المؤلف: نور الدين أبو
لحية |
العودة للكتاب: رقية الروح |
الناشر: دار الكتاب الحديث |
الفهرس
|
جاءني معلم
السلام، وقد رآني أشكو من بعض الآلام، فقال: هلم بنا إلى مستشفى السلام، لتعالج
أدواءك، وتبتسم لأنينك.
قلت: وهل للسلام
مستشفى.. وبماذا يعالج؟
قال: لا
مستشفى بلا سلام.. وكل مستشفى يخلو من السلام هو بيت للداء لا بيت للدواء..
قلت:
المستشفيات ـ يا معلم ـ خاضعة لقوانين معينة لا تعدوها، فهي تعالج العلل بما توصلت
إليه الكيمياء الحديثة من تركيبات.
قال: هناك
كيمياؤكم، وهي قد تداوي داء، وتعجز عن أدواء، وتنشر أدواء.. وهناك كيمياء السلام..
وهي دواء لكل علة، تنشر العافية المضمخة بعطر السكينة.
قلت: فأين
مستشفى السلام؟ ومن أطباؤه؟ وكيف يعالج؟
قال: هذه
رحلتنا في هذه الرسالة.
قلت: هل
سنرحل من هنا؟ وفي أي طائرة؟ وليس لي جواز سفر.
قال: لا
تحتاج إلى طائرة.. أما جواز سفرك فهو الإرادة، ألم تعلم أن الإرادة هي مفتاح لكل
باب.. ونافذة لكل مغلق؟
قلت: عرفت
الإرادة.. ولكني لم أر في حياتي شخصا يمتطي طائرة تسمى ( الإرادة) ليرحل بها.
قال: من لم
يرحل بطائرة الإرادة، فهو لم يفارق مكانه.
قلت: لا ـ يا
معلم ـ هم يطيرون في الأجواء، فيقطعون البحار السبعة.
قال: ولكنهم
لم يغادروا الأرض.
قلت: لا ـ يا
معلم ـ لقد غادروها.. ورحلوا إلى القمر، ويوشك أن يرحلوا إلى المريخ..
قال: وما
القمر؟.. وما المريخ؟.. كلها حجارة كحجارة جبالكم وقلوبكم.
قلت: فكيف
نرحل؟
قال: قبل أن
ترحل انظر إلى أعماقك التي تملتئ بهذا الأنين الذي ينشره الألم، وقل لي: ماذا ترى؟
قلت: أنزل
إلى أعماقي ؟!
قال: نعم.. لن ترحل إلا بعد أن تنزل.. ولن تنبت
إلا بعد أن تدفن.. ولن تنتج إلا بعد أن تغرس.. ولن يقوم بنيانك إلا إذا حفرت
أساسك.
قلت: فعن أي
لؤلؤة أبحث في أعماقي؟
قال: لا
تحتاج إلى اللآلئ، فهي حجارة كالحجارة، بل ابحث عن الظلام لتطفئه بالنور، وابحث عن
الحراب التي توجهها إلى ربك لتكسرها باليقين.
نزلت إلى
أعماقي، فرأيت أناتي حرابا متوجهة إلى السماء، تقول كل أنة بلسان فصيح:( لم يا رب
تتفنن في إيلامي؟.. لم تملؤني بالحزن؟.. لم تملأ مشاعري بالأسى؟.. لم تغمرني
بالإحباط؟)
صحت خائفا في
وجهها: كفي يا أناتي.. أتدري من تخاطبين.. إنه الذي ) لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْأَلُونَ((الانبياء:23)
كانت الأنات تردد
توشيحاتها.. ولا تبالي بي، صحت: يا معلم.. أنقذني من هذه الأنات الكافرة.. فهي
تريد أن تزج بي في هاوية جهنم.. إنها لا تستحي من الله.. إنها لا تخجل من ضعفها.
قال المعلم:
أناتك هي أنت.. فأنت تختفي في ظل أناتك.
قلت: ولكني
أقاومها.
قال: تقاومها
بلسانك، وهو مجرد جارحة من جوارحك تتقن النفاق.. أما حقيقتك، فتصيح بما صاحت به
أناتك..
قلت: فكيف
أنقذ حقيقتي من هذا الانحدار الذي توقعني فيه أناتي؟
قال: هيا
نرحل إلى مستشفى السلام لتنقذ روحك، وتنقذ معها حقيقتك، وعسى الله أن يهبك ما تقي
به جسدك، فالله شكور حليم.
قلت: هيا
نرحل..
قال: امتط
إرادتك.. وسر معي.
امتطيت
الإرادة التي بثها في الألم، فإذا بي، وفي أقل من طرفة عين أرى بنيانا عجيبا.. لست
أدري هل نبت كما تنبت الأزهار، أم شيد كما تشيد القصور.. كان يشبه زهرة من الأزهار
الجميلة.. لا تفوح منه إلا عطور الشفاء.
قلت للمعلم:
أهذا مستشفى، أم فندق؟
قال: بل
مستشفى.
قلت: ولكني
لا أشم فيه رائحة المرض.
قال: هو
مستشفى، فكيف تشم فيه روائح المرض؟
قلت:
المستشفيات عندنا لها روائح مميزة.. تتقزز منها أنوف الأصحاء.
قال: تلك
مستشفياتكم التي تتعامل معكم كما تتعامل مع الآلات.. لا الإنسان.
قلت: فما سر
هذه العطور الزكية؟
قال: هي عطور
الحقائق، فمستشفى السلام لا يعطيك وصفات لتشتري بها أدوية تعالج بها الخلل الذي
أصاب جسدك، وإنما يعطيك الوصفات التي تعالج بها روحك التي تسببت في الخلل الذي حصل
لجسدك.
قلت: أهي
تعالج المنبع؟
قال: هي لا
تتقن فنون الطلاء التي تتقنونها.
قلت: فكم
قسما في هذا المستشفى؟
قال: أربعة
أقسام.. سنتجول فيها قسما قسما لننهل منها حقائق السلام.
قلت: فما هي؟
قال: حصون
الروح، وحصون الجسد، والأدوية التي من السماء، والأدوية التي من الأرض.
قلت: فما حصون الروح؟
قال: هي الحصون التي تحتمي بها الروح
من ألم الداء.. فتسالم الله في بلائه.. وهي أربعة.. وهي التي يكون منها المنطلق.
قلت: فما هي؟
قال: حصن الغيبة، وحصن الأمل، وحصن
الاستعانة، وحصن الفرار.
قلت: فما
الغيبة؟
قال: هي
الغفلة عن الآلام بالحضور مع الله، أو بالرضى عن الله، أو بالسكون لمقادير الله، أو
بالنظر في نعم الله.
قلت: فما
الأمل؟
قال: انتظار
الفرج من الله، والتعرف عليه ليمتلئ قلبك بالأمل الصادق.
قلت: فما
الاستعانة؟
قال: هي
الاستعانة بالله في رفع البلاء، أو في تلطيفه.
قلت: فما
الفرار؟
قال: الفرار
من شياطين الروح الذين ينفخون آلام اليأس والحزن.
قلت: فما
حصون الجسد؟
قال: هي
الحصون التي يحتمي بها الجسد من آلام الأدواء.
قلت: فما هي؟
قال: هي
أربع: حصن الاستقامة، وحصن الوقاية، وحصن القوة، وحصن التواصل.
قلت: فما
الأدوية التي من السماء؟
قال: هي
الأدوية المباركة التي ورد في النصوص بيان فضلها والحث على التداوي بها.. وأهل هذا
المستشفى يبدأون بها قبل غيرها.
قلت: فهي
أربعة كذلك؟
قال: أجل..
مراصد البركة، ومنازلها، ومخازنها، ومشافيها.
قلت: فما
الأدوية التي من الأرض؟
قال: هي
الأدوية التي عمر الله بها الأرض.. وهدى لها الخلق.
قلت: فما هي؟
قال: هي
مطاعم الشفاء، ومزارعه، ومصانعه، ومناسجه.
قلت: هذه
أسماء غريبة غامضة.. فهلا أنبأتني من أسرارها؟
قال: سترحل
إليها.. وتتعلم من أهلها.
قلت: فلم
كانت هذه الأقسام أربعة؟
قال: هذه هي
الأسس الأربع في التعامل مع البلاء، هي الأسس الصحيحة التي دلت عليها النصوص، وهي
التي عاشها أهل الله في صحبتهم لما ينزل عليهم من أمطار البلاء.
لكن سوء
الفهم تطرق لبعض هذه القواعد، فانخرم عقد نظامها:
فخرج
الغافلون من الثورة على البلاء إلى الثورة على المبتلي، فحاربوا الله وخاصموه.
وانشغل آخرون
بالبلاء عن المبتلي، فحجبوا بحياة البلاء التي أصابت بعض جوارحهم عن العافية التي
تنعم بها كل لطائفهم.
واختار آخرون أن يغفلوا بالمبتلي عن
البلاء، لكن سوء الفهم طرق لهم أيضا، فاعتبروا الثورة على البلاء ثورة على
المبتلي، ومنازعة الأقدار بالأقدار محاربة لأقدار الله، فحجب سوء فهمهم عن مقاصد
أهل الله، وأساء المعرفة بالله.
قلت: فما
علامة الشفاء التي تسمح للمريض بالخروج من المستشفى؟
قال:
الابتسامة.. ابتسامة الأنين.
قلت: ألا
تجرون له أي تحاليل للتأكد من سلامته؟
قال: أما
تحاليلكم.. فلا نجريها.. ولكن لنا تحاليلنا الخاصة.
قلت: من
أطباؤكم؟
قال: لكل قسم
أطباؤه، وسنمر عليهم، ونتعرف بهم، ونستفيد منهم.
قلت: فما
أنواع الأمراض التي يستقبلها هذا المستشفى؟
قال: كل
الأمراض أمراض.. وكل الأنات أنات.
قلت: لم
تفهمني.. نحن لدينا مستشفيات تخصصية.
قال: أنتم
تتعاملون مع الجسد المركب.. ونحن نتعامل مع الحقيقة الواحدة، فلذلك لم نحتج لما
احتجتم إليه.
قلت: فما
نسبة الشفاء في هذا المستشفى؟
قال: سمعتكم
تعبرون عن الكمال بالمائة.
ضحكت، وقلت:
تقصد مائة بالمائة.
قال: إن أردت
الشفاء التام لكل من يدخل، فهو تعبير صحيح.
قلت: فكم من
المال يدفع من يدخل المستشفى؟
قال: ما نصحك
من طلب منك مالك، ألا تعلم أن العفاف شرط من شروط السلام.
قلت: فمن أين
يعيش أطباء هذا المستشفى؟
قال: من عيون
الحكمة النابعة من بحار السلام.
قلت:
اعذرني.. لقد نسيت.. تصورت نفسي أجري حوارا مع مستشفى من مستشفياتنا.
***
رأيت أقواما مختلفين يدخولون هذا المستشفى،
والكدورات تملأ نفوسهم، والظلمة تغمر وجوههم، قلت: من هؤلاء؟
قال: أنت.
قلت: كيف..
فأنا هو أنا.
قال: كلهم
رأى في أعماقه ما رأيت في أعماقك، فجاء يبحث عن شفاء.
***
رأيت آخرين يخرجون مبتسمين تشرق أسارير وجوههم
بالنور، وتسري في أوصالهم العافية، قلت: من هؤلاء؟
قال: هؤلاء
الذين أذن لهم بالخروج من المستشفى، بعد أن امتلأت أرواحهم بحقائق السلام.
قلت: أطال
مكوثهم؟
قال: منهم من
يمكث ثانية.. ومنهم من يظل عشر سنين.. ومنهم من يموت في المستشفى.
قلت: فلماذا
تفاوتوا.. ألا يقدم لهم علاج واحد؟
قال: تفاوتوا
بتفاوت الهمم.. فمنهم من أنس وسكن، ولم يرحل.. ومنهم من ارتفعت همته.. فراح يبحث
عن دور السلام الأخرى ليصعد من خلالها إلى الله.
قلت: فما
تنصحني حتى لا أقع فيما وقعوا فيه؟
قال: بالرحلة
الدائمة والعبور المستمر.. ضع بين عينيك دائما:) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى((لنجم:42)
***
هذه الرسالة من رسائل السلام تتوجه إلى الأنات
المتصاعدة من الحناجر المتألمة، والتي قد تحمل في طي موجاتها بعض الصراع الذي
تتوجه به النفس المكفنة في كفن الأنا إلى من لا تفيض الرحمة إلا منه.
وفيها نتنسم
عطر أنين الأولياء، المضمخ بروائح الابتسامة العذبة التي تنشر السلام في
النفس، ومع الله، ومع أقدار الله.
وهي تلخيص
لما دار في تلك الرحلة العجيبة والجميلة والمفيدة التي قادني فيها معلم السلام،
لأتعلم ابتسامة الأنين.
وقد كتبت
أحداثها كما حدثت بدقيقها وجليلها، وأقرني معلم السلام على ذلك، وفي إقراره ما
يكفي لطمأنتي.
أولا ـ حصن الغيبة
دخلنا الحصن الأول من حصون الروح..
كان النور يشع فيه من كل النواحي.. وهو نور هادئ مريح تكاد النفس تغيب في جماله..
وكان النور يكتب بإشعاعاته عبارات حاولت قراءتها بعيني، فلم أفلح، قلت لمعلم
السلام: ماذا تكتب هذه الأنوار؟
قال: اسمعها ببصيرتك.. ولا تقرأها
بعينك.
أصغيت بأذني بصيرتي، فسمعت صوتا
حانيا يتوجه إلي قائلا: لا تحزن إن ألمت بك الأدواء، وطافت بجسمك السموم، وانتهض
جيش الشيطان ليملأ قلبك هما وحزنا.
لا تحزن.. واجعل من أدواء جسمك أدوية
لقلبك، وحول من تثاقل ذاتك الطينية سموا لذاتك الروحية.
قلت: يا معلم.. ما هذا الصوت؟
قال: هذا هو صوت أطباء البصيرة.. فهم
يخاطبون أعماقك لا جوارحك.
قلت: أكل أطباء هذ المستشفى بهذه
الصفة؟
قال: لا.. لكل قسم طبيعته الخاصة..
أما في هذا القسم، فلن تسمع إلا بالبصيرة.. ولن ترى إلا بالبصيرة.. أليس هم قسم (
الغيبة)
قلت: فإن هذا الصوت يكلفني ما لا
يطيق بشر فعله، فكيف أترفع عن ذاتي الطينية، وأنا حبيسها، وكيف أجعل من الأدواء
دواء.. علمني، فإني لا أكاد أفهم شيئا؟
قال: سر معي، ولا تسأل.
نهضت لأسير، فقال: إلى أين؟
قلت: ألم تطلب مني أن نسير؟
قال: ألا سير إلا بالأرجل؟
قلت: هذا ما نعرفه.
قال: ما وصل من سار برجله، ولا تحقق
من أتعب قدميه؟
قلت: فبم أسير؟
قال: بك.
قلت: وهل رجلاي إلا أنا؟
قال: رجلاك منك لا أنت.
قلت: فها أنذا بين يديك سر بي حيث
شئت.
قال: لا يمكن لأحد أن يسير بأحد، كل
واحد يسير بنفسه.
قلت: إلى أين؟
قال: إلى رياض الأولياء.
قلت: لماذا؟
قال: ليجيبوا عن سؤالك.
قلت: أي سؤال، فقد نسيت؟
قال: أنت تبحث عن الترفع عن البلاء،
والترفع سيما الصالحين، ولذلك سنبحث في سيرهم لنرى ترفعهم وابتسامتهم لأنينهم.
قلت: أنا أسمعك، فارو لي أخبارهم مع
الأنين.
قال: تسمعها بصيرتك من أفواه أولياء
هذا القسم، فأصخ سمعها.
أصخت سمع بصيرتي، فسمعت صوتا جميلا
يخاطبني قائلا: كن ـ أيها المتألم الغارق في أوحال الأنين ـ كامرأة فتح الموصلي، حين عثرت، وانقطع ظفرها، فضحكت،
فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبـي مرارة وجعه.
قال معلم السلام: هذه ابتسامة
الثواب.. وهي سلوى الفقراء إلى فضل الله.
سمعت صوتا آخر يقول: كن كعروة بن
الزبـير، قطعت رجله من ركبته من أكلة خرجت بها، ثم قال: الحمد لله الذي أخذ مني
واحدة، ولئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت، ثم لم يدع ورده تلك
الليلة.
قلت: ما أجمل هذا ! صوت من هذا؟
قال: هذا صوت التسليم والرضى الممزوج
بالشكر.
صاح صوت آخر: كن كعمران بن الحصين،
استسقى بطنه، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد حتى نقب له في سرير
من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته، فدخل عليه مطرف وأخوه العلاء فجعل يبكي لما
يراه من حاله، فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحالة العظيمة قال: لا تبك
فإنّ أحبه إلى الله تعالى أحبه إليَّ، ثم قال له لما رأى جزعه: أحدّثك شيئاً لعل
الله أن ينفعك به، واكتم عليَّ حتى أموت، إنّ الملائكة تزورني فآنس بها وتسلم علي
فأسمع تسليمها فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة.
قلت: الله ! ما أعظم رحمة الله
بأوليائه !
قال: هذا صوت السلوى بأهل الله.
صاح صوت آخر: كن كسويد بن متعبة، فقد
دخل إليه بعض الصالحين يعوده، قال: فرأينا ثوباً ملقى فما ظننا أن تحته شيئاً حتى
كشف، فقالت له امرأته: أهلي فداؤك ما نطعمك. ما نسقيك؟ فقال: طالت الضجعة ودبرت
الحراقيف وأصبحت نضواً لا أطعم طعاماً ولا أسيغ شراباً منذ كذا، فذكر أياماً، وما
يسرني أني نقصت من هذا قلامة ظفر.
قلت: هذا التسليم بعينه.. هذا الرضى
المحفوف بالسعادة.
صاح صوت آخر: كن كمحمد بن واسع، فقد
نظر رجل إلى قرحة في رجله، فقال: إني لأرحمك من هذه القرحة، فقال: إني لأشكرها منذ
خرجت إذ لم تخرج في عيني.
قلت: هذا الشكر..
قال: وهو سر من أسرار الابتسامة.
صاح صوت آخر: كن كذلك الذي جمع أصناف
البلاء، قال بشر: قصدت عبادان في بدايتي، فإذا برجل أعمى مجذوم مجنون قد صرع
والنمل يأكل لحمه، فرفعت رأسه فوضعته في حجري وأنا أردد الكلام، فلما أفاق قال: من
هذا الفضولي الذي يدخل بـيني وبـين ربـي، لو قطعني إرباً إرباً ما ازددت له إلا
حباً؟ قال بشر: فما رأيت بعد ذلك نقمة بـين عبد وبـين ربه فأنكرتها.
قلت: هذا الحب..
قال: وهو منبع من منابع السكينة،
ومخدر من مخدرات الألم.
صاح صوت آخر: كن كالذي عبد الله بابتسامة الأنين، فجعله الله
أعبد أهل زمانه، يروى أنّ يونس u قال لجبريل: دلني على أعبد أهل الأرض. فدله على رجل قد قطع الجذام
يديه ورجليه وذهب ببصره، فسمعه وهو يقول: إلهي متعتني بهما ما شئت أنت، وسلبتني ما
شئت أنت، وأبقيت لي فيك الأمل يا بر يا وصول.
قلت: هذا صوت الأمل.
قال: وهو صوت العارفين بالله
المحسنين الظن به.. وهو صوت السعادة الطامحة إلى المعالي.
صاح صوت آخر، كأنه يجمع الأصوات
جميعا: كن مثلهم، فابتسموا في الوقت الذي أن فيه غيرهم، وفرحوا في الوقت الذي حزن
فيه غيرهم، وحمدوا الله في الوقت الذي ضجر فيه غيرهم، فنالوا الرضى، وفازوا
بالجنتين جميعا، جنة الدنيا وجنة الآخرة.
***
قلت لمعلم السلام: فما كان حاديهم في ذلك.. من
فتر ثغورهم بالابتسامة العذبة، وخدر آلامهم من غير ترياق؟
قال: بلسمان شافيان.
قلت: فما هما؟
قال: أما الأول فقد غابوا بالله عما
سواه، حبا له، ورضى به، وسكونا لمقاديره.
قلت: والثاني؟
قال: نعم الله التي ينطوي عليها البلاء،
فالمبتلى عامل عند الله، وللعامل حظ من اسم الله ( الشكور) يناله لا محالة، فيغيب
بنواله عن كل ألم.
قلت: فأين نجد هذين البلسمين؟
قال: لكل منهما قاعة علاجه الخاصة..
فهلم إليهما.
دخلت القاعة الأولى، وهي أنوار محضة
لا يمكن وصفها، وإذا لافتة مكتوب عليه قوله:) فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ
وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ((يوسف:
من الآية31)
وسمعت صوتا حانيا قويا يقول ـ وكأنه
يخاطب جميع مرضى العالم ـ:( أول ما يكسر سورة الأنين الذي قد يتخذه الشيطان رمحا
تحارب به ربك هو أن تغيب عن الأنين برب الأنين.
فتتخذ من هذا الذي أراد الشيطان أن
يجعله نصبا ليستل عقلك وقلبك وروحك، ويضمك إلى حزبه، معراجا تعرجا به إلى ربك،
وسلما ترتقي به إلى سموات لم تحلم بها في حال طمأنينة جسدك ورخائه)
قلت لمعلم السلام: ما هذه القاعة؟
قال: هذه القاعة الغيبة بالله، وهي
القاعة التي يموت فيها الألم انشغالا بالله.
قلت: فما تلك الآية، وما علاقتها
بهذه القاعة؟
قال: ما تقول الآية؟
قلت: هؤلاء نسوة تهن في جمال يوسف،
فقطعن أيديهن لفرط ذهولهن، ومع ذلك لم يشعرن بما حصل في أيديهن من الألم[1].
قال: فكيف لو رأين جمال رب يوسف،
وكيف لو غرقن في بحار حبه المقدسة؟
ثم التفت إلي، وقال: أتدري ما قيمة
غيبتك عن الأنين؟
قلت: أجل لقد قال بديع الزمان: ( كلـما
استعظمت الـمصائب الـمادية عظُمت، وكلـما استصغرتَها صغرت)[2]،
وأعظم احتقار واستصغار هو عدم الالتفات إليها، أو الاهتمام بها، كما لا يهتم بكل
صغير حقير.
ويضرب الإمام بديع الزمان مثلا على
ذلك بقوله:( كلما اهتم الانسان بـما يتراءى له من وهم ليلاً يضخـم ذلك في نظره،
بينـما إذا أهملـه يتلاشى، وكلـما تعرض الانسان لوكر الزنابير ازداد هجومها وإذا أهملـها تفرقت)[3]
ويطبق هذا المثل على البلاء، فيقول:(
فالمصائب المادية كذلك كلما تعاظمها الانسان واهتـم بها وقلق عليها تسربت من الجسد
نافذة في القلب ومستقرة فيه، وعندها تتنامى مصيبة معنوية في القلب وتكون ركيزة
للمادية منها فتستمر الاخيرة وتطول. ولكن متى ما أزال الإنسان القلق والوهم من
جذوره بالرضا بقضاء الله، وبالتوكل على رحـمته تضمحل المصيبة المادية تدريجياً
وتذهب، كالشجرة التي تـموت وتـجف أوراقها بانقطاع جذورها)
قال: صدقت، وقد سمعته، وهو يصرح
بالدعوة إلى ما دعا إليه الأولياء من إحلال الابتسامة محل الأنين، فيقول:( نعم..!
إن الإنسان مثلـما يخفف حدَّة خصمه
باستقبالـه بالبشر والابتسامة، فتتضاءل سَورة العداوة وتنطفىء نار الـخصومة، بل قد
تنقلب صداقةً ومصالحة، كذلك الأمر في استقبال البلاء بالتوكل على القدير يذهبُ
أثره)[4]
قلت: هل سمعته بأذنك؟
قال: دعك من هذا.. وقل لي: ما تشعر؟
قلت: لا أكتمك ـ يا معلم ـ أني لا
تزال في روائح الاعتراض المنتنة.
قال: فما تقول لك؟
قلت: تقول لي:( مرضي خطير، ودائي
مستعص، والآلام تفتك بي:
صبت
علي مصائب لوأنها صبت علي الأيام صرن
لياليا
فأنى لي أن أنشغل، وكل عرق في نبض،
وكل خلية مني تتألم.. وهل ينشغل عن النار
من اشتمل عليه لهيبها، فلم يدع له متنفسا؟)
قال: فاسمع لما يصيح به الربانيون
العازفون على أوتار الحقيقة مخبرين عن الترياق الفعال لهذا الألم المكنون.
