المؤلف: نور الدين أبو
لحية |
العودة للكتاب: رقية الروح |
الناشر: دار الكتاب الحديث |
الفهرس
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ
اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (المائدة:16)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
(الأنعام: من الآية54)
لَهُمْ دَارُ السَّلامِ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأنعام:127)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى
دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (يونس:25)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ
قَالُوا سَلاماً (الفرقان:63)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً
(الفرقان:75)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ
أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (القصص:55)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (الأحزاب:44)
سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ
رَحِيمٍ (يّـس:58)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ
سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (الزخرف:89)
المقدمة
قال لي أول
ما التقيته: كلهم يدعي السلام، وكلهم يحارب السلام.
قلت: من؟
قال: أولئك
الذين ملأوا الأرض لهيبا، والنفوس أحقادا، والقلوب ظلمات.. أولئك الذين يبحثون عن
السلام في أتون الحرب.
قلت: الصغار
أم الكبار؟
قال: الصغار
والكبار.
قلت: ولكنهم
كلهم يبحثون عن السلام.
قال: وكلهم
يمارسون كل أنواع الحروب، ويعمقون كل أشكال الصراع، ويوقدون كل نيران الفتن،
ويصنعون في سبيل ذلك كل أنواع الأسلحة.
قلت: ومن وكل
إليه صناعة السلام؟
قال: من وكل
إليه صناعة السلام يعاني من جميع الصراعات النفسية، فهو في حرب داخلية بين نزواته
ونزغاته ووساوسه.. ويستحيل على من يعيش الحروب في الداخل أن يصنع السلام في
الخارج، فالخارج صدى الداخل، وكتاب الباطن يقرؤه لسان الظاهر، وكل إناء بما فيه
يرشح.
***
لست أدري، هل
كنت مستيقظا أم نائما حين ربت على كتفي أول مرة التقيته فيها، وقال لي بقوة ممزوجة
بلين، وشدة مكسوة برحمة:( قم لتتعلم السلام)
نظرت إليه، فوجدته
شاخصا إلي بصورة لا أستطيع ـ مهما حاولت ـ أن أشبهها، فقد جمعت صورا شتى وملامح
مختلفة، ولكنها ليست متناقضة، فالتناسق بينها جميعا في منتهى كماله.
لعلي لو كنت
هنديا لشبهته ببوذا، أو كنت صينيا لشبهته بكنفوشيوس، أو كنت فارسيا لشبهته
بزرادشت، أو كنت بابليا لشبهته بالخليل، أو كنت نصرانيا لشبهته بالمسيح، وبما أني
أدين بالإسلام، فقد كانت أقرب صورة إلى نفسي صورة الذي اجتمعت فيه الكمالات، فصار
فهرسا لمفرداتها، وشمسا لأشعتها.
وجهه كصفحة
الماء التي لم تعبث بصفائها التيارات، ولكنه في قوته كالبحر الذي يزمجر بألحان السلام
الجميل.. لعله صورة السلام الذي دعاني إلى تعلمه.
قلت له: من
أنت؟
قال لي: أنا
النقطة التي تحت الباء[1].
قلت: ولكني
أراك النقطة التي فوق النون.
قال: ذلك
عندما أكون معه.
قلت: ومتى
تكون معه؟
قال: عندما
لا أكون مع نفسي.
قلت: وهل
يمكن للإنسان أن لا يكون مع نفسه؟
قال: نعم، إن
عاش معها دون أن يراها.
قلت: وما
الذي تحجبه رؤيته لها؟
قال: تحجبه
عن رؤية السلام.. لأنه إذا رآها أحبها، وإذا أحبها صارع من أجلها؟
قلت: من
يصارع؟
قال: الكل.
قلت: ومن
الكل؟
قال: الله..
والكون.. والدنيا والآخرة.. والمجتمع والعالم.. والملائكة والجن.. ونفسه التي
يصارع من أجلها.
قلت: وكيف
يتخلص من الصراع؟
قال: بتعلم
السلام.
قلت: وكيف
نتعلم السلام؟
قال: اصحبني
لتتعلم السلام؟
قلت: ومن
أنت؟
قال: أنا
معلم السلام؟
قلت: وما
اسمك؟
قال:لي تسعة
وتسعون اسما، ولكن يمكنك أن تناديني ـ ما دمت معك ـ بـ ( عبد السلام)
قلت: وأين
تسكن؟
قال: في دار
السلام.
قلت: وما
وظيفتك؟
قال: تعليم
السلام.
قلت: لمن؟
قال: لك،
ولكل الناس.
قلت: ولكني
لا أرى الناس يتحدثون عنك.
قال: لأنهم
يضعون الغشاوة على أعينهم حتى لا يروني، ويدخلون أصابعهم في آذانهم لكيلا يسمعوني،
ويضعون الحجب بيني وبينهم لكيلا يفكروا في البحث عني.
قلت: فهلا
طرقت أبوابهم؟
قال: أنا لا
أخاطبهم إلا من وراء أبوابهم.
قلت: لم
تزدني بك إلا جهلا، فهلا انتقلت من التلميح إلى التصريح، ومن الـ..
