المؤلف: نور الدين أبو
لحية |
العودة للكتاب: رقية الروح |
الناشر: دار الكتاب الحديث |
الفهرس
|
ثانيا ـ حصن الأمل
دخلنا الحصن الثاني من حصون الروح..
وقد كانت تفوح منه روائح عطرة تنشرح لها الصدور.. وتشع من جنباته أنوار تسر لها
العين، ويبتهج لها القلب.
وقد شد انتباهي في هذا الحصن وجود
مرضى فيه، وهو ما لم أره في القسم السابق، ولكنهم مرضى، لا كالمرضى.. يجلسون
مسترخين ـ كما نسترخي أمام شواطئ البحار ـ ولكن البحار التي كانوا ينظرون إليها،
والتي كان نسيمها يهب عليهم لم تكن كالبحار.. كان كل شيء ليس ككل شيء.
قلت: ما هذا القسم يا معلم؟
قال: هذا حصن الأمل.
قلت: فهل ينتظر هؤلاء المرضى دورهم
في العلاج؟.. إني لا أرى الضيق في وجوههم كما أراه في عيون المرضى الذين ينتظرون
في قاعات الانتظار عندنا.
قال: هؤلاء يتنعمون بانتظارهم.
قلت: يتنعمون؟!.. لم أعلم إلا أن
الانتظار ضيق للصدر، وقتل للوقت، فكيف يكون نعمة؟
قال: انتظاركم ضيق للصدر وقتل للوقت،
أما انتظار أهل السلام فهو عمل وعبادة وقرب.. وهو لذلك روح من روح الجنة، وعطر من
عطرها.
بينما أنا كذلك سمعت صوتا جميلا مادت
لجماله أجساد المرضى المسترخين، وكان ينشد:
إذا ضاق أمر فانتظر فرجا |
فأصعب الأمرأدناه من الفرج |
فلما سكت هب صوت آخر يردد بلحن عذب:
كن عن أمورك معرضا |
وكل الأمور إلى القضا |
فلربما اتسع المضيق: |
وربما ضاق الفضا |
ولرب أمر متعب |
لك في عواقبه رضا |
الله يفعل ما يشاء |
فلا تكن متعرضا |
الله عودك الجميل |
فقس على ما قد مضى |
فلما سكت هب صوت ثالث يردد بلحن عذب:
رب
أمر ضاقت النفس به |
جاءها
من قِبَل الله فرج |
لا
تكن في وجه روح آيسا |
ربما
قد فرجت تلك الرتج |
بينما
المرء كئيب دنف |
جاءه
الله بروح وفرج |
قلت: أهذا مجلس إنشاد.. أم مجلس
علاج؟
قال: في هذا القسم يعالج المرضى بكل المراهم..
كل ما يزيد في أملهم في الله، وفي تحقيق مرادهم يذكر هنا.
قلت: ولكن هؤلاء بجلوسهم هذا
واسترخائهم وقعودهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويضيعون ما أمر الله به أن
يؤدى، ألم يعرفوا أن وظيفة الإنسان في الحياة هي عبادة الله؟
قال: بلى.. وهم يعبدون الله في
استرخائهم، كما يعبدون الله بقيامهم.
قلت: لم أعلم أن هناك عبادة تسمى
الاسترخاء.
قال: ألم تقرأ قوله تعالى:) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ((آل عمران: من الآية191)
قلت: بلى.. فالله يثني على هؤلاء خير
ثناء.
قال: فإن العابد لله حقا من لا يغفل
عن عبادته في كل محل.. فالله لا يعبد فقط بالقيام.
قلت: نعم.. هو يعبد بالركوع والسجود.
قال: وبالاسترخاء والقعود والانتظار
كما ينتظر هؤلاء المرضى.. ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:( سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل، وأفضل
العبادة انتظار الفرج)[1]،
فقد اعتبر - صلى الله عليه وسلم - انتظار الفرج عبادة، وما الانتظار إلا جلوس لا
يختلف عن هذا الجلوس.
قلت: ولكن ما سر اعتبار هذا الانتظار
عبادة.. بل أفضل عبادة؟
قال: لأن القصد من العبادة هو خلاص
القلب من كل الشوائب، وقطعه لكل العلائق..
أيمكن للشخص أن يصلي، وهو يحادث صاحبه؟
قلت: لا.. إن الصلاة يبطلها هذا
الشغل وغيره.. فهي أفعال تتنافى مع روح الصلاة.
قال: فكذلك العبد إذا خلص قلبه لله
منتظرا فرجه.. فهو في ذلك الحال لا ينظر إلا لله.. ولا ينتظر إلا من الله.
قلت: عرفت كونه عبادة.. ولكن كيف
يكون أفضل العبادة؟
قال: لأنك في الصلاة قد تغفل عن
صلاتك.. قد لا تحدث صاحبك، ولكنك تحادث نفسك وتمازحها.. ولكن القلب المتعلق بالله
قلب عارف.. لا يغفل عن الله لحظة.. وأنت في الصلاة قد تشوب صلاتك بنوازع الشرك..
بينما في هذا الانتظار لا تحدثك نفسك بأي رياء أو مسمعة.. وأنت في الصلاة..
قلت: فهمت هذا يا معلم.. وقد عرفت سر
تفضل الله على عباده الصالحين بقطع العلائق عنهم.
قال: لقد ورد في بعض الكتب الإلهية:( لأقطعن أمل من أمل سواي وألبسه ثوب
المذلة بين الناس، أتقرع بالفقر باب غيري وبابي خير لك؟)
قلت:
هذا صحيح، فإن كل أمل في غير الله يأس، وكل رجاء في غيره طمع، وكل استعانة بغيره
خذلان.
قال:
ولهذا لم تجد خبرتكم الطبية العظيمة، ولا مستشفياتكم الضخمة، ولا جيوشكم الهائلة
من الأطباء في دحر جيش اليأس القاتل الذي يدفع أعدادا هائلة منكم إلى الانتحار.
قلت:
هذا صحيح.. ولكن ما عسى الأطباء أن يفعلوا.. لقد استعملوا كل قواهم العقلية.
قال:
فلم لا يبعثونهم إلى هذا المستشفى؟
ضحكت،
وقلت: ومن يسمع بهذا المستشفى.. إنني أقف فيه.. ولكن لا أعلم عنه شيئا.. ففي أي
مكان هو؟.. لعلي أفلح في إقناعهم بالإرشاد إليه.
قال:
هو في كل مكان..
قلت:
ولكنا لا نراه..
قال:
لأنكم لا تبصرون..
قلت:
نحن نبصر.. بل نزيد في قوة أبصارنا كل يوم بما نخترعه من ألوان العدسات المكبرة..
فنحن نرى المجرات كما نرى دقائق الميكروبات.
قال:
أنتم تبصرون بأبصاركم، ولا تبصرون ببصائركم.. فلذلك تعشى عيونكم عن رؤية مثل هذه
الأدوية.
بينما
أنا كذلك إذ سمعت صوتا عذبا تميد له قلوب الجالسين يردد قوله - صلى الله عليه وسلم
-:( احفظ
الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة، فإذا
سألت، فسل الله، وإذا استعنت، فاستعن بالله، جف القلم بما كان وما هو كائن، فلو
جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عز وجل لك، لم يقدروا عليه، فإن استطعت
أن تعمل لله بالصدق واليقين، فافعل، فإن لم تستطع، فإن في الصبر على ما تكره،
خيراً كثيراً، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)[2]
قلت: الله !.. لكأني أسمع هذا الحديث
لأول مرة.. ما أحسن قراءة هذا الصوت لهذا الحديث.
قال: هذا صوت القلب..
قلت: أليس هذا صوتا للسان؟
قال: هو صوت اللسان النابع من القلب.
قلت: لقد رأيت هؤلاء المسترخين يميدون
كما تميد السنابل تحركها الأعاصير.
قال: أرواحهم تبع لأجسادهم.. ومن
يسمع مثل هذا ولا يميد؟!.. أتعلم لمن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا
الحديث؟
قلت: بلى.. لقد قاله لابن عباس t.
قال: فأي شيخ هو؟
قلت ضاحكا: شيخ.. لا.. لقد كان غلاما
صغيرا.
قال: أرأيت كيف يربي - صلى الله عليه
وسلم - الأمل في الله في قلوب الأطفال.. سمعت أنكم تلقحون[3] صبيانكم في صغرهم لتحفظوهم من شرور الأوبئة.
قلت: بلى، فنحن نلقحهم ضد السِلِّ
والتيتانس، وشلل الأطفال، والجدري، والشاهوق، والحميراء، والخناق.. وقد نلقحهم في
حال الضرورة ضد التهاب السحايا، والكوليرا، والتيفوئيد، والحمَّى الصفراء،
والكَلَب..
قال: فلا تنسوا أن تضيفوا هذا
اللقاح.
قلت: أي لقاح؟
قال: لقاح الأمل في الله.. وفي حفظ
الله.. وفي فرج الله.. فهذا اللقاح هو الذي يقي أرواحهم من فيروسات اليأس القاتلة.
***
قلت: فهمت كل هذا ـ يا معلم ـ ولكني
لا أعرف أن مثل هذا يمكن اعتباره علاجا؟
قال: لم؟
قلت: لأن العلاج هو الذي يقضي على
المرض، أما هذا، فلا يفعل شيئا.. بل المرض هو المرض.
قال: فهل جميع أدويتكم تقضي على
الأمراض؟
قلت: منها ما يقضي، ومنها ما يخدر.
قال: أفلا تلجأون إلى هذا النوع من
الأدوية المخدرة في كثير من الأمراض؟
قلت: بلى.. نلجأ إليها.. بل لا تكاد
تخلو وصفة منها.
قال: فاعتبروا هذا من ذاك.
