الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: كنوز الفقراء

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

ثالثا ـ كنز الاستعفاف

1 ـ لا أمل فيك

الجهل

الغرور

الهوى

الخداع

المثال الأول:

المثال الثاني:

2 ـ لا أمل فيهم

الفقر

البخل

الظلم

ظلم الظلمة:

ظلم الكرماء:

العجز

الذباب:

العناكب:

3 ـ الأمل فيه

الغنى

الكرم

الكرم النفسي:

الكرم المادي:

الكرم الدائم:

القرب

الإجابة

4 ـ مد يدك إليه

لسان الاضطرار

اضطرار العارفين:

اضطرار الغافلين:

لسان الافتقار

لسان العجز

لسان المسكنة

 

ثالثا ـ كنز الاستعفاف

سرت مع معلم السلام نبحث عن قصر الاستعفاف، لاح لنا قصر جميل، يشبه في شكله يدا ممتدة للسماء تتساقط عليها أنواع الجواهر، وتنتشر منها أصناف الروائح الطيبة.

قلت للمعلم: ما أروع هذا القصر، لكأن الذي صممه فنان لا مهندس.

قال: كل مصممي هذه القصور يجمعون بين الفن والهندسة.

قلت: إذن هم تخرجوا من جامعة واحدة.

قال: نعم.

قلت: فأي جامعة هي، فإن لي شوقا لأن أتعلم مثل هذه الفنون.

قال: هي جامعة موجودة في كل مكان.

قلت: في كل مكان.. أمتأكد  أنت؟

قال: نعم.. في السماء والأرض، والحقول والبراري، والبحار والصحارى.. في كل مكان، بل في كل خلية تنبض بالحياة، أو كل ذرة تمتلئ بالحركة.

قلت: فأنت تقصد شيئا لا أفهمه.

قال: أقصد الصنعة الإلهية، فإن من أحب الله تخلق بأخلاق الله.

قلت: ولكنها صنعة إلهية، فكيف تقلد؟

قال: كل صنعة إلهية يجتمع فيها كمال الهندسة مع كمال الفن، فلا تعجب لكون كل مؤمن مهندسا وفنانا.

قلت: ولكن..

قال: دعنا من هذا، فله محله الخاص في هذه الرسائل، ولندخل إلى هذا القصر لنغنم جواهره.

قلت: لا شك أن هذا هو قصر الاستعفاف، فاليد تدل على السؤال والشحاذة، والجواهر المتساقطة عليها تدل على العطايا الممنوحة لهذه اليد.

 قال: نعم، هذا هو قصر الاستعفاف، وفيه أربعة طوابق، كل طابق منها يرفع همتك، ويحمل يدك ليضعها في موضعها الصحيح.

قلت: يدي هي في يدي، فكيف يضعها في موضع صحيح.. أتقصد أني لن أخرج من هذا القصر بيدي؟

قال: افهم الحقائق، ولا تناقش الألفاظ.

قلت: فما تريد بيدي، أليست اليد غير الجارحة!؟

قال: يدك التي يمتد بها طمع عينيك إلى جيوب الناس، أو خزائن الناس.

ابتسمت، وقلت: تقصد يد الشحاذين لا يدي، فقد عافاني الله من الشخاذة.

قال: هي حرفة يتقنها الكل، ويتهرب منها الكل.

قلت: ما تقصد؟

قال: من هم الشحاذون بين قومك؟

قلت: الذين يقفون على عتبات المساجد والأسواق يبكون ويولولون ويبتكرون صنوف الحيل التي تستدر عطف الناس، فتستخرج ما في جيوبهم.. إنهم الشحاذون الماهرون في جلب المال بلا تعب.

قال: أهؤلاء هم الشحاذون في تصورك؟

قلت: وفي تصور جميع الناس، إنهم الذين حكى عنها الحريري والهمذاني في مقاماتهما.

قال: وسائر الناس؟

قلت: لقد عافاهم الله من الشحاذة.

قال: وما أدراك أن الله عافاهم منها؟

قلت: لأنهم لا يمدون أيديهم للناس.

قال: ولكنهم يمدون أعينهم وقلوبهم، ولو استطاعوا لخنقوا الناس ليستولوا على ثرواتهم.

قلت: كيف.. أنا لا أرى ما تقول.

قال: ما تقول في الاستعمار؟

قلت: هم يقولون: جئنا لنعمر أرضكم.

قال: ولكنهم أبادوا شعوبكم، ومرغوا كرامتكم، ونهبوا ثرواتكم، ثم لم يخرجوا إلا بعد أن عاهدتموهم على أن تضعوا أيديكم المجروحة في أيديهم الآثمة.

قلت: كل ذلك صحيح.. ولكن الأيام سرعان ما تطوي الأحقاد.

قال: أنا لا أتكلم عن الأحقاد، ومعلم السلام يملأ القلوب بالإيمان لا بالأحقاد.

قلت: فلماذا نتحدث عن الاستعمار إذن؟

قال: لنعرف نوعا خطيرا من أنواع الشحاذة التي يتهرب منها الكل، ويتقنها الكل.

قلت: ولكن الاستعمار ولى، ونحن الآن تحت رحمة حكومات منا، لا تستجدينا ولا تطمع في أموالنا.

قال: ولكني رأيت وزراء شحاذين.

خطر على بالي وزير المالية أو الاقتصاد وهو يقف على باب من أبواب المساجد يطلب الصدقات ليملأ البنوك، فضحكت، فقال: أنت تتعجب من تحول وزير المال إلى شحاذ.

قلت: أجل.. لقد عرفت ما يجول في خاطري.

قال: نعم.. ألم يمد يده للموظفين ليقبل رشاواهم، ألم يمد يده لعموم الناس ليقبل مصالحهم؟

قلت: ذلك من الرسوم.

قال: أنتم تعرفون كيف تحولون المعاني بتحويل الألفاظ، فتسمون قتل الشعوب للاستيلاء على ثرواتها استعمارا، وتسمون أكل أموال الناس بالباطل رسوما، وتسمون الرشاوى هدايا..

قلت: لقد ذكرتني بقوله - صلى الله عليه وسلم -:( ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها )[1]

قال: وقد وقع ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -.

قلت: أجل، فنحن نسمي الخمور مشروبات روحية.

قال: ألم تكتفوا بتسميتها مشروبات حتى نسبتموها إلى الروح؟

قلت:.. فما الطريق لأتخلص من الشحاذة، وأعف عن أموال الناس؟

قال: بقطعك هذه الطوابق الأربع، وجمعك لجواهرها.

قلت: فماذا أقطع في الأول؟

قال: تقطع طمعك من نفسك، فتيأس منها، ولا تمد يدك إليها.

قلت: ففي الثاني؟

قال: تقطع طمعك من الخلق، فتيأس منهم، ولا تمد يدك إليهم.

قلت: ففي الثالث؟

قال: تمد أعناق طمعك كلها إلى الله، فلا ترى مستحقا للتفضل غيره.

قلت: ففي الرابع؟

قال: تمد يدك إلى الله الذي طمعت فيه، وحينذاك تضع يدك موضعها الصحيح، وحينذاك سينعم عليك بالفضل الذي تستغني به عن الكل، وتمتزج يدك مع اليد التي رأيتها في هذا القصر.

ثم انصرف عني أو انصرفت عنه.

 

 

1 ـ لا أمل فيك

وقفت مع المعلم أمام الجوهرة الأولى من جواهر الاستعفاف، فسألت المرشد عنها، فقال: هذه جوهرة نفيسة، لا يحل صعود طوابق القصر إلا بعد المرور عليها.

قلت: فما اسمها؟

قال: هي جوهرة ( لا أمل فيك )

ابتسمت في نفسي من هذه الأسماء الغريبة، ثم التفت إلى المعلم ليشرح لي حقائقها، فلا يمكن أن أنالها بدون الوصول إلى حقيقتها والاقتناع بها.

نظر إلي المعلم، وقال: ألا تعلم أول بيت يقصده الشحاذ، وأول من يمد إليه يده؟

فكرت قليلا ، ثم قلت: ربما.. جاره.. لا، فقد لا يريد أن يظهر بمظهر الذلة أمام جاره.. لعله السوق أو المسجد.. أو لعله يخرج من بلده حفظا لكرامته ليمد يده للغادي والرائح.

قال: كل من ذكرتهم بعيدون، والشحاذ لا يمد يده إليهم إلا بعد أن يمد يده إلى غيرهم.

قلت: فمن؟ لقد عجزت عن معرفته.

قال: أول من يمد الشحاذ يده إليه بالسؤال والافتقار هو نفسه.

قلت: نفسه؟

قال: التي بين جنبيه، فافتقاره إلى الخلق يبدأ من افتقاره لنفسه، وافتقاره لنفسه هو الذي يجعله يدق أبواب الخلق.

قلت: فكيف يمد يده لنفسه.. لم أر في حياتي رجلا يقف في مكان خال أمام مرآة يضع يده ينتظر أن توضع فيها أي صدقة.. إلا إذا كان مجنونا.

قال: بل كل الشحادين يقفون هذا الموقف، بل كل من لم يمد يده إلى الله يمد يده إلى نفسه، ويقف هذا الموقف الذي استنكرته.

قلت: لكني لم أر أحدا يفعل ذلك.

قال: الفقراء والأغنياء يفعلون ذلك.

قلت: اشرح لي، فلا أطيق الإلغاز.

قال: عندما يقرر الملك أمرا من الأمور، ويحب أن ينفذه، ماذا يفعل؟

قلت: يستنجد بوزرائه وأعوانه.

قال: أيمد يده إليهم طالبا المعونة؟

قلت: نعم، مثلما قص القرآن الكريم على ملكة سبأ، حيث قالت لقومها:) يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ((النمل: من الآية32)

أو مثلما قال الملك في قصة يوسف u لأعوانه:) إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ((يوسف:43)

قال: ولا حرج عليك أن تشبه ذلك بقول سليمان u لحاشيته:) يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ((النمل: من الآية38)

قلت: نعم، ولكني خشيت أن تقول شيئا قد لا يتناسب مع مقام الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ

قال: لا، بل هذا من كمالهم، فمن كمال الملك استنجاده بأعوانه واستشارته لهم.

قلت: فما في هذا؟

قال: قد نسمي الملك شحاذا في هذه الحالة.

قلت: نعم إن جعلنا الشحاذة هي كل مسألة أو كل طلب معونة.

قال: فإذا استقر رأي الملك وحاشيته على أمر.

قلت: يبدأون في تنفيذه.

قال: أين؟

قلت: حسبما خططوا.

قال: فإن ظهر ذلك الأمر في الواقع، فلمن ينسب؟

قلت: للملك والحاشية، وقد ينسب للقصر نفسه.

قال: فالقصر إذن هو الباني والهادم، وهو الذي يتخذ كل القرارات.

قلت: خاصة الصعبة منها، لأن ما عداها قد تتكفل به الأكواخ.

قال: ألم تسمع من الغزالي بأن الإنسان مع لطائفه، كالملك مع حاشيته؟

قلت: نعم، لقد مثل الغزالي نفس الإنسان وعلاقتها بقواها بالملك، فقال:( مثل نفس الإنسان في بدنه أعني بالنفس اللطيفة المذكورة، كمثل ملك في مدينته ومملكته، فإن البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها ومدينتها وجوارحها، وقواها بمنزلة الصناع والعملة، والقوة العقلية المفكرة له كالمشير الناصح والوزير العاقل، والشهوة له كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة، والغضب والحمية له كصاحب الشرطة )[2]

قال: فلو أن هذا الملك اختار بصواب رأيه وما أوتي من الحكمة بطانة صالحة.

قلت: ستكون رعيته في أحسن حال، ولن ينال منها، ولن تنال منه إلا الخير، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصمه الله )[3]

وقد قال الشاعر ناصحا:

واجعلْ بطانتكَ الكرامَ فإِنهمْ
 

أدرى بوجهِ الصالحاتِ وأخبرُ
  

إِن الكريمَ له الكرامُ بطانَةٌ
 

طابتْ شمائلُهم وطابَ العنصرُ
  

إِن لاحَ خيرٌ قَرَبوه ويَسْروا
 

أو لاحَ شرٌ باعدُوه وَعَّسروا
  

أما اللئيمُ فحولَه أمثالُهُ
 

قرناءُ سوءٍ ليس فيهم خيَّرُ
  

إِن لاحَ خيرٌ باعدوهُ وعَسَّروا
 

أو لاحَ شرٌ قَرَّبوه ويَسَّروا
  

ولكل كونٍ كائناتٌ مثلُهُ
 

فقبيلُهُ من جنسِه والمعشرُ
  

قال: فإذن ما يصدر من الملك وحاشيته هو الذي يظهر في البلاد وبين الرعية؟

قلت: نعم، على حسب المثال الذي ذكره الغزالي.

قال: فمد الشحاذ يده للناس، أليس موقفا من المواقف الخطيرة التي اتخذها في حياته؟

قلت: أجل، بل هو أخطر المواقف على الإطلاق، فيكفي ما فيه من الذلة.

قال: فهل أرغم على ذلك، أم اتخذ القرار بنفسه؟

قلت: قد يكون مرغما، فقرار مثل هذا لا يكون عن طواعية.

قال: وكذلك مثل قرارات كثير من الملوك الذين لا يرون إلا جهة واحدة، ثم يتصورون أنهم مضطرون.

قلت: فليسوا مضطرين إذن؟

قال: من رحمة الله بعباده أو من ابتلائه لهم أن يضع لهم الكثير من الحلول، ولكنهم يعمون أعينهم عنها، ويتصورون أنهم مضطرون لأبشع الحلول.

قلت: فهذا القرار الذي اتخذه في نفسه سواء كان مكرها عليه أو مختارا من لجأ إليه فيه.

قلت: إلى وزرائه وأعوانه وحاشيته.

قال: فقد وثق فيهم إذن عندما استشارهم.

قلت: لقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(  إن المستشار مؤتمن )[4]

قال: ولكن المستشار قد يكون أخرق؟

قلت: أجل، وحينذاك يكون من البطانة السيئة.

قال: فلماذا لم يمد يده إلى جهة عليا موثوقة يستشيرها.

قلت: لثقته بوزرائه.

قال: فقد رضي إذن عن نفسه حين مد يده إليها.

قلت: نعم.