سمعت صوتا يقول: لقد أخبر السري
السقطي عن القدرة العجيبة التي يتحملها المنشغل بالله، لما سأله الجنيد: هل يجد
المحب ألم البلاء؟ قال: لا، قال: وإن ضرب بالسيف قال:( نعم وإن ضرب بالسيف سبعين
ضربة، ضربة على ضربة)
وسمعت صوتا آخر يقول: وبين يحيـى بن
معاذ الرازي الحال الذي دعا إلى هذا الفناء عن الذات، والانشغال بالله، فقال ـ
مستعملا أقيسة الفقهاء ـ: ( إذا نظر أهل
الجنة إلى الله تعالى ذهبت عيونهم في قلوبهم من لذة النظر إلى الله تعالى ثمانمائة
سنة لا ترجع إليهم، فما ظنك بقلوب وقعت بـين جماله وجلاله؟ إذا لاحظت جلاله هابت
وإذا لاحظت جماله تاهت)
قال لي معلم السلام: أتدري ما سبب
بطلان إحساس المحبين بالآلام؟
قلت: مثل الغزالي ذلك بالرجل
المحارب، فإنه في حال غضبه أو في حال خوفه قد تصيبه الجراح، وهو لا يحس بألم ذلك لشغل قلبه، ( بل الذي يحجم
أو يحلق رأسه بحديدة كآلة يتألم به، فإن كان مشغول القلب بمهم من مهماته فرغ
المزين والحجام وهو لا يشعر به)[5]
ثم بين علة هذه الحالة وقانونها الذي
لا يختص بالمحبين لله، فقال:( وكل ذلك لأنّ القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور
مستوفى به لم يدرك ما عداه، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه أو بحبه قد
يصيبه ما كان يتألم به أو يغتمّ له لولا عشقه، ثم لا يدرك غمه وألمه لفرط استيلاء
الحب على قلبه. هذا إذا أصابه من غير حبـيبه فكيف إذا أصابه من حبـيبه؟)
وقد ذكر الغزالي الأمثلة الواقعية
الكثيرة على هذا، فذكر أن هناك من يغفل عن الخلق حتى لا يبصر من يحضر عنده وهو
فاتح عينيه، ولا يسمع ما يقال له مع أنه لا صمم به وقد يمرّ على ابنه مثلاً فلا
يكلمه.
وذكر عن بعضهم يجري عليه ذلك أنه قال
لمن عاتبه: إذا مررت بـي فحركني.
وذكر عن عبد الواحد بن زيد أنه قيل
له: هل تعرف في زمانك هذا رجلاً قد اشتغل بحاله عن الخلق؟ فقال: ما أعرف إلا رجلاً
سيدخل عليكم الساعة فما كان إلا سريعاً حتى دخل عتبة الغلام، فقال له عبد الواحد
بن زيد: من أين جئت يا عتبة؟ فقال من موضع كذا ـ وكان طريقه علىالسوق ـ فقال: من
لقيت في الطريق؟ فقال: ما رأيت أحداً.
وحكى عن بعضهم أنه قال: مررت بجماعة
يترامون وواحد جالس بعيداً منهم، فتقدّمت إليه فأردت أن أكلمه فقال: ذكر الله
تعالى أشهى فقلت: أنت وحدك؟ فقال: معي ربـي وملكاي فقلت: من سبق من هؤلاء؟ فقال:
من غفر الله له، فقلت: أين الطريق؟ فأشار نحو السماء وقام ومشى وقال: أكثر خلقك
شاغل عنك.
ودخل الشبلي على أبـي الحسين النووي
وهو معتكف فوجده ساكناً حسن الاجتماع لا يتحرّك من ظاهره شيء فقال له: من أين أخذت
هذه المراقبة والسكون؟ فقال: من سنور كانت لنا، فكانت إذا أرادت الصيد رابطت رأس
الحجر لا تتحرّك لها شعرة.
وقال أبو عبد الله بن خفيف، خرجت من
مصر أريد الرملة للقاء أبـي علي الروذباري فقال لي عيسى بن يونس المصري: إن في صور
شاباً وكهلاً قد اجتمعا على حال المراقبة،
فلو نظرت إليهما نظرة لعلك تستفيد منهما؟ فدخلت صوراً وأنا جائع عطشان وفي وسطي
خرقة وليس على كتفي شيء، فدخلت المسجد فإذا بشخصين قاعدين مستقبلي القبلة فسلمت
عليهما فما أجاباني، فسلمت ثانية وثالثة فلم أسمع الجواب، فقلت: نشدتكما بالله إلا
رددتما عليّ السلام فرفع الشاب رأسه من مرقعته فنظر إلي وقال: يا ابن خفيف الدنيا
قليل وما بقي من القليل إلا القليل فخذ من القليل الكثير، يا ابن خفيف، ما أقل
شغلك حتى تتفرّغ إلى لقائنا؛ قال: فأخذ بكليتي ثم طأطأ رأسه في المكان فبقيت
عندهما حتى صلينا الظهر والعصر فذهب جوعي وعطشي وعنائي، فلما كان وقت العصر قلت:
عظني فرفع رأسه إليَّ وقال: يا ابن خفيف نحن أصحاب المصائب ليس لنا لسان العظة،
فبقيت عندهما ثلاثة أيام لا آكل ولا أشرب ولا أنام ولا رأيتهما أكلا شيئاً ولا
شربا، فلما كان اليوم الثالث قلت في سري: أحلفهما أن يعظاني لعلي أن أنتفع
بعظتهما، فرفع الشاب رأسه وقال لي: يا ابن خفيف عليك بصحبة من يذكرك الله رؤيته
وتقع هيبته على قلبك، يعظك بلسان قلبه، ولا يعظك بلسان قوله، والسلام؛ قم عنا فهذه
درجة المراقبـين الذين غلب على قلوبهم الإجلال والتعظيم فلم يبق فيهم متسع لغير
ذلك.
قال معلم السلام: فإذا كان الحب
والعشق من أعظم الشواغل، وكان ذلك في ألم يسير بسبب حب خفيف، فكيف يكون الأمر لو
تصوّر في الألم العظيم بالحب العظيم.
قلت: لقد بين بشر بن الحارث في موعظة
بليغة صادفت محلا فارغا فتمكنت، كيف يتمكن المحب من قهر كل ألوان البلاء، فقال
يحكي عن نفسه: مررت برجل وقد ضرب ألف سوط في شرقية بغداد ولم يتكلم ثم حمل إلى
الحبس، فتبعته فقلت له: لم ضربت؟ فقال: لأني عاشق، فقلت له: ولم سكت؟ قال:( لأنّ
معشوقي كان بحذائي ينظر إليَّ، فقلت: فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر قال: فزعق زعقة
خرّ ميتاً.
قال: أتدري كيف يرى الربانيون
المنشغل بذاته عن ربه، أو الذين يعبدون الله على حرف، فلم يعبروا من عبادته إلى
معرفته، ولم يخرجوا من أنفسهم إليه.
قلت: كيف يرونه؟
قال: يرونهم قاصرين محاطين بأنواع
الشوائب، وقد قيل لعبد الواحد بن زيد: هاهنا رجل قد تعبد خمسين سنة، فقصده فقال
له: يا حبـيب أخبرني عنك هل قنعت به؟ قال: لا، قال: أنست به؟ قال: لا، قال: فهل
رضيت عنه؟ قال: لا، قال: فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة؟ قال: نعم، قال: لولا أني
أستحي منك لأخبرتك بأن معاملتك خمسين سنة مدخولة.
قلت: ما مراده؟
قال: مراده أنك لم يفتح لك باب القلب
فتترقى إلى درجات القرب بأعمال القلب، وإنما أنت في طبقات أصحاب اليمين، لأن مزيدك
منه في أعمال الجوارح[6].
قلت: هذا كلام الغزالي في الإحياء.
قال: وهو كلام كل عارف، وكل سامع
ببصيرته.
التفت لأسأله عن سر ذلك، فانصرف عني،
أو انصرفت عنه.
***
تأملت ما قاله بعد انصرافه، فإذا بي أجد هذا
العلاج لا يختص بهذا الجانب فقط، بل إن له علاقة شديدة بكل ما يرتبط بالسلوك من
جوانب.
فالمنشغل عن نفسه ـ مثلا ـ بنطر الناس،
أو أعرافهم، أو رؤاهم مستعبد للناس، مملوك للمجتمع، ينصرف عن الحق علما وفهما
وسلوكا وحياة بقدر انصراف المجتمع.
ولهذا اعتبر الغزالي من ( شغل نفسه
بطلب رضا الناس عنه وتحسين اعتقادهم فيه) مغرورا، لأنه ( لو عرف الله حق المعرفة
علم أن الخلق لا يغنون عنه من الله شيئاً؛ وأن ضرره ونفعه بـيد الله ولا نافع ولا
ضار سواه، وأن من طلب رضا الناس ومحبتهم بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه
الناس، بل رضا الناس غاية لا تنال، فرضا الله أولى بالطلب)[7]
قال لي صائحا من أعماقي: ولهذا كان
من سنن الصالحين الانشغال بالله عن الناس، كانشغالهم به عن النفس، قال الشافعي
ليونس بن عبد الأعلى: والله ما أقول لك إلا نصحاً إنه ليس إلى السلامة من الناس من
سبـيل، فانظر ماذا يصلحك فافعله؟
ونظر سهل إلى رجل من أصحابه فقال له:
اعمل كذا وكذا ـ لشيء أمره به ـ فقال: يا أستاذ لا أقدر عليه لأجل الناس، فالتفت
إلى أصحابه وقال: لا ينال عبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين؛ عبد تسقط
الناس من عينه فلا يرى في الدنيا إلا خالقه، وأن أحداً لا يقدر على أن يضره ولا
ينفعه. وعبد سقطت نفسه عن قلبه فلا يبالي بأي حال يرونه.
وقبل ذلك قيل للحسن: يا أبا سعيد إن قوماً
يحضرون مجلسك ليس بغيتهم إلا تتبع سقطات كلامك وتعنيتك بالسؤال؛ فتبسم t
وقال للقائل:( هوّن على نفسك، فإني حدثت نفسي بسكنى الجنان ومجاورة الرحمن فطمعت،
وما حدثت نفسي بالسلامة من الناس لأني قد علمت أن خالقهم ورازقهم ومحيـيهم ومميتهم
لم يسلم منهم)
وكيف لا يكون هذا منطق المؤمنين
إرضاء لله وقناعة به وانشغالا بطلب رضاه ومدحه عن كل رضا، وغيرهم من الرعاع يقول:
مَنْ
رَاقبَ النَّاس ماتَ غمَّا وفاز
باللذة الجسورُ
***
قلت
له، وقد خشيت أن يساء فهم كلام الأولياء: لكن ـ يا معلم ـ قد يتصور قومي أن مراد
الأولياء بالانشغال عن البلاء عدم مواجهته والثورة عليه.
قال:
لا.. أخطأوا في زعمهم، فإن مرادهم عدم الاستغراق في البلاء، والغفلة عن المصالح
الكثيرة التي قد يفوتها ذلك الانشغال، وأهمها ترك الرسالة التي كلف بها الإنسان
لأجل ما حصل لمطيته من عطب.
قلت:
فهل تضرب لي عن ذلك مثالا أشرح لهم به مقاصد الأولياء؟
قال:
مثل ذلك مثل من كلف بمهمة خطيرة يتوقف عليها مصير حياته جميعا، فحصل لسيارته في
الطريق ما منعها من السير السليم، فماذا يفعل؟
قلت:
هو بين أمرين لا ثالث لهما:
إما
أن يتوقف مشتغلا بإصلاحها، منشغلا عن المهمة الخطيرة التي كلف بها، ولو أدى ذلك
إلى فناء عمره في إصلاحها.
وإما
أن ينظر إلى مدى استعدادها للإصلاح، فإن أطاق إصلاحها أصلحها، لأنها ستختصر له
الكثير من مشاق الطريق، فإن أبت الإصلاح تركها، واعتمد على وسائل أخرى يصل بها إلى
تحقيق مهمته.
قال:
وهكذا حال المنشغل عن بلائه والمنشغل به، فالمنشغل به ضيع مصلحتين: سيارته التي قد
لا يفيده إصلاحها، ومهمته التي لا تساوي معها سيارته شيئا.
أما
المنشغل عنها، فإنه وإن ضيع سيارته، فقد حفظ مهمته، بل قد يرزق بالسعي ما يعوضه
عما فاته.
قلت:
ولعل هناك ثمارا أخرى جليلة لما ذكروه، فالأطباء ـ اليوم، كما كانوا قبل اليوم ـ
ينصحون بالانشغال عن الداء، ويعتبرونه أسلوبا حكيما من أساليب الشفاء.
فخطر
أكثر الأمراض هو ما تسببه لصاحبها من أنواع الإزعاج، وهو ما يؤثر بعد ذلك على
الصحة، فإذا ما انشغل المريض عن مرضه بأي شاغل كان ذلك علاجه أو مقدمة لعلاجه.
قال
لي: لقد ذكرتني بالشافعي رحمه الله.
ثم
سكت مشدوها لحظة، كمن يتذكر قريبا طال غيابه عنه، فقلت: ما فعل الشافعي؟
قال:
لقد آخى محمد بن عبد الحكم وكان يقربه ويقبل عليه، فاعتل محمد فعاده الشافعي ـ رضي
الله عنه ـ فقال:
مَرِضَ الحبـيبُ فَعُدتُهُ فمَرَضْتُ مِنْ حَذري عليهِ
وأتى الحبـيبُ يعودني فبَرئْتُ مِنْ نَظَري إليهِ
فالنظر
إلى الحبيب والانشغال به كاف في إعادة القوة الحافظة للصحة، وفيه انشغال عن
الأوهام التي يسببها فراغ القلب.
قلت:
الإحصائيات المعاصرة تثبت أن الكثير ممن يتردد على العيادات مصابون بوسواس المرض،
الذي هيجه فيهم فراغ قلوبهم، وانشغالهم بعالم الطين.
قال:
ولهذا، فإن كثيرا من نزلاء هذا المستشفى يكتفون بهذه القاعة، فيرجعون إلى أهليهم
بوافر الصحة من غير أن ينزلوا على الأقسام الأخرى.
قلت:
لقد قال علي ـ رضي الله عنه ـ يعبر عن هذا المعنى:
لقد هاجَ الفراغُ عليكَ شغلاً وأسبابُ البلاءِ من الفراغِ
وقال
الشريف المرتضى بعده، وهو يبين قدرة الروح على ترميم أدواء الجسد:
دَوَاؤكَ فيكَ وما تَشْعُرُ ودواؤكَ منكَ وما تبصرُ
وتحسبُ أنكَ جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ
***
بعد أن انصرف أو انصرفت عنه قلت في نفسي: إن
علاج الانشغال بالله، وإحلال الابتسامة بدل الأنين هو العلاج الذي لن تجد البشرية
في مستقبل أيامها، بعد أن تتخلص من زهوها، وتتخلى عن عبودية ما سمته إله العلم،
إلا ذلك العلاج[8]، وقد قال ابن
القيم، وهو يقارن بين العلاج الذي سنه النبي r، والعلاج الذي
يقتصر عليه الأطباء، فقال:( وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى
رسوله بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من
العلوم إلى ما جاء به الأنبـياء)[9]
قال
لي: صحيح ما قلت، فهذه الأدوية التي سنها النبي r كلها ترجع إلى
تغليب الانشغال بالله عن الاستماع لوساوس الشياطين، فالانشغال بالله يجعل في
الإنسان قوة جبارة تقهر كل الأمراض.
قلت:
لقد قال ابن القيم:( بل هاهنا من الأدوية التي تَشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها
عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم، وأقيستهم من الأدوية
القلبـية، والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على الله، والتوكل عليه والالتجاء
إليه، والانطراح والانكسار بـين يديه، والتذلّل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة،
والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه
الأدوية قد جَربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في
الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته، ولا قياسه)
قال: أجل، وقد عاش رحمه الله لكل كلمة قالها، وقد سمعته
مرة، وهو يقول:( وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرةً، ورأيناها تفعل ما لا تفعل
الأدوية الحسية، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء)[10]
قلت:
هل سمعته؟
قال:
دعك من هذا، وكل البقل، ولا تسأل عن البقال.. ولقد سمعته يقول، وهو يبين علة هذا
التأثير بالأسلوب الذي يفهمه قومك من الوضعيين الغارقين في بحار المادة:( وهذا
جارٍ على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجاً عنها، ولكن الأسباب متنوعة، فإن القلبَ
متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبر الطبـيعة ومصرفها على ما يشاء
كانت له أدويةٌ أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه، وقد
علم أن الأرواحَ متى قويت، وقويت النفس والطبـيعة تعاونا على دفع الداء وقهره،
فكيف ينكر لمن قويت طبـيعته ونفسه، وفرحت بقربها من بارئها، وأنسها به، وحبها له،
وتنعّمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها
عليه، أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية، وأن توجب لها هذه القوة دفعَ الألم
بالكلية، ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس، وأغلظهم حجاباً، وأكثفهم نفساً، وأبعدهم عن
الله وعن حقيقة الإنسانية)[11]
ثارت في نفسي نزعة الإسناد، فالإسناد
من الدين، فقلت: وهل لذلك من إسناد؟
قال: ولو تأملنا الأدعية التي كان
يدعو بها r ويعلمها أصحابه، لوجدنا فيها الكثير من هذه
المعاني.
ولهذا كان القرآن الكريم علاجا
ربانيا لكل الأدواء، لاشتماله من المعارف الإلهية ما ينفي جميع أنواع العلل، قال
تعالى:)
ونُنَزلُ منَ القُرآن مَا هُوَ شفَاءٌ وَرَحمَةٌ للمُؤمنينَ(
و( من) هنا لبـيان الجنس لا للتبعيض،
فالقرآن الكريم كله شفاء لمن استطب به.
قلت: نعم إن قومي يستشفون بالقرآن،
والرقاة ـ بحمد الله ـ ينتشرون في كل مكان، لا يسمعون بعليل إلا زاروه، ولا بمسكون
بمسكون إلا أحرقوا من يسكنه؟
قال: لا.. ليس العلاج القرآني ما
يتوهمه هؤلاء المشعوذون، وإنما هو ماتفرزه معاني القرآن الكريم من روحانية في قلب
متلقيها، قال ابن القيم في بيان سر كون سورة الفاتحة رقية:( وبالجملة فما تضمنته
الفاتحةُ من إخلاص العبودية والثناء على الله، وتفويض الأمر كُله إليه، والاستعانة
به، والتوكل عليه، وسؤاله مجامع النعم كلها، وهي الهداية التي تجلبُ النعم،
وتدفَعُ النقم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية)[12]
***
بعد انصرافه أو انصرافي عنه، قلت في
نفسي: ولكن من الذي ينشغل عن النار، وهي تتقد في جسده؟.. ومن الذي لا تحركه
الأعاصير، وهي تكاد تجتث من حوله؟.. وكيف لا يلسع بالزنابير من يعيش في قرية
الزنابير؟
قال لي صائحا من أعماقي بصوت لا أكاد
أسمعه: إن النصوص الهادية تدلنا على حصون كثيرة يمكن اللجوء إليها لتخفيف حدة
البلاء، بل لرفعه، وهي في جمالها وقوتها ومتانتها أعظم من كل لباس يقي من حر النار
أو من لسع الزنابير أو من اجتثاث العواصف.
قلت له: فداوني بها.
قال: سأذكر ثلاثة أدوية تجعل القلب
منشغلا بالله مجتمعا به جالسا معه، ومن جلس مع الله فني عن غيره.
وهي ثلاث مراتب، كل ينال منها بحسب
درجته من الدين، ومحله من القرب، وقد تتعاقب عليه اللحظات، فينال حظه منها جميعا:) كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا
كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً(
(الاسراء:20)
قلت: فما الأولى؟
قال: محبة الله، وهي أعلى المراتب،
من ينالها يغيب عن بلائه، كما يغيب عن نفسه، وعن الكون جميعا.
قلت: والثانية؟
قال: الرضى عن الله، فرحا بما قدر،
وسرورا بما أنزل، وهي نتيجة للمعرفة، وثمرة للمحبة، ولكن فيها مع ذلك التفاتا
للبلاء، فلذلك كانت أنزل من المرتبة السابقة.
قلت: والثالثة؟
قال: السكون لمقادير الله، وعدم
الاعتراض عليه، وهي دون ما قبلها، لأن في الرضى تسليما وفرحا وسرورا، أما هذه
فمجرد تسليم، وفرق بين من يرضى، وبين من لا يعارض.
قلت: فهل لهذه الأدوية قاعات خاصة
بها.
قال: أجل.. فلكل منزلته لا يعدوها،
ألم تسمع قوله تعالى:) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ((الصافات:164)،
فكل ما في هذه العوالم لا يجاوز مقامه ولا يحيد عنه، فلذلك لا ترى إلا السلام.
دخلت قاعة تكاد تميد بالأشواق.. وقد
علقت عليها لافتة كتب عليها بحروف من نور قوله تعالى:) يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (
(المائدة: من الآية54)، فأحسست بقلبي يمتلئ بشوق عظيم ومحبة متدفقة، وكأن أعضائي جميعا
قلوبا تخفق.. سمعت صوتا في أرجاء القاعة يقول:( هنا إكسير الهموم، من ذاقه لم تحل
بواديه المصائب، ولم تنزل بساحته الأحزان)
قلت للمعلم: ما هذا الإكسير؟ وما هذه
القاعة؟
قال: هذا إكسير الانشغال بحب الله
والشوق إليه، وهو إكسير يغيبك عن البرودة والحرارة، ويفنيك عن الصحة والسقم.. وهذا
إكسير الأولياء، فلذلك استغنوا عن الراقي والطبيب.
سمعت أصواتا تتزاحم على بصيرتي، فقلت
للمعلم: ما هذه الأصوات؟
قال: أصخ سمعك، فهي أصوات أطباء هذا
الباب.
قال الأول: أوحى الله إلى داود u:(
ما لأوليائي والهم بالدنيا، إن الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم، يا داود إن
محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيـين لا يغتمون)
وقال الثاني يترنم بلحن جميل:
وإنْ خَطَرَتْ يَوماً على خاطِرِ
امرِىءٍ |
أقامَتْ بهِ الأفْراحُ، وارتحلَ الهَمُ |
ولو نَضَحوا مِنها ثَرى قَبْرِ
مَيتٍ، |
لعادَتْ إليهِ الرُّوحُ، وانْتَعَشَ الجسْم |
ولو طَرَحوا، في فيءِ حائِطِ
كَرْمِها، |
عليلاً، وقد أشْفى، لفارَقَهُ السّقَمُ |
ولو قَرَّبوا، من حانِها،
مُقْعَداً مَشى |
وتِنْطِقُ مِن ذِكرِى مَذاقَتِها البُكْمُ |
ولو عَبِقَت في الشَّرْقِ
أنْفاسُ طيبها، |
وفي الغَرْبِ مَزْكومٌ، لَعادَ لهُ الشم |
ولو خُضِبتْ، مِنْ كأسِها، كفّ
لامِسٍ |
لَما ضَلّ في ليلٍ، وفي يَدِهِ النَّجمِ |
ولو جُلِيَتْ، سِرّاً، على
أكمَهٍ غَدا بَصيراً، |
ومِن رَاوَوقِها تَسمعُ الصّمّ |
ولو أنّ ركْباً يَمّمَوا تُرْبَ
أرْضِها، |
وفي الرَّكبِ مَلْسوعٌ، لما ضَرّهُ السّمُ |
ولو رَسَمَ الرّاقي حُرُوفَ
اسمِها، |
على جَبينِ مُصابٍ جُنَّ، أبْرَأَهُ الرَّسمُ |
قلت: عرفتك.. أنت..
قال: دعك من اسمي، واسمع الحقائق من
الله، لا من خلقه.
قال الثالث: إن الحب يحول المر
حلواً، والتراب تبراً، والكدر صفاءً، والألم شفاءً، والسجن روضة، والسقم نعمة،
والقهر رحمة، وهو الذي يلين الحديد، ويذيب الحجر، ويبعث الميت، وينفخ فيه الحياة..
إن هذا الحب هو الجناح الذي يطير به
الإنسان المادي الثقيل في الأجواء، ويصل من السمك إلى السماك، ومن الثرى إلى
الثريا.
.. بارك الله لعبيد المادة وعباد
الجسم في ملكهم وأموالهم!! لا ننازعهم في شيء. أما نحن فأسارى دولة الحب التي لا
تزول ولا تحول.. !