قلت: ولكني أعتبر هذا نوعا من الكذب
على النفس.. وكأني أقول لها: لقد شفيت، مع أن الطعنات التي يواجهها بها المرض لا
تزال تنخر قواها.
قال: لا.. ليس هذا من الكذب.. بل هو
من سياسة النفس.
قلت: ما معنى هذا؟
قال: ألم تسمع قوله - صلى الله عليه
وسلم -:( إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل، فإن ذلك لا يرد شيئا، وهو يطيب
بنفس المريض)[4]
قلت: بلى..
قال: فقد شرع - صلى الله عليه وسلم -
في عيادة المريض أن ننفس عنه، ونبسط له جناح الأمل، فالأمل وحده سعادة، وما أضيق
العيش لولا فسحة الأمل[5].
قلت: ولكن الجسد ـ مع ذلك ـ يبقى
عليلا، فهو كالتبن الذي يخفي النار التي تلتهمه.
قال: والأمل هو الماء الذي يطفئ تلك النار،
فلذلك قد يكون فيه من القوة بحيث يستطيع القضاء على المرض..
سمعت صوتا كأنه يقاطع المعلم، قلت:
من هذا؟.. ما هذا الصوت؟
قال: هذا صوت ابن القيم، وهو ـ كما
تعلم ـ طبيب من أطباء هذا المستشفى.. وقد سمع هذا الحديث، وهو يريد أن يبين ما فيه
من الطب.
قال ابن القيم: في هذا الحديث نوعٌ
شريف جداً من أشرف أنواع العلاج، وهو الإرشاد إلى ما يطيبُ نفسَ العليل من الكلام
الذي تقوى به الطبـيعةُ، وتنتعشُ به القوة، وينبعثُ به الحار الغريزي، فيتساعدُ
على دفع العلة أو تخفيفها الذي هو غايةٌ تأثير الطبـيب.
قلت: يا ابن القيم.. يا من فتح الله
عليه في العلم والطب كيف كان - صلى الله عليه وسلم - يعالج بهذا الدواء؟
قال: لقد كان r يسأل المريض عن شكواه، وكيف يجده ويسأله عما يشتهيه، ويضع يده على
جبهته، وربما وضعها بـين ثديـيه، ويدعو له، ويصف له ما ينفعه في علته، وربما توضأ
وصب على المريض من وضوئه، وربما كان يقولُ للمريض: (لاَ بَأسَ طَهُورٌ إن شَاءَ
الله)
بل كان - صلى الله عليه وسلم - يحث
على استعمال الأغذية والأدوية المفرحة..
قلت: المفرحة.. ما المفرحة؟
قال: هي أعشاب جعل الله فيها خواص
تملأ النفس انشراحا وفرحا.
قلت: فهي مثل الحبوب التي تصرف من
قبل الأطباء النفسانيين لما لها من تأثير على نفسية متعاطيها.
قال المعلم: مع فارق بسيط وخطير.
قلت: ما هو؟
قال: تلك أدوية ربانية، فيها العلاج
المحض الخالي من كل داء، أما أدويتكم فهي أدوية وسموم تحيي، ولكنها تقتل في نفس
إحيائها.
قلت: فاذكر لي أمثلة عنها.
قال: هو ذا ابن القيم يعطيك هذه
الأمثلة.
قال ابن القيم: السفرجل.
قلت: أهو من الأدوية المفرحة؟
قال: أجل.. فعن طَلْحَةَ قَالَ:
دَخَلْتُ عَلَى النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَبِيَدِهِ سَفَرْجَلَةٌ،
فَقَالَ: دُونَكَهَا يَا طَلْحَةُ فَإِنّهَا تُجِمّ[6] الْفُؤَاد)[7]
قلت: فاذكر لي مثالا آخر.
قال: التلبينة، فعن عائشةَ ـ رضيَ الله عنها ـ أنها كانت تأمرُ
بالتلبينة للمريضِ، وللمحزونِ على الهالك، وكانت تقول: إني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:( إنّ التلبينةَ تجمّ فؤادَ
المريض، وتَذهبُ ببعض الحزن)[8]
قلت: وما التلبينة؟
قال: هي حساء يُعمل من ملعقتين من
دقيق الشعير بنخالته، ثم يضاف لهما كوب من الماء، وتطهى على نار هادئة لبعض دقائق،
ثم يضاف كوب لبن وملعقة عسل نحل، وقد سميت تلبينة تشبيها لها باللبن في بياضها
ورقتها.
قلت: لقد ذكرتني بما يقول خبراء
التغذية في عصرنا، فالتقارير العلمية الحديثة توصي بالعودة إلى تناول الشعير كغذاء
يومي؛ لما له من أهمية بالغة للحفاظ على الصحة والتمتع بالعافية.
بل إنهم وجدوا مواد فيه لها تأثيرها
في مقاومة الاكتئاب، والتخفيف من حدته[9].
***
قلت: إذن دور هو القسم من أقسام المستشفى
هو البحث عن كل ما يشرح صدر المريض من الأعشاب والأغذية.
قال: لا.. ليس هذا فقط.. وهذا ميدان
أطباء هذا القسم من المختصين.. ولكن هناك شيء آخر، وهو أهم من تلك الأدوية.
قلت: أهم من تلك الأدوية؟!
قال: أجل.. فتلك الأدوية قد يفلح
مفعولها، وقد لا يفلح.. بينما هذه الأدوية التي سنزور أقسامها لا شك في جدواها.
قلت: فما هو منبع هذه الأدوية؟
قال: حسن الظن بالله.
قلت: لم كان حسن الظن منبع الأمل؟
قال: لأنه يجعل القلب متوجها لخير
الله منتظرا فضله، والله عند ظن عبده، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الأثر
الإلهي:( يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني)[10]
***
سمعت أصواتا جميلة تترنم بلحن، لست أدري هل كان
من السماء أم من الأرض، تقول:
أحسن
الظن برب عودك |
حسنا
أمس وسوى أودك |
إن
ربا كان يكفيك الذي |
كان
بالأمس سيكفيك غدك |
قلت: الله ! ما هذا لصوت الجميل..
ومن أين يصدر.. لا أرى مذياعا هنا.. ولا آلة تسجيل.
قال: أصوات البصائر لا تحتاج إلى
الآلات.
قلت: فمن لحن هذا اللحن؟
قال: ألحان القلوب لا تحتاج إلى
ملحنين، فهي عذبة بذاتها.
قلت: فلم كان حسن الظن بالله منبع
انتظار الفرج وأساسه؟
قال: لأن الشعور بقرب الله ورحمته،
والتفكر في فضله ورأفته، يجر إلى إحسان الظن به، وإحسان الظن به، سبيل للاستعانة
به.. فلا يمكن أن تستعين بمن تشك في فضله أو قدرته.
بينما أنا كذلك إذ رأيت شخصا يربت
على كتفي، لعله أول شخص ينتبه لي في هذا المستشفى، فالكل كان غارقا في توحده، قال
لي:( استعمل في كل بلية تطرقك حسن الظن بالله عز وجل، في كشفها، فإن ذلك أقرب بك
إلى الفرج)، ثم مضى.. لا يهتم بردي.. ولا ينتظر سؤالي.
بعدها سمعت صوتا جميلا.. لا يقل عن
الصوت السابق جمالا يردد:
يا
صاحب الهمِّ إنَّ الهم منفرجٌ |
أبشِر بخيرٍ، فإنَّ الفارج الله |
اليأس
يقطع أحياناً بصاحبه |
لا تيأسنَّ فإنَّ الكافي الله |
الله
يُحدِث بعد العسر ميسرة |
لا تجزعنَّ فإن القاسم الله |
إذا
بُليت فثِقْ بالله وارضَ به |
إنَّ الذي يكشف البلوى هو الله |
واللهِ
ما لكَ غير الله من أحدٍ |
فحسبُك الله في كلٍ لك الله |
قلت: الله.. ما أجمل هذه القصيدة..
كثيرا ما كنا نترنم بها.. ولكني أسمعها بلحن لم أسمعه من قبل..
قال: هذه ألحان القلوب كما قلت لك.
قلت: لقد اكتفى الشاعر بذكر أوصاف
الله ليغرس الأمل في القلوب.
قال: حسن الظن بالله يستدعي التعرف
على الله، فلا يمكن أن تحسن الظن بمن لا تعرفه.
قلت: هذا صحيح، فالمريض المتألم لا
يرتاح إلا إذا وصف له الطبيب الخبير النطاسي، والسائل المحتاج لا يطمع إلا إذا
أخبر عن الغني الكريم.
قال: وهكذا، فإن المتألم لا يشعر
بالأمل فيما عند الله إلا بمعرفته.
قلت: ولكن معرفة الله بحر لا ساحل
له.
قال: ولهذا سنكتفي ـ هنا ـ بالاغتراف من بعض أسماء
الله الحسنى التي ورد التنصيص عليها، والتي تدل على قدرة الله التي لا يعجزها شيء،
وعلى فضله العظيم الذي لا يحده شيء.
قلت: تعني أن حسن الظن يعتمد على
معرفة القدرة والفضل.
قال: أجل.. فقد يكون العاجز كريما..
فيقف عجزه حائلا بينه وبين كرمه.. وقد يكون البخيل مالكا القدرة على التكرم عليك،
ولكن بخله يحول بينه وبين ذلك.
قلت: ولهذ كان حسن الظن لا يكتمل إلا
فيمن له القدرة المطلقة، والفضل العظيم.
قال: وليس ذلك إلا الله.
قلت: فكيف أتحقق بهذا؟
قال: بترتيل أسماء قدرته وفضله.
قلت: فهل لهذه الأسماء أقسام في هذا
المستشفى؟
قال: أجل.. هلم بنا إليها.