قاطعني، وقال:
قلت لك: أنا النقطة التي تحت الباء.
قلت: ولكن
النقطة حبر على ورق، وأنت إنسان لا بد لك من محل تقيم فيه، وسبب ترتزق منه، ولا
أرى السلام في هذا الزمان صناعة رابحة، فمن أين تأكل؟
قال: من عيون
الحكمة التي تفيض من بحار السلام.
أدركت أن
الحديث معه عن حقيقته لا يجديني شيئا، فما يزيدني تصريحه إلا غموضا، فقلت: وكيف
أصحبك لأتعلم السلام؟
قال: كن معي
بسمعك وقلبك، ولا تجادلني.
قلت: طبعي
يأبى الانقياد، فكيف لا أجادلك، وهل تريد مني طاعة عمياء، أوتريدني صفحة بيضاء،
وقد نقشت في السنون ما نقشت؟
فقال: ناقشني
كما تشاء، ولكن لا تجادل، فإن الجدال صراع، وأنا لا أحب الصراع.
قلت: على أي
مذهب أنت؟ وإلى أي طائفة تنتمي؟ فإني أخشى أن تخرجني من بني قومي؟
فقال: أنا
عبد الله، وليس لي مذهب إلا عبادة الله، ولا لي طائفة إلا طائفة عباد الله، فإن
أردت أن تكون عبدا لله، فأنا معك، ويمكنك أن تتعلم مني، أما إن كنت عبدا لقومك،
فأوصد الباب بيني وبينك، فلا يمكن لمن استعبدته الأعراف، واحتواه التعصب للمذاهب
والطوائف أن يتعلم شيئا.
قلت: أأنت من
أهل الرأي، أم من أهل الأثر؟
قال: أنا من
أهل الرأي الصالح، ومن أهل الأثر الصحيح.
قلت: أأنت من
السلف، أم من الخلف؟
قال: إذا كان
في السلف والخلف عباد لله، فأنا منهم جميعا، ومن غيرهم من عباد الله جميعا.
قلت: أأنت من
السنة أم من الشيعة؟
قال: أنا من
السنة الذين يحيون وراثة النبوة .. وأنا
من الشيعة الذين يشايعون ورثة النبوة، وينتصرون لهم، ويقفون في صفهم.
قلت: أأنت من
هذه الأمة؟
قال: منها،
ومن كل أمة تعبد الله وتوحده وتنصره وتسلم وجهها إليه.. أنا النقطة التي تحت
الباء، والنقطة لا تختار إلا ما يختار لها.
قلت: أخبرتني
أن وظيفتك التعليم.. فما برنامج تعليمك؟ وما مصادره؟
فقال: لي
برنامج واحد هو تعليمك السلام، ولي مصدر واحد هو الحكمة من أي لسان برزت، وفي أي
كتاب وجدت، فإن شئت أن تتعلم فأحضر قلمك، واجلس بين يدي وأصخ سمعك، وعش عالم
الحروف والكلمات لتبصر الحقائق بين ثناياك، وتفجر أنهار العلوم من صدرك.
قلت له: وما
الحاجة إلى القلم، هو أنا ذا بين يديك.
قال: ألم
تسمع إلى الحق تعالى وهو يقول:) الذي عَلَّمَ بالقلم ((العلق:4)، وإلى قوله تعالى:) نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ((القلم:1)
***
لست أدري، هل
تركته في ذلك المساء أم تركني؟ ولكني أحسست عندما رجعت، أو عندما أفقت أنني بحاجة
حقا إلى السلام، فالصراع بين جوانحي يتأجج، ونيران الصراع من حولي تحرق الأخضر
واليابس، ومن وكل إليهم السلام في الأرض لا يأبهون للصراع الذي تمتلئ به شوارعهم
ومستشفياتهم وجامعاتهم وثكناتهم ودورهم.. بل يحاولون أن ينشروا الصراع في الكون
الجميل، فيغزوا الفضاء، ويستولوا على أملاك المجرات.
ولأجل ذلك يمتصون
بسمات الصبيان البريئة، ويقتلون البراءة في أعين الثكالى الذين قتلوا أولادهم،
ليؤسسوا على أنقاضها وأنقاض الجماجم طوابق جديدة للصراع الذي يدمر السلام.
***
قلت له، لما التقيته ثانية: نعم أنا بحاجة إلى
السلام، وقد أحضرت قلمي، وسمعي وبصري، وهذي قراطيسي، فأملي علي الخطة التي نصنع
بها السلام في العالم الذي يأكله الصراع.
فقال: العالم
يبدأ بك أنت.. فأنت العالم، والعالم أنت.
قلت: أنا فرد
من العالم، والعالم أعداد ضخمة، تنتشر في القارات والبحار والمحيطات.
قال لي: وكل
فرد منهم عالم وحده، بقاراته ومحيطاته وأفلاكه.
قلت: فأي
ميزانية ضخمة توصل حقائق السلام لكل تلك القارات والبحار والمحيطات، وكم مدرسة
ينبغي أن نؤسس لهذه العوالم الكثيرة التي يموج بها العالم.
