المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: الأساليب الشرعية لتربية الأولاد |
الناشر: دار الكتاب
الحديث |
الفهرس
والأصل في هذا الأسلوب قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ
الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ((لقمان:12)، فقد ذكر الله تعالى ما
اتصف به لقمان u من الحكمة والإيمان والخلق، ثم رتب عليه بعد ذلك موعظته لابنه،
فقال تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ
وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ)، وفي ذلك دليل على تقديم القدوة على الموعظة، بل لا تؤتي الموعظة أكلها
ما لم يصاحبها كون الواعظ قدوة حسنة، تصدق جوارحه ما ينطق به لسانه.
والقدوة التي نريدها في هذا الأصل لا تقتصر على
الوالدين، بل تشمل كل من خولت له مسؤولية من المسؤوليات ترتبط بها تربية النشء،
وكمثال على ذلك مسؤولية الإعلام في إعطاء القدوة، (فالإعلام قد يقدم مثلا الفنان
على أنه قدوة، أو يقدم اللاعب على أنه قدوة، أو يقدم الوجيه والثري على أنه قدوة،
أو يقدم الشخصيات المرموقة اجتماعيا بغض النظر عن كفاءتها وبغض النظر عن موقعها في
دين الله عز وجل، وبغض النظر عن التزامها في السلوك والأخلاق)
وهذا التقديم له خطره في تصور الطفل
للكمال الإنساني الذي هو غاية كل إنسان صغيرا كان أو كبيرا، فلهذا لو سألنا
المستهلكين لهذا الإعلام من غير تمييز، بل لو أمسكنا أصغر طفل وسألناه: ماذا تتمنى
أن تكون؟، فلن ينطق إلا بأسماء أولئك الأشخاص الذين مدحهم المجتمع على لسان
الإعلام وفرح لهم وعظمهم ووقرهم وقدرهم، فلذلك ـ وبالفطرة التي جبل عليها ـ يحب أن
يكون مثلهم[1].
وهكذا في سائر المؤسسات، فالمعلم
المدخن يعطي قدوة سيئة لتلاميذه، وسوف تحرق كل معلوماته عن التدخين، بمجرد سيجارة
واحدة يشعلها.
ذلك أن الصبي ينظر إلى الأفعال قبل
أن يسمع للأقوال، فلذلك كان مجرد السلوك الحسن كافيا في أكثر الأحيان عن المبالغة في
المواعظ والزجر ونحوها من الأساليب:
(فإذا
أردنا أن نغرس الصدق، فإن علينا أن نكون أولا صادقين.
وإذا أردنا أن نغرس الأمانة في نفوس
أبنائنا، فعلينا أن نكون أمناء في أنفسنا وسلوكنا.
وإذا أردنا أن نغرس في نفوس أبنائنا
حسن الخلق، فعلينا أن نري أبناءنا في كلامنا ومواقفنا، وغضبنا ورضانا: حسن الخلق،
وضبط اللسان، وعفة القول، والبعد عن البذاءة أو الفحش)
بل إن التناقض السلوكي الذي يعيشه
الآباء هو الذي ينحرف بسلوك الأبناء، بل يضعهم في شتات نفسي محير لا يتمكنون معه
من الاستفادة من نصح ولا الاتعاظ بموعظة.
ويخطئ كثير من المربين عندما يظنون
أن الأبناء أصغر من أن يلاحظوا سلوكهم، أو ينتبهوا لتصرفاتهم، فلذلك يطلقون
لأنفسهم العنان يتصرفون كما تملي أهواؤهم لا كما ينبغي أن يراهم النشء.
ولهذا اعتبر المجاهر بالمنكر في
الشرع أخطر من المسر به لما يشيعه من المنكرات بجهره ودعوته لها بفعله، قال - صلى
الله عليه وسلم -:(كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل الرجل
بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره
ربه فيصبح يكشف ستر الله تعالى عنه)[2]
بل أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن
من سن سنة سيئة اقتدى به الناس في فعلها أنه يتحمل جميع أوزارهم من غير أن ينقص من
أوزارهم شيئا، قال - صلى الله عليه وسلم -:(من استن خيرا فاستن به كان له أجره
كاملا ومن أجور من استن به ولا ينقص من أجورهم شيئا، ومن استن سنة سيئة فاستن به
فعليه وزره كاملا ومن أوزار الذين استنوا به ولا ينقص من أوزارهم شيئا)[3]
بل نص القرآن الكريم، قال تعالى:﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ
أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ((النحل:25)، وقال تعالى:﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ
وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا
كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾
(العنكبوت:13)
وهذا
يبين الأثر الخطير للسلوك السيئ لمن يقتدى به، فتأثيره لا يتوقف على نفسه، بل يتعداه
إلى غيره، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم
الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل)[4]
***
ولأهمية القدوة، ربى الله تعالى رسله وأدبهم قبل
أن يكلفهم بتبليغ رسالات ربهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -:(أدبني ربي فأحسن
تأديبي)[5]، وكمثال على
ذلك من الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ أن الله تعالى ربى نبيه موسى u
تربية خاصة ليستطيع من خلالها قيادة بني إسرائيل.
ولهذا قال تعالى بعد تكليفه لموسى u
بالرسالة مبينا له تحضيره السابق للرسالة وتهيئته لأدائها:﴿ وَلَقَدْ
مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ
بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ
مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ
عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ
وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى
قَدَرٍ يَا مُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي((طـه:37 ـ 41)، ثم قال بعدها، وكأنه
رتب ذلك على قوله السابق:﴿ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا
فِي ذِكْرِي((طـه:42)
والدليل على ذلك أنه قد لا يكون
لموسى u في ذلك الموقف حاجة لأن يعرف تفاصيل حياته، ولكن الله تعالى ذكرها
له ليبين له أنه اصطنعه على عينه ليقوم بهذا الدور الخطير.
ومثل ذلك قول الله تعالى للرسول -
صلى الله عليه وسلم - في بدايات دعوته:﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى
وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾ (الضحى:6 ـ 8)
ثم رتب عليها قوله تعالى:﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾
(الضحى:9 ـ 11)
ومثل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم
-:(ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط)[6]، ويذكر بعض
الصحابة - رضي الله عنهم - قال:(كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجني الكباث[7] وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(عليكم بالأسود منه فإنه
أطيبه)قالوا:(أكنت ترعى الغنم)قال:(وهل من نبي إلا وقد رعاها)
والحكمة
من هذا أن يتعلم الأنبياء من سياسة الغنم كيفية سياسة الأمم، قال ابن حجر:(والذي
قاله الأئمة أن الحكمة في رعاية الأنبياء للغنم ليأخذوا أنفسهم بالتواضع وتعتاد
قلوبهم بالخلوة ويترقوا من سياستها إلى سياسة الأمم)
انطلاقا
من هذا نرى أن نجاح تربية نشء المسلمين يقتضي تحضير الآباء ليكونوا قدوة لأبنائهم،
وتعليمهم أصول التربية الإسلامية منذ نعومة أظفارهم، لأن التربية تحضير لحياة
ومستقبل لا حياة فرد أو مستقبله فقط، بل حياة ومستقبل الأمة جميعا.
ولهذا،
ربى الله تعالى موسى u عشر سنين في رعي الغنم ليهيئه
للرسالة التي كلف بها.
ولأجل
هذا نرى أن على المتحمسين من العلماء لرد الدعوات الداعية إلى تحديد نسل المسلمين
بالدعوة إلى تكثير المسلمين أن يضموا إليها الدعوة إلى تحسين نوع نسل المسلمين،
فلا خير في الغثاء الذي لا يزيد طين المسلمين إلا بلة.
انطلاقا
من هذا نحاول في هذا الفصل أن نذكر أمرين كلاهما له أهميته في هذا الجانب:
الأول: الصفات التي ينبغي على القدوة
أن يتصف بها ليستطيع التأثير في النشء تأثيرا نافعا.
الثاني: الضوابط الشرعية التي تضع هذا
الأسلوب في إطاره الشرعي الصحيح من جهة، وتجعل منه أسلوبا فاعلا من جهة أخرى.
وبما أن الفقهاء لم يتكلموا في هذه
الجوانب، فإن معظم استنباطاتنا في هذا الباب من القرآن الكريم وكتب السنة، وخاصة
من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالله تعالى جعله قدوة الآباء، كما هو قدوة
الأبناء، كما هو قدوة كل أصناف الخلق، قال تعالى:﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً(الأحزاب:21)
بما
أن الولد نسخة أبيه أو نسخة من مربيه، فإن الأصل الذي ننطلق منه في التعرف على
صفات المربي الناجح هي نفس الصفات التي نريدها في النشء الناجح.
ولكن
هناك صفات خاصة لها أهميتها الكبيرة في التربية، بحيث وردت النصوص في الدلالة على
ضرورة اتصاف المربي بها في أقصى غاياتها بقدر الإمكان.
وهذه
الصفات ترجع لثلاثة أمور:
· الصلة الحسنة بالله، لأن الصلة بالخلق
فرع من الصلة بالله، وبقدر حسن الصلة بالله تكون الصلة بالخلق، وهو ما عبرنا عنه
بالربانية.
· الشخصية المعتدلة المتوازنة التي
تراعي جميع الحاجات، وتطبق جميع الأحكام بموازين شرعية مضبوطة، وهو ما عبرنا عنه
بالتوازن.
·
قوة الشخصية، لأن الضعيف، يتأثر ولا يؤثر، وينفعل ولا
يتفاعل، وهوما عبرنا عنه بالهيبة والوقار.
وفقدان
أي عنصر من هذه العناصر الثلاثة له أثره التربوي الخطير، ففقدان الربانية ينشئ
الفسقة الغافلين، وفقدان التوازن ينشئ المتطرفين، وفقدان الهيبة يمنع المتلقي من
التأثر بالمربي، فلا يجديه صلاحه ولا توازنه.
وقد
خصصنا كل عنصر من هذه العناصر بمطلب من المطالب:
وهو أول وصف من أوصاف القدوة، لأن
المربي داعية لله، ولا يدعو إلى الله من لا يعرف الله ولا يعيش مع الله، ولهذا كان
السلف - رضي الله عنهم - يُرجعون كل قصور
عن بلوغ الكلام مراميَه في القلوب إلى ضعف القلب الصادر عنه قبل اتهام قلوب
السامعين، قال الحسن، وقد سمع متكلماً يعظ فلم تقع موعظته من قلبه ولم يرقَّ
لها:(يا هذا ! إن بقلبك لشراً أو بقلبي)
ولهذا، فإن لغياب الربانية والاتصال
بالله تأثيرا كبيرا في عدم نجاح الأساليب الأخرى للتربية، والتي تعتمد في غالبها
على اللسان، قال ابن عطاء الله:(كل
كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز)أي أن اللسان ترجمان القلب، فإذا تطهر
القلب من الأغيار وأشرقت عليه الأنوار اكتسى كلامه نوراً ينتفع به السامعون، أما
إذا تدنس القلب بالذنوب فإن كلام صاحبه يوجب قسوة القلوب.
ويشير إلى هذا الوصف[8] قوله تعالى:﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ
اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا
عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ
تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ((آل عمران:79)
لأن المصدر الذي يتلقى منه هؤلاء الصالحون هو الله تعالى،
والقبلة التي يتوجهون إليها هي قبلته تعالى، فالربانية
تعني العبودية لله سواء في المصدر والمنهج الذي تسير الحياة على أساسه، أو في
الوجهة والغاية التي يقصد بها ذلك السير.
أما الأولى فإن مصدر تلقي المربي
القدوة هو منهج الله تعالى المتجلي في وحيه، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً
مُبِيناً((النساء:174)، وقال تعالى:﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ
بِحَفِيظٍ((الأنعام:104)، وقال تعالى:﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي
لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ
بِوَكِيلٍ((يونس:108)
أما السنة المطهرة، فتعتبر من مصادر
التلقي، لا باعتبارها أقولا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أفعالا، وإنما
باعتبارها وحيا من الله، قال تعالى مخاطبا رسوله - صلى الله عليه وسلم -:﴿
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ
نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ((الشورى:52)، وقال تعالى:﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى((لنجم:3 ـ 4)
وأما الثانية، فإن غاية المربي
القدوة ووجهته هي (الله)، معرفته ومرضاته وحسن الصلة به، كما قال تعالى مبينا غاية الإنسان، ووجهته، ومنتهى
أمله، وسعيه، وكدحه في الحياة:﴿ يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ
كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ((الانشقاق:6)، وقال تعالى:﴿
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى((لنجم:42)، وقال تعالى:﴿ فَإِذَا
فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ((الشرح:7 ـ 8)
ولهذا يتكرر في القرآن الكريم الأمر
بإخلاص لدين الله، فنجد في سبع مواضع من القرآن الكريم هذا الشرط:﴿
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ مرتبطا بالدعاء والعبادة، قال تعالى:﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ
وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ((لأعراف:29)، وقال تعالى:﴿ فَادْعُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ((غافر:14)، وقال
تعالى:﴿ هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ((غافر:65)، وقال تعالى:﴿
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ((البينة:5)، وغيرها.