قال: فمبدأ الشحاذة إذن الرضى عن النفس وعن قرارات النفس، ولذلك كان علاجها الحقيقي لا بنهي الشحاذ عن مد يده إلى الناس، وإنما نهيه عن مد يده إلى نفسه.

قلت: نعم، لقد اقتنعت بهذا الكلام، ولكن ما هو السبيل لإقناعه عدم مد يده إلى نفسه؟

قال: هو نفس الطريق الذي نقنع به الملك بعدم الثقة في مستشاريه.

قلت: اضرب لي مثالا على ذلك.

قال: أتعرف ما فعل هارون الرشيد بالبرامكة.

قلت: أجل، فقد سجل التاريخ مأساتهم.

قال: ولكنه كان يثق فيهم.

قلت: ولكن ثقته ارتفعت عنهم، وهي سبب ما حل بهم من بلاء.

قال: فلذلك، فإن أول خطوة تخطوها لقطع مد يدك إلى نفسك هو عدم ثقتك بها، وعدم رضاك عنها.

قلت: بلى لقد ذكرتني بقول ابن عطاء الله:( أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها. ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه، خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، فأي علم لعالمٍ يرضى عن نفسه؟ وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟ )

قال: لم نصحه بأن لا يرضى عن نفسه؟

قلت: لتبديلها الحقائق، كما قال الشاعر:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة
 

كما أن عين السخط تبدي المساويا
  

قال: فهل يمكن أن يصلح من يرضى عن تصرفات نفسه.

قلت: لا، فإن كل ما كسب من المحرمات ناتج عن الرضى عن النفس والسماع لأوامرها، كما قال تعالى عن إخوة يوسف u:) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ((يوسف:18)

وكما قال عن السامري:) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي((طـه:96)

قال: ما سبب قتل ابن آدم الأول لأخيه؟

قلت: لقد ذكر المفسرون في ذلك أقوالا، منها ما قال السدي عن ابن عباس وعن ابن مسعود: أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ومعه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، كان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه، وقال هي أختي ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوج بها، وأنهما قربا قرباناً إلى اللّه عزَّ وجلَّ أيهما أحق بالجارية، قرب هابيل جذعة سمينة، وقرب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها، فنزلت النار فأكلت قربانا هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب، وقال لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال هابيل:) إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ((المائدة: من الآية27) )[5]

قال: ولكن القرآن الكريم ذكر قولا واحدا؟

قلت: القرآن الكريم ذكر ذلك.. أين، فأنا لا أراه؟

قال: ألم تسمع إلى قول الحق تعالى:) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ((المائدة:30)، فما سولت له نفسه من المعصية هو السبب، أما ما ذكر من الأسباب، فمجرد خيوط عنكبوت، لأنه إن لم يقتله بهذا السبب قتله بغيره.

قلت: فما علاقة هذا بمد اليد إلى النفس؟

قال: لأن النفس التي استطاعت أن تقهر صاحبها، فيمد يده لقتل أخيه، لن تعجز أن تسول له أن يمد يده للناس يستجديهم.

قلت: لقد اقتنعت بما قلت، لكن أنى لي أن أتخلص من مد يدي إلى نفسي.

قال: بعلمك بتحقق نفسك بعدم أهليتها للاستشارة.

قلت: وكيف أعلم ذلك؟

قال: أربعة صفات في النفس إذا علمتها ارتفعت ثقتك فيها، وكففت عن مد يدك إليها.

قلت: ما هي؟

قال: الجهل والظلم والهوى والخداع.

قلت: لماذا هذه الأربع؟

قال: جهلها يجعلها تكذب عليك في نقل الحقائق.

قلت: وظلمها؟

قال: يجعلها تضع الأشياء في غير مواضعها.

قلت: وهواها؟

قال: يجعلها تسترالروائح المنتنة ببعض العطور السامة.

قلت: وخداعها؟

قال: هو احتيال النفس على نفسها.

الجهل

قلت: فكيف أعرف جهل نفسي؟ ولماذا أبحث عن جهلها؟ ألا يزيدني ذلك حزنا وأسفا وألما؟.. وكل ذلك ينافي السلام الذي تعلمني إياه.

قال: علمك بجهل نفسك هو الذي يدعوك إلى السلام وإلى السعادة وإلى الطمأنينة، ويكف شر نفسك عنك.

قلت: كيف؟

قال: علمك بعلمك يدلك عليك، وعلمك بجهلك يجعلك تبحث عنه.

قلت: زدني توضيحا.

قال: كلام الله سيزيدك توضيحا.. بماذا أجاب قارون الصالحين من قومه عندما قالوا له:) لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ((القصص: من الآية76)

قلت: أجابهم بقوله:) إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي((القصص: من الآية78)

قال: فقد كان يعزل الله إذن عن إعطائه ذلك المال.

قلت: بلى.

قال: فعلمه إذن كان ساترا لجهل عظيم له أثره الخطير في حياته.

قلت: نعم، ولذلك رد القرآن الكريم عليه قائلا:) أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ ((القصص: من الآية78)

قال: أتدري ما يقول له بهذا؟

قلت: نعم، كأنه يقول له:( لماذا اكتفيت بذلك العلم، ولماذا لم تبحث عن علم آخر أهم، وهو العلم بمصاير الأقوام الذين أبيدوا، وعن سبب إبادتهم، ليكون لك ذلك موضع عبرة )

قال: صدقت، ولكن لماذا لم يتعلم قارون هذا النوع من العلم؟

قلت: لعله لم يجد معلما.

قال: لا.. ولكنه لم يجد استعدادا من نفسه لتعلمه.. ولو وجد الاستعداد لأرسل الله له من يعلمه.

قلت: كيف؟

قال: إن العلم الذي عنده، والذي هو في حقيقته جهل يستر علما، منعه من قبول غيره أيا كان ذلك الغير، ألم تسمع قوله تعالى:) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ( (غافر:83)

قلت: بلى، فالله تعالى في هذه الآية يخبر عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر، وماذا حل بهم من العذاب الشديد مع شدة قواهم، وما أثروه في الأرض وجمعوه من الأموال، فما أغنى عنهم ذلك شيئاً ولا رد عنهم ذرة من بأس اللّه، وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات لم يلتفتوا إليهم ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل.

قال: فقد أرسل الله إلى هؤلاء من يعلمهم، ولكنهم لتعالمهم الذي هو عين الجهل وأساس الجهل لم يقبلوا منه.

قلت: نعم، هذا صحيح، وقد وقع فيه أكثر المنحرفين عن الله المجادلين أولياء الله.

قال: بل قل: وقع فيه كل المنحرفين عن الله، فأول خطوة للانحراف هي الجهل، كما أن أول خطوة للتحقيق هي العلم.

قلت: ولهذا جعل الله تعالى علة ما حاق بالقرى من هلاك هو الجهل، كما قال تعالى:) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ( (الأنعام:111)

قال: ألا ترى القوة التي يتمتع بها الجهل في التأثير في صاحبه، وفي صده عن الحقائق؟

قلت: نعم.

قال: بل إن الله تعالى يخبر بأن كل المعجزات لن تستطيع التأثير في الإنسان الجاهل.

قلت: لماذا؟

قال: لأنه سيجد من الحلول ما يغير به الحقائق، ألم تسمع قوله تعالى:) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ((الحجر:14 ـ 15)

قلت: نعم، فالله تعالى يخبر عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق بحيث أنه لو فتح لهم باباً من السماء فجعلوا يصعدون فيه لما صدقوا بذلك بل بل أرجعوا ذلك إلى عماهم أو إلى السحر، كما قال ابن عباس t:( شبّه علينا وإنما سحرنا )

قال: فما سبب عمى أعينهم عن آيات الله؟

قلت: ما جعل فيها من الغشاوة، وما جعل في قلوبهم من الأكنة، كما قال تعالى:) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ((الأنعام:25)

قال: وتلك الأكنة التي منعتهم من معرفة الحقائق ماذا تضع بدلها؟

قلت: الأوهام، والجهل، بحيث تجعلهم يكابرون كل شيء حتى المحسوس، كما قال تعالى:) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ((الأنعام:7)، فهؤلاء كابروا ما لمسوه بأيديهم.

وقال تعالى:) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ((الطور:44) وهؤلاء كابروا المرئي المشاهد.

قال: بل هم كابروا بحواسهم جميعا كل آيات الله، كما قال تعالى:) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ((القمر:2)

قلت: لقد اقتنعت بكل هذا، ولا أحسبني أخالفه.. ولكني لم أفهم علاقة هذا بالاستعفاف؟

قال: الاستعفاف هو بذل الجهد لتحصيل العفاف عن أيدي الناس، وقد عرفنا أن ذلك لا يكون إلا بعد الاستعفاف عن النفس، والنفس لا يستعف عنها إلا إذا علم جهلها.. أيمكن لملك عادل أن يسلم أي وزارة من وزاراته لغير المختصين؟

قلت: هذا محال.. لأنهم سيفسدون ولا يصلحون.

قال: فإذا وكل الإنسان لنفسه الجاهلة تدبير أمره، ألا تكله إلى الخراب؟

قلت: نعم، مثل النفوس التي خربت بنيان قارون وفرعون وجميع المشركين والملحدين.

قال: بل تخريب كل سلوك، ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:(  إن اللَّه عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني! قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني! قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه! أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي! )[6]، فقد أرجع الله جهل العبد بهذه المعاني هو الذي أوصله إلى ذلك التقصير.

قلت: بل أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن تأثير الجهل من الناحية الاجتماعية، فقال:( إن اللَّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )[7]، فقد أرجع - صلى الله عليه وسلم - سبب الضلالة إلى اتخاذ الرؤساء الجهال.

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن الهلاك الذي حاق بالأمم نتيجة تعالمها على كتبها، فقال:( إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه بعضا وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا ولا يكذب بعضه بعضا ما علمتم فيه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه )[8]

قال: فلذلك كانت أول حلقة تقطع من سلسلة الطمع في النفس هي يقينك بجهلها، فيقينك بجهلها يوصلك إلى التعلم منه، فلا يتعلم إلا الجاهل.

قلت: لقد ذكرتني بقوله - صلى الله عليه وسلم -:(  لا يزال الرجل عالما حتى يقول علمت فإذا قالها فقد جهل)

التفت، فلم أر المعلم.. لست أدري هل انصرف عني أم انصرفت عنه.

***

 بعد ذهابه بقيت متأملا ما دار بيننا، فقلت في نفسي: نعم إن الجهل هو الحجاب الأكبر الذي يحيل الحقائق، وهو بالتالي الهاوية الخطيرة التي ينحدر فيها الإنسان إلى أسفل سافلين، ولهذا قال تعالى:) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً((الأحزاب:72)

ولهذا نجد في القرآن الكريم الآيات الكثيرة المخبرة عن جهل الإنسان، فهي ترده إلى حقيقته كما يرد الطبيب الناصح المريض إلى علته ليعالجها بما يقتضيه علاجها من أدوية.

فقد قال تعالى مخبرا عن العلم البشري المحدود:) وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً((الاسراء:85)

وأخبر عن جهل الإنسان باكثر ما تخبئه الأيام، فقال تعالى:) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ((لقمان:34)، وقالتعالى:) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ((لأعراف:188)

وأخبر عن جهل الإنسان بما تتضمنه الأشياء من المصالح والمفاسد، فقال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً((النساء:19)، وقالتعالى:) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ((البقرة:216)، وقالتعالى:) آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ((النساء: من الآية11)

قال لي المعلم، وقد سمع أعماقي تردد كلام الله، وتحاول سماعه: ألا تعلم أن علمك بجهلك هو قمة العلم، فلا يعلم بجهله إلا العالم، أما الجاهل فإنه فرح بما أوتي من العلم!؟

ثم سكت برهة، وكأنه يفكر في شيء يقوله، ثم قال: أتريد أن أضرب لك على ذلك مثالا؟

قلت: لقد عرفت شغفي بما يطلبه خيالي من المدد لتغذية عقلي.

قال: أيهما أكثر تصورا لكثرة جهله بأسرار الكون: العامي البسيط الذي نال بعض الثقافة البسيطة من كتب الأوفاق والنجوم، أم العالم الذي أفنى عمره وراء المراقب؟

قلت: الإجابة بادئ الرأي قد تقول بأن العامي هو الذي يتصور نفسه أكثر جهلا أمام العالم، ولكن أظن أن العالم قد يتصور نفسه أكثر جهلا، فإني أعرف مدى إعجاب العامة بعلومهم.

قال: ذلك صحيح، لأن العامي يتصور الكون كدلو ماء أمامه يمكنه أن يراه بحدوده وتفاصيله، بل يمكنه ـ مع صبر قليل ـ أن يشربه جميعا، ويحتويه جميعا، ولكن العالم يرى الكون كمحيط لا نهاية له، ويرى نفسه بجانبه كقطرة ماء تحاول أن تدرك أعماقه.

قلت: لقد ذكرتني بكلام جميل قرأته في ( نفحات القرآن ) للشيرازي، ولكني نسيت موضعه؟

قال: هو ذا أمامك يحدثك عما نسيت.

التفت فإذا بناصر الشيرازي أمامي، والأنوار التي بثها فيه شغفه بالقرآن الكريم تملؤه هيبة ، فقلت: يا إمام.. لقد قرأت كلاما لك تريد أن تعبر به عن اتساع جهل الانسان بحسب اتساع علم، فالتناسب بينهما بينهما طردي كلما زاد العلم زاد الجهل.

قال الشيرازي: نعم لقد قلت: من العجيب حقّاً أن كل اكتشاف جديد يحصل في هذا العالم يزيد من مجهولات الانسان، وبعبارة اُخرى إن اكتشافات العلماء في مختلف المجالات كاكتشاف مكتبة جديدة، أو اكتشاف كنز قيم في نقاط مختلفة من الارض.

وبديهي فاننا إذا اطلعنا على وجود مكتبة في احدى المدن، أو كنز قيم في خربة فقد أزلنا النقاب عن مجهول واحد، لكن الآلاف من المجاهيل تكشف عن نفسها آنذاك، مثل عدد الكتب ومحتواها وكُتّابها وشخصياتهم وقضايا اخرى من هذا القبيل، كذا الحال بالنسبة للكنز فاذا اطلعنا على وجوده تبلورت مجاهيل عنه في أذهاننا مثل نوعيته ومحتواه..

