؤثرات.

الحوار: وهو يمثل كل أساليب الخطاب العقلي الذي لا يقتصر فيه المربي على الإلقاء والتوجيه، بل يستمع للطرف الآخر، ليتعرف من خلال حديثه عن الطريقة التي يعالجه بها ويوجهه.

الجزاء: وهو يمثل كل الأساليب التي تخاطب ما في النفس من رغبة ورهبة وغيرها مما قد يؤثر في سلوكها بعد ذلك.

ونرى أن ما قد يتصور من أساليب بعد هذا لا يعدو هذه الأساليب الأربعة، فالقسمة العقلية تكاد تحصر الأساليب في هذه الأربعة.

وقد خصصنا كل أسلوب من هذه الأساليب بفصل من الفصول.

وقد حاولنا في هذا الجزء أن يقتصر رجوعنا إلى ما في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وفهوم السلف الصالح - رضي الله عنهم -  باعتبارها الأصول التي يبنى عليها هذا الباب.

ونحب أن ننبه هنا إلى أن المتلقي ـ كما نتصوره في هذا الجزء، وفي الجزء الذي يليه ـ ليس الولد الصغير الذي لا يزال في طور اللهو واللعب، وإنما نريد به عموما كل من له قدرة على التمييز، بحيث تصلح معه هذه الأساليب.

وننبه كذلك إلى أنا لا نقصد بالمربي هنا الوالدان فقط، وإنما نريد به كل من له مسؤولية على تربية الولد، سواء كان مؤسسة تعليمية، أو وسيلة إعلام، أو محيط، أو غير ذلك مما يتلقى الولد منه توجيهه وتربيته وسلوكه.

أولا  ـ الموعظة

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الأسلوب في قوله تعالى:﴿  وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ((لقمان:13)

وهو دليل على أن من حقوق الأولاد على آبائهم أن يجلسوا معهم للوعظ، كهذا المجلس الذي جلسه لقمان u، لأن الله تعالى ما ذكر قصته للتسلية، ولا لمجرد بيان القضايا التي ذكرها فقط، وإنما من باب البيان لما يجب على الآباء نحو أبنائهم.

 وهذا الأسلوب الذي أمر الوالدان باستخدامه مع أولادهم أسلوب قرآني لا غنى عن استخدامه لكل داعية إلى الله سواء كان المدعو ولده أو أي أحد من الناس، قال تعالى:﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ(النحل: من الآية125)

وهو الأسلوب الذي مارسه الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ مع أقوامهم، قال تعالى آمرا رسوله - صلى الله عليه وسلم -:﴿ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾ (النساء: من الآية63)، وقال تعالى آمرا موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ:﴿ فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (طـه:44)

بل إن الله تعالى أخبر أن من خصائص رسالاته إلى عباده أنها مواعظ تهدي إلى الحق، قال تعالى مخبرا عن محتويات التوراة:﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ (لأعراف:145)

وقال تعالى في وصف الإنجيل:﴿ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة:46)

وقال عن القرآن الكريم:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:57)، وقال تعالى:﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾(النور:34)، وقال تعالى:﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران:138)

وسر ذلك أن النفس البشرية في الأعم الأغلب نفس مستعدة لتقبل المواعظ والتأثر بها، فلذلك تقنع بكل ما يؤثر فيها من غير جدل ولا عنت.

 يقول الرازي عن النفوس المستعدة لتقبل المواعظ:(وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالموعظة الحسنة)[1]

والولد في العادة يكون صاحب هذا النوع من النفوس، فلذلك تؤثر فيه المواعظ تأثيرا كبيرا خاصة إن صاحها القدوة الحسنة والأدب الرفيع، وتقيدت بما سنذكره من الضوابط.

وانطلاقا من هذا، سنبحث في هذا الفصل عن ركنين مهمين تتحقق بهما الموعظة في أعلى درجاتها:

·      ضوابط الموعظة المؤثرة.

·      مصادر الموعظة المؤثرة.

1 ـ ضوابط الموعظة المؤثرة

لا تؤتي الموعظة المؤثرة ـ المقيدة بالقيود الشرعية ـ ثمارها إلا إذا تقيدت بالقيود التالية:

أولا: اعتماد الصدق

أول شرط من شروط الموعظة الحسنة المؤثرة أن تكون صادقة، لأن الكذب لا يمكن أن يؤسس فردا صالحا مؤدبا، والغاية لا تبرر الوسيلة، فلذلك من الأخطاء التي قد يقع فيها بعض الآباء أن يمارسوا الكذب في سبيل تربية أولادهم أو إصلاحهم، وهو أسلوب خاطئ، لأن في الصدق ما يغني عن الكذب.

زيادة على أن الولد إن اكتشف خطأ المعلومات التي يوردها والده قد ترتفع ثقته عنه، وبالتالي ارتفاع تأثيره فيه، لأنه بقدر الثقة في الواعظ يكون تأثير الموعظة.

ومن أمثلة ذلك اعتماد الأحاديث الضعيفة[2] أو الموضوعة، والتي امتلأت بها كتب التفسير والحديث، والتي تشوه القرآن الكريم والسنة المظهرة.

ولهذا، فإن الواعظ الصادق لا يلقي بكل ما يقرؤه من غير تمحيص أو تدقيق أو توثيق، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)[3]

وقد نبه ابن مسعود - رضي الله عنه -  إلى خطورة غلبة حب التأثير بعيدا عن التمحيص والعلم، فقال:(إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وإن بعدكم زماناً كثير خطباؤه، والعلماء فيه قليل)

وللأسف فقد طفحت كتب المواعظ بالقصص المنكرة، والعجائب المختلقة، ولهذا حذر كثير من العلماء من أخبار القصاص ورواياتهم، فألف ابن تيمية كتاباً سماه:(أحاديث القصاص)، وألف السيوطي كتاباً سماه:(تحذير الخواص من أكاذيب القصاص)، ولابن الجوزي:(القصاص والمذكرين)

ومن كتب الوعظ التي تمتلئ بالضعيف والموضوع، والتي يقبلها العامة من غير تمحيص ولا بحث:( الروض الفائق في المواعظ والرقائق)لأبي مدين الحريفيش، و(روض الرياحين في حكايات الصالحين)لأبي السعادات اليافعي، و(قرة العيون ومفرح القلب المحزون)، و(بستان العارفين)،  و(تنبيه الغافلين)لأبي الليث السمرقندي، وغيرها من كتب المواعظ التي يختلط فيها الغث بالسمين والحقيقة بالباطل، والتي لا يصح أن يستفيد منها غير المسلح بسلاح العلم.

ولا بأس أن نذكر هنا مثالا عن اعتماد الضعيف من الروايات ودوره التربوي الخطير، وهو عن يوسف u والذي هو ـ كما في القرآن الكريم ـ رمز الصديقية والطهر والعفاف في أرفع درجاته، والذي قد يستغله المربي في بث هذه القيم الرفيعة في نفوس الأولاد إن اعتمد الحقيقة القرآنية وما يؤكدها من الأدلة.

ولكنه إن اعتمد الروايات الإسرائيلية التي تمتلئ بها كتب التفسير يصبح هذا المثال الطاهر شابا تخترقه الشهوات، ولا ينجو منها بما جبل عليه من طهارة وعفاف بل بالخوارق التي تجتمع لجذبه عنها.

وكل ذلك من أجل نص لا يدل على شيء مما ذكروه، وهو قوله تعالى:﴿ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ ((يوسف: من الآية24)

فالنص يدل بمعناه الظاهر على أنه لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، ولكن لما رأى البرهان ما هم؛ ففي الكلام تقديم وتأخير كعادة العرب، وكما هو الشأن في كثير من تعابير القرآن الكريم[4].

وقد اختار القول بهذا النحاة العالمون بأسرار التعابير القرآنية، قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله:﴿ وَهَمَّ بِهَا الآية، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير؛ كأنه أراد: ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها.

أو أن يفسر على الهم الذي هو حديث النفس الذي لا يؤاخذ عليه، بل هو دال على الطبيعة البشرية، كما قال أحمد بن يحيى: أي همت زليخاء بالمعصية وكانت مصرة، وهم يوسف ولم يواقع ما هم به؛ فبين الهمتين فرق، كما قال الشاعر:

هممت ولم أفعل وكدت وليتني      تركت على عثمان تبكي حلائله

فهذا كله حديث نفس من غير عزم.

وإلى هذا ذهب سيد قطب، فقد قال بعد إيراده أقوال المفسرين في معنى الهم:(أما الذي خطر لي ـ وأنا أراجع النصوص هنا، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف، في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعدما أوتيهما ـ.. هو نهاية موقف طويل من الإغراء، بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم.. وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ؛ ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة)[5] 

ثم يقول معقبا بعلة القول بهذا وتناسبه مع عصمة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ:(هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص، ونتصور الظروف. وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية. وما كان يوسف سوى بشر. نعم إنه بشر مختار. ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات، فلما أن رأى ربه الذي نبض في ضميره وقلبه، بعد لحظة الضعف الطارئة عاد إلى الاعتصام والتأبي)[6] 

هذا ما يمكن أن يدل عليه النص مع التسليم التام لله تعالى في حقيقة معناه وعزل العقل والأساطير عن الكلام في كلام الله بغير علم.

ولكن كتب التفسير والتاريخ وقص الأنبياء لا يرضيها هذا الإيجاز مع ما يحمله من المعاني السامية، بل ترى الأساطير هي السبيل الوحيد لتفسير النص القرآني أو بالأحرى تحريفه.

وسنورد هنا بعض ما ذكره المفسرون[7]، أو يكادون يجمعون عليه، للدلالة على خطورة هذه الروايات على المعاني القرآنية:

فمما ورد من ذلك أن همه كان معصية، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته، قال القرطبي:(وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم، فيما ذكر القشيري أبو نصر، وابن الأنباري والنحاس والماوردي وغيرهم)

ويروون لتأييد ذلك الروايات الكثيرة عن السلف الصالح - رضي الله عنهم - ، فيروون عن ابن عباس - رضي الله عنه -  قوله:(حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن)، وعنه:(استلقت، على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه)، وعن سعيد بن جبير:(أطلق تكة سراويله)، وعن مجاهد:(حل السراويل حتى بلغ الأليتين، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته)

وتصور هؤلاء أن الحكمة في ذكر ذلك في القرآن الكريم أن يكون مثلا للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع إلى عفو الله تعالى كما رجعت ممن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب، ويروون عن الحسن قوله:(إن الله تعالى لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها؛ ولكنه ذكرها لكيلا تيأسوا من التوبة)، وعن الغزنوي:(مع أن زلة الأنبياء حكما: زيادة الوجل، وشدة الحياء بالخجل، والتخلي عن عجب، العمل، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل)

ولكن هذه الحكمة ليست بشيء أمام المخاطر المنجرة عن رمي الأنبياء ـ عليهم السلام ـ بمثل هذا، وأقلها سقوط منزلة الأنبياء من عيون الناس، وهو ما يمهد للتفلت من أحكام الشريعة بحجة أن الأنبياء وقعوا في مخالفتها.

ومن هذا الباب المحذور ما يروي مصعب بن عثمان قال: إن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجها، فاشتاقته امرأة فسامته نفسها فامتنع عليها وذكرها، فقالت: إن لم تفعل لأشهرنك؛ فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف الصديق u جالسا فقال: أنت يوسف؟ فقال: أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم؟!

فهذه الحكاية التي يتداولها الوعاظ تنزل بمنزلة الأنبياء في عيون الناس، وتمهد بذلك لكل الاحتمالات.

أما السبب الذي حفظ به يوسف u من مواقعة المعصية، فيصوره هؤلاء تصويرا غريبا يجعل من مشهد العفاف الذي ذكره القرآن الكريم مشهدا للفجور الذي لا يردعه شيء.

ويستغل لذلك نص قرآني هو في منتهى الجمال والرقة والدقة، وهو قوله تعالى:﴿  لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّه((يوسف: من الآية24)

فالبرهان هنا هو المعارف الإيمانية التي رآها بعين اليقين، فهي التي كانت عاصمة له من الوقوع في كل انحراف، وهي الذي أشار إليها قوله تعالى:﴿  وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ((يوسف:22)

وأكبر دليل على ذلك هو أن هذه الآية الكريمة سبقت مباشرة ذكر الفتنة التي تعرض لها، وهي تعني أن يوسف u لم يتعرض للبلاء إلا وهو يحمل جميع أسلحة الإيمان.