ومن أهم مظاهر تحقق القدوة بالربانية
زيادة على سلوكه المنضبط بضوابط الشرع وإخلاصه في ذلك لله رب العالمين هو إدمانه
على العبادة بمعناها الخاص، فيكثر من الصلاة والذكر وأنواع القربات، كما قال - صلى
الله عليه وسلم - في الحديث القدسي:(من
عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أفضل من أداء ما
افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه
الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن
سألني لأعطينه، ولئن دعاني لأجبيبنه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء
أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد منه)[9]
ومعنى
الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها للّه تعالى، فلا يسمع إلا للّه،
ولا يبصر إلا للّه أي ما شرعه اللّه له، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة اللّه
تعالى مستعيناً باللّه في ذلك كله. ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير
الصحيح:(فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي)
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - ـ
وهو القدوة الأول والرباني الأول العابد الأول ـ قرة عينه في الصلاة، وكان يقوم
الليل حتى تتفطر قدماه، ويبكي حتى تبلل دموعه لحيته، وتعجب زوجه عائشة من شدة تعبده
وبكائه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيقول لها (أفلا أكون عبدا
شكورا)
وكان يديم الصيام أحيانا حتى يظن من
حوله أنه سيصوم الدهر كله، وأحيانا يواصل الليل بالنهار في الصيام، فيمضي يومين أو
أكثر لا يتناول طعاما، بعد الغروب، وهو ما نهى عنه أصحابه ولهذا قالوا له: أتنهانا
عن الوصال وتواصل؟ فقال:(وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)[10]
وكان دائم الذكر لله تعالى في كل
أحواله، وعلى كل أحيانه، بقلبه ولسانه.
ومع ذلك كله كان دائم الخشية له
سبحانه، كثير الاستغفار، كثير التوبة، وهذا من كمال عبوديته، وعظم مقام الألوهية
عنده، وفي هذا كان يقول:(إنه ليغان على قلبي، وإني لاستغفر الله في اليوم مائة
مرة)[11]، وكان
يقول:(يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله عز وجل في اليوم مائة
مرة)[12]
وكان مع هذا أزهد الناس في الدنيا،
وأرضاهم باليسير منها، مع ما فتح الله له من الفتوح، وأفاء عليه من الغنائم، ولكنه
لقي ربه ولم يشبع من خبر الشعير ثلاثة أيام متوالية، وكان الشهر يمر تلو الشهر ولا
يوقد في بيته نار، إنما عيشه على الأسودين: التمر والماء.. وكان ينام على الحصير
حتى يؤثر في جنبيه.. ورآه عمر بن الخطاب يوما كذلك، فبكى توجعا له وإشفاقا عليه،
واقترح عليه بعضهم أن يهيئوا له فراشا ألين من هذا، فقال لهم:(ما لي وللدنيا؟ ما
مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم
راح وتركها)[13]
ولذلك استطاع - صلى الله عليه وسلم -
أن يؤثر في نفوس أصحابه ويحتويها ليعجنها بما يرضي الله، ويبلغها كمالها المستطاع.
وهكذا يكون المربي الناجح في تعامله
مع النشء الموكل به، فإنه إن عمل صالحا، واتصف بهذا الوصف فإن الله سيصلح ذريته
سواء بالأسباب التي يعرفها أو التي لا يعرفها، كما قال تعالى:﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ
لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً((الطلاق:2 ـ 3)
وقد ورد في النصوص ما يشير إلى حفظ الله
للذرية بسبب صلا ح آبائهم، كما قال تعالى في قصة موسى مع الخضر ـ عليهما السلام ـ:﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ
لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا
وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا
وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً((الكهف:82)
فالله تعالى أرسل نبيا ووليا من أجل
بناء جدار يحفظ كنز غلامين، وعلل ذلك بكون أبيهما كان صالحا[14].
ويشير
إلى هذا المعنى كذلك قوله تعالى:﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا
قَوْلاً سَدِيداً((النساء:9)،
قال القرطبي:(ففيه ما يدل على أن الله تعالى يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن
بعدوا عنه، وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته؛ وعلى هذا يدل
قوله تعالى:﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ
يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ((لأعراف:196))
وقد روي عن بعضهم قال: كنا
بالقسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محيريز، وابن الديلمي، وهانئ بن
كلثوم، فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان، فضقت ذرعا بما سمعت فقلت لابن
الديلمي: يا أبا بشر يودني أنه لا يولد لي ولد أبدا. فضرب بيده على منكبي وقال:(يا
ابن أخي لا تفعل، فإنه ليست من نسمة كتب الله لها أن تخرج من صلب رجل وهي خارجة إن
شاء وإن أبى. قال:(ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه، وإن تركت ولدك
من بعدك حفظهم الله فيك؟) قلت: بلى. فتلا علي هذه الآية ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا
قَوْلاً سَدِيداً((النساء:9))[15]
بل ورد في السنة ما ينص على هذا، فعن
جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -:(إن الله يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده وولد ولده وأهل
دويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم)[16]
***
وحتى لا يصبح الدين مجرد شعارات فارغة أو
محاضرات جافة أو كتبا تملأ بها الرفوف دون حياة وروح ورد التحذير من أن يكون حظ
المؤمن من دينه لسانه، فيقول ما لا يفعل، ويمارس خلاف ما يدعو إليه، قال تعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ
جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ((البقرة:205 ـ 206)
ولهذا ورد التحذير من مخالفة الفعال
للأقوال، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا
لا تَفْعَلُونَ((الصف:2 ـ 3)، وقال تعالى زاجرا بني إسرائيل:﴿
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ((البقرة:44)
وشبه الله تعالى اليهود الذين حملوا
التوراة ظاهرا وخالفوها باطنا بالحمير، فقال تعالى:﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا
التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ((الجمعة:5)
وشبه الذي يخالف قوله فعله بصورة
أخرى، هي صورة الكلب، قال تعالى:﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا
فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ((لأعراف:175 ـ 176)
ويصف الله تعالى المنافقين، فيقول
تعالى:﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ((النور:47)، وقال تعالى:﴿ وَيَقُولُونَ
طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ
الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُون((النساء: من الآية81)
وقد
ذكر - صلى الله عليه وسلم - في مشاهداته في عالم البرزخ بعض العذاب الذي يعانيه
هؤلاء، فقال - صلى الله عليه وسلم -:(ليلة أسري بي مررت على ناس تقرض شفاههم
بمقاريض من نار فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الخطباء من أهل الدنيا يأمرون
الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون)[17]
وأخبر
- صلى الله عليه وسلم - عن حالهم في الآخرة، فقال:(يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى
في النار فتندلق[18] أقتاب[19] بطنه فيدور
بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك ألم تكن
تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول: بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن
المنكر وآتيه)[20]
ولهذا اشتد خوف السلف الصالح - رضي
الله عنهم - من الوقوع في هذا الانفصام
بين العلم والعمل، وقال أبو عمرو بن مطر:
حضرت مجلس أبي عثمان الحيري الزاهد فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه
للتذكير، فسكت حتى طال سكوته، فناداه رجل كان يعرف بأبي العباس: ترى أن تقول في
سكوتك شيئا؟ فأنشأ يقول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي والطبيب مريض
قال:
فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج.
وكان
إبراهيم النخعي - رضي الله عنه -
يقول:(إني لأكره القصص لثلاث آيات، قوله تعالى:﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ
أَنْفُسَكُمْ((البقرة: من الآية44)، وقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا
تَفْعَلُونَ((الصف:2)، وقوله تعالى:﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ
عَنْهُ((هود: من الآية88)
وقال
سلم بن عمرو:
ما أقبح التزهيد من واعظ يزهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقا أضحى وأمسى بيته المسجد
إن رفض الدنيا فما باله يستمنح الناس ويسترفد
والرزق مقسوم على من ترى يناله الأبيض والأسود
***
ولكنا نحب أن ننبه هنا إلى مسألة مهمة، وهي أن
الربانية لا تعني العصمة، وبالتالي، فإن تقصير من هو محل قدوة في بعض الطاعات أو
وقوعه في بعض المعاصي ليس ذريعة لتركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس
ذريعة لترك غيره يقع فيما وقع فيه.
لأن الله تعالى في الآية السابقة لم يوبخهم على الأمر بالبر، وإنما وبخهم
على ترك العمل به، وقد قال الحسن البصري - رضي الله عنه - لمطرف بن عبدالله: عظ أصحابك، فقال: إني أخاف
أن أقول ما لا أفعل، قال: يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول، ويود الشيطان أنه قد ظفر
بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.
وروى
مالك عن سعيد بن جبير - رضي الله عنه -
أنه كان يقول:(لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا
يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر)، وعلق عليه مالك بقوله:(وصدق،
من ذا الذي ليس فيه شيء)
وهو ثمرة من ثمار التحقق بالوصف
السابق، وفرع من فروعه، لأن الرباني الذي يجعل غايته هي رضوان الله، ويجعل وسيلته
هي تحقيق أوامره في أعلى درجاتها لا بد أن يتحقق بالتوازن، فلا يميل به الغلو إلى
أي جهة من الجهات.
وذلك لأن التوازن خاصية من خصائص هذا
الدين الأساسية سواء في العقيدة أو السلوك، فلذلك كان كل كل من اشتط أو وقع في
الغلو منحرفا عن الدين بحسب غلوه وتطرفه.
ولهذا لما تصور بعضهم أن حقيقة
العبادة وكمالها في التفرغ لها حسب بعض صورها أنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ذلك إنكارا شديدا، مبينا لهم طريق الاعتدال، ومنهج التوازن، وهو طريقه ومنهجه -
صلى الله عليه وسلم -، أي سنته التي يجب اتباعها، ولا يجوز رفضها، قال - صلى الله
عليه وسلم - للثلاثة الذين سألوا عن عبادته من أزواجه، فلما عرفوها تقالوها[21]، ثم برروا ذلك بقولهم:(أين نحن من رسول الله، وقد غفر الله له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر؟)، ثم قال أحدهم:(أما أنا فأصوم الدهر، ولا أفطر)، وقال
الثاني:(وأنا أقوم الليل فلا أرقد)، وقال الثالث:(وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج
أبدا)، فلما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - مقالتهم جمعهم وخطب فيهم
قائلا:(إنما أنا أخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج
النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)
وسر ذلك أن هؤلاء غابت عنهم كثير من
الفرائض التي تجعل حياتهم متوازنة معتدلة لا يغلب فيها جانب جانبا، فطلبوا عبادة
الله بما أحبوا لا بما أحب، مع أن أفضل العبادة هي أن يؤدي المؤمن ما طلب منه
أولا.
وكمثال على ذلك ما روي أنه لما آخى
النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء
فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في
الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال له: كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل
حتى نأكل. فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم
فقال له: نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصليا جميعا، فقال له سلمان:
إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، لأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه.
فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم
-:(صدق سلمان)[22]
فأبو الدرداء - رضي الله عنه - في هذا الحديث لاحظ ناحية تصور أنها هي الأصل،
وغابت عنه نواح أخرى لا تقل عن الناحية التي لا حظها، وهي حق زوجه، بل حق نفسه في
الراحة لأن الله لم يخلق لنا هذه الأجساد لنعذبها، بل لنطيعه بها زيادة على أن
قصور هذه الأجساد سيمنعه من عبادات أخرى كثيرة.
ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم -
يلاحظ في التكاليف طاقة البشر، لأن العبادات موجهة للبشر، فعندما واصل بعضهم نهاه،
فلما قالوا:(إنك تواصل؟)قال:(إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)[23]
بل كان - صلى الله عليه وسلم - ـ كما
تصف عائشة ـ رضي الله عنها ـ ليدع العمل وهو يحب أن يعمل خشية أن يعمل به الناس
فيفرض عليهم[24].