لا نذهب بعيداً، فان عالم الكائنات المجهرية (المكروبات والبكتريا والفايروسات) كان في يوم ما مجهولا كلياً، وعندما خطا (باستور) الخطوة الاولى عند كشفه لبعض من هذه الكائنات انجلى أمامه عالم كبير من المجهولات.

إن اكتشاف الكواكب (اورانوس) و (نبتون) و (پلوتون) في المنظومة الشمسية وكذا كشف المجرات الجديدة كلها من قبيل كشف (باستور) لعالم الكائنات المجهرية. ومن هنا يجب الاذعان والاعتراف بأن العلوم البشرية كنور الشمعة وأن حقائق هذا العالم العظيم كنور الشمس بل أعظم!

قالها ثم انصرف، وانصرف معه المعلم، أو انصرفت عنهما.

 

***

 بعد ذهابهما سمعت ابن عطاء الله، وهو يقول:( إلـهي أنا  الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولاً في جهلي؟! )

لقد فهمتها كما لم أفهمها من قبل، فأحسست بقشعريرة تسري في بدني، لست أدري هل هي قشعريرة فرح أم قشعريرة ألم.. لا إنها قشعريرة فرح.

لأول مرة أشعر بلذة اتساع جهلي، فكلما اتسع شعور الإنسان بجهله، كلما اتسع علمه، وكلما اتسع علمه كلما اتسعت معرفته، وهل هناك في عوالم الدنيا والآخرة أعظم من لذة المعرفة.

قال لي المعلم، وقد رأى ما أصابني: قشعريرة الجهل هي التي تغذي لطائفك بالعلم، وأعظم علم تعلمه أن تعلم وجود جهلك.

ثم التفت إلي، وقال: أريدك أن تسمع قومك المزهوين بعلومهم وبحضارتهم وبتقدمهم هذه الأقوال من مؤسسي علومهم، فهم لا يثقون في ابن عطاء الله، ولا في إخوان ابن عطاء الله.

قبل أن أسأله، رأيت أمامي فئة يظهر عليهم الرسوخ في العلم عليهم سيما علماء الكون.

قال الأول: ( عندما نفكر بالفضاء اللامتناهي، أو الزمان السرمدي، أو الطاقة العجيبة المودعة في الذرة، أو بالعوالم غير المحدودة والتي تسبح فيها كواكب كثيرة، أو بقدرة تشعشع بعض الكواكب، أو بقوة جاذبية الأرض، أو بالقوانين الاخرى التي يرتبط قوام العالم بها، عندما نفكر بهذه ندرك مدى ضعفنا ونقصان علمنا)[9]

قال الثاني:( إنَّ المساعي التي بذلت في العلوم التي تدرس الانسان لم تصل الى نتيجة مطلوبة، ومعرفتنا لأنفسنا ما زالت ناقصة الى حد كبير )[10]، ولهذا السبب سميت كتابي المشهور ( الانسان ذلك المجهول )

قال الثالث: (علمنا قطرة، وجهلنا بحر عظيم)[11]

قال الرابع: ( أستطيعُ أن أهييء أسئلة ولمدة عشر سنوات عن مجهولات لا تستطيعون الاجابة عليها )[12] 

( نحن نفكر لكن ما هو فكرنا؟ ونمشي، لكن ما هو عملنا العضلي هذا؟ لا أحد يعلم بذلك )

( أرى أنّ إرادتي قدرة غير مادية، لكنني عندما أريد أن أرفع يدي أرى أنّ الارادة غير المادية تحرك يدي، والتى هي عضو مادي، كيف يحصل هذا؟ وما هي الواسطة التي تحول الطاقة غير المادية الى مادية؟ لا يوجد من يجيب على هذا السؤال )

قال الخامس: ( لقد علّمنا كتاب الطبيعة الذي نقرأه الكثير من الأمور وقد عَرِفْنَا أُسس لغة الطبيعة.. لكن رغم قرائتنا للمجلدات وفهمنا لها فانا مازلنا بعيدون عن كشف أسرار الطبيعة )[13]

الغرور

قال لي المعلم: ألم تعلم ما الذي جعل فرعون يدعي الألوهية؟

قلت: قومه، فقد قال تعالى:) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ((الزخرف:54)

قال: وقبل قومه.

قلت: أنا لم أقرأ تاريخ فرعون حتى أعلم مصادر ادعائه الربوبية بالضبط، فقد يكون تأثر في ذلك بالديانات الفارسية أو الهندية..

قال: لا.. فقد ذكر القرآن الكريم ذلك.

قلت: أين؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى:) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ((القصص:38)

قلت: بلى، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في موضع آخر، قال تعالى:) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ((غافر:36 ـ 37)

قال: فما هي العلة التي ذكرها القرآن الكريم، والتي كانت سبب ما ادعاه من دعاوى؟

قلت: أليس هو الغرور الذي جعله يعتقد أنه يعلم العلم الذي لا جهل فيه، أو لا جهل معه.

قال: نعم، فالجهل بالجهل يولد الغرور.

قلت: فالغرور إذن وليد الجهل.

قال: وقد يكون ولدا غير شرعي للعلم.

قلت: كيف؟

قال: إذا حبس في قفص علومه، أو سقط في مهاوي معارفه، أو تاه في ظلمات كتبه وأوراقه.

قلت: ما أرى العلم إلا نورا، فكيف ترميه بالظلام، وما أره إلا حرية، فكيف ترميه بالقفص، وما أراه إلا رقيا، فكيف ترميه بالهاوية.

قال: ذلك هو العلم الذي لا يقف صاحبه عنده، بل يظل دائما صفحة بيضاء تنتظر أقلام الأبد لتكتب عليها.

قلت: فسر لي هذا، وما الفربق بين الجهل والغرور؟

قال: الجاهل قد يسأل، فيتعلم، ولكن المغرور لا يسأل ولا يتعلم.

قلت: وإذا هداه الله، فسأل؟

قال: يسأل ليجادل، لا ليتعلم.

قلت: فإذا هداه الله، وتعلم؟

قال: يتعلم ليضم إلى غروره كبرياءه.

قلت: فما علاقة هذا بمد اليد إلى النفس؟

قال: المغرور لا يمد يده إلا إلى نفسه، لأنه يرى ما عداه أياد ممدودة إليه.

قلت: إذن المغرور لا يكون شحاذا على عتبات المساجد.

قال: قد يكون كذلك، ولكنه يتكبر على اليد التي تمده بالعطاء، وقد يحاول قطعها إن استغنى واكتفى، أترى استحالة ذلك؟

قلت: ربما، فما أكثر ما نسمع عنه من مقابلة الجميل بالكفران، والإحسان بالإساءة.

قال: ولهذا كان الغرور هو منبع جميع الأمراض النفسية.

قلت: كيف.. الأمراض النفسية كثيرة جدا، والمستشفيات تستقبل كل يوم أنواعا جديدة من هذه الأمراض.

قال: ليست المستشفيات وحدها هي التي تستقبل هذا النوع من الأمراض، بل إن الشوارع تعج بها والمدارس والبيوت..

قلت: فكيف يكون الغرور منبعها؟

قال: اسمع القرآن الكريم، وستجد كيف تدلى الخلق بحبال الغرور في مهاوي السخط.

قلت: نعم.. القرآن الكريم يذكر كثيرا الغرور باعتباره سببا من أسباب الكفر والضلالة، فقد قال تعالى عن بني إسرائيل الذين تصوروا أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة:) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ((آل عمران:24)

قال: وتحسب ذلك خاصا ببني إسرائيل؟

قلت: لا أظن أن في هذه الأمة المرحومة من ادعى أنه لن يمكث في النار إلا أياما معدودات بسبب ذنوبه.

قال: إن كلمة ( الأمة المرحومة ) التي ذكرتها منبع غرور للكثيرين.

قلت: كيف، فهذه الأمة مرحومة بلاشك.

قال: ولكن كل من ولد في هذه الأمة يتصور أنه من المرحومين، ولو بغير عمل يعمله، أو حسنة يقدمها، ولعله يتصور نفسه يحمل في صدره صكا من صكوك الغفران التي تقول له:( اعمل ما شئت فقد غفرت لك )

قلت: هذه حقيقة، وكل المبشرات تدل على هذا.

قال: وعلى ماذا يدل قوله تعالى:) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً( (النساء:123)

قلت: نعم.. إن الآية تقرر أن الجزاء الإلهي لا يخضع لأماني الناس، بل يخضع لقانون واحد يشمل الجميع.. ولكن مع ذلك فنحن..

قاطعني، وقال: الله رب الجميع، ألم تسمع قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ((الحجرات:13)، فهل قال الله تعالى أكرمكم فلان أو فلان.

قلت: لقد ذكرتني بقول ابن عباس t:( ثلاث آيات جحد من الناس) وذكر منها قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ((الحجرات:13)، قال: ويقولون: إن أكرمهم عند اللّه أعظمهم بيتاً )

واصل قوله، وكأنه لم يسمع ما قلت:.. ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:(  أيها الناس إنكم محشورون إلى اللّه عزَّ وجلَّ حفاة عراة غرلا:) كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ((الانبياء: من الآية104)، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح:) وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ((المائدة:117 ـ 118)، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم )[14]

قلت: ولكني أسمع قومي يعتبرون النسب ويعظمونه، بل يجعلونه أساسا في علاقاتهم، ومن ينكر فضل آل بيت النبوة؟

قال: آل بيت النبوة لهم حرمتهم المرتبطة بطاعتهم لله، ولا حرمة لهم إن عصوه، ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم - لآل بيته وأقاربه لما نزل قوله تعالى:) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ((الشعراء:214):( يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني واللّه لا أملك لكم من اللّه شيئاً إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلاها )[15]

وفي رواية قال - صلى الله عليه وسلم -:(  يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من اللّه، يا صفية عمة رسول اللّه ويا فاطمة بنت رسول اللّه اشتريا أنفسكما من اللّه، فإني لا أغني عنكما من اللّه شيئاً، سلاني من مالي ما شئتما )[16]

قلت: لقد ذكرتني بكتاب كتبه بعض المعاصرين من قومي لا في فضل الأشراف، وإنما في فضل عصاة الأشراف، وامتدحهم فيه بمدائح لم يمدح بها نبي مرسل، ولا ولي مقرب.

قال: ثم تظن بعد هذا أن هذا الغرور خاص ببني إسرائيل.. إن كل ما في القرآن الكريم لهذه الأمة، ولكنكم هربتم من الحقائق التي تواجهكم لتحولوه قصصا تسرد، وحكايات تروى، وأمثالا يلغز بها.

قلت: يا معلم، النسب إذن سبب من أسباب الغرور، ولكنه خاص بفئات محدودة، وقومي ـ عموما ـ لا يكادون يعتبرونه.

قال: ولكنهم يعتبرون ما هو أخطر من النسب.

قلت: وماذا يعتبرون؟

قال: أم الخطايا.

قلت: لست أعرف للخطايا أما، ولا أبا.

قال: حب الدنيا هو رأس الخطايا وأمها وأصل أصولها، ألم تسمع قوله تعالى:) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ((آل عمران:185)

قلت: بلى، فقد وردت الآيات الكثيرة المحذرة من الاغترار بالدنيا، فالله تعالى يقول:) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ((الأنعام:70)

وقال تعالى:) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ((لأعراف:51)

وقال تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ((لقمان:33)

وقال تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ((فاطر:5)

وقال تعالى:) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ((الجاثـية:35)

وقال تعالى:) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ((الحديد:20)

قال: أتعلم الحبال التي يتدلى منها الغررو بالدنيا؟

قلت: ما هي.. دلني عليها لأقطعها وأخلص الخلق منها؟

قال: هي حبال الشيطان، ألم تسمع قوله تعالى:) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ((لأعراف:22)

ألم تسمع قوله تعالى:) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ((الأنعام:112)

ألم تسمع قوله تعالى:) )يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً((النساء:120)

ألم تسمع قوله تعالى:) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً((الاسراء:64)

 

***

قلت: يا معلم.. لقد جلنا جولة في رحاب القرآن الكريم عرفنا من خلالها خطر الغرور وثماره، فما علاقة ذلك بالاستعفاف، وما علاقة ذلك بالفقراء؟

قال: مد اليد بالسؤال علة خطيرة لا تكفي في معالجتها المراهم التي تداوون بها جراحكم، بل لا بد من عملية ضخمة تبدأ من تصحيح الذات، وتصحيح الذات لا يمكن إلا بالتعرف عليها وعلى مواضع الغرور منها.

قلت: فاذكر لي مثالا على تأثير الغرور في هذا؟

قال: اسمع قوله تعالى:) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ((آل عمران:196)، وقوله:) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ((غافر:4)

قلت: في هاتين الآيتين يحذر الله تعالى من الاغترار بما حصل للكفار من أنواع المتاع الدنيوي.. ولكن لماذا حذر من هذا الاغترار؟

قال: لأن الغرور هو نقطة الضعف التي يتسرب منها الشيطان ليملأ قلب الإنسان هما وحزنا على حاله الهزيل، ويقارنه بحال المنتفخين، فإذا ما حصل الاغترار طلب الهزيل أن ينتفخ بنفس الأسلوب الذي انتفخ به غيره، فيقع فيما وقعوا فيه.

قلت: أريد توضيحا أكثر.

قال: أرأيت لو أن سلطانا عادلا اتخذ وزيرا مغرورا، أيمكنه أن يدير دفة وزارته إدارة تتناسب مع عدل السلطان؟

قلت: لا، بل قد يشوه عدل السلطان، بل قد يرمى بالجور لغرور وزيره.

قال: أرأيت لو أن وزير الحرب كان جاهلا بقوة جيش السلطان، ولكنه مع ذلك مغرور، أيمكن أن يزف البلاد إلى حرب لا طاقة لها بها؟

قلت: نعم، ذلك ممكن جدا خاصة إذا تصور أنه لن يحقق ذاته إلا بخوض الحروب.

قال: فكذلك النفس لو أمرت عليها الغرور، فإنها ستتردى في حروب لا طاقة لها بها، ليس مع ذاتها فقط، بل مع ذاتها ومع الناس ومع الله.

