المؤلف: نور الدين أبو
لحية |
العودة للكتاب: كنوز الفقراء |
الناشر: دار الكتاب الحديث |
من هدي القرآن الكريم
قال الله تعالى:
﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَمَا قَلَى ﴾ (الضحى:3)
﴿ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ
مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾(الأنعام:52)
﴿
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾
(الأنعام:53)
﴿
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ
وَمَغَارِبَهَا ﴾ (لأعراف: من الآية137)
﴿ وَأَصْبَحَ
الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾
(القصص:82)
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى
حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة:177)
المقدمة
كنت مهموما حين زارني هذا المرة ـ
ككل مرة، من غير ميعاد ولا استئذان ـ قال لي: تبدو على سحنات
وجهك هموم الحزن القاتل.
قلت: ومن لا يهتم في هذا الزمان؟
قال: ألا تعلم أن الهم عدو السلام؟
قلت: ومن لي بأن لا أهتم؟..وهل أمري
بيدي؟.. إنما أنا كعصفورة عصفت بها الرياح، فلما هدأت سقطت في شباك أطفال يسومونها سوء
العذاب، فإن نجت منهم، هم بها نسر ليطعمها أصغر أولاده.
قال: نعم.. لك
أن لا تهتم.
قلت: كيف؟
قال: بعلم السلام.. أنسيت أني معلم
السلام.
قلت: وما علاقة ما أنا فيه بالسلام؟
قال: ما سبب همك؟
قلت: رأيت اليوم مشهدا فتت قلبي
واعتصره، فذرفت من دمعي أنهره.
قال: وما رأيت؟
قلت: فقير مكسور الجناح.. هو تماما
كالعصفورة التي حدثتك عنها، ولكني مع ذلك لم أحزن لهذا.. إنما حزنت على شللي بين
يديه، فلم أستطع أن أقدم له أو أؤخر.. ومع ذلك لم أحزن لهذا.. إنما حزنت للنظرات
القاسية التي كانت تتوجه إليه، وكأنه ممرور أو مجذوم،
أو كأنه شيطان من الشياطين لا يعبس إلا في وجهه.
قال: ولذلك قلت لك:
لن تنجو من همك إلا بتعلم السلام.
قلت: كيف؟
قال: لأن الحزن الذي يعتلج في صدرك سهام تحارب بها رحمة
ربك، ادخل في أعماق وجدانك، وقل لي ماذا ترى؟
دخلت أعماق وجداني، فرأيت ظلمات
قاسية هبت منها، فناداني، التفت، فإذا هو أمامي، قال لي: اسألها: ما محلك من
أعماقي، ومن أدخلك في سراديب وجداني؟
سألتها، فتكلمت بلا حرف ولا صوت،
قالت: أنا الاعتراض على حكمة الحكيم، ورحمة الرحيم، وجود أكرم الأكرمين.
قلت: فأي محل تملئين، ولأي سر
تسترين؟
قالت: أستر حقائق الجود، وخزائن
اللطف، لأنشر أوهام الهم والحزن.
قلت: وما المخرج منك؟
قالت: أنا أضعف من أن أدلك على
المخرج، هو ذا المعلم أمامك، فاسأله.
التفت إلى المعلم، فقال: اخرج من
أعماقك، وهيا بنا إلى أعماق الفقير الذي اهتممت له، وحزنت عليه، واعترضت على حكمة
الحكيم ورحمة الرحيم بسببه، لتستخرج من أعماقه ( كنوز الفقراء )
قلت: لا طاقة لي بالتجول في أعماق
الناس.
قال: دعك من هذا، فالقدرة منه لا
منك، والأمر بيده لا بيدك.
ثم التفت إلي، وقال: لا تنس قلمك،
فسننطلق من أعماق ذلك الفقير الذي حزنت له لنسطر رسالة جديدة من رسائل السلام،
تمسح الحزن عن آلام الفقراء، وتدلهم على الكنوز التي يدفنونها
بأوهامهم وأحزانهم واعتراضهم.
***
لم يكن أمامي إلا الخضوع لأمره، لكني
قلت له من غير أن أشعر: هل نستقل سيارة للوصول إليه، أو نبحث في دفاتر المعدمين
عليه؟ فإني رأيته ولكني لا أعرفه.
قال: أغمض عينيك، وافتحهما لتراه
أمامك، أو لترى نفسك أمامه، فقد قال الحق تعالى:) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ((النمل:
من الآية40)
ما إن فتحت عيني بعد إغماضها حتى
رأيته، لست أدري، هل أتى به إلي، أم حملني إليه!؟
قال لي: انظر إليه جيدا.