ولما سمع - صلى الله عليه وسلم - بمقولة
عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - :(والله لأصومن النهار ولأقومن
الليل ما عشت)، قال رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:(أنت الذي تقول ذلك؟)،
قال عبد الله: فقلت له:(قد قلته بأبي أنت وأمي يا رَسُول اللَّهِ)، قال:(فإنك لا
تستطيع ذلك؛ فصم وأفطر ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها
وذلك مثل صيام الدهر)، قلت:(فإني أطيق أفضل من ذلك)قال:(فصم يوماً وأفطر يومين)،
قلت:(فإني أطيق أفضل من ذلك)، قال:(فصم يوماً وأفطر يوماً فذلك صيام داود u
وهو أعدل الصيام)[25] فقلت:(فإني أطيق أفضل من ذلك)، فقال رَسُول
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:(لا أفضل من ذلك)
وكان عبد الله بن عمرو - رضي الله
عنه - يقول بعد ذلك:(ولأن أكون قبلت
الثلاثة الأيام التي قال رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي من أهلي
ومالي)[26]
وفي رواية، قال له رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -:(ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟)، قلت:(بلى يا رَسُول
اللَّهِ)، قال:(فلا تفعل؛ صم وأفطر ونم وقم؛ فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك
حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر
ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإن ذلك صيام الدهر)، قال عبد
الله:(فشدّدْت فشُدِّدَ علي)قلت: يا رَسُول اللَّهِ إني أجد قوة. قال:(صم صيام نبي
اللَّه داود ولا تزد عليه)قلت: وما كان صيام داود؟ قال:(نصف الدهر)فكان عبد اللَّه
يقول بعد ما كبر:(يا ليتني قبلت رخصة رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -)
ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم -
ينهى عن السلوكيات التعبدية التي لا معنى لها، والتي هي مظهر من مظاهر تعذيب الجسد
الذي أمرنا بحفظه، فعن ابن عباس - رضي الله عنه -
قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه،
فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم،
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه)[27]
فلم يترك له - صلى الله عليه وسلم -
إلا الصوم لأنه هو العبادة الوحيدة من تصرفاته التي لها معنى، أما مكوثه في الشمس
وقيامه، فلا معنى له.
بل إنه - صلى الله عليه وسلم - نهى
عن القيام مع فضله العظيم إذا تعارض ذلك القيام مع حاجة الإنسان الطبيعية من
النوم، وعلل ذلك بعدم استفادة القائم من قيامه، قال - صلى الله عليه وسلم -:(إذا
نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله
يذهب يستغفر فيسب نفسه)[28]، وقال - صلى
الله عليه وسلم -:(إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما
يقول فليضطجع)[29]
ودخل - صلى الله عليه وسلم - مرة على
عائشة ـ رضي الله عنها ـ وعندها امرأة، فقال:(من هذه؟)، قالت: هذه فلانة، تذكر من
صلاتها، فقال - صلى الله عليه وسلم -:(مه[30] عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل اللَّه حتى تملوا[31])وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه)[32]
ولهذا، فإن التوازن الذي أراده الشرع
من المسلم يتحقق بالأداء الأمثل لأوامر الشرع، فهي الوحيدة الكفيلة برده إلى جادة
الاعتدال، لأن السلوك المتطرف ناتج من الهوى لا من الشرع.
فالذي يرفض المباحات مثلا، ويتصور أن
العبودية في الرثاثة والجوع، وتحريم الطيبات
كما صنعت المانوية في فارس، والبرهمية في الهند، والبوذية في الصين،
والرواقية في اليونان، والرهبانية في الديانة النصرانية، مخالف لقوله تعالى:﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ((لأعراف:31)
فالآية الكريمة داعية إلى التمتع
بالطيبات التي خلقها الله تعالى، بل إن الآية التي بعدها تعتبر القول بتحريمها
تقولا على الله تعالى، بل تنسب الزينة إلى الله وتضيفها إليه، وكأنها ترغب فيها،
قال تعالى:﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ((لأعراف:32)
ولكن السلوك المتوازن يستدعي علما
صحيحا، لأن السبب الرئيسي للتطرف هو الإخلاص الذي لم ينضبط بضوابط العلم.
ويكفي في تحقيق ذلك تتبع هديه - صلى
الله عليه وسلم - في كل سلوكياته، فهو الكفيل بالتربية المتوازنة المعتدلة، وقد
ذكر ابن القيم التوازن الذي كان عليه - صلى الله عليه وسلم -، والذي جعل كل طائفة
من الطوائف تأخذ ببعض من هديه وتنسبه إليها، فقال ـ جامعا بين احتجاج طائفة بسيرته
وسنته - صلى الله عليه وسلم - على فضل الفقير الصابر، واحتجاج معارضيهم بهما أيضا
على فضل الغني الشاكر ـ:(وما ينبغي أن يعلم أن كل خصلة من خصال الفضل قد أحل الله
رسوله r في أعلاها، وخصه بذروه سنامها، فإذا احتجت بحاله فرقة من فرق
الأمة التي تعرف تلك الخصال وتقاسمتها على فضلها على غيرها، أمكن للفرقة الأخرى أن
تحتج به على فضلها أيضا)[33]
ثم ذكر نماذج كثيرة عن هذا لا بأس من
ذكرها هنا، لأن قدوة المربي هو شخصه - صلى الله عليه وسلم - وهديه الرفيع، قال:
فإذا احتج به الغزاة والمجاهدون على أنهم أفضل الطوائف، احتج به العلماء على مثل
ما احتج به أولئك.
وإذا احتج به الزهاد والمتخلفون عن
الدنيا على فضلهم، احتج به الداخلون في الدنيا والولاية، وسياسة الرعية، لإقامة
دين الله، وتنفيذ أمره.
وإذا احتج به الفقير الصابر، احتج به
الغني الشاكر.
وإذا احتج به أهل العبادة على فضل
نوافل العبادة وترجيحها، احتج به العارفون على فضل المعرفة.
وإذا احتج به أرباب التواضع والحلم،
احتج به أرباب العز والقهر للمبطلين والغلظة عليه والبطش بهم.
وإذا احتج به أرباب الوقار والهيبة
والرزانة، احتج به أرباب الخلق الحسن والمزاح المباح الذي لا يخرج عن الحق، وحسن
العشرة للأهل والأصحاب.
وإذا احتج به أصحاب الصدع بالحق
والقول به في المشهد والمغيب، احتج به أصحاب المداراة والحياء والكرم أن يبادروا
الرجل بما يكرهه في وجهه.
وإذا احتج به المتورعون على الورع
المحمود، احتج به الميسرون المسهلون الذين لا يخرجون عن سعة شريعته ويسرها
وسهولتها.
وإذا احتج به من صرف عنايته إلى
إصلاح دينه وقلبه، احتج به من راعى إصلاح بدنه ومعيشته ودنياه، فإنه r
بعث لصلاح الدنيا والدين.
وإذا احتج به من لم يعلق قلبه
بالأسباب ولا ركن إليها، احتج به من قام بالأسباب ووضعها مواضعها وأعطاها حقها.
وإذا احتج به من جاع وصبر على الجوع،
احتج به من شبع وشكر ربه على الشبع.
وإذا احتج به من أخذ بالعفو والصفح
والاحتمال، احتج به من انتقم في مواضع الانتقام.
وإذا احتج به من أعطى لله ووالي
الله، احتج به من منع لله وعادى لله.
وإذا احتج به من لم يدخر شيئا لغد،
احتج به من يدخر لأهله قوت سنة.
وإذا احتج به من يأكل الخشن من القوت
والأدم كخبز الشعير والخل، احتج به من يأكل اللذيذ الطيب كالشوي والحلوى والفاكهة
والبطيخ ونحوه.
وإذا احتج به من سرد الصوم، احتج به
من سرد الفطر، فكان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم.
وإذا احتج به من رغب عن الطيبات
والمشتهيات، احتج به من أحب أطيب ما في الدنيا، وهو النساء والطيب.
وإذا احتج به من ألان جانبه وخفض
جناحه لنسائه، احتج به من أدبهن وآلمهن وطلق وهجر وخيرهن.
وإذا احتج به من ترك مباشرة أسباب
المعيشة بنفسه، احتج به من باشرها بنفسه فآجر واستأجر، وباع واشترى، واستسلف وأدان
ورهن.
وإذا احتج به من يجتنب النساء
بالكلية في الحيض والصيام، احتج به من يباشر امرأته وهي حائض بغير الوطء، ومن يقبل
امرأته وهو صائم.
وإذا احتج به من رحم أهل المعاصي
بالقدر، احتج به من أقام عليهم حدود الله فقطع السارق ورجم الزاني وجلد الشارب.
وإذا احتج به من أرباب الحكم
بالظاهر، احتج به من أرباب السياسة العادلة المبنية على القرائن الظاهرة، فإنه حبس
في تهمة وعاقب في تهمة.
وهو أثر من آثار الصفات السابقة، وله
دوره التربوي الكبير على الصغار والكبار جميعا، فالنفوس مجبولة على الاقتداء بمن
تعظمه وتهابه وتوقره، وعلى النفور ممن تحتقره وتزدريه ولا ترى له هيبة ولا
احتراما.
وهذا تابع للسنة الاجتماعية المعروفة
من تبعة المغلوب دين الغالب، ولهذا قال تعالى ليحي u:﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ((مريم: من
الآية12)
وقد قال عمر - رضي الله عنه - جامعا بين الأمر بين طلب العلم وطلب
الوقار:(تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم)، وقال الحسن على أثره:(اطلبوا
العلم وزينوه بالوقار والحلم)
وقد كان هذا من سنة السلف الصالح -
رضي الله عنهم - في التربية، قال أحمد بن
سنان: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يُتحدث في مجلسه، ولا يُبْرى قلم، ولا يقوم أحد
كأنما على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة، فإن تُحُدِّث أو بُري قلم صاح ولبس
نعليه ودخل)
وقد روي أن بعض المحدثين دخل على
الوليد بن يزيد - وهو خليفة - فقال له الوليد:(يا ربيعة ! حدثنا)، فقال:(ما أحدِّثُ
شيئاً)، فلما خرج من عنده قال:(ألا تعجبون من هذا الذي يقترح عليَّ كما يقترح على
المُغنية: حدثنا يا ربيعة)
وكان الشيخ عبد القادر الجيلاني
يقول:(لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله - عز وجل - ومن
هرب مني ومن أمثالي لا يفلح)
وسر ذلك أن القدوة سواء كان أبا أو
معلما أو غيرهما إنما يربي بالعلم، فسلوك الطفل كسلوك غيره أثر من آثار العلم،
والإنسان معجون بطينة أفكاره، فلذلك إن احترم العلم وعرف مكانته ومنزلته الرفيعة
كان له تأثيره التربوي الحسن، لكنه إن أهين لم يعد له أي تأثير ولم يعد للمعلم أي
سلطة.