قلت: فما الحل؟

قال: أن تهرب منها إلى الله، فلا تمد يدك إلا إليه، ألم تسمع ما قال الصالح:( دع نفسك وتعال )

قلت: كيف أدع نفسي، وهي أنا؟

قال: دع ما يحول بينك وبين ربك من نفسك، فلا يمكن أن تمد يدك إليه ويدك ممدودة إلى نفسك..

ثم التفت إلي، فرأى تساؤلات كثيرة في عيني فقال: أتعلم ما هو أشد المواقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فترة رسالته الأولى قبل البعثة.

قلت: أشدها ذهابه إلى الطائف، حيث تقطن ثقيف، وهي تبعد عن مكة نحو الخمسين ميلاً، سارها محمد - صلى الله عليه وسلم - على قدميه جيئة وذهوباً، فلما انتهى إليها قصد إلى نفر من رجالاتها الذين ينتهي إليهم أمرها، ثم كلمهم في الإسلام ودعاهم إلى الله، فردوه -جميعاً- رداً منكراً، وأغلظوا له الجواب. ومكث عشرة أيام، يتردد على منازلهم دون جدوى.

فلما يئس الرسول - صلى الله عليه وسلم - من خيرهم قال لهم: إذا أبيتم، فاكتموا عليَّ ذلك -كراهية أن يبلغ أهل مكة، فتزداد عداوتهم وشماتتهم- لكن القوم كانوا أخس مما ينتظر. قالوا له: اخرج من بلدنا، وحرّشوا عليه الصبيان والرعاع فوقفوا له صفين يرمونه بالحجارة. وزيد بن حارثة يحاول الدفاع عنه حتى شج في ذلك رأسه.

وأصيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أقدامه، فسالت منها الدماء واضطره المطاردون إلى أن يلجأ إلى بستان لعتبة، وشيبة، ابني ربيعة، حيث جلس في ظل كرمة يلتمس الراحة والأمن[17].

قال: وعندما استراح في ذلك البستان، وهو في تلك الحال، هل مد - صلى الله عليه وسلم - يده إلى نفسه يطلب منها إغاثته بصنوف الحيل ليخرج من ذلك المأزق؟

قلت: لا، بل روى علماء السير أنه بمجرد جلوسه في ظل الكرمة أخذ يدعو الله قائلا:( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس..أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي.. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي..!!

أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.. )

قال: فهل شكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى ربه؟

قلت: لا، بل شكى نفسه، واستعاذ من غضب ربه عليه، وقد روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:  يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال، فلم يجبنى الى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهى، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسى فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت فإذا فيها جبريل فنادانى فقال إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، قال: فنادانى ملك الجبال وسلم علىّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثنى ربك إليك لتأمرنى بأمرك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(  بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً )

قال: فلو كان في هذا الموقف مغرور بنفسه معظم لها ماذا كان سيفعل؟

قلت: ربما..

التفت، فلم أر المعلم، لقد ترك البحث عن الإجابة على السؤال يجول في خاطري، ثم انصرف عني أو انصرفت عنه.

بعد انصرافه رأيت أن أحسن وسيلة للإجابة على سؤال المعلم هي أن أعرض نفسي على ذلك الموقف لأرى ما الذي سيمكن أن أفعله.

لقد تصورت نفسي مادا يدي إلى الله أسأله أن يدمرهم ويبيد خضراءهم ويقطع نسلهم ويشردهم، فيذوقوا من الأهوال أضعاف ما ذقت.

أو رأيتني أقول لنفسي:( لئن تمكنت منهم لأرينهم شر ما صنعوا )

قال لي معلم السلام: وتبقىوحدك بعدها مع وزيرك المغرور الذي حرم أمما من فضل الله بسبب موقف من مواقف الأنفة.

قلت: لقد ذكرتني بمتسول كان يمد يده إلى الناس، وكان يختلف عن سائر المتسولين في أنه لا يدعو لمن أعطاه، وإنما يدعو على من لم يعطه.. وكان مع ذلك أكثر المتسولين مكاسب، فالناس يخافون من دعوات السوء أكثر من رجائهم لدعوات الخير..

 

 

الهوى

قال لي معلم السلام: الصفة الثالثة التي تجعلك تمد يدك إلى نفسك هي الهوى.

قلت: ما الهوى؟

قال: هو وزير من وزراء النفس تعرض عليه الحلول المختلفة لجميع المشاكل، فلا يبصر منها إلا ما يوافق ذوقه.

قلت: وماذا يفعل بالحلول الأخرى؟

قال: يرميها، أو يتهمها، أو ينكرها، أو يلتمس صنوف الحيل ليقنع عقله بمخالفتها.

قلت: ولكن الدين أعظم من العقل، فنوره أكثر امتدادا من امتداد العقل، فلذلك قد تقتنع حقيقة الإنسان بما يمليه الدين، ويترك ما يمليه العقل الذي سلم نفسه للهوى.

قال: ولكن الدين نفسه قد يصبح لعبة بيد صاحب الهوى.

قلت: ولكن الدين بيد الله، ولا يمكن أن يصبح بيد أحد من الناس؟

قال: ألم تعلم بأن الهوى من أخطر أسباب تحريف الأديان، ومن أكبر سراديب الاعتراض؟

قلت: بلى، فقد قرأت في القرآن الكريم كثيرا من هذا، قال تعالى:) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ((محمد:16)، وقالتعالى:) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ((القصص:50)، وقالتعالى:) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ((المائدة:70)، وقال تعالى:) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى((لنجم:23)

ثم أخذت نفسا عميقا، وقلت: الحمد لله لقد من الله على هذه الأمة، فحفظ كتابها وسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم - بل هدي سلفها الصالح، فلذلك لم تستطع كل شياطين الهوى أن تبدل هذا الدين أو تغيره.

قال: نعم، هذا من رحمة الله، ولكن للهوى سلطانه على النفوس، فلذلك قد يفسر الحق الذي لا مرية فيه بالباطل الذي لا شك فيه، أولم تسمع نهي الله لهذه الأمة عن طريق نبيها من الجثو أمام الأهواء، ألم تسمع قوله تعالى:) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ((الرعد:37)، وقوله تعالى:) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ((الجاثـية:18)، وقوله تعالى:) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ((الشورى:15)

قلت: أيمكن للهوى أن يقلب الحقائق المستقرة؟

قال: في نفس صاحب الهوى تنقلب الحقائق انقلابا تاما.

قلت: لماذا؟

قال: ألم تعلم بأن الهوى قد يتحكم في الإنسان فيصير معبودا له من دون الله، ألم تسمع قوله تعالى:) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ((الجاثـية:23)؟

قلت: بلى، وقد سمعت أن الله تعالى قال لموسى u:( يا موسى، خالف هواك فإني ما خلقت خلقا نازعني في ملكي إلا الهوى )

قال: فإذا انقلب وزير الهوى على الملك إلها واستوى على عرشه، أيمكن لأحد أن يقنعه باتباع حق أو بالارتداع عن باطل؟

ثم انصرف عني أو انصرفت عنه.

وبقيت متأملا هذا الخطر العظيم الذي يحيق بالإنسان، فأصابني ذعر عظيم أن أجد على عرش قلبي ملكا عنيدا ظالما متجبرا يقلب الحقائق ويصارع الله، فصحت من أعماقي: كيف أنقلب على هواي؟

قال: برفع ثقتك من نفسك، وبتركك الأمل فيها، وباللجوء إلى الله.

قلت: فما مثل ذلك؟

قال: إذا أراد الوزير الانقلاب على الملك، ماذا يفعل؟

قلت: يستعين بالجند وبكل ما أمكنه من طاقات.. ولكن الهوى أخطر من الملك فهو يدعي الألوهية من دون الله.

قال: فحاربه بالله.

قلت: كيف؟

قال: بمد يدك إليه.

قلت: وكيف أمد يدي إليه؟

قال: بعدم مدها إلى نفسك، ألم تسمع قوله تعالى:) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ((النازعـات:41)

 

 

الخداع

قال لي معلم السلام: الصفة الرابعة التي تجعلك تمد يدك إلى نفسك هي قدرة نفسك العظيمة على الخداع.

قلت: وما الخداع؟

قال: هو وزير من وزراء النفس يضع لك الحيل المختلفة، ويوجد لك الحلول لمختلفة، ولكنها كلها ترمي بك في الهاوية.

قلت: لعلك تقصد ما قال الغزالي في قوى النفس:( والعبد الجالب للميرة كذاب مكار خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل وديدنه وعادته منازعة الوزير الناصح في آرائه وتدبيراته حتى لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة )[18]

قال: نعم رحم الله الغزالي، فقد كان خبيرا بالنفوس.

قلت: ولكن كيف أكتشف خداع نفسي لي، وكيف أفرق بين نصائح الوزير الناصح، وخداع العبد المحتال؟

قال: بخروجك من نفسك ورفعك ثقتك عنها، وعودتك إلى الله.

قلت: أتضرب لي أمثلة على خداع النفس.

قال: نعم، سأضرب لك مثالين على خداع النفس، وتلاعبها بصاحبها.

المثال الأول:

قلت: فما المثال الأول؟

قال: خدعة اسمها ( خدعة الإحسان السابق )

قلت: ما هي هذ الخدعة؟

قال: عبر عنها شاعركم بقوله:

لقد أحسن الله فيما مضى       كذلك يحسن فيما بقي

قلت: هذا قياس، ولعل معناه صحيح، فإن صاحب الإحسان السابق لا يستغرب منه الإحسان اللاحق.

قال: والمخادع هو الذي يلبس لباس الحق ليشتري به الباطل أو ليبيع به الباطل.

قلت: فأي باطل هذا الذي يريد ببيعه أو شراءه؟

قال: هو باطل الهوى، فهو كلما هوى شيئا اشتراه بمخادعته لنفسه، ألم تسمع قوله تعالى في خبر الرجلين المتحاورين:) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً((الكهف:36)؟

قلت: لقد روى المفسرون في قصة هذا الكافر أنه بنى قصراً بألف دينار واشترى بستاناً بألف دينار وخدماً بألف دينار وتزوّج امرأة على ألف دينار، وفي ذلك كله يعظه المؤمن ويقول: اشتريت قصراً يفنى ويخرب ألا اشتريت قصراً في الجنة لا يفنى واشتريت بستاناً يخرب ويفنى ألا اشتريت بستاناً في الجنة لا يفنى وخدماً لا يفنون ولا يموتون وزوجةً من الحور العين لا تموت وفي كل ذلك يرد عليه الكافر ويقول: ما هناك شيء، وما قيل من ذلك فهو أكاذيب وإن كان فليكونن لي في الجنة خير من هذا.

ومثله ما روي عن خباب بن الأرت t أنه قال: كان لي على العاص بن وائل دين فجئت أتقاضاه فلم يقض لي فقلت: إني آخذه في الآخرة؛ فقال لي: إذا صرت إلى الآخرة فإن لي هناك مالاً وولداً أقضيك منه. فأنزل الله تعالى قوله:) )أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً((مريم:77)، وقال الله تعالى:) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ((فصلت:50)

ثم التفت إلى المعلم، وقلت: ولكن كيف احتالت النفس على نفسها بهذه الحيلة؟

قال: هو ذا الغزالي أمامك يجيبك على ذلك.

التفت، فإذا الغزالي يقول من غير أن أسأله: سببه قياس من أقيسة إبليس نعوذ بالله منه، وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعمة الآخرة، وينظرون مرة إلى تأخير العذاب عنهم فيقيسون عليه عذاب الآخرة، كما قال تعالى:) وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ((المجادلة: من الآية8)، فقال تعالى جواباً لقولهم:) حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ((المجادلة: من الآية8)

ومرة ينظرون إلى المؤمنين؛ وهم فقراء شعث غبر فيزدرون بهم ويستحقرونهم، فيقولون:) أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ((الأنعام: من الآية53) )، ويقولون:) لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ((الاحقاف: من الآية11)

وترتيب القياس الذي نظمه في قلوبهم أنهم يقولون: قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا، وكل محسن فهو محب، وكل محب فإنه يحسن أيضاً في المستقبل[19].

قلت: أليس كل محسن محب، أو لم تستدل أنت على كون الله محبا لنا بإحسانه إلينا؟

أجابني المعلم بدله، فقال: نعم كل محسن محب، ولكن من قال لهم: إن هذا إحسان محبة، ألم يجعل الله الدنيا دارا للابتلاء، كما قال تعالى:) وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً((الانبياء: من الآية35)، فالله تعالى يبتلي بالغنى كما يبتلي بالفقر، ويبتلي بالقوة كما يبتلي بالعجز.

قال: سأضرب لك على ذلك مثالا، فلو كان لرجل ( عبدان صغيران يبغض أحدهما ويحب الآخر، فالذي يحبه يمنعه من اللعب ويلزمه المكتب ويحبسه فيه ليعلمه الأدب، ويمنعه من الفواكه وملاذ الأطعمة التي تضره، ويسقيه الأدوية التي تنفعه. والذي يبغضه يهمله ليعيش كيف يريد فيلعب ولا يدخل المكتب ويأكل كل ما يشتهي، فيظن هذا العبد المهمل أنه عند سيده محبوب كريم لأنه مكَّنه من شهواته ولذاته وساعده على جميع أغراضه فلا يمنعه ولم يحجر عليه، وذلك محض الغرور، وهكذا نعيم الدنيا ولذتها فإنها مهلكات ومبعدات من الله )[20]

قلت: لقد فهمت هذه الخدعة، وما أكثر انتشارها بين قومي، بل إن القرآن الكريم نص عليها باعتبارها مغالطة من المغالطات الكبرى التي قد يخدع بها كل إنسان إلا أولو الألباب، فقال تعالى:) فأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ((الفجر:15 ـ 16)

المثال الثاني:

قلت: لقد فهمت المثال الأول، ورأيت نوع المغالطة فيه، فهات المثال الثاني.

قال: هذه الخدعة تسمى خدعة النعامة.

ضحكت، وقلت: وما خدعة النعام؟

قال: أنتم تنسبون أشياء كثيرة للحيوانات، فتسمون الرقص الماجن ( رقصة البجعة )، فكيف غابت عنكم ( خدعة النعامة )؟

قلت: لا أدري.. أرقصة هي كذلك؟

قال: هي نوع من رقص الشياطين على عقل الإنسان.