ولكن الذين يأبون أن يأخذوا بهذا الظاهر القرآني، أو المغرمين بأساطير الأولين، يأبون إلا أن يلبسوا هذا البرهان ثوب الغيبية وخرقة الأسطورة.

ولنتأمل هذا المشهد الذي يحكيه كثير من المفسرين، ولنقارنه بالمشهد القرآني:

قال السدي وهو يقص علينا هذا المشهد: قالت له: يا يوسف ما أحسن شعرك قال: هو أول ما ينتثر من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن وجهك قال: هو للتراب يأكله.. فلم تزل حتى أطمعته، فهمت به وهم بها فدخلا البيت وغلقت الأبواب وذهب ليحل سراويله، فإذا هو بصورة يعقوب قائما في البيت قد عض على أصبعه يقول:(يا يوسف تواقعها، فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق، ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات ووقع إلى الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه)، فربط سراويله وذهب ليخرج يشتد، فأدركته فأخذت بمؤخر قميصه من خلفه، فخرقته حتى أخرجته منه وسقط وطرحه يوسف واشتد نحو الباب)[8]

ويروي غيره أنه رأى مكتوبا في سقف البيت:﴿ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً((الاسراء:32)، ويروون عن ابن عباس:(بدت كف مكتوب عليها:﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ((الانفطار:10)، وقيل: نودي يا يوسف! أنت مكتوب في ديوان الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟! وقيل: رأى صورة يعقوب على الجدران عاضا على أنملته يتوعده فسكن، وخرجت شهوته من أنامله؛ وقيل: حل سراويله فتمثل له يعقوب، وقال له: يا يوسف! فولى هاربا، وقيل: مثل له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله.

ثانيا ـ الإقناع

ونريد به أن يحاول الواعظ ـ سواء كان والدا أو غيره ـ أن يقنع الولد بالقضية التي يطرحها بحيث يتقبلها عن رضى وقناعة لا عن حياء وتقليد.

وهذا أسلوب قرآني في عرض جميع القضايا سواء كانت من باب العقائد أو السلوك، ولذلك فإن مجرد الرجوع إلى القرآن الكريم كاف في استنباط الكثير من أساليب الإقناع الذي يخاطب العقل مباشرة دون تكلف أو عناء.

ففي العقائد مثلا يكتفي القرآن الكريم بتوجيه النظر إلى خلق الله للتعرف من خلاله على الله وعلى مراده من خلقه وعلى المصير الذي ينتظر خلقه، وسنرى بعض الأمثلة على ذلك في محلها من الجزء التالي.

وفي السلوك يبين الله تعالى علل الأحكام وأسبابها ومنافعها ومضارها، ليقبل عليها الفاعل عن بينة وقناعة، فالله تعالى مثلا يقول في تقرير حرمة الخمر والميسر والأنصاب والأزلام:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ((المائدة:90)، فبدأ الحكم الشرعي لهذه النكرات، مع تنفير النفس منها باعتبارها رجسا.

ولم يكتف بذلك، بل أضاف إلى هذا الحكم ما يقنع العقل بمخاطره، لتنفر النفس من هذه الأمور شرعا وعقلا، قال تعالى:﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ((المائدة:91)

وهكذا يمكن للمربي لتنفير الأولاد من الدخان ـ مثلا ـ باعتباره من الظواهر الشائعة ـ أن يذكر الحكم الشرعي ـ الذي تدعمه التربية الإيمانية، والذي يشكل وحده القناعة الكافية للمؤمن ـ ويضيف إليه بيان المخاطر الصحية له.

وهكذا في كل المحرمات، وهذا الأسلوب هو الذي استخدمه لقمان u في موعظته لابنه، فقد شبه له رفع الصوت في غير محله بصوت الحمير، قال تعالى:﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ((لقمان: من الآية19)؛ أي لا تتكلف رفع الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه؛ فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي، وهو يشبه في ذلك صوت الحمير[9].

وهذا الأسلوب هو الذي استخدمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ذلك الشاب الذي جاء يستأذنه في الزنا بكل جرأة وصراحة، فهمَّ الصحابة - رضي الله عنهم -  أن يوقعوا به ؛ فنهاهم وأدناه وقال له:(أترضاه لأمك ؟!)، قال: لا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(فإن الناس لا يرضونه لأمهاتهم)، قال:(أترضاه لأختك ؟!)، قال: لا، قال:(فإن الناس لا يرضونه لأخواتهم)[10]، وهكذا صار الزنى أبغض شيء إلى ذلك الشاب   فيما بعد، بسبب هذا الإقناع العقلي.

ومثل ذلك ما ورد في قصة معاوية بن الحكم حيث قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم فقلت:(يرحمك الله)، فرماني القوم بأبصارهم فقلت:(ما شأنكم تنظرون إلي)، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال:(إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)[11].

ولا يكتفي المربي بهذا، بل يحاول أن يجد البدائل التي تتناسب مع حاجة من يربيه، ليكون له في الحلال ما يغنيه عن الحرام.

وقد ذكر الشيخ القرضاوي بعض الأمثلة على هذه البدائل، فقال:(من سأل عن الاستخارة بفتح الكتاب، أو الخط على الرمل، أو نحو ذلك، بينا له حرمته، ودللناه على الاستخارة الشرعية، وهي صلاة ركعتين، يعقبها بالدعاء المأثور المعروف، ومن سأل عن صيام يوم الجمعة بينا له كراهة إفراده، ودللناه على استحباب صوم يومي الاثنين والخميس، أو الثلاثة أيام البيض من كل شهر، ومن سأل عن صرف الزكاة في بناء مسجد في بلاد عامرة بالمساجد، بينا له الحكم ودللناه على مصارف أهم منه للأمة مثل: نشر الدعوة الإسلامية، والوعي الإسلامي ومقاومة المخططات الصليبية واليهودية والشيوعية لطرد الإسلام من الحياة، فهذا هو مصرف (في سبيل الله)في عصرنا)

ثم بين قاعدة ذلك، فقال:(وهكذا حين نحرم شيئا أو نمنع من شيء، ندل على بديل مثله أو خير منه، وما حرم الله شيئا يضطر الناس إليه، أو يحتاجون إليه حاجة حقيقية، بل لو اضطروا إلى الحرام لعاد حلالا، فإنما أحل الله الطيبات وحرم الخبائث، ولهذا لا يوجد حرام ممنوع، إلا وله في الواقع بديل مباح بيقين)

وهذا هو أسلوب العلماء المحققين، قال ابن القيم:(وهذا لا يأتي إلا من عالم ناصح مشفق، قد تاجر مع الله، وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء، يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان)

بل هذ هو أسلوب الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ في تربيتهم الخلق، قال - صلى الله عليه وسلم -:(ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم)

وقد ورد في السنة الكثير مما يدعم هذا، ومنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع بلالا أن يشتري صاعا من التمر الجيد بصاعين من الردئ سدا للذريعة إلى الربا في أي صورة من صوره، ثم أمره أن يبيع الرديء الذي عنده بالدراهم، ثم يشتري بالدراهم الجيد الذي يريده، فمنعه من المحظور، وأرشده إلى المباح.

وهذا يتطلب من المربي البحث الدائم عن كل ما ينشر القناعة في نفس المتلقين عنه، وهو ما يجعله باحثا في كل العلوم لا يكل ولا يمل، يقول الشيخ القرضاوي عن نفسه:(والحق أني أعتبر نفسي عند إجابة السائلين مفتيا، ومعلما، ومصلحا، وطبيبا، ومرشدا، وهذا يقتضي أن أبسط بعض الإجابات وأوسعها شرحا وتحليلا، حتى يتعلم الجاهل، ويتنبه الغافل، ويقتنع المتشكك، ويثبت المتردد، وينهزم المكابر، ويزداد العالم علما، والمؤمن إيمانا)

ونحن لا نطلب هنا بأن يكون كل المربين بهذه الموسوعية، ولكن يكفي أن يلجأ المربي للعلماء المحققين ليجد ضالته جاهزة دون عنت أو عناء.

ثالثا ـ الابتعاد عن أسباب الملل

كطول الموعظة، أو تكررها، أو إلقائها بأسوب جاف، أو في غير محلها، لأن كل ذلك يصيب المستمع بالملل والسآمة، وهو ما يجعل أثر الموعظة ضعيفا، بل قد ينعكس أثرها إلى عكس ما أراده الواعظ.

ولهذا كان من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخبرته بالنفوس يتعهد أصحابه بالنصح والتذكير، أياماً وأياماً، ولا يُكثِر عليهم ؛ لئلاّ يملوا، وكذا كان صحابته الذين تربوا على يديه يمتثلون ذلك، بل ويوصون به: فعن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه -  قال:(حدّث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أبيت فثلاث مرات، ولا تُملّ الناس هذا القرآن، ولا ألْفينّك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم، ولكن أنصت،   فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه) الحديث.

وعن أبي وائل، قال: كان عبد الله يعني ابن مسعود يذكرّ الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن: لوددت أنك ذكّرتنا كل يوم، قال:(أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بها ؛ مخافة السآمة علينا)

أما طول الموعظة، فقد كان من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قصر الموعظة، فعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هن كلمات يسيرات، وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ:(إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحدث حديثاً لو عدّه العادّ لأحصاه)[12]

رابعا ـ الموازنة بين التبشير والإنذار

ونريد بهذا أن لا يغلب الواعظ أحد الأسلوبين على الآخر، بل يمزج بينهما، كما قال تعالى:﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ((الحجر:49 ـ 50)، وقال تعالى:﴿ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ((لأعراف: من الآية156)، وقال تعالى:﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ((ابراهيم:7)

وهو منهج القرآن الكريم في الجمع بين ذكر الجنة والنار، والمؤمنين والكافرين، والمتقين والعصاة، وهكذا.

بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو المربي الأكبر وصف بأنه بشير ونذير، قال تعالى:﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ((البقرة:119)، وقال تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ((سـبأ:28)، وقال تعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -:﴿ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ((لأعراف: من الآية188)، وقال تعالى:﴿  أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ((هود:2)

فلذلك كان من التزام المربي بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التربية المزج بين هاتين الناحيتين، لأن كلاهما يخاطب النفس البشرية من زاوية من زواياها، وقد كان بعض السلف - رضي الله عنهم -  يقول:(من عبدالله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبدالله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد مؤمن)

ولهذا، فإن التقصير في إحداهما يؤدي إلى التأثير في زاوية من زوايا النفس:

فالمبالغة في التبشير قد تؤدي إلى الاستهانة بحدود الله، وإطفاء جذوة الخوف والخشية من الله، والتي اتفق المربون على اعتبارها الدواء القاتل لكل الجراثيم المسببة للذات الآثمة، وأنها الحرز الذي يحتمي به المؤمن من كل مكايد الشيطان وأهواء النفس، قال أبو حفص t:(الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه)، وقال:(الخوف سراج في القلب، به يبصر ما فيه من الخير والشر، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله تعالى فإنك إذ خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه)

وذكر إبراهيم بن سفيان تأثر الخوف بقوله:(إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها)

ونظر أبو سليمان t إلى آثار زوال الخوف فقال:(ما فارق الخوف قلبا إلا خرب)

ومثله قال ذو النون t:(الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق)

ولهذا وصف الحسن البصري t المؤمنين بقوله:(إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الاسماع والأبصار والأبدان حتى حسبهم الجاهل مرضى، وهم والله أصحاب القلوب، ألا تراه يقول:)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ((فاطر: من الآية34)، والله لقد كابدوا في الدنيا حزنا شديدا، وجرى عليهم ما جرى على ما جرى على من كان قبلهم، والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولكن أبكاهم وأحزنهم الخوف من النار)

ولذلك تكثر أوصاف العذاب في القرآن الكريم، والمنبئة عن خطورته مقارنة بما نراه من عذاب، لتحول شهوات النفس العابثة أخلاقا كريمة وصفات فاضلة، فلا يردع اللذة مثل الألم، ولا يقمع الشهوة العابثة مثل سياط الخوف.