وقد روي عن الإمام مالك من ذلك في
تربيته لأصحابه على هذا المعنى الشيء الكثير، فقد كان - رضي الله عنه - إذا أراد أن يحدث توضأ وتبخر وتطيب وجلس على
صدر فراشه وسرح لحيته وتمكن في الجلوس بوقار وهيبة ثم حدث، فقيل له في ذلك
فقال:(أحب أن أعظم حديث النبي - صلى الله
عليه وسلم - ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنا)
وكان يكره أن يحدث في الطريق وهو
قائم أو مستعجل، قال معللا ذلك:(أحب أن يفهم ما أحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)
وكان إذا رفع أحد صوته عنده
قال:(اغضض من صوتك فإن الله تعالى يقول:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ((الحجرات: من الآية2)، فمن
رفع صوته عند حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكأنما رفع صوته عند رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -)
وهذا الوصف يستدعي من القدوة توفير
أسباب معينة تساعد على جلب الوقار له، فالوقار أمر مكتسب، وقد ذكرنا قول الحسن -
رضي الله عنه -:(اطلبوا العلم وزينوه بالوقار والحلم)
فلهذا كان من السلف - رضي الله عنهم
- من ينفق في ذلك جزءاً كبيراً من عمره في
تحصيل هذا الأدب، قال الحسن - رضي الله عنه - :(إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه
السنتين ثم السنتين)
ومكث يحيى بن يحيى عاماً كاملاً يأخذ
من شمائل مالك - رحمه الله - بعد أن فرغ من علمه)
وكان أبو حنيفة - رضي الله عنه
- يقول:(الحكايات عن العلماء أحب إليَّ من
كثير من الفقه ؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم)
وعن الحسن قال:(قد كان الرجل يطلب
العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه وبصره، وبره)
وسنذكر هنا بعض الأسباب التي تجلب
الهيبة والوقار للقدوة، وهي كلها من هديه - صلى الله عليه وسلم -، فهو القدوة
الأول لكل قدوة:
لأن المظهر هو ما يراه المتلقي، فإن
رآه حسنا محترما استقرت في نفسه الهيبة والاحترام، وإلا استقر الازدراء والاحتقار،
وقد ذكرنا عن الإمام مالك - رضي الله عنه -
اهتمامه بهندامه ورائحته، وكذلك كل المربين من العلماء، عن عبد الملك بن
عبد الحميد الميموني قال:(ما أعلم أني رأيت أحدا أنظف ثوبا ولا أشد تعاهدا لنفسه
في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه ولاأنقى ثوبا وأشده بياضا من أحمد بن حنبل)
ولهذا كان من سنة رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - النظر في المرآة لأجل تحسين الهيئة، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ
قالت: أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ركوة فيها ماء، فاطلع فيها فرأى رأسه ولمّته ووجهه، فقلت له في ذلك فقال:(إذا
خرج الرجل إلى إخوانه فليهيء من نفسه، فإن الله
جميل يحب الجمال)[34]
وقد ورد في السنة في هذا النصوص
الكثيرة الدالة على وجوب مراعاة هذه الناحية، لا على مجرد استحبابها كما ينص أكثر
الفقهاء، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -
قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى رجلا شعثا قد تفرق شعره، فقال:(أما كان
يجد هذا ما يسكن به شعره)[35]، ورأى رجلا
آخر وعليه ثياب وسخة، فقال:(أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه)[36]
أما إن كان ميسور الحال، فيستحب له
أن تظهر نعمة الله عليه، فعن بعضهم قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثوب دون، فقال: ألك مال؟ قال: نعم قال: من
أي المال؟ قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق قال: (فإذا آتاك
الله مالا، فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته)[37]
وفي حديث آخر عنه - صلى الله عليه
وسلم - ود ما هو أكثر من ترغيبا، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(ما أنعم الله
على عبد نعمة إلا وهو يحب أن يرى أثرها عليه)[38]
وعندما أساء بعض الصحابة - رضي الله
عنهم - فهم الكبر، فتصوره في المظهر الجمالي
الذي فطرت على الحرص عليه القلوب، نبه - صلى الله عليه وسلم - إلى أن منبت الكبر
القلب، وليس الصورة الظاهرة أو ما يكسوها من ثياب، فعن عبد الله بن مسعود - رضي
الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -:(لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من
كان في قلبه مثقال حبة من كبر)فقال رجل: يا رسول الله إني ليعجبني أن يكون ثوبي
غسيلا ورأسي دهينا وشراك نعلي جديدا، وذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه أفمن الكبر
ذاك يا رسول الله؟ قال: لا ذاك الجمال إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه
الحق وازدرى الناس)[39]
بل كان - صلى الله عليه وسلم - يبين
كيفية تحسين المظهر، مع أنه من أحوال الناس العادية، قال - صلى الله عليه وسلم
-:(من كان له شعر فليكرمه)[40]
وعندما جاءه رجل ثائر الرأس واللحية،
أشار إليه الرسول ،كأنه يأمره بإصلاح شعره، ففعل، ثم رجع، فقال النبي - صلى الله
عليه وسلم -: (أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟)[41]
وقد ورد في السنة التنصيص على ما
يسمى بـ (خصال الفطرة)، وهي ما تستدعية الفطرة السليمة من إزالة قاذورات معينة في
الجسم، يستقذرها الطبع السليم، قال ابن تيمية:(وجميع هذه الخصال مقصودها النظافة
والطهارة وإزالة ما يجمع الوسخ والدرن من الشعور والأظفار والجلد)[42]
ولا شك في تأثير مثل تلك القاذورات
في تنفير المتلقين من مربيهم، قال ابن حجر: (ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينية
ودنيوية تدرك بالتتبع , منها تحسين الهيئة , وتنظيف البدن جملة وتفصيلا ,
والاحتياط للطهارتين , والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يتأذى به من رائحة
كريهة , ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعباد الأوثان , وامتثال
أمر الشارع , والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى:﴿ وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾(غافر:64)، لما في المحافظة على هذه الخصال من
مناسبة ذلك , وكأنه قيل: قد حسنت صوركم، فلا تشوهوها بما يقبحها, أو حافظوا على ما
يستمر به حسنها , وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة وعلى التآلف المطلوب ,
لأن الإنسان إذا بدأ في الهيئة الجميلة كان أدعى لانبساط النفس إليه , فيقيل قوله
, ويحمد رأيه , والعكس بالعكس)[43]
وقد ورد التنصيص على هذه الخصال في
أحاديث كثيرة صنفت فيها الرسائل الخاصة بها دلالة على أهميتها، ونرى أنه من الخطأ
التعامل بحرفية مع مثل هذه المسائل، فما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقصد الحصر، ولا التحديد أما قوله مثلا: (الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص
الشارب وتقليم الأظفار ونتف الآباط)[44]، فهو من باب
التمثيل لا من باب الحصر، قال ابن دقيق العيد:(دلالة [ من ] على التبعيض فيه أظهر
من دلالة هذه الرواية على الحصر , وقد ثبت في أحاديث أخرى زيادة على ذلك، فدل على
أن الحصر فيها غير مراد، واختلف في النكتة في الإتيان بهذه الصيغة , فقيل: برفع
الدلالة وأن مفهوم العدد ليس بحجة , وقيل: بل كان أعلم أولا بالخمس ثم أعلم
بالزيادة , وقيل: بل الاختلاف في ذلك بحسب المقام فذكر في كل موضع اللائق
بالمخاطبين , وقيل: أريد بالحصر المبالغة لتأكيد أمر الخمس المذكورة)[45]
ولأجل هذه المقاصد الشريفة، فإن
الراجح هو القول بوجوب هذه الخصال، قال ابن العربي: (عندي أن الخصال الخمس
المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة , فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة
الآدميين فكيف من جملة المسلمين)[46]، وقد تعقب بأن
الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهي النظافة لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب
للشارع فيها اكتفاء بدواعي الأنفس , فمجرد الندب إليها كاف.
ومثل هذا الاستدلال لا يصح من
منطلقه، لأن دواعي الأنفس مختلفة، والقول بالإيجاب لا يتنافى مع دواعي الأنفس، بل
يؤكدها.
وقد استدل بعضهم بأن الأحاديث دلت
على أن الفطرة بمعنى الدين , والأصل فيما أضيف إلى الشيء أنه منه أن يكون من
أركانه لا من زوائده حتى يقوم دليل على خلافه , وقد ورد الأمر باتباع إبراهيم u , وثبت أن هذه الخصال أمر بها إبراهيم u , وكل شيء أمر الله باتباعه فهو على الوجوب لمن
أمر به.
وهو دليل في غاية القوة، ومما يدل
كذلك على هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقت لهم في ذلك أوقاتا، فعن أنس -
رضي الله عنه - ، قال: (وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق
العانة أن لا يترك أكثر من أربعين يوما)[47]
ومع هذا ننبه إلى أن هذا المظهر هو
مجرد ناحية من نواحي جلب الوقار لا أنه الأصل ـ كما يفهم الكثير من الناس ـ وقد
قال الشاعر:
قلْ لمن يحسبُ الثيابَ على
المرْ ءِ (المرء)تُعْلي المقامَ أن
يتأدبْ
فجوادٌ من غيرِ سرجٍ لخيرٌ من حمارٍ عليه سرجٌ مذهَّبْ
وقال الآخر:
لا تحقرنَّ فتى لرثِّ ردائِه أو تكرمنَّ فتىً بدا في سُنْدُسِ
لا يخفضُ الإنسانَ أو يعلو بهِ خَلَقُ الثيابِ ولا جديدُ المَلْبَسِ
ولهذا ورد في النصوص النهي عن
المبالغة في انتقاء أنواع اللباس بحجة تحسين المظهر، لأن المظهر الحسن لا يعني فقط
اللباس الرفيع الغالي، والذي قد يدل على كبر صاحبه واستغراقه في الدنيا، وقد ورد
في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -:(من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه
دعاه الله يوم القيامة وهو على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء
يلبسها)[48]، وقال - صلى
الله عليه وسلم -:(من ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه قال الراوي أحسبه قال:
تواضعا كساه الله حلة الكرامة)[49]، وقال - صلى
الله عليه وسلم -:(إن الله عز وجل يحب المتبذل الذي لا يبالي بما لبس)[50]
ويروى أن أصحاب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ذكروا الدنيا يوما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:(ألا
تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان)[51]، والبذاذة هي
التواضع في اللباس برثاثة الهيئة وترك الزينة والرضا بالدون من الثياب.
وأخبرت عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن
الثياب التي مات فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرجت كساء ملبدا من
الذي يسمونه الملبدة وإزارا غليظا مما يصنع باليمن وأقسمت بالله لقد قبض رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - في هذين الثوبين والملبد المرقع)[52]، وعن ابن عمر
- رضي الله عنه - قال: توفى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وإن نمرة من صوف تنسج له[53].
وهكذا كان - صلى الله عليه وسلم - لا
يبالي بشيء من الدنيا، فقد روى أنه - صلى الله عليه وسلم - (أكل خشنا ولبس خشنا
لبس الصوف، واحتذى المخصوف)قيل للحسن:(ما الخشن؟)قال:(غليظ الشعير، ما كان - صلى
الله عليه وسلم - يسيغه إلا بجرعة من ماء)[54]
وروى عبادة بن الصامت - رضي الله عنه
- قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ذات يوم وعليه جبة من صوف ضيقة الكمين، فصلى بنا فيها ليس عليه شيء
غيرها)[55]
بل أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن
هذا حال الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ، فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم -
عن موسى u أنه كان عليه يوم كلمه ربه كساء صوف، وجبة صوف، وكمة[56] صوف، وسراويل صوف، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت)[57]، قال
عبدالله:(كانت الأنبياء لا يستحيون أن يلبسوا الصوف ويحلبوا الغنم ويركبوا الحمير)[58]
وقد يقال هنا: كيف ينسجم هذا مع ما
ذكرنا من حسن المظهر ؟
والجواب على ذلك: أن حسن المظهر لا
يعني اللباس وحده من جهة، بل يعني النظافة وخصال الفطرة ونحوها، ولا يعني من جهة
أخرى المبالغة في المظهر، لأن المبالغة فيه قد تستعبد الإنسان، بل تجلب له مسخرة
الناس، فكل شيء زاد عن حده انقلب إلى ضده.
زيادة على أن اللباس إن كان نظيفا
ساترا للعورة ولم يكن ثوب شهرة كان ذلك كافيا لجعله حسنا، فتعتبر الزيادة على ذلك
مذمومة تستعبد صاحبها.
ولهذا اعتبر - صلى الله عليه وسلم -
المستغرق في حب اللباس عبدا له، فقال - صلى الله عليه وسلم -:(تعس عبد الدينار
وعبد الدرهم وعبد الخميصة[59] إن أعطي رضي، وإن لم يعط تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش طوبي
لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في
الحراسة وإن في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع)[60]
ولهذا كان التواضع في اللباس شعار
الصالحين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو
أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك)[61]
ونظر - صلى الله عليه وسلم - إلى
مصعب بن عمير - رضي الله عنه - مقبلا عليه
إهاب كبش قد تنطق به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(انظروا إلى هذا الذي نور
الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذيانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيته وعليه
حلة شراها أو شريت له بمائتي درهم فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون)[62]
وعن علي - رضي الله عنه - قال: خرجت في يوم شات من بيت رسول الله، وقد
أخذت إهابا مطويا فجوبت[63] وسطه فأدخلته في عنقه وشددت وسطى فحزمته بخوص النخل وإني لشديد
الجوع، فذكر الحديث)[64]
وروى مالك عن أنس - رضي الله عنه
- قال: لقد رأيت عمر - رضي الله عنه
- وهو يومئذ أمير المؤمنين، وقد رقع ما
بين كتفيه ثلاث رقاع لبد بعضها على بعض.