فقال لي:
السلام لا يحتاج أموالا ضخمة، ولا عقولا جبارة، ولا مدارس متحضرة، بل يكفي لصناعته
قلب واع، وعقل متبصر، وأذن مستمعة منصتة، فأصخ سمعك لي، ولا تهتم بالعالم.. فإن
سلامك هو سلام العالم، وحربك هو حرب العالم.
***
بعد انصرافه
أو إفاقتي تفكرت فيما قال، فعلمت أن السلام في العالم، والذي ظل يؤرقني، لن يبدأ
إلا بأفراد العالم، وأفراد العالم هي نفوسهم التي تمتلئ أحقادا وضغائن، وعقولهم
المتفننة في صناعة الإجرام، وقلوبهم التي تقلب الحقائق لتتلاءم مع ما تتطلبه النفس
من شهوات.
وحين أدركت
هذا، علمت أن السلام لن ينشأ إلا من داخلي، ومن أعماق وجداني.
وحين تأملت أعماق
وجداني هزني ما أجد فيها من صراع، فأحدث الأسلحة ما صنع وما لم يصنع تمتلئ بها
ذخيرتي، والصراع بين لطائفي وجوانحي على أشده.
ثم تأملت
علاقتي بالوجود، فإذا بي لا أختلف عن أي جندي كنت أنظر إليه حاقدا وهو يقتل
الصبيان والأرامل.
وتأملت
علاقتي بالكون، فإذا بي لا أختلف عن المجرمين الذين ألقوا القنابل النووية على
هيروشيما وناكازاكي.
وتأملت
علاقتي بالله، فإذا بي أصيح مع فرعون في كل لحظة:) أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى((النازعـات: من الآية24)
وتأملت
علاقتي بالقدر، وبنظام الله في كونه، فإذا بي أحمل راية المعارضة، وأقول لله بكل
جرأة:( افعل، ولا تفعل، وهذا ما جرتنا إليه أفعالك)
لا أكتم أني
بكيت من كل ذلك الخراب الذي يسكنني، بكيت مثلما أبكي دائما عندما أرى الصبيان
يذبحون، والقنابل تتساقط على البيوت لتهز ما فيها من السلام.
لقد بكيت
لأني لم أكن أرى العالم، وإنما كنت أرى نفسي، فالعالم صدى نفسي، ونفسي صدى العالم.
***
عندما التقيت به المرة الثالثة، كانت أول كلمة
قلتها له: لقد فهمت.. أريد السلام في نفسي، فلا يمكن للعالم أن يعيش السلام، ونفوس
من في العالم تعيش الصراع، فالخارج صدى الداخل، وكتاب الباطن يقرؤه لسان الظاهر.
قال لي: لقد
خطوت الخطوة الأولى نحو السلام، ولكن ذلك لا يكفي.
قلت: وماذا
علي أن أصنع، لقد أحضرت قراطيسي وأقلامي، وهاهو سمعي؟
فقال لي:
وأين نفسك ووجدانك، وذلك الخراب الذي بكيت لما عاينته، وتلك الأسلحة التي قد تنفجر
في أي لحظة؟
قلت: ما جئت
إليك إلا لتنقذني منها؟ أما خرابي وقفري، فها أنا بين يديك فابن على أنقاضي مدائن
السلام.
قال: أنا لا
أبني ولا أدمر، ألا تعلم أنه لا سلطة لي على أحد من الناس، فكيف تكون لي سلطة
عليك؟
قلت: فما
الذي ينقصني؟
قال: إرادة
تدكدك الجبال، وصبر يقطع الفيافي، وعزيمة تفل الحديد، وهمة تناطح الجوزاء؟
قلت: تريد
العمل؟
قال: لا يكفي
العلم، ألم تسمع الحق تعالى وهو يقول مادحا عباده الصالحين:) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ
هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ((الزمر:18)
قلت: وهل
العمل إلا بالعلم؟
قال: هكذا
الأصل، ولكن قومك حولوا العلم صناعة، ألستم في عصر العلم؟
قلت: وهل
يجادل في ذلك أحد؟
قال: وأين
آثار العلم، وأين سيما العلماء، وأين السلام الذي يصنعه العلم؟
ثم أخذ نفسا
عميقا كأنفاس الصديقين، وقال: الحق أقول لك.. لن تعلم حقيقة العلم حتى تعمل حقيقة
العمل، فإن العلم ثمرة العمل.
قلت: وما
تطلب مني؟ أالعمل بالعلم؟.. سأعمل بكل ما تأمرني به.
قال: لا يكفي
أن تعمل بالعلم، فقد يكون العمل بالعلم رياء.
قلت: وما
أصنع؟
قال: أن تعيش
ما تعلمه من حقائق العلم، وأن تحياه.
قلت: وكيف ذلك؟
وما الفرق بينه وبين العمل بالعلم؟
قال: العمل
بالعلم شغل وتكلف ومهنة، والمشتغل والمحترف يركن إلى الراحة بعد عمله، فينسى حقيقة
ما تعلمه.