ولهذا أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:(ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين)[13]

فالخوف الذي ربي عليه هذا الذي تعرض لهذا الموقف هو الذي حماه من إغرائه، ولهذا قال لقمان u لابنه وهو يعظه:﴿ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ((لقمان:18)

فجعل الدليل على تحريم الخيلاء والافتخار عدم محبة الله لذلك، وهي منشأ بعد العبد عن الله، وهي بالتالي سبب عذابه.

ومثل الآثار السيئة التي تنشئها المبالغة في التبشير الآثار السيئة التي تنشئها المبالغة في الإنذار، لأنه قد يؤدي إلى القنوط من رحمة الله، وهو بذلك يعرف الله تعريفا خاطئا، ينفي عنه صفات الود والرحمة واللطف بعبادة، وذلك خلاف هدي القرآن الكريم في مخاطبة المذنبين، بل المسرفين على أنفسهم بألوان الذنوب، قال تعالى:﴿  قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ((الزمر:53)، فالله تعالى عرف نفسه لهؤلاء المسرفين بكونه غفورا رحيما، ومن الخطأ أن نعرفهم لهم بغير ما عرفهم به.

بل إن هذا التعريف هو الذي يحرك القلوب للسير نحو الله، ويكبح الغرائز عن معارضة الرحيم الودود، وقد روي أن علياً الأسدي حارب، وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة فامتنع، ولم يقدروا عليه حتى جاء تائباً، وسبب توبته أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية::﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ((الزمر:53)، فوقف عليه، فقال:(يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائباً.

وكان من صدق توبته أن خرج مجاهداً في سبيل اللّه في البحر، فلقوا الروم، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم، فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقها الآخر، فمالت به وبهم، فغرقوا جميعاً.

ويروى من هذا أن مجوسياً استضاف إبراهيم الخليل u، فقال: إن أسلمت أضفتك؛ فمرّ المجوسي، فأوحى الله تعالى إليه: يا إبراهيم لم تطعمه إلا بتغيـير دينه ونحن من سبعين سنة نطعمه على كفره، فلو أضفته ليلة ماذا كان عليك؛ فمر إبراهيم يسعى خلف المجوسي فرده وأضافه؛ فقال له المجوسي: ما السبب فيما بدا لك؟ فذكر له؛ فقال له المجوسي: أهكذا يعاملني ثم قال: اعرض علي الإسلام فأسلم.

ويروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام؛ فقيل له: تتابع في هذا الشراب؛ فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان، سلام عليك، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو: ﴿ بسم الله الرحمن. حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ((غافر:1 ـ 3)، ثم ختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته. فلما بلغ عمر - رضي الله عنه -  أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه.

ولما يتضمنه القنوط من رحمة الله من مساوئ في الاعتقاد أو السلوك وردت النصوص بتحريمه، كما قال تعالى في الآية السابقة:﴿ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ فحرم أصل اليأس.

بل اعتبر اليأس من روح الله من صفات الكافرين، كما قال تعالى:﴿ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ((يوسف: من الآية87)

خامسا ـ البساطة

ونعني بها عدم التكلف في الموعظة سواء في طريقة إلقائها أو أسلوبها أو المحل الذي تلقى فيه.

فالرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلا يلقي موعظة بليغة على ابن عباس - رضي الله عنه -  وهو رديفه، ، قال ابن عباس - رضي الله عنه -  كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فقَالَ:(يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعَنْ باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)[14]، فلم يحتج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلقي هذه الموعظة لوضع الزرابي والجلوس على المنبر وحضور الجم الغفير، بل وجهها وهو راكب في طريقه بكل تلقائية وبساطة، فكان له كل ذلك التأثير[15].

أما أسلوب الموعظة، فيحبذ أن يكون بسيطا متناسبا مع من تتوجه إليه الموعظة، وقد كانت مواعظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بليغة غير متكلفة، فقد جاء في حديث العرباض - رضي الله عنه - :(وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب..)[16]

وليس المراد بكونها بليغة ما يتصوره البعض من كثرة محسناتها البديعية وسجعها وغريب ألفاظها، وإنما المراد منها قدرتها على التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحها وأحلاها للأسماع، وأوقعها في القلوب.

أما التكلف الممقوت فقد ورد النهي عنه، فعن جابر - رضي الله عنه -  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(إن من أحبكم إليّ وأقربكم مجلساً مني يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليّ، وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون)[17]

ومما يدخل في التكلف ما ذكرناه سابقا من التقول بلا علم، فعن مسروق قال: دخلنا على عبد الله بن مسعود، قال: يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم ؛ فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -:﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ((صّ:86)

سادسا ـ انتهاز المواقف

ونعني به أن يستغل الواعظ ما يجري من أحداث ليلقي بموعظته، ليكون لها التأثير الناجح فيمن يعظه، فيستغل الدخول المدرسي مثلا ليوجهه لأهمية العلم، ويستغل ما يحدث في بلاد المسلمين من أحداث ليربطه بأمته، بل يشعل في قلبه الجذوة لخدمتها.

وقد كان هذا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواعظه، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقول لما دخلت العشر:(ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر )[18]

وقال يوم يوم النحر:(أي شهر هذا؟)، قلنا:(اللَّه ورسوله أعلم)، فسكت حتى ظن الصحابة - رضي الله عنهم -  أنه سيسميه بغير اسمه، قال:(أليس ذا الحجة؟)قالوا:(بلى)قال:(فأي بلد هذا ؟)قالوا:(اللَّه ورسوله أعلم)فسكت حتى ظن الصحابة - رضي الله عنهم -  أنه سيسميها بغير اسمها. قال:(أليس البلدة ؟)قالوا:(بلى)قال:(فأي يوم هذا ؟)قالوا:(اللَّه ورسوله أعلم)فسكت حتى ظن الصحابة - رضي الله عنهم -   أنه سيسميه بغير اسمه. فقال:(أليس يوم النحر؟)قالوا: بلى. قال:(فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه)[19]

ولما أُهديت له - صلى الله عليه وسلم - حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها، ويعجبون من لينها، فقال:(أتعجبون من لين هذه ؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين)[20]

وعندما مر - صلى الله عليه وسلم - بجدي أسك[21] أراد أن يذكرهم من خلاله بحقارة الدنيا، فعن جابر - رضي الله عنه -  أن رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مر بالسوق والناس كَنَفَتَيْهِ، فمر بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال:(أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ قال:(أتحبون أنه لكم؟) قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً أنه أَسَكّ فكيف وهو ميت! فقال:(فوالله للدنيا أهون على اللَّه من هذا عليكم)[22]

ويذكرهم - صلى الله عليه وسلم - برحمة الله حين يرى امرأة تبحث عن صبيّها في السبي، ثم تضمه وترضعه، فيقول - صلى الله عليه وسلم -:(أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ الله عز وجل أرحم بعباده من هذه بولدها)[23]

سابعا ـ استخدام أسلوب التشويق

لأن النفس الإنسانية تكره الرتابة وتنفر من المعلومة التي لا تسبقها المقدمات التي تهيئ لها الأرضية الصحيحة، ولهذا كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - التمهيد لتعليمه أو تربيته بما يشوق القلوب لسماعه، فهو أحياناً يطرح المسألة على أصحابه متسائلاً:(أتدرون ما الغيبة)[24]، (أتدرون من المفلس)[25]، (أتدرون ما أخبارها فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، أن تقول علي عمل كذا وكذا، في يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها)[26]، (أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس)[27]

وكان - صلى الله عليه وسلم - يلغز لهم أحيانا، كأن يقول (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنما مثلها مثل المسلم فأخبروني ما هي)[28]، فلا شك أن السؤال مدعاة للتفكير وتنميته، ومدعاة للاشتياق لمعرفة الجواب مما يجعله أكثر رسوخا في الذهن.    

وكان - صلى الله عليه وسلم - يظهر في كل المواقف ما يرتبط بها من عناصر التشويق، فلهذا (كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم)[29]، وقد يغير جلسته ـ إظهارا للاهتمام ـ كما في حديث أكبر الكبائر :(وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)[30]

وكان - صلى الله عليه وسلم - لهذا ينوع في الوسائل التعليمية، فكان يشير تارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -:(أنا وكافل اليتيم كهاتين وأشار بأصبعه السبابة والوسطى)[31]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:(الفتنة من هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان)[32]، وأشار بيده إلى المشرق.

وكان - صلى الله عليه وسلم - يضرب الأمثلة، أو يفترض القصة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:(مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا، فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً، وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً)[33]

وكما قال - صلى الله عليه وسلم -:(لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على دابته وقد أضلها في أرض فلاة وعليها طعامه وشرابه، فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فقام فإذا هي عند رأسه)[34]

وكان - صلى الله عليه وسلم - في سبيل توضيح المعلومة بتنويع طرق عرضها يستعمل الرسم للتوضيح فقد خط خطاً مستقيماً وإلى جانبه خطوط، وقال:(هذا الصراط وهذه السبل)، ورسم مربعاً وقال:(هذه الإنسان)      

بل كان يحكي أحيانا القصص الواقعية من الأمم السابقة، كما في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدعوا الله بصالح أعمالهم، وقصة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأمثالها كثير. 

وكان - صلى الله عليه وسلم - لتأكيد ما يحتاج للتأكيد، قد يضطر للحلف، وقد حلف - صلى الله عليه وسلم - على مسائل كثيرة تزيد على الثمانين، من صيغها:(والله لا يؤمن.. والذي نفسي بيده.. وأيم الله.. )وغيرها كثير.  

 

 

2 ـ مصارد الموعظة المؤثرة

إن تقيد الواعظ بما سبق ذكره من ضوابط الموعظة المؤثرة الناجحة يستدعي البحث عن مصارد الموعظة ليأخذ منها الواعظ ما ينسجم مع الضوابط التي ذكرناها والأهداف التي حددها.

وقد ذكرنا سابقا أن كثيرا من المصادر التي اختصت بالوعظ دخلها التحريف، فصار لا ينصح العامة بالإقبال عليها والاستفادة منها لما تنشئه من سوء فهم للدين.

وقد كان السلف الأولون من العلماء خصوا المواعظ والرقائق بتآليف خاصة كالإمام أحمد الذي ألف كتاباً في الزهد، ومثله ابن المبارك وهناد ابن السري وغيرهما، وخصص الإمام البخاري كتاباً في صحيحه أسماه (الرقاق)، ومثله الإمام مسلم الذي ضَمّن صحيحه كتاباً بعنوان (الزهد والرقائق)

وألف المتأخرون من العلماء في هذا كتابات فائقة الجودة كالغزالي والشيخ عبد القادر الجيلاني وابن الجوزي، وابن القيم، وابن رجب، وغيرهم كثير.

ولكن الأمر آل في العصور المتأخرة إلى وعاظ همهم جمع الغريب من القول بلا تمحيص ولا تحقيق ولا نظر إلى غاية القول وفائدته، وقد ذكر ابن الجوزي (أن الوعاظ كانوا في قديم الزمان علماء فقهاء... ثم خسّت هذه الصناعة، فتعرض لها الجهال، فبَعُد عن الحضور عندهم المميزون من الناس، وتعلق بهم العوام والنساء، فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا على القصص، وما يعجب الجهلة، وتنوعت البدع في هذا الفن)[35]

بل إن هذا حصل في العصور الأول، فتعرض له السلف بالنهي والإنكار، وسنعرض لذلك في محله من هذا المبحث.

انطلاقا من هذا، سنحاول ـ هنا ـ أن نذكر بعض مصادر الموعظة المؤثرة، والتي قد لا تحتاج إلى تكلف الرجوع إلى المصادر المختلفة في هذا الباب، بل يكفي فيها ما ورد في القرآن الكريم، وما صح من السنة المطهرة.

أولا: القصة

فالموعظة قد تكون قصة يحكيها الأب أو المربي، فيملأ المستمعين بمعناها، ويربيهم بأنواع العبر منها.