حياك الله أيها الحب المضني! يا طبيب
علتي وسقمي! يا دواء تخوفي وكبري! يا طبيبي النطاسي! يا مداوي الآسي![13]
قلت: عرفتك.. أنت جلال الدين الرومي.
قال: دع عنك هذا.. فلم أعد جلال
الدين، ولا جمال الدين؟
قلت: فما صرت؟
قال: أنا عبد الله.. أنا النقطة التي
تحت الباء.. وحسبي بذلك شرفا.
***
قلت للمعلم: حدثني كيف عاش الأولياء هذه
المعاني.
قال: كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ
يستشعر هذه المشاعر عندما مرض، فعاده الناس فقالوا:( ألا ندعو لك الطبيب؟)، فقال:(
قد رآني) قالوا:( فأي شيء قال لك؟) قال:( إني فعال لما أريد)
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ ينظر بهذا
المنظار حين قال:( ما أبالي على أي حال أصبحت وأمسيت من شدّة أو رخاء)
وكان عروة بن الزبير t
يشعر بهذا الشعور لما وقعت الأكلة في رجله، وأرادوا قطعها، وقال له الأطباء:(
نسقيك دواءا حتى يغيب عقلك ولا تحس بألم القطع، فأبي، وقال:( ما ظننت أن خلقا يشرب
شرابا يزول منه عقله حتى لا يعرف ربه).. وروى عنه أنه قال:( لا أشرب شيئا يحول
بيني وبين ذكر ربي ')[14]
وكان بلال ـ رضي الله عنه ـ وهو في
رمضاء مكة يشعر بهذا الشعور، حين كان المشركون يتفانون معه بأصناف البلاء، فيفنى
عنه بـ ( أحد أحد)
ولما
مرض عبد اللَّه عاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟
قال: رحمة اللَّه. قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك
بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه قال: يكون لبناتك. قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني
أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه
وسلم - يقول:( من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً)[15]
وكان لسهل علة يعالج غيره منها ولا
يعالج نفسه، فقيل له في ذلك فقال: يا دوست ضرب الحبـيب لا يوجع.
وكان سري السقطي يستشعر هذه المعاني،
وهو ينظر إلى تصريف الله في جسده، قال الجنيد: كنت يوما عند السري بن مغلس وكنا
خاليين وهو متزر بمئزر فنظرت إلى جسده كأنه جسد سقيم دنف مضنى كأجهد ما يكون
فقال:( أنظر إلى جسدي هذا، لو شئت أن أقول
إن ما بي من المحبة لله تعالى لكان كما أقول)، وكان وجهه أصفر، ثم أشرب حمرة حتى
تورد، ثم اعتل فدخلت عليه أعوده، فقلت له كيف تجدك، فقال:
كيف أشكوا إلى طبيبي ما بي والذي بي أصابني من طبيبي
فأخذت المروحة أروحه فقال لي:( كيف
يجد روح المروحة من جوفه يحترق من داخل؟)، ثم أنشأ يقول:
القلب محترق والدمع مستبق |
والكرب مجتمع والصبر مفترق |
كيف القرار على من لا قرار له |
مما جناه الهوى والشوق والقلق |
يا رب إن كان شيء فيه لي فرج |
فأمنن علي به بي ما دام بي رمق |
وكان عابد المصيصة يستشعر هذه
المعاني حين رأى نفسه ملكا يلتذ بها، قال علي بن الحسن: كان رجل بالمصيصة ذاهب نصفه
الأسفل لم يبق منه إلا روحه في بعض جسده، ضرير على سرير مثقوب فدخل عليه داخل فقال
له: كيف أصبحت يا أبا محمد? قال:( ملك الدنيا، منقطع إلى الله عز وجل، ما لي إليه
من حاجة إلا أن يتوفاني على الإسلام)
***
قال لي المعلم: أتعلم سر استغراق هذه
المشاعر للوجدان جميعا؟
قلت: ما سر ذلك؟
قال: الحب هو أعظم المشاعر الوجدانية
التي تستغرق الكيان، فتمنعه من التفكير في غيره، بل لا شيء يساوي الحب في هذا
الدور، فلذلك كان أعظم شاغل عن البلاء هو استعماله دواء لقهر وساوس الداء.
قلت: لكن قومي يعرفون الحب أكثر مما
يعرفون غيره.
قال: هم يعرفون الحب المدنس.. لا
المقدس.. فلذلك يغرقون في دنسه، وفي مستنقعاته.
قلت: فما الحب المقدس؟
قال: هو حب واحد..
قلت: فما هذا الحب الواحد؟
قال: حب الواحد.. فحب كل ما عداه داء
وألم، ألم تسمع قول العارف الذي عبر عن اجتماع كل الآمال والأهواء واللذات في حبه
لله.
قلت: تقصد قوله:
كانت لقلبي أهواء مفرقةٌ |
فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي |
فصار يحسدني من كنت أحسده |
وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي |
تركت للناس دنياهم ودينهم |
شغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي |
قال: فالغارقون في بحر هذا الحب لا يرون
غير محبوبهم، وهو لا يغيب عنهم أبدا:
ومن عجب أني أحن إليهم |
وأسأل عنهم من أرى وهم معي |
وتطلبهم عيني وهم في سوادها |
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي |
قال الشبلي: رأيت جارية حبشية فقلت: من
أين؟ قالت: من عند الحبيب قلت: وإلى أين؟قالت: إلى الحبيب قلت: ما تريدين من
الحبيب قالت: الحبيب.
وعندما تعجب بعض أصحاب معروف الكرخي
من كثرة مجاهداته في الله سأله:( أخبرني يا أبا محفوظ أي شيء هاجك إلى العبادة والانقطاع
عن الخلق؟ فسكت فقال: ذكر الموت، فقال: وأي شيء الموت؟ فقال: ذكر القبر والبرزخ،
فقال: وأي شيء القبر؟ فقال: خوف النار ورجاء الجنة، فقال: وأي شيء هذا؟ إن ملكاً
هذا كله بـيده إن أحببته أنساك جميع ذلك وإن كانت بـينك وبـينه معرفة كفاك جميع
هذا.
قلت: لقد ذكرتني ـ يا معلم ـ بحديث
امرأة صالحة[16] حكى خبرها سري السقطي t ففيها نبصر مدى القوة التي يمنحها حب الله في النفس فتواجه كل صعب
وتتحدى كل ألم.
قال: تقصد ( بدعة).. سنزورها في (
بحار الحب)، فحدثنا عن بعض شأنها هنا.
قلت: قال الولي الصالح السري السقطي[17] t: ضاقت علي نفسي يوما فقلت في نفسي: أخرج إلى المارستان، وأنظر إلى
المجانين فيه، وأعتبر بأحوالهم فخرجت إلى بعض المارستانات، وإذا بامرأة مغلولة
يدها إلى عنقها، وعليها ثياب حسان وروائح عطرة، وهي تنشد:
أعيذك أن تغل يدي |
بغير جريمة سبقت |
تغل يدي إلى عنقي |
وما خانت ولا سرقت |
وبين جوانحي كبد |
أحس بها قد احترقت |
وحقك يا مدى أملي |
يمينا برة صدقت |
فلو قطعتها
قطعا |
وحقك عنك لا نطقت |
فقلت لصاحب المارستان:( ما هذه)، فقال:(
مملوكة خبل عقلها فحبست لتصلح)، فلما سمعت كلامه أنشدت:
معشر الناس ما جننت ولكن |
أنا سكرانة وقلبي صاح |
لم غللتم يدي ولم آت ذنبا |
غير هتكي في حبه وافتضاحي |
أنا مفتونة بحب حبيب |
لست أبغي عن بابه من براح |
فصلاحي الذي زعمتم فسادي |
وفسادي الذي زعمتم صلاحي |
ما على من
أحب مولى الموالي |
وارتضاه لنفسه من جناح |
قال سري فسمعت كلاما أبكاني فلما رأت
دموعي قالت:( يا سري هذه دموعك على الصفة، فكيف لو عرفته حق المعرفة؟)
فقلت:( هذا أعجب.. من أين عرفتني؟)
قالت:( ما جهلت منذ عرفت أن أهل
الدرجات يعرف بعضهم بعضا)
فقلت:( يا جارية أراك تذكرين المحبة
فمن تحبين؟)
قالت:( لمن تعرف إلينا بآلائه، وتحبب إلينا بنعمائه، وجاد علينا
بجزيل عطائه، فهو قريب إلى القلوب مجيب تسمى بأسمائه الحسنى، وأمرنا أن ندعوه بها
فهو حكيم كريم قريب مجيب)
قال معلم السلام: سق هذا الحديث
لقومك ليستعملوا هذا العلاج في مداواة الأمراض النفسية والعصبية التي تعج بها
مستشفياتكم.. فذلك خير لكم من تلك السموم التي تسممونهم بها.
خرجت من قاعة الحب بإلحاح شديد من
المعلم، فقد أنست لأنوارها وأصوات أوليائها، وما استشعره كياني من مواجيد وأشواق
تنسي كل ألم، وتثمر كل راحة.
قال لي المعلم: ألم أقل لك: لا تسكن
لشيء.. ارحل دائما، فلا يتعلم من لا يرحل؟
قلت: أجل.. ولكني رأيت نفسي في ذلك
المحل، فلم أرد الخروج منه.
قال: ستجد نفسك في كل محل.. ولن تعرفها
إلا بعد أن تدخل كل المحلات.
قلت: فأين نسير الآن؟
قال: إلى قاعة ( الرضى)، فهو العلاج
الثاني الذي تغيب به النفس عن نفسها، فتنشغل عن بلائها.
دخلنا قاعة ممتلئة سكينة وجمالا، وقد
علقت عليها لافتة من نور كتب عليها قوله تعالى:) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ((المائدة:
من الآية119)، وسمعنا أصواتا عذبة عند مدخل الباب تقول:( إذا رأيت قلبك ممتلئا
بالأغيار، واستحال عليك الاجتماع مع الله، والفناء عن ذاتك، فانظر إلى صفات كرمه،
ورتل أسماء لطفه وإحسانه، وتأمل مراده من ذلك البلاء، فإنك إن لم تبلغ درجة أن ترضى
به، فلا تنزل عن درجة أن ترضى عنه)
قلت: يا معلم، لقد ذكرني هذا الصوت
الجميل بقول الثوري يوماً عند رابعة: اللهم ارض عني، فقالت: أما تستحي من الله أن
تسأله الرضا، وأنت عنه غير راض؟ فقال: أستغفر الله، فقال جعفر بن سليمان الضبعي:
فمتى يكون العبد راضياً عن الله تعالى؟ قالت:( إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره
بالنعمة)
قال المعلم: لقد أشارت ـ رضي الله
عنها ـ إلى أن للمصيبة سرورا عند العارف كما أن للنعمة سرورا، لأن ما يلحظه العارف
في ثنايا المصيبة يبدد الظلمات التي ينفخها الحزن واليأس.
قلت: وهل للرضى من لذة؟
قال: هي لذة لا تقل عن لذة الحب، بل
إنه لا يمكن أن يرضى من لا يحب، كما لا يحب من لا يرضى، ألم تعلم بأن الرضوان أعلى
الدرجات؟
قلت: لقد بين الله تعالى أن هذا هو
مقام الصادقين مع ربهم، لا يزال رضاهم بالله ورضاهم عنه رائد علاقتهم بربهم إلى
يوم يلقونه، قال تعالى:)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ((المائدة:119)
قال: بل نجد في القرآن الكريم أن كل
الآيات التي تتحدث عن الرضوان المتبادل بين الله ' وعباده الصالحين مرتبطة بالجنة، وكأنها تشير إلى أن الرضوان جنة
أخرى من جنان الله، وهي جنة لا تختص بالآخرة، بل تعجل للمؤمنين في الدنيا.
قلت: لقد ذكر الفخر الرازي ـ تعليقا
على ارتباط الرضوان بالجنة في قوله ':) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ((البينة:8)
فقال:( ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله
كالعدم بالنسبة إلى الوجود، وكيف والجنة مرغوب الشهوة، والرضوان صفة الحق وأي
مناسبة بينهما)[18]
قال: ويدل على هذا قوله تعالى وهو
يخاطب النفس المطمئنة التي لا تقبض انتزاعا ـ كما تقبض أرواح المتمردين على الله ـ
وإنما تقبض بأمرها، بالرجوع إلى بارئها فتطير شوقا إليه، قال ':)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً
مَرْضِيَّةً((الفجر:27،28)
وقوله ـ وهو يخبر عن حزبه الذي اعتبر
رضوانه فوق كل رضوان ـ:)
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ
إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ((المجادلة:22)
فالرضى عن الله شامل لكل ما جاء عن
الله تشريعا كان أم قضاء، فلا فرق بينهما، فكلاهما مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته
العليا.
وقد قال ' عن الأول:)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً
أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً((الأحزاب:36)
وقال عن الثاني:) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ((الأنعام:
من الآية164)، وقال في أول السورة:)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ
أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ((الأنعام:14)
أي معبودا وناصرا ومعينا وملجأ وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة.
قلت: لقد ورد في السنة ما يدل على
هذه اللذة التي يجدها الراضي، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( إن اللّه بحكمته وجلاله جعل الروح[19] والفرح في
الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)[20]
وقد
علق المناوي على هذا الحديث مبينا علة هذا السرور بقوله:( فمن أوتي يقيناً استحضر
به قوله تعالى:) قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ((النساء: من الآية78)، فشاهد الخير عياناً فقر وسكن ولم
يضطرب فما سمع بأذنه من خبر ربه أبصره بعين قلبه وبصر القلب هو اليقين فمن تيقن أن
الكل من اللّه وباللّه وللّه نال الثواب ورضي عن اللّه ورضي اللّه عنه ولم يلتفت
لغيره)، وبخلافه من:( لم يصبر على ضيق ولم يرض بمكروه فما ترى إلا ساخطاً للقضاء جازعاً
عند البلاء فيحبط عمله ولا يغني عنه ذلك شيئاً)[21]
فأول جزاء للراضي عن الله أن يرضى
الله عنه ويرضيه، فإذا أرضاه رزقه من السعادة والسرور ما يهون أمامه كل ألم..
والرضا عن الله علاج يرسم الابتسامة بدل الأنين، فينشغل الراضي بفضل الله وأوصاف
الله عما ألم به.
قال: وقد ورد في الأثر الإلهي:( أنا
الله لا إله إلا أنا قدرت المقادير ودبرت التدابير وأحكمت الصنع فمن رضي فله الرضا
مني حتى يلقانى، ومن سخط فله السخط حتى يلقاني)
قلت: فكيف كان حال الصالحين مع
الرضا؟
قال: كل الصالحين متفقون على أن
الرضا عن الله نعمة، ولكنه لا يجدها إلا من ذاقها، فلذلك ينقلون للخلق من باب
التشويق أذواقهم في ذلك، فهذا عمر بن عبدالعزيز ـ رضي الله عنه ـ يقول:( أصبحت
ومالي سرور إلا في مواقع القدر)
وهذا أبو عثمان الحيري t
يقول:( منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته)
وكتب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ
إلى أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ:( أما بعد فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن
ترضى، وإلا فاصبر)
وفي أخبار موسى u
؛ إن بني إسرائيل قالوا له: سل لنا ربك أمراً إذا نحن فعلناه يرضى به عنا، فقال
موسى u:( إلهي قد سمعت ما قالوا)، فقال:( يا موسى قل لهم يرضون عني حتى
أرضى عنهم)
ويروى عن بعض العباد أنه قال: إني
أذنبت ذنباً عظيماً، فأنا أبكي عليه منذ ستين سنة ـ وكان قد اجتهد في العبادة لأجل
التوبة من الذنب ـ فقيل له: وما هو؟ قال:( قلت مرة لشيء كان، ليته لم يكن)
ويروى عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله
عنهما ـ أنه اشتكى له ابن فاشتدّ وجده عليه حتى قال بعض القوم: لقد خشينا على هذا
الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدث، فمات الغلام فخرج ابن عمر في جنازته وما رجل أشدّ
سروراً أبداً منه، فقيل له في ذلك فقال ابن عمر: إنما كان حزني رحمة له، فلما وقع
أمر الله رضينا به.
وقال ابن مسعود t:(
الفقر والغنى مطيتان ما أبالي أيهما ركبت إن كان الفقر فإن فيه الصبر وإن كان
الغنى فإن فيه البذل)
قلت: فكيف ذاق العارفون من هذه
المشارب الطاهرة؟
قال: لا يهم العارف كل ما يصيبه ما
دام له فيه حظ من العبودية، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:( عجبا لأمر المؤمن إن
أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر وكان خير له، وإن
أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)[22]
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -:(
وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن) دليل على أن الخيرية والتي تعني الرضا والسرور لا
ينالها إلا من تحقق بحقيقة الإيمان.
ولهذا، فإن الصالحين لا يهمهم شيء
مما قد يصيب وجودهم في الدنيا بقدر ما تهمهم علاقتهم بربهم، وقد روي أن عمر بن
الخطاب t قال يوما لامرأته عاتكة أخت سعيد بن زيد t، وقد غضب عليها:( والله لأسوأنك)، فقالت:( أتستطيع أن تصرفني عن
الإسلام بعد إذ هداني الله له؟) قال:( لا) فقالت:( فأي شيء تسوءني به إذا؟).. تريد
أنها راضية بمواقع القدر لا يسوءها منه شيء إلا صرفها عن الإسلام ولا سبيل له
إليه.
وقال مسمع: سمعت عابدا من أهل
البحرين يقول في جوف الليل، ونحن على بعض السواحل:( قرة عيني، وسرور قلبي، ما الذي
أسقطني من عينك يا مانح العصم قال: ثم صرخ وبكى ثم نادى: طوبى لقلوب ملأتها خشيتك
واستولت عليها محبتك فمحبتك مانعة لها من كل لذة غير مناجاتك، والاجتهاد في خدمتك،
وخشيتك قاطعة لها عن كل معصية خوفا لحلول سخطك)، ثم بكى، وقال:( يا إخوتاه ابكوا
على خوف فوت الآخرة حيث لا رجعة ولا حيلة)
فهمة الصالحين منصرفة للبحث عن رضوان
الله، والخوف من سخطه، ولا يهمها بعد ذلك ما يحل بها، فهي تبحث عن رضى الله عنها
لا عن رضاها هي على الله، قال سهل:( حظ الخلق من اليقين على قدر حظهم من الرضى
وحظهم من الرضى على قدر رغبتهم فى الله)، وقال عبد العزيز بن أبـي رواد:( ليس
الشأن في أكل خبز الشعير والخل ولا في لبس الصوف والشعر، ولكنّ الشأن في الرضا عن
الله عز وجل)
قلت: يا معلم.. فكيف أتحقق بهذا
الرضى الذي يمسح عن قلبي كل الآلام؟.. وكيف ألتحق بركب الأولياء الشاربين من هذه
العين؟
قال: بترتيل أسماء لطفه، والنظر في
جميل صنعه، والاستغراق في سابق إحسانه، والأمل في جميل أفضاله.
قلت: كيف أستعمل هذا العلاج؟
قال: أرأيت لو أحسنت إلى أحدهم دهرك
جميعا بمعشار ما أحسن الله إليك، بل بمعشار المعشار، أترضى أن يسخط عليك.
قلت: كلا.. فهذا فعل الجحود.
قال: فكيف لا ترضى على من لا خير إلا
منه، ولا فضل إلا في يديه الكريمتين؟
قلت: لقد ذكرتني بقول أبي سليمان
الداراني t: إنَّ الله '
من كرمه قد رضي من عبـيده بما رضي العبـيد من مواليهم فقيل له: وكيف ذاك؟ قال:
أليس مراد العبد من الخلق أن يرضى عنه مولاه؟ قيل: نعم، قال: فإن محبة الله من
عبـيده أن يرضوا عنه.
قال: أجل.. فالرضى عن الله هو ما
يوجبه حسن الخلق مع الله، ولو تأمل المعترض على ربه حقيقته لوجدها أهون من أن
تعارض الحق، فكيف يجسر على ذلك، وهو لا يعدو أن يكون حفنة تراب.
قلت: لقد قال ابن عون t
في هذا:( لن يصيب العبد حقيقة الرضا حتى يكون رضاه عند الفقر كرضاه عند الغنى، كيف
تستقضي الله في أمرك ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفا لهواك، ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك فيه هلكك، وترضى
قضاءه إذا وافق هواك? ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضا)
قال: بل، لقد اتفقت كلمة الصالحين
على هذا المعنى، فهذا أبوعلي الدقاق ـ رضي الله عنه ـ يقول:( الإنسان خزف، وليس للخزف من الخطر ما يعارض فيه
حكم الحق تعالى)
وعبروا عن أحوالهم في ذلك، فقال عبد
الله بن مسعود t:( لأن ألحس جمرة أحرقت ما أحرقت وأبقت ما أبقت أحب إليَّ من أن
أقول لشيء كان ليته لم يكن أو لشيء لم يكن ليته كان)
وقال بعض الصالحين:( لو قرض جسمي
بالمقاريض لكان أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى سبحانه ليته لم يقضه)
ويذكر علي بن الحسن بن موسى قال: قال
رجل: لأمتحنن أهل البلاء. قال: فدخلت على رجل بطرسوس وقد أكلت الآكلة أطرافه. فقلت
له: كيف أصبحت? قال: أصبحت والله وكل عرق وكل عضو يألم على حدته من الوجع، وإن ذلك
لبعين الله أحبه إلي أحبه إلى الله، وما قدر ما أخذ ربي مني? وددت أن ربي قطع مني
الأعضاء التي اكتسبت بها الإثم، وأنه لم يبق مني إلا لساني يكون له ذاكرا. قال:
فقال له رجل: متى بدأت بك هذه العلة? فقال: الخلق كلهم عبيد الله وعياله، فإذا
نزلت بالعباد علة فالشكوى إلى الله ليس يشتكى إلى العبيد.
قلت: هذا سبيل صالح.. فما السبيل
الثاني؟
قال: إذا اشتقت أن تلبس لباس الرضى، وتسكن
مع الراضين في جنة الأمن والفرح والسرور، فردد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -
هذا الدعاء الذي يسأل الله فيه أن يرزقه بالرضى بالقضاء فلا ينال ما عند الله إلا
من يد الله، قال r:( اللهم بعلمك الغيب
وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي،
وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد
في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى
بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، وأسألك
الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان
واجعلنا هداة مهتدين)[23]
وردد معه:( اللهم إني أسألك الصحة
والعفة والأمانة وحسن الخلق والرضى بالقدر)[24]
فإن صدقت في دعائك، وألححت فيه كما
يلح الغريق طالبا النجدة، فسسيرزقك الله فهم حقيقة الرضا، والشرب من شرابه.
قلت: فكيف يرزقني؟
قال: أول رزق يسوقه إليه هو تعريفك
به، فإذا عرفته عرفت حقيقة العلم، قال الجنيد:( الرضى هو صحة العلم الواصل إلى
القلب، فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى الرضى)، فقد اعتبر الرضى علامة على
وصول العلم للقلب، لأن العلم المحجوز في زوايا العقل أضعف من أن يحقق لصاحبه هذا
المقام الرفيع.
قلت: ولكنا نعرف حقيقة العلم من دون
هذا؟
قال: لا.. حقيقة العلم أن تشربه لا
أن تسمعه، وأن تعيشه لا أن تكتبه.. فالعلم الذي لم يوصل صاحبه إلى الحقيقة كالدواء
الذي لم يستعمل، فإن صاحبه يظل مريضا، ولو ظل يردده أبد الدهر.
وقد شبه الغزالي من لم يعش علمه برجل
في برية، وله عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى، وكان الرجل شجاعا وأهل حرب، فحمل
عليه أسد عظيم مهيب، ( فما ظنّك؟ هل تدفع الأسلحة شره عنه بلا استعمالها وضربها؟!)