قلت: أفيتحول عقل الإنسان بذلك إلى مرقص.

قال: إن العقل الذي يستطيع أن يصير عرشا للملوك، وجنة من جنان الكمال، وجامعة من جامعات العلم، لن يستحيل عليه أن يصير مرقصا أو مستنقعا أو ساحة حرب.

قلت: فاشرح لي هذه الخدعة حتى لا تنطلي علي.

قال: هو ذا بديع الزمان أمامك يشرحها لك.

التفت فإذا بديع الزمان يقول من غير أن أسأله: يحكى أنه قيل للنعامة ( إبل الطير ): لـماذا لا تطيرين؟ فانك تـملكين الـجناح، فقبضتْ وطوتْ جناحيها قائلةً: أنا لست بطائر بل إبل، فأدخلت رأسها في الرمل تاركةً جسدها الضخـم للصياد، فاستهدفها.

ثم قالوا لـها: فاحـملي لنا إذن هذا الـحـمل إن كنتِ إبلا كما تدّعين، فعندها صفّت جناحيها ونشرتهـما قائلة: أنا طائر، وتفلت من تعب الحمل. فظلت فريدة وحيدة دون غذاء ولا حماية من أحد وهدفاً للصيادين.

قلت: هذه حكاية جميلة متداولة، فما وجه الخدعة فيها؟

قال: هذا المثال ينطبق تماما على النفس المخادعة التي تحاول أن تتهرب من التكاليف الحلوة اللذيذة لتقع في الحفر التي لم تحسب حسابها، ( وهكذا الكافر، بعد أن تزحزح من كفره المطلق أمام النُذر السماوية القرآنية تردّى في كفر مشكوك. فإذا سئُل: كيف تستطيع العيش وأمامك الـموت والزوال اللذين تدعى أنهـما انعدام أبدي؟ فهل يتـمكن من الـحياة ويتـمتع بها من كان يسير بـخطاه إلى حبل الـمشنقةَ؟ يـجيب: لا، ليس الـموت عَدَماً، بل هناك احتـمال للبقاء بعدَه )

فهذه النفس المخادعة شأنها شأن النعامة حينـما ترى الـموت والزوال عَدَماً تحاول أن ينقذ نفسها من تلك الآلام بالتـمسك بالإيـمان بالآخرة، والذي ولّد عندها احتـمالاً للـحياة بعد الـموت.

فإذا ما قيل لـها:( فما دام الـمصير إلى عالـم البقاء، فلـم إذا لا تؤدي الواجبات التي يفرضها عليك هذا الإيـمان كي تسعد في ذلك العالـم؟ ) تجيب من زاوية كفرها وشكها:( ربـما ليس هناك عالـم آخر، فلـم إذن أرهق نفسي؟! )

ما إن سمعت هذا حتى أحسست بجوهرة عظيمة تتنزل على نفسي تنجلي بنزولها بعض الظلمات.

2 ـ لا أمل فيهم

وقفت مع المعلم أمام الجوهرة الثانية من جواهر الاستعفاف، فسألت المرشد عنها، فقال: هذه جوهرة ( لا أمل فيهم )

ابتسمت في نفسي من هذه الأسماء الغريبة، ثم التفت إلى المعلم ليشرح لي حقائقها، فلا يمكن أن أنالها بدون الوصول إلى حقيقتها والاقتناع بها.

نظر إلي المعلم، وقال: إن أردت أن تيأس مما في أيدهم فقل:( هم فقراء.. هم عاجزون.. هم ظالمون.. هم بخلاء )

قلت: هم فقراء.. هم عاجزون.. هم ظالمون.. هم بخلاء.. لكن يا معلم لا أرى هذه الكلمات أغنتني شيئا.

قال: أنت تداوي جرح رجليك بمسح المرهم على يديك.

قلت: كيف؟

قال: ذلك الدواء الذي وصفته لك لا تأكله بفمك.. بل دع قلبك يلتهمه ليمسح عنه ذلك الأمل الكاذب.

قلت: ولكن القلب لا يأكل ولا يشرب، ولا تعتريه العوارض.

قال: بلى يأكل ويشرب.. يأكل الحكمة ويشرب العلم.. لينبت شجرة الإيمان التي قال فيها الله تعالى:) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ((ابراهيم:24)

قلت: وكيف آكل تلك الكلمات، وكيف أشربها؟

قال: بأن تتعلم ما فيها من حقائق الحكمة، فلا يمكن لأشعة جوهرة ( لا أمل فيهم ) أن تنزل على صدرك لتحققك بحقائق الاستعفاف إلا إذا علمت ما فيها.

قلت: وما فيها؟

قلت: فيها الترياق الذي يرفع أملك عن الخلائق.

قلت: لماذا أرفع أملي من الخلائق؟

قال: لترفع يدك عنهم، فإن يدك لا تمتد إلا لمن تطمع فيه.

ثم التفت إلي، وقال:( لن تمد يدك إليه إلا إذا لم تمدها لغيره )

قلت: فلنفرض أني قطعت أملي من الخلائق؟

قال: تلك أول خطوة تحققك بالاضطرار، ألم تسمع الحق تعالى وهو يقول:) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ((النمل:62)؟

قلت: أتحققي بالاضطرار نعمة؟

قال: من أكبر نعم الله عليك أن لا تحتاج إلا إليه، وأن لا تمد أعناق همتك إلا إليه.

قلت: لكأني بك تقصد قول ابن عطاء الله:( لا تتعد نية همتك إلى غيره، فالكريم لا تتخطاه الآمال )

قال: فمن الكريم هنا؟

قلت: الله، فهو الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يبالي كم أعطى، ولا لمن أعطى، وإن رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفي عاتب وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به والتجا، ويغنيه عن الوسائل والشفعاء.

قال: فهل يستحق هذه الصفات بكمالها أحد من خلق الله؟

قلت: لا.. فذلك مستحيل.. فإن مثل هذا الكرم لا يمكن أن يكون إلا ممن خزائنه لا تنفذ.. أما خزائننا فسريعة النفاذ.. ولو امتلأت ففينا من البخل ما يمنع التكرم بها.

قال: فلماذا إذن تتخطون الرقاب، ولماذا تتركون عزة المادين أيديهم إلى الله لتسحقوا في ذلة المادين أيديهم إلى خلقه.

ثم سكت هنيهة، وأخذ يردد قول الشاعر الصالح:

حرام على من وحد  الله ربه
 

وأفرده أن  يجتدي أحداً رفدا
  

ويا صاحبي قف بي مع  الحق وقفة
 

أموت بها وجداً وأحيا بها وجدا
  

وقل لملوك الأرض تجهد جهدها
 

فذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى
  

ثم التفت إلي، وقال: ألم تسمع ما قال الحكيم بعد تلك الحكمة؟

قلت: بلى، فقد قال:( لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك، فكيف يرفع غيره ما كان هو له واضعاً؟ من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه، فكيف يستطيع أن يكون لها عن غير رافعاً؟ )

قال: فهذه الجوهرة شرح لتلك الحكمة.

قلت: فلماذا كانت هذه الأربع هي الترياق الذي يقيني من مد همتي إلى الخلائق.. فقد ذكر الله تعالى الإنسان بسلبيات كثيرة غير هذه:

فهو كثير النسيان وناكر للجميل , كما قال تعالى:) وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ((يونس:12)

وهو موجود ضعيف، كما قال تعالى:) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً((النساء:28)

وهو ظالم وكافر، كما قال تعالى:) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ((ابراهيم: من الآية34)

وهو بخيل قتور، كما قال تعالى:) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً((الاسراء:100)

وهو عجول، كما قال تعالى:) وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً((الاسراء:11)

وهو مجادل خصيم، كما قال تعالى:) وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً((الكهف: من الآية54)

وهو موجود قليل التحمل والصبر, يبخل عند النعمة , ويجزع عند البلا، كما قال تعالى:) إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً((المعارج:19 ـ 21)

وهومغرور، كما قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ((الانفطار:6)

وهو طاغية عند الغنى، كما قال تعالى:) كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى((العلق:6 ـ 7)

فلماذا اكتفيت بهذه الأربع عن هذه الصفات جميعا؟

قال: خصائص الإنسان كثيرة كما ذكرت، بل هي أكثر مما ذكرت، فإن كل صفة مذكورة يتفرع عنها صفات أخرى، تجعل الإنسان مستعدا لأن ينزل أسفل سافلين، ولكنا نتحدث هنا عن الصفات التي تيئسك مما في أيديهم.

قلت: فما وجه الحصر في هذه الصفات؟

قال: إذا علمت مساواتهم لك في الفقر لم تمد يدك إليهم، وهل يمد مريض يده لمريض مثله.. وهل يمد غريق يده إلى غريق.

قلت: ولكن الناس ليسوا كلهم فقراء، فلذلك لا أمد يدي إلا إلى الأغنياء منهم.

قال: فهم بخلاء.. يكنزون أموالها، ويخافون إهدارها عليك وعلى أمثالك.

قلت: ولكن فيهم الكرام، وهل عقمت الأرحام أن يلدن مثل حاتم؟

قال: فهم ظالمون يضعون كرمهم في المواضع التي لا تصيبك.

قلت: سأعرفهم بحاجاتي التي أعرفها وأشرحها لهم.

قال: فهم عاجزون.. لأن حاجاتك أكثر من أن يسدها فقير وظالم وبخيل وعاجز.

قلت: يا معلم، لدي شبهة هنا، قد يتعلق بها من يتعلق.

قال: وما هي؟

قلت: إن هذه المعارف تحيلني يائسا قانطا، أليس القنوط كفرا؟

قال: ذلك هو القنوط من الله، واليأس من رحمته، فقد قال تعالى على لسان يعقوب u:) وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ((يوسف: من الآية87)

قلت: ومع ذلك، فقد يقاس اليأس من الخلق باليأس من رحمة الله بنوع من القياس أليس الخلق واسطة من وسائط الفضل!؟.. فاليأس من وسائط الفضل يأس من الموسوط صاحب الفضل.

قال: ألا تعلم أن أول من قاس إبليس حين قال:) أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ((لأعراف: من الآية12)؟

قلت: تخليت عن القياس.. فأنا لا أكاد أومن بالقياس.. ولكن ماذا يفيدني أن أعلم فقر الخلائق وعجزها وبخلها وجهلها.

قال: يخلصك من عبوديتهم والأمل مما في أيديهم ويجعل أملك في الله.

قلت: فكيف لقلبي أن يرفع الأمل من الخلق، ويتحقق باليأس مما في أيديهم.

قال: بتعلم حقائق هذه الكلمات، فإن القلب لا يتغذى إلا االكلمات النابعة من منابع الحكمة.

الفقر

قال: أول حقيقة يتشربها القلب لتبث فيه اليأس من أيدي الخلائق أن يعلم فقرهم.

قلت: فالفقر إذن ليس خاصا بفلان من الناس، ولا بدولة من الدول.

قال: الفقر هو سمة الكون جميعا.. أما الغني الوحيد في هذا العالم فهو الله تعالى، ألم تسمع قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ( (فاطر:15)

قلت: فهلا أفهمت بصيرتي ما تعنيه هذه الآية.

قال: الفقر في حقيقته هو الحاجة، وهي ليست مختصرة في ما اصطلح عليه الناس من أصناف الحاجات، بل هي كل شيء وهبه الله تعالى لعباده ابتداء من وجودهم، وانتهاء بالأرزاق التي تفاض عليهم في كل حين.

قلت: فاضرب لي أمثلة على ذلك تجعلني أتصور الحقائق، فلا يمكنني تعقل الحقائق قبل تصورها.

قال: ما هي أصناف الحاجات التي يحتاج الخلق إلى سدها؟

قلت: هي كثيرة جدا، ففي الإنسان من الحاجات بحسب عدد خلاياه.. بل بحسب عدد الذرات التي يتشكل منها بنيانه.

قال: ففي الإنسان من الفقر إذن بحسب الذرات التي يتشكل منها بنيانه.

قلت: كيف؟

قال: لأن الفقر هو الحاجة.. ففي كل ذرة حاجة من الحاجات.. وفاقة تستدعي أن تسد.

قلت: هذا صحيح.. ولكن لحاجات الأغنياء ما يسدها بخلاف حاجات الفقراء.

قال: الأغنياء يسدون جزءا من مليون جزء من حاجاتهم.. أو هو جزء لا يكاد يرى.

قلت: كيف؟ أكل تلك الثروات التي يمتلكونها.. والخزائن التي يوصدونها.. والأموال التي يرصدونها لا يسدون بها إلا حويجات قليلة.

قال: بل في الحقيقة لا يسدون شيئا، ألم تسمع موعظة ابن السماك حين دخل عل بعض الخلفاء..

قلت: وبيد الخليفة كوز ماء يشربه، فقال له:( عظنى ) فقال:( لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشان، فهل كنت تعطيه؟ قال:  نعم فقال:( لو لم تعط إلا بملكك كله، فهل كنت تتركه؟ قال: نعم قال: فلا تفرح بملك لا يساوى شربة ماء.

قال: فهل فهمت ما في هذه الحكمة من حكمة؟

قلت: هي واضحة، فنعم الله على عباده لا تعد ولا تحصى، وكأنه يقول له: إن نعمة الله تعالى على العبد فى شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها.

قال: فنعم الله إذن لا تعد، ولا تحصى؟

قلت: أجل، بل قد ورد التنصيص على هذا مرتين في القرآن الكريم، قال تعالى:) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ((ابراهيم: من الآية34)، وقالتعالى:) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ((النحل:18)

قال: فلماذا تنزل نعم الله؟

قلت: تنزل من فضل الله وجوده، فالله كريم جود:

وَهُوَ الجَوَادُ فَجُودُهُ عَمَّ الوُجُو
 

دَ جَمِيعَهُ بِالفَضْلِ وَالإحْسَانِ
  

وَهُوَ الجَوَادُ فَلا يُخَيِّبُ سَائِلاً
 

وَلَوْ أنَّهُ مِنْ أُمَّةِ الكُفْرَانِ
  

قال: لم أسألك عن مصدر النعم، وإنما سألتك عن علل نزولها.

قلت: هي تنزل لتسد حاجات الخلائق.