وعن عبدالله بن شداد قال: رأيت عثمان
بن عفان - رضي الله عنه - يوم الجمعة على
المنبر عليه إزار عدني غليظ ثمنه أربعة دراهم أو خمسة وريطة كوفية ممشقة)[65].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:(لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل
عليه رداء إما إزار وإما كساء قد ربطوها في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين
ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته)[66]
ولتواضع القدوة في لباسه، مع تحسينه
له أثر تربوي كبير، لأن الوقار المصطنع والهيبة الزائفة تصرف المتلقي عن
الاستفادة، فتمنعه الهيبة من السؤال أو المناقشة أو الاعتراض.
المراد بحسن السمت الالتزام بطريقة وهيئة الصالحين في أحوالهم جميعا من
كلام وفعال وتعاملات وملبس وهيئة وحركات وسكنات وغيرها، والتي تولت تفصيلها كتب
السنة والرجال.
بل قبلها القرآن الكريم الذي أعطى نماذج
كثيرة لهيئات الصالحين وسلوكهم، منها سلوك وهيئة (عباد الرحمن)الذين بدأ الله
تعالى وصفهم بقوله:﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى
الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا
سَلاماً((الفرقان:63)
ولهذا السمت الحسن التأثير الكبير في
إعطاء هيبة ووقار للملتزم به، لأن تصرفات الإنسان هي التي تجلب القلوب له أو
تنفرها عنه.
ولهذا كانت النبوة، وهي المحل الذي
يجلب القلوب هي مصدر التأسي، ولهذا اعتبر - صلى الله عليه وسلم - السمت الحسن من
النبوة، فقال:(الهَدْي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً
من النبوة)[67]
وهذا يبين لنا أن الذي يتحلى بالسمت
الصالح والهدي الصالح يُقتدى به ويحاكي بعض صفات النبوة، وكفى بذلك شرفاً.
وسنذكر هنا انطلاقا من النصوص بعض
مظاهر السمت الحسن، والتي لها أثرها الكبير في ربط القلوب بالقدوة واستفادتهم منه:
وهو ما جعله تعالى أول صفات عباد
الرحمن، قال تعالى:﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى
الْأَرْضِ هَوْناً ﴾، والهون مصدر الهين وهو من السكينة والوقار، أي يمشون
على الأرض حلماء متواضعين في اقتصاد وتؤدة وحسن سمت.
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم
-:(أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع)[68]
وقد عقد ابن القيم فصلا في هديه -
صلى الله عليه وسلم - في مشيه وحده ومع أصحابه، فقال:(كان - صلى الله عليه وسلم -
إذا مشى، تكفَّأ تكفُّؤاً، وكان أسرَعَ الناس مِشيةً، وأحسنَها وأسكنها قال أبو
هريرة: ما رأيتُ شيئاً أحسنَ من رسول الله، كأن الشمسَ تجري في وجهه، وما رأيتُ
أحداً أسرع في مِشيته من رسول الله، كأنما الأرضُ تُطوى له، وإنا لَنجْهَدُ
أنفسَنا وإنه لغيرُ مُكْتَرِث.
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :(كان
رسولُ الله إذا مشى تكفَّأ تكفؤاً كأنما ينحطُّ مِنْ صَبَبٍ)وقال مرة::(إذا مشى،
تقلّع)، والتقلُّع: الارتفاعُ من الأرض بجملته، كحال المنحط من الصبب، وهي مِشية
أولي العزم والهِمة والشجاعة، وهي أعدلُ المِشيات وأرواحُها للأعضاء، وأبعدُها من
مِشية الهَوَجِ والمهانة والتماوت، فإن الماشيَ، إمَّا أن يتماوت في مشيه ويمشي
قطعة واحدة، كأنه خشبة محمولة، وهي مِشية مذمومة قبيحة، وإمّا أن يمشي بانزعاج
واضطراب مشي الجمل الأهوج، وهي مِشيةٌ مذمومة أيضاً، وهي دالة على خِفَّة عقل
صاحبها، ولا سيما إن كان يُكثرُ الالتفات حال مشيه يميناً وشمالاً، وإمّا أن يمشي
هَوْناً، وهي مِشية عبادِ الرحمن، كما وصفهم الله تعالى بها في كتابه.
وقد فسرها غيرُ واحد من السلف بأنها
المشي بسكينة ووقار من غير تكبُّر ولا تماوت، وهي مِشية رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -، فإنه مع هذه المِشية كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرضُ تُطوى له، حتى
كان الماشي معه يُجْهِدُ نفسَه ورسولُ الله غيرُ مُكْتَرِثٍ، وهذا يدل على أن
مِشيته لم تكن مِشية بتماوت ولا بمهانة، بل مشية أعدل المشيات.
وأما مشيه مع أصحابه، فكانوا يمشون
بين يديه وهو خلفهم، ويقول:(دَعُوا ظَهْرِي لِلْمَلاَئِكَةِ)ولهذا جاء في الحديث:(وكان
يسوقُ أصحابه)، وكان يمشي حافياً ومنتعِلاً، وكان يُماشي أصحابه فُرادى وجماعة،
ومشى في بعض غزواته مرة فَدميت أصبُعُه، وسال منها الدمُ، فقال:
هَلْ أَنْتِ إلاَّ أُصْبُعٌ
دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيت
وكان في السفر ساقَة أصحابه: يُزجي
الضعيفَ، ويُردفه، ويدعو لهم)[69]
وهو ما يشير إليه قوله تعالى:﴿
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً((الفرقان: من الآية63)
وقد وصف ابن القيم هديه - صلى الله
عليه وسلم - في كلامه، فقال:(كان - صلى الله عليه وسلم - أفصحَ خلق الله، وأعذبَهم
كلاماً، وأسرعَهم أداءً، وأحلاهم مَنْطِقاً، حتى إن كلامه لَيَأْخُذُ بمجامع
القلوب، ويَسبي الأرواح، ويشهدُ له بذلك أعداؤه.
وكان إذا تكلم تكلَّم بكلام مُفصَّلِ
مُبَيَّنٍ يعدُّه العادُّ، ليس بِهَذٍّ مُسرِعِ لا يُحفظ، ولا منقَطِع تخلَّلُه
السكتات بين أفراد الكلام، بل هديُه فيه أكملُ الهدي، قالت عائشة ـ رضي الله عنها
ـ:(ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْرُدُ سردَكم هذا، ولكن كان
يتكلَّم بكلام بَيِّنٍ فَصْلٍ يحفظه من جلس إليه)، وكان - صلى الله عليه وسلم -
كثيراً ما يُعيد الكلام ثلاثاً لِيُعقلَ عنه، وكان إذا سلَّم سلَّم ثلاثاً.
وكان - صلى الله عليه وسلم - طويلَ
السكوت لا يتكلم في غيرِ حاجة، يفتِتحُ الكلام ويختتمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع
الكلام، فصل لا فضول ولا تقصير، وكان لا يتكلم فيما لا يَعنيه، ولا يتكلم إلا فيما
يرجو ثوابه، وإذا كرِه الشيء: عُرِفَ في وجهه، ولم يكن فاحشاً، ولا متفحِّشاً، ولا
صخَّاباً. وكان جُلُّ ضحكه التبسم، بل كلُّه التبسم، فكان نهايةُ ضحكِه أن تبدوَ
نواجِذُه. وكان يضحكُ مما يُضحك منه، وهو مما يُتعجب من مثله ويُستغرب وقوعُه
ويُستندر)[70]
وقد وصفه ابن القيم فقال:(وأمَّا بكاؤه
- صلى الله عليه وسلم -، فكان مِن جنس ضحكه، لم يكن بشهيقٍ ورفع صوت كما لم يكن
ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمَعُ عيناه حتى تَهْمُلا، ويُسمع لِصدره أزيزٌ. وكان
بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفاً على أمته وشفقة عليها، وتارة مِن خشية الله،
وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال، مصاحبٌ للخوف والخشية.
ولما مات ابنُه إبراهيم، دمعت عيناه
وبكى رحمة له، وقال: (تَدْمَعُ العَيْنُ، وَيَحْزَنُ القَلْبُ، ولا نَقُولُ إلا
مَا يُرْضِي رَبَّنا، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ).
وبكى لما شاهد إحدى بناتِه
وَنَفْسُها تَفِيضُ، وبكى لما قرأ عليه ابنُ مسعود سورة النساء وانتهى فيها إلى
قوله تعالى:﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً((النساء:41)[71]
فقد وصف الله تعالى سليمان u
بالتبسم لا بالضحك، فقال تعالى:﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ
قَوْلِهَا((النمل: من الآية19)
وقد أشار عمر - رضي الله عنه - إلى تأثير كثرة الضحك في رفع الهيبة فقال:(من
كثر ضحكه قلّت هيبته، ومن أكثر من شيء عُرِفَ به)
وقال الماوردي يبين السلبيات
التربوية لكثرة الضحك:(أما الضحك فإن اعتياده شاغل عن النظر في الأمور المهمة،
مُذْهِبٌ عن الفكر في النوائب الملمة، وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا لمن
وُسِمَ به خطر ولا مقدار)
ولهذا كان من سنة الرسول - صلى الله
عليه وسلم - القدوة الأول هو التبسم لا الضحك، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ:(ما
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمعاً ضاحكاً قطّ حتى أرى منه لهواته[72]، وإنما كان يتبسم)
ووصف جابر بن سمرة - رضي الله عنه
- الرسول - صلى الله عليه وسلم -،
فقال:(كان طويل الصمت قليل الضحك)، قال ابن حجر بعد أن استعرض عدداً من الأحاديث المتعلقة
بالتبسم والضحك[73]:(والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا
يزيد في معظم أحواله عن التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك ؛ والمكروه في ذلك إنما هو
الإكثار منه أو الإفراط ؛ لأنه يُذهب الوقار)[74]
ومع هذا، فإن الإكثار من التبسم، كان
أيضا من هديه - صلى الله عليه وسلم -، لأن التبسم دليل على النفس المطمئنة الهادئة
المستقرة البشوشة، بخلاف العبوس، قال عبد الله بن الحارث بن جزء - رضي الله عنه -
:(ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)
بل أمر - صلى الله عليه وسلم -
بالتبسم، بل رفع قدره إلى مستوى الصدقة فقال:(تبسمك في وجه أخيك لك صدقة)[75]
وجعل - صلى الله عليه وسلم - لقاء الناس بوجه طليق ـ أي بوجه باسم ـ من
المعروف، فقال:(لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط)[76]
فالابتسامة وسيلة لجمع القلوب على
الحب وتجديد النفس للإقبال على الحياة والتعبير عن حمد الله تعالى على نعمائه.
2 ـ
ضوابط نجاح التربية بالقدوة
قد تتوافر لدى المربي جميع صفات
المربي الناجح التي تقتضيها القدوة، ولكنه قد لا يحسن استعمال هذا الأسلوب
التربوي، فينتج عنه من السلبيات ما ينكمش لأجله هذا الدور أو قد يتحول إلى تحقيق
عكس المقصود منه، فلذلك كان لزاما على المربي أن يدرك الضوابط التي تحمي هذا
الأسلوب، وتضمن نجاحه.
ويمكن تلخيصها في ضابطين اثنين تجتمع
يهما جميع فروع الضوابط:
أول ضابط لنجاح التربية بالقدوة هو المشاركة
العملية للمقتدى بالمقتدي به، والمعايشة للمشاكل والظروف التي يمر بها، لأن
انفراده وانعزاله عنه يضعف هذا الدور، بل يجعل منه مجرد راهب في صومعته قد يستفاد
من حكمته، ولكن لا يستفاد من تربيته.
وقد ورد في السنة ما يبين تأثير
المشاركة العملية في التربية، ففي صلح الحديبية، لما فرغ رسول الله r
من قضية الصلح قال لأصحابه:(قوموا فانحروا ثم احلقوا)، فلم يقم منهم رجل، حتى قال
رسول الله r ذلك ثلاث مرات، فلم يقم أحد، فدخل على أم سلمة - رضي الله عنها -
فأخبرها الخبر، فقالت له:(اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ،
وتدعو حالقك فيحلقك)، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكلم منهم أحداً
حتى فعل ذلك، فلما رأوا فعله r قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً)[77]
ففي هذا المثال نرى أن الخطاب النظري
أحدث أثراً في نفوس السامعين إلا أنه لم يترجم إلى عمل، فلما اقترن بممارسة الفعل
سهل عليهم الامتثال والتنفيذ ؛ فممارسة الفعل هي بمثابة المرحلة الحاسمة التي تبرز
قيمة ما سبقها وأثره، وتُخرج ما أحدثه من مشاعر نفسية إلى الوجود في صورة عملية.