قلت: وكيف
أعيش العلم؟
قال: أن
تنصبغ به، ألم تسمع إلى الحق تعالى، وهو يقول:) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ صِبْغَةً ((البقرة: من الآية138)
قلت: وكيف
أنصبغ بصبغة العلم؟
قال: أن
تتحول حروفه وكلماته لطائف تتذوق معانيها، وتشهد جمالها، فتتحرك بمقتضاها بمحبة
وشوق لا بتكلف ومشقة.
قلت: فها أنا
ذا بين يديك، فاصبغني بصبغة العلم؟
قال: لقد
أخبرتك أنه لا طاقة لي بالبناء ولا بالهدم؟
قلت: فمن
يبنيني؟
قال: يداك
تبنيانك.
قلت: وكيف
ذلك؟
قال:
بالإرادة.. فإن أردت أن تتعلم السلام، فأحضر قلمك وسمعك وإرادتك، فلا يمكن أن
يتعلم السلام خائر الإرادة، منهار العزيمة، محطم القوى.
***
عندما انصرفت عنه أو انصرف عني عدت، فتأملت
باطني المملوء بالخراب، وفتشت أسلحتي الكثيرة التي أشهرها في وجه كل الكون، فانتشر
حزن شديد مصحوب بيأس شديد، وارتعدت فرائصي من الخوف، وأنا أرى جميع القنابل
النووية والجرثومية وقنابل أخرى لم تمتد إليها يد الصناعة كلها مشهرة مدافعها في
وجهي وقلبي وكياني.
ونظرت إلى
المستقبل بعين سوداوية، فانتشرت الكآبة في وجهي وجميع جوارحي.
استلقيت
مريضا متألما، لا أدري ما أصنع، فليس لدي أي قوة، فصحت: كيف لي أن أريد، ولا أريد
إلا بإرادة؟
فأجابني،
وكأنه سمع صوتي النابع من أعماقي: تعال أعلمك الإرادة، فيكفي في الإرادة أن تصيح
أعماقك.
***
منذ ذلك الحين، وأنا معه أتعلم السلام، وأكتب ما
يمليه علي من رسائل السلام، وهي الرسائل التي لم أفعل فيها من جهد غير روايتها،
ولم أحملها للنشر إلا بعد إذنه لي بنشرها.
وقد قال لي
في لقاءاته الأولى: ما هي المراحل التي وضعها قومك للتدريس؟
قلت: هي أربعة
في العادة، وعند أكثر الشعوب.
قال: ما هي؟
قلت:
الابتدائي، والإعدادي، والثانوي، والجامعي.
قال: فنحن في
دراستنا للسلام سنمر بهذه المراحل الأربع.. ولا تكتمل دراستنا إلا بها جميعا.
قلت: فماذا
ندرس في الابتدائي؟
قال: الأمل؟
ضحكت، وقلت:
ما الأمل؟
قال: هو عدم
الاستسلام لمسوغات الصراع التي ينشرها اليأس والحزن والألم، فلا يمكن أن يسالم
الحزين والخائف والمتألم.
قلت: أكل
برنامجنا في المرحلة الابتدائية هو الأمل؟
قال: أجل،
وهو برنامج كغيره من البرامج يحتوي على عشر مراحل، كل مرحلة نقطع فيها يأسا، ونحيي
فيها أملا.
قلت: ولم خصت
الدراسة الابتدائية بالأمل؟
قال: لأن
الحزين والخائف واليائس مشغول بنفسه، فلا يفكر في السلوك للبحث عن حقائق السلام.
قلت: فماذا
ندرس في الإعدادي؟
قال:
الترفع..
قلت: وما
الترفع؟
قال: هو
مواجهة النفس ما يتربص بها من أصناف الأعداء، أو هو تدمير الأسلحة التي تتوجه بها
النفس إلى نفسها.
قلت: وما
علاقة ذلك بالسلام؟
قال: وهل
يمكن للسلام أن يقوم في ظل ترسانة نووية ضخمة تموج بأشعتها النفس.
قلت: فلم خصت
الدراسة الإعدادية الترفع؟
قال: في
الإعدادي يبدأ الطلبة مواجهة الحياة باضطراباتها وفتنها.. فلذلك يحتاجون إلى معرفة
كيفية مواجهتها.
قلت: فماذا
ندرس في المرحلة الثانوية؟
قال: السلوك.
قلت: وما
السلوك؟
قال: هو سعي
النفس التي تخلصت من براثن اليأس والحزن والألم والصراع للتحقق بما تقتضيه الحقيقة
من صفات الكمال.
قلت: وما
علاقة ذلك بالسلام؟
فقال: لا
يمكن للسلام أن يساكن الخراب.
قلت: فلم خص
بهذه المرحلة؟
قال: من عرف
كيف يشذب الأشواك التي تقف في وجه حقيقته تطلع للأزهار التي يمتلئ بها الوجود.
قلت: فماذا
ندرس في المرحلة الجامعية؟
قال:
الحقيقة.