ولذلك شكلت القصص جزءا كبيرا من القرآن الكريم، باعتبارها محلا هاما للاعتبار والاتعاظ والاستفادة والتربية، ولهذا قال تعالى مخاطبا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:﴿  فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ((لأعراف: من الآية176)، وقال تعالى:﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ((يوسف:3)

وأخبر عن تأثير القصص في نفس المتلقي، فقال تعالى:﴿ وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ((هود: من الآية120)، ففي هذه الآية الكريمة إخبار عن نوع من أنواع تأثير القصص القرآني في النفس، وهو تثبيت المؤمن على دين الله، وأخذه بالعزيمة في ذلك، فكأن الله تعالى يقول للرسول - صلى الله عليه وسلم -:(كل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من الكتذيب والأذى، وكيف نصر اللّه حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين، مما يثبت به قلبك ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسوة)

وسر ذلك أن القاص ينشئ في نفس المستمع حب تقمص شخصية البطل، وهو ما يدعوه إلى التأسي به والاعتبار بمواقفه.

فمن يعجب مثلا بموقف إبراهيم u مع قومه، وعدم خوفه من أذاهم، وتعرضه للفتن بسبب ذلك، يمتلئ إعجابا وحبا لإبراهيم u، وهو ما يدعوه بتلقائية لأن يتقمص الأدوار التي أداها إبراهيم u تقمصا لروح القصة لا لحقيقتها.

فقصة إبراهيم u مع ابنه مثلا، وكيف هم بذبحه طاعة لله في ذلك ينشئ في نفس المؤمن الاستسلام المطلق لله بغض الظر عن أن يكون ذلك بنفس الطريقة التي حصل بها إسلام إبراهيم u.

ولذلك، فإن أولى المصادر التي تستقى منها القصص، بل قد نجد فيها الغنية هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

مع التنبيه إلى خطورة الرجوع إل الإسرائيليات التي امتلأت بها كتب التفسير، والتي لا دور لها في الحقيقة غير تشويه المعاني القرآنية التي تنطق بها ظواهر النصوص.

وكمثال على القصص النبوي وتأثيره نذكر قصة الغلام والراهب لنحاول من خلالها أن ندرس تأثيرها التربوي على نفس المتلقي، فعَنْ صهيب - رضي الله عنه -  أن رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر. فبعث إليه غلاما يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إِلَى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر. فبينما هو عَلَى ذلك إذ أتى عَلَى دابة عظيمة قد حبست الناس. فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرا فقال: اللَّهم إن كان أمر الراهب أحب إليك مِنْ أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس. فرماها فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي نبي أنت اليوم أفضل مِني قد بلغ مِنْ أمرك ما أرى! وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس مِنْ سائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنالك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي اللَّه تعالى فإن آمنت باللَّه دعوت اللَّه فشفاك. فآمن باللَّه فشفاه اللَّه تعالى. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك اللَّه. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل عَلَى الغلام.

فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ مِنْ سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل! فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي اللَّه تعالى. فأخذه فلم يعذبه حتى دل عَلَى الراهب. فجيء بالراهب فقيل له ارجع عَنْ دينك فأبى، فدعا بالمِنْشار فوضع المِنْشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عَنْ دينك فأبى فوضع المِنْشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عَنْ دينك فأبى، فدفعه إِلَى نفر مِنْ أصحابه فقال: اذهبوا به إِلَى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عَنْ دينه وإلا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللَّهم اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إِلَى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم اللَّه تعالى. فدفعه إِلَى نفر مِنْ أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر فإن رجع عَنْ دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به فقال: اللَّهم اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إِلَى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم اللَّه تعالى. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني عَلَى جذع ثم خذ سهما مِنْ كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل بسم اللَّه رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه عَلَى جذع ثم أخذ سهما مِنْ كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال بسم اللَّه رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام. فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد واللَّه نزل بك حذرك: قد آمن الناس. فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم فيها النيران وقال من لم يرجع عَنْ دينه فأقحموه فيها أو قيل له اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك عَلَى الحق)[36]

فهذا الحديث يصور أحداث قصة رائعة تجذب الكبار والصغار، وهي تحوي كل خصائص القصة وجمالياتها وتأثيرها.

فهي من الجهة الأولى تتناسب مع ما يرد في القصص الخُرافي من خوارق، والتي يحبذها الإنسان بطبعه، بل يدعو لهم علماء النفس باعتبارها تفسح الخيال وتغذيه[37].

يقول و. د. وول في كتابه (التربية البنَّاءة للأطفال)- الذي تولَّت منظمة اليونسكو نشره لأهميته –:(إذا كان الكبار أنفسهم في حاجة بين الحين والآخر إلى أن يذهبوا مع تيَّار أوهامهم، وأن يختلقوا حكايات، ويبتدعوا خيالات، فإن الطفل يهتم بقدر ما يكبر بالسببية، وإن دور التربية هو تسهيل التفكير العلمي بخصوص الأسباب، دون القضاء على الإبداع الحر، وعلى الخيال)

بل إنه يرى في استخدام الخرافة في أدب الأطفال مسألة صحية، فيقول:(يتَّصل اهتمام الطفل بالقصص الخرافية بحاجته إلى إعطاء شكل درامي للمشاكل التي تعترضه، ولإبداعات خياله فالعديد من عناصر الفلكلور (الفن الشعبي) ومن القصص الخرافية بما في ذلك المشاهد العنيفة، تتطابق مع عالم الطفل الباطني، ويمكن لهذا الأخير أن يتقمص بسهولة مختلف مظاهر الحكاية)

وهي من جهة أخرى قصة واقعية، تصور واقعا معينا حدث بالفعل، وهو ما يتفق مع ما ذكرناه من ضوابط الموعظة من اعتماد الصدق والصحة والتوثيق، لأن في الصدق ما يغني عن الكذب، وفي الصحيح ما يغني عن المختلق.

وهي من جهة أخرى تنشئ في نفس المتلقي ـ مهما كان عمره ـ معاني كثيرة قد لا يتيح الكلام المجرد ترسيخها ولا تثبيتها في النفس، ولا حاجة لتفصيل معانيها، لأن الطبع السليم وحده كفيل باستخراج الكثير من كنوز هذا الحديث.

ولعل أهم شيء فيها مما له علاقة بالتربية هو تلقين المربى استهانة الصالحين بأنفسهم في ذات الله، بحيث يضحون بكل شيء من أجل مرضاة الله ونصرة دينه.

وهذا ما ينشئ في نفس المتربي هذا الحب الذي يربطه بالله، كما تعمد الدول لغرس حب الأوطان في قلوب أفرادها في المبالغة في ذكر تضحيات شهدائها.

بعد هذا، فإن استعمال هذا المصدر الثري من مصادر الوعظ قد داخله من الانحراف في الواقع الشيء الكثير، وقد حصل ذلك منذ العصور الأولى، قال الغزالي عند ذكره لتحريف الناس لمعنى التذكير:(فنقل ذلك إلى ما ترى أكثر الوعاظ في هذا الزمان يواظبون عليه وهو القصص والأشعار والشطح والطامات، أما القصص فهي بدعة، وقد ورد نهي السلف عن الجلوس إلى القصاص وقالوا: لم يكن ذلك في زمن رسول الله، ولا في زمن أبـي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، حتى ظهرت الفتنة وظهر القصاص. وروي أن ابن عمر رضي الله عنهما خرج من المسجد فقال: ما أخرجني إلا القاصّ ولولاه لما خرجت. وقال ضمرة: قلت لسفيان الثوري نستقبل القاص بوجوهنا؟ فقال: ولّوا البدع ظهوركم، وقال ابن عون: دخلت على ابن سيرين فقال: ما كان اليوم من خبر؟ فقلت: نهى الأمير القصّاص أن يقصوا. فقال: وفق للصواب. ودخل الأعمش جامع البصرة فرأى قاصّاً يقصّ ويقول: حدّثنا الأعمش، فتوسط الحلقة وجعل ينتف شعر إبطه، فقال القاصّ: يا شيخ، ألا تستحي فقال: لم؟ أنا في سنة وأنت في كذب، أنا الأعمش وما حدّثتك. وقال أحمد: أكثر الناس كذباً القصاص والسؤال. وأخرج علي رضي الله عنه القصاص من مسجد جامع البصرة، فلما سمع كلام الحسن البصري لم يخرجه إذ كان يتكلم في علم الآخرة والتفكير بالموت والتنبـيه على عيوب النفس وآفات الأعمال وخواطر الشيطان ووج ويعرّف حقارة الدنيا وعيوبها وتصرمها ونكث عهدها وخطر الآخرة وأهوالها، فهذا هو التذكير المحمود شرعاً)[38]

وأهم الأسباب التي جرت إل هذا التحريف ما نهى عنه القرآن الكريم من الوقوف عند جزئيات الحوادث التاريخية وتفاصيلها، مع عدم الأدوات المؤدية لذلك، وإهمال الدروس والعبر المستفادة منها، مع أنها هي الأصل المقصود من القصص، قال تعالى:﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ((يوسف:111)

لكن هؤلاء القصاص حولوا منها بفعل المبالغة إلى أحاديث مفتريات لا حظ لها من الصدق، ولا حظ لها من التربية.

وهو ما نهى عنه القرآن الكريم، فالله تعالى بعد ذكره لقصة اصحاب الكهف المملوءة بالعبر والمواعظ نهى عما وقعت فيه الأمم من البحث عن التفاصيل التي لا تحوي أي قيمة تربوية، فقال تعالى:﴿ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً((الكهف:22)

يعلق سيد قطب على هذه الآية بقوله:(فهذا الجدل حول عدد الفتية لا طائل وراءه. وإنه ليستوي أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة، أو أكثر. وأمرهم موكول إلى الله، وعلمهم عند الله. وعند القليلين الذين تثبتوا من الحادث عند وقوعه أو من روايته الصحيحة. فلا ضرورة إذن للجدل الطويل حول عددهم. والعبرة في أمرهم حاصلة بالقليل وبالكثير. لذلك يوجه القرآن الرسول  - صلى الله عليه وسلم - إلى ترك الجدل في هذه القضية، وإلى عدم استفتاء أحد من المتجادلين في شأنهم. تمشيا مع منهج الإسلام في صيانة الطاقة العقلية أن تبدد في غير ما يفيد. وفي ألا يقفو المسلم ما ليس له به علم وثيق. وهذا الحادث الذي طواه الزمن هو من الغيب الموكول إلى علم الله، فليترك إلى علم الله)[39]

ومع هذا النهي القرآني إلا أن نجد كتب التفسير مشحونة في هذه القصة كما في غيرها بكثير من التفاصيل التي لامبرر للبحث فيها، ولا دليل على صحتها[40].

***

 ولكن، قد يقال هنا: إن ما ورد في النصوص قليل بالنسبة لحاجات الناشئة في هذا العصر الذي يولد فيه كل شيء بلا ميزان ولا حساب، حتى أصبح المستهلك يبحث عن الجديد في كل لحظة.

والجواب عن ذلك: أن مصادر القصة التربوية لا تكتفي بما ورد في النصوص، بل إن لها مصادر كثيرة غيرها:

منها سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتفاصيلها الكثيرة، فهي مصدر لقصص كثيرة لو أحسن القاص صياغتها ووضعها في قالب قصصي جذاب.

ومنها سير الصحابة - رضي الله عنهم - ، فكل موقف من واقفهم قد يشكل قصة بحد ذاته.

ومنها سير الصالحين من العلماء والأولياء، والتي تمتلئ بها كتب الطبقات، مع التنبيه هنا إلى خطورة بعض ما ورد في هذه القصص من التحريف لدين الله، أو المبالغة في الكرامات، فإن لذلك من التأثير الخطير ما يتنافى مع الأهداف التربوية الصحيحة التي جاءت بها الشريعة، ولكنا للأسف نجد سيطرة هذه القصص في كثير من البيئات باعتبارها حقائق لا تستمد منها القيم التربوية فقط، بل باعتبارها حقائق تستمد منها العقيدة والشريعة والسلوك..

ومنها القصص المبدعة المخترعة التي تستلهم المعاني الإسلامية وتخدم القيم التربوية بقالب قصصي جميل يكون بديلا عن هذا الركام الخبيث الذي تمتلئ به كتب العالم.

ونحب أن نبين هنا اتفاق العلماء على جواز وضع الحكايات والقصص لرعاية القيم الإسلامية وتنشئة الأطفال عليها بشرط عدم نسبتها لأشخاص بأعينهم سواء كانوا أنبياء أو غيرهم، وهذا رعاية لما ذكرناه في ضوابط الموعظة من اشتراط الصدق في الموعظة.