دخلنا القسم الأول من أقسام حسن الظن
بالله، وقد كتب على بابه ـ بحروف تحمل قوة عظيمة، ممزوجة بلطف عظيم ـ:) كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ((آل
عمران:40)
قلت للمعلم: لا شك أن هذا هو قسم
القدرة المطلقة.
قال: أجل، وهو من الأقسام الهامة
التي يحتاج المرضى اليائسون من المرور عليها.
قلت: لم؟.. وأي داء يعالجون؟
قال: أول ما ينفخه الشيطان من بذور
اليأس في نفسك هو إخبارك باستحالة إصلاح ما حل بك، فلذلك كان علاج هذا الداء بقتل
هذه البذور في مهدها قبل أن تنبت.
قلت: وما تنبت؟
قال: شجرة اليأس القاتل.
قلت: وكيف تقطع هذه الشجرة إن نبتت؟
قال: بدلالاتها على القادر الذي لا
يستحيل معه شيء.
قلت: أالله؟
قال: وهل هناك قادر غيره.. فاعتقاد
المؤمن بقدرة الله المطلقة، والتي لا يقف المستحيل أمامها تجعله يشعر باستناده إلى
ركن عظيم، وهذا الشعور هو الذي يولد فيه الأمل من جهة، ويحضه على التوجه إلى الله
من جهة أخرى، وفي كلا الأمرين يبتسم أنينه، وتنفرج أسارير قلبه.
***
بينما كنت أستمع للمعلم رأيت رجلا يمر على
المرضى، ويقول لهم:( اذكروا زكريا.. اذكروا زكريا)
قلت: أرغب هذا عن دين محمد - صلى
الله عليه وسلم - إلى دين زكريا u.. ما باله لا يدعوهم إلى ذكر الله.. ويدعوهم إلى ذكر زكريا؟
قال: ذكر زكريا هو ذكر لمحمد..
وذكرهم جميعا هو ذكر لله.. فلا يحجب أهل الله عن الله.. الصراع هو الذي تكون فيه
الحجب.
قلت: أستغفر الله.. لكن لماذا خص
زكريا u؟
قال: هو ينبههم إلى التدبر في قصة
زكريا u عندما رأى مريم ـ عليها السلام ـ وعندها من رزق الله ما احتار في
سببه، فقال لها:)
يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَت هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ((آل
عمران:37)
ففي ذلك الحين امنزج الشعوران لدى
زكريا u: الشعور بقدرة الله المطلقة التي لا يقف في وجهها الزمن ولا
المستحيل، والشعور بفضل الله العظيم، فهو يرزق من يشاء بغير حساب.
وعندما امتزج الشعوران توجه لله
طالبا ما كان يتصوره مستحيلا يستحي أن يسأل الله تحقيقه، قال تعالى مؤرخا لتلك
اللحظة التي كانت فتحا عظيما على زكريا u:)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ((آل
عمران:38)
قلت: حينها جاءته الملائكة ـ عليهم
والسلام ـ بالبشارة، وبتحقيق الأمل الذي كان حبيس القلب، واستحيا اللسان من
إبرازه، قال تعالى:) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي
الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ
اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ((آل
عمران:39)
قال: وحينها ـ كذلك ـ انحلت عقدة
لسان زكريا u متعجبا من هذا، لا منكرا له، فسأل الله عن كيفية ذلك كما سأله
الخليل u من قبل عن كيفية إحياء الموتى، فرده الله إلى
مشيئته المطلقة، قال تعالى:) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ
الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ (
(آل عمران:40)
قلت: وحينها أجابه الملك:) كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ((آل
عمران:40)
قال: أعرفت الآن لم كتبت هذه الآية
في مدخل هذا القسم؟
قلت: أجل..
قال: ولهذا يملأ القرآن الكريم
نفوسنا وضمائرنا بقدرة الله المطلقة، لنتوجه بكل كياننا إليه، فلا نعتقد أن هناك
مستحيلا أمام الله، وأمام قدرة الله، قال تعالى:) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ
وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً((فاطر:
من الآية44)
***
مر رجل آخر على المرضى، وهو يقول
لهم:( اذكروا السموات والأرض.. اذكروا العرش والكرسي)
قلت: لم يذكرهم بهذا؟
قال: لينبههم إلى قدرة الله المطلقة.
قلت: يا معلم، لم نرى القرآن الكريم
يمتلئ بذكر السموات والأرض في مواضع الحديث عن القدرة؟
قال: لأن أكبر ما ترونه هو السموات
والأرض، وهما ماهما.
قلت: يا معلم.. نحن نرى الأرض، ولكنا
لا نرى إلا جزءا بسيطا من السماء.
قال: نعم.. أنتم لا ترون إلا جزءا
بسيطا من السماء الدنيا، وهي لا تساوي شيئا أمام ملك الله الواسع.
قلت: لقد ورد في النصوص ذكر الكرسي،
وهو خلق غير السموات والأرض، بل أخبر تعالى أنه أوسع منهما، قال تعالى:) وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ((البقرة:
من الآية255)
قال: ومع ذلك، فإنه لا يساوي شيئا
أمام العرش، فعن أبي ذر الغفاري t أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكرسي، فقال رسول اللّه
- صلى الله عليه وسلم -:( والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند
الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك
الحلقة)[11]
قلت: ولكن الله مع ذلك يخاطب عباده
بما تعيه عقولهم.
قال: ليقرب لهم الحقيقة التي لا يمكن
تقريبها.. لأن تقريبها يؤدي إلى التشبيه، والله ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(
(الشورى: من الآية11)
قلت: ولهذا يضرب الله تعالى المثل
على قدرته بإمساك السموات والأرض وحفظهما، تقريبا لعظمة القدرة من القلوب، وإلا
فإن قدرة الله لا نهاية لها، ولا حدود تحدها، ألم تسمع قوله تعالى:) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا
وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ
حَلِيماً غَفُوراً((فاطر:41)
قلت:
لقد أخبر تعالى أنه لا يؤوده[12] ولا يثقله
حفظهما، قال تعالى:) وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ((البقرة: من الآية255)
وعندما
افترى الغافلون من اليهود ما افتروا على الله من ركونه إلى الراحة بعد خلق السموات
والأرض[13] رد عليهم
قائلا:) وَلَقَدْ
خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ((قّ:38)
وعندما
تعجب الغافلون من إمكانية إحياء الموتى بعد أن يصبحوا رمما بالية، رد عليهم الله
تعالى بقوله تعالى:) وَهُوَ
الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ
الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ((الروم:27)
قال:
سبب ذلك أن هؤاء المتعجبين قارنوا قدرتهم بقدرة الله، وعلمهم بعلم الله، ونسوا أن
ينظروا إلى أنفسهم ليروا الآيات العظيمة التي ينطوي عليها وجودهم، فلذلك نرى
القرآن الكريم ينبه كثيرا إليها، قال تعالى:) وَضَرَبَ
لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ((يّـس:78)
ثم
أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالرد عليهم بإعادة النظر إلى منشئها الأول،
فقال تعالى:) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ((يّـس:79)
أو بتقليب أطرافهم في السماء والأرض،
قال تعالى:) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ
الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ((الاحقاف:33)
والقرآن الكريم لا يسوق هذه
التنبيهات لهؤلاء الغافلين وحدهم من اليهود والمنكرين للبعث، بل يسوقها لكل ضمير
قد توسوس له خواطر السوء أن هناك شيئا ما من شئون الحياة قد يعجز الله، أو قد
يستحيل على الله.
ولذلك يخبر تعالى أن الخلق ما قدروه حق قدره حين نسبوا العجز له في أي محال
من المحال، قال تعالى:) مَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ((الحج:74)، وقال تعالى:))وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ
مِنْ شَيْءٍ ((الأنعام: من الآية91)
فلذلك يذكرهم بقدرته التي لا تحد،
قال تعالى:) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ((الزمر:67)
بل
يقسم الله تعالى على قدرته التي لا تحد، ليؤكد هذا المعنى في الضمير المؤمن، قال تعالى:) فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ(
(المعارج:40)
***
سرت مع معلم السلام في أرجاء هذا
القسم، فرأيت بابا قد كتب عليه ( باب معاينة مظاهر القدرة)
قلت للمعلم: هيا بنا ندخل إلى هذه
القاعة ففيها معاينة مظاهر القدرة.
قال: أخاف أن لا تخرج منها.
قلت: لم؟
قال: كثير ممن دخل هذه القاعة وعاين
بعض مظاهر قدرة الله لم يطق فراقها، فلم يخرج منها منذ دخلها.
قلت: لا تخف ـ يا معلم ـ فقد أخبرتك
أني لا أسكن إلا لغاية الغايات وقدس الأقداس.
قال: فادخل، ولا تطل المكث، فالأقسام
الأخرى في انتظارنا.
دخلت القاعة، وهي كقاعات السنما إلا
بفارق بسيط هو أن السينما تنقل الصور إلى العيون، أما هذه القاعة، فتنقل العيون
إلى الصور، كانت صورا كثيرة مزدحمة تملتئ بها القلوب والعقول.
أما الحضور.. فقد كانت أفواههم
مشدوهة لعظم ما يرون.. وقد غابوا عن كل الآلام التي لا تخفيها الإعاقات التي تنم بها جوارحهم.
سألت المعلم: من هؤلاء؟
قال: هؤلاء مرضى يئس أطباؤكم من
علاجهم.. فهداهم الله لهذا المستشفى.
قلت: ولكن عللهم لا تزال تنخر في
أجسادهم.
قال: وما يهمهم من عللهم.. هم يعيشون
في سعادة لا يعيشها أعظم ملوككم.
أشار إلى أحدهم، فقال: أتعلم من هذا؟
قلت: لا.. ولكن يبدو أن المشيب بدأ
يشتعل في شعره ليقضي على سواد شبابه.