وقياسا على هذا ( لو قرأ رجل مائة
ألف مسألة علمية وتعلمها، ولم يعمل بها: لا تفيده إلا بالعمل)[25]
قلت: فما طريق وصول القلب لهذه
المعاني؟
قال: بالمجاهدة، والمصابرة، وقد قيل
ليحيى بن معاذ:( متى يبلغ العبد إلى مقام الرضى)، فقال:( إذا أقام نفسه على أربعة
أصول فيما يعامل به ربه، فيقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني
عبدت، وإن دعوتني أجبت)
خرجت مع المعلم إلى القاعة الثالثة
من قاعات الغيبة بالله، وهي قاعة ( السكون لمقادير الله)، وقد علق على بابها لوح
من نور كتب عليه قوله تعالى:) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ((الأحزاب:
من الآية36)
سمعت في مدخلها أصواتا حانية قوية
تقول:( إن لم تستطع أن تبلغ تلك الدرجات الرفيعة التي نزلها الأولياء، فنالوا بها
الفرح والرضوان، فلا تنزل إلى دركات المعرضين المعارضين لله، فتخسر خسارتين
عظيمتين:تخسر ربك الذي لا يرضى أن يعارض في ملكه أو يعقب عليه في تدبيره.. وتخسر
صحتك وراحتك التي لن يعوضها اعتراضك)
قلت: يا معلم.. ماذا تقول هذه
الأصوات؟.. وما هذه القاعة؟.. وما الفرق بينها وبين القاعة السابقة؟.. فإني لا أرى
الرضى إلا سكونا لمقادير الله.
قال: هذه القاعة تجيب الشبهة التي
ينفخها الشيطان في نفسك، وفي كل النفوس الضعيفة، ليقول لها:( كيف ترضي عنه، وهو
يسومك بأنواع البلاء، أليس هو الطبيب الشافي)
قلت: فهي ترد إذن على أحزاب المعارضة
لله.
قال: وهي أحزاب كثيرة، كل حزب يرفع
راية من الرايات يدعو فيها إلى عزل الله عن التصريف في الكون.
قلت: وأين هي؟
قال: في نفسك.. وفي كل النفوس التي
لم تذق لذة الرضا عن الله.
قلت: فكيف أقمع هذه الأحزاب المعارضة
لله.. وليس لدي شرطة ولا جيش؟
قال: السلام لا يعرف الشرطة والجيش.
قلت: فكيف أقضي على هذه الأحزاب
المعارضة لله؟
قال: بالمعرفة.. ألم يكن أول ما نزل
على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالقراءة؟
قلت: فماذا أقرأ؟ وكيف أقرأ؟
قال: اقرأ المعارف التي تجعلك ساكنا
لمقادير الله، لا معارضا لها.
قلت: فأين أجد هذه المعارف؟
قال: ستسمع من أطباء هذه القصر بسمع
بصيرتك ما يضع في نفسك بذور ذلك، وليس عليك بعدها إلا أن تسقيها وتتعاهدها إلى أن
تنبت شجرة الرضا في نفسك.
سمعت أصواتا كثيرة تزدحم على أذن
بصيرتي، وهي من كثرتها شوشت علي، فلم أدر ما أسمع.
قال لي المعلم: هل تسمع ببصيرتك.
قلت: أسمع.. ولكني لا أسمع.
قال: لم؟
قلت: الأصوات تزدحم على بصيرتي، فلا
تكاد تفهم ما تقول.
قال: اسكن.. ألست في قاعة السكون
لمقادير الله.. فمن لم يسكن لم يسمع.. أو سمع ولم يفهم.. ألم تسمع قوله تعالى:) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ((القيامة:16)؟
قلت: بلى.
قال: فقد أمره بالسكون ليحصل له
العلم.
استرخيت.. وسكنت سكونا هادئا أشبه
بالنوم، فسمعت أصواتا مختلفة[26]، منها الحانية، ومنها الشديدة تتردد في جوانب القاعة تمتلئ بها
بصيرتي.
قال الأول: ما أصابك لم يكن
ليخطِئَك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
قلت: بلى.. هذا صحيح، فقد قال تعالى:) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ((الحديد:22)
ويعقب على ذلك بأثر هذه المعرفة في
النفس الإنسانية بقوله U:)
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ
لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ((الحديد:23)
ويقول U في آية أخرى:)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ((التغابن:11)
فالعوض الإلهي في هذه الآية عن النقص الذي جلبته المصيبة هو الهداية المرتبطة بقلب
الإنسان، وهي الهداية الحقيقية التي تجر إلى المعرفة التي لا يشوبها الجهل، وإلى
العلم الذي لا يختلط مع الأهواء.
ويعلمنا في آية أخرى ما ينبغي أن
نقوله، ثم النتيجة التي جعلها الله لمن يفعل ذلك، فقال U:)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ((البقرة:156)
والفضل الإلهي النازل على هؤلاء هو
ما عبر عنه U بقوله:)
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ((البقرة:157)
قال المعلم: فإذا استقر في النفس
الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن الذي أصابه لا بد أن يصيبه، وأنه أمر لا مفر منه،
ولا مهرب منه لأن الله قد كتبه في الأزل؛ فإن نفسه تهدأ، وقلبه يسكن، ويكون هذا
بداية ومقدمة للسكون لمقادير الله.
قال صوت آخر: لا تعترض.. فأنت تجمع
الجهل بأشكاله وألوانه.. تجهل نفسك ومصيرك، وعواقب أمورك، أما سيدك الذي يدبر
أمرك، فعلام الغيب:)
يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا
يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ((الأنعام:
من الآية59)
وقال آخر: لا تعترض.. فإن ما تراه
مما تكرهه رحمة من رحمات الله، ولطف من خفي ألطافه ساقه إليك في ثوب ما تكره
ليمتحن عبوديتك، ويملأ قلبك بحسن الظن به:
رب أمر تتقيه جر أمرا ترتضيه
خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه
قلت: هذا صحيح، وقد قال ':)
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا
شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ((البقرة:
من الآية216)، وقال:)
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ
فِيهِ خَيْراً كَثِيراً((النساء: من الآية19)
وقال آخر: لا تعترض.. فإن كل مقادير
الله خير لك إن استقبلتها ببصيرة الإيمان.
قلت: هذا صحيح، فقد قال r:( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن
أصابته سراء شكر وكان خير له إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)[27]
وقال آخر: لا تعترض.. وكن كذلك العبد
الصالح الذي لم تغره مباهج جنة صاحبه، وقال في ثقة المؤمن وإيمان الواثق:) عَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ
عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً((الكهف:40)
وقال آخر: لا تعترض.. فإن من ظن انفكاك لطفه عن قدره، فذلك لقصور
نظره، فإن العارفين يشهدون المنن في المحن، والعطايا في البلايا.
وقال آخر: لا تعترض.. فإن من تمام عبوديتك أن تجري عليك
مقادير الله بأنواعها، وتهب عليك رياح البلاء لتمتحن عبوديتك.
وقال آخر: كيف تعترض، وأنت لن ترقى
في مقامات العبودية إلا بهذا الذي تعترض عليه؟
وقال آخر: كيف تعترض، وأنت لن تكون
صابرا، ولا متوكلا ولا راضيا ولا متضرعا ولا مفتقرا ولا ذليلا ولا خاضعا إلا
باستقبالك لمقادير الله ببصيرة الإيمان؟
وقال آخر: كيف تعترض، وأنت تعلم أن رضاك عن ربك زرع لرضى
ربك عنه، بل رضاك عن ربك علامة على رضا ربك عنك، فلو لم يرض عنك لم ترض عنه.
وقال آخر: لا تعترض.. فإن جميع ما
يحدث في الكون أثر من آثار أسماء الله وصفاته، وفيض من فيوضات مشيئة الله وحكمته،
فإن لم ترض بمقادير الله خاصمت أسماء الله وصفاته، وخاصمت الله بمخاصمتها؟
وقال آخر: لا تعترض.. فإن حكمه تعالى
فيك ماض، وقضاؤه فيك عدل، كما أخبرك الناصح الأمين r في قوله:( ماض في حكمك
عدل في قضاؤك)[28]
وقال آخر: كيف لك أن تعترض، وأنت
تعلم أنه لا تبديل لكلماته ولا راد لحكمه، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم
يكن.
وقال آخر: كيف لك أن تعترض، وقد علمت
كمال حكمته ورحمته ولطفه وحسن اختياره.
وقال آخر: لا تعترض.. وسلم لربك، فقد
فوضت أمرك إليه، ومن ضرورات التفويض الرضى التام باختيارات المفوض.
وقال آخر: كيف لك أن تعترض، وأنت عبد
محض، والعبد المحض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار الناصح المحسن، بل
يتلقاها بالرضى به وعنه.
وقال آخر: كيف لك أن تعترض، وأنت
تدعي محبته، والمحب الصادق من رضي بما يعامله به حبيبه.
وقال آخر: لا تعترض.. فإنك باعتراضك
تعبد الله على حرف، فتتلون كما تتلون رياح المقادير، والعبد الكامل ثابت على
عبودية سيده، لا تزعزعه الرياح، ولا تجتثه عن غايته الأعاصير؟
وقال آخر: لا تعترض.. فإن أول معصية
عصي الله بها في هذا العالم حصاد نبات الاعتراض، ( فإبليس لم يرض بحكم الله الذي
حكم به كونا من تفضيل آدم وتكريمه ولا بحكمه الديني من أمره بالسجود لآدم، وآدم لم
يرض بما أبيح له من الجنة حتى ضم إليه الأكل من شجرة الحمى.
وقال آخر: لا تعترض.. فإن اعتراضك عن
اختيار الله لك ناشئ من جهلك بالله، وأنه كلما قويت معرفتك صرت كالريشة في مهب
الرياح، تقلبها الرياح كما شاءت، فلا تعترض ولا تختار.
قلت: لقد ذكرني هذا الصوت بوهيب بن
الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط، فقد اجتمعوا مرة يتذاكرون، فقال الثوري:( قد
كنت أكره موت الفجاءة قبل اليوم، وأما اليوم فوددت أني ميت)، فقال له يوسف بن
أسباط:( ولم؟)، فقال:( لما أتخوف من الفتنة)، فقال يوسف:( لكني لا أكره طول
البقاء) فقال الثوري:( ولم تكره الموت) قال:( لعلي أصادف يوما أتوب فيه وأعمل
صالحا) فقيل لوهيب:( أي شيء تقول أنت؟ فقال:( أنا لا أختار شيئا أحب ذلك إلي أحبه
إلى الله) فقبل الثوري بين عينيه وقال:( روحانية ورب الكعبة)
وقال آخر: لا تعترض.. فإن من عرف أن البلايا من مولاه وسيده[29] الذي هو أرحم
به من والدته ووالده، كيف يبقى له بالألم إحساس؟ أم كيف لا يتلذذ به كما يتلذذ
بالنعمة سائر الناس؟
قلت:
لقد ذكرني هذا بقول الشاعر الصالح:
وخفف عني ما ألاقي من العنا بأنك أنت المبتلي والمقدر
وما لامرئ عما قضى الله معدل وليس له منه الذي يتخير
وبقول ابن عطاء الله:( ليخفف ألم البلاء عنك علمك بأنه سبحانه هو المبلي لك، فالذي
واجهتك منه الأقدار، هو الذي عودك حسن الاختيار)
وقال آخر: كيف تعترض، والله يراك ويسمعك، وهو ما أنزل عليك البلاء إلا
ليختبر موقفك، فهل ترضى أن تسقط في الاختبار.
وقال
آخر، وهو
بديع الزمان: لا تعترض.. فإن السكون
والهدوء والرتابة والعطالة نوع من العدم والضرر، وبعكسه الحركة والتبدل وجودٌ
وخير، فالحياة تتكامل بالحركة، وتترقى بالبلايا، وتنال حركات مختلفة بتجليات
الاسماء، وتتصفى وتتقوى وتنمو وتتسع، حتى تكون قلماً متحركاً لكتابة مقدراتها،
وتفى بوظائفها، وتستحق الأجر الأخروي[30].
وقال آخر، وهو كذلك بديع الزمان،
ولكن بصوت مختلف: لا تعترض.. واعلم انه ليس
لك حق في الشكوى، بل عليك الشكر، عليك الصبر؛ لأن وجودك واعضاءك وأجهزتك ليست
بـملكك أنت، فانت لـم تصنعها بنفسك، وانت لـم تبتعها من اية شركة او مصنع
ابتياعاً، فهي ملكٌ لآخر. ومالك تلك الاشياء يتصرف في ملكه كيف يشاء.
قلت:
عهدي بك ـ يا إمام ـ تمثل لما تقول، فاضرب لي على ذلك مثالا.
قال:
هب أن صانعاً ثرياً ماهراً بكلـّف رجلاً فقيراً لقاء أجرة معينة ليقوم له لمدة
ساعة بدور الـنموذج، لإظهار صنعته الجميلة وثروته القيمة، فيكلفه بلبس القميص
المزركش الذي حاكه، والحلة القشيبة الـمرصعة التي نسجها، ويطلب منه أن يظهر أوضاعاً
وأشكالاً شتى لبيان خوارق صنعته وبدائع مهارته، فيقصّ ويبدل، ويطوّل، ويقصر،
وهكذا..
فهل
يـحق لذلك الفقير الاجير ان يقول لذلك الصانع الـماهر:( إنك تتعبني وترهقني وتضيّق
عليّ بطلبك مني الانحناء مرة والاعتدال أخرى.. وانك تشوّه الجمال المتألق على هذا
القميص الذي يجمّل هندامي ويزيّن قامتي بقصّك وتقصيرك له.. إنك تظلمني ولا
تنصفني؟)
قلت:
فأنزل هذا المثل على ما نحن فيه.
قال:
هكذا الأمر بالنسبة للصانع الجليل سبحانه وتعالى - ولله الـمثل الاعلى - الذي
البسك أيها المريض قميص الجسد، وأودع فيه الحواس النورانية المرصعة كالعين والأذن
والعقل، فلأجل اظهار نقوش اسـمائه الـحسنى، يبدّلك ضمن حالات متنوعة ويضعك في
اوضاع مـختلفة. فكما انك تتعرف على اسـمه ( الرزاق) بتجرعك مرارة الـجوع، تتعرف
على اسـمه ( الشافي) بـمرضك[31].
سمعت
صوتا آخر يقول: لم يختر الله لك إلا ما يصلح.. فلا تطلب ما لا يصلح لك.
قلت:
لقد ذكرني هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الأثر الإلهي:( إن من عبادي من لا
يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر
ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه)[32]
قال
المعلم، وقد رأى استرواحي لسكوني: قم لنسر إلى قاعة أخرى من هذا المستشفى.
قلت:
دعني ـ يا معلم ـ لأسمع لجميع هذه الأصوات، فقد ملأت نفسي سكينة.
قال:
لو ظللت تسمعها دهرك جميعا ما خرجت، فكل الكون، وكل حقائق الوجود تدعوك إلى السكون
إلى الله.. فارحل.. فلا ينبغي أن تسكن لغير الله.
دخلنا القسم الثاني من أقسام الغيبة،
وهو قسم ( الغيبة بنعم الله)، وقد كتب على بابه قوله تعالى:) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا(
(النحل:18) ورأيت داخل القاعة جوائز شتى، كل جائزة تشير إلى فضل من فضل الله ونعمة
من نعمه.
قلت للمعلم: ما هذه الجوائز؟
قال: هذه جوائز الفضل الإلهي المخزنة
في خزائن البلاء.
قلت: ألهذه الجوائز كانت تنظر امرأة
فتح الموصلي، حين عثرت، وانقطع ظفرها، فضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت:
إن لذة ثوابه أزالت عن قلبـي مرارة وجعه.
قال: تلك جائزة من هذه الجوائز.
قلت: فكم هذه الجوائز؟
قال: هي كثيرة.. ولكن أي مريض يمر
على هذا المستشفى ينال عشر جوائز، كل جائزة منها بالدنيا وما فيها.
قلت: ألهذا أمر الله تعالى بتبشير
الصابرين، فقال تعالى:) وَلَنَبلُوَنكُم بِشَيء منَ الخَوف وَالجُوعِ وَنَقصٍ منَ
الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثمَراتِ وَبَشرِ الصابِرِينَ الذِينَ إِذَا
أَصَـابَتهُم مصِيبَةٌ قَالُوا إِنا لِلهِ وَإِنـا إِلَيهِ راجِعونَ أُولَـئِكَ
عَلَيهِم صَلَواتٌ من ربهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ ((
البقرة:155-157)
قال: أجل.. فالبشارة لا تكون إلا على
نعمة وفضل.
قلت: ألهذا ذكر الله تعالى كثرة
الخير المخزن في طيات ما نكره، فقال تعالى:) فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ
خَيْراً كَثِيراً((النساء: من الآية19)
قال: أجل، وقد قال الحسن t تعليقا على
الآية:( لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أم تحبه فيه
عطبك)
قلت: ألهذا بشر - صلى الله عليه وسلم
- المبتلين بأنهم سيكونون موضع غبطة الخلق يوم القيامة عندما يعاينون ما أعد الله
لهم من جزاء، فقال :( يود أهل العافية يوم
القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض)[33]
قال: فلذلك كان من الحزم الانشغال
بالمكاسب وتقليل الخسائر.. فانظر إلى مكاسب بلائك، لتنسيك المكاسب ما خسرته من
جسدك وراحتك.
قلت: لقد ذكرتني بتعداد شريح للمعاني
الجمالية المصبوبة في قوالب البلاء، فقال:( إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها
أربع مرات: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ
وفقني للإسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني)
قال: هي أربع مكاسب، كل مكسب منها
كاف في شغلك عن البلاء، وفي رسم الابتسامة في شفتيك بدل الأنين.
قلت: قرأت عن بعض الصالحين أنه برىء
من علة كان فيها، فجلس للناس، وهنؤوه بالعافية، فلما فرغ الناس من كلامهم، قال:(
إن في العلل لنعماً لا ينبغي للعاقل أن يجهلها: تمحيص للذنب، وتعرض لثواب الصبر،
وإيقاظ من الغفلة، وإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للمثوبة، وحض على
الصدقة، وفي قضاء الله وقدره بعد، الخيار)
قال: فللنطلق من هذه المعاني لننال
هذه الجوائز العشرة.
قلت: وما هي؟
قال: التمييز، والتمحيص، والتأديب،
والتذكير، والافتقار، والمحدودية، والسكينة، والتطهير، والمعاينة، والثواب.
قلت: فما نعمة التمييز؟
قال: هي ما أشار إليه قوله تعالى:) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ[34]اللَّهُ
الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ((آل
عمران:142)، وقوله تعالى:) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ
الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا
رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ((التوبة:16)
قلت: فما وجه الإشارة إلى هذه
النعمة؟
قال: الله تعالى يبتلي خلقه بأصناف
البلاء ليميز المحق من المبطل، والطيب من الخبيث.
قلت: فما سر ذلك؟
قال: الله تعالى بحكمته جعل هذه
الدار محلا لاختبار عباده، لينزل كل واحد منهم ـ في النشأة الآخرة ـ المحل الذي
ينسجم مع طبيعته، وتبرزه أهليته، فلذلك كانت هذه الدار هي دار التمييز التي يتميز
فيها المحسن من المفسد، والراضي من الساخط[35].
قلت: ولكن الله يعلم بأحوال عباده
محسنهم ومسيئهم، وراضيهم وساخطهم.
قال: ولكنه لعدله لا يكتفي بعلمه، بل
يجعل من أعمال العباد حجة لهم أو عليهم.
قلت: فما وجه كون التمييز نعمة؟
قال: دخل جماعة على الشبلي، وهو في
مارستان قد حبس فيه، وقد جمع بـين يديه حجارة، فقال: من أنتم؟ فقالوا: محبوك، فأقبل
عليهم يرميهم بالحجارة فتهاربوا فقال: ما بالكم ادعيتم محبتي إن صدقتم فاصبروا على
بلائي.
قلت: لم أفهم هذا المثال.
قال: فاسمع للجنيد يقربه لك، فقد
قال: كنت نائما عند سري رحمه الله، فانبهني فقال لي:( يا جنيد، رأيت كأني قد وقفت
بين يدي الله تعالى فقال لي: يا سري خلقت الخلق فكلهم ادعى محبتي، وخلقت الدنيا
فهرب مني تسعة أعشارهم، وبقي معي العشر، وخلقت الجنة فهرب مني تسعة اعشار العشر،
وبقي معي عشر العشر، فسلطت عليهم ذرة من البلاء، فهرب مني تسعة اعشار عشر العشر،
فقلت للباقين: معي، لا الدنيا اردتم، ولا الجنة اخذتم ولا من النار هربتم، فماذا
تريدون، قالوا: انك تعلم ما نريد، فقلت لهم: فاني مسلط عليكم من البلاء بعدد
انفاسكم ما لا تقوم له الجبال الرواسي اتصبرون؟ قالوا: اذا كنت انت المبتلي لنا،
فافعل ما شئت فهؤلاء عبادي حقا)
قلت: لا يزال عقلي كالا دون فهم وجه
كون التمييز نعمة.
قال: فقد قال الفضيل بن عياض t
:( الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار
المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه)
قلت: فما وجه النعمة في هذا، بل إن
هذا بلاء.. محض بلاء؟
قال: أرأيت لو جاورك في بيتك الأدنى
من لا تطيق عشرته.. أترضى بذلك؟
قلت: لا.. بل إني سأرحل عنه..
قال: ولو خسرت مالك.
قلت: ولو خسرت مالي..
قال: لم؟
قلت: طلبا للراحة منه.
قال: فهذا منزل محدود.. لأمد معدود..
فكيف بالمجاورة المستمرة الدائمة التي لا حدود لها.
قلت: الكامل لا يرضى صحبة الناقص، والطيب
لا يطيق معاشرة الخبيث.
قال: ولذلك كان التمييز الذي يحصل في
الآخرة بين الأجناس والأنواع نعمة من النعم العظمى التي يستشعرها المؤمنون، فلا
يدخل الجنة إلا الطيبون، بل إنهم في نفس الجنة متميزون بحسب مراتبهم ودرجاتهم.
قلت: لقد ذكرتني بحكمة جليلة لابن
القيم في هذا المعنى يقول فيها:( يا مخنث العزم أين أنت, والطريق طريق تعب فيه
آدم, وناح لأجله نوح, ورمى في النار الخليل, وأضجع للذبح اسماعيل, وبيع يوسف بثمن
بخس, ولبث في السجن بضع سنين, ونشر بالمنشار زكريا, وذبح السيد الحصور يحيى, وقاسى
الضر أيوب, وزاد على المقدار بكاء داود, وسار مع الوحش عيسى, وعالج الفقر وأنواع
الأذى محمد - صلى الله عليه وسلم - وتزها أنت باللهو واللعب:
فيا
دارها بالحزن إن مزارها قريب ولكن دون ذلك
أهوال)[36]
قال: ولهذا يبين القرآن الكريم المواقف المختلفة من أنواع
البلاء، ففي موقف الخوف مثلا يخبر تعالى عن صنفين من الناس:
أما
الأول، وهو الناجح في الاختبار، فيذكر تعالى وقوفه كالطود الأشمّ أمام كل المخاوف،
قال تعالى:) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ
إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ((آل عمران:173)
وأما
غيرهم من الجبناء الساقطين في الاختبار فقد قال تعالى
في شأنهم:) فَتَرَى
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ
تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ((المائدة: من الآية52)
وقد
أخبر تعالى عن الناجحين في الاختبار بأنه من المنعم عليهم، قال تعالى:) قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ
يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا
دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ((المائدة:23)، وهذا في
مقابلة الساقطين الجبناء الذين قالوا:) يَا مُوسَى
إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا
مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ((المائدة:22)، وقالوا بكل تبجح:) يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ((المائدة: من الآية24)
وهكذا
في كل المواقف، نجد المؤمنين الصادقين الناجحين فيما أنعم به عليهم من البلاء،
ونجد الراسبين الساقطين في الامتحان الذين قال تعالى في شأنهم:) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ
اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ
فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ
الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ((الحج:11)
فهذا الخاسر لا يعبد الله في الحقيقة
وإنما يعبد أهواءه التي قد تتفق أحيانا مع ما يأمر به الله، فيتوهم الخلق أنه يعبد
الله، فلذلك يبتلى بما يظهر حقيقته، ويكشف عن سريرته.
قلت: فما نعمة التمحيص؟
قال: هي التي أشار إليها قوله تعالى:) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ
الْكَافِرِينَ( (آل عمران:141)، فقد أخبر تعالى أن العلة في البلاء الذي حصل
للمؤمنين هو تمحيصهم، كما أن علة البلاء الحال بغيرهم هو محقهم.
قلت: فما التمحيص[37]؟
قال: هو التنقية والتطهير والتمييز لتظهر أهلية كل واحد
منهم ما يستحقه من جزاء.
قلت: فما يظهر تلك الأهلية؟
قال: لا تبرز الأهلية إلا بأسياف
البلاء، ورياح الفتن، وأنواع التمحيص، فالدعاوى سهلة، ولكن الصعب إثباتها، ولذلك
رد الله تعالى على من حسبوا الأمر سهلا، تكفي فيه مجرد الدعاوى، فقال تعالى:) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ
وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ
الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ((البقرة:214)
قلت: ولكن هذه الآية نزلت في محل
خاص.