قلت: نعم لقد نظرت إليه، فنشر من
الحزن ما كان كامنا، ومن الهم ما كان مدفونا.
قال: انظر إليه، ولا تنظر إلى ثيابه،
فالثياب كفن الإنسان، لا روح الإنسان.
نظرت إلى سحنة وجهه، فإذا بها شاحبة قد اعتصرتها الأيام، وكأنها أكلت لحمه وعظمه، ولم
تبق له إلا جلدة شاحبة تستر جمجمته.
قلت: لقد نظرت، فما زادتني رؤيتي له
إلا هما.
قال: انظر إليه إنسانا لا جمجمة، ألم
تعلم أن الإنسان كل لا يتجزأ، وحقيقة لا تتعدد؟
نظرت إليه مجموعا، فلم أزدد إلا هما،
لقد رأيت قواما شاحبا، ورجلين كعودين يقوم عليهما هيكل لو شاء النسيم العليل أن
يهوي به لفعل.
ضحك، وقال: لم تزدد إلا هما.
قلت: كأني بك تمزح بي، طلبت منك أن تمسح همي، فزدتني هما على هم.
قال: لا بأس عليك سيمسح همك، اصبر،
وإلا قلت لك ما قيل لموسى u:)
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً((الكهف:
من الآية67)
قلت، وقد أصابتني رعدة من أن يفارقني
كما فارق الخضر موسى u:) سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا
أَعْصِي لَكَ أَمْراً((الكهف:
من الآية69)
ثم خطر على بالي موقف موسى u
مع الخضر، فسألته: هل أنت الخضر؟
قال: دعك من هذا، فقد قلت لك بأني النقطة التي تحت الباء.. وانظر إلى ذلك الذي ملأت
قلبك غما من أجله، لتنجلي أحزانك.
نظرت، فإذا بذلك الظل الذي لا قوام
له، والشبح الذي لا ظل له، يبتسم ابتسامة دونها ابتسامة الملوك، ويصيح ملء فيه:(
الحمد لله رب العالمين صاحب الفضل العظيم.. أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا.. ومن كل
شيء أعطانا )
كانت كلماته كألحان عذبة.. تفوح
بروائح عطرة.. تشرق مثل لآلئ البحر المكنون..
جلس إلى صبية له تبدو عليهم علائم السرور، ومخايل النجابة،
فحدثهم وداعبهم وضحك إليهم وضحكوا له.
لم يكن في بيته شيء يستدعي افترار
الثغر عن الابتسامة، إنما هو جدار بال، وفراش بسيط، وفي زاوية البيت فأس ورفش، لست أدري ما علاقتهما بالبيت، وما علاقة البيت بهما.
قال لي المعلم: اذهب إلى هذا الذي
اهتممت له، واسأله ما يشكو، وما يطلب، وسأحقق له ـ بفضل الله ـ طلبته.
فرحت، فلعل في قدرات المعلم ما يرفع
جداره، ويرفه فراشه، ويدسم طعامه، ولم أدر إلا وأنا
أخاطب الفقير بقولي: ما الذي تفتقده؟ وما الذي تريده؟ فإن عجزت عن إعطائك في
الصباح، فقد وجدت من يعطيك في المساء.
التفت إلي باهتا، وقال: وما الذي
ينقصني حتى تكمله؟ وما الذي يعوزني حتى توجده؟
قلت: المال والثراء، والقصور
والمراكب، واللباس الجميل.. والطعام اللذيذ.
ضحك، وقال: عن أي لعب تتحدث؟
قلت: أي لعب!؟.. أنا لا أتحدث عن
لعب، بل أريد نقلك من الفقر الذي تعيشه إلى الغنى الذي لا تحلم به.
قال: ومن أخبرك بأني فقير؟
قلت: جلد وجهك، وأسمال ثيابك، وجدار
بيتك.. كل ما فيك ينم عنك.
ضحك، وقال: ألم يقل لك المعلم: انظر إلى الإنسان، لا إلى أشياء الإنسان؟
قلت: أتعرف المعلم؟
قال: كلهم يعرفونه، وكلهم ينكرونه؟
قلت: كيف؟
قال: يدعوهم، فلا يستجيبون.. ويمد
يده إليهم، فيقبضون أيديهم.. يصيح فيهم، فيصخون آذانهم،
ويملأون الأرض لغوا لكي لا يسمعوه، ويملأوها
ضبابا لكي لا يروه.
قلت: إلام يدعوهم؟
قال: إلى مدائن الغنى التي خبئت فيها
كنوز الفقراء.
قلت: وهل دخلت إليها؟
قال: لم أخرج منها، بل أنا ثري من
أثريائها.