قال: هذا الرجل الذي تراه، جلس هنا
منذ ثمانين سنة، ولم يفارق مجلسه.
قلت: ثمانين.. عجيب هذا.. لا يبدو
عليه التقدم في العمر.
قال: إنما يعمر الجسد البالي.. أما
المعاينون، فقد ذاقوا إكسير الشباب الدائم، فلا ينشغلون بشيخوخة ولا هرم.
قلت: يا معلم.. دعني أجلس معهم.
قال: ألم نتفق على عدم السكون لشيء؟
قلت: أجل..
قال: فهيا.. فبالله إن تسر ترى
العجائب.
***
خرجت من القاعة، وعند خروجي ربت على كتفي شيخ
وقور بحنان، وقال:( أليس في قدرة هذا الذي خلق كل هذا أن يخفف عني ما أنا فيه، أو
يرمي بدائي إلى الهاوية التي لا حدود لها !؟)
قلت: نعم.. فمن أنت؟.. فما أعظم
وقارك؟
تركني وانصرف، قال المعلم: هذا نزيل
أقنعه الأطباء بكل أجهزتهم أنه مبئوس منه، وقد جاء إلى هنا.. وهو يعيش في سلام منذ
جاء.
***
بعد خروجي لقيني شاب لا يقل عن الشيوخ وقارا،
وقال: بعد هذه المظاهر التي تدل على قدرة الله المطلقة، والتي لا يعجزها شيء، هل تظل أيها المتألم حبيس آلامك، متصورا
استحالة تفريجها.
أليس
الذي خلق السموات والأرض، ودبر أمر الدقيق والجليل، أعظم من أن يقف المستحيل في
طريقه، وأكبر شأنا من أن يعجزه ما نفخه شيطان اليأس في نفسك.
أردت
أن أسأله عنه، فقاطعني، وقال: قد تقول:( نعم إنه قادر على كل شيء، ولكن من أنا حتى
يتوجه إلي فاكا أزمتي، مفرجا كربتي، وما أنا إلا قطرة من بحر محيطه، أو هباءة في
فضاء أثيره
إذا
راودك هذا الخاطر، وأوحت لك شياطين الإنس والجن بهذه الوساوس، فاذهب إلى ذلك
القسم، فستجد فيه ضالتك)
دخلنا القسم الثاني من أقسام حسن
الظن بالله، وقد كتب على بابه ـ بحروف تحمل رحمة ممزوجة بحكمة ـ قوله تعالى:) وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ((البقرة:
من الآية105)
قلت للمعلم: لا شك أن هذا هو قسم
الفضل الواسع.
قال: أجل، وهو من الأقسام الهامة
التي يحتاج المرضى اليائسون من المرور عليها.
قلت: لم؟.. وأي داء يعالجون؟
قال:
الفضل مكمل للقدرة.. ولا تبرز القدرة إلا بالفضل.. ولا يكتمل الفضل إلا بقدرة.
قلت:
اشرح لي هذا، فإني أرى القدرة منفضلة عن الفضل انفصالا تاما.
قال:
من كان قادرا، ولكنه بخيل، فإنه لا يصدر منه شيء، فإن صدر كان محفوفا ببخله.. ومن
كان متفضلا، ولكنه عاجز كتم عجزه فضله، أو رماه عجزه بالبخل.
قلت:
ففضل الله عظيم كقدرته؟
قال:
لا
يوازي قدرته إلا فضله، ألم تقرأ قوله تعالى:) وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ((البقرة:
من الآية105)
قلت: هذه الآية هي آية هذا الباب،
وهي تذكر فضل الله الواسع العظيم.. ولكن القرآن الكريم يذكر أن فضل الله موزع حسب
مشيئة الله، فهو:)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ((آل عمران:74)
قال: لا تفهم من هذه الآية غير ما تريد.. فضل الله
واسع، ولكن من الخلق من تعرض له، فصار مخصوصا بالرحمة، ومنهم من أعرض فصار مخصوصا
بالشقاوة.. فضل الله كالمطر من تعرض له ترابا أنبت طيبا، وأثمر طيبا، ومن تعرض له
صخورا قاسية، فإن المطر ينزل عليه، ولكنه لا يؤثر فيه.
قلت: أرى القرآن الكريم يقصر الفضل
على الله، كما قال تعالى:) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى
شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ((الحديد:29)
قال: أجل ففضل الله بيد الله.. وهذا
معنى جميل، تطرب له النفوس، لأنه ينفي الوسائط بين عباد الله، وفضل الله، فيكفي
العبد أن يتوجه لله صادقا مخلصا ليرى يد الله، وهي تمتد إليه بالفضل والكرم
والجود، كما قال تعالى:) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ((البقرة:
من الآية186)
وهذا الشعور هو الذي يتولد منه
الرجوع إلى الله والاستمداد منه..
بينما نحن كذلك مر علينا رجل،
والابتسامة تشع من عينيه، وهو يقول: الله ! ما أعظم فضل الله !..إنه الجدار الذي
تتحطم أمامه كل الآلام.
ثم قصدني، وكأنه يعرفني، وربت على
كتفي، وقال: ابتسم ـ أيها المتألم لأناتك ـ وطالع أسماء ربك التي تنطق بها حروف
المكونات، وتضرع إليه بها كما يتضرع الكون جميعا، ففي نفس تضرعك تكمن الاستجابة،
وفي نفس طلبك تتحقق الأماني.
قلت: من هذا؟، ومن أين خرج؟
قال: هذا الرجل كان في أقسام أسماء
الفضل.. وهي أقسام تعرف بفضل الله انطلاقا من أسماء الله.
قلت: أهناك أقسام غير هذه؟
قال: أجل.. فهناك أقسام تعرف فضل
الله من خلال أكوان الله.
قلت: فأي القسمين نزور؟
قال: سنقتصر من زيارتنا في هذا المحل
على أسماء وردت في أكثرها النصوص المتعلقة بتفريج الكروب، وإجابة الدعوات وتنزل
الفضل، لنزرع في قلوبنا قرب الله منا، وفضله العظيم علينا.
قلت: والفضل الذي تختزنه أكوان الله
متى نراه.. أو متى نزوره؟
قال: سنزوره في درس آخر من دروس
السلام، عندما نسبح في ( بحار النعم)
دخلنا
قسما من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه:( الحي القيوم)
قلت
للمعلم: هذان اسمان من أسماء الله الحسنى.
قال:
نعم.. هما اسمان، وهما اسم واحد؟
قلت:
ما هذا التناقض؟
قال:
كل واحد منهما إذا انفرد كان اسما من أسماء الله الحسنى، وفي اجتماعهما يتشكل اسم
جديد له دلالة جديدة.
قلت:
فما هي الدلالة الجديدة التي يحملها؟
قال:
لا تعرفها إلا إذا عرفت دلالة كل اسم منفردا.
قلت:
فما الحي.. ولماذا كان من أسماء الفضل؟
قال:
هو من الأسماء الدالة على الفضل وغيره، فلا يمكن للقادر أن يكون قادرا إلا إذا كان
حيا.. فالحياة هي الصفة التي تعتمد عليها جميع الصفات.
قلت:
عرفت هذا.. فنحن لا يمكن أن نقوم بأي عمل إذا إذا كنا أحياء.
قال:
مع فارق عظيم بين حياتكم البدائية البسيطة وحياة الله ألا تعلم أن الله ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ((الشورى: من الآية11)
قلت:
فما علاقة الحياة بفضل الله؟
قال:
لا يمكن أن تدعو ميتا.. ولا أن يستجيب لك ميت.
قلت:
صدقت.. لقد عبر الشاعر عن ذلك، فقال:
لقد
أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن
تنادي
قال:
بل عبر الحق تعالى عن ذلك، فقال:) وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ((الفرقان: من الآية58)، فقد ربط بين
التوكل والحياة.. والتوكل هو استعانة بالله واستسلام مطلق لله ناتج عن ثقة عظيمة
بفضل الله.
قلت: ألهذا إذن يقترن هذا الاسم
بالأمر بدعاء الله، كما قال
تعالى:) هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ((غافر:65)
قال: أجل، أي لأنه حي، فادعوه، لأن الدعاء
لا يكون إلا لحي، وقد ورد الدعاء بهذا الاسم في هذا الباب، فقد روي أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال:( ما كربني أمر إلا تمثل لي جبريل، فقال يا محمد: قل
توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في
الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا)[14]
وفي حديث آخر، قال - صلى الله عليه
وسلم -:( ألا أعلمك كلمات تذهب عنك الضر
والسقم، قل: توكلت على الحي الذي لا يموت، والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن
له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا)[15]
وقد روي في الاستعاذات المأثورة:(
أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا تموت والجن والإنس يموتون)[16]
قلت:
فما القيوم.. ولماذا كان من أسماء الفضل؟
قال:
هو القائم بنفسه المقيم لغيره.
قلت:
فما القائم بنفسه؟
قال:
هو الذي عظمت صفاته، فاستغنى عن جميع مخلوقاته.
قلت:
فكيف قام غيره به؟
قال:
هو الذي أوجد الأشياء، وأمدها وأعدها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها.
قلت:
فالقيوم إذن هو الغني عن الأكوان من كل وجه، وهي التي افتقرت إليه من كل وجه.
قال: ومن كان كذلك، فحري أن يستغاث
به، ويلجأ إليه، ويطرق بابه.
قلت:
فلهذا الاسم إذن تأثيره الخاص في زرع الثقة بقدرة الله المطلقة، وفضله العظيم.
قال:
أجل.. فقد جمع هذا الاسم بين المعنيين جميعا، ولذلك كان من الأسماء التي ورد
الدعاء بها في الكربات.
قلت: عرفت المفردات، فما معنى
التركيب؟
قال: يتشكل من ذينك الاسمين اسم جديد[17] له دلالته
الخاصة والمؤثرة.