قال: ولكنها في حقيقتها تفسر سنة
الله في تمحيص عباده ليبرز كل شخص ما في صدره من تسليم أو اعتراض، أو عبودية أو
ربوبية، كما قال تعالى:) وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا
فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ((آل
عمران: من الآية154)
فالقلب كالمجتمع كلاهما يحتاج إلى
أنواع البلاء والمحن والفتن التي تميز الطيب عن الخبيث، والطاهر من النجس.
سمعت صوتا كأني أعرفه، قلت: ما هذا
الصوت يا معلم؟
قال: هذا صوت سيد.
قلت: أهو طبيب من أطباء هذا
المستشفى؟
قال: كل الأولياء أطباء بهذا
المستشفى.
قلت: فما الذي جعله يتكلم الآن؟
قال: سمع قراءتنا للآية، فأراد أن
يتحدث عنها، فأصخ سمعك إليه.
قال سيد: التمحيص درجة بعد الفرز
والتمييز.. التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير.. إنها عملية كشف
لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات، تمهيدا لإخراج الدخل والدغل
والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب.
قلت: فما الحاجة إليه؟
قال: كثيرا ما يجهل الإنسان نفسه،
ومخابئها ودروبها ومنحنياتها. وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن
فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير !
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله - سبحانه -
بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم
يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير:محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية
الواقعية.
فقد يظن الإنسان في نفسه القدرة
والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص.. ثم إذا هو يكشف - على ضوء التجربة
العملية، وفي مواجهة الأحداث الواقعية - إن في نفسه عقابيل لم تمحص، وأنه لم يتهيأ
لمثل هذا المستوى من الضغوط ! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في
سبكها من جديد[38].
قلت: ألهذا كان الألم علاجا مشخصا
للأدواء؟
قال: أجل.. وهو في ذلك كتلك المحاليل
الكاشفة التي تميز أنواع العناصر، ليتبين الأصيل من الدخيل، وتتميز الصحة عن
المرض.
قلت: فما وجه كونه نعمة؟
قال:
لا يمكن العلاج إلا بالتشخيص، فمن السهل ادعاء الصبر، ومن الصعب التحقق به، فلذلك
كان التمحيص مقدمة للتأديب.
قلت: فما نعمة التأديب؟
قال: هي التي أشار إليها قوله تعالى:) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ((الانبياء:87)
قلت: فما وجه الإشارة فيها؟
قال: لقد جعل الله البلاء الذي حل
بيونس u مؤدبا له، وزاجرا عما وقع فيه.
قلت: فيمكن لهذا الاستشهاد بما وقع
لآدم u من أكله من الشجرة بعد أن نهي عنها.
قال: أجل.. فقد ابتلي ليؤدب أمام
أوامر ربه، وليعرف مدى عداوة الشيطان له، فكان ظاهر بلائه نقمة، وباطنه رحمة، قال تعالى:) فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا
رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ
الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ((لأعراف:
من الآية22)
قلت: ولكنه ـ مع ذلك ـ وللأسف ـ خرج
من الجنة.
قال: من أكبر نعم الله على آدم u
أنه خرج من الجنة.
قلت: ما هذا ـ يا معلم ـ أكانت الجنة
نارا حتى يكون خروجه منها نعمة؟
قال: لم تكن نارا، ولكن سكونه إليها
هو النار.. لقد انقلب آدم u بعد خروجه من الجنة شخصا آخر.
قلت: كيف.. فآدم الذي دخل الجنة، هو
آدم الذي خرج منها.
قال: ولكنه ـ عندما خرج منها بأسياف
البلاء ـ تحقق فيه ما أريد منه من منصب الخلافة العظيم الذي خلق له.
قلت: لقد ذكرتني بكلام لابن القيم
على لسان الحضرة الإلهية يقول فيه مخاطبا آدم u:( يا آدم لا تجزع من قولي لك:) اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ((لأعراف:
من الآية24), فلك ولصالح ذريتك خلقتها.. يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على
الملوك, واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك.. يا آدم لا تجزع من قولي لك:) وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُم((البقرة:
من الآية216)) [39]
قال: ولهذا ورد في النصوص الإخبار بابتلاء
الله لعباده بسبب الذنوب التي يقعون فيها، وهو ابتلاء يشبه تماما تقريع المعلم
لتلميذه رادعا له ومؤديا، وقد قال تعالى:) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ((الشورى:30)، فالآية الكريمة تبيّن بوضوح أن المصائب التي تصيب
الإنسان هي نوع من التحذير والعقاب الإلهي إلا ما كان من البلاء المتعلق بالمقربين
من الأنبياء والصديقين، فله نواح أخرى غير هذا.
قلت:
لقد روي عن الحسن t أنه لما نزلت
هذه الآية قال النبي -
صلى الله عليه وسلم -:( ما من اختلاج عرق ولا
خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر)[40]، وقال مجاهد:( ما أصاب العبد من بلاء في جسده فهو لذنب
اكتسبه، وما عاقب الله عليه في الدنيا فالله أعدل أن يعود في العقاب على عبده؛ وما
عفا الله عنه فهو أكرم من أن يعود في شيء عفا عنه)
قلت:
فما وجه كون التأديب نعمة؟
قال:
لقد كانت ملاحظة الصديقين y لهذا سبب سرور
عظيم، فقد لحظوا عناية الله بهم وتأديبه لهم، وغابوا بهما عن ألم الأنين الذي حل
بهم.
ولهذا
قال على بن أبي طالب t:( ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله
حدثنا بها النبي -
صلى الله عليه وسلم -:) وَمَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ((الشورى:30)، ثم قال:( يا علي ما أصابكم من مرض أوعقوبة أوبلاء في
الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا
عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه)[41]
وقال
الحسنt: دخلنا على
عمران بن حصين t فقال رجل: لا
بد أن أسألك عما أرى بك من الوجع؛ فقال عمران:( يا أخي لا تفعل ! فوالله إني لأحب
الوجع ومن أحبه كان أحب الناس إلى الله)، ثم قرأ الآية السابقة.
وقال
مُرَّة الهمذاني: رأيت على ظهر كف شريح قرحه فقلت: يا أبا أمية، ما هذا؟ قال: هذا
بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.
وقال
ابن عون: إن محمد بن سيرين لما ركبه الدين اغتم لذلك فقال: إني لا أعرف هذا الغم،
هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة.
وقال
أحمد بن أبي الحواري: قيل لأبى سليمان الداراني: ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن
أساء إليهم؟ فقال: لأنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم، قال الله تعالى:) وَمَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ((الشورى:30)
قلت: إني أرى البلاء لا ينزل على الأفراد
فقط، بل هو يعدوها إلى المجتمعات، فهل هو من التأديب؟
قال: أجل.. فإن الله برحمته ولطفه
وحكمته يرسل تنبيهاته للمجتمعات حتى تعود إلى ربها وتتأدب بين يديه، ويشير إلى هذا
المعنى قوله تعالى:) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ((الروم:41)،
وهذا يدل على كون هذا سنة اجتماعية.
وفي قوله تعالى:) لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (
تنبيه إلى أن العلة في ذلك ليس الانتقام وإنما التأديب، فما:) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ
وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً((النساء:147)
ويشير إلى هذا قوله تعالى:) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً
أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ((لأنفال:53)،
وقولهتعالى:) إِنَّ اللَّهَ
لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ((الرعد:
من الآية11)
قلت: لقد ذكرتني بما يقول أهل الأدب
في هذا، فقد قال بعضهم:( المحن آداب الله عز وجل لخلقه، وتأديب الله بفتح القلوب،
والأسماع، والأبصار)
وكتب آخر إلى صديق له في محنة
لحقته:( إن الله تعالى ليمتحن العبد، ليكثر التواضع له، والاستعانة به، ويجدد
الشكر على ما يوليه من كفايته، ويأخذ بيده في شدته، لن دوام النعم والعافية،
يبطران الإنسان، حتى يعجب بنفسه، ويعدل عن ذكر ربه، وقد قال الشاعر:
لا
يترك اللّه عبداً ليس يذكره
ممن يؤدّبه أو من يؤنّبه
أو
نعمة تقتضي شكراً يدوم له أو نقمة حين
ينسى الشكر تنكبه
قال:
فالبلاء مدرسة من مدارس الله لتأديب عباده.. ألا تدربون جنودكم بالجوع والعطش؟
قلت:
بلى.. بل لا يصح أن يحمل جندي اسم الجندية إلا إذا جاع وعطش ونزلت به كل المصائب.
قال:
لم؟
قلت:
ليتمرن، وتمتلئ نفسه صبرا، وقلبه شجاعة.
قال:
فكذلك رحمة الله اقتضت أن يذيقكم بعض البلاء ليتربى في نفوسكم ما يعجز الترف على
تربيته.
قلت: فما نعمة التذكير؟
قال: هي التي أشار إليها قوله تعالى:) أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ
مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ((فاطر: من الآية37)، فمن الأقوال في تفسيرها أن المراد
بالنذر[42] الأمراض[43].
قلت: لقد ورد في هذا حديث لا أدري مدى
صحته، هو:( الحمى رائد الموت، وسجن الله في الأرض)[44]،
وقد قال الأزهري مفسرا معناه: معناه أن
الحمى رسول الموت، أي كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه[45].
قال: وقد ورد في الآثار ما يدل على
هذا المعنى أيضا، فقد روي أن بعض الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قال لملك الموت
u: أمالك رسول تقدمه بين يديك ليكون الناس على حذر منك؟ قال: نعم،
لي والله رسل كثيرة من الإعلال والأمراض والشيب والهموم وتغير السمع والبصر، فإذا
لم يتذكر من نزل به ولم يتب، فإذا قبضته ناديته: ألم أقدم إليك رسولاً بعد رسول
ونذيراً بعد نذير؟ فأنا الرسول الذي ليس بعدي رسول، وأنا النذير الذي ليس بعدي
نذير، فما من يوم تطلع فيه شمس ولا تغرب إلا وملك الموت ينادي: يا أبناء الأربعين،
هذا وقت أخذ الزاد، أذهانكم حاضرة و أعضاؤكم قوية شداد. يا أبناء الخمسين قد دنا
وقت الأخذ والحصاد، با أبناء الستين نسيتم العقاب وغفلتم عن رد الجواب فما لكم من
نصير:)
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ
النَّذِيرُ((فاطر: من الآية37))[46]
قلت: فما وجه كون التذكير بهذا نعمة؟
قال: إذا علم المؤمن بقرب أجله سارع إلى المبادرة، قبل
أن يفوت الأوان.. وليس ذلك فقط، بل إن البلاء في صوره المؤلمة يجعل صاحبه يقلع عما
هو فيه من الغي، فلا يلقى الله وهو في سكرات غيه.
قلت: لقد ذكرتني ببديع الزمان حين
قال..
ضحك، وقال مقاطعا لي: لا تحتاج لأن
تذكره، فهو طبيب بصير من أطباء هذا المستشفى، فأصخ بصيرتك لتسمع إليه.
قال بديع الزمان: ثم إن الشيخوخة والمرض والبلاء، وما يحدث من
وفيات هنا وهناك، تقطّر ذلك الألم المرير إلى نفس كل إنسان، وتُنذره دوماً بمصيره
المحتوم، فلا جرم أن أولئك الضالين وأرباب السفاهة والمجون سيتأجج في قلوبهم جحيمٌ معنوي، يعذبهم بلظاه حتى لو
تمتعوا بمباهج الدنيا ولذائذها، بيد أن الغفلة وحدها هي التي تحول دون استشعارهم
ذلك العذاب الأليم[47].
قلت:
الله !.. ما أدق بصيرته ! وما أحد نظره !
قال:
أصخ سمعك ولا تقاطعه.
أصخت
سمعي، فإذا به يقول، وكأنه يخاطب مريضا متألما يذكره بالكنوز المخبأة في طيات
المرض: أيها
المسكين الشاكي من المرض! إن المرض يغدو كنزاً عظيماً لبعض الناس، وهدية إلهية
ثمينة لهم.. وباستطاعة كل مريض أن يتصور مرضه من هذا النوع، حيث أن الحكمة الإلهية
اقتضت أن يكون الأجلُ مجهولاً وقته، إنقاذاً للإنسان من اليأس المطلق أو من الغفلة
المطلقة، وإبقاءاً له بين الخوف والرجاء، حفظاً لدنياه وآخرته من السقوط في هاوية
الخسران.. أي أن الأجل متوقع مجيئه كل حين، فإن تمكّن من الإنسان وهو سادر في
غفلته يكّبده خسائر فادحة في حياته الأخروية الأبدية. فالمرض يبدد تلك الغفلة
ويشتتها، وبالتالي يذكّر بالآخرة ويستحضر الموت في الذهن فيتأهب له. بل يحدث أن
يربّحه ربحاً عظيماً، فيفوز خلال عشرين يوماً بما قد يستعصي استحصاله خلال عشرين
سنة كاملة[48].
قلت: يا بديع الزمان.. يا من تنور
هذا المستشفى ببصيرته.. أخبرني بمثال على ذلك تثبت به قلبي.. فقد عهدتك صاحب
أمثلة.
قال: كان هناك فَتَيان - يرحمهما
الله -، ورغم كونهما أُميين من بين طلابي، فقد كنتُ ألحظُ بإعجاب موقعَهما في الصف
الأول في الوفاء والصدق وفي خدمة الايمان، فلم أدرك حكمة ذلك في حينها، ولكن بعد
وفاتهما علمت انهما كانا يعانيان من دائين عضالين، وبإرشاد من ذلك المرض أصبحا على
تـقوى عظيمة يسعيان في خدمة راقية، وفي وضع نافع لآخرتهما، على خلاف سائر الشباب
الغافلين الساهين حتى عـن فرائضهـم، فنسأل
الله أن تـكون سنتا المرض والمعاناة اللتان قضيـاهما في الحياة الدنيا قد تحولتا
الى ملايين السنين من سعادة الحياة الابدية [49].
ثم سكت برهة، وقال: ومالي أذهب إلى
أصحابي.. سأحدثك عن نفسي.. ( حينما وطأت قدماي عتبة الشيخوخة، كانت صحتي الجسدية
التي ترخي عنان الغفلة وتمدّها قد اعتلّت أيضاً فاتفقت الشيخوخة والمرض معاً على
شن الهجوم عليّ، وما زالا يكيلان على رأسي الضربات تلو الضربات حتى أذهبا نوم
الغفلة عنّي. ولم يكن لي ثمة ما يربطني بالدنيا من مال وبنين وما شابههما، فوجدت
أن عصارة عمري الذي أضعته بغفلة الشباب، إنما هي آثام وذنوب، فاستغثتُ صائحاً
مثلما صاح نيازي المصري:
ذهب العُمر هباءً، لـم أفز فيه بشيء
ولقد جئت أسير الدرب، لكنْ
رحل الرّكبُ بعيداً وبقيتْ
ذلك النائي الغريب وبكيتْ
همتُ وحدي تائهاً أطوي الطريق
وبعينيّ ينابيع الدموع
وبصدري حرقة الشوق
حار عقلي..!)[50]
قلت: فما نعمة الافتقار؟
قال: هي التي أشار إليها قوله تعالى:) كَلَّا إِنَّ
الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى((العلق:6 ـ 7)
قلت: لقد أخبر تعالى بأن رؤية الإنسان لغناه، تجعله طاغية ظالما
متعديا لحدوده.
قال:
ولذلك يكون الافتقار، وكل ما يؤدي إليه نعمة من النعم تخلص الإنسان من الطغيان،
وتعيده إلى وضعه الطبيعي.
قلت: هذا تشير إليه آيات كثيرة،
فالله تعالى يقول ـ وهو يبين سنة اجتماعية لا تكاد تتخلف ـ:) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي
الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ
بَصِيرٌ((الشورى:27)
قال: هذه حقيقة لا تدل عليها النصوص
فقط، بل يدل عليها الواقع.. واقع كل الناس، فهم إن عاشوا الترف نسوا الخالق
والمخلوق.. وظلموا وبغوا.
قلت: لقد
قد ذكر الفخر الرازي علة لكون التوسع موجبا
للطغيان، فقال: ( الإنسان متكبر بالطبع، فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى
خلقته الأصلية وهو التكبر، وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه انكسر فعاد إلى الطاعة والتواضع)[51]
قال: هذا صحيح، ولهذا كان من العقوبة
التي تنزل على عباد الله الغافلين أن تفتح عليهم زهرة الدنيا، ويفاض عليهم نعيمها،
قال تعالى:) فَلَمَّا نَسُوا مَا
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا
فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ((الأنعام:44)
ويروى
في هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:( إذا رأيتم الله تعالى يعطي
العباد ما يشاءون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم)، ثم تلا قوله تعالى:) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ
فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا
أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ((الأنعام:44))[52]
قلت:
فقد قيل: إن السبب الذي حمل فرعون على قوله:) أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى( (النازعات:24)
طول العافية والغنى، فإنه لبث أربعمائة سنة لم يتصدع رأسه، ولم يضرب عليه عرق.
قال:
لو أخذته الشقيقة ساعة واحدة لشغله ذلك عن دعوى الربوبية.
قلت:
ألهذا لا ينزل الله تعالى فرجه ابتداء في أكثر الأحوال؟
قال:
أجل.. وهذا من رحمة الله بعباده.. لأن ما يأتيهم قبل الفرج من فضله الذي لم
يلتفتوا إليه أعظم من الفرج نفسه.
قلت:
هو يتركهم حتى يستشعروا فقرهم وحاجتهم الله.
قال:
وحينذاك يفيض عليهم عطاؤه وغيثه.
قلت:
لقد ذكر تعالى ذلك، فقال:) وَهُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ
وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ((الشورى:28)، وقال:) وَإِنْ
كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ((الروم:49)، وقال:) فَانْظُرْ
إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ
ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ((الروم:50)
قال:
ولهذا، فإن المتوسمين من عباد الله يستدلون بوجود الفاقات على قرب الصدقات، لأن
الفاقة تحقق صاحبها بالافتقار، والافتقار يؤهل صاحبه للفضل، قال قتادة: ذكر لنا أن
رجلاً قال لعمر بن الخطاب t: يا أمير
المؤمنين قحط المطر، وقنط الناس، فقال عمر t: مطرتم، ثم
قرأ قوله تعالى:) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ
مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ((الشورى:28)،
قلت: فالفاقات إذن رسائل رحمة؟
قال: هذا ما يفهمه العارفون منها، فهم يعتبرون أفعال الله ' فيهم وفي
غيرهم رسائل رحمة ومودة.. ولا يفهمون من تلك الأنات والبلايا إلا أنها حروف من
الله تشهدهم وجود فاقتهم، وتشعرهم بحقيقتهم، لتشغلهم بالله عن أنفسهم.
قلت:
لقد أشار ابن عطاء الله إلى هذا فقال:( خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجود فاقتك، وترد
فيه إلى وجود ذِلتك)
وأشار
إلى هذا المعنى في الحكمة الأخرى بقوله:( فاقتك لك ذاتية، وورود الأسباب مذكرات لك
بما خفي عليك منها، والفاقة الذاتية لا ترفعها العوارض)
قال:
نعم، فإنه إذا علم العبد أن العدم سابق على وجوده، وأن وجوده مفتقر إلى المدد في
كل وقت، وإلا تلاشى وانعدم، علم أن فاقته ذاتية، وأن الاضطرار لازم لوجوده، وأن
ورود العلل المختلفة من الفقر والمرض مذكرات له بما خفي عليك من الفاقة الذاتية،
فإن غالب الناس يغفلون عن الفاقة الذاتية إذا دامت عليهم صحة أبدانهم وكثرة
أموالهم.
قلت:
لقد تحدث بديع الزمان عما يحدثه البلاء من أنواع الفاقة والعجز، والتي تقرب
المبتلى إلى ربه.
قال:
فأصخ سمع بصيرتك إليه.. ألا تعلم أنه من أطباء هذا المستشفى؟
سمعت
صوته، وهو يقول: إن البلايا والضر والأمراض تـجعل صاحبها يشعر بعجزه وضعفه،
فيلتجىء إلى ربه الرحيم، ويتوجه اليه ويلوذ به، فيؤدي بهذا عبادة خالصة، هذه
العبادة خالصة زكية لا يدخل فيها الرياء قط، فإذا ما تجمل المصاب بالصبر وفكّر في
ثواب ضره عند الله وجـميل أجره عنده، وشكر ربه عليها، تـحولت عندئذ كل ساعة من
ساعات عمره كأنها يوم من العبادة، فيغدو عمره القصير جداً مديداً طويلاً، بل
تتـحول - عند بعضهم - كل دقيقة من دقائق عمره بـمثابة يوم من العبادة.
قلت:
فالبلاء إذن ـ يا بديع الزمان ـ مسجد من مساجد العبودية ومحراب من محاريبها؟
قال:
ليس هذا فقط، بل هناك حكم أجل يبرزها فقر الإنسان، لها علاقة بالعرفان.
قلت:
أفقر الإنسان يعرفه بالله؟
قال:
بل يوصله إليه.
قلت:
كيف ذلك؟
قال:(
ان الله سبحانه قد أدرج في الانسان عجزاً لا حد له، وفقراً لانهاية له، إظهاراً
لقدرته الـمطلقة وإبرازاً لرحمته الواسعة. وقد خلقه على صورة معينة بـحيث يتألم
بما لا يحصى من الجهات، كما أنه يتلذذ بما لا يعد من الجهات، إظهاراً للنقوش
الكثيرة لأسمائه الحسنى. فابدعه سبـحانه على صورة ماكنة عجيبة تـحوي مئات الآلات
والدواليب، لكل منها آلامها ولذائذها ومهمتها وثوابها وجزاؤها، فكأن الاسماء
الإلـهية المتجلية في العالم الذي هو إنسان كبير تتجلى أكثرها أيضاً في هذا
الانسان الذي هو عالم أصغر، وكما أن ما فيه من أمور نافعة - كالصحة والعافية
واللذائذ وغيرها - تدفعه الى الشكر وتسوق تلك الـماكنة الى القيام بوظائفها من عدة
جهات، حتى يغدو الانسان كأنه ماكنة شكر. كذلك الامر في المصائب والأمراض والآلام
وسائر المؤثرات المهيجة والمحركة، تسوق الدواليب الأخرى لتلك الماكنة الى العمل
والحركة وتثيرها من مكمنها فتفجّر كنوز العجز والضعف والفقر الـمندرجة في الـماهية
الانسانية. فلا تـمنـح الـمصائبُ الانسانَ الالتـجاء الى البارىء بلسان واحد، بل
تـجعلـه يلتـجىء اليه ويستغيثه بلسان كل عضو من أعضائه)[53]
قلت:
هذه نعم جليلة ينبتها غرس البلاء، المضمخ بعطر الافتقار.
قال:
ليس هذا فقط بل إنه يلقن المريض أهم عرى الحياة الاجتماعية.. فهو لا يربطه بالله
فقط، بل يربطه بالمجتمع أيضا.
قلت:
كيف ذلك؟
قال:
لأنه نه ينقذ الانسان من الاستغناء عن الآخرين، ذلك الاستغناء الذي يسوق الى
الوحشة ويجرد الانسان من الرحمة، فالنفس الأمارة الواقعة في شباك الاستغناء -
الناجم عن الصحة والعافية - لن تشعر بالاحترام اللائق تجاه العلاقات الاخوية، ولن
تحس بالرحمة والرأفة بالمبتلين بالمصائب والامراض الجديرين بالرحمة والعطف، ولكن
متى ما انتاب الانسان المرض وأدرك مدى عجزه، ومدى فقره، تحت ضغوط المرض وآلامه
وأثقاله فانه يشعر بالاحترام لأشقائه المؤمنين اللائقين بالاحترام الذين يقومون
برعايته، أو الذين يأتون لعيادته، ويشعر كذلك بالرأفة الانسانية وهي خصلة إسلامية
تجاه اهل المصائب والبلايا - قياساً على نفسه - فتفيض من قلبه الرحمة والرأفة بكل
معناهما تجاههم، وتضطرم عنده الشفقة حارة ازاءهم، واذا استطاع قدّم لهم يد العون،
وان لم يقدر عليه شرع بالدعاء لهم، أو بزيارتهم والاستفسار عن راحتهم وأحوالهم
مؤدياً بذلك سنةً مشروعة كاسباً ثوابها العظيم)[54]
قلت: هنيئا للفقراء هذه النعم
العظيمة التي يحملها فقرهم.