قلت باسما بسخرية مختلطة بهيبة: أنت
ثري؟
قال بجرأة: نعم، وأرجوا من فقرائكم
الذين يدفنون أنفسهم في ناطحات السحاب، ويكفنون أرواحهم في جلود الحرير، أن
يلتحقوا بمدائن الغنى لينهلوا من كنوزها ما يغنيهم عن
مد اليد بالسؤال.
قلت مبتسما: أتتهم أغنياء العالم
بالتسول؟
قال: وهل هناك متسول محترف أكثر
منهم؟
قلت: بل هم الذين يمدون أيديهم
للمتسولين بالعطاء.
قال: وهم الذين يمدون أيديهم لكل شيء
بالفقر.
قلت: أهم يفتقرون إلى كل شيء!؟
قال: نعم، لأن من لم يستغن به يفتقر إلى كل شيء، ألم تسمع قول الحكيم:( ماذا وجد من فقدك
)!؟
قلت: بلى، وهو القائل:( وماذا فقد من
وجدك )
قال: ما أكثر ما تحفظون، وما أسرع ما
تنسون.
هزني عتابه، وشعرت أني بين يديه كنملة
بين يدي فيل، فقال لي: بل أنت كتلميذ بين يدي أستاذ، أو تائه بين يدي مرشد.
قلت: مرشد؟.. إلى أي طريق؟.. وفي أي
متاهة؟
قال: أنا المرشد الذي يسير بالسالكين
في مدائن الغنى، ليملأ خزائنهم بكنوز الفقراء.
فقلت:) هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ
رُشْداً((الكهف: من الآية66)
قال لي: لست معلم السلام، ذلك معلم
السلام، الذي شرب من عيون السلام.
قلت: وهل يمكن أن أشرب منها؟
قال: تلك رحلة طويلة، فلا تسأل عن
شيء حتى يأتي زمانه، ألم تسمع قول الخضر u:)
فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى
أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً((الكهف:70)؟
فجأة.. لم أجد أمامي شيئا، لست أدري
هل انصرفا عني أم انصرفت عنهما.
***
في الغد جاني معلم السلام، وقال لي: خذ قلمك
وقراطيسك، فسنرحل إلى مدائن الغنى لنجمع كنوز الفقراء.
سال لعابي، وحلمت بالثروة التي حرمت
منها، وصحت من غير أن أشعر: أهي كنوز كثيرة؟
فقال: لقد ) أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ((التكاثر:1)
حتى نسيتم الحقائق.
قلت: لقد خلق الله الأعداد، فنحن
نشتاق إلى الأعداد.
قال: أربعة كنوز.
قلت: من الذهب أم من العقيق؟
قال: هي أغلى من الذهب والعقيق.
سال لعابي من جديد، وقلت: كلها من
صنف واحد.
قال: لكل كنز منها جواهره الخاصة.
قلت: فما الكنز الأول؟
قال: كنز يغنيك
عن الكل، إن تقلدته حسدتك اللآلئ، وذهب بريقه الذهب، وانفضت عن محاسنها الفضة.
قلت: فما اسمه؟
قال: كنز ( الاستغناء )، بريقه يمتد
من العرش إلى الفرش.
قلت: وما الكنز الثاني؟
قال: كنز يملأ كل جوف، ويسد كل خلة،
ويغطي كل حاجة، بريقه يمتد من الأحشاء إلى الأعين.
قلت: فما اسمه؟
قال: كنز ( القناعة ) ألم تسمع بأن
القناعة كنز لا يفنى؟
قلت: فما الكنز الثالث؟
قال: كنز يرفع هامتك بين الناس،
فتدوس بقدميك سواري كسرى وقيصر، فلا تحن رقبتك إليها، وتتساقط أنواع اللآلئ
والجواهر بين يديك، فلا تمد عينك إليها.
قلت: فما اسمه؟
قال: كنز ( الاستعفاف ).. ذاك الذي يغنيك عن الطواف.
قلت: عن الطواف بالبيت؟
قال: عن الطواف ببيوتهم.
قلت: فما الكنز الرابع؟
قال: كنز يحرك جوراحك،
ويثير فضائلك، ويجعل من عرقك لآلئ دونها لآلئ الجيد الحسان.
قلت: ما اسمه؟
قال: كنز ( الفضل ) من حازه استغنى
وأجر، يمتد بريقه ليشمل الآفاق، ويخترق أجره السبع الطباق.
قلت: فما سر كون هذه الكنوز أربعة،
لم لم تكن خمسة أو ثلاثة؟
قال: لأن الفقير ينحصر فقره في هذه
الأربع، فهو يبدأ من شعوره بفقره وحزنه عليه، فيسلمه ذلك للحرص والطمع، وهو ما
يدفعه إلى السؤال والشحاذة، أو يدفعه إلى العمل والكسب.