قلت:
فما هي؟
قال:
هي مثل دلالة اجتماع القدرة مع الفضل، فقد يكون قادرا غير متفضل، أو متفضلا غير
قادر.
قلت:
وهنا: قد يكون حيا غير قيوم، أو قيوما غير حي.
قال:
أجل، فإذا كان حيا لم ترجه لحياته فقط، فقد يكون حيا ضعيفا.. ولو كان قيوما غير حي،
لا ترجوه كذلك، لأنه لا يسمعك إلا إذا كان حيا.
قلت:
وبكونه حيا قيوما تجتمع فيه جميع مواصفات من يدعى فيجيب.
قال:
أجل، ولهذا ورد في النصوص ما يشير إلى كون هذا الاسم المقترن يحمل معنى اسم الله
الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى[18]، فعن أنس بن
مالك t قال:سمع النبي
- صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول:( اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت
وحدك لا شريك لك المنان يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا
قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(
لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب) [19]
بالإضافة
إلى ما روي من
حديث أبي أمامة t:( أن الاسم الأعظم في ثلاث سور: البقرة، وآل عمران، وطه)، قال
القاسم الراوي عن أبي أمامة:( التمست منها فعرفت أنه ( الحي القيوم)[20]
وقد يشير إلى هذا قوله - صلى الله
عليه وسلم - لأبي بن كعب t:( ما اعظم آية في كتاب الله تعالى؟)، فقال:( ) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ((البقرة:
من الآية255)، فقال - صلى الله عليه وسلم -:(
ليهنك العلم أبا المنذر)[21]
قلت: فما السر في هذه الأفضلية؟
سمعت حركات مختلفة من نزلاء ذلك
القسم، فسألت المعلم، فقال: هذا ابن القيم ـ فهو من أطباء هذا القسم ـ فهيا لتستمع
إليه ما يجيبك على تساؤلك.
اقتربت من الحلقة التي اجتمعت حول
ابن القيم، فقال بعد كلام: وعلى
هذين الاسمين-الحي القيوم- مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليها ترجع معانيها، فإن
الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، ولا يتخلف عنها صفة منها إلا ضعف الحياة، فإذا
كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها.. استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال
الحياة، لذلك اقترن هذا الاسم بالتوكل في قوله تعالى:﴿وتوكل على الحي الذي
لا يموت﴾(الفرقان:58))
وأما
القيوم: فهو متضمن كمال غناه، وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره
بوجه من الوجوه، القائم على غيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته.
ِولهذا،
كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أهمَّهُ الأَمْرُ، رفع طرفه إلى السماء فقال:( سُبْحَانَ
الله العظيمِ)، وإذا اجتهد فى الدعاء قال:( يا حَىُّ يا قَيُّومُ)
وكان
- صلى الله عليه وسلم - يستغيث بالله مستنجدا متوسلا بهذا الاسم فعن أنس t أنَّ رسولَ
الله - صلى الله
عليه وسلم - كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ قال:( يا
حَىُّ يا قَيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ)[22]
قلت:
يا ابن القيم.. ما سر الالتجاء إلى هذا الاسم.. وما سر الاستغاثة به في قوله:( يا
حىُّ يا قَيُّومُ، برحمتِك أستغيثُ)
قال
ابن القيم: لذلك مناسبة بديعة، فإنَّ صفة الحياة متضمِّنةٌ لجميع صفات الكمال،
مستلزمة لها، وصفة القَيُّومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسمُ الله
الأعظمُ الذى إذا دُعىَ به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى: هو اسمُ الحَىّ القَيُّوم،
والحياة التامة تُضاد جميعَ الأسقام والآلام، ولهذا لَمَّا كَمُلَتْ حياة أهل
الجَنَّة لم يلحقهم هَمٌ ولا غَمٌ ولا حَزَنٌ ولا شىء من الآفات. ونقصانُ الحياة تضر
بالأفعال، وتنافى القيومية، فكمالُ القيومية لكمال الحياة، فالحىُّ المطلق التام
الحياة لا يفوتُه صِفة الكمال ألبتة، والقَيُّوم لا يتعذَّرُ عليه فعلٌ ممكنٌ
ألبتة، فالتوسل بصفة الحياة والقَيُّومية له تأثيرٌ فى إزالة ما يُضادُّ الحياة،
ويضُرُّ بالأفعال[23].
بعد
انتهاء ابن القيم انفضت الحلقة، وفجأة رأيتها تجتمع عند شخص آخر، قلت للمعلم: من
هذا؟
قال:
هذا طبيب آخر من أطباء هذا المستشفى.
قلت:
هلم نستفيد منه..
قال:
حسبك بهذا هنا.. فالأقسام الأخرى في انتظارنا.
دخلنا
قسما آخر من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه: ( الله الصمد)
قلت
للمعلم: لقد ورد ذكر هذا الاسم في القرآن الكريم مرة واحدة، قال تعالى:) اللَّهُ الصَّمَدُ( (الاخلاص:2)؟
قال:
ولكن في سورة اختصت بالتعريف بالله، وهي تعدل ثلث القرآن[24]، فلذلك كانت
له لذلك مزية خاصة.
قلت:
لقد ورد في اللغة لهذا الاسم دلالات كثيرة
جدا[25]، ولذلك ورد
اختلاف كبير بين العلماء من السلف والخلف في تحديد معناه.
قال:
ما نحتاج إليه هنا دلالة واحدة وهو الصمد الذي يعني في اللغة القصد، فيكون الصمد
بذلك بمعنى المصمود أي المقصود، والمعنى: هو المقصود في الحوائج والنوازل، المستحق
أن يُلجَأ إليه لتحقيق الحاجات ونيل الرغبات وتفريج الكربات ودفع الملمات.
قلت:
لقد قرأت كلاما جميلا لابن عباس t في تعريف هذا
الاسم.
قال:
وما قال؟
قلت:
قال:( هو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي
قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم
الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو اللّه سبحانه،
ليس له كفء وليس كمثله شيء، سبحان اللّه الواحد القهار)
قال:
ولهذا ورد في النصوص ما يدل على أن هذا الاسم هو الاسم الأعظم، فقد سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -
رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي
لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد فقال:( لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي
إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)[26]
وهو
من الأسماء التي كان - صلى الله عليه وسلم - يتوسل بها للرقية والاستعاذة، فعن
عثمان ابن عفان t قال: مرضت
فكان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يعودني فعوذني يوما
فقال:( بسم الله الرحمن الرحيم أعيذك بالله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم
يكن له كفوا أحد من شر ما تجد) ثلاث مرات،
فشفاني الله تبارك وتعالى، فلما استقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائما قال لي: يا عثمان تعوذ بها فما تعوذت بمثلها)[27]
وفي
حديث آخر:( أعيذك بالله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد من
شر ما تجد يا عثمان تعوذ بها فما تعوذت بمثلها)[28]
وفي
حديث آخر:( أعيذك بالله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد من
شر ما تجد فإنها تعدل بثلث القرآن ومن تعوذ بها فقد تعوذ بنسبة الله التي رضيها
لنفسه)[29]
دخلنا
قسما آخر من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه ( الكافي)
قلت
للمعلم: ما
الكافي[30]؟
قال: هو الذي يكفي عباده ما يحتاجون
إليه، بحيث يستغنون به عن غيره، كما قال تعالى:) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ((الزمر:36)
قلت: لم كان كذلك؟
قال: لأنه حي قيوم عالم بجميع المعلومات، قادر على كل الممكنات،
غني عن كل الحاجات، يعلم حاجات العباد، ويقدر على دفعها، وهو ليس بخيلا ولا محتاجا
حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء ذلك المراد.
قلت: ألهذا وعد الله كل من ينصره
بكفاية الله فقال تعالى:) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ((البقرة:137)
قال: بل أخبر تعالى بأنه كفى رسوله -
صلى الله عليه وسلم - أمر المستهزئين، قال تعالى:) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ((الحجر:95)
قلت: فما يكفينا الله؟
قال: كل شيء.. فكفاية الله لعباده
شاملة لكل شيء، فالله هو الذي يكفي عباده كل ما يهمهم من العظيم والحقير، ولهذا
كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه؛ قال:( الحمد لله الذي أطعمنا
وسقانا وكفانا وآوانا ؛ فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)[31]
وقد ورد في قصة الغلام مع الساحر
والراهب: أنه كلما ذهبوا به إلى مكان لقتله ؛ قال:( اللهم اكفنيهم بما شئت)[32]
قلت: فهذا يدعو العارفين إلى
الاكتفاء بالله.
قال: أجل.. ولذلك أخبر الله تعالى عن
اكتفاء المؤمنين بالله وبحفظ الله، قال تعالى:) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ((آل عمران:173)
وقال عن رسوله - صلى الله عليه وسلم
-:) إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ
عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ((التوبة:40)
قلت: ولهذا إذن ورد الدعاء بهذا
الاسم في السنة، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن تأثيره العجيب في دفع الضرر،
فقال - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة الزهراء ـ رضي الله عنها ـ:( إذا أخذت مضجعك
فقولي:( الحمد الله الكافي، سبحان الله الأعلى، حسبي الله وكفى، ما شاء الله قضى،
سمع الله لمن دعا، ليس من الله ملجأ ولا وراء الله ملتجأ، توكلت على الله ربي
وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، الحمد لله الذي لم
يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا)، ثم قال
- صلى الله عليه وسلم -:( ما من مسلم يقولها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين
والهوام فتضره)[33]
***
بينما نحن كذلك إذ سمعت حركات في
القاعة، فسألت المعلم: فقال: هذا عبد الوكيل قد جاء، ومعه عبد الحسيب.