قال المعلم: ستعرف عند الرحلة لكنوز
الفقراء كيف يطير الافتقار بالمؤمن، فلا يقف به إلا على باب الله تعالى،
فيتوجه بكل كيانه إلى الرحيم الرحمن، كما
يتوجه الصبي إلى أحضان أمه، فيكسب بالتجائه من اللذة ما ينسيه إلى كل ألم، بل يكون
ذلك الألم هو طريق الأشواك القصير المحدود الذي أوصله إلى الجنان المزهرة.
قلت: لكانك تشير بقولك هذا، وبهذه
الرحمة المكسوة بكساء الألم إلى قوله تعالى:) وَإِمَّا
تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً
مَيْسُوراً((الاسراء:28)
قال: هذا صحيح، ولذلك كان في
الافتقار الذي ينشئه البلاء لذة يشعر بها العارفون لا تقل عن لذة شعور الصبي
بالأمن، وهو يعود إلى أحضان أمه الدافئة.
قلت: فهذا من معاني قوله تعالى:) وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى
أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ((البقرة: من الآية216)
قال: أجل.. وكل هذا المستشفى تفسير
لهذا القول.
قلت: لقد ذكر ابن القيم حالا من
أحوال العارفين أسماه ( مشهد الذل والانكسار والخضوع والافتقار للرب تعالى)[55]،
وقد ذكر فيه أن المؤمن في هذا المشهد يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة
ضرورة تامة وافتقارا تاما إلى ربه ووليه ومن بيده صلاحه وفلاحه وهداه وسعادته،
فيحصل لقلبه انكسار خاص لا يشبهه شىء، بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل
الذى لا شىء فيه ولا به ولا منه ولا فيه منفعة ولا يرغب فى مثله وأنه لا يصلح
للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيمه.
وفي هذا المشهد يرى المؤمن العارف كل
ما يأتيه من ربه خيرا، بل يرى أنه لا يستحق قليلا منه ولا كثيرا، فأي خير ناله من
الله استكثره على نفسه، وعلم أن قدره دونه، وأن رحمة ربه هى التى اقتضت ذكره به
وسياقته إليه.
ويذكر ابن القيم الجزاء الذي يناله
هذا القلب المنكسر لله بقوله:( فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور، وما أدنى
النصر والرحمة والرزق منه، وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه، وذرة من هذا ونفس
منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم
وأحوالهم، وأحب القلوب إلى الله سبحانه قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة وملكته هذه
الذلة، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلا من الله)
قال: يعبر العارفون على ما ذكره ابن القيم
بسجود القلب.
قلت: أجل.. لقد سئل سهل التستري t:(
أيسجد القلب؟)، فقال:( نعم، يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء )
قال: فهذا السجود الخاشع الدائم الذي
يسجده القلب لا يكون إلا بالافتقار إلى الله.
قلت: لقد ذكر ابن القيم لذلك مثلا
رائعا، حيث مثل المشهد السابق برجل كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام والشراب
واللباس ويربيه أحسن التربية ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية، وهو القيم
بمصالحه كلها، فبعثه أبوه في حاجة له، فخرج عليه فى طريقه عدو فأسره وكتفه وشده
وثاقا، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب وعامله بضد ما كان أبوه
يعامله به، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة، فتهيج من قلبه
لواعج الحسرات كلما رأى حاله ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه.
فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء
العذاب ويريد نحره في آخر الأمر إذ حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه فرأى أباه
منه قريبا، فسعى إليه وألقى نفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث:( يا أبتاه يا أبتاه
يا أبتاه.. انظر إلى ولدك وما هو فيه) ودموعه تستبق على خديه، قد اعتنقه والتزمه،
وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه، وهو ملتزم لوالده ممسك به.
فهل يمكن لهذا الوالد أن يسلم ولده
مع هذه الحال إلى عدوه، ويخلي بينه وبينه؟
فما الظن بمن هو أرحم بعبده من
الوالد بولده ومن الوالدة بولدها إذا فر عبد إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه
طريحا ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكيا بين يديه يقول:( يا رب يا رب ارحم من لا
راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك
وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك، أنت معاذه، وبك
ملاذه، يا من ألوذ به فيما أؤمله، ومن أعوذ به مما أحاذره:
لا
يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون
عظما أنت جابره
ويحكى في هذا عن بعض العارفين أنه
قال:( دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه
الزحام، فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه
وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو سبحانه
قد أخذ بيدي وأدخلني عليه)[56]
قال:
لهذه الآثار الجميلة التي يحدثها البلاء في النفس، ومع الله، ومع المجتمع، كان
الحمد لله والشكر له يخرج من أفواه الصالحين غضا طريا مشفوعا بالشعور بالمنة
لاعتقادهم أن الله ما ابتلاهم ليعذبهم، وإنما ابتلاهم ليخلصهم من أوزار نفوسهم،
وليجعلهم أهلا له، وقد روي في الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى u:( إذا رأيت
الفقر مقبلا إليك فقل: مرحبا بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغني مقبلا إليك فقل: ذنب
عجلت عقوبته)[57]
وكان فتح الموصلي إذا اشتد مرضه
وجوعه يقول:( إلهي ابتليتني بالمرض والجوع، وكذلك تفعل بأوليائك، فبأي عمل أؤدي
شكر ما أنعمت به علي)
وقال مالك بن دينار: قلت لمحمد بن
واسع: يا أبا عبد الله، طوبى لمن كانت له غليلة تقوته وتغنيه عن الناس، فقال لي:(
يا أبا يحيى طوبى لمن أمسي وأصبح جائعا وهو عن الله راض)
وكان الفضيل بن عياض يقول:( إلهي
أجعتني، وأجعت عيالي وتركتني في ظلم الليالي بلا مصباح، وإنما تفعل ذلك بأوليائك
فبأي منزلة نلت هذا منك)
وسر
ذلك هو خوف الصالحين من الاستدراج بالنعيم، كما قال الحسن:( والله ما أحد من الناس
بسط الله له في الدنيا فلم يخفف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز
رأيه. وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز
رأيه)
بل هذا ما صرح به - صلى الله عليه
وسلم - في قوله:( والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم
الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)[58]
قلت: فما نعمة المحدودية؟
قال: من نعم الله العظيمة في البلاء
كونه محدودا.
قلت: من أي الجهات كان محدودا؟
قال: من جهة محله، أو من جهة الزمن
الذي يستمر فيه.
قلت: فكيف كان البلاء محدودا من جهة
المحل؟
قال: إن الله تعالى برحمته لم يبتل
منك إلا أعضاء محدودة، أو محال محدودة، ورزقك بدلها من العوض ما يهون عليك ذلك
الألم، أو ما تستأنس به بدل ذلك المفقود، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى:) إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً
حَكِيماً((النساء:104)
قلت: فما وجه الإشارة في هذه الآية؟
قال: لقد رزق الله المؤمنين الرجاء
عوضا عن الألم الذي أصابهم، وهو ما يخفف من حدة البلاء، ويجعله محدودا لا يتجاوز
إلى أرواحهم التي هي محل الرجاء.
قلت: فهل تشير إلى هذا آيات أخرى؟
قال: أجل.. آيات كثيرة، فالله تعالى
يقول:) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ
مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ((البقرة:155)
فقد ذكر تعالى أن البلاء يكون بشيء من الخوف والجوع، أي بقليل منهما، وبنقص من الأموال
والانفس والثمرات، أي ذهاب بعضها فقط وبقاء البعض الآخر.
قلت:
هذه إشارة جميلة ودقيقة.. ولكنها قد لا تفهم.
قال:
إشارات القرآن الكريم لا يفهمها إلا المتدبرون.
قلت:
فلنبسطها حتى يفهموها، ألم يجعل الله تعالى القرآن الكريم ميسرا للذكر.
قال:
فالله تعالى ذكر في الآية أمرين: ذكر الابتلاء بصيغة المحدودية، وذكر التبشير
بصيغة الإطلاق، فلم يحدد الجوائز المرتبطة بالبشارة.
قلت:
لم؟
قال:
لينمحق البلاء في البشارة، بالإضافة إلى انمحاقه في محدوديته.
قلت:
فاضرب لي مثالا على ذلك.
قال:
إذا جاز أن نمثل البلاء بشيء، فإن أقرب شيء إليه هو الحفرة التي تدمل الأرض
بالجراح.
قلت:
نعم هذا تقريب حسن، فالحفرة كالألم الذي أصاب جسد الإنسان.
قال:
فإذا كانت الحفرة محدودة من حيث حجمها، ثم ملأناها بأكياس.. لا من الرمل.. بل من
الذهب الخالص.. بل بما هو أشرف من الذهب وأغلى قيمة.. أيبقى للحفرة وجود؟
قلت:
لو أن الأمر كذلك لتمنى صاحب الحفرة أن تكون حفرته أخدودا عظيما، بل بحرا عميقا،
بل محيطا لا حدود له.
قال:
الأمر كذلك.. ولكنكم لا تبصرون.
قلت:
فهل هناك إشارة أخرى؟
قال:
قوله تعالى:) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ((البقرة:124)، فقد أخبر الله تعالى بأنه ابتلى إبراهيم u بكلمات، أي
ببعض البلاء، لا بكل البلاء، ومثل ذلك ما ذكر من أنواع البلاء التي حصلت للأنبياء
ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فهي كلها من البلاء المحدود، والذي ينتهي غالبا بالفرج
التوسعة.
قلت:
فهل هناك إشارة أخرى؟
قال:
قوله تعالى:) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ((الشورى:30)، فقد أخبر تعالى أن من أسباب
المصائب الذنوب، وأنه برحمته لا يعاقب على كل الذنوب، بل لو عاقب عليها لما ترك
على ظهرها من دابة، قال تعالى:) وَلَوْ يُؤَاخِذُ
اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ((فاطر: من الآية45)
قلت:
لقد ورد في تفسير الآية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما رواه الحسن
البصري t، قال:( لما نزلت:) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ((الشورى:30)، قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:( والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود، ولا اختلاج
عرق، ولا عثرة قدم، إلا بذنب، وما يعفو اللّه عنه أكثر)[59]
وورد
فيها ما رواه أبو جحيفة قال: دخلت على علي بن أبي طالب t، فقال: ألا
أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه؟ قال، فسألناه، فتلا هذه الآية:) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ((الشورى:30)،، فقال: ما عاقب اللّه تعالى به في الدنيا، فاللّه أحلم من أن
يثني عليه العقوبة يوم القيامة، وما عفا اللّه عنه في الدنيا، فاللّه أكرم من أن
يعود في عفوه يوم القيامة)[60]
قال:
فالبلاء بهذا يصبح محدودا غاية المحدودية.. لأنك لا تقارنه ببلاء مثله، وإنما تقارنه بقدرة الله التي
لا تحد، مع مشيئته النافذة في خلقه، فالله مع كونه ابتلاك إلا أنه ابتلاك بشيء
محدود لا قيمة له بجنب ما صرف عنك.
قلت: لقد ذكرتني بحكاية رجل الصالح
حكى عنه مسروق، فقال: كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك، فالديك يوقظهم للصلاة
والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خباءهم والكلب يحرسهم، قال: فجاء الثعلب فأخذ
الديك، فحزنوا له وكان الرجل صالحاً فقال: عسى أن يكون خيراً، ثم جاء ذئب فخرق بطن
الحمار فقتله فحزنوا عليه فقال الرجل: عسى أن يكون خيراً، ثم أصيب الكلب بعد ذلك
فقال عسى أن يكون خيراً، ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سبـي من حولهم وبقوا
هم، قال: وإنما أخذوا أولئك لما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة، فكانت
الخيرة لهؤلاء في هلاك هذه الحيوانات كما قدّره الله تعالى.
فقد كانت هذه المصائب كبيرة في لحظة
نزولها، ولكنها كانت بدلا عن مصائب أكبر، فنابت المصائب الصغيرة عن الكبيرة.
قال: بل أشار إلى هذا قوله تعالى في
قصة موسى u مع الخضر u حين خرق السفنية، وكانت مصيبة صغيرة أقل بكثير من أن يسلبوا
السفينة، قال ':)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ
أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً((الكهف:79)
أو حين قتل الغلام، وهو مصيبة كبيرة
في نفسه، ولكنه صغيرة إذا ما قورن بنتيجته، قال ':) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ
مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَا
أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً((الكهف:80
ـ81)
***
قلت: فهمت هذا.. وأدركت سر كونه نعمة.
قال: ليس هذا فقط.. بل إن من نعم هذه
المصيبة التي حلت بك أنها كانت في الدنيا، ولم تكن في الدين، وكانت في الجسد، ولم
تكن في الروح، وتعلقت بالدنيا، ولم تتعلق بالاخرة.
قلت: لا يفقه سر هذا إلا من عرف نسبة
الدين إلى الدنيا، ونسبة الروح إلى الجسد، ونسبة النشأة الأولى إلى النشأة
الآخرة.. فاضرب لي مثالا يقرب لي هذا المعنى.
قال: صاحب السيارة الذي تعرض لحادث،
مات فيه من مات لكنه نجا، وتأثرت سيارته، فإن هذا وإن تأسف على ما أصابها، إلا أنه
يحمد الله على أن المصيبة حلت بالسيارة، ولم تحل به.
قلت: هذا صحيح.. فكيف نطبق هذا المثل
على ما نحن فيه؟
قال: لقد عرفنا أن الجسد مطية الروح
ومركوبها، وأن غذاء الروح هو الدين، وسمها هو التعلق بالدنيا.
قلت: أجل.. وقد ذكرتني بكلام جميل
لبديع الزمان في هذا.
سمعت صوته، وهو يقول:( إن المصيبة التي تعدّ مصيبة حقاً والتي هي مضرة فعلاً، هي التي تصيب الدين.
فلابد من الالتجاء الى الله سبحانه والانطراح بين يديه والتضرع اليه دون انقطاع.
أما المصائب التي لاتمس الدين فهي في حقيقة الامر ليست بمصائب، لأن قسماً منها
تنبيه رحماني! يبعثه الله سبحانه الى عبده ليوقظه من غفلته.. أما القسم الآخر من
المصائب فهو كفارة للذنوب، وقسم آخر أيضاً من المصائب هو منحة إلهية لتطمين القلب
وافراغ السكينة فيه، وذلك بدفع الغفلة التي تصيب الإنسان، وإشعاره بعجزه وفقره
الكامنين في جبلته)[61]
***
قال المعلم: وهناك ناحية أخرى مهمة يمكن
الاعتبار منها هنا تخفف من البلاء وتجعله محدودا، بل تكاد تلغيه.
قلت: ما هي؟ فقد شوقتني.
قال: هي محدودية آلام الدنيا مهما
عظمت بآلام الآخرة ومصائبها.
قلت: يشير إلى هذا المعنى آيات
كثيرة، فالله تعالى يقول:) أَفَرَأَيْتَ إِنْ
مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ( (الشعراء:25 ـ
207)،
أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأمهلناهم
برهة من الدهر وحيناً من الزمان وإن طال، ثم جاءهم أمر اللّه، أي شيء يجدي عنهم ما
كانوا فيه من النعيم.
قال:
لأنهم في ذلك الحين يدركون قصر عمر الدنيا التي كانوا يتفانون من أجلها.
قلت:
وقد دل على ذلك آيات كثيرة، فالله تعالى يقول:) كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ
بَلاغ((الاحقاف: من الآية35)، وقوله تعالى:) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ
يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا((النازعـات:46)
قال:
وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه ( يؤتى بالكافر فيغمس في النار
غمسة ثم يقال له هل رأيت خيراً قط؟ هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا واللّه يا رب،
ويؤتى بأشد الناس بؤساً كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت
بؤساً قط؟ فيقول: لا واللّه يا رب)[62]،
فلحظة واحدة في الجنة تنسي أشد الناس بؤسا في الدنيا كل ما عاناه فيها.
قلت:
فهمت الناحية الأولى، وعرفت أثرها ووجه كونها نعمة، فما الناحية الثانية؟
قال:
محدودية الزمان.
قلت:
فسرها لي.
قال:
هي ما أشار إليه قوله تعالى:) الَّذِينَ
إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ((البقرة:156)
قلت: فما وجه الإشارة فيها؟
قال: كلمة الاسترجاع تحمل دلالة عظيمة على محدودية البلاء،
فالمؤمن المبتلى سيرجع إلى ربه، وستنتهي برجوعه كل أصناف البلايا.
قلت:
فاضرب لي مثالا على ذلك.
قال:
أرأيت لو أن مسجونا سجن أياما معدودة.. وكان آمر السجن رحيما، فكان يرسل له كل يوم
من يملؤه بالبشر، ويقول له:( إن هي إلا أيام وتعود إلى أهلك ومالك) ألا يستبشر هذا
المسجود ويستأنس؟
قلت:
بلى..
قال:
فالله تعالى المبتلي لم يرسل لنا من يؤنسنا بذلك، بل هو الذي ملأنا بالأنس،
فأخبرنا برجوعنا إليه ليمسح عنا كل دمعة، ويبرئ لنا كل جرح.
قلت:
فهمت الإشارة.. فهل هناك إشارة أخرى؟
قال:
قوله تعالى:) وَلَلْآخِرَةُ
خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى((الضحى:4)
قلت: هذه الآية في تبشير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: لا.. هذه الآية تبشر الكل..
تبشر كل من يسمع من الله.. فلا يصح أن نحجر على كلام الله.
قلت: فما فيها؟
قال: ذكر الآخرة بعد ذكر البلاء يفيد
عظم الجزاء الذي يشهدون المبتلون بعد أن تنقضي فترة بلائهم.
قلت: ألهذا التفت السحرة إلى المدة
التي يمكن لفرعون أن يعذبهم فيها؟
قال: أجل، لقد وجدوها قصيرة لا تساوي
شيئا أمام ما عند الله، فقالوا له عندما وضعهم في ذلك الخيار الصعب:) لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي
فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا((طـه:72)
قلت: ولهذا يعبر تعالى عن عذاب
الآخرة وبلائها بكونه:)
أَشَدُّ وَأَبْقَى((طـه: من الآية127)
قال: ليملأ القلوب المتألمة بالأنس
بانتهاء عذابها المحدود.
قلت: لا ـ يا معلم ـ فهي آية تخويف
لا تأنيس.
قال: هي تخويف وتأنيس.. هي كالزرع
الذي يسقى بماء واحد، ويفضل بعضه على بعض في الأكل، ألم تسمع قوله تعالى:) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ
وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ
وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ((الرعد:4)
قلت: بلى.
قال: فذلك مطره النازل إلى الأرض،
وهذا مطره النازل على القلوب.
قلت:
فكيف يزرع هذا البسمة في القلوب المتألمة؟
قال: يروى أنّ يونس u قال لجبريل: دلني على أعبد أهل الأرض، فدله على رجل قد قطع الجذام
يديه ورجليه وذهب ببصره، فسمعه وهو يقول: إلهي متعتني بهما ما شئت أنت، وسلبتني ما
شئت أنت، وأبقيت لي فيك الأمل يا بر يا وصول.
قلت: ما معنى هذا؟
قال: معناه ما صرح به باب مدينة
العلم[63] t فيما رواه عنه الأحنف بن قيس t قال: ما سمعت بعد كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن من كلام أمير المؤمنين علي t
حيث يقول:( إن للنكبات نهايات، لا بد لكل أحد إذا نكب من أن
ينتهي إليها، فينبغي للعاقل إذا أصابته نكبة أن ينام لها حتى تنقضي مدتها، فإن في
دفعها قبل انقضاء مدتها زيادة في مكروهها)
قلت: لقد استشهد الأحنف t
لهذا بقول الشاعر:
الدهر
تخنق أحيانا قلادته |
فاصبر عليه ولا تجزع ولا تثب |
حتى
يفرجها في حال مدتها |
فقد يزيد اختناقا كل مضطرب |
قال: وزيادة على هذا كله، فإن المؤمن
لا يغفل بالنظر إلى البلاء الذي نزل به عن الرخاء الذي عاشه، والذي لا تزال ترتسم
ذكرياته في ذهنه يستأنس بها.
قلت: ألهذا إشارة من القرآن الكريم؟
قال: أجل، قوله تعالى:) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ((التوبة:
من الآية25)، فقد وردت هذه الآية في موضع من
مواضع الألم تذكرهم بأفضال الله السابقة لتملأهم أنسا بها.
قلت: لقد قال الشاعر في هذا وأحسن:
فلا
تجزع وإن أعسرت يوماً |
فقد
أيسرت في الزمن الطويل |
ولا
تظنن بربّك ظنّ سوءٍ |
فإنّ
الله أولى بالجميل |
قال: هذه سنة الله في عباده، فهو
يبتلي بالسراء والضراء، فمن ابتلي بالسراء لا بد أن يبتلى ببعض الضراء، ومن رحمة
الله محدودية الضراء بجنب السراء.
قلت: لقد أشار ابن مسعود t
إلى هذا بقوله:( لكل فرحةٍ تَرْحة، وما مُلِىءَ بيتٌ فرحاً إلا مُلِىءَ تَرحاً)،
ومثله قال ابن سيرين:( ما كان ضحكٌ قَطٌ إلا كان من بعده بُكاء)
وقد روي في هذا أن هندا بنت
النُّعمان قالت: لقد رأيتُنا ونحن مِن أعزِّ الناس وأشدِّهم مُلكاً، ثم لم تَغِبِ
الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس، وأنه حقٌ على الله ألا يملأ داراً
خَيْرة إلا ملأها عَبرة.
وسألها رجلٌ أن تُحَدِّثه عن أمرها،
فقالت: أصبحنا ذا صباح، وما فى العرب أحدٌ إلا يرجونا، ثم أمسينا وما فى العرب أحد
إلا يرحمُنا.
وبكت أختها حُرقَةُ بنت النُّعمان
يوماً، وهى فى عِزِّها، فقيل لها: ما يُبكيكِ، لعل أحداً آذاك؟ قالت: لا، ولكن
رأيتُ غَضارة فى أهلى، وقلَّما امتلأت دارٌ سروراً إلا امتلأت حُزناً.
وقال إسحاق بنُ طلحة: دخلتُ عليها
يوماً، فقلتُ لها: كيف رأيتِ عبراتِ الملوك؟ فقالت: ما نحنُ فيه اليومَ خيرٌ مما
كنا فيه الأمس، إنَّا نجِدُ فى الكتب أنه ليس مِن أهل بيت يعيشون فى خيْرة إلا
سيُعقَبون بعدها عَبرة، وأنَّ الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بَطَن لهم بيوم
يكرهونه، ثم قالت:
فَبَيْنَا
نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا |
إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ
نَتَنَصَّفُ |
فَأُفٍّ
لِدُنْيَا لاَ يَدُومُ نَعِيمُهَا ل |
تَقَلَّبُ تَارَاتٍ
بِنَا وَتَصَرَّفُ |
***
قلت: فما سر جعل البلاء محدودا؟
قال:
لأن القصد منه هو الاختبار، والاختبار محدود من حيث الأسئلة المطروحة فيه، ومن حيث
المدة التي تطرح فيها تلك الأسئلة.
قلت: فما هي المكاسب التي أنالها من
هذه المحدودية؟
قال: أول مكسب لك في هذا هو تقليل
عدد مصائبك وتحجيمها، بل تقزيمها، كما قال بعض الصالحين:( إذا نزلت بك مصيبة
فصبرت، كانت مصيبتك واحدة، وإن نزلت بك ولـم تصبر، فقد أُصبت بمصيبتين: فقدان
المحبوب، وفقدان الثواب)
قلت: لقد ذكرتني ـ يا معلم ـ بأحاديث
جميلة للصالحين، فإنهم لا يغفلون بما حل بهم من بلاء عما بهم من نعم الله:
فهذا عروة بن الزبير t
يصاب في قدمه؛ فيقرر الأطباء قطعها، فقطعت، فما زاد على أن قال:( اللهم لك الحمد،
فإن أخذت فقد أبقيت، وإن ابتليت فقد عافيت)، فلما كان من الغد ركلت بغلةٌ ابنه
محمداً – وهو أحب أبنائه إليه، وكان شاباً يافعاً – فمات من حينه، فجاءه الخبر
بموته، فما زاد على أن قال مثل ما قال في الأولى، فلما سُئِل عن ذلك قال:( كان لي
أربعة أطراف فأخذ الله مني طرفاً وأبقى لي ثلاثة، وكان لي سبعةٌ من الولد فأخذ
الله واحداً وأبقى لي ستة. وعافاني فيما مضى من حياتي، ثم ابتلاني اليوم بما ترون،
أفلا أحمده على ذلك؟!)