بل نرى استحباب وضع البديل الإسلامي الذي يغني الناشئة عن الواقع الذي يمتلئ بالقصص الكثيرة والتي لا تحمل في ذاتها أي قيم تربوية ولا سلوكيات صحية.

ونقترح رعاية الجانب النفسي في هذه القصص حتى لا يغلب عليها الجفاف الذي قد ينفر نفوس الأولاد منها.

ثانيا ـ المثال

ويقصد به: ادعاء التماثل الجزئي أو الكلي بين شيئين أو حالين طلباً لإثبات أو إيضاح أحدهما اعتماداً على ثبوت أو وضوح الثاني.

وهو لذلك يُستخدم في تقريب المعنى وإيضاحه والإقناع به والحث على الفعل ونحو ذلك، وله لأجل ذلك تأثير عظيم، قال ابن حجر في شرح حديث (النخلة):(وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة)

وقد عد الإمام الشافعي علم الأمثال مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن والسنة.

ويشير إلى استعمال هذا الأسلوب في الموعظة ـ مما له علاقة بالتربية ـ قوله تعالى على لسان لقمان u:﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ((لقمان:16)

فلقمان u أراد أن يعبر عن لطف الله وخبرته، وهي قضية عقدية، ترتبط بها ناحية سلوكية، وهي تأثير هذه المعرفة في الحذر من المعاصي، والحرص على الطاعة، فجاء بصورة حسية تقرب هذه المعاني جميعا.

هذه الصورة هي أن المظلمة أو الخطيئة أو الطاعة لو كانت مثقال حبة خردل، وكانت مخفية في السماوات أو في الأرض، فإن الله يحضرها يوم القيامة حين يضع الموازين القسط، ويجازي عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، حتى لو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء[41]، أو ذاهبة في أرجاء السماوات والأرض، فإن اللّه يأتي بها لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولهذا ختم الآية بقوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أي لطيف العلم فلا تخفى عليه الأشياء، وإن دقّت ولطفت وتضاءلت، خبير لا تعزب عنه الأخبار الباطنة فلا يجري في الملك والملكوت شيء ولا تتحرك ذرة ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبرها[42].

وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بغير هذه الصيغة كقوله تعالى:﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ((الانبياء:47)

ولكن للصيغة التي ذكرها لقمان u، وفي المحل الذي ذكرها فيه تأثيرها الخاص، وهي تتناسب مع ما ذكرنا من ميل الإنسان بطبعه ـ وخاصة الصغار ـ إلى توظيف الخيال في توضيح الحقائق.

وقد استعمل القرآن الكريم لهذا السبب المثال في مواضع كثيرة[43]:

من ذلك قوله تعالى:﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ((النحل:75)، وهذا المثل يشير إلى أمرين كلاهما قاله السلف من المفسرين:

أما الأول فهو أن هذا مثل ضربه اللّه للكافر والمؤمن، فالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر، والمرزوق الرزق الحسن فهو ينفق منه سراً وجهراً هو المؤمن، وهو يشير إلى حرية المؤمن نتيجة عبوديته لله، وعبودية الكافر لأهوائه نتيجة تحرره في تصوره من العبودية لله.

وأما الثاني، فهو كما قال مجاهد: هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى، فهل يستوي هذا وهذا؟ وهو معنى ينشئ في المؤمن التحرر من ربقة العبودية لغير الله.

فهذ المثال صور كلا المفهومين تصويرا حسيا بديعا، لا يجادل أحد في صحته، وذلك ختم المثال بقوله تعالى:﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾

  ومن الأمثلة القرآنية قوله تعالى:﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُم((النحل: من الآية92)

فالله تعالى يصور لنا في هذا المثال حال من ينقض المواثيق والأيمان بعد توكيدها، فضرب مثلا بامرأة خرقاء كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه.

يقول سيد قطب مبينا التأثير التربوي لهذا المثل:(فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة ومحلولة ! وكل جزيئة من جزئيات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجيب. وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب. وهو المقصود وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه)[44]

ومن الأمثلة القرآنية التي يمكن استثمارها في التربية قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ((ابراهيم:24 ـ25)، وفي مقابلها:﴿ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ((ابراهيم:26)

فهذا المثال يصور الكلمة الطيبة بصورة الشجرة الطيبة الثابتة التي تؤتي ثمرها كل حين، وتصور الكلمة الخبيثة بصورة الشجرة الخبيثة التي لا قرار لها، ولا ثمر ينتفع به، يقول سيد مبينا بعض أبعاد هذا المثل:(إن الكلمة الطيبة - كلمة الحق - لكالشجرة الطيبة. ثابتة سامقة مثمرة.. ثابتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل ؛ ولا تقوى عليها معاول الطغيان - وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان - سامقة متعالية، تطل على الشر والظلم والطغيان من عل - وإن خيل إلى البعض أحيانا أن الشر يزحمها في الفضاء - مثمرة لا ينقطع ثمرها، لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن)

وبالمقابل فإن (الكلمة الخبيثة - كلمة الباطل - لكالشجرة الخبيثة ؛ قد تهيج وتتعالى وتتشابك ؛ ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى. ولكنها تظل نافشة هشة، وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض.. وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض، فلا قرار لها ولا بقاء)[45]

ومن الأمثلة القرآنية التربوية هذا المثال الذي يصور عاقبة الصدقة في سبيل الله، قال تعالى:﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ((البقرة:261)

فالله تعالى في هذه الآية يضرب مثلا لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فجاء بمثل يحوي القضية ودليلها، ليكون أكثر إقناعا وتأثيرا.

قال ابن كثير:(وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها اللّه عزّ وجلّ لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الارض الطيبة)

ومثل ذلك في السنة المطهرة، فقد كان استعمال هذا الأسلوب سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التعليم والموعظة.

ومن الأمثال التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي يمكن استثمارها في التربية، ما روي عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه -  عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه، والصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة: محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله تعالى، والداعي فوق الصراط:واعظ الله في قلب كل مسلم)

وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يلغز[46] أحيانا بالأمثال، وهي قيمة أخرى من قيم الأمثال إذ يمكن تطبيق المثل الواحد على نواح كثيرة.

ومن ذلك الحديث الذي رواه ابن عمر - رضي الله عنه -  قال: كنا عند رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال:(أخبروني عن شجرة تشبه - أو - كالرجل المسلم، لا يتحات ورقها صيفاً ولا شتاء، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئاً، قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:(هي النخلة)، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه واللّه وقع في نفسي أنها النخلة، قال: ما منعك أن تتكلم؟ قلت: لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً، قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إليَّ من كذا وكذا)[47]

وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم -  يتناظرون في معاني القرآن الكريم وفي حل مشكلاته، ومن ذلك في حل هذا المثال القرآني، وهو يصب فيما ذكرنا من إمكانية استغلال المثل في الإلغاز، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  يومًا لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -:(فيمن ترون هذه الآية نزلت:﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ((البقرة:266)؟)، فقالوا:(الله أعلم)، فغضب عمر، وقال:(قولوا نعـلم، أو لا نعـلم)، فقال ابن عباس - رضي الله عنه - :(في نفسي شيء يا أمير المؤمنين)، فقال عمر- رضي الله عنه - :(يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك، فقال: ضربت مثلاً بعمل)، قال عمر:(أي عمل ؟) قال:(لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي، حتى أغرق أعماله)

فهذا الذي ذكره ابن عباس - رضي الله عنه -  تطبيق من تطبيقات ذلك المثل القرآني، وقد ذكر الحسن البصري - رضي الله عنه -  تطبيقا آخر، فقال:(هذا مثل قلّ والله من يعقله من الناس، شيخ كبير ضعف جسمه، وكثر صبيانه، أفقر ماكان إلى جنته، فجاءها الإعصار فأحرقها. وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا)

وهناك تطبيقات أخرى كثيرة يمكن تطبيقها من هذا المثل وغيره، وهو ما يجعل المثل مادة غنية يمكن استغلالها تربويا استغلالا كبيرا.

وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يربط الأمثلة أحيانا بأمور حسية ليبقى أثرها في نفس المتلقي، ومن ذلك ما جاء في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -  قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - غصناً، فنفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فانتفض، فقال:(إن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ينفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها)

ومن ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستعمل حركات معينة لتقرير المعاني وتشبيهها، ومما روي عنه في ذلك في مواضع مختلفة التشبيك بين أصابعه الشريفة للكناية عن القوة والتماسك حينًا، وللتداخل بين شيئين حينًا آخر، وللاختلاط والاختلاف أحيانا أخرى.

ومن ذلك ما روي عن أبي موسى - رضي الله عنه -  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه)[48]

ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(كيف بكم وبزمان يوشك أن يأتي، يغربل[49] الناس فيه غربلة، تبقى حثالة من الناس، قد مرجت[50] عهودهم وأماناتهم واختلفوا، وكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه)[51]

ومن ذلك ما روي عن جابر - رضي الله عنه -  أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:(لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة. فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد ? فشبك رسول الله  أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: دخلت العمرة في الحج (مرتين)، لا بل لأبد أبد)[52]

ومن توظيف اليد في التمثيل ما روي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وضع يده على رأس المخاطب للـدلالـة على القـرب الشـديد في حديث عبد الله ابن حَوَالة الأزدي - رضي الله عنه - ، قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنَغْنَم على أقدامنا، فرجعنا فلم نغنم شيئًا، وعرف الجهد في وجوهنا، فقال: اللهم لا تكلهم إلي فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليـهم -ثم وضــع يـده على رأســي، أو قــال على هامتي- ثم قال: يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت أرض المُقَدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك)[53]

والأمثلة على مثل هذا في السنة كثيرة، لا يمكن إحصاؤها هنا، وما ذكرنا من الأمثلة من النصوص لا نريد بها اقتصار المربي على الاستفادة منها، بل ذكرناها لنبين قيمة ضرب الأمثال في التربية، وإلا فإن التراث الإسلامي ثري بالأمثال الكثيرة التي يمكن الاستفادة منها في هذا المجال، أو على تكوين ملكة لضرب الأمثال النافعة.

ومن ذلك قول الإمام أحمد - رضي الله عنه -  لبعض أصحابه:(كم يعيش أحدنا: خمسين سنة ؟ ستين سنة ؟ كأنك بنا قد متنا، ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط)

ومن ذلك ما روي وعن يعلى بن عبيد قال: سمعت سفيان الثوري يقول:(لو كان معكم من يرفع الحديث إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء ؟ قلنا: لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث... يعني إلى الله)

ومن ذلك ما روي أن عبد الواحد بن زيد قال للحسن البصري:(يا أبا سعيد ! أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب بن أبي صفرة، إلا أنه عاون بلسانه ورضي بقلبه)، فقال الحسن: يا ابن أخي ! كم يد عقرت الناقة ؟ قلت: واحدة، قال: أليس قد هلك القوم جميعاً برضاهم وتمالئهم ؟)

وغيرها من الأمثال التي رويت عن السلف الصالح - رضي الله عنهم - ، وإذا رجعنا إلى عصرنا، فإن أثرى الكتابات التي اهتمت بهذا الجانب، والتي نرى الإمكانية الكبيرة لاستفادة المربي منها هي كتابات بديع الزمان النوسي، فقل أن تحلو رسالة من رسائله من مثل يضرب، بل إن كثيرا من رسائله مؤسسة على أمثال متقنة غاية الإتقان.