قلت: ومن عبد الوكيل.. ومن عبد
الحسيب.. فلا أعلم في الأسماء التي تختزنها ذاكرتي هذين الاسمين؟
قال: هما طبيبان من أطباء هذه
القاعة.
قلت: وما علاقتهما باسم الله الكافي؟
قال: سيشرحانها لك، فهذه وظيفتهما.
قال عبد الوكيل: ( الوكيل)
من
الأسماء القريبة من اسم الله الكافي.
قلت: فما يعني؟ وما وجه القرابة
بينهما؟
قال: الوكيل هو من توكل إليه الأمور، وتفوض إليه، كما قال تعالى:) وكفى بالله وكيلاً﴾(الأحزاب:3)
أي القائم بأمور عباده، المتكفل بمصالحهم، الكفيل بأرزاقهم، فالخلق والأمر له، لا
يملك أحد من دونه شيئاً.
قلت:
فما علاقته بالكافي؟
قال:
من توكل لك، فقد كفاك، ولهذا ورد هذا الاسم في ذكر من الأذكار العظيمة التي تتعلق
بهذا الجانب، وهو ( حسبنا الله ونعم الوكيل)
قلت: هو ذكر قرآني أثنى الله على من
قاله، فقال تعالى:) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ((آل عمران:173)
قال: وكان هذا الالتجاء سببا في حصول
خير عظيم للمؤمنين، قال تعالى:) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ
سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ((آل
عمران:174)
قلت: كان هذا الذكر هو الذي نطق به
إبراهيم u في أحرج مواقف حياته، قال ابن عباس t في الآية السابقة:( قالها: إبراهيم u حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه
وسلم - حين قال لهم الناس )
إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ(
(آل عمران:173))[34]
قال: ولهذا أخبر - صلى الله عليه
وسلم - أن لهذا الذكر تأثيره العميق في النفس بإعطائها القوة وتخليصها من العجر،
قال - صلى الله عليه وسلم -:( إن الله
تعالى يحمد على الكيس ويلوم على العجز فإذا غلبك الشيء فقل: حسبي الله ونعم
الوكيل)[35]
وقد ورد في النصوص استعمال هذا الذكر
في الموضع الذي نحن فيه، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابه غم أو كرب
يقول:( حسبي الرب من العباد، حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرازق من المرزوقين،
حسبي الله الذي هو حسبي، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله لا إله إلا هو، عليه
توكلت، وهو رب العرش العظيم)[36]
***
بمجرد انتهاء عبد الوكيل قال عبد
الحسيب: الحسيب[37] من كفاك جميع ما أهمك من أمر دينك ودنياك، وهو الذي يجلب لك المنافع،
ويدفع عنك المضار، وهو الذي يحميك من كل المخاطر، ويؤمن لك كل السبل، وهو الذي..
قلت
للمعلم: ألهذا قالتعالى:) وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (
(الطلاق: من الآية3)
قال:
أجل.. من توكل على الله فهو حسبه.
دخلنا
قسما آخر من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه ( الشافي)
قلت
للمعلم: الله
! ما أجمل هذا الاسم.. وما أعظم تفريجه لكربات المعتلين.. فإن المريض لا يحن لاسم
كما يحن للطبيب؟
قال: ولهذا ورد اسم ( الطبيب) مقترنا بالله، فالله هو الطبيب: طبيب القلوب
والنفوس والأجساد، فقد ورد في الحديث عن أبي رمثة قال: دخلت مع أبي على رسول اللّه - صلى الله
عليه وسلم - فرأى أبي الذي بظهره[38]، فقال:( دعني
أعالجه فإني طبيب)، فقال - صلى الله عليه وسلم -:( اللّه الطبيب)[39]
وقد
ذكر - صلى الله عليه وسلم - علة كون الله هو الطبيب الحقيقي، فقال:( الله
الطَّبِيبُ، بل أنت رجلٌ رفيقٌ، طَبِيبُها الذي خلقها)
قلت:
ما سر هذا؟، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل اسم الطبيب خاصا بالله.
قال:
لأن الطبيب هو العالم بحقيقة الدواء والداء، والقادر على الصحة والشفاء، وليس ذلك
إلا اللّه، فهو العالم وحده بتفاصيل العلل، جميع العلل، والعالم وحده بعلاجها:) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( (الملك:14)
قلت: ولهذا توسل إبراهيم u
إلى الله بالشفاء، فقال:) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ((الشعراء:80)
قال:
أجل.. يشفي من كل شيء.. من أمراض الحس وأمراض المعنى، هو خالق الدواء، وملهم
الأطباء، ورازق الشفاء، فما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء.
قلت:
لقد ورد في النصوص ما يدل على هذا، فقد وورد في القرآن الكريم التنصيص على ما جعل
الله في العسل من الشفاء، فقال تعالى:) ثُمَّ كُلِي
مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ
بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ((النحل:69)
وورد
طلب الشفاء من الله تعالى في الأمراض الحسية، فعن ابن عباس t عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:( من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال سبع مرات: أسأل
الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض)[40]
وقال
- صلى الله
عليه وسلم - لسعدٍ:( اللهم اشف سعداً، اللهم اشف
سعداً، اللهم اشف سعداً)
وقد
كان - صلى الله عليه
وسلم - يرقي بعض أصحابه ويطلب الشفاء من
الله الشافي قائلا:( بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا)[41]
وأما
المعنوية والنفسية، فقد قال تعالى في بيان
خصائص كلامه:) يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي
الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ((يونس:57)
قال:
ولهذا ورد هذان الاسمان في ادعية الاستشفاء، قالت عائشة ـ رضي الله
عنها ـ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-، فوضعتُ يدي على صدره، فقلتُ: أذهِبِ البأسَ رَبَّ النَّاس، أنتَ الطَّبيبُ،
وأنتَ الشَّافي. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:( ألحقني بالرَّفيق الأعلى وألحقني بالرَّفيق الأعلى)[42]
وعن
عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعوِّذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول:( اللهم رب
الناس أذهب البأس واشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً)[43]
وقال أنس t لثابت البناني
حينما اشتكى إليه: ألا أرقيك برقية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال:بلى.
قال:( اللهم رب الناس مذهب البأس، اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر
سقماً)
دخلنا
قسما آخر من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه ( المغيث)
قلت
للمعلم: الله
! ما أجمل هذا الاسم.. لكأني به يمد يده إلى ضعف الإنسان وقصوره وحاجاته الكثيرة
لينقذه منها؟
قال: أجل.. فله هذه الدلالة النفسية
العميقة التي تشهد لها كل الحقائق، وكل الفطر، وكل الموجودات:
فالله تعالى هو الذي يغيث عباده
عندما تنزل بهم الكربات، وعندما تمتد أيديهم إليه طالبة نجدته، قال تعالى:) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي
مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ((لأنفال:9)،
وأخبر عن الوالدين الصالحين أنهما:)
يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ((الاحقاف: من الآية17)
ولله تعالى هو الذي يغيث البشر
بإنزال الغيث، قال تعالى:) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ((لقمان:
من الآية34)، وقالتعالى:) وَهُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ
الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ((الشورى:28)
قلت: ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم
- في الاستسقاء يصرخ مستغيثا بالله، فعن أنس بن مالك t أن رجلاً دخل المسجد يوم
الجمعة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، ثم قال
يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يديه ثم قال:( اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا)
بينما نحن كذلك إذ ظهرت أنوار عظيمة
تحمل صورا مختلفة تملأ القلوب أنسا وثقة، قلت للمعلم: ما هذه الصور؟
قال: هذه بعض مظاهر اسم الله المغيث،
وهي تدعوا للتأمل فيها لامتلاء القلب معانيها.
قلت: فهيا نلبي نداءها.. فما أعظم أن
تمتلئ قلوبنا بالثقة بالله.. وفي إغاثة الله.
قال: سنقتصرعلى أربعة مظاهر لاسم
الله المغيث وردت بها النصوص، ولها علاقة بهذا الباب، أما ما عداها فسنمر بالكثير
منها في دروس السلام، فلا تعجل، )
وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً((طـه:
من الآية114)
رأيت صورة سواد عظيم يغمر الكون
فيملأه بالكآبة، وإذا بإغاثة إلهية تنزل على ذلك السواد، فترفع ما علاه من الظلام،
وتحوله إلى نور تمتلئ بجماله أرجاء القاعة.
سألت المعلم عن سر هذه الصورة، فقال:
هذا مظهر من مظهر الإغاثة أرسله فارج الكروب[44]، ليمحو الغين الذي ران على الكون والقلوب.
قلت: وما الكروب؟
قال: الكرب هو الغم الشديد، والمصيبة العظيمة، ولذلك لم يرد في
النصوص إلا في مواضع الشدة الشديدة، والدواهي العظيمة.
قلت:
نعم، فقد ورد في حديث الشفاعة الطويل قوله - صلى الله عليه وسلم -:( يجمع الله
الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس، فيبلغ
الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون)[45]
قال: وورد قبل ذلك في قوله تعالى
مخبرا عن إنجائه لنوح u من الكرب:) وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ((الانبياء:76)، وقالتعالى:) وَنَجَّيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(
(الصافات:76)
وأخبر عن إنجائه لموسى وهارون ـ
عليهما السلام ـ، فقال تعالى:) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ((الصافات:115)
قلت: الله !.. ما أعظم رحمة الله
بأنبيائه !
قال: وبجميع خلقه، ألم يخبر تعالى عن
سنته في إنجاء كل الخلق من كل الكربات، فقال تعالى:) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ
كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ((الأنعام:64)
قلت: بلى.. واستشعار هذا المعنى ينفي اليأس من قلب المؤمن عندما تحل به
المصيبة العظيمة التي يرى استحالة حلها بالأسباب التي لديه.