ويحدث بعض الصالحين، قال: مررت بعريش
من مصر وأنا أريد الرباط، فإذا أنا برجل في مظلة قد ذهبت عيناه ويداه ورجلاه، وبه
أنواع البلاء وهو يقول: الحمد لله حمدا يوافي محامد خلقك بما أنعمت علي وفضلتني
على كثير ممن خلقت تفضيلا. فقلت: لأنظرن أشيء علمه أم ألهمه الله إلهاما? فقلت:
على أي نعمة من نعمه تحمده? أم على أي فضيلة تشكره? فوالله لو أرسل السماء علي
نارا فأحرقتني، وأمر الجبال فدكدتني، وأمر البحار فغرقتني ما ازددت له إلا حمدا
وشكرا وإن لي إليك حاجة: بنية لي كانت تخدمني وتتعاهدني عند إفطاري انظر هل تحس
بها? وقال عبد الوهاب بني كان لي فقلت: والله إني لأرجو أن يكون لي في قضاء حاجة
هذا العبد الصالح قربة إلى الله عز وجل. فخرجت أطلبها بين تلك الرمال فإذا السبع
قد أكلها. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، من أين آتي هذا العبد الصالح أخبره
بموت ابنته? فأتيته فقلت له: أنت أعظم عند الله منزلة أم أيوب عليه السلام? ابتلاه
الله في ماله وولده وأهله وبدنه حتى صار عرضا للناس? فقال: لا بل أيوب. قلت: فإن
ابنتك التي أمرتني أن أطلبها أصبتها وإذا السبع قد أكلها. فقال: الحمد لله الذي لم
يخرجني من الدنيا وفي قلبي منها شيء. فشهق شهقة فمات. فقلت: إنا لله وإنا إليه
راجعون، من يعينني على غسله ودفنه? فإذا أنا بركب يريدون الرباط، فأشرت إليهم
فأقبلوا إلي فأخبرتهم بالذي كان من أمره فغسلناه وكفناه ودفناه في مظلته تلك، ومضى
القوم. وبت ليلتي في مظلته آنسا به حتى إذا مضى من الليل قد ثلثه إذا أنا به في
روضة خضراء، وإذا عليه حلتان خضراوان، وهو قائم يتلو القرآن. فقلت ألست صاحبي
بالأمس? فقال: بلى. فقلت: فما صيرك إلى ما أرى? قال: وردت من الصابرين على درجة لم
ينالوها إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء.
ويروى عن عكرمة قال: مر عمر بن
الخطاب t برجل مبتلى أجذم أعمى أصم وأبكم، فقال لمن معه: هل يرون في هذا من
نعم الله شيئا؛ قالوا: لا، قال: بلى ألا ترون يبول فلا يعتصر؛ ولا يلتوى، يخرج به
بوله سهلا، فهذه نعمة من الله.
قلت: فما نعمة السكينة؟
قال: هي تلك الطمأنينة التي يجدها
المؤمن عقب بلائه، وهي تثبيت الله تعالى للقلوب المتألمة، ولولاه لزلزل بها.
قلت: أهي الصبر؟ فالثبات هو ثمرة
الصبر.. وهو نعمة تجعل في القلوب قدرة عجيبة على التحمل والتعايش مع البلاء.
قال: هي قريبة من نعمة الصبر..
ولكنها أعظم شأنا.
قلت: كيف؟
قال: السكينة هبة ربانية تنزل على من
توفرت فيهم الأهلية، بينما الصبر عمل إنساني وجهد يمارسه المكلف ليتحقق به[64].
قلت: ألهذا ورد الأمر بالصبر، ولم
يرد الأمر بالسكينة، فقد قال تعالى:) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ
إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ((البقرة:45)، وقالتعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(
(البقرة:153)، وقالتعالى:) لَتُبْلَوُنَّ
فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ((آل
عمران:186)، وقالتعالى:) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ((آل عمران:200)
ولم يأت في آية واحدة الأمر
بالسكينة.
قال: السكينة لا يؤمر بها، لأنها
تتنزل.. وما يتنزل لا يؤمر به.. وإن صح أن يؤمر به، فإنه يؤمر بالتحقق بأهلية
التنزل.
قلت: وما أهلية التنزل؟
قال: وقوف المؤمن في مواقف الخوف
والشدة والزلزلة.
قلت: لقد نهينا عن طلب البلاء.
قال: لا أقصد ذلك.. ولكني أقصد أن
تتعرض للبلاء المرتبط بالخوف والشدة والزلزلة.
قلت: فكل الخلق يتعرضون لذلك.. هذا
من ضرورات الاختبار.
قال: فيهم من يتعرض لها بالله، وفيهم
من يتعرض لها بنفسه.
قلت: فمن تعرض لها بنفسه؟
قال: يوكل إليها.. وقد يلتجئ إلى
الصبر.. وقد يضيق به الصبر، فينتحر بجسده أو بروحه.
قلت: فمن تعرض لها بالله؟
قال: تتنزل عليه السكينة لتخبره
بتولي الله له، وقيامه بشأنه.
قلت: ألهذا كان النبي r
في مواقف الشدة يطلب السكينة؟.. فعن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: رأيت النبي r ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب جلدة بطنه، وهو يرتجز بكلمة عبدالله بن رواحة ـ رضي الله
عنه ـ:
لاهم
لولا أنت ما اهتدينا |
ولا
تصدقنا ولا صلينا |
فأنزلن
سكينة علينا |
وثبت
الأقدام إن لاقينا |
إن
الأولى قد بغوا علينا |
وإن
أرادوا فتنة أبينا |
قال: أجل.. ولهذا وردت السكينة في
القرآن الكريم في مواضع الشدة[65].
قلت: وهي في أغلبها تتعلق برسول الله
r والعصبة المؤمنة معه[66].
قال: أجل.. والعصبة المؤمنة معه تشمل
صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة.
قلت: الصحابة ماتوا.
قال: من اصطلح على تسميتهم كذلك
ماتوا.. ولكن من صاحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرواحهم لا تخلو منهم
الأرض.. ولو خلت منهم الأرض لأذن الله للقيامة أن تقوم.
قلت: فما نعمة التطهير؟
قال: الله تعالى برحمته ولطفه يحب
عبادة المتطهرين[67]، فلذلك يهيء لهم من أسباب الطهارة ما يغسل به الأدران عنهم.
قلت: لقد قال تعالى في المطر الذي أنزله يوم بدر:) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ
رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ
الْأَقْدَامَ((لأنفال:11)، وقال في الصدقات:) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ
بِهَا ((التوبة: من الآية103)، وقال في المحسنين:) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا
وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ((الزمر:35)
قال: أجل.. فالله تعالى ينزل على
عباده من أسباب الطهارة ما يجعلهم أهلا لكل فضيلة.
قلت: والبلاء من هذه الأسباب؟
قال: أجل.. ألم تسمع قوله r:( ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه
حتى الشوكة يشاكها)[68]
وعندما نزل قوله تعالى:) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا
نَصِيراً((النساء:123) بلغت من المسلمين مبلغا شديدا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به
المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها)[69]
ويروى في تأثير هذه الآية على
المسلمين عن أبي بكر الصديق t أنه قال: كنت
عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت هذه الآية: ) مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً
((النساء:123)، فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:( يا ابا بكر ألا
أقرئك آية أنزلت عليّ)، قلت: بلى يا رسول اللّه قال: فأقرأنيها فلا أعلم أني قد
وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها، فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:(
مالك يا أبا بكر؟)، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، وأينا لم يعلم السوء، وإنا
لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:( أما أنت يا أبا
بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا اللّه ليس لكم ذنوب،
وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة)[70]
والنصوص الكثيرة تنطق بهذا المعنى،
فعندما دخل عبد الله بن مسعود t على النبي r
في مرضه وجده وهو يوعك وعكا شديدا، فقال: إنك لتوعك وعكا شديدا، إن ذاك بأن لك
أجرين قال:( أجل ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه كما تحات ورق
الشجر)[71]
ولذلك يتخلص المؤمن في مرضه ـ بقدر
سعة صبره ورضاه ـ من كل الذنوب التي رانت على قلبه، قال r:( إنما مثل المريض إذا برأ
وصح كالبردة تقع من السماء في صفائها ولونها)[72]
ويخبر ابن عباس t
قال: شكا نبى من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ إلى ربه فقال:( يا رب، العبد
المؤمن يطيعك ويجتنب معاصيك تزوى عنه الدنيا وتعرض له البلاء ويكون الكافر لا
يطيعك ويجترىء عليك وعلى معاصيك تزوى عنه البلاء وتبسط له الدنيا فأوحى الله تعالى
إليه إن العباد والبلاء لي وكل يسبح بحمدى فيكون المؤمن عليه من الذنوب فأزوى عنه
الدنيا وأعرض له البلاء فيكون كفارة لذنوبه حتى يلقانى فأجز به بحسناته ويكون
الكافر له الحسنات فأبسط له فى الرزق وأزوى عنه البلاء فأجزيه بحسناته فى الدنيا
حتى يلقانى فأجزيه بسيئاته)
***
قلت: ألهذا إذن وردت النصوص بالنهي عن سب المرض،
فقد دخل r على أم السائب، فقال:( ما لك يا أم السائب تزفزفين؟) قالت:(
الحمى، لا بارك الله فيها)، فقال:( لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما
يذهب الكير خبث الحديد[73])[74]
قال: أجل.. فهو رحمة من رحمات الله..
ولا ينبغي أن يسب عاقل رحمة الله.
قلت: ألهذا ـ أيضا ـ ورد في النصوص
كراهية العافية الدائمة، فقد روي أن رجلا جاءه الموت في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رجل:( هنيئا له مات ولم يبتل بمرض)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( ويحك وما يدريك لو أن الله ابتلاه
بمرض يكفر به عنه من سيئاته)
وروي عن الربيع بن عميلة قال: كنا مع
عمار بن ياسر، وعنده أعرابي، فذكروا المرض، فقال الأعرابي: ما مرضت قط، فقال
عمار:( لست منا، إن المسلم يبتلى بالبلاء، فيكون كفارة خطاياه، فتتحات كما تتحات
ورق الشجر، وإن الكافر يبتلى فيكون مثله كمثل البعير عقل فلا يدري لم عقل؛ ويطلق،
فلا يدري لم أطلق)[75]
قال: ليس ذلك على إطلاقه.. فالله
أعلم أين يضع عافيته وبلاءه، والمؤمن لا يختار مع الله.. ولكنه إن ابتلي ببلاء
شكر.
قلت: أيشكر أم يصبر؟
قال: النعم تشكر.. وقد عرفت أن
البلاء نعمة.
قلت: ولكنه ورد بالأمر بالصبر معه.
قال: الصبر هو الثبات في وجهه..
والشكر هو النظر إلى المحاسن التي يختزنها البلاء.. والصبر هو مقام الغافلين..
والشكر هو مقام العارفين.
قلت: ألهذا كان r
يبشر المرضى، فقد عاد r رجلا من وعك كان به فقال:( أبشر، فإن الله يقول:
هي ناري أسلطها على عبدي المذنب لتكون حظه من النار)[76]
وعاد r أم العلاء، وهي مريضة فقال:( أبشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم
يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة)[77]
قال: أجل.. ليخبرهم أن ما نزل بهم نعمة
تستحق الشكر لا الأنين.
قلت: والمعاندون المعارضون.. كيف
نبشرهم؟
قال: بما يبشر به العارفون.
قلت: فإن أعرضوا؟
قال: تعرض عنهم.. فقد روي أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على
أعرابي يعوده وهو محموم، فقال:( كفارة وطهور)، فقال الأعرابي:( بل حمى تفور على
شيخ كبير تزيره القبور)، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتركه[78].
قلت: لقد ذكر ابن القيم قول الذي سب
الحمى ومعارضته له، فقال:( ذكرت مرة وأنا محموم قول بعض الشعراء يسبها:
زارت مكفرة الذنوب وودعت |
تبا لها من
زائر ومودع |
قالت وقد عزمت على ترحالها |
ماذا تريد
فقلت أن لا ترجعي |
فقلت: تبا له إذ سب ما نهى رسول الله
r عن سبه، ولو قال:
زارت
مكفرة الذنوب لصبها |
أهلا بها من زائر ومودع |
قالت
وقد عزمت على ترحالها |
ماذا تريد فقلت: أن لا تقلعي |
لكان أولى به ولأقلعت عنه فأقلعت عني
سريعا)[79]
قال: ألا ترى ما يفعل الإيمان في
أصحابه؟
قلت: فقد انقلبت الموازين بهذه
الرؤى، فأصبح البلاء الذي ينفر الناس منه محبوبا عند الصالحين، وقد قال أبو
الدرداء ـ رضي الله عنه ـ:( أحب الموت
اشتياقا إلى ربي عز وجل، وأحب الفقر تواضعا لربي عز وجل، وأحب المرض تكفيرا
لخطيئتي)
ودخل إبراهيم بن المولد على إبراهيم
المقرين وقد رفسته بغلته، فكسرت رجله، فقال له، وهو في تلك الحال:( لولا مصائب
الدنيا قدمنا على الله مفاليس)
وأخبر الحسن عن السلف الصالح y
أنهم كانوا يرتجون الحمى ليلة كفارة لما نقص من الذنوب.
***
قلت: فما سر كون البلاء مطهرا من
الذنوب؟
قال: هو ما يحدثه في القلب من ترفع عن الدنيا، وعدم
تعلق بها، ونوع من الزهد فيها، فحب الدنيا رأس كل خطيئة.. ألم تسمع ببصيرتك ما
يقول الغزالي.. فهو من أطباء هذا المستشفى وكل مستشفى.
أصخت ببصيرتي، فإذا بي أسمعه، وهو
يقول: رأس أسباب النجاة التجافى بالقلب عن دار الغرور، ومواتاة النعم على وفق
المراد من غير امتزاج ببلاء ومصيبة تورث طمأنينة القلب إلى الدنيا وأسبابها، وأنسه
بها حتى تصير كالجنة فى حقه، فيعظم بلاؤه عند الموت بسبب مفارقته، وإذا كثرت عليه
المصائب انزعج قلبه عن الدنيا، ولم يسكن إليها، ولم يأنس بها وصارت سجنا عليه[80]، وكانت نجاته منها غاية اللذة كالخلاص من السجن.
قلت: البلاء نعمة من هذا الوجه يجب
الفرح بها.. ولكن الألم مع ذلك موجود.
قال: هو ضرورى، وهو يضاهى فرحك عند
الحاجة إلى الحجامة بمن يتولى حجامتك مجانا، أو يسقيك دواء نافعا بشعا مجانا، فإنك
تتألم، وتفرح، فتصبر على الألم وتشكره على سبب الفرح، فكل بلاء فى الأمور الدنيوية
مثاله الدواء الذى يؤلم فى الحال وينفع فى المآل.
قلت: هذا مثال رائع.. وهو يجعل
المعنى قريبا إلى الخيال كقرب الحس.
قال: وعكس ذلك من دخل دار ملك للنظر
فيها، وعلم أنه يخرج منها لا محالة، فرأى وجها حسنا لا يخرج معه من الدار..فإن ذلك
وبال عليه وبلاء..
قلت: لم.. فقد رأى حسنا.
قال: لأنه يورثه الأنس بمنزل لا
يمكنه المقام فيه، ولو كان عليه فى المقام خطر من أن يطلع عليه الملك فيعذبه،
فأصابه ما يكره حتى نفره عن المقام كان ذلك نعمة عليه.
وهكذا الدنيا، فهي ( منزل وقد دخلها
الناس من باب الرحم، وهم خارجون عنها من باب اللحد، فكل ما يحقق أنسهم بالمنزل فهو
بلاء، وكل ما يزعج قلوبهم عنها ويقطع أنسهم بها فهو نعمة، فمن عرف هذا تصور منه أن
يشكر على البلايا ومن لم يعرف هذه النعم فى البلاء لم يتصور منه الشكر لأن الشكر
يتبع معرفة النعمة بالضرورة ومن لا يؤمن بأن ثواب المصيبة أكبر من المصيبة لم
يتصور منه الشكر على المصيبة)[81]
قلت: فما نعمة المعاينة؟
قال: هي نعمة رؤية الله لموقف عبده، ومعاينته لصبره ورضاه.
قلت:
الله يرى الكل، ويعاين الكل، فإنه ) لا يَخْفَى
عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ((آل عمران: من
الآية5)، فما وجه الاختصاص في هذه النعمة؟
قال:
الله يرى الكل.. ولكن لا يشعر برؤيته إلا خواص الخواص.
قلت:
من هم؟
قال:
الذين رفع الله عن أعينهم الغشاوة، وعن قلوبهم الحجب.
قلت:
فما يفيدهم استشعار رؤية الله لهم؟
قال:
الأنس الذي يقضي على بلائهم.
قلت:
هم يأنسون بالله دائما.. فما علاقة ذلك بالألم والبلاء؟
قال:
ألم يبتلهم الله لينظر كيف يعملون؟
قلت:
بلى، فقد قال تعالى:) وَقُلِ
اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ((التوبة:105)
قال:
أليس الثبات في وجه البلاء بالأنس بالله عملا من الأعمال الصالحة؟
قلت:
بلى.. بل هو من أعظم الأعمال الصالحة، ولذلك ينزل الله البلاء على عبده بحسب درجة
إيمانه.
قال:
فإذا شعرت بأن الله الذي ابتلاك ينظر إليك
ألا تتقن عملك؟
قلت:
تقصد إتقان موقفي مع البلاء.
قال:
أجل.
قلت:
نعم، فشعوري برؤية الله لي لا يزيدني أنسا فقط، بل أشعر بشعور لست أدري مدى صحته.
قال:
وما تشعر؟
قلت:
ممارسو الرياضات عندنا يستقدمون مشجعيهم، فلذلك كلما كثر مشجعوهم كلما زاد ذلك من
حماستهم، فشعوري برؤية الله يعطيني نوعا من هذه القوة.
قال:
هذا صحيح.. ولو أن الله أعظم من كل المتفرجين..
قلت:
أجل، فلله المثل الأعلى.
قال:
لقد دلت النصوص هذا المعنى، فالله تعالى يقول لنوح
u وهو يواجه أعظم المصائب والضغوط من قومه حين صنعه للفلك:) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا
وَوَحْيِنَا ((هود: من الآية37)
قلت: لا شك أن هذه الكلمة كان لها
أثرا خطيرا في نفس نوح u.
قال: أجل.. وقد قيل مثلها لرسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، فقد قال الله تعالى له، وهو في مواقف لا تقل عن موقف نوح u:) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ((الطور: من الآية48)
قلت:
لقد ذكرتني بسيّد الشهداء الحسين بن علي t، فقد قال بعد أن
تفاقم الخطب أمامه في كربلاء، واستشهد أصحابه وأهل بيته y: ( هون علي ما
نَزَلَ بِي أَنهُ بِعَيْنِ اللهِ)
قال:
ولهذا اعتبر - صلى الله عليه وسلم - الإحسان الذي هو قمة الأعمال الصالحة، أو أداء
الأعمال بأحسن الكيفيات متعلقا بالشعور برؤية الله سواء كان رؤية معاينة أو رؤية
مراقبة.
قلت:
ولكن هذه النعمة ـ يا معلم ـ مختصة بالمحسنين، وهذا المستشفى يداوي عموم الناس،
فكيف يعطى لهم مثل هذا الدواء الذي قد لا يستسيغونه؟
قال:
أطباؤكم يعطون مرضاكم أدوية كثيرة لا تستسيغها أجسامهم، ولا تأنس لها، بل هي تثير
فيها عللا كثيرة، فهل منعهم ذلك من استعمالها؟
قلت:
لا.. فشعورهم بخطر الداء الذي يقفون في وجهه يدعوهم لممارسة كل الأساليب.
قال:
فكذلك الأولياء يعالجون الخلق بأدوية كثيرة، منها ما يفهمونه، ومنها ما لا
يفهمونه، فما استساغوه انتفعوا به، وما لم يستسيغوه أعطاهم نوعا من الشوق لاستساغته.
قلت:
فما ينفع الشوق؟
قال:
من لم يحترق جوفه بلهيب الأشواق، لم يستسغ تلك الأذواق.
قلت:
كيف؟
قال:
لا يعرف لذة الماء إلا من أحرق العطش جوفه.
قلت:
فهمت.
قال:
ما فهمت.
قلت:
سر الإغراب والغموض الذي يضع هالة جميلة على كلام الحكماء من أهل الله.
قال:
هو يضع تلك الهالة لتثير الأشواق.. فإذا ثارت الأشواق كان الوصول بقدرها.
قلت: فما نعمة الثواب؟
قال: حينما تزاح الغشاوة التي تكسو العيون
في الدنيا، فتفسد بسببها المقاييس يدرك الخلق الكنوز التي كان يخفيها البلاء،
فيودون ما أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - بقوله:( يود أهل العافية يوم القيامة
حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض)[82]
قلت: هذا حديث عظيم.
قال: فبشر به.
قلت: كيف؟
قال: علقه على أبواب المستشفيات..
واكتبه على كل وصفة مريض.. واذكره لكل مبتلى.
قلت: لا أعرف أن مثل هذا من الأعمال
الخيرية التي يؤجر عليها.
قال: هذا من أعمال الرسل وخلفاء
الرسل، فهم الذين أرسلوا بالبشارة وللبشارة.. أليس دين الله أعظم بشارة؟.. ألم
يرسل المسيح u لأجل هدف واحد هو البشارة؟
قلت: أجل، بل إن لفظ ( الإنجيل)
نفسها تعني البشارة.
قال: ألم يأمر النبي - صلى الله عليه
وسلم - بكل ما يملأ المبتلى بالبشر والأنس؟
قلت: بلى.
قال: فهذا من ذاك.
قلت: فما الثواب المعد لأهل البلاء
غير ما ذكرنا من النعم؟
قال: أول ثواب عدم حسابهم يوم
القيامة.
قلت: هذه نعمة عظيمة لا يمكن تصورها،
فإن أعظم ما يخافه كل مؤمن هو الحساب.. أن تنشر صحفه، فيعاين جرائمه.. أو يفضح بين
الخلائق.. إنه موقف صعب جدا.. فأحدنا لا يطيق الوقوف في محكمة الدنيا ليحاسب، فكيف
يطيق الوقوف في محكمة الآخرة؟
قال: ومع ذلك، فقد وردت البشارات لأهل
البلاء الناجحين بهذا النوع من الثواب، فقد روي أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بها لمم فقالت:( يا رسول الله، ادع
الله أن يشفيني) قال:( إن شئت دعوت الله أن يشفيك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك)،
قالت:( بل أصبر ولا حساب علي)[83]
وفي
حديث آخر، قال - صلى الله عليه وسلم -:( يؤتى بالشهيد يوم القيامة، فينصب للحساب،
ويؤتى بالمتصدق، فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر
لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبا، حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن
أجسادهم قرضت بالمقاريض، من حسن ثواب الله لهم)[84]
قلت: هذه بشارة عظيمة ترفع المبتلى
إلى درجات تفوق درجات الشهداء والمتصدقين.
قال: ليس ذلك على الله بعزيز، فإن من
المبتلين من يموت في اليوم مائة مرة، بينما الشهيد لا يموت إلا مرة واحدة[85].
قلت: أهذا احتقار للشهادة؟
قال: لولا عظمة الشهادة ما ذكرها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموقف.
قلت: فما سر هذا الجزاء؟
قال: ألم نعلم أن البلاء الذي يقع
على المؤمن المحتسب يطهره من ذنوبه.
قلت: عرفنا ذلك عند معاينة نعمة
التطهير.
قال: فلذلك إن عظم البلاء، وصبر عليه
المبتلى، لقي الله وليس عليه ذنب يحاسبه عليه.
قلت: لقد روي في هذا عن أنس بن مالك t
قال دخلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نعود زيد بن
أرقم t وهو يشتكي عينيه فقال له:( يا زيد، لو كان بصرك لما به كيف كنت
تصنع؟)، قال:( إذا أصبر وأحتسب)، قال:( إن كان بصرك لما به ثم صبرت واحتسبت لتلقين
الله عز وجل وليس لك ذنب)[86]
قال: ولكن هذه البشارة العظيمة لها
فئة محدودة.
قلت: وكيف عرفت ذلك.. هل اطلعت على
قوائم أهل الآخرة فترى من يعفى منهم من الحساب؟
قال: أنا أضعف من أطلع.. ولكن الله
أطلعنا.
قلت: أين؟
قال: ألم تقرأ ما ورد في الحديث عن
ابن عباس t قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( عُرِضَت عليَّ
الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط[87]، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رُفع لي
سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت
فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه
أمتك، ومهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)، فقال بعضهم: فلعلهم
الذين صحبوا رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -،
وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلِدوا في الإسلام فلم يُشركوا بالله شيئاً-وذكروا
أشياء- فخرج عليهم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فقال:( ما الذي تخوضون فيه؟) فأخبروه فقال:( هم
الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون) فقام عكاشة بن محصن
فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال:( أنت منهم) ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله
أن يجعلني منهم، فقال:( سبقك بها عكاشة)[88]
قلت: إذن هم سبعون ألفا.. هو عدد لا
بأس به.