فقلت: وما
الحقيقة؟
فقال: هي
نهاية الرحلة ألم يقل الله تعالى:) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى((لنجم:42)
قلت: فما هي؟
قال: هي
القراءة الصحيحة للوجود بكل معانيه وأصنافه، لأن مبدأ الصراع ليس الخطيئة وإنما
الخطأ، ومبدأ الخطأ هو الجهل سواء كان مركبا أو بسيطا.
قلت: فلم
أخرتم الحقيقة إلى نهاية الرحلة؟ ألم يكن الأجدى البدء بها؟
قال: لا..
الحقيقة إن لامست النفوس المملوءة بالقذارة امتلأت قذارة.
قلت: ولكن
نور الحقيقة لا تبقى معه أي قذارة.. كما أن ضياء الشمس لا تبقى معه أي ظلمة.
قال: ولكن
الجاهل قد يضع يديه على عينيه، فلا يبصر الشمس.. فلذلك نحتاج لرفع يديه عن عينيه
حتى يبصرها.
قلت: فكيف
نرفع يديه عن عينيه؟
قال: بالأمل
والترفع والسلوك.
قلت: أهدف كل
هذه المراحل إذن هو الوصول إلى الحقيقة؟
قال: أجل..
فلا يمكن أن نصل إلى السلام إلا بعد الوصول إليها.
***
هذه هي
المراحل الأربعة التي تقوم عليها رسائل السلام، ولكل مرحلة منها مجموعة خاصة بها،
كل جزء منها باب من أبواب السلام، ومدخل من مداخله، وبحر من بحاره.
فإليك أيها
القارئ هذه الرسائل، فاقرأها بشروطها، لنتعلم معا السلام، ونطير في أجواء السلام،
لندخل بعد ذلك دار السلام، فقد دعانا السلام في كلامه المقدس إلى دار السلام، فقال
تعالى:) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ ( (يونس: من الآية25)
في هذه
المجموعة من رسائل السلام أحاديث عذبة جميلة تنطلق من فيض الحقائق الأزلية لتنشر
سلام الأمل في القلوب والأرواح.
وقد كان أول
لقاء لي مع معلم السلام بعد موافقته على جلوسي بين يديه طالبا ومتعلما مملوءا بكدر
عظيم حصل لي، فقد اختلطت في نفسي كل الكدورات من الألم والحزن والأسف والندم
وغيرها، فأصبحت وكأنني مزبلة للكآبة.
قال لي: أول
مراحل تعلم السلام هو الأمل.
قلت: إذن هو
الدراسة الابتدائية في مدرسة السلام.
قال: سم ذلك ما
شئت.. ولكنك لن تصل إلى حقائق السلام إلا بعد أن تقطع هذه المرحلة.
قلت: لم؟
قال: لأن
الأمل والبشارة هي الأرض الطيبة التي تنبت كل أنواع الثمار، أما القنوط واليأس
والأسف والحزن، فإنه لا يولد إلا الهلاك، ألم تسمع إلى ابن مسعود t وهو يقول:( الهلاك في اثنتين: القنوط
والعجب)
قلت: ألهذا
بعث الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بالبشارة، كما قال تعالى:) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ
فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ((ابراهيم:10)
وأمر تعالى
نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتبشير فقال:) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ
أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ((الزمر:17)
قال: أجل..
فهم مبشرون قبل أن يكونوا منذرين، بل إن الإنذار نفسه يحمل معاني البشارة
ومقتضياتها، وليس ذلك فقط، بل كان سلوك الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ نموذجا
رفيعا عن الأمل في أعلى درجاته.
قلت: وكيف لي
أن أتعلم سلام الأمل؟
فقال: ثلاث
سور من القرآن الكريم تحمل جميع مفاتيح الأمل؟
قلت فرحا:
ثلاث سور فقط.. ما هي؟ سأحفظها عن ظهر قلب.
قال: بأي شيء
تحفظها؟
قلت: الحفظ
لا يكون إلا في الصدور، كما أن الكتابة في السطور.
قال: لا..
الحفظ الذي يكون في الصدور ولا يتغلغل في الوجدان يأكله التراب، ويجرح صفاءه
النسيم.
قلت: فبماذا
أحفظها إذن؟
قال: ليس
الشأن أن تحفظها.. ولكن الشأن أن تنصبغ بها.
قلت: فما هذه
السور الثلاث؟
قال: الضحى،
والشرح، والكوثر.
قلت: أهذه
السور فقط؟
قال: إن كل
حرف من حروف هذه السور مدرسة من مدارس الأمل.
قلت: كيف
ذلك؟
قال: إن الله
تعالى يخاطب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يواجه الفتن بجميع أنواعها،
بالبشارة والأمل، فلا يمكن أن يواجه كل تلك التحديات بصدر منقبض، ونفس يائسة، وقلب
ضيق.
فلهذا كان من
أوائل ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى:) وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى
وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ
فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
فَحَدِّثْ ( (الضحى:1 ـ 11)
فهذه السورة
الكريمة أصل في الدعوة للأمل، بل أصل في تبيين طريقة تحقيقه، ولذلك ستكون نبراسا
نهتدي به في استنباط ما يحتاجه تعليم الأمل وتحقيقه من معاني.