قال:
ولهذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذكارا نقولها عند الكرب تذكرنا
بالله وبقدرة الله التي لا يعجزها شيء، قال - صلى الله عليه وسلم - لأسماء بنت
عميس ـ رضي الله عنها ـ:( ألا أعلمك كلمات
تقوليهن عند الكرب؟ الله الله ربي لا أشرك به شيئا)[46]
وقال
- صلى الله عليه وسلم -:( يا بني عبد
المطلب، إذا نزل بكم كرب أو جمة[47] أو جهد أو
لأواء فقولوا: الله الله ربنا لا شريك له)[48]
وقال
- صلى الله عليه وسلم -:( من قرأ آية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة عند الكرب أغاثه
الله تعالى)[49]
وقال
- صلى الله عليه وسلم -:( دَعَواتُ المكروبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو، فَلا
تَكِلْنِى إلى نَفْسى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لى شَأنى كُلَّهُ، لا إله إلا
أنْتَ)[50]
وقال
- صلى الله عليه وسلم -:( إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا
فرج الله عز وجل عنه، كلمة أخي يونس:)
فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ((الانبياء:
من الآية87))[51]
قلت: الله ! الله ! ما دعا بها مكروب
إلا فرج الله عنه.
قال: أجل.
قلت: هذا ترياق عجيب، فكيف نغفل عنه؟
قال: وهل تغفلون عن هذا فقط؟.. من
نسي الله عفل عن كل شيء.
قلت: فما سر ارتباطها بتفريج الكربات؟
قال: سنرحل إلى هذا في درس من دروس
السلام[52].
قلت: والآن..
قال: اسمع لابن القيم يشرحها لك، كما
يشرحها لمرضى هذا القسم.
التفت فرأيت حلقة فيها ابن القيم،
وقد التف حوله المرضى، اقتربت منه فسمعته يقول: وأما دعوةُ ذى النون.. فإنَّ فيها
من كمال التوحيد والتنزيه للربِّ تعالى، واعترافِ العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ
أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ، وأبلغِ الوسائل إلى الله سبحانه فى قضاء
الحوائج، فإنَّ التوحيدَ والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال للهِ، وسلبَ كُلِّ نقصٍ
وعيب وتمثيل عنه. والاعترافُ بالظلم يتضمَّن إيمانَ العبد بالشرع والثواب والعقاب،
ويُوجب انكسارَه ورجوعَه إلى الله، واستقالته عثرتَه، والاعترافَ بعبوديته،
وافتقاره إلى ربه، فههنا أربعةُ أُمور قد وقع التوسلُ بها: التوحيد، والتنزيه،
والعبودية، والاعتراف.
ناديته: يا ابن القيم.. لقد روى ابن عباس t، أنَّ رسولَ
الله - صلى الله
عليه وسلم - كان يقول عند الكَرْب:( لا إلهَ إلا
اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ العرشِ العَظِيمُ، لا إلهَ إلا
اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ السَّبْع، ورَبُّ الأرْض رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ)[53]..
فأفدنا بسره كما أفدتنا بسر دعوة ذي النون.
قال
ابن القيم: هذا الدعاء مشتمل على توحيد الإلهية والربوبية، ووصف الرب سبحانه
بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القُدرة والرحمة، والإحسان
والتجاوز، ووصفِه بكمال ربوبيته للعالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ، والعرش الذى هو
سقفُ المخلوقات وأعظمها. والرُّبوبية التامة تستلزِمُ توحيدَه، وأنه الذى لا تنبغى
العبادةُ والحبُّ والخوفُ والرجاء والإجلال والطاعة إلا له. وعظمتُه المطلقة
تستلزمُ إثباتَ كل كمال له، وسلبَ كل نقص وتمثيل عنه. وحِلمُه يستلزم كمال رحمته
وإحسانه إلى خلقه.
فعِلْمُ
القلب ومعرفتُه بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيدَه، فيحصل له من الابتهاج واللَّذة
والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليه ما
يسرُّهُ ويُفرحه، ويُقوِّى نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسِّى، فحصولُ
هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى.
ثم
إذا قابلتَ بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التى تضمَّنها دعاءُ الكرب، وجدته فى
غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعَةِ البهجة والسرور، وهذه
الأُمورُ إنما يُصدِّق بها مَن أشرقت فيه أنوارُها، وباشر قلبُه حقائقَها.
رأيت صورة عقد كثيرة يستحيل على أي
يد أن تفكها.. وفجأة وجدت هذه العقد تنحل عقدة عقدة.. بل يذهب كل ما بها من آثار
العقد.
سألت المعلم عن سر هذه الصورة، فقال:
هذه مظاهر العسر الذي يعقد القلوب بعقده.. فإذا علمت القلوب شدة عقدها، ويئست منها
بعث الله بيسره، فالله هو الذي يعقب العسر باليسر، ألم تسمع إلى قوله تعالى:) سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً((الطلاق:
من الآية7)
تدخل رجل من الحاضرين، وقد سمع هذا
الكلام من المعلم، فقال: بل يعقب العسر بيسرين[54]، قال تعالى:) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً((الشرح:5،
6)، قال ابن عباس t يفسر هذه
الآية:( يقول اللّه تعالى خلقت عسرا واحدا، وخلقت يسرين، ولن يغلب عسر يسرين)
وقال
ابن مسعود t:( والذي نفسي
بيده، لو كان العسر في حجر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه؛ ولن يغلب عسر يسرين)
وكتب
أبو عبيدة بن الجراح t إلى عمر بن الخطاب t يذكر له جموعا
من الروم، وما يتخوف منهم؛ فكتب إليه عمر t:( أما بعد،
فإنهم مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل اللّه بعده فرجا، وإنه لن يغلب عسر
يسرين، وإن اللّه تعالى يقول في كتابه:) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ((آل عمران:200)
تدخل آخر، فقال: والله تعالى واضع
المخارج، فهو الذي يضع المخارج عندما تنسد الأبواب، وتضيق المسالك، قال تعالى:) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً((الطلاق:
من الآية2)
ولذلك أمرنا أن نقول:) رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً((الاسراء:80)
قلت للمعلم: من هذين؟
قال: هذان مقيمان بهذا القسم لا
يبرحانه.. يعبدان الله بهذين الاسمين.
رأيت صورة قروح وأدواء كثيرة تمزق
لها قلبي.. ثم رأيت مرهما ينزل من السماء.. فيقع على تلك القروح، فيشفيها شفاء
تاما، ولا يدع أثرا لعلة.
سألت المعلم عن سر هذه الصورة، فقال:
هذا مظهر من مظهر الإغاثة أرسله كاشف الضر، ليمحو القروح التي تجثم على القلوب
والأجساد.. فالله تعالى هو كاشف الضر، بل لا يكشف الضر غيره، ألم تسمع قوله تعالى:) وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ((الأنعام:17)، وقولهتعالى:) وَإِنْ
يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ
بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ((يونس:107)
قلت: بلى، ولهذا كان من دواعي تسليم
المؤمنين لله وإذعانهم له وحده ما نص عليه العبد الصالح بقوله:) أَأَتَّخِذُ مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي
شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ((يّـس:23)
قال: بل هذا ما أمر كل مؤمن أن
يقوله، قال تعالى:) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ
مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ
كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ
قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ((الزمر:38)
تدخل
رجل من نزلاء المستشفى، فقال: إن هذه الحقيقة يذعن لها الكل حتى أولئك الذين
يجهلون الله عند الرخاء، فإنه إذا ما حلت بهم الشدائد لا يجدون غير باب الله، قال
تعالى:) وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ
الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا
عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ
لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ((يونس:12)، وقالتعالى:) وَإِذَا مَسَّ
النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ
مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ((الروم:33)، وقالتعالى:) وَإِذَا مَسَّ
الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ
نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ
أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ
مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ((الزمر:8)، وقالتعالى:) فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ
دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ
عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ((الزمر:49)
وتدخل
آخر، فقال: والله تعالى لا يعاتب هؤلاء على تذكرهم إياه وقت الكرب والشدة، بل
يعاتبهم على نسيانهم وغفلتهم حال الأمن والعافية.
وجاء ثالث، وهو يقول: يخبرنا القرآن
الكريم عن رجل من الزمن السالف رأى قرية قد دب إليها الخراب، وكساها الموت
بسرابيله، بل كفنها بأكفانه، فيتأسف حزنا عليها، فيميته الله مائة عام، ليراها وقد
دبت إليها الحياة، فلا يحزن ولا ييأس، قال تعالى:) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى
عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ
اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ
وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً
لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا
لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ((البقرة:259)
رأيت صورة غيوم كثيرة لكنها غير
ممطرة، ولا تبقى في السماء، بل كانت تنزل إلى الأرض، ثم تدخل إلى الصدور، فيصيح
أصحابها من الألم والضيق.. فيأتي نسيم عليل يذهب ما بها من ضيق، ويملأها انشراحا
وعافية.
قلت للمعلم: لا شك أن هذه صورة بعض
الغازات السامة التي يتفنن قومي في اختراعها.. ولكن ما سر ذلك النسيم؟
قال: لا.. هذه صورة الضيق الذي يملأ
القلوب والصدور، وذلك النسيم، هو مظهر من مظاهر الإغاثة الإلهية، فالله تعالى هو
شارح صدر المتألمين، قال تعالى:) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي((طـه:25)، وقالتعالى:) أَفَمَنْ
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ((الزمر:22)، وقالتعالى:) أَلَمْ
نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ((الشرح:1)
والله تعالى هو المنجي من الهم
والغم، قال تعالى:) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً ((آل
عمران: من الآية154)، وقالتعالى:) وَقَتَلْتَ
نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ((طـه:
من الآية40)، وقالتعالى:) فَاسْتَجَبْنَا
لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ((الانبياء:88)
تدخل أحد الحاضرين، فقال: ولهذا
أرشدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستعين بالله في دفع الهم والغم، قال
- صلى الله عليه وسلم -:( مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ فَقَالَ:(
اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي
بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ
هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوْ
أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ
عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلاءَ
حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ
مَكَانَهُ فَرَجا) فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ:(
بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا)[55]
([1]) قال
الترمذي:« هكذا روى حماد بن واقد هذا
الحديث وقد خولف في روايته وحماد بن واقد هذا هو الصفار ليس بالحافظ، وهو عندنا شيخ
بصري، وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - مرسل وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح » سنن الترمذي: 5/565.