ولا بأس أن نذكر هنا مثالا عن قيمة الصلاة[54]، نرى أنه ببساطته يمكن لأي أب أن يلقنه لابنه، فترتسم الصورة في ذهنه ارتساما لا تمحوه الأيام، يقول سعيد النورسي في مقدمة هذا المثل:(ان كنت تريد ان تعرف أهمية الصلاة وقيمتها، وكم هو يسير نيلها وزهيد كسبها، وان من لا يقيمها ولا يؤدي حقها أبله خاسر.. ان كنت تريد ان تعرف ذلك كله بيقين تام ـ كحاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعاً ـ فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة)

ثم يذكر مثلا في صيغة قصة، فيذكر أن حاكما عظيما يُرسل اثنين من خَدَمه الى مزرعته الجميلة، بعد أن يمنح كلاً منهما أربعاً وعشرين ليرة ذهبية، ليتمكنا بها من الوصول الى المزرعة التي هي على بُعد شهرين.. ويأمرهما بأن ينفقا من هذا المبلغ لمصاريف التذاكر ومتطلبات السفر، ويقتنيا ما يلزمهما هناك من لوزام السكن والاقامة.. هناك محطة للمسافرين على بُعد يوم واحد، توجد فيها جميع انواع وسائط النقل من سيارة وطائرة وسفينة وقطار.. ولكلٍ ثمنه.

ويخرج الخادمان بعد تسلمهما الأوامر.. كان أحدهما سعيداً محظوظاً، اذ صرف شيئاً يسيراً مما لديه لحين وصوله المحطة، صرفه في تجارة رابحة يرضى بها سيدُه، فارتفع رأس ماله من الواحد الى الالف.

أما الخادم الآخر، فلسوء حظه وسفاهته صرف ثلاثاً وعشرين مما عنده من الليرات الذهبية في اللّهو والقمار، فأضاعها كلها إلا ليرة واحدة منها لحين بلوغه المحطة، فخاطبه صاحبه قائلا: يا هذا.. اشتر بهذه الليرة الباقية لديك تذكرة سفر، فلا تضيّعها كذلك، فسيدُنا كريمٌ رحيمٌ، لعلّه يشملك برحمته وينالك عفوه عما بدر منك من تقصير، فيسمحوا لك بركوب الطائرة، ونبلغ معاً محل اقامتنا في يوم واحد. فان لم تفعل ما اقوله لك فستضطر الى مواصلة السير شهرين كاملين في هذه المفازة مشياً على الاقدام، والجوع يفتك بك، والغربة تخيم عليك وانت وحيد شارد في هذه السفرة الطويلة.

ثم يسأل النورسي ـ كما يمكن أن يسأل المربي المتلقي عنه ـ:(تُرى لو عاند هذا الشخص، فصرف حتى تلك الليرة الباقية في سبيل شهوة عابرة، وقضاء لذة زائلة، بدلاً من اقتناء تذكرة سفر هي بمثابة مفتاح كنزٍ له. ألا يعني ذلك أنه شقي خاسر، وأبله بليد حقاً.. ألا يُدرك هذا أغبى انسان ؟)

وهذا السؤال الذي ينقل الولد من دور المتلقي السامع إلى دور المؤثر في الحكاية والفاعل له تأثيره الكبير في ترسيخ المعاني في نفسه وإيمانه بها، لأنه هو الذي سيحكم على المفرط بالغباء والبلادة.

يقول النورسي بعد ذلك مبينا تطبيق هذا المثل على الصلاة:(فيا من لا يؤدي الصلاة! ويا نفسي المتضايقة منها! ان ذلك الحاكم هو ربُّنا وخالقنا جلّ وعلا..أما ذلكما الخادمان المسافران، فأحدهما هو المتديّن الذي يقيم الصلاة بشوق ويؤديها حق الأداء، والآخر هو الغافل التارك للصلاة..وأما تلك الليرات الذهبية الاربعة والعشرون فهي الاربع والعشرون ساعة من كل يوم من أيام العمر.. وأما ذلك البستان الخاص فهو الجنة.. وأما تلك المحطة فهي القبر.. وأما تلك السياحة والسفر الطويل فهي رحلة البشر السائرة نحو القبر والماضية الى الحشر والمنطلقة الى دار الخلود. فالسالكون لهذا الطريق الطويل يقطعونه على درجات متفاوتة.. أما تلك التذكرة فهي الصلاة التي لا تستغرق خمسُ صلوات مع وضوئها اكثر من ساعة)

ثم يذكر النتيجة التربوية لهذا المثل، فيقول:(فيا خسارة مَن يصرف ثلاثاً وعشرين من ساعاته على هذه الحياة الدنيا القصيرة ولا يصرف ساعةً واحدة على تلك الحياة الابدية المديدة!. ويا له من ظالم لنفسه مبين! ويا له من احمق ابله.. لئن كان دفع نصف ما يملكه المرء ثمناً لقمار اليانصيب ـ الذي يشترك فيه اكثر من الف شخص ـ يعدّ أمراً معقولاً، مع أن احتمال الفوز واحد من ألف، فكيف بالذي يحجم عن بذل واحدٍ من اربعة وعشرين مما يملكه، في سبيل ربح مضمون، ولأجل نيل خزينة أبدية، بأحتمال تسع وتسعين من مائة.. ألا يُعدّ هذا العمل خلافاً للعقل، ومجانباً للحكمة.. ألا يدرك ذلك كلُّ من يعدّ نفسه عاقلاً؟)

وهذا المثل الذي ذكره النورسي وغيره من الأمثلة يمكن توظيفها وتبسيطها في مسرحيات وتمثيليات هادفة، وبذلك قد يدخل الفن والتمثيل المسرحي والسينمائي في هذه الأسلوب.

ومما يمكن دخوله أيضا في هذا الأسلوب تمثيل المعلومات في أشكال معينة اقتداء بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وقد ذكر بعضهم[55] الأمثلة الكثيرة على ذلك لا بأس من سوق بعضها هنا:

فمنها: تمثيل مراتب الدين في مجسم على شكل هرم من الخشب الخفيف أو الورق المقوى أو البلاستيك أو الفلين أو نحو ذلك، بحيث  يقسم الهرم بخطوط أفقية إلى ثلاثة أقسام، يكتب على القسم الأسفل الذي يمثل القاعدة كلمة (الإسلام)، وعلى القسم الأوسط كلمة (الإيمان)، وعلى القسم الأعلى الذي يمثل القمة كلمة (الإحسان).

ويشير هذا الهرم إلى أن مرتبة الإيمان أعلى مرتبة من الإسلام، ومرتبة الإحسان أعلى منهما. كما يشير إلى أن المتصفين بالإيمان أقل من المتصفين بالإسلام، وأن المتصفين بالإحسان أقل من المتصفين بالإيمان.

ومنها تمثيل مصارف الزكاة  بصندوق من الخشب الخفيف أو البلاستيك به ثقب من أعلاه، تخرج منه ثمان عصي من الخشب أو الخيزران أو البلاستيك، تنتــهي كل عصـــى بمســاحة شبــه دائرية على شكل ثمرة (تفاحة أو كمثرى على سبيل المثال)، ويكتب على كل منها أحد مصارف الزكـــاة الواردة في القرآن الكريم.

ومنها تمثيل مناسك الحج ومناطقه بخرائط وصور ومجسمات تقرب صورة الحج، لأنه من العسير على من لم يحج أن يتصور محور مناسك الحج ومناطقه، حتى وإن درس أحكام الحج دراسة نظرية بعيدة عن الواقع، وهذه الوسيلة تقرب التصور إلى حد ما. كما أنها توضح اتجــاه وتوقيــت الحركة التعبــدية في منطــقة المشاعر.

 وهكذا يمكن اسعمال كل الوسائل المعاصرة خدمة لهذا الأسلوب التربوي المهم.

ثالثا ـ المعلومة

ونريد بها أن يقدم المربي ـ سواء كان والدا أو غيره ـ معلومة صحيحة لها علاقة بتصحيح الأفكار وتقويم السلوك، لتقوم بأداء دورها التربوي من غير أدنى تعليق منه.

ويشير إلى هذا النوع من الموعظة في قصة لقمان u قوله تعالى على لسان لقمان u:﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ((لقمان:16)

فزيادة على كون هذا مثل على لطف الله وخبرته إلا أنه من جهة أخرى معلومة محضة يقدمها لقمان u لابنه من غير أن يعلق عليها أي تعليق.

ومن الأمثلة على هذا المصدر كذلك من قصة لقمان u قوله لابنه ـ على حسب وجه من الوجوه التي تحتملها الآية ـ:﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ((لقمان: من الآية14)، فهي معلومة محضة تخبر عن المشاق التي تتحملها الأم أثناء الحمل، وتخبر كذلك عن مدة الرضاع، وقد سيقت كدليل على الوصية بالوالدين والشكر لهما.

ونحب أن ننبه هنا إلى أن لصياغة المعلومة دورا كبيرا في إضفاء طابع تربوي عليها، واستغلالها لتهذيب السلوك، فيظفر التلميذ بعلم يغذي عقله وتربية تهذب سلوكه.

وهذا قد يدخل حتى في تعليم الطفل معلومات قد تبدو جافة لا علاقة لها بالتربية، وكمثال على ذلك في الحساب في تعيم عميلة الطرح، فإن في إمكان المعلم أن يقول:(مع سعيد 50 دينارا صرف منها 10 دنانير، كم بقي عنده؟)

ويمكنه إن مزج التربية مع العلم أن يقول:(مع سعيد 50 دينارا، أعطى فقيراً قابله 10 دنانير، كم بقي عنده ؟)

وهكذا في العلوم الطبيعية حيث نجد هذا التعبير مثلا:(حبت الطبيعة الزرافة عنقاً طويلاً لتستطيع أكل أوراق الأشجار)مع أنه يمكن صياغة هذه المعلومة ؛ بل يجب أن تصاغ كالتالي:(خلق الله للزرافة عنقاً طويلاً لتستطيع أكل أوراق الشجر)

وهكذا الأمر مع مختلف المعلومات حيث تستغل النصوص وتتضافر المعلومات لتحقق أهدافا سلوكية ووجدانية بالإضافة إلى الأهداف التعليمية حتى يحمل الطالب الأدب والفضيلة والعلم.

وسنضرب هنا بعض الأمثلة عن إمكانية تأثير المعلومة التربوي، وذلك من خلال بعض الأبعاد التربوية التي سنتناولها بالتفصيل في جزء خاص.

البعد الإيماني:

ففي البعد الإيماني ـ مثلا ـ يمكن سوق الكثير من الأمثلة العلمية التي لها دورها العظيم في تعميق الإيمان، وكأمثلة على ذلك ذكر المعلومات المفصلة عن خلق الكون، فالأرض التي نعيش عليها والمجموعة الهائلة من النجوم التي تتراءى لنا تبهر النظر عند التأمل فيها، فتقف النفس أمامها حائرة تسودها الرهبة، ويسيطر عليها الإعجاب، فتزداد إيمانا بعظمة الخالق.

والقرآن الكريم في كثير من آياته يدعوا الإنسان بأن يوجه نظره إلى خلق هذا الكون ـ من سمائه وأرضه ـ ويدعوه إلى التفكر في أسراره ليدعم إيمانه ويطرد الشك من نفسه، كما قال الله تعالى:﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (يونس:101)، وقال تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ (لأعراف:185)

وانطلاقا من هذه الأوامر الإلهية يسوق المربي الكثير من الأمثلة العلمية التي يتعرف المتلقي من خلالها على عظمة الله.

ومن ذلك أن يذكر له ما يقوله علماء الفلك[56] عن الأرض، وأنها ليست إلا فرداً من أفراد الأسرة الشمسية، والأسرة الشمسية ليست إلا فردا من أفراد المجموعة المجرية، والمجموعة المجرية ليست إلا فرداً من مجموعة المدن النجومية التي في الفضاء، ثم إن هناك أيضاً نيازك وشهباً وأقماراً ومذنبات.

ثم ما هو عدد النجوم في مجرتنا وهي ما يطلق عليه (درب التبانة)وهي التي تنتسب شمسنا وكواكبنا إليها ؟

فإذا نظرنا إلها بالعين المجردة فإن العدد الكلي لهذه النجوم التي تظهر في نصف الكرة الشمالي أو ما يظهر في النصف الجنوبي ـ  لا يزيد على ستة آلاف.

ولكن إذا نظرنا إلها خلال المناظير فان الموقف يتغير تغيراً تاماً، فالعالم الفلكي كابتن يقدر عددها بـ:40000مليون نجم وترتقي في تقدير شايبل إلى 100000مليون نجم، وقدر عدد المجرات بما يزيد على 100مليون مجرة تحتوي على ملايين النجوم المشتعلة.