قال: كيف يكون ذلك؟

قلت: يعني أن الجود الإلهي يسد فاقة الجوع بالإطعام، كما يسد فاقة البرد باللباس، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي:( يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم )

قال: فأنت تقر إذن بأن نعم الله لا تحصى، وأن فضله لا يعد، ثم تذكر بأن ذلك الفضل وتلك النعم غايتها سد حاجات الخلق.

قلت: كل هذا صحيح، فما علاقته بفقر الخلائق؟

قال: إن هذا يوصلك إلى حقيقة فاقة الخلائق، لأنه لولا حاجاتهم الكثيرة غير المحصورة لما نزلت النعم غير المحصورة، والفاقة هي عين الفقر.

ثم التفت إلي، فرأى بعض سحابة في وجهي، فقال: أعلم حاجتك لتوضيح أكثر.. ثم أشار بيده فإذا صورة لعالم جليل تقف أمامي.

قال لي: هاهو ذا ناصر مكارم الشيرازي يزيدك توضيحا.

نطق ذلك العالم الجليل، والمفسر الخبير يقول:( الفقر يشمل كلّ إحتياج في الوجود بأسره، فانّنا ومن أجل مواصلة الحياة الماديّة بحاجة إلى ضوء الشمس، والماء، والهواء، وأنواع من الغذاء والملبس والمسكن.

ولبقاء الحياة في الجسم نحن بحاجة إلى الأجهزة الباطنية من قلب وعروق وجهاز للتنفّس ودماغ وأعصاب.

ونحتاج في الحياة المعنوية ـ من أجل أن نميّز الطريق السليم عن غيره ونعرف الحقّ من الباطل ـ إلى قوّة عاقلة، وأرقى من ذلك نحن بحاجة إلى القادة الإلهيين والكتب السماوية.

وبما انّ منشأ هذه الاُمور كلّها عند الله لذا فانّنا بحاجة إليـه في وجودنا كلّه.

إنّ الشهيق والزفير يحدثان بتعاضد الآلاف من العوامل، وبدونها لا يحدثان، وكلّ هذه العوامل هي هبات إلهية، في كلّ نفس ـ إذن ـ هناك آلاف النعم، وينبغي الشكر على كلّ نعمة.

ثم أضاف: وعلى أي حال فانّ الفقر نافذ إلى أعماق ذوات البشر أجمعين بل وكلّ الموجودات، ولا تقتصر الحاجة إليه في الرزق ومستلزمات الحياة فقط، بل انّ وجودها يحتاج إلى فيضه في كلّ لحظة وآن (  إن تَوقَف لحظة تهدّمت الهياكل )[21]

انفرجت أسارير وجهي، وقلت: نعم فاقة الخلائق ضرورة لا ينفكون عنها، فما بخلهم؟ وهل البخل إلا لمن يملك؟

التفت، لم أره لقد انصرف عني، أو انصرفت عنه.

البخل

فجأة جاءني، وقال: نعم يملكون.

قلت: كيف يملكون.. وهم فقراء.. أليس في ذلك تناقضا؟

فقال: إن الله بحكمته أعطى الأغنياء بعض ما قد تمس إليه حاجة الفقير ليبتلي الغني بالفقير، والفقير بالغني، ألم تسمع قول الحق تعالى:) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ((الأنعام:165)؟

قلت: فما تحمل هذه الآية من الإشارة إلى هذا المعنى؟

قال: هذه الآية تشير إلى الحقائق التي ينطوي عليها بخل الإنسان.

قلت: كيف ذلك؟.. لا أرى فيها ما تقول.

قال: قوله تعالى:)  وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ( يدل على أن الله تعالى جعل في أيدي بعض الناس ما يوصلون به الفضل الإلهي لعباده، فهم خلفاء في توصيل هذا الفضل، بدليل قوله تعالى بعدها:) وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ (

قلت: أي فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوي، والمناظر والأشكال والألوان، وقد ورد مثل هذا في القرآن الكريم، قال تعالى:) نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً ((الزخرف: من الآية32)، وقالتعالى:) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً( (الاسراء:21)

قال: ولكن أكثر الخلائق يحبسون هذا الفضل.

قلت: لماذا؟

قال: لما في طبعهم من البخل، ألم تسمع قول الحق تعالى:) وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ((النساء: من الآية128)، فالشح طبع فيهم يغذونه بسلوكهم المنحرف.

قلت: ولكن لماذا غذوا بالشح الفطري، لماذا لم يغذوا بالكريم الفطري؟

قال: لأن الكرم الذاتي من صفات الغني، وليس ذلك إلا الله، أما الخلائق فلفقرهم وحاجاتهم اللامتناهية يخشون دائما نفاذ ما عندهم، فيبخلون على الخلائق به.

قلت: والكرماء من الخلق.. كيف يكرمون؟

قال: الأولياء يكرمون من خزائن الله لا من خزائنهم، فلذلك لا يعرفون البخل.

قلت: لماذا، وما الفرق بينهم وبين سائر الناس؟

قال: لأن البخيل يبخل بما يملك، وهم يعتقدون أنهم لا يملكون شيئا مع الله.

قلت: ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول:( أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا)[22]

قال: أتدري إلى أي شيء التفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما ربط بين ذي العرش والإنفاق؟

قلت: إلام؟

قال: التفت إلى عرش الله العظيم، فظهرت له الأرض جميعا كشيء لا وجود له.

قلت: أجل، فإن العلم يؤكد هذا.. فالأرض بالنسبة للكواكب والنجوم لا تكاد تساوي شيئا.. يقول العالم بليفن في كتابه ( العلم ينظر إلى السماء): ( إن الكون أرحب و أعظم مما كنا نتخيله، و إن الأجزاء النائية من الكون تندفع في الفضاء بعيداً بسرعة مخيفة )

و يقول:( إن الكون كله بنجومه المختلفة الأحجام التي لا حصر لها، والتي تندفع في جميع الاتجاهات كأنها شظايا قنبلة متفجرة، صورة لا يكاد المرء يتخيلها حتى يدركه الانبهار، و تنقطع أنفاسه، و لكن  يبدوا أن الأجدر بأن يبهر و يقطع  الأنفاس  هو رؤية  هذا   الكائن البشري الضئيل، الذي يعيش على شظية من شظايا نجم صغير، في زاوية حقير من زوايا مجرة لا تختلف شيئا عن الملايين من أمثالها، هذا الكائن يجرؤ عل أن يسمو ببصره إلى أطراف الفضاء، يجرؤ فيتحدى ثم يجرؤ فيحاول أن يعرف الكون )

قال: وهل اكتشفتم شيئا!؟.. إن كل ما ذكره لا يعدو أن يكون جزءا ضئيلا من سماء الدنيا، وأين السماء الثانية والثالثة إلى السابعة!؟

قلت: وما نسبة هذا كله إلى العرش الذي التفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟

قال: إنها النسبة التي وردت بها النصوص المقدسة، فقد سأل أبو ذر الغفاري t النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكرسي، فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:(  والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة )

قلت: وما علاقة هذا بما نحن فيه؟

قال: لتعرف بهذا  سر قوله - صلى الله عليه وسلم -:( أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا)، فقد ذكر - صلى الله عليه وسلم - بوصفه صاحب العرش، ليذكر بلالا بأنه لا ينفق من عنده، وإنما ينفق من عند الله.

قلت: وما في هذا من العزاء للفقير، ومن تيئيسه مما في أيدي الخلائق؟

قال: فيه العزاء العظيم، فالفقير الذي ينشغل برؤية عرش الله، وخزائن الله لا يمد يده لأي أحد من الناس، بل يكتفي بمدها لله، فماذا يساوي الخلق جميعا أمام أبسط مخلوقات الله.

قلت: وهذا أيضا يجعل الفقير يشعر بفقر الخلق جميعا، فلا يحسدهم ولا يسألهم، ولا يتمنى أن يحصل له ما حصل لهم، كما قال تعالى:) وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً((النساء:32)

قال: ألم تسمع الحق تعالى، وهو يقول في هذه الآية:) وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ (؟

قلت: بلى، فما وجه علاقتها بالنهي عن التمني؟

قال: لأن التمني يبدأ بجحود فضل الله، وينتهي بتمني زوال فضل الله، فلذلك نصحوا بدل الغرق في أودية الأماني أن يتوجهوا إلى المعطي والمتفضل، فمن أعطى أولا يعطي آخرا، ومن أعطى لفلان لا يعجز عن العطاء لفلان.

قلت: فهذا إذن أكبر علاج للحسد الذي يقع من الفقراء للأغنياء.

قال: بل هو أكبر علاج لأمراض الطبقية الاجتماعية، فالطبقية ليست محصورة في الغنى والفقر.

ثم سكت هنيهة وقال: ليت بخلكم كان قاصرا على المال.

قلت: وهل هناك بخل أعظم من بخل المال؟

قال: نعم بخلكم بالابتسامة والبشر، فإنها وإن لم تشبع بطن الفقير، فإنها تطمئن قلبه، وتخرجه من الكوابيس التي يعيشها، ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:( تبسمك في وجه أخيك صدقة )[23]

قلت: صدقت، فإن معاناة الفقير النفسية أخطر من معاناته المادية.

قال: فلذلك إن لم تطيقوا علاج جوعه، فعالجوا نفسه.

قلت: والكمال في استعمال كلا العلاجين.

خطر على بالي حينها ما ذكره الشعراء في آداب المضيف من خدمته لأضيافه وإظهار بسط الوجه لهم، فقلت: يا معلم لقد قال الشعراء في هذا كلاما جميلا، فهل أجزت لي ذكره؟

قال: اذكره، فإن الحكمة أشرف من قائلها.

قلت: لقد نشر العرب في هذا مثلا يقول:

بشاشة وجه المرء خير من القرى        فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك

وقد ضمنه الشيخ شمس الدين البديوي أبياتا، فقال:

إذا المرء وافى منزلا منك قاصدا
 

قراك وأرمته لديك المسالك
  

فكن باسما في وجهه متهللا
 

وقل مرحبا أهلا ويوم مبارك
  

وقدم له ما تستطيع من القرى
 

عجولا ولا تبخل بما هو هالك
  

فقد قيل بيت سالف متقدم
 

تداوله زيد وعمرو ومالك
  

بشاشة وجه المرء خير من القرى
 

فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك
  

وقال أمير الكرماء حاتم الطائي يتحدث عن كرمه النفسي:

سلي الطارق المعتر يا أم مالك
 

إذا ما أتاني بين ناري ومجزري
  

أأبسط وجهي إنه أول القرى
 

وأبذل معروفي له دون منكري
  

وقال آخر:

الله يعلم انه ما سرني شيء
 

كطارقة الضيوف النزل
  

ما زلت بالترحيب حتى خلتني
 

ضيفا له والضيف رب المنزل
  

  وقد سبق إلى هذا المعنى من قال:

يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا
 

نحن الضيوف وأنت رب المنزل
  

   وقال الآخر:

وإنا لنقري الضيف قبل نزوله    ونشبعه بالبشر من وجه ضاحك

   وقال بعض الكرام:

أضاحك ضيفي قبل أن أنزل رحله
 

ويخصب عندي والمحل جديب
  

وما الخصب للأضياف أن تكثر القرى
 

ولكنما وجه الكريم خصيب
  

التفت إلى المعلم، فقال: ما أجمل هذه الحكمة، وما أجمل ما تفطن له هذا الشاعر:

وما الخصب للأضياف أن تكثر القرى
 

ولكنما وجه الكريم خصيب
  

قلت: أعجبك البيت.

قال: أعجبني معناه، وفي القرآن الكريم إشارة إلى كل هذا.

قلت: ما هي؟

قال: قوله تعالى في خبر إبراهيم u عندما جاءه أضيافه من الملائكة:) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ( (هود:71)، فضحكها في هذا المحل يدل على مدى البشر الذي لاقوا به أضيافهم.

ثم التفت إلى الأفق البعيد وصاح من أعماقه هامسا، أو همس من أعماقه صائحا:( ليت البخلاء إذا خافوا على خزائنهم من الكرم أن لا يبخلوا بالبشر، فهو لا يكلفهم دينارا ولا درهما )

قلت: ولكنهم يخافون من جرأة الفقراء عليهم، فلذلك يعبسون في وجوههم كما تعبس خزائنهم، أو كي تعبس خزائنهم.

الظلم

قال لي المعلم: أتعلم الصفة الثالثة التي ترفع أملك عن الخلق لتوجهه إلى الله؟

قلت: إنها الظلم، لقد ذكرت لي ذلك، ولكنها صفة الجبابرة، وقل من أراه يتصف بها.

قال: ومن قال ذلك؟ ألم يقل الله تعالى يصف البشر جميعا:) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً((الأحزاب:72)

ثم التفت إلي، وقال: أتدري ما الظلم الذي وصف به البشر في هذه الآية؟

قلت: هو ما قاله المفسرون من أنه وضع الأشياء في غير مواضعها.

قال: كيف ذلك؟

قلت: كوضع القسوة بدل الرحمة، والإساءة بدل الإحسان، والجفاء بدل اللطف، والعبوس بدل الابتسامة.

قال: فكيف يعامل أغنياء قومك فقراءهم؟

قلت: هناك من يكرمهم، وهناك من يقهرهم.

ظلم الظلمة:

قال: ومن يقهرهم، كيف يقهرهم؟

قلت: بحرمانهم من حقهم.

قال: وبأخذ حقهم، فلولا قهر الأغنياء وجشعهم ما وقع الفقراء في مستنقعات الفقر؟

قلت: كيف ذلك؟

قال: لو علم الأغنياء أن هذا الرزق الذي خلقه الله خلقه للجميع، وعلموا أنهم فرد من ذلك الجميع أو أفراد من ذلك الجميع لم يستأثروا بنعم الله دون خلق الله.

ثم التفت إلي، وقال: أرأيت لو أن شخصا دعاك إلى وليمة، ودعا لها جمعا من الناس، وكانت لك ملاعق كثيرة تستطيع أن تنهب بها أكبر قدر من الطعام، أكنت تحضر معك تلك الملاعق لتأكل بيديك جميعا، فإن لم تكف يداك للاستيلاء على ذلك الطعام، ملأت من الأواني ما يدع المدعوين لشر المسغبة.

قلت: لا يمكن هذا، ولا أظن عاقلا يفعل هذا.