([3]) اللقاح كلمة عامة تعني:
حثُّ الجسم على تشكيل مناعة ذاتية ضد العناصر الممرضة، واللقاح قد يعطي الجسم
جراثيم مضعفة مخبرياً، أو ميتة، أو سموم الجراثيم، وكلها تحثُّ جهاز المناعة على
تكوين العناصر المناعية الذاتية الجاهزة والقادرة على مهاجمة أسباب المرض لدى
دخولها الجسم.
([5]) ويدل لهذا قوله ' ـ وهو يبين قيمة الأمل وثمرته النفسية ـ:) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ((آل عمران:126)، أي وما
أنزل اللّه الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارة لكم وتطييباً لقلوبكم وتطميناً،
وإلا فإنما النصر من عند اللّه الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير
احتياج إلى قتالكم لهم.
فمع أن النصر من عند
الله، إلا أن إحبار المؤمنين بمدد الله من الملائكة كان له تأثيره الجميلة في نفوس
العصبة المؤمنة.
([9]) ومنها: المعادن: فتشير الدراسات العلمية إلى أن
المعادن مثل البوتاسيوم والماغنسيوم لها تأثير على الموصلات العصبية التي تساعد
على التخفيف من حالات الاكتئاب، وفي حالة نقص البوتاسيوم يزداد شعور الإنسان
بالاكتئاب والحزن، ويجعله سريع الغضب والانفعال والعصبية. وحيث إن حبة الشعير
تحتوي على عنصري البوتاسيوم والماغنسيوم فالتلبينة تصلح لعلاج الاكتئاب، ويلاحظ
هنا أن الدراسات العلمية تستخدم كلمة "التخفيف من حالات الاكتئاب"، ونجد
ما يقابلها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تذهب ببعض الحزن"،
وهذه دلالة واضحة على دقة التعبير النبوي الذي أوتي جوامع الكلم.
- فيتامين ب: فقد يكون أحد مسببات أعراض الاكتئاب هو التأخر في
العملية الفسيولوجية لتوصيل نبضات الأعصاب الكهربية، وهذا بسبب نقص فيتامين ب؛
لذلك ينصح مريض الاكتئاب بزيادة الكمية المأخوذة من بعض المنتجات التي تحتوي على
هذا الفيتامين كالشعير.
- مضادات الأكسدة: حيث
يساعد إعطاء جرعات مكثفة من حساء التلبينة الغنية بمضادات الأكسدة (فيتامين هـ و
أ) في شفاء حالات الاكتئاب لدى المسنين في فترة زمنية قصيرة تتراوح من شهر إلى
شهرين.
- الأحماض الأمينية: يحتوي الشعير على الحمض الأميني تريبتوفان Tryptophan الذي يسهم في التخليق الحيوي لإحدى الناقلات العصبية وهي
السيروتونين Serotonin التي تؤثر بشكل بارز في الحالة النفسية والمزاجية الإنسان، انظر:
دراسات كيميائية حيوية وتكنولوجية على حبوب الشعير، رسالة ماجستير، م. سحر مصطفى
كامل، كلية الزراعة، جامعة القاهرة، 1997م.
([10]) البخاري ومسلم عن أبي
هريرة، وتتمته:« فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في
ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي
ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة »
([12])
يقال: آده يؤده: إذا أثقله وأجهده، وأدت العود أودا، وذلك إذا اعتمدت عليه
بالثقل حتى أملته، والمعنى: لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما أي حفظ السماوات
والأرض.
([13]) ذكر
المفسرون في سبب نزول الآية أنّ اليهود كانوا يتصوّرون أنّ الله خلق السماوات
والأرض في ستّة أيّام «ستّة أيّام من أيّام الأسبوع»! ثمّ استراح في اليوم السابع «السبت»
فوضع رجلا على رجل أُخرى.
([14]) ابن أبي الدنيا في الفرج والبيهقي
في الأسماء عن إسماعيل بن أبي فديك مرسلا، وابن صصري في أماليه عن أبي
هريرة.
([18])
اختلف العلماء في « الاسم
الأعظم » الذي إذا دُعي به لا يرد، اختلافا عظيما:
فمنهم من
أنكره مثل أبي جعفر الطبري، وأبي الحسن الأشعري، وجماعة بعدهما كأبي حاتم ابن
حبان، والقاضي أبي بكر الباقلاني، فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض،
وحملوا ما ورد من ذلك على أن المراد بالأعظم العظيم، وجعلوا اسم التفضيل على غير
بابه، وهو أسلوب معروف عند علماء العربية، وأن أسماء الله كلها عظيمة.
ومنهم من
ذكر أن الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك، كما إذا
أطلق ذلك في القرآن، المراد به مزيد ثواب القارئ.
ومنهم من
ذكر أن المراد بالاسم الأعظم، كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به مستغرقاً
بحيث لا يكون في فكره حينئذ غير الله تعالى، فإن من تأتى له ذلك استجيب له، ونقل
معنى هذا عن جعفر الصادق، وعن الجنيد وعن غيرهما.
ومنهم من ذهب
إلى أن الله ' استأثر بعلم الاسم الأعظم، ولم يُطْلِعْ عليه
أحداً من خلقه وأثبته آخرون، واضطربوا في ذلك.
ومنهم من
ذهب إلى تحديد الاسم، واختلفوا في ذلك اختلافا شديدا، منها هذا الاسم المركب،
وسنعرض للمسألة بتفاصيلها في محلها الخاص من هذه الرسائل.
([24]) لقوله - صلى الله عليه وسلم -:« أيعجز
أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة فإنه من قرأ قل هو الله أحد الله الصمد في ليلة فقد
قرأ ليلته ثلث القرآن » أحمد والترمذي والنسائي عن أبي أيوب.
ـ القصد، وهو الذي
دعانا إلى ذكره في هذا المحل.
ـ الصلابة والإستحكام،
وعلى هذا تدل كثير من النصوص عن السلف y كقول مجاهد:« الصمد: المصمت الذي
لا جوف له »، وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب،
وكل هذه الأقوال صحيحة، ولها دلالتها التعريفية بالله، قال الحافظ أبو
القاسم الطبراني بعد إيراده كثيراً من هذه الأقوال في تفسير الصمد:« وكل هذه صحيحة وهي صفات ربنا عزَّ وجلَّ، هو
الذي يصمد إليه في الحوائج، وهو الذي قد انتهى سؤدده، وهو الصمد الذي لا جوف له
ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي بعد خلقه »
قال الشيرازي:« ومن
الممكن أن يرجع الأصلان إلى أصل واحد، لأنّ الذات المستحكمة والصلبة والقائمة
بذاتها تكون غنيّة ـ طبعاً ـ وموضعاً لتوجّه جميع المحتاجين، وعليه فانّ ( صمد) يمكن
أن يكون إشارة إجمالية إلى جميع الصفات الثبوتية والسلبية لله تعالى. ولعلّه لهذا
الدليل ذُكرت معان كثيرة لـ ( صمد) في الروايات الإسلامية حيث يشير كلّ واحد منها
إلى إحدى صفات الله، انظر: التفسير الأمثل: 27/437.
([26]) أبو داود والترمذي وابن
ماجه، وابن حبان، والحاكم، من حديث بريدة، وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد
في ذلك.
([27]) ابن زنجويه في ترغيبه،
والعقيلي، والبغوي في مسند عثمان،وقال: لا أعلم حدث به عن علقمة بن مرثد غير حفص
بن سليمان وهو أبو عمرو صاحب القراءة وفي حديثه لين والحاكم في الكنى.
([30]) كـلـمة (كافي) مأخوذة من
(كفاية)، وهي تـعـنـي الإقدام على عمل معين والتمكن منه , قال الراغب في مفرداته:
( الكفاية) هي رفع حاجة والوصول إلى المقصود, وكفية على وزن كنية تعني الغذاء
الكافي , وكفي على وزن خفي تعني المطر.
([37]) قد يحمل هذا الاسم معنى
الكفاية ومعنى المحاسبة، كما في قوله ':) وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً((النساء:
من الآية6)
قال ابن الانباري
والأزهري:« يحتمل
أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب، وأن يكون بمعنى الكافي، فمن الأول قولهم للرجل
للتهديد: حسبه الله ومعناه يحاسبه الله على ما يفعل من الظلم، ونظير قولنا الحسيب
بمعنى المحاسب، قولنا الشريب بمعنى المشارب، ومن الثاني قولهم: حسيبك الله أي
كافيك الله»، قال الرازي تعليقا على قولهما وبيان انطباق النص على كلا المعنيين:« واعلم
أن هذا وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره لئلا ينوي
أو يعمل في ماله ما لا يحل، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل إليه ماله،
وهذا المقصود حاصل سواء فسرنا الحسيب بالمحاسب أو بالكافي »
([44])
الكرب: الغم يأخذ بالنفس؛ يقال منه: رجل مكروب. قال عنترة:
ومكروب
كشفت الكرب عنه بطعنة فيصل لما
دعاني
والكربة
مشتقة من ذلك.