قلت: وهذه الجواهر تسد منافذ الخلل
التي حصلت للفقير؟
قال: كما يسد الطبيب منافذ العلة
للمريض.. أرأيت لو كان جرحك بيدك، أيعالج الطبيب رجلك؟
قلت: بل يدي.
قال: فكذلك عالج الحكيم الأوحد علل
الناس، فعالج الشعور بالفقر والحزن عليه بالاستغناء بالله، وعالج الطمع والحرص
بالقناعة، وعالج السؤال والشحاذة والانحناء أمام الجيوب بالاستعفاف، وعالج القعود
عن الثورة على الفقر بالحث على طلب فضل الله بما شرع الله.
قلت: ولكن البعض يذكر حلولا أيسر،
وأبسط؟
قال: فما يذكرون؟
قلت: يذكرون العمل والكسب والزكاة..
قال: والذي لا يكسب ولا يعمل ويحرم
من الزكاة.. ماذا يفعل؟.. هل يظل أسير أحزانه.. هل نقول له: أنت محروم من فضل
الله، ومن بركات الفقر الذي ابتليت به؟
ثم ما الفرق بين هذه الحلول والحلول
التي وضعها البشر للبشر، أنساوي طب البشر بطب رب البشر؟
***
قلت: وهل في هذه الكنوز جواهر كثيرة؟
قال: في كل كنز أربعة جواهر.. كل جوهرة
منها بثروة العالم جميعا، بل بثروات العالم جميعا.
ثم انصرف عني أو انصرفت عنه، وفي فمي
ابتسامة تشع من أعماق قلبي، وأمل يناطح الجوزاء، قلت لنفسي:( أنا الآن على عتبة
الغنى، فوداعا أيها الفقر)
صاح من أعماقي:( هات قلمك، وتعال
لندخل مدائن الغنى، ونستخرج كنوز الفقراء )
***
لست أدري، هل سرت معه، أم حلقت في
الأجواء، أم غصت في أعماق مجهولة.. لم يطل
الوقت.. مجرد طرفة عين، فإذا بي أمام مدينة عظيمة، كل ما فيها عقيق وجواهر.. تربتها كالمسك
الأذفر، صحت: أفي الجنة أنا؟
قال: لا، أنت على الأرض.. وعلى جزء
ضئيل من الأرض.
قلت: وهذا الجمال؟
قال: كنت لا تراه، فأزحنا الغشاوة عن
عينيك؟
نظرت إلى الأجواء، فإذا منارات
عالية، عليها رايات كتبت عليها أسماء الكنوز، كما تكتب على المحلات.
قلت لمعلم السلام: عهدي بالكنوز
تخبأ، وتدفن، فلا يهتدى إليها إلا بضروب الحيل، ألم
تقرأ جزيرة الكنز؟
قال: تلك كنوزهم، أما هذه فكنوزنا.
قلت: وما الفرق بين كنوزكم وكنوزهم؟
قال: كنوزهم كنوز الأغنياء من ملكها
ملكته الأشياء، وكنوزنا كنوز الفقراء من ملكها استغنى برب الأشياء.
قلت: ولكني لا أرى للفقراء وجودا؟
قال: لأنهم أبوا إلا أن ينافسوا
الأغنياء في كنوزهم، وقد صحت فيهم، فلم يسمعني أحد.
تذكرت صياحه الذي سمعت بعضه في (
ابتسامة الأنين )، فقلت له: إن صياحك لا يكاد يسمع أحدا، وبالكاد أستطيع أن أسمعك
لأكتب ما تقول.
قال: لأني أخاطب القلوب، والقلوب
يؤذيها الصياح.
قلت: فلم لا تسمع الآذان؟
قال: لأن الآذان، تطرب للكلام، ولا
تسمع الكلام، الحق أقول لك: من لم يسمع بقلبه فهو أصم،
ألم تسمع قول الحق تعالى:) َمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا
يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ((البقرة:171)
قلت: فمن هؤلاء؟
قال: ) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي
الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ((الأنعام:39)
قلت: ألا يمكن أن نخترع أجهزة نسمعهم
بها، فنحن في عصر الاختراعات؟
ضحك، وقال:) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ((يونس:42)
***
هذه الرسالة من رسائل السلام تلخيص
لما دار في تلك الرحلة العجيبة والجميلة والمفيدة التي قادني فيها معلم السلام،
لأنهل من كنوز الفقراء.
وقد كتبت أحداثها كما حدثت بدقيقها وجليلها، وأقرني معلم السلام على ذلك، وفي إقراره ما يكفي
لطمأنتي.