ثم ما هي أحجام هذه النجوم بالنسبة للشمس ؟

فالشمس نجم كسائر ما نرى في السماء من نجوم وهي إن تراءت لنا نجماً متوسطاً، فأصغر النجوم التي اكتشفت للآن نجم (فان مانن)إن زاد قدره عن الأرض فلا يزيد إلا قليلاً، فمليون من مثل هذا النجم يمكن إن يزج فيه في الشمس ويبقى محل لغيره، وهناك نجم منكب الجوزاء هو من العظم بحيث يمكن أن يزج فيها بملايين كثيرة من كالشمس في الحجم وزيادة.

ثم ما هي أبعاد هذه النجم عنا ؟

إن المجموعة الشمسية التي تنتسب لها الأرض تكاد تكون منزلة انعزالاً تاماً في الفضاء بالنسبة لما تبعد عنها النجوم الأخرى، فالشمس تبعد عنا أقل من 93مليون ميل أي أبعد 400 مرة تقريباً من القمر، أما إذا احتجنا أن نقيس أبعاد النجوم الأخرى فلا يكفي الألف مليون بل لا بد من مليون المليون، ولهذا اتخذ علماء الفلك من سرعة الضوء وحدة للقياس وقدّرها العلماء 186000 ميلاً في الثانية.

فأبعد الكواكب السيارة وهو (بلوتوا)الذي ينتسب للمجموعة الشمسية يستغرق الضوء المنبعث منه إلينا ما بين أربع ساعات وخمس مع أن الضوء الآتي من أقرب النجوم يستغرق ما بين أربع سنوات وخمس، وأقصى ما توصلت المراصد إليه وآلات التصوير الحساسة رؤية مجموعات من النجوم تبعد عنا بمدى ألفي مليون سنة ضوئية.

و مما يلفت النظر أنه قد تبين أن مجموعتنا النجمية تدور ببطء حول محورها المركزي، ولقد وجد أيضاً إن المجامع النجمية الأخرى في حالة دوران مشابهة.

فذكر هذه المعلومات وأمثالها قد يغرس في نفس المتلقي من المعرفة بالله ما لا تغرسه ألف موعظة عن عظمة الله مجردة عن أمثال هذه الحقائق

ولهذا، فإن العلماء الراسخين في حقائق الكون من أكثر الخلق إيمانا بالله، وبعدا عن الإلحاد، يقول انشتاين:(إن ديني يشتمل على الإعجاب المتواضع بتلك الروح العليا غير المحددة والتي تكشف في سرها عن بعض التفصيلات القلية التي تستطيع عقولنا المتواضعة إدراكها وهذا الإيمان القلبي العميق والاعتقاد بوجود قوة حكيمة عليا نستطيع إدراك خلال ذلك الكون الغامض يلهمني فكرتي عن الإله)

ويقول الدكتور ماريت ستانلي كونجدن:(أن جميع ما في الكون يشهد على وجود الله سبحانه ويدل على قدرته، وعندما نقوم نحن العلماء بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها حتى باستحداثها الطريقة الاستدلالية فاتنا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي الله وعظمته)

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)(فاطر:28)، فذكر خشية العلماء بجانب دلائل العظمة يدل على أن المراد منهم العلماء العارفون بأمثال هذه العلوم.

البعد الروحي:

وكمثال على ذلك دور المعلومة في تعميق معاني الشكر، فالقرآن الكريم يسلك لذلك مسلك عد النعم وإحصائها، فقد ذكر القرآن الكريم نِعماً كثيرة، وأرشد إلى وجوه المنافع الكامنة فيها، وبيّن   طريق شكرها، بل دعا إلى زيادة النظر والبحث للاطلاع على المزيد من النعم، قال تعالى:﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ((قّ:6)، وقال تعالى:﴿ فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ((عبس:24)، وقال تعالى:﴿ فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ((الطارق:5)، وقال تعالى:﴿ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ((الغاشية:17)وغيرها من آيات القرآن الكريم.

وكأن القرآن الكريم بذلك يرشدنا إلى البحث لإدراك فضل الله علينا، فلذلك كان اللجوء للعلم، واستخدام المعلومة في هذا الباب مسلكا قرآنيا، يزيد من تعميق معاني الشكر في المؤمن.

نعم إن كثيرا من النعم لا يحتاج الإنسان إلى العلوم المتخصصة ليعرف منافعها وفوائدها، لكن هذه العلوم تُوسِّعُ معارف الإنسان، فيعرف منها ما لا يعرفه بالنظر العادي أو بالتجربة العادية[57].

فالحواس الخمس، واللسان والفم، واليدان والرجلان، والماء والهواء، والطعام واللباس، والشمس والقمر، والليل والنهار.. نِعَم يستطيع كل إنسان أن يعد منافعها، ولكن العلوم التي درست هذه النعم تعرف عنها أكثر مما يعرفه الشخص العادي، فهذه العلوم في مسيرتها الطويلة كشفت بقصد أو بغير قصد من وجوه المنافع في الشيء الواحد ما يجعل نعمة واحدة من نِعَم الله نعم لا تحصى؛ لأن إحصاءها لا يمكن إلا وهي محصورة، فكيف وهي تتجدد وتزيد، ويظهر في نعم معروفة ما لم يكن معروفاً ؟، فكيف يحصي الإنسان شيئاً لا ينحصر ؟

فلو قام الإنسان برحلة عقلية مع الجنين في أطوار خلقه حتى يصير إنساناً سويّاً، وقام برحلة مماثلة مع الطعام خارج الجسم ثم داخل الجسم حتى يصير غائطاً وبولاً.. ما استطاع أن يحصي نعم الله عليه في هاتين الرحلتين اللتين يمر بالأولى مرّاً، أو يمر بالثانية آلاف المرات، فيكف إذا استعان بما قاله علم الأجنّة عن الرحلة الأولى وما قاله علم الفسيولوجيا عن الثانية ؟، ومع كل نعمة احتمالات عقلية أخرى لِما كان سيحدث من أنواع الاختلالات والأعراض والإصابات لو لم تسر الأمور سيراً طبيعيّاً، فالنعم تعرف بما يقابلها من المحن، وكثيراً ما نجد في القرآن الكريم التذكير بالنعمة وبالاحتمالات العقلية المقابلة.

وكمثال على ذلك قوله تعالى:﴿ أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ﴾(الواقعة: 68ـ 70)، أي: لو نشاء جعلناه مالحاً، ولو تبخرت مياه البحر مرة واحدة بأملاحها لسقطت الأمطار مالحة، فأفسدت الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية لكنها تتبخر دون أن تحمل معها الأملاح فتسقط ماءً عذباً.

زيادة على هذا، فإنه يمكن ذكر التفصيل الكثيرة عما قاله العلماء في آثار قوة الإيمان والصلة بالله وأدوارها الصحية والنفسية وغيرها.

ومن ذلك مثلا أن دراسة تجريبية كشفت في مراحلها الأولى[58] أن مرضى القلب الذين يملكون إيمانا دينياً قوياً، لديهم قدرة أكبر على التماثل للشفاء وإكمال الفترة التأهيلية التي تعقب الإصابة

و يحاول الباحثون في مركز غيسرنغ الطبي وجامعة باكنيل  توسيع الدراسة لتحديد علاقة الإيمان الديني ومدى تأثيرها الإيجابي على المدى البعيد على صحة القلب والأوعية الدموية.و يأمل تيموتي ماكونيل رئيس وحدة إعادة تأهيل مرضى القلب في مركز غيسرنغر ،و هو مستشفى مركز ضخم لأمراض القلب يضم 437 مريضاً في تأمين موافقة مائة من مرضى القلب لإجراء دراسة موسعة في إطار زمني مدته خمسة أعوام.

و في الدراسة التجريبية استعان ماكونيل ب21 مريضا  بينهم من أصيب مؤخراً بأول نوبة قلبية أو أجريت لهم عملية لتووسيع الشرايين.و تم إجراء بحث لتحديد مدى إيمان ومعتقدات المشاركين، قبل البدء في البرنامج التأهيلي الذي استغرق 12 أسبوعاً.

و قال بروفسور كريس بوياتزيس، الأخصائي النفسي من جامعة " باكنيل "عن الدراسة التجريبية:(لقد اكتشفنا رابطاً مثيراً بين الإيمان الديني وفرص التعافي  فكلما زاد إيمان المريض بالدين زادت ثقته في مقدرته الشخصية على إكمال المهام والعمل)، وعلق مايك ماكولاف أستاذ مساعد لعلم النفس بجامعة ميامي، بالقول:(إن الكشف ليس بالمفاجأة فالدراسات التي أجراها للكشف عن مدى صحة البشر ،أثبتت العديد منها نفس النتائج) 

البعد الأخلاقي:

وهو البعد الذي يهتم بوقاية الشخصية من كل مظاهر الانحراف وأسبابها لينطلق من ذلك لغرس كل ما يمكن من الفضائل، وانطلاقا من هذا يمكن استخدام المعلومة المجردة في كلا الناحيتين.

فمن ناحية الوقاية مثلا يمكن تبيين مضار الفواحش والفوضى الجنسية من خلال ما تبينه الدراسات العلمية، وقد لخص الدكتور النسيمي ما تؤدي إليه الحرية الجنسية من أضرار مهلكة ومدمرة للفرد والمجتمع بالأمور التالية:

إن إطلاق العنان للإنسان في ممارسة رغباته الجنسية وإشباع غرائزه وشهواته تؤدي بلا شك إلى أضرار فادحة تلحق بصحة الفرد وتدمر كيان الأسرة  لبنة المجتمع.

الفواحش هي السبب الوحيد تقريباً للإصابة بالأمراض الزهرية، وأهم العوامل في انتشارها، كالإفرنجي والسيلان البني وداء نقص المناعة المكتسبة (الإيدز).

اللواط، وهو يزيد على الزنى بمضار متميزة، فالفاعل المعتاد على اللواط تنحرف عنده الميول الجنسية فلا يميل لمعاشر زوجته وقد يقدم على طلاقها أو ممارسة الشذوذ الجنسي معها بإتيانها في الدبر أما الملوط به فيتعرض لتوسع الشرج وارتخاء المصرة الشرجية وقد يصاب بسلس غائطي وقد يرتكس نفسياً فيتخنث.

إن شيوع التمتع باللذة الجنسية بالطريق المحرم وتيسير الوصول إليها يؤدي إلى عزوف الشباب عن الزواج الشرعي وتهربهم من مسؤولية بناء الأسرة التي هي لبنة المجتمع، مما يفكك عرى هذا المجتمع وتحويله إلى أفراد لا يجمع بينهم أي رابط مشترك.

ويمكن أن يوسع في ذكر أهم الأمراض التي تصيب الزناة والشواذ، بل والتفصيل فيها في المدارس وغيرها لتكون من وسائل الردع بالإضافة إلى الوسائل الأخرى.

ويمكن استثمار المعلومة في الردع عن الخمر[59] ـ مثلا ـ في البلاد التي يشع فيها مثل هذا الانحراف، فالخمر من اعقد المشكلات التي يجأر منها الغرب ويبحث عن حل لكن دون جدوى فهذا السيناتور الأمريكي وليم فولبرايت  يقول عن مشكلة الخمر:(لقد وصلنا إلى القمر ولكن أقدامنا مازالت منغمسة في الوحل، إنها مشكلة حقيقية عندما نعلم أن الولايات المتحدة فيها أكثر من 11 مليون مدمن خمر وأكثر من 44 مليون شارب خمر)

وقد نقلت مجلة لانست البريطانية مقالاً بعنوان (الشوق إلى الخمر)جاء فيه (إذا كنت مشتاقاً إلى الخمر فإنك حتماً ستموت بسببه إن أكثر من 200 ألف شخص يموتون سنويا في بريطانيا بسبب الخمر)

و ينقل البروفسور شاكيت أن 93% من سكان الولايات المتحدة يشربون الخمر وأن 40% من الرجال يعانون من أمراض عابرة بسببه و5% من النساء و10% من الرجال يعانون من أمراض مزمنة معندة.