وقبل ذلك
أجبني: ما المناسبة التي نزلت فيها، فهي مناسبة لها دلالتها الخاصة على ما نحن
فيه؟
قلت: روي أن
جبريل u أبطأ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال المشركون:( قد ودع محمد)، فنزلت[2].
قال: ومثل هذا
كل مكروب أو متألم أو متأسف أو حزين أو قانط، فإن أول ما ينفخ فيه شياطين اليأس
والألم والحزن هو ترك الله له وتخليه عنه.. فلذلك أول علاج نبدأ به مسيرتنا في حل
كل معضلة، أو تفريج كل كربة هو التذكير بالله، والتعريف به.
قلت: علمت أن
هناك علاقة وطيدة بين القسم والمقسم عليه، فما سر العلاقة هنا؟
قال: تبدأ
السورة بإطلالة جميلة على كون الله، وهي إطلالة تخرج الإنسان من قوقعة ذاته الضيقة
لترمي به في فضاء الكون الفسيح.
بل نرى في
السورة الكريمة تقديم الضحى على الليل على عكس السورة السابقة، وكأنها تقول للغارق
في ظلمات آلامه:( انسخ بأنوار الضحى ما نسج الليل فيك من أحزان وآلام)
بل إنها تشير
إلى نواح جميلة في الليل قد لا يلتفت لها اليائسون، فهي تذكر الليل بكون ( سجا) أي سكن[3]، وبسكونه تسكن النفس وتطمئن وتسعد.
قلت: فما نستفيد من هذا القسم من منهج تعليم السلام؟
قال: الربط بين حقائق الكون والنفس، فكلاهما من صنع الله.
قلت: كيف؟
قال: ننسخ ظلمات النفس بأنوار ضحى الكون.
قلت: فسنتعلم إذن علوم الكون أثناء تعلمنا للسلام.
قال: ألا ترى إلى القرآن الكريم كيف يمتلئ بذكر الكون؟
قلت: بلى.
قال: فالله يدلنا على المنهج.. وما كان لنا أن نخالف منهج
ربنا.
قلت: بعد القسم قال تعالى:) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى((الضحى:3)،
فما السر.. وماذا نستفيد من المنهج؟
قال: الآية تخبر عن معية الله وحضوره الدائم مع عباده، فهو
لم يتركهم، ولم يهجرهم، ولم يودعهم ولم يقلهم، بل هو معهم يكلؤهم ويرعاهم ويداوي جراحهم.
وهذا هو العلاج الأول لكل كرب وألم وحزن، ولذلك فإن جميع
ما سنراه من أدوية يتلمس كل الوسائل لغرس هذا المعنى في النفوس.
قلت: فقوله تعالى:) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى((الضحى:4)؟
قال: هذا حديث عن المستقبل الجميل الذي ينتظر كل إنسان
استظل بظل الله، فالآخرة خير في جمالها وسعادتها
ودوامها، فلا يحزن على المستقبل، كما لا يندم على الماضي، من راح في صحبة الله
يبني الدار الآخرة ويشيد قصورها.
قلت: فما
نستفيد من المنهج في هذا؟
قال: كل
الهموم والآلام سنعالجها بهذا الترياق، وسترى كيف يقضي على كل داء، وكيف يحل كل
عافية.
قلت: فقوله تعالى:) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى((الضحى:5)؟
قال: علاج العلل لا يقتصر على ذكر الآخرة، فالله رب الدنيا
والآخرة، وعطاؤه عاجل وآجل، نقد ونسيئة، فلذلك يقول الله تعالى للمتألم، وهو يغرس
فيه زهور الأمل:( سيعطيك ربك عطاء يرضيك، ويزرع البسمة في وجدانك، ويمحو كل الآلام
التي غرسها اليأس والحزن في جوانحك.. فالله تعالى بجوده الذي لا يتناهى يجعل أمدا
للعطاء هو الرضى الكامل، فالله لا يعطيك فقط، بل يعطيك ليرضيك، وفرق كبير بين من
يعطي، ومن يرضي)
قلت: ألهذا أخبر تعالى عن الرضى التام الذي يجده من اختار
سبيله، فقال: )فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ( (الحاقة:21)، وقال:) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ((الغاشية:9)،
وقال: ) ارْجِعِي
إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً((الفجر:28)
قال: أجل، فالرضوان هو غاية الأماني.. وهو منتهى السعادة،
ألم تسمع قوله تعالى:) وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ((التوبة: من الآية72، فقد ذكره بعد ذكر ما أعد لأهل الجنة في الجنة[4].
قلت: بلى،
ويدل لذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:(
إن اللّه عزَّ وجلَّ يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون لبيك ربنا
وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد
أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب
وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل لكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)[5]
فما نستفيده من هذا في منهج تعليم السلام؟
قال: لا يكفي أن نعرف الحقائق.. بل نسعى للرضى عنها..
فالرضى هو الذي يولد الأنس، ولأنس هو الذي يولد الحب.. والحب هو الذي يجعلك تنصبغ
بالحقيقة.