ولهذا كان من سنة رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - مخالطة أصحابه ومشاركته في حياتهم الحلو منها والمر، وكان يربيهم
خلال تلك المشاركة بفعله قبل أن يربيهم بقوله.
وسنذكر هنا نموذجا عن موقفه كقائد
وكقدوة يوم اجتمعت الأحزاب حول المدينة المنورة تريد استئصال شأفة الإسلام، ففي
ذلك الحين الذي ينعزل فيه القادة للتخطيط والتدبير كان - صلى الله عليه وسلم -
كأبسط الجنود يعمل عملهم ويجوع جوعهم ويصيبه ما يصيبهم.
عن البراء - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب عنى جلدة بطنه،
وكان كثير الشعر[78]. وفي هذا دليل على الجهد العظيم الذي كان يبذله.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يشاركهم
في أراجيزهم التي ينشدونها ليخففوا بعض التعب الذي يصيبهم، عن أنس - رضي الله عنه
- أن الأنصار والمهاجرين كانوا يرتجزون
وينقلون التراب على متونهم يقولون:
نحن
الذين بايعوا محمداً على الإسلام ما
بقينا أبداً
فيجيبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم
-:
اللهم
إنه لا خير إلا خير الآخرة فبارك فى
الأنصار والمهاجرة[79]
ولا بأس أن نذكر هنا موقفا اعتاد
العلماء نقله من باب إثبات المعجزات الحسية المتعلقة بتكثير الطعام، ولكنا ننقله
هنا لنرى المعجزة التربوية في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالرسول -
صلى الله عليه وسلم - هومعجزة الحديث لا كثرة الطعام:
عن جابر - رضي الله عنه - قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت لنا كدية
شديدة، فجاءوا النبى - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذه كدية عرضت فى الخندق،
فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ
النبى - صلى الله عليه وسلم - المعول فضرب فعاد كثيباً أهيل (أو أهيم) فقلت:(يا رسول الله إئذن لى إلى
البيت)، فقلت لامرأتى:(رأيت بالنبى - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ما كان لى فى ذلك صبر، فعندك شىء ؟)، قالت:(عندى شعير
وعناق)، فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم فى البرمة، ثم جئت النبى - صلى
الله عليه وسلم - والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافى قد كادت أن تنضج،
فقلت:(طعيّم لى فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان)، قال:(كم هو ؟) فذكرت له،
قال:(كثير طيب، فقل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتى)، ثم نادى
المهاجرين والأنصار فقال لهم:(يا أهل الخندق، إن جابر قد صنع سوراً فحىّ هلا بكم
)، فلما دخل جابر على امرأته قال:(ويحك جاء النبى - صلى الله عليه وسلم - بالمهاجرين
والأنصار ومن معهم) قالت:(هل سألك كم طعامك ؟)قال (نعم) ، قالت:(الله ورسوله أعلم)
ثم جاء النبى - صلى الله عليه وسلم -
فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمّر البرمة
والتنور إذا أخذ منه شىء، ويقرب الى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف
حتى شبعوا وبقى بقية، قال:(كلى هذا واهدى، فإن الناس قد أصابتهم مجاعة)[80]، وفى
رواية:(فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوا وانصرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هى، وإن
عجيننا ليخبز كما هو)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يعصب
الحجر على بطنه من الجوع، وعندما يدعى إلى الطعام يأبى أن يأكل والناس جائعون،
وعندما يحضر مجلس الطعام لا يتصدر المجلس، وإنما يقوم يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم
ويخمّر البرمة والتنور، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، إلى أن اطمأن إلى شبعهم.
هذا هو القدوة الذي يبذل من التضحية
ما يكسب به ثقة أتباعه ويحتويهم احتواء تاما ويصعد بهم إلى أرفع درجات التربية.
ومثل هذا ما يروي أبو هريرة - رضي
الله عنه - قال: والله الذي لا إله إلا هو
إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع.
ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه فمر بي النبي - صلى الله عليه وسلم -
فتبسم حين رآني وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم قال:(أبا هر، قلت: لبيك يا رَسُول
اللَّهِ. قال:(الحق)ومضى فاتبعته، فدخل فاستأذن فأذن لي. فدخلت فوجد لبناً في قدح
فقال:(من أين هذا اللبن؟)قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة. قال:(أبا هر)قلت:(لبيك يا
رَسُول اللَّهِ)قال:(الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي)قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام
لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول
منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها. فساءني ذلك فقلت:
وما هذا اللبن في أهل الصفة! كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربةً أتقوى بها، فإذا
جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة
اللَّه وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا
فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت. قال:(أبا هر)قلت: لبيك يا رَسُول اللَّهِ.
قال:(خذ فأعطهم)قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي
القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى ثم يرد علي
القدح حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روي القوم كلهم، فأخذ
القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال:(أبا هر)قلت: لبيك يا رَسُول اللَّهِ.
قال:(بقيت أنا وأنت)قلت: صدقت يا رَسُول اللَّهِ. قال:(اقعد فاشرب)فقعدت فشربت.
فقال:(اشرب)فشربت. فما زال يقول:(اشرب)حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق لا أجد له
مسلكاً. قال:(فأرني)، فأعطيته القدح فحمد اللَّه تعالى وسمى وشرب الفضلة[81].
ولا نملك القدرة على التعليق على هذا
الموقف العظيم الذي ينحني أمامه التاريخ، وحسبنا أن نردد في حياء عظيم ما قاله أبو
هريرة - رضي الله عنه - :(وشرب الفضلة)
ولهذه المشاركة كانت أوصاف رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - التي حفظها لنا الصحابة - رضي الله عنهم - ورددوها بشوق عظيم نتيجة لهذه المعايشة،
ولنستمع لأنس - رضي الله عنه - كيف يصف
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفا يعقب عليه بحادث ودليل ،عن أنس - رضي الله
عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه
وسلم - أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة، فخرجوا نحو الصوت
فاستقبلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو
يقول:(لم تراعوا لم تراعوا)، ثم قال:(وجدناه بحراً)، أو قال:(إنه لبحر)
أما مشاركته - صلى الله عليه وسلم -
لهم في الجهاد: فقد خرج - صلى الله عليه وسلم - في 19 غزوة، بل قال عن نفسه:(ولولا
أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية)[82]
وقد كانت مشاركة - صلى الله عليه
وسلم - للصحابة - رضي الله عنهم - أكبر
حافز لهم على تلك التضحيات التي قدموها، وقد كانوا يقولون عندما يرون جهد الرسول -
صلى الله عليه وسلم -:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
وهذه المشاركات كانت فرصة عظيمة له -
صلى الله عليه وسلم - لتربية أصحابه - رضي الله عنهم - وتوجيههم بالمقال والفعال، ففي الهجرة عندما
شكا إليه أبو بكر - رضي الله عنه - حاله
وهما في الغار، قال:(ما ظنك باثنين الله ثالثهما)[83]، وقد سجل الله
هذا الموقف العظيم، فقال تعالى:﴿ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ
اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ
إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ
الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ((التوبة:40)
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه
- قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه
وسلم - يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا ؟ قال:(في الجنة)فألقى تمرات في يده ثم
قاتل حتى قتل.
وعن سهيل بن سعد - رضي الله عنه
- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر:(لأعطين
الراية غداً رجلاً يفتح على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، فبات الناس
ليلتهم أيهم يعطى، فغدوا كلهم يرجوه، فقال:(أين علي ؟)، فقيل: يشتكي عينيه، فبصق -
صلى الله عليه وسلم - في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه
فقال:(أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال:(انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم
إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم ؛ فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن
يكون لك حمر النعم)[84]
إن هذه التوجيهات الميدانية في قلب
المعارك والأحداث هي التي جعلت من الصحابة - رضي الله عنهم - جيلا فريدا في التاريخ.
انطلاقا من هذه النماذج الرفيعة في
سلوك القدوة - صلى الله عليه وسلم - فإن لمعايشة القدوة الذي وكل إليه تربية النشء
ـ سواء كان أبا أو معلما أو إماما أو صحفيا أو ممثلا ـ للأحداث والتوجيه من خلالها
الدور الأساسي في إصلاح النشء وتربيته على أرفع درجات السلوك الرفيع.
الضابط الثاني لنجاح التربية بالقدوة
هو ربط الولد بالمبادئ لا بأشخاص المربين، وذلك لتجنب الآثار السلبية الخطيرة التي
يكسبها ربط المربى بالشخص دون المبدأ، ولإكساب التربية قيما نبيلة تقضي على تلك
السلبيات، ومن تلك القيم:
ويشير إلى هذه القيمة التربوية قول
أبي بكر - رضي الله عنه - وهو خليل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ووزيره وحبيبه وأكثر الناس تعلقا به يوم موته - صلى
الله عليه وسلم -:(من كان يعبد محمداً فإن
محمداً قد مات، ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه حي لا يموت)
فالحب
يعني في درجات كماله التعلق بمبدأ المحبوب لا مجرد الارتباط بشخصه، ولهذا كان أبو
بكر - رضي الله عنه - أقوى الصحابة - رضي
الله عنهم - قربا منه - صلى الله عليه
وسلم -، ومع ذلك كان أكثرهم ثباتا، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن أبا بكر - رضي الله عنه - أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل
المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة ـ رضي الله عنها ـ فتيمَّم رسول اللّه -
صلى الله عليه وسلم - وهو مغطى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه قبّله وبكى،
ثم قال:(بأبي أنت وأمي واللّه لا يجمع اللّه عليك موتتين: أما الموتة التي كتب
عليك فقد متها)[85]
وعن
ابن عباس - رضي الله عنه - أن أبا بكر -
رضي الله عنه - خرج وعمر يكلم الناس فقال:
اجلس يا عمر، قال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان
يعبد اللّه فإن اللّه حي لا يموت، قال اللّه تعالى:﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾(آل عمران: 144)، قال: فواللّه لكأن الناس لم يعلموا أن اللّه أنزل هذه
الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلاها منه الناس كلهم فما أسمع بشراً من الناس
إلا يتلوها. وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال:(واللّه ما هو إلا أن سمعت أبا بكر
تلاها فعرقت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت إلى الأرض)
وقد كان الله تعالى يربي أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الحدث العظيم حدث وفاة القدوة، ليبين لهم أن
حقيقة حبهم له تتجلى في حرصهم على مبادئه لا على مجرد التبرك بشخصه.
ولهذا
كان علي - رضي الله عنه - يقول في حياة
رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ﴿
أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ واللّه لا ننقلب على أعقابنا عبد إذا هدانا اللّه، واللّه
لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، واللّه إني لأخوه ووليه وابن
عمه ووارثه فمن أحق به مني؟)[86]
ويروى أن رجلاً من المهاجرين مر على
رجل من الأنصار يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان، هل شعرت أن محمداً - صلى الله
عليه وسلم - قد قتل ؟ وكان ذلك في أحد فقال الأنصاري - رضي الله عنه - :(إن كان
محمد قد قتل فقد بلَّغ، فقاتلوا عن دينكم)
ولما انهزم الناس في أحد لم ينهزم
أنس بن النضر - رضي الله عنه - ، وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله
في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم ؟ فقالوا: قتل
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال:(ما تصنعون بالحياة بعده ؟ فقوموا فموتوا
على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، ثم استقبل المشركين، ولقي سعد
بن معاذ فقال:(يا سعد، واهاً لريح الجنة إني أجدها من دون أحد، فقاتل حتى قتل)،
ووُجِد به بضع وسبعون ضربة، ولم تعرفه إلا أخته ببنانه.