قال: ولكنكم تفعلونه، وتصرون على فعله، بل وتبررونه.

قلت: كيف ذلك، فأنا لم أر من يفعل هذا؟

قال: ما دور الملعقة في الطعام؟

قلت: هي وسيلة الطعام، بها نوصل الطعام إلى أفواهنا؟

قال: وما التجارة والصناعة والفلاحة؟

قلت: هي وسيلة الرزق، فبدونها لا يحضر الطعام، كما أنه بدون الملاعق لا يصل إلى الأفواه.

قال: فما الفرق بين استئثار الأغنياء بوسائل الكسب، واستئثارهم بالملاعق؟

قلت: فرق كبير جدا، فالملاعق يمكن أن يستعملها الغني والفقير والصبي والشيخ، بينما وسائل الكسب لا يمكن أن يستعملها غير من له قدرات كبيرة في الإدارة والتسيير، بالإضافة إلى الصبر والمجاهدة.

قال: هذا صحح، ولهذا خلق الله الأغنياء والفقراء، ولكن هل يصح للغني الذي مكنه الله من هذه الوسائل أن يستأثر بمنافعها بدعوى أنه هو المجتهد، وهم الكسالى، أو أنه هو الذكي وغيره بلداء.

قلت: لا، وإلا صار كقارون لما قال:) إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي( (القصص: من الآية78)

قال: فعد إلى الثروات التي ينعم بها قومك، وقل لي لو أن خيرات تلك الثروات وصلت الفقراء، من دون أن نحرم الأغنياء ما يملكون هل يبقى فقير واحد؟

قلت: لا، فالثروة التي ينعم بها أفراد محدودون في العالم يمكنها تغطية حاجيات الملايين من البشر إن لم نقل ملاييرهم.

قال: فالأغنياء إذن لم يكتفوا بحرمان الفقراء، بل استولوا على طعامهم الذي أعد لهم في دار الضيافة الإلهية.

ثم التفت إلي وقال: ما نسبة هذا النوع من الأغنياء من مجموعهم؟

قلت: هي نسبة عالية جدا.

قال: ولا بد إن تكون عالية، ولو لم تكن عالية لما ظهر في الأرض فقير واحد.

قلت: ولكنهم يبررون ذلك تبريرات مختلفة بعضها يستند لأحكام شرعية.

قال: هي تبريرات لا تختلف في كثير أو قليل عن تيريرات سلفهم الأول الذين قال الله فيهم:) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ((يّـس:47)

قلت: هناك تبريرات شرعية.

قال: ناتجة عن سوء الفهم، وسنناقشها عند رحلتنا لكنز الفضل.

ظلم الكرماء:

ثم التفت إلي، وقال: ومن يكرمهم، كيف يكرمهم؟

قلت: يختلفون، منهم من يكرمهم لوجه الله، كما قال تعالى:) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً((الانسان:9)، أو الذين قال الله فيهم:) وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ((الحشر:9)

ومنهم من يكرمهم لغير وجهه يبتغي بذلك قصائد تمدحه، أو ثناء ينشر عليه.

قال: فتلك الآيات التي ذكرتها فيمن نزلت؟

قلت: في الجيل الأول الفريد من هذه الأمة.

قال: وما نسبة تكرر هذه الثلة؟

قلت: أما المقربون، فهم ثلة قليلة، كما قال تعالى:) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ((الواقعة:14)، وأما غيرهم، فكثير بحمد الله.

قال: فما نسبتهم في كل واقع؟

قلت: قليلة.

قال: أنتم تتعاملون بمنطق النسب، فتتفاءلون للنسب العالية، وتتشاءمون من النسب الضعيفة، فهل هذه النسبة تستدعي التفاؤل أم التشاؤم؟

قلت: التشاؤم، فنسبة هؤلاء لا تكاد تذكر، بل لو كان في كل ألف من الأمة رجل من أمثال هؤلاء لارتفعت الأمة إلى آفاق عالية من الكمال.

قال: كيف؟

قلت: لو كان في كل ألف منا واحد من أولئك السابقين، لصار في كل مليون ألفا، وفي كل مليار مليونا، ونحن الآن نتجاوز المليار، ولا أظن أن فينا مليونا من أولئك.

قال: فنلفرض صحة هذه النسبة التي ذكرتها، فكم فيها من الأغنياء الذين يسمح  لهم غناهم بالكرم الأصيل العالي؟

قلت: نسبة قليلة هي الأخرى، لا تكاد تذكر.

قال: فدعنا من هؤلاء إذن، فلا يمكن أن تتعلق القلوب بمثل هذه النسب الضعيفة.. فأخبرني، كيف يكرم كرماؤكم؟

قلت: يعطون المحتاجين؟

قال: وهل يبحثون عن المحتاجين فيعطوهم، أم يمدون أيديهم لكل سائل؟

قلت: في العادة يمدون أيديهم لمن يسألهم.

قال: ولو كان من يسألهم لا يستحق العطاء.

قلت: يقولون: المهم أن أجرنا قد وصل بغض النظر عمن نعطيه، ألم يقل - صلى الله عليه وسلم - في الحديث:( قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعتها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد على سارق لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني، فقال: اللهم لك الحمد على سارق وعلى زانية وعلى غني، فأتى فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله )[24]

وربما يتسدلون بما روي عن أبي يزيد معن بن يزيد بن الأخنس t، قال:  كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته بها فقَالَ: واللَّه ما إياك أردت! فخاصمته إِلَى رَسُول اللّهِ - صلى الله عليه وسلم -  فقال:( لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن )[25]

قال: أنت تسيئون فهم أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.

قلت: كيف نسيء فهمها، وظاهرها صريح؟

قال: أما الرجل الأول، فقد بحث جهده عن الفقير الذي يستحق الزكاة، ولكنه أخطأ في كل ذلك، فبعث الله له من يسليه.

قلت: كيف؟

قال: لو كان مقصده التصدق بغض النظر عمن تصدق عليه، لاكتفى بصدقته الأولى، وقال ـ كما تقولون ـ:( المهم أني نويت )

قلت: وحديث معن؟

قال: وضع أبوه صدقته في المسجد لينالها المستحق، فجاء ابنه وأخذها لا بسبب كونه ابنا له، وإنما لكونه من المستحقين، فلذلك أخبر - صلى الله عليه وسلم - بقيول صدقة يزيد، وحل ما أخذه معن.

ثم التفت إلي، وقال: لو أن هؤلاء فقهوا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنزلوا كل حديث منهما محلا خاصا، فالحديث الأول يشير إلى ضرورة البحث عن المستحقين، لتحقيق مقاصد الشرع من النفقات، ويتجاوز عن المخطئ في حال خطئه كتجاوزه عن أي اجتهاد مخطئ، والحديث الثاني يشير إلى أن الذي لا يستطيع أن يبحث يضع نفقته في الموضع الذي يبلغها على أتم وجه.

قلت: ولهذا أرشد الله إلى المستحقين للزكاة بقوله:) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ((البقرة:273)

قال: دعنا من هذا، فلهذا محله الخاص، ولنعد للظلم الذي يقع فيه الكرماء.

قلت: لقد تحدثنا عن الظلم الذي يجعل الكرم موضوعا في غير موضعه، وبالتالي لا يحقق الغرض المقصود منه.

قال: وهناك ظلم أشنع منه.

قلت: أشنع منه.. ما هو؟

قال: أرأيت لو زرت طبيبا ليعالج جرحا طفيفا أصابك، فأخذ هذا الجراح أدواته فداوى جرحك..

بادرته، قائلا: أشكره جزيل الشكر، وأعطيه جزاءه على خدمته.

قال: لكنه لم يطلب جزاء ماديا على ذلك، بل جعل جزاءه أن يمسك سكينه ويضع في قلبك جرحا بدل الجرح الذي في يدك.

قلت: أقاتله إن هم بذلك، فإني أرضى أن تجرح يداي جميعا، بل جميع أطرافي، ولا أرضى أن يجرح قلبي، فهو المحرك الذي يضخ الحياة لأعضائي وأجهزتي.

قال: وهكذا يفعل المتكرم الذي يضع بعض فضلاته في يد هؤلاء المساكين، ثم يمسك سكينه، ويقطع قلوبهم إربا إربا.

قلت: فهمت قصدك، أنت تريد المن والأذى الذي يتعامل به المكرمون مع المساكين.

قال: نعم، فإن المن أخطر من الفقر، فالمن يصيب الروح والقلب والحقيقة الإنسانية، بينما الفقر لا يصيب إلا بعض أجزائك الظاهرة.

قلت: ذلك صحيح، ولعل خير من عبر عن مشاعرالفقراء المتألمين من ثقل المن من تكفل بالتعبير عن المشاعر الإنسانية: الشعراء، فلو أذنت لي يا معلم في رواية بعض الشعر في هذا.

قال: أعلم غرامك بالشعر، فارو منه هنا ماشئت على أن لا تقع في الأودية التي يقعون فيها.

قلت: يروى عن علي بن أبي طالب t قوله:

لنَقْلُ الصَّخْرِ من قُللِ الجبالِ
 

أَحَبُّ إِليَّ من مِنَنِ الرجالِ
  

يقولُ الناسُ لي في الكَسْبِ عار
 

فقْلتُ العارُ في ذُلَّ السؤالِ
  

بلوتُ الناسَ قرناً بعد قرنٍ
 

ولم أرَ مثلِ مختالٍ بمالِ
  

وذقْتُ مرارةَ الأشياءِ طُراً
 

فما طعمٌ أَمَرُّ من السؤالِ
  

ولم أرَ في الخُطوبِ أَشَدَّ هولاً
 

وأصعبُ من مقالاتِ الرجالِ
  

ويروى عن الشافعي t قوله:

لا تحملنَّ لمنْ يمنُّ
 

من الأنامِ عليكَ مِنَّهْ
  

واخترْ لنفسِكَ حَظَّها
 

واصبرْ فإِن الصبرَجُنَّهْ
  

مِنَنُ الرجالِ على القلو
 

بِ أشدُّ من وَقْعِ ألسنهْ
  

وقال علي بن الجهم:

للبسُ ثوبين باليَيْنِ
 

وطيُّ يومٍ وليلتين
  

أيسرُ من مِنَّةٍ لقومٍ
 

أغضُ منها جُفُنَ عيني
  

وقال الشاعر معبرا عن ثقل المن:

صَحِبْتُ الدهرَ في سهلٍ وحزنٍ
 

وجرَّبتُ الأمورَ وجربتني
  

فلم أرَ مذ عرفتُ محلَّ نفسي
 

بلوغَ غنىً يساوي حملَ منِّ
  

وقال الآخر:

لأن أزجي عند العُرْيِ بالخَلَقِ
 

وأجتزي من كثير المزاد بالعُلُقِ
  

خيرٌ وأكرمُ لي من أن أرى مِنناً
 

معقودةً للئامِ الناسِ في عُنُقي
  

إِني وإِن قصُرتُ عن هِمتي جدتي
 

وكان مالي لا يقْوى على خُلُقي
  

لتاركُ كلَّ أمرٍ كان يلزمني
 

عاراً ويشرعني في المَنْهَلِ الرَّنْق
  

والشعراء ينقلبون بالهجاء على من من بالإحسان إليهم انتقاما منهم، فهذا شاعر يخاطب واصله بقوله:

أَفْسَدْتَ بالمن ما أسديْتَ من حَسَنٍ
 

ليس الكريمُ إِذا أعطى يمنانِ
  

وقال الآخر:

يا مُبْطلاً فعلَ الجميلِ بمِنَّةٍ
 

أسخطْتنَي من بعد ما أرضَيْتَني
  

يا ليتَ كَفَّكَ لم تسامحْني به
 

أو ليتني جانياتُ ما أوليتني
  

وقال الآخر:

نزهْ جميلَكَ عن قبيح المنِّ إِن
 

حاولْتَ في رتبِ الكرامِ سُمُوّا
  

كم حوَّلَ المنُّ الجميلُ إِهانةً
 

والحمدَ ذماً والصديقَ عَدُوّا
  

وقال..

قاطعني، وقال: رويدك يا هذا.. أخاف أن تسقط في مهاوي وديان الشعراء، فحسبك ما رويت.. فلنعد لكلام الله ففيه الشفاء والكفاية.

قلت: لقد اشتد القرآن الكريم في النهي عن كل ما يؤذي الفقير.

قال: لأن الله تعالى الرحيم يعلم دخيلة الفقير، فهو لا يشكو من الجوع بقدر ما يشكو من الحرمان النفسي والاجتماعي.

قلت: ولهذا اعتبر الله تعالى القول المعروف والكلمة الطيبة التي تقال للفقير تطمينا له واحتراما لشخصه أفضل من الصدقة التي يتبعها أذى، قال تعالى:) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ((البقرة:263)

قال: ولهذا نهى الله تعالى عن المن والأذى، واعتبره محبطا للصدقات، فقال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ((البقرة:264)

قلت: لقد شبه الله تعالى صدقاتهم بالتراب الذي يكون على صخر أملس، يراه الناس ترابا غنيا، ولكن مطر الأذى إذا نزل عليه تركه أملس يابساً، لا شيء عليه من ذلك التراب.. وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند اللّه، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب.

قال: وشبه الله مآل أعمالهم، فقال:) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ((البقرة:266)

قلت: هذا مثل ضربه القرآن الكريم لمن يحسن العمل أولاً، ثم ينعكس سيره فيبدل الحسنات بالسيئات، فيبطل بعمله الثاني ما أسلفه من العمل الصالح، فيخونه سلوكه هذا أحوج ما يكون إليه.

وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن العقوبة الخطيرة التي تنتظر هؤلاء، فقال:( ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المنّان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب )[26]

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - بما هو أعظم من ذلك، فقال:( لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر )[27]

قال: وعلى عكس هذا أثنى الله على الصالحين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من غير أن يتبعوا صدقاتهم بأي أذى، قال تعالى:) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ((البقرة:265)

قلت: هذا مثل ضربه الله للمؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضات اللّه عنهم في ذلك ـ وهم متحققون ومتثبتون أن اللّه سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ـ ببستان بربوة، أصابها مطر شديد، فآتت ثمرتها ـ بالنسبة إلى غيرها من الجنان ـ ضعفين.