قلت: فما نستفيد من تعداده تعالى لأفضال نعمه على عبده، كما قال تعالى:) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى
وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى( (الضحى:6 ـ 8)
قال: هذا
بلسم عظيم للشفاء، فهو يغرس السكينة في النفس، والطمأنينة في الوجدان، وهو يبشر
المتألم بأن الذي رعاك سابقا لن يضيعك لاحقا، والذي لم يعرف منه إلا الجود يستحيل
عليه البخل.
ولذلك كان
الحديث عن النعم وتعدادها ترياقا للآلام ودواء للأحزان، وفرق كبير بين من يقول
للفقير:( أنت فقير)، وبين من يقول له:( أنت غني) بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان.
وفرق كبير
بين من يجعل المرض نوعا من أنواع الصحة، وبين من يجعله مرتعا من مراتع الأسف، وقد
قال - صلى الله عليه وسلم - وهو يعاملنا كيف نتعامل مع المرضى:( إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل فإن
ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب بنفس المريض)[6]
وفرق كبير
بين من يصور الموت بصورة الشبح المخيف، وبين من يصوره بصورة الحياة الجميلة
السعيدة، بل يصور الموت بصورة الوهم الذي لا وجود له.
قلت: فما
السر في قوله تعالى:)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ( (الضحى:9 ـ 11)؟، وما المنهج الذي نستفيده في تعليم الأمل؟
قال: هذه
الآيات تضع أمام الأذهان المتشربة بمعاني السورة أسواقا للتجارة الرابحة، تشغلها
عن آلامها، وترسم السعادة على شفاهها، فلا يرسم السعادة مثل التبشير بالسعادة.
قلت: فما
تحوي سورة الشرح من منهج تعليم السلام؟
قال: هذه السورة
مثل السورة السابقة، جاء الخطاب فيها بصيغة المخاطب المفرد، لتناجي المتألم
بمعانيها.
قلت: إن
البعض يعتقد أنها خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: أصاب
بعض الحق من قال ذلك.. وأخطأ كثيرا من الحق.
قلت: كيف..
أصاب أم أخطأ؟
قال: القرآن
الكريم كلام الله لكل البشر، فلا يصح أن نقصره على بعض البشر.
قلت: ولكن
الخطاب فيها بصيغة المفرد المخاطب، وهو لا يصدق إلا على رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -، فعليه نزل جبريل u.
قال: هي
متوجهة في البدء ـ ككل القرآن الكريم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو منبع
النور ومستقبله ـ ولكنها تنتشر منه لتتوجه لكل ضمير انشغل بما انشغل به رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، وعاش لما عاش له.
قلت: فبم
تبشر؟
قال: تبشره
بمعانيها.. وبحقائق الأمل.. وبرفع الإصر.. وباليسر بعد العسر.. ولذلك كانت ملجأ
العارفين عند كل ضيق.
قلت: لقد
ذكرتني ـ يا معلم ـ بما يروى عن بعض الصالحين، أنه ألح عليه الغم، وضيق الصدر،
وتعذر الأمور، حتى كاد يقنط، فكان يوماً يمشي، وهو يقول:
أرى الموت
لمن أمسى على الذلّ له أصلح
فهتف به
هاتف، يسمع صوته، ولا يرى شخصه، أو أري في النوم كأن قائلاً يقول:
ألا يا أيّها
المرء الذي الهمّ به برّح
إذا ضاق بك
الأمر ففكّر في ألَمْ نَشْرَح
فإنّ العسر
مقرون بيسرين فلا تبرح
قال: فواصلت
قراءتها في صلاتي، فشرح الله صدري، وأزال همي وكربي، وسهل أمري.
قال المعلم:
ليس الشأن في أن تكرر قراءتها، وإنما الشأن في أن تعيش في حقائقها.
قلت: حقائقها
تتجسد في حروفها.. ولا أعيها إلا بتكرارها.
قال: فإن
كررتها بلسانك، فلا تغفل عن تكرارها بقلبك.
قلت: السورة
الثالثة، هي سورة الكوثر، فما نستفيد منها من منهج تعليم الأمل؟
قال: هي
تخاطب الوجدان بنعم الله الكثيرة.. ببحار النعم التي لا تتناهى.. وهي تصل بين
المنعم والمنعم عليه.. فلا يصل بينهما مثل النعمة.
قلت: أتقصد
منهج تعداد النعم.
قال: أجل..
فهو منهج يداوي الجراح ويرفع الهمم ويحقق الأمل.
***
من بحار هذه السور الثلاث وعلى هديها جاءت هذه
المجموعة والتي اختار معلم السلام تسميتها بـ ( بوارق الأمل) لتمسح آهات القلب
اليائس الحزين المتألم الذي عبر عنه الشاعر بقوله:
وشمت بوارق
الآمال دهرا فلم أظفر على
ظمأ بمزن
فهي بوارق
تنير الدروب، وتمسح الظلمات عن القلوب، وتمطر غيثا نافعا أراضي النفوس المطمئنة
لتنبت من ريا غيثها كل ثمرة طيبة نامية زكية.