قال: وقد ذكرهم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بأوصافهم ليتنافس في الوصول إلى درجاتهم.
قلت: أجل، فهم الذين لا يطلبون من
أحد أن يرقيهم أو يكويهم، فهم لا يسألون أحداً إلا الله، حتى في ساعات الضعف
والمرض.
قال: وأما الثواب الثاني الذي الذي
وردت به النصوص، فهو دار السعادة الأبدية.
قلت: الجنة !؟
قال: لقد أخبر - صلى الله عليه وسلم
- أن البلاء الذي يصاحبه الرضا والصبر يقود صاحبه إلى الجنة، ومما يروى في ذلك
قوله r:( إن الله قال: إذا
ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة، يريد عينيه)[89]
قلت: هذا ثواب عظيم.. فالجنة هي
الدار التي تهفو لها القلوب.
قال: ومن رحمة الله بعباده أن جعل
لها هذا الجزاء الذي لا يستدعي غير الثبات.
قلت: ولكن يبدو أن هذا الجزاء العظيم
لا يكون إلا في البلاء العظيم المستمر، ولأهل العزيمة في الصبر.
قال: هذا صحيح، وهو ما توحي به
النصوص، فقد روي عن عطاء بن أبي رباح قال، قال لي ابن عباس t: ألا أريك امرأة مِنْ أهل الجنة؟ فقلت: بلى. قال: هذه المرأة
السوداء، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع اللَّه تعالى لي، قال:( إن شئت صبرت ولك
الجنة، وإن شئت دعوت اللَّه تعالى أن يعافيك)، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع
اللَّه أن لا أتكشف، فدعا لها)[90]
وعن
أبي سنان قال: دفنت ابناً لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة (يعني الخولاني)
فأخرجني وقال لي: ألا أبشِّرك؟ قلت: بلى، قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه
وسلم -:( قال اللّه: يا ملك الموت قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال:
نعم، قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت
الحمد)[91]
قلت: فما الثواب الثالث؟
قال: رفع الدرجات.
قلت: وما رفع الدرجات؟
قال: ترقية العبد من محل في الجنة
إلى محل أعلى.. ألا تعرفون الترقيات؟
قلت: بلى.. نعرفها.. ونتنافس فيها.
قال: فقل لقومك:( تنافسوا في درجات
الجنة.. ودعوا عنكم الصراع على تلك الدرجات التي ينشغل بها الأطفال)
قلت: هم لا يسمعون مني.
قال: فأسمعهم قوله - صلى الله عليه
وسلم -:( إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده
أو في ماله أو في ولده، ثم صبره على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله
تعالى)[92]،
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:( ما من مسلم
يصاب بشيء في جسده فيصبر إلا رفعه الله به درجة، وحط عنه به خطيئة)[93]
قلت:
يبدو أن هذا الجزاء العظيم يرتبط كذلك بالبلاء العظيم.
قال:
أجل، فقد أخبر r أن الرجل يكون
له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها، وبأن عظم الجزاء مع
عظم البلاء[94].
قلت:
ألهذا أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن أكثر الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم
الأمثل، فالأمثل.
قال:
أجل، فعن سعد بن أبي وقاص t قال: قلت: يا رسول
الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال:( الانبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب
دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه
فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)[95]
قلت:
فالطامحون للدرجات العليا معرضون للبلاء إذن أكثر من غيرهم.
قال:
يروى في ذلك أن رجلا قال لموسى: يا موسى، سل الله لي حاجة يقضيها لي هو أعلم بها؛
ففعل موسى؛ فلما نزل إذ هو بالرجل قد مزق السبع لحمه وقتله؛ فقال موسى: ما بال هذا
يا رب؟ فقال الله تبارك وتعالى له:( يا موسى انه سألني درجة علمت أنه لم يبلغها
بعمله فأصبته بما ترى لأجعلها وسيلة له في نيل تلك الدرجة)، فكان أبو سليمان
الداراني إذا ذكر هذا الحديث يقول: سبحان من كان قادرا على أن ينيله تلك الدرجة
بلا بلوى، ولكنه يفعل ما يشاء.
قلت: فما الثواب الرابع؟
قال: هو ما نص عليه قوله تعالى:) وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ((البقرة:155
ـ 157)
قلت: فما في هذا من الثواب؟
قال: لقد أخبر تعالى عن صلاته ورحمته
بهؤلاء الصابرين، وهل هناك جزاء أعظم من صلاة الله على عبده، ولذلك قال عمر بن الخطاب t في هذه
الآية:( نعم العِدْلان ونعمت العِلاوة ) أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ( هذان العدلان، ) وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( فهذه العلاوة[96])
ولذلك روي عن الحسن البصري t،
أنه قال: عجباً لمكروب غفل عن خمس، وقد عرف ما جعل اللّه لمن قالهن) ومن هذه
الخمس:( قوله تعالى: )
ولنبلونَّكُم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ((البقرة:155
ـ 157)
قلت: فهل صلاة الله على عبده جزاء؟
قال: جزاء فوق الأجزية.. بل لا
تعدلها أي جائزة أخرى.
قلت: فما تعني؟
قال: هي تقريب الله لعبده، والقرب لا
يساويه جزاء ولا يطاوله ثواب، فهو إخراج من الظلمات إلى النور، ومن الحجاب إلى
المشاهدة، ألم تسمع قوله تعالى:) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً((الأحزاب:43)؟
قلت: بلى، فما يعني هذا؟
قال: البلاء نافذة عظيمة من نوافذ
التعرف على الله والتقرب منه، والتعرف على الله هو النور الذي يرفع كل الظلمات،
والحق الذي يقتل كل باطل.
قلت: لقد ذكرتني بحكمة لابن عطاء
الله يقول فيها:( إذا فتحَ لكَ وِجْهةً من
التَّعرُّفِ فلا تبالِ معها أن قلَّ عملُكَ ؛ فإنه ما فَتَحَها لك إلا وهو يريد أن
يتعرَّفَ إليكَ.. ألم تعلم أن التَّعَرُّفَ هو مُورِدُهُ عليك، والأعمال أنت
مهديها إليه، وأين ما تُهديه إليه مما هو مُورِدُهُ عليكَ)
قلت: يا معلم.. كل ما ذكرته، وما
وردت به النصوص ثواب عظيم، ولكنه مع ذلك قد يحال بين المريض وبين كثير من أعمال
البر، وتلك خسارة عظيمة.
قال: لا.. فالله الشكور الحليم لا
يضيع عمل عبده إن قعد به الداء عنه، ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:( إن
العبد إذا مرض أوحى الله تعالى إلى ملائكته: أنا قيدت عبدي بقيد من قيودي، فإن
أقبضه اغفر له، وإن أعافه فحينئذ يقعد لا ذنب له)[97].
وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه
وسلم -:( ما من مسلم يصاب في جسده إلا أمر
الله تعالى الحفظة: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة من الخير ما كان يعمل، ما دام
محبوسا في وثاقي)[98]
وفي الأثر الإلهي:( قال الله تعالى:
إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني وصبر على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه
ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب للحفظة: إني أنا قيدت عبدي هذا
وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر وهو صحيح)[99]
بل
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن مجرد الاسترجاع عند تذكر المصيبة له
ثوابه عند الله، قال - صلى الله عليه وسلم -:( ما من مسلم ولا مسلمة يُصاب بمصيبة
فيذكرها، وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد اللّه له عند ذلك فأعطاه
مثل أجرها يوم أصيب)[100]
([1]) وقد أثبت العلم الحديث
هذا، ففي دراسة موثقة للدكتورة نها أبو كريشة تحت عنوان « إشارة
قرآنية إلى ظاهرة شد الانتباه في تقليل الشعور بالألم » انطلقت فيها من الآية التي
ذكرناها، ذكرت فيها أنه تم إجراء تجربة استخدام العلاج بشد الانتباه برؤية مناظر
خلابة من الطبيعة وسماع شريط يحتوي على أصوات رائعة من الطبيعة في التخفيف من
الآلام أثناء عملية منظار الشعب الهوائية وذلك بالإضافة للعلاج المعتاد. وقورنت هذه المجموعة من المرضى بمجموعة
أخرى ضابطة لم تتلق العلاج الإضافي بجذب
الانتباه (تغيير التركيز الإدراكي).
وخلص هذا البحث الذي
تم عمله في المستشفى التعليمي (جون هوبكينز) في بالتيمور أن العلاج بشد الانتباه
مع العلاج التقليدي أدى إلى تقليص الشعور بالألم بصورة ذات دلالة إحصائية، وأوصى
البحث بأن يقوم الأطباء باستخدام الإجراءات الطبيعية بالإضافة إلى المسكنات المعتادة.
كما نشر موقع ٍٍ[BBC ٍِِ] على شبكة الإنترنت
هذا البحث تحت عنوان [العودة إلى الطبيعة لتخفيف الألم ]وقد ذيل هذا بقول
الطبيب جيل هانكوك:« نحن نقوم بتعليم
مرضانا الاسترخاء باستخدام المشاهد المناظر الخلابة والموسيقى الرائعة و هذا جزء
أساسي في عملنا حيث أنه ثبت أن المناظر الخلابة تؤدي إلى إزالة التوتر النفسي و
البدني اللذين يسببان الألم »
وحول تساؤل عن كيفية
عمل شد الانتباه على التخفيف من الإحساس بالألم؟
أجابت أنه باستخدام الإشعاعات
الوظيفية للمخ تلك التي تظهر الارتواء الدماغي والتمثيل الغذائي للخلايا العصبية
ثبت أنه أثناء استخدام جذب الانتباه يحدث انخفاض في مستوى نشاط أماكن معينة في
المخ، تلك الأماكن التي يتم فيها استقبال الإحساس بالألم مثل منطقة المهاد،القشرة
الحسية والتلفيف الحزامي.
([8]) والعلم اليوم يقر بهذا بدرجة ما، ومن أمثلة ذلك الإقرار أن دراسة
تجريبية كشفت في مراحلها الأولى أن مرضى القلب الذين يملكون إيمانا دينياً قوياً،
لديهم قدرة أكبر على التماثل للشفاء و إكمال الفترة التأهيلية التي تعقب الإصابة.
و يحاول الباحثون في
مركز غيسرنغ الطبي و جامعة باكنيل توسيع
الدراسة لتحديد علاقة الإيمان الديني و مدى تأثيرها الإيجابي على المدى البعيد على
صحة القلب والأوعية الدموية.
و يأمل تيموتي ماكونيل
رئيس وحدة إعادة تأهيل مرضى القلب في مركز غيسرنغر، و هو مستشفى مركز ضخم لأمراض
القلب يضم 437 مريضاً في تأمين موافقة مائة من مرضى القلب لإجراء دراسة موسعة في
إطار زمني مدته خمسة أعوام.و في الدراسة التجريبية استعان ماكونيل ب21 مريضا بينهم من أصيب مؤخراً بأول نوبة قلبية أو أجريت
لهم عملية لتوسيع الشرايين.
وتم إجراء بحث لتحديد
مدى إيمان و معتقدات المشاركين، قبل البدء في البرنامج التأهيلي الذي استغرق 12
أسبوعاً.
وقال بروفسور كريس
بوياتزيس، الأخصائي النفسي من جامعة " باكنيل "عن الدراسة التجريبية لقد
اكتشفنا رابطاً مثيراً بين الإيمان الديني و فرص التعافي فكلما زاد إيمان المريض بالدين زادت ثقته في
مقدرته الشخصية على إكمال المهام و العمل
و علق مايك ماكولاف أستاذ مساعد لعلم النفس بجامعة ميامي، بالقول " إن
الكشف ليس بالمفاجأة فالدراسات التي أجراها للكشف عن مدى صحة البشر أثبتت العديد
منها نفس النتائج »
([15]) قال المنذري:« ذكره
رزين في جامعه، ولم أره في شيء من الأصول، وذكره أبو القاسم الأصبهاني في كتابه
بغير إسناد » الترغيب والترهيب: 2/294.
([16]) أما كامل حديثها فقد
ذكرناه في رسالة « بحار الحب »، وقد
ذكرنا في بدايتها أنه لا يهمنا في هذه الحكايات التحقيق في سندها، فليست هي بالعلم
الذي نبني عليه عقيدة، أو ننهج من خلاله سلوكا.
أما ما قد يبديه البعض
من الاستغراب وتوهم التلفيق فيها، فلا نراه كذلك، فلأولياء الله وأهله من الشؤون
ما لا يمكن التعبير عنه.
([18]) التفسير الكبير، والفخر الرازي يخالف ـ بهذا ـ الأسلوب الجاف
الذي يتعامل به المتكلمون عادة مع مثل هذه الأمور، وقد عقب على قوله هذا بقوله:« وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهري،
ولكن كل ميسر لما خلق له »، وقال في موضع آخر:« وأما قوله ':) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ)(المائدة: من الآية119) فهو إشارة إلى التعظيم. هذا ظاهر قول
المتكلمين، وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى، فتحت قوله:) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ( أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها »
وقد بين الغزالي علة
إنكار بعض المتكلمين للرضى بقوله:« اعلم أنّ
من قال: ليس فيما يخالف الهوى وأنواع البلاء إلا الصبر فأما الرضا فلا يتصوّر؟
فإنما أتى من ناحية إنكار المحبة، فأما إذا ثبت تصوّر الحب لله تعالى واستغراق
الهم به فلا يخفى أنّ الحب يورث الرضا بأفعال الحبـيب »، الإحياء: 4/347.
([20]) رواه أبو نعيم في
الحلية، والبيهقي، وفيه محمد بن مروان السدي ضعيف، وفيه أيضاً عطية العوفي أورده
الذهبي في الضعفاء والمتروكين وقال: ضعفوه وموسى بن بلال قال الأزدري: ساقط. انظر:
فيض القدير: 2/539.
([26]) اقتبسنا أكثر هذه
المعاني من « مدارج السالكين »، وحكم ابن عطاء الله
والإحياء وكليات رسائل النور، وغيرها من المراجع، وقد لخصناها بهذا الأسلوب لتسهل
الاستفادة منها.
([29]) ربما ترد شبهة هنا، وهي انه قد يظن أن للشيطان سلطة على عباد الله،
وأن له القدرة على إذيتهم وربما يستدل لهذا بقوله ' على لسان أيوب u:) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي
مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ((صّ:41)،
وبما روي أن إبليس سأل ربه، فقال هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله:
نعم عبدي أيوب، فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا ولا يلتفت إليه، فقال: يا
رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله، وكان يجيئه ويقول له: هلك من مالك كذا وكذا،
فيقول الله أعطى والله أخذ، ثم يحمد الله، فقال: يا رب إني أيوب لا يبالي بماله
فسلطني على ولده، فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية، فجاءه وأخبره به فلم
يلتفت إليه، فقال يا رب لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده، فأذن فيه، فنفخ في
جلد أيوب، وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه، فمكث في ذلك البلاء سنين، حتى صار
بحيث استقذره أهل بلده، فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد، فجاء الشيطان إلى
امرأته، وقال لو أن زوجك استعان بي لخلصته من هذا البلاء، فذكرت المرأة ذلك
لزوجها، فحلف بالله لئن عافاه الله ليجلدنها مائة جلدة، وعند هذه الواقعة قال:) أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (
وهذا خطأ عظيم،
فالشيطان لا قدرة له على إيقاع الناس في الأمراض والآلام، بل هو أضعف من ذلك،
والله أرحم بعباده من أن يسلمهم للشيطان، وقد قال ' في بيان قدرات الشيطان وعلى لسانه:) وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا
أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)(ابراهيم: من الآية22)، ومما استدل به الفخر الرازي
على رد تلك الشبهة:
1. أنا لو جوزنا حصول
الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان، فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل
الشيطان، ولعل كل ما حصل عندنا من الخيرات والسعادات، فقد حصل بفعل الشيطان،
وحينئذ لا يكون لنا سبيل إلى أن نعرف أن معطي الحياة والموت والصحة والسقم هو الله
تعالى.
2. أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء
والأولياء، ولم لا يخرب دورهم، ولم لا يقتل أولادكم.
وقد أجاب على الاعتراض
القائل بأنه « لم لا يجوز أن يقال إن الفاعل لهذه الأحوال هو
الله تعالى لكن على وفق التماس الشيطان؟ » بقوله:« إذا
كان لا بد من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى، فأي فائدة في
جعل الشيطان واسطة في ذلك؟ »
أما المراد من الإخبار
بمس الشيطان، فإن القول الصحيح في ذلك هو أن المراد منه هو إلقاء الوساوس الفاسدة
والخواطر الباطنة، وكل ذلك كان يضعه في
أنواع العذاب والعناء، وقد اختلف القائلون بهذا في تلك الوساوس كيف كانت وذكروا
فيه وجوها، منها:
1. أن علته كانت شديدة
الألم، ثم طالت مدة تلك العلة، والشيطان كان يذكره النعم التي كانت والآفات التي
حصلت، وكان يحتال في دفع تلك الوساوس، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع
إلى الله، وقال: ) أنى مسنى الشيطـان بنصب وعذاب (
لأنه كلما كانت تلك الخواطر أكثر كان ألم قلبه منها أشد.
2. أنها لما طالت مدة المرض جاءه الشيطان وكان يقنطه من ربه ويزين
له أن يجزع فخاف من تأكد خاطر القنوط في قلبه فتضرع إلى الله تعالى وقال: ) أنى مسنى الشيطـان (
3. أن الشيطان لما قال لامرأته لو أطاعني زوجك أزلت عنه هذه الآفات
فذكرت المرأة له ذلك، فغلب على ظنه أن الشيطان طمع في دينه فشق ذلك عليه فتضرع إلى
الله تعالى وقال ذلك.
وكل هذا يمكن قبوله،
ووراء هذا أقوال أخرى يجب تنزيه الأنبياء عنها، ولا تصح روايتها.
([34]) هذه التعبيرات وأشباهها
في القرآن الكريم لا تعني عدم علم الله بالشيء قبل حصوله، وإنما تعني تحققه
الواقعي، ويشبه هذا ـ كما يذكر الشيرازي ـ علم المهندس بكل تفاصيل البناء عند وضعه
التصميم. ثم يتحول التصميم الى بـنـاء عـملي. والمهندس يقول حين ينفذ تصميمه على
الارض: اريد ان ارى عمليا ما كان في علمي نـظـريـا.
وقد فصلنا الحديث عن
هذه الشبهة في رسالة:« أسرار الأقدار »
([35]) وهذا كما ينص عليه قوله ':) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ
الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي
جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ((لأنفال:37)
([37]) والمحص: في اللغة
التنقية، والمحق في اللغة النقصان، وقال المفضل: هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى
منه شيء، ومنه قوله ':) يمحق الله الربا((البقرة: 276) أي يستأصله.
([43]) ومن الأقوال في تفسير
الآية: أن النذير هو القرآن، وقيل الرسول؛ وقال ابن عباس وعكرمة وسفيان ووكيع
والحسين بن الفضل والفراء والطبري: هو الشيب، وقيل: النذير الحمى، وقيل: موت الأهل
والأقارب، وقيل: كمال العقل.
وكل هذه الأقوال
صحيحة، ولا تعارض بينها، فالشيب نذير، لأنه يأتي في سن الاكتهال، قال الشاعر:
رأيت
الشيب من نذر المنايا لصاحبه وحسبك
من نذير
وقال آخر:
فقلت
لها المشيب نذير عمري ولست مسودا
وجه النذير
وأما موت الأهل
والأقارب والأصحاب والإخوان فإنذار بالرحيل في كل وقت وأوان، قال الشاعر:
وأراك
تحملهم ولست تردهم فكأنني بك قد
حملت فلم ترد
وقال آخر:
الموت
في كل حين ينشر الكفنا ونحن في غفلة
عما يراد بنا
وأما كمال العقل فبه
تعرف حقائق الأمور، فالعاقل يعمل لآخرته ويرغب فيما عند ربه؛ فهو نذير.
وأما محمد r فبعثه الله بشيرا ونذيرا إلى عباده قطعا لحججهم؛ قال الله ':) لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُلِ ((النساء: من الآية165انظر: القرطبي: 14/354.
([45]) تبين علميا أنه عند
الإصابة بالحمى ذات الحرارة الشديدة التي قد تصل إلى 41 درجة مئوية والتي وصفها -
صلى الله عليه وسلم - بأنها من فيح جهنم وقد يؤدي ذلك إلى هياج شديد ثم هبوط عام
وغيبوبة تكون سببا في الوفاة، انظر: الإعجاز العلمي في الإسلام والسنة النبوية
" لمحمد كامل عبد الصمد.
([51]) التفسير الكبير، وقد ذكر
وجوها أخرى لا تصح منها:
1.أن الله تعالى لو سوى في الرزق بين الكل لامتنع كون البعض خادما
للبعض ولو صار الأمر كذلك لخرب العالم وتعطلت المصالح.
2.أن هذه الآية مختصة
بالعرب فإنه كلما اتسع رزقهم ووجدوا من المطر ما يرويهم ومن الكلأ والعشب ما
يشبعهم أقدموا على النهب والغارة.
([57]) وهذا ـ طبعا ـ ليس على
عمومه، بل له محله الخاص، وسنرى المعنى الصحيح لهذا الخبر في رسالة «
كنوز الفقراء »
([63]) إشاة إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -:« أنا مدينة العلم
وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب » رواه ابن عدي والطبراني في الكبير،
والحاكم.
([64]) وقد يتفق الصبر السكينة
في كونهما هبة ربانية، كما في قوله ':) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا
أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ((البقرة:250)
([65]) قال ':) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(
(التوبة:26) وقال ':) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ
إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيماً حَكِيماً(
(الفتح:4)
وقال
':) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً( (الفتح:18)
وقال
':) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيماً((الفتح:26)
ولهذا الآيات دور كبير
في دفع الأحزان والهموم، وينقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية بأنه كان إذا اشتدت
عليه الأمور قرأ آيات السكينة، قال:«
وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح
شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة، قال:
فلما اشتد علي الأمر قلت لأقاربي ومن حولي
اقرأوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع
عني ذلك الحال وجلست وما بي قلبة »
قال ابن القيم معقبا
على هذا:« وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه
فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه وطمأنينته» انظر: مدارج السالكين: 2/503.
([66]) ما عدا ما ورد في سورة
البقرة في قوله ':) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ((البقرة:
من الآية248) فإن السكينة هنا ارتبطت بالتابوت، قال ابن عباس t:« كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة»
([73]) ثبت علميا أنه عند الإصابة
بالحمى تزيد نسبة مادة( الأنترفيرون) لدرجة كبيرة كما ثبت أن هذه المادة التي
تفرزها خلايا الدم البيضاء تستطيع القضاء على الفيروسات التي هاجمت الجسم وتكون
أكثر قدرة على تكوين الأجسام المضادة الواقية... فضلا عن ذلك فقد ثبت أن مادة (
الأنترفيرون) التي تفرز بغزارة أثناء الإصابة بالحمى لا تخلص الجسم من الفيروسات
والبكتريا فحسب ولكنها تزيد مقاومة الجسم ضد الأمراض وقدرتها على القضاء على
الخلايا السرطانية منذ بدء تكوينها وبالتالي حماية الجسم من ظهور أي خلايا سرطانية
يمكن أن تؤدى إلى إصابة الجسم بمرض السرطان ولذا قال بعض الأطباء إن كثيرا من
الأمراض نستبشر فيها بالحمى كما يستبشر المريض بالعافية فتكون الحمى فيها أنفع من
شرب الدواء بكثير مثل مرض الرماتيزم المفصلى الذي تتصلب فيه المفاصل وتصبح غير
قادرة على التحرك ولذلك من ضمن طرق العلاج الطبي في مثل هذه الحالات الحمى
الصناعية أي إيجاد حالة حمى في المريض يحقنه بمواد معينة ومن هنا ندرك حكمة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - في رفض سب الحمى بل والإشادة بها بوصفها تنقى الذنوب
كما تنقى النار خبث الحديد كما أشار هذا الحديث الشريف، انظر: الإعجاز العلمي
في
الإسلام والسنة النبوية " لمحمد كامل عبد الصمد.
([80]) وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم -:« الدنيا سجن
المؤمن وجنة الكافر » رواه مسلم من حديث أبى هريرة.