ولهذا كان حزن الصحابة - رضي الله
عنهم - على رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - لا يقتصر على فقدهم لشخصه - صلى الله عليه وسلم - بينهم، وإنما كان لفقدهم
الزاد الذي كان يزودهم به كل حين، عن أنس
- رضي الله عنه - قال: قال أبو بكر
- رضي الله عنه - بعد وفاة رسول الله لعمر
- رضي الله عنه - :(انطلق بنا إلى أم أيمن، نزورها كما كان رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يزورها 00فلما انتهيا إليها، بكت، فقالا لها:(ما يبكيك ؟ ما عند الله
خير لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فقالت:(ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله
خيرا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء !)،
فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها)[87]
وقد كان هذا السلوك الرفيع لهذه
النماذج الفريدة ناشئا من تربية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان يربيهم
على المبادئ قبل تربيتهم على الارتباط به، بل كانت محبته لارتباطهم لا تعني عنده
إلا ارتباطهم بالحق الذي جاء به.
ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - في
النصوص الكثيرة يذكرهم بأنه سيفارقهم، وأنه سيموت، فلذلك كان يوصيهم بملازمة
المبدأ، عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه -
قال: وعَظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وَجِلَتْ منها القلوب
وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا ! قال:(أوصيكم
بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، وإنَّه من يعش منكم بعدي
فسيرى اختلافاً كثيراً ؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا
عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور ؛ فإنَّ كل بدعة ضلالة)[88]
والمبدأ هنا هو سنته - صلى الله عليه
وسلم - التي هي المبادئ التي جاء بها وعاش لأجلها وارتبطوا به بسببها.
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه
- قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يوماً كالمودع، فقال:(أنا محمد النبي الأمي ـ قال ذلك ثلاث مرات ـ ولا
نبي بعدي ؛ أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش،
وتُجُوِّز بي، وعوفيت وعوفيت أمتي ؛ فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم ؛ فإذا ذُهِبَ بي
فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه)[89]
والمبدأ هنا هو قوله - صلى الله عليه
وسلم -:(فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه)
وعندما كان - صلى الله عليه وسلم -
يعلمهم مناسك الحج كان يقول:(لتأخذوا عني مناسككم ؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد
عامي هذا)[90]
وعند جمعه الناسَ بماء بين مكة والمدينة
يسمَّى خُمّاً، خطبهم فقال:(ياأيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي
فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين، أولهما كتاب اللّه تعالى فيه الهدى والنور، فخذوا
بكتاب اللّه واستمسكوا به) فحث على كتاب اللّه ورغب فيه، وقال - صلى الله عليه
وسلم -:(وأهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي)[91]
ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم
-:(إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب
اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، والآخر عترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا
علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما)[92]
وهذا ما كان يفعله الأنبياء ـ صلوات
الله وسلامه عليهم ـ كما قال تعالى:﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ
وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ((البقرة:132)
وقال تعالى يحكي عن يعقوب u:﴿
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ((البقرة:133)
وسوء الفهم لهذا المبدأ العظيم هو ما
جعل أهل الردة يمتنعون عن أداء الزكاة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
وكأن الزكاة رشوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا عبادة لله تعالى.
وسوء الفهم لهذا الضابط كذلك هو ما
جعل بني إسرائيل ينقلبون على أعقابهم بمجرد غياب موسى u عن أعينهم مع أنه ترك نبيا معهم، ولنتأمل هذا المشهد القرآني لنرى
تأثير غياب المبدأ عن هذه القلوب الغليظة:
ـ قال تعالى مخاطبا موسى u وهو على جبل
المناجاة:﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا
مُوسَى ﴾
ـ فقال موسى u باطمئنان وثقة:﴿ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ
إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾
ـ فقال الله له:﴿ فَإِنَّا
قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ﴾
و ﴿ َرَجَعَ مُوسَى إِلَى
قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً
حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا
مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ
فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً
جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ
ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ
إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا
أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا
مُوسَى ﴾ (طـه:86 ـ 91)
لأن تعلق المربى بالمربي تعلقا زائدا
قد يدعوه إلى طاعته طاعة عمياء، لا يدرك معها خطأه من صوابه.
والتربية على الطاعة المبصرة تستدعي
إشراك المربى في الوصول إلى القيم التربوية بحيث يمارسها بقناعة، لا بمجرد رؤية
القدوة يعملها.
ولأجل هذا نهى - صلى الله عليه وسلم
- عن التقليد الأعمى، فقال:(لا تكونوا إمعة[93]تقولون: إن
أحسن الناس أحسنا، وإن أساؤا أسأنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا إن تحسنوا وإن
أساؤا أن لا تظلموا)[94]
ولأجل هذا كان - صلى الله عليه وسلم
- يبين علل الأحكام وأسبابها، وكان يستشير الصحابة - رضي الله عنهم - ويقف عند رأيهم ليجعل منهم جيلا مجتهدا لا جيلا
مقلدا.
وكان كثيرا ما يسألهم ليعملوا فكرهم
ويتوصلوا إلى الحق بعد الاجتهاد والبصيرة، ونماذج هذا كثيرة، منها قوله - صلى الله
عليه وسلم -:(أتدرون ما العَضَه؟)، وقوله:(أتدرون ما الغيبة ؟)، وقوله:(أتدرون مَن
المُفلس؟)، وقوله:(أتدرون ما هذان الكتابان ؟)مشيراً إلى يمينه وشماله، وقوله:(هل
تدرون ما الكوثر؟)، وقوله:(يا أبا ذر ! أترى أن كثرة المال هو الغِنى؟)، إلى غير
ذلك من الأحاديث النبوية، المبنية على السؤال والجواب.
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - وهو
المعصوم المؤيد بالوحي يستشير أصحابه - رضي الله عنهم - ، بل ويقف عند رأيهم، ولو
خالف رأيه، كما حصل في غزوة أحد، التي شاور النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها
أصحابه، ونزل عن رأيه إلى رأى أكثريتهم، وكانت النتيجة ما أصاب المسلمين من قرح،
وما اتخذه الله من شهدا ء: سبعين من خيار الصحابة، منهم حمزة ومصعب وسعد بن الربيع
وغيرهم - رضي الله عنهم -.
ومع ذلك، فقد نزل الأمر الإلهي
بالاستمرار في مشاورتهم، كما قال تعالى:﴿
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ
الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(آل عمران:159)، فقد نزلت هذه الآية بعد غزوة
أحد، وكأنها تقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(استمر على مشاورتهم , ففيها
خير وبركة، وإن جاءت النتيجة في إحدى المرات على غير ما تحب، فالعبرة بالعاقبة)
وتروي كتب السيرة والسنن الكثيرة من
مشاورات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، ومن ذلك أنه شاورهم في غزوة
بدر، قبل القتال، وفى أثنائه، وبعده. ولم يدخل المعركة إلا بعد أن اطمأن إلى رضا
جمهورهم.
وشاورهم في أحد ـ كما ذكرنا ـ فنزل
عن رأيه إلى رأى الأكثرية التي رأت الخروج إلى القوم، لا القتال داخل المدينة.
وشاورهم في الخندق، وهم أن يصالح
غطفان على شئ من ثمار المدينة، ليعزلهم عن قريش، وأبى ممثلو الأنصار ذلك، فوقف عند
رأيهم.
وفى الحديبية شاور أم سلمة في امتناع
أصحابه عن التحلل من إحرامهم بعد الصلح، فقد عز عليهم ذلك بعد نية العمرة. فأشارت
عليه أم سلمة أن يخرج إليهم، ويتحلل من إحرامه أمامهم دون أن يتكلم، فما أن رأوه
فعل ذلك، حتى بادروا إلى الاقتداء به.
وبعث - صلى الله عليه وسلم - أبا
هريرة - رضي الله عنه - يبشر الناس
بأن:(من قال - لا إله إلا الله - دخل الجنة)، فخشي عمر أن يفهمها الناس فهما
مغلوطا، ويفصلوا الكلمة عن العمل، ولذا أوقف أبا هريرة، وبين للرسول خوفه من أن
يتكل الناس على ذلك قائلاً: فخلهم يعملون، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم
-:(فخلهم يعملون)
والقرآن الكريم ينبه إلى غياب هذا
المبدأ عن أذهان المشركين، ولذلك كانت طاعتهم العمياء لأعرافهم حجابا لهم عن اتباع
الحق الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى:﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ﴾(البقرة:170)
فالقدوة الصالح هو من يربي النشء على
حب الحق واحترامه أكثر من حبهم له واحترامه، بل يعلمهم أن محبتهم للحق هي عين
محبتهم له.
وقد اعتبر القرآن الكريم الحب المفرط
للرجال والطاعة العمياء لهم من الشرك بالله، فقال تعالى:﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (التوبة:31)
أما وجه الاستدلال بالآية، فيوضحه
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك فيما روي عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه
- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يقرأ في سورة براءة: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ﴾(التوبة:31)، فقال:)أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم , ولكن كانوا
إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه, وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه)[95]
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - :)لم يأمروهم أن
يسجدوا لهم , ولكن أمروهم بمعصية الله فأطاعوهم , فسماهم الله بذلك أربابا(, وقال
الحسن:)اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا في الطاعة (
ولهذا أخبر تعالى عن الطريقة الصحيحة
التي يربي بها الصالحون أتباعهم، فقال:﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ
اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا
عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ
تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ((آل عمران:79)
يقول سيد قطب معلقا على الآية:(إن
النبي يوقن أنه عبد، وأن الله وحده هو الرب، الذي يتجه إليه العباد بعبوديتهم
وبعبادتهم. فما يمكن أن يدعي لنفسه صفة الألوهية التي تقتضي من الناس العبودية.
فلن يقول نبي للناس: كونوا عبادا لي من
دون الله .. ولكن قوله لهم: كونوا ربانيين
.. منتسبين إلى الرب، عبادا له وعبيدا، توجهوا إليه وحده بالعبادة، وخذوا عنه وحده
منهج حياتكم، حتى تخلصوا له وحده فتكونوا
ربانيين .. كونوا ربانيين بحكم
علمكم للكتاب وتدارسكم له. فهذا مقتضى العلم بالكتاب ودراسته)[96]
ولهذا ورد التنبيه في النصوص على أن
لا يجعل حبه للرجال أو بغضهم لهم ذاتيا، بل يجعله تابعا لمدى التزامهم بالحق، قال
- صلى الله عليه وسلم -:(أحبب حبيبك هوناً ما، فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض
بغيضك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما)[97]
ولهذا كان السلف من العلماء يرددون
على أتباعهم ومن يقتدون بهم أن لا يقتدوا بأشخاصهم، بل بصاحب الشرع وحده.
ومن الآثار السيئة هذا ـ أيضا ـ الصدمة التي قد
حدث فيها المربى إذا حصل من المربي أي خطأ مما يسبب له النكوص، فيجعل زلة المربي
سبباً في الابتعاد عن الحق، وقد كان سفيان بن عيينة خشنا وشديدا على طلبته، فتجرأ
بعضهم وسأله: (إن قوماً يأتونك من أقطار الأرض، تغضب عليهم، يوشك أن يذهبوا
ويتركوك)فرد عليه: (هم حمقى إذن مثلك أن يتركوا ما ينفعهم لسوء خلقي)، فالمربي
والقدوة لا يعني أنه هو الحق وهو الدعوة، وفرق أن يوجد عيب أو زلل في المربي أو أن
يوجد الزلل والخطأ في الحق.