وهي تتكون من
عشرة أجزاء، يخاطب كل جزء منها ألما من الآلام، ويمسح دمعة من الدموع، وينشئ جبلا
من جبال الهمة، وهذه الأجزاء هي:
1 ـ ابتسامة
الأنين: وهي هذه الرسالة، وهي رسالة تبث الأمل في القلوب
المتألمة الحزينة، فتعالج كدورة الألم وما يبثه من صراع.
2 ـ كنوز
الفقراء: وهي رسالة تحطم وهم الفقر، وتمسح الآلام عن الفقراء،
وترفع عنهم الحواجز التي يضعونها لأنفسهم، أو يضعها لهم الواقع المنحرف.
3 ـ مفاتيح
المدائن: وهي رسالة تعالج علل التخلف، أو الفقر الاجتماعي لتبين
سنن الحضارة الربانية الممتلئة بالسلام.
4 ـ حصون
المستضعفين: وهي رسالة تبشر المستضعفين
الممتهنين ـ الذين طغا عليهم الاستبداد، فواجهوه بصدورهم ـ بالعزة والنصر والسلام،
وتضع لهم من الوسائل الشرعية ما يقاومون به ضعفهم والاستبداد المسلط عليهم.
5 ـ عيون
الطهارة: وهي رسالة تتوجه للمتألمين من أوزار المعاصي المتلطخين
بأدناسها، ترشدهم للعيون التي يتطهرون بها من أوزار المعصية والإحباط.
6 ـ كنوز في
بطن الحوت: وهي رسالة تتوجه للمكروبين الغارقين في بحار حوت الهموم
والآلام لترسم لهم طريق النجاة الذي سلكه ذو النون، فنجاه الله من الغم.
7 ـ سهام في
كبد الخوف: وهي رسالة تزرع الأمن في القلوب الخائفة، فلا سلام مع
الخوف.
8 ـ أسطورة
الموت: وهي رسالة تحول من الموت الذي يحزن له، ويتألم لمجيئه،
لحظة من لحظات السعادة لا تختلف عن لحظة الولادة نفسها.
9 ـ بحار
النعم: وهي رسالة تنطلق من قوله تعالى:) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا
تُحْصُوهَا ( (ابراهيم: من الآية34) ومن قوله تعالى:) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ((الضحى:11) لتبحث عن نعم الله، فتذكر
القلوب بها، وهي تمسح بذلك آهات الحزانى الذين عشيت عيونهم عن رؤية أفضال الله، أو
امتلأت صدورهم بالكآبة والسوداوية القاتلة.
10 ـ القوى
العظمى: وهي رسالة تتوجه للنفس الخاملة الكسولة المتألمة
المنشغلة عن قواها بقوى غيرها، لترشدها إلى مراكز القوة فيها.
وهي الرسالة
الفاصلة بين هذه المجموعة والمجموعة التالية المعلمة لدروس الترفع.
وبذلك تعالج
هذه الرسائل العشر جميع ما يستعمر النفس من صنوف الآلام والهموم، فيقعد بها عن كل
فضيلة، ويزج بها في كل رذيلة.
وكل رسالة
منها رحلة في عالم من العوالم تبدأ من الظلام الذي يغمر النفس، لتبحث عبر بصيص
النور عن مصدره، لتصل في الأخير إلى العالم الأفضل..
وهي تعتمد
الرمز أسلوبا في الدلالة على ذلك.. ولكنها تخفف غموض الرمز بالشرح المفصل الذي
يفهمه الكل، ويستفيد منه الكل.
وهي تستنير
بالنصوص المقدسة من الكتاب والسنة، وتحاول فهمها واستنباط أنواع العلاج منها.
وهي قد تنتقد
الواقع نقدا مريرا.. ولكنه نقد بناء.. فهي لا تدعو لهدم واقع ترى عدم صحته إلا
بوضع واقع بديل ينوب عنه ويخلفه.
وهي في
الأخير طروحات قد تلقى القبول، وقد تلقى الرفض، والسلام يستدعي تقبل الآراء
المختلفة.. فلذلك نفرح بكل تصويب، وننتصح لكل نصيحة، ونعتذر لمن نخالفه بأنا لا
نخالفه لأنا نخالفه.. ولكن لأن ما معنا من النور دلنا على تلك المخالفة.. وقد يكون
معه من النور ما دله على صحة مخالفته لنا.
ونحن لا
ندعوه لترك الحق المتيقن الذي يعرفه للحق المتوهم الذي يعتقده عندنا.. وندعوه ـ
كذلك ـ لأن يعاملنا كما نعامله، فلا يلزمنا بما ألزم به نفسه، فالحقيقة قد يتسع
صدرها للجميع.
([1]) تتردد هذه العبارة كثيرا
في رسائل السلام، والقصد منها العبودية لله، وهو تعبير اشتهر عن بعض الصالحين.
([3]) قاله قتادة ومجاهد وابن
زيد وعكرمة، يقال: ليلة ساجية أي ساكنة. ويقال للعين إذا سكن طرفها: ساجية. يقال:
سجا الليل يسجو سجوا: إذا سكن. والبحر إذا سجا: سكن. قال الأعشى:
فما
ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم وبحرك
ساج ما يواري الدعامصا