ويختلف تأثير الخمر السـمي كلمـا تغير مسـتواه في الدم فعندما يبلغ مســتواه  من 20ـ 99ملغ % يسبب تغير المزاج وإلى عدم توازن العضلات واضطراب الحس، وفي مستوى من 100ـ 299 ملغ % يظهر الغثيان وازدواج الرؤية واضطراب شديد في التوازن. وفي مستوى من 300 ـ 399 ملغ % تهبط حرارة البدن ويضطرب الكلام ويفقد الذاكرة. وفي مستوى 400 ـ 700 ملغ % يدخل الشاب في سبات عميق يصحبه قصور في التنفس وقد ينتهي بالموت. ورغم أن كل أعضاء الجسم تتأثر من الخمر فإن الجملة العصبية هي أكثرها تأثراً حيث يثبط المناطق الدماغية التي تقوم بالأعمال الأكثر تعقيداً ويفقد قشر الدماغ قدرته على تحليل الأمور، كما يؤثر على مراكز التنفس الدماغية حيث أن الإكثار منه يمكن أن يثبط التنفس تماماً إلى الموت.

وهكذا يؤكد كتاب alcoholism  أن الغول بعد أن يمتص من الأمعاء ليصل الدم يمكن أن يعبر الحاجز الدماغي ويدخل إلى الجنين عبر المشيمة، وأن يصل إلى كافة الأنسجة. لكنه يتوضع بشكل خاص في الأنسجة الشحمية. وكلما كانت الأعضاء أكثر تعقيداً وتخصصاً في وظائفها كانت أكثر عرضة لتأثيرات الغول السمية. فلا عجب حين نرى أن الدماغ والكبد والغدد  الصم من أوائل الأعضاء تأثراً بالخمر حيث يحدث الغول فيها اضطرابات خطيرة.

ومن تأثيرات الخمر على جهاز الهضم أنه يؤدي مرور الخمر في الفم إلى التهاب وتشقق اللسان كما يضطرب الذوق نتيجة ضمور الحليمات الذوقية، ويجف اللسان وقد يظهر سيلان لعابي مقرف. ومع الإدمان تشكل طلاوة بيضاء على اللسان تعتبر مرحلة سابقة لتطور سرطان اللسان وتؤكد مجلة medicin أن الإدمان كثيراً ما يترافق مع التهاب الغدد النكفية.

و الخمر يوسع الأوعية الدموية الوريدية للغشاء المخاطي للمري مما يؤهب لتقرحه ولحدوث نزوف خطيرة تؤدي لآن يقيء المدمن دماً غزيراً. كما تبين أن 90% من المصابين بسرطان المريء هم مدمنوا خمر.

وفي المعدة يحتقن الغشاء المخاطي فيها ويزيد افراز حمض كلور الماء والببسين مما يؤهب لإصابتها بتقرحات ثم النزوف وعند المدمن تصاب المعدة بالتهاب ضموري مزمن يؤهب لإصابة صاحبها بسرطان المعدة الذي يندر جداً أن يصيب شخصاً لا يشرب الخمر.

وتضطرب الحركة الحيوية للأمعاء عند شاربي الخمر المتعدين وتحدث التهابات معوية مزمنة واسهالات متكررة عند المدمنين، وتتولد عندهم غازات كريهة ويحدث عسر في الامتصاص المعوي.

وهكذا، يمكن إيراد التفاصيل الكثير في هذا الباب، والتي قد تنوب وحدها عن ألف موعظة وموعظة في ذم الخمر وبيان مضارها.

 



([1])  التفسير الكبير:20/288.

([2])  وقد أجاز بعض السلف ذكر الحديث الضعيف في أبواب الفضائل، بشروط منها:

      1- ألا يكون الضعف شديداً.

      2- أن يكون الحديث مندرجاً تحت أصل عام.

      3- ألا يعتقد عند العمل به ثبوته.

      ولا يخفى أن هناك فرقاً بين ذكر الحديث الضعيف والاحتجاج به ؛ فإن ذكره لا يعني إثبات حكم شرعي به. انظر شرح الألفية للسخاوي: 1 /283.

([3])  مسلم.

([4])  ولهذا يستحب أن يوقف عند )ولقد همت به ويبتدئ ) وهم بها على أن المعنى لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فقدم جواب لولا ويكون همه منتفيا، انظر: الإتقان:232.

([5])  في ظلال القرآن: 1981.

([6])  في ظلال القرآن: 1981.

([7])  انظر التفاسير التالية، والتي نستغني بذكرها هنا عن إيراد تفاصيل التوثيقات: القرطبي: 9/166، البيضاوي: 3/282، الطبري: 12/183، الدر المنثور: 4/521، الألوسي: 3/411، الثعالبي: 2/232، وغيرها.

([8])  الطبري: 12/183.

([9])  والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه؛ ومن استفحاشهم لذكره مجردا أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح فيقولون: الطويل الأذنين؛ كما يكنى عن الأشياء المستقذرة. وقد عد في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا وإن بلغت منه الرجلة. ولا نرى أن هذا من مساوئ الآداب ولا من المروءة في شيء، بل إن الله U من علينا به، فقال U :) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ((النحل:8)، وكان r وهو أشرف الخلق يركبه.

([10])  رواه أحمد بإسناد جيد، المسند:5/256.

([11])  رواه مسلم: 1/381.

([12])  مسلم.

([13])  مالك والترمذي.

([14])  رَوَاهُ الْتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح، وفي رواية غير الترمذي :« احفظ اللَّه تجده أمامك، تعرف إِلَى اللَّه في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا ».

([15])  قال ابن رجب :« وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين حتى قال بعض العلماء :« تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش فواأسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه »، قال ابن رجب :« وقد أفردت لشرحه جزء كبيرا »، وسنعرض لما يتعلق منه بالتربية في محله من هذا الجزء.

([16])  أبو داود والترمذي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.

([17])  التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

([18])  البخاري عن ابن عباس مرفوعاً.

([19])  البخاري ومسلم.

([20])  أحمد والترمذي والنسائي.

([21])  الصغير الأذن.

([22])  مسلم.

([23])  البخاري.

([24])  مسلم وأبو داود وغيرهما.

([25])  مسلم وغيره.

([26])  الترمذي وأحمد والحاكم.

([27])  أحمد.

([28])  البخاري.

([29])  ابن حبان والحاكم وابن ماجة.

([30])  البخاري.

([31])  البخاري وأبو داود.

([32])  مسلم.

([33])  البخاري.

([34])  البخاري ومسلم.

([35])  انظر: تلبيس إبليس، ص 123.

([36])  رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

([37])  في الحقيقة هناك خلاف بين علماء النفس في هذا الأمر:

فبعضهم يرى أن للخرافة بُعداً أساسياً في الحضارة، وإن توظيفها في تأهيل الأطفال وإعدادهم - لكي يكونوا عناصر فاعلة في إطار الجماعة التي ينتمون إليها - أمر لا شك فيه، خاصة تلك الخرافات التي تروى في نطاق الأسرة، والتي تتوجه أساساً إلى تربية الطفل، وتنمية خياله وقدراته، الذهنية والوجدانية، حين تقدم له نماذج من السلوك الإنساني، فتكون أداة للمعرفة في تشكل تصوراته عن الكون، والمحيط الاجتماعي الذي يحيا فيه.

وبعضهم يعترض على استخدامها في أدب الأطفال، بل يعترض على كل الأنماط الحِكائية التي تستخدم الخيال الواسع والوسائل السحرية، والتي ترتكز على ارتحال الأبطال إلى عالم المجهول، عالم الأرواح، والشياطين، والأشباح، دون الاهتمام بتفاوت هذه الأنماط في تصويرها لهذا العالم، وعلاقته بالعالم الواقعي.

وتستند هذه النظرة إلى القول: إنَّ هذا العالم الخرافي أو الأسطوري من شأنه إبعاد الطفل عن معرفة ذاته، وتغريبه عن محيطه، وكيفية التعامل معه، وتقديم حلول جاهزة للمشاكل العويصة التي تتطلَّب نِضالاً مريراً في بعض الأحيان.

ولهذا ينادون بِعَقْلَنَة ما يقدَّم للطفل في هذا المجال، ومراعاة الفئات العُمْريَّة التي توجه لها هذا النوع من القصص.

ويعود هذا الموقف الداعي إلى إسقاط الخرافة من أدب الطفل إلى نظرة بعض علماء الأنثروبولوجيا (علم الأجناس البشرية)، الذين استندوا إلى نظرة تطورية، ترى بأن الأسطورة تختص بزمنٍ تاريخي معين، كان فيه العقل الإنساني بدائياً، ولا يمكن أن تبقى حيَّة في العصر الحديث، الذي يسيطر عليه العلم سيطرة تكاد تكون مطلقة.

لكنَّ دراسات أخرى رفضت هذا التقسيم الحادّ لتطور العقل الإنساني، فالإنسان - كما ترى - يلجأ إلى القُوى الغَيبيَّة، المتمثِّلة في الأساطير، في أية مرحلة من مراحل تطوّره، كلما واجهته صعوبات لا يستطيع السيطرة عليها أو تفهمها.

واتجهت دراسات أخرى إلى نفي التعارض بين الأسطورة والعلم، لأنَّ كُلاًّ منهما يعمل في مجال خاص به، ويُلبِّي حاجات مختلفة في النفس الإنسانية.

([38])  الإحياء: 1/28.

([39])  الظلال: 2265.

([40])  وكمثال على ذلك هذه النصوص التي سيقت في تفسير كلب أهل الكهف: فقد أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وكلبهم} قال: اسم كلبهم قطمور، وأخرج عن الحسن قال: اسم كلب أصحاب الكهف، قطمير، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قلت لرجل من أهل العلم: زعموا أن كلبهم كان أسدا، قال: لعمر الله ما كان أسدا، ولكنه كان كلبا أحمر خرجوا به من بيوتهم يقال له، قطمور، وأخرج ابن أبي حاتم عن كثير النواء قال: كان كلب أصحاب الكهف أصفر، وأخرج من طريق سفيان قال: قال رجل بالكوفة يقال له: عبيد وكان لا يتهم بكذب، قال: رأيت كلب أصحاب الكهف أحمر كأنه كساء انبجاني، ومن طريق جويبر، عن عبيد السواق قال: رأيت كلب أصحاب الكهف صغيرا، باسطا ذراعيه بفناء باب الكهف، وهو يقول: هكذا يضرب بأذنيه، وأخرج عن عبد الله بن حميد المكي في قوله: {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} قال: جعل رزقه في لحس ذراعيه.

([41])  وقد زعم بعضهم أن المراد بالصخرة هنا أنها صخرة تحت الأرضين السبع، وهذا من تحريف المعنى القرآني الناشئ من تكلف البحث عن التفصيل كما ذكرنا سابقا، لأن المراد أن هذه الحبة في حقارتها لو كانت داخل صخرة فإن اللّه سيبديها ويظهرها بلطيف عمله، كما قال رسول اللّه rلو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائناً ما كان » أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.

([42])  وهو بمعنى العليم ولكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة ويسمى صاحبها خبيرالمقصد الأسنى.

([43])  بل ورد في الحديث اعتبار الأمثال قسما من أقسام القرآن الكريم، فقد أخرج البيهقي عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله rإن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال »  .

([44])  الظلال: 2191.

([45])  الظلال: 2099.

([46])  وهو السؤال المحير للفهم المشكل على سامعه.

([47])  البخاري.

([48])  البخاري: 2/863.

([49])  أي يذهب خيارهم ويبقى أرذالهم.

([50])  أي اختلطت وفسدت.

([51])  ابن ماجة: 2/369.

([52])  مسلم: 2/888.

([53])  أبو داود:2/358.

([54])  انظر هذا المثل في « الكلمة الرابعة » من « الكلمات » من « رسائل النور ».

([55])  انظر « استخدام رسول الله r الوسائل التعليمية » لحسن بن علي البشاري، من سلسلة « كتاب الأمة » العدد: 77، جمادى الأولى-  1421 هـ.

([56])  انظر هذه المعلومات في « الله والعلم الحديث » لعبد الرزاق نوفل، ط: دارالناشر العربي  الطبعة الثالثة   1393هـ  1973 م.

([57])  انظر: د. محمد عز الدين توفيق،  فضيلة الشكر..العملة النادرة في هذا العصر، مجلة البيان: 114، ص:68.

([58])  جريدة الشرق اللبنانية 26 تشرين الثاني 2002 عدد 88.

([59])  انظر: روائع الطب الإسلامي  د. محمد نزار الدقر، ونظرات في المسكرات  د. أحمد شوكت شطي.