والنظر إلى الرجال واعتبارهم ممثلين
عن الدين والغفلة عن الحق بسببهم من الأسباب التي ذكرها الغزالي للانحراف
الاجتماعي وذلك في الاستبيان الذي أجراه لواقعه الالجتماعي، قال في (المنقذ من الضلال):(فنظرت
إلى أسباب فتور الخلق، وضعف إيمانهم، فإذا هي أربعة: سبب من الخائضين في علم
الفلسفة، وسبب من الخائضين في طرق التصوف، وسبب من المنتسبين إلى دعوى التعليم،
وسبب من معاملة الموسومين بالعلم بين الناس... فقائل يقول: هذا أمر لو وجبت
المحافظة عليه، لكان العلماء أجدر بذلك، وفلان من المشاهير بين الفضلاء، لا يصلي،
وفلان يشرب الخمر، وفلان يأكل أموال اليتامى، وفلان يأكل إدرار السلطان، ولا يحترز
عن الحرام، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة! وهلم جرا، إلى أمثاله)
وقد كان من المساوئ التي حصلت في
المجتمات الإسلامية هي خضوع النشء خضوعا مطلقا لواسطتين تربويتين بحيث يرى في
المحيد عنها ولو قيد أنملة بعدا عن الحق، بل ردة عن دين الله، وهاتان الواسطتان
هما[98]:
وهو الشيخ الصوفي، أو شيخ الطريقة،
الذي يتدين مريدوه بواسطة أوراده، وأحواله، ويسعون لاكتساب مقاماته، باعتباره
(الشيخ الكامل)
وكمثال على ذلك كتاب (الإبريز الذي
تلقاه نجم العرفان، الحافظ، سيدي أحمد بن المبارك، عن قطب الواصلين، سيدي عبد
العزيز الدباغ رضي الله عنه)وهو على حسب ما ذكر
في مقدمته من إملاء عبد العزيز الدباغ الفاسي، الذي عاش بفاس، خلال القرن
الحادي عشر الهجري، على مريده الفقيه أحمد بن المبارك، والمريد أحمد بن المبارك،
يحكي عن شيخه، أنه لم يكن قارئًا، ولا كاتباً، ولكنه كان أمياً، ولما فتح الله
عليه بالكمال، والفيض، والكشف، صار من العارفين بالعلم اللدني، فصار يفتي في قضايا
الناس الدينية، والدنيوية، ويحل مشكلات العلم المعقدة، في العقائد، والأحاديث
المشكلة، ونحوها.
فنجد هذا الفقيه كيف يتنازل ويسمع
الطامات من هذا الشيخ، ثم يسجلها ويعتبرها من المعارف الكبرى، بل الحقائق التي لا
تخضع للمناقشة.
ومن أمثلة ذلك قول راوي الإبريز على
ما يسمى (ديوان الصالحين):(سمعت الشيخ - رضي الله عنه - يقول:(الديوان يكون بغار حراء... فيجلس الغوث
خارج الغار، ومكة خلف كتفه الأيمن، والمدينة أمام ركبته اليسرى، وأربعة أقطاب عن
يمينه، وهم مالكية على مذهب الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه - ، وثلاثة أقطاب
عن يساره: واحد من كل مذهب من المذاهب الثلاثة، والوكيل أمامه، ويسمى قاضي
الديوان، وهو في هذا الوقت مالكي أيضاً... ومع الوكيل يتكلم الغوث، ولذلك سمي
وكيلاً، لأنه ينوب في الكلام عن جميع من في الديوان. قال والتصرف للأقطاب السبعة، على أمر الغوث،
وكل واحد من الأقطاب السبعة، تحته عدد
مخصوص يتصرفون تحته، والصفوف الستة من وراء الوكيل.. قال - رضي الله عنه -: ويحضره
بعض الكُمَّل من الأموات، ويكونون في الصفوف مع الأحياء... قال وتحضره الملائكة،
وهم من وراء الصفوف، ويحضره أيضا الجن الكمل... قال - رضي الله عنه -: وفائدة حضور
الملائكة والجن، أن الأولياء يتصرفون في أمور تطيق ذواتهم الوصول إليها، وفي أمور
أخرى لا تطيق ذواتهم الوصول إليها، فيستعينون بالملائكة والجن... قال: وفي بعض
الأحيان، يحضره النبي - صلى الله عليه وسلم -... وكلامه - صلى الله عليه وسلم - مع
الغوث، قال: وكذلك الغوث، إذا غاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، تكون له أنوار
خارقة، حتى لا يستطيع أهل الديوان أن يقربوا منه، بل يجلسون منه على بعد. فالأمر الذي ينزل من عند الله تعالى لا تطيقه
إلا ذات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا خرج من عنده - صلى الله عليه وسلم -،
فلا تطيقه ذات إلا ذات الغوث، ومن ذات الغوث يتفرق على الأقطاب السبعة، ومن
الأقطاب السبعة يتفرق على أهل الديوان.. وأما ساعة الديوان... فهي الساعة التي ولد
فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنها هي ساعة الاستجابة من ثلث الليل الأخير)[99]
ومثل هذا الفكر نجده أصلا من أصول
العقائد التي تتلقى وكأنها نصوص قرآنية أو أحاديث نبوية، بل إنهم قد يستجيزون
الاعتراض على النصوص بالتأويل والتفسير ولا يستجيزون التعرض لكلام الأولياء.
ونحن لا نعترض على وجود مثل هذه
الوساطة، بل هي وسيلة هامة من وسائل التربية، ولكنا نعترض على التسليم المطلق لها،
بحيث يعتبر مجرد الاعتراض البسيط على أمر من أموره منافيا للسلوك، بل يكاد يكون
مخرجا لصاحبه عن الملة.
مع أن مشايخ الأمة الكبار اعترض
عليهم، قال ابن عقيل:(ليس لنا شيخ نسلم إليه حاله إذ ليس لنا شيخ غير داخل في
التكليف وأن المجانين والصبيان يضرب على أيديهم وكذلك البهائم، والضرب بدل من
الخطاب، ولو كان لنا شيخ يسلم إليه حاله لكان ذلك الشيخ أبا بكر الصديق - رضي الله
عنه - وقد قال:(إن اعوججت فقوموني)ولم
يقل:(فسلموا إلي)[100]
بل إن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - نفسه اعترض عليه، فهذا عمر - رضي الله عنه - يقول:(ما بالنا نقصر وقد أمنا)، وآخر
يقول:(تنهانا عن الوصال وتواصل؟)، وآخر يقول:(أمرتنا بالفسخ ولم تفسخ)، وقد سبق
ذكر الأمثلة عن مشاورة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، بل ومخالفتهم له.
بل إن الملائكة ـ صلوات الله وسلامه
عليهم ـ تقول لله تعالى:﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ((البقرة:
من الآية30)، وموسى u يقول:﴿ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا
((لأعراف: من الآية155)
وهو الأستاذ الذي تتلقى منه الأفكار
والتوجيهات العلمية والعملية، فنجد من يرتبط (بشخصيةٍ فكريةٍ معينةٍ، ارتباطاً
تربوياً بحيث ينحو المتربي في تدينه منحى أستاذه، فهماً للإسلام، وتنزيلاً له،
فيقلده في كل ذلك، تقليداً يقوم على التقديس الشعوري، أو اللاشعوري، لأفكاره
ومؤلفاته، بحيث لا يكاد يرى الحق إلا فيما قاله أستاذه ،ولا يجد الصواب إلا فيما
ذهب إليه، فيتشكل في مجموع التلامذة من هذا النوع، نمط تربوي فكري واحد، لا ينظرون
إلى الإسلام، ولا يتدينون به، إلا من خلال منظار الوسيط الفكري، المسيطر على
عقولهم، ووجدانهم، سيطرة قد تصل إلى نوع من الوثنية، أو الشرك الخفي)[101]
وسنضرب مثالين هنا على تغليب الرجال
على الحق، وذلك في ناحيتين هامتين من الدين، بل هما الدين نفسه:
أما الأولى فهي
الفقه،
حيث غلب التقيد وصار أصلا، وصارت الأمة بسببه فرقا وطوائف، وكل ذلك من المبالغة في
تعظيم الرجال ولو على حساب الحق، قال الشيخ الخضري:(فقلما تجد علماء مذهب إلا
وصفوا إمامهم بأنه: إمام الأئمة غير مدافع، وذكروا له من الصفات، ما يجعله من
المجلين في ميدان الفقه، والاستنباط، وربما تطرف بعضهم، فنال من بعض الأئمة
المخالفين)[102]
بل لقد ذهب بعضهم، كما قال الحجوي، إلى (أن المهدي المنتظر، إذا
ظهر، بل عيسى بن مريم، إذا نزل آخر الزمن، فإنما يقلدان أبا حنيفة، ولا يخالفانه
في شيء)[103]
أما الثانية، فهي الفكر
العقدي،
والذي تحول في عصور الانحطاط، أقرب إلى الخرافية منه إلى الاعتقاد السليم، بسبب
مبالغته في تفسير أمور غيبية توقيفية، على نحو ما صنعه الباجوري في تفسير العرش،
حيث قال:(هو جسم نوراني، علوي، عظيم، قيل من نور، وقيل من زبرجد، وقيل من ياقوتة
حمراء.. هو قبة فوق العالم، ذات أعمدة أربعة، تحمله أربعة من الملائكة في الدنيا،
وثمانية في الآخرة، لزيادة الجلال والعظمة، رؤوسهم عند العرش في السماء السابع،
وأقدامهم في الأرض السفلى، وقرونهم كقرون الوعل، ما بين أول قرن، ومنتهاه، مسيرة
خمسمائة عام)[104]
وقال عن الملائكة الكتبة:(يكتب
الرقيب، والعتيد، أعمال الإنسان، وأقواله، من خير وشر، ومن مباح.. أما المباح
فيلقي به في عرض البحر، في يوم الاثنين والخميس، من كل أسبوع، فتلتهمه حيتان
البحر، فتموت منه لنتنه، فيخرج منه دود يأكل الزرع)[105]
وللأسف فإن هذه المعارف تلقن وكأنها
قرآن يتلى، فلا يصح أن يرد في خاطر النشء المسلم أي اعتراض وجداني عليها، فكيف
بالاعتراض بالقول.
([1]) ولو قارنا هذا السلوك الإعلامي
المعاصر ومثله سلوك المجتمع في رفع الرعاع والمنحرفين واعتبارهم قمما يهفو الصبية
لتقليدها ومحاكاتها والحصول على مستقبلها مع سلوك السلف الصالح - رضي الله عنهم
- من رفع مكانة العلماء والصالحين نعرف
السبب في التفاوت الكبير بين نشء السلف ونشئنا، فهذا عبد الله بن عون t وهو من أعلام السلف، رفعه المجتمع فهفت النفوس الناس لمحاكاته، عن
معاذ قال: حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد أنه قال :« إني لأعرف رجلاً منذ
عشرين سنة يتمنى أن يسلَمَ له يوم من أيام ابن عون، فما يقدر عليه »، وورد مثل ذلك
عن كثير من السلف في محاولتهم التأسي بحال ابن عون.
وقال يونس بن عبيد :«
كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم يرَ عمله ولم يسمع كلامه »
وعن الصَّلت بن بسطام
التيمي قال: قال لي أبي: الزم عبد الملك بن أبجر فتعلَّمْ من تَوَقِّيهِ في الكلام
؛ فما أعلم بالكوفة أشد تحفظاً للسانه منه ».
([2]) البخاري في صحيحه كتاب الأدب باب شر المؤمن على نفسه
(8/24)ورواه مسلم في صحيحه كتاب الزهد والرقاق باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه
وبرقم (2990).
([5]) ابن السمعاني في أدب الإملاء - عن ابن مسعود، قال المناوي في
الفيض (1/224)واسناده ضعيف، وقال السخاوي: ضعيف.
([7]) الكباث بفتح الكاف
والموحدة الخفيفة وآخره مثلثة هو ثمر الأراك ويقال ذلك للنضيج منه كذا نقله النووي
عن أهل اللغة.
([8]) وهي مصدر صناعي منسوب
إلى "الرب"، زيدت فيه الألف والنون، على غير قياس، ومعناه: الانتساب إلى
الرب، أي: الله، سبحانه وتعالى، ويطلق على الإنسان أنه "رباني" إذا كان
وثيق الصلة بالله، عالما بدينه وكتابه، معلما له.
([31]) أي لا يقطع ثوابه عنكم
وجزاء أعمالكم ويعاملكم معاملة المالّ حتى تملوا فتتركوا، فينبغي لكم أن تأخذوا ما
تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم.
([44]) البخاري: 5/2209، مسلم:
1/221، ابن حبان: 12/293، البيهقي 1/149، أبو داود: 4/84، النسائي: 1/65، ابن
ماجة: 1/107، أحمد: 2/239، مسند الحميدي: 2/418.
([72]) اللهوات: جمع لهاة وهي
اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم يعني: ما يكون ضاحكاً تاماً مقبلاً بكليته
على الضحك، بحيث تبدو اللهاة التي في آخر الفم.
([73]) ثم ذكر في الباب تسعة أحاديث تقدم أكثرها وفي جميعها ذكر التبسم
أو الضحك وأسبابها مختلفة لكن أكثرها للتعجب وبعضها للإعجاب وبعضها للملاطفة.
([93]) الامعة بكسر الهمزة
وتشديد الميم: الذي لو رأى له، فهو يتابع كل أحد على رأيه. والهاء فيه للمبالغة.
ويقال فيه إمع أيضا.