بل إن هذه الجنة لا تمحل أبداً، لأنها إن لم يصبها وابل فطل، وأياً ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبداً بل يتقبله اللّه ويكثره وينميِّه.

قال: أتدري ما الذي يلحقك بهؤلاء؟

قلت: دلني ـ دلك الله على كل خير ـ فما أعظم أن تنبت جنتي أضعاف ما أغرس فيها.

قال: الطريق لذلك هو ما ذكره القرآن الكريم من تخلصك من الظلم عند الإنفاق.

قلت: وما مجامعه؟

قال: المن والأذى.

قلت: فكيف أتخلص من المن؟

قال: هو ذا الغزالي أمامك.. فهو طبيب من أطباء القلوب، ينبئك عن طريق ذلك.

فجأة ظهر الغزالي بسيماه التي أعرفه بها من خلال مطالعاتي لكتبه، وهو يقول: المن له أصل ومغرس، وهو من أحوال القلب وصفاته، ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح[28].

قلت: يا غزالي، قد عهدنا المن ألفاظا تقال، أو تصرفات تفعل، فما منبعها القلبي؟

قال الغزالي: أن يرى نفسه محسنا إليه، ومنعما عليه.

قلت: ولكن هذا هو الواقع.

قال: لا.. حقه أن يرى الفقير محسنا إليه بقبول حق الله تعالى منه الذي هو طهرته ونجاته من النار، وأنه لو لم يقبله لبقي مرتهنا به، فحقه أن يتقلد منه الفقير إذ جعل كفه نائبا عن الله تعالى في قبض حق الله تعالى.

قلت: لعلك تشير إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -:( إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل )[29].. فكيف يتحقق بهذا؟

قال: باعتقاده أنه مسلم إلى الله تعالى حقه، والفقير آخذ من الله تعالى رزقه بعد صيرورته إلى الله تعالى.

قلت: فهلا ضربت لي على هذا مثالا؟

قال: لو كان عليه دين لإنسان فأحاله إلى خادمه الذي هو متكفل برزقه لكان اعتقاد مؤدى الدين كون القابض تحت منته سفها وجهلا، فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه، أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه، فهو ساع في حق نفسه، فلم يمن به على غيره.

ثم سكت هنيهة، وكأنه يستجمع أنفاسه، ثم قال: بل لو  عرف حقيقة الأمر ( لم ير نفسه محسنا إلا إلى نفسه، إما ببذل ماله إظهارا لحب الله تعالى، أو تطهيرا لنفسه عن رذيلة البخل، أو شكرا على نعمة المال طلبا للمزيد )[30]

قلت: فرؤيته نفسه في درجة المحسن أمر غامض، فهل من علامة يمتحن بها قلبه فيعرف بها أنه لم ير نفسه محسنا؟

قال: له علامة دقيقة واضحة، وهو أن يقدر أن الفقير لو جنى عليه جناية أو مالأ عدوا له عليه مثلا، هل كان يزيد في استنكاره، واستبعاده له على استنكاره قبل التصدق، فإن زاد لم تخل صدقته عن شائبة المنة، لأنه توقع بسببه ما لم يكن يتوقع قبل ذلك.

قلت: هذا أمر غامض ولا ينفك قلب أحد عنه، فما دواؤه؟

قال: له له دواءان: دواء باطن، ودواء ظاهر.

قلت: وما هما؟

قال: أما الباطن، فالمعرفة بالحقائق التي تدله على أن الفقير هو المحسن إليه في تطهيره بالقبول.

وأما الظاهر، فالأعمال التي يتعاطاها متقلد المنة، فإن الأفعال التي تصدر عن الأخلاق تصبغ القلب بالأخلاق.

قلت: فهلا ضربت لي على هذا الدواء الظاهر أمثلة.

قال: كان بعضهم يضع الصدقة بين يدي الفقير، ويتمثل قائما بين يديه حتى يسأله قبولها حتى يكون هو في صورة السائلين، وهو يستشعر مع ذلك كراهية لو رده.

وكان بعضهم يبسط كفه ليأخذ الفقير من كفه، وتكون يد الفقير هي العليا.

وكانت عائشة وأم سلمة ـ رضي الله عنهما ـ إذا أرسلتا معروفا إلى فقير قالتا للرسول:( احفظ ما يدعو به )، ثم كانتا تردان عليه مثل قوله وتقولان:( هذا بذاك ) حتى تخلص لنا صدقتنا. فكانوا لا يتوقعون الدعاء لأنه شبه المكافأة، وكانوا يقابلون الدعاء بمثله.

وهكذا كان أرباب القلوب يداوون قلوبهم، ولا دواء من حيث الظاهر إلا هذه الأعمال الدالة على التذلل والتواضع وقبول المنة.

قلت: أفبهذا ينتفي المن؟

قال: أجل، فمن اعتقد أنه لا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسنا إليه لن يجد في نفسه مزية على الفقير يمن بها عليه.. فإن المن سببه الجهل بأن ير نفسه محسنا فيتفرع منه على ظاهره ما ذكر في معنى المن وهو التحدث به، وإظهاره، وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء والخدمة والتوقير والتعظيم والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس والمتابعة في الأمور فهذه كلها ثمرات المنة.

قلت: فما الأذى؟

قال الغزالي: ظاهره التوبيخ والتعيير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار وفنون الاستخفاف.

قلت: وما باطنه الذي هو منبعه؟

قال: أمران.

قلت: ما هما؟

قال: أحدهما كراهيته لرفع اليد عن المال، وشدة ذلك على نفسه فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة.

والثاني رؤيته أنه خير من الفقير، وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه.

قلت: فما علاج كل العلتين؟

قال: أما العلة الأولى، وهي كراهية تسليم المال، فعلاجه أن يعرف أن ذلك حمق، لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يساوي ألفا فهو شديد الحمق، ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل والثواب في الدار الآخرة، وذلك أشرف مما بذله.

أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل، أو شكرا لطلب المزيد، وكيفما فرض، فالكراهة لا وجه لها.

قلت: وما علاج الثانية؟

قال: بأن يعرف بأن رؤيته نفسه خير من الفقير جهل، لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى، وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير، بل تبرك به وتمنى درجته، فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام.

 ثم كيف يستحقر الفقير، وقد جعله الله تعالى متجرا له، إذ يكتسب المال بجهدك، ويستكثر منه ويجتهد في حفظه بمقدار الحاجة، وقد ألزم أن يسلم إلى الفقير قدر حاجته، ويكف عنه الفاضل الذي يضره لو سلم إليه[31].

 

 

العجز

قال لي المعلم: أتعلم الصفة الرابعة التي ترفع أملك عن الخلق لتوجهه إلى الله؟

قلت: إنها العجز، لقد ذكرت لي ذلك، ولكنها صفة المستضعفين، وهي بالفقراء ألصق، فهم إن لم يقعد بهم عجز قواهم الصحي قعد بهم عجز جيوبهم، فعيونهم بصيرة وجيوبهم قصيرة.

قال: بل الخلق كلهم عاجزون، لا ينفعون ولا يضرون ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -  لابن عباس t:( يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف )[32]

قلت: لقد قرأت الحديث وحفظته.

قال: ليس الشأن أن تحفظه، ولكن الشأن أن تعيشه.

قلت: فكيف أعيشه؟

قال: تقرر معانيه في قلبك، لتنتقل من كونها علما إلى كونها حقيقة، ومن كونها حقيقة إلى كونها معرفة.

قلت: فما الفرق بين كونها علما وكونها معرفة؟

قال: كالفرق بين رؤيتك للنار ولمسك لها.

قلت: فرق كبير.. فأنا أتمتع برؤية النار، ولكني لا أطيق لمسها.

قال: فكذلك أنت تفهم عجز الخلائق، ولكن لا تطيق الاستغناء عنهم، فلذلك تمد يدك، بل يداك إليهم كل حين.

قلت: فكيف أعلم عجز الخلائق؟

قال: بأن تقارن قواهم بقوى غيرهم.

قلت: كيف ذلك؟

قال: كيف تعلم عجز المصارع؟

قلت: إذا صرعه من هو أقوى منه.

قال: أفيمكن للذي صرع أمامك أن يتيه عليك بقوته؟

قلت: لا.. بل إنه سيستحي من إظهار قوته، لأنها ستنطق بعجزه.

قال: فقارن قوة الخلق التي يتيهون بها، ويتصورون أن لهم القدرة على مصارعة الكون بها بما تراه من مظاهر القوة في الكون.

قلت: إن عقلي ليتيه عندما يحاول إجراء مثل هذه المقارنة، إن الكون أعرض بكثير، والإنسان أضعف بكثير.. إنه يسحق سحقا.

قال: ومع ذلك ظهر فيكم من يدعي القوة التي يستعلي بها على الله.

قلت: أجل.. وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من ذلك، فذكر نموذج عاد، فقال:) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ((فصلت:15)

قال: وهل هناك خلفاء لعاد؟

قلت: هناك ثمود، وفرعون، والقرى الكثيرة التي أشار إليها القرآن الكريم من غير أن يسميها.

قال: فما كان جزاؤها؟

قلت: هلكوا، ولم تنفعهم قواهم التي تاهوا بها على الله، كما قال تعالى:) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ((التوبة:69)

قال: ولكنكم لا تزالون تسيرون على خطاهم.

قلت: ذلك صحيح، فلا زلنا نتيه بالقوة، ونخاف من الأقوياء، بل نسمي الشعوب التي تضخمت عضلاتها بما تملكه من أسلحة بـ ( القوى العظمى )

قال: وأنتم ماذا تسمون؟

قلت: الشعوب المستضعفة.

قال: وتمدون أيدكم إليها.

قلت: نمد أيدينا إليهم بثرواتنا، ويمدون أيديهم إلينا بما يشبع بطوننا.

قال: فاخرجوا من ضعفكم وعجزكم.

قلت: لا نملك أسلحة نووية ولا جرثومية ولا مصانع جبارة كمصانعهم.

قال: تخرجون من ذلك بالاعتماد على قوة الله، وباعتقاد عجزهم وفاقتهم وحاجتهم وضعفهم.. ألا تسمع القرآن الكريم؟

قلت: بلى.. أسمعه من مقرئين يحركون الجبال بترانيمهم.

قال: اسمعه ممن يحرك روحك، لا ممن يحرك الجبال.

قلت: ما تقصد؟

قال: لقد ضرب الله لكم أمثالا عن الذين يستعبدونكم من دون الله.

قلت: ما هي؟

قال: الذباب والعنكبوت.

ضحكت وقلت: أهذه القوى العظمى ذباب وعناكب؟.. أنت لا تعرفها.

قال: اسمع قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ((الحج:73)، وقوله تعالى:) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ((العنكبوت:41)

قلت: قرأت كلا الآيتين، ويقرؤهما جميع الناس، فما الذي يمكن أن أسمعه منهما؟

الذباب:

قال: أما الآية الأولى، فالله تعالى يتحدى فيها قواكم العظمى أن تخلق ذبابة واحدة، بل يتحداهم فيما هو دون ذلك أن يستنقذوا الطعام الذي يسلبهم الذباب إياه.

التفت إلي فرأى في بعض الاستغراب الذي يشبه الاستبعاد الباطن الذي لا يمكن التعبير عنه خشية الوقوع في الضلال، فقد حدثتني نفسي، أو حدثني الشيطان الموسوس، فقال: إن الإنسان صنع أجهزة قيّمة اكثر أهمية من خلق الذباب كالسفن الفضائية والعقول الإلكترونية المعقدة وأمثال ذلك.

قال لي المعلم: اسمع للشيرازي، وهو يجيبك عن هذه الشبهة.

التفت، فرأيت ناصرا الشيرازي يقول من غير أن أسأله: ليس للسفينة الفضائية أو العقل الالكتروني أي نمو أو رشد ويستحيل أن ينجب مثيله، ولا يمكن من داخل نفسه ترميم ما يطرأ عليه من الأضرار، فهو لا يُصلح قطعاته التالفة أبداً، ويحتاج إلى الهداية والقيادة من خارجه.

والحال أن للذبابة من هذه الجهات أفضلية واضحة على تلك السفينة الفضائية أو جهاز الكومبيوتر. ولكن كثرة الذباب أدى إلى تصوره من قبلنا كموجود حقير الأهمية، ولو كانت هنالك ذبابة واحدة فقط في العالم لأتضح آنذاك مدى ما سيوليه العلماء لها من الاهتمام.

قلت، وقد حصلت على بعض الجرأة: ولكن العلم في تقدمه المطرد لا أظن أنه سيعجز عن الوصول لسر الحياة.

قال الشيرازي: على فرض أن مشكلة صناعة الخلية الحية سوف تُحل، ولكن تبقى هنالك مشكلة الكائنات المعقدة متعددة الخلايا، كبنية الذبابة أو الجرادة أو الطائر أو الأسماك الكبيرة وأخيراً الأنسان. فمن الذي يستطيع أن يوجد مثل ما ذكرنا عن طريق الصناعة؟ يقول أحد العلماء وهو ( البروفيسور هانز): سوف يصل الانسان بعد ألف سنة إلى سر الحياة، ولكن هذا لا يعني أنه سيستطيع صناعة ذبابة أو حشرة أخرى أو حتى خلية حية )

.. ولنفترض أننا ضمنّا مثل هذه الأهداف بمعونة الهبة الألهية المسماة بالعقل، وتطور العلوم، وتقليد قوانين الطبيعة. لكن هذا لن يكون له أدنى تأثير على ما نحن بصدد الوصول إليه، لأنه إن كان إيجاد خلية حية واحدة باستخدام كل هذه النماذج الموجودة والمواد الطبيعية الجاهزة يحتاج إلى كل هذا العلم والمعرفة، فما مقدار العلم والمعرفة اللازمة لخلق أنواع متعددة من الموجودات الحية بلا نموذج أو مواد سابقة؟ هل يمكن إعتبار الطبيعة العمياء الصماء الفاقدة للشعور عاملا في ظهور هذه الموجودات؟

وَألفت إنتباهك إلى عبارة ظريفة عن (كرسي مورسن) رئيس اكاديمية العلوم بنيويورك في كتاب (سر خلق الانسان)، يقول:( قال هيغل: أعطوني الهواء والماء والمواد الكيمياوية والزمان وسوف أخلق بها إنساناً. لكن هيغل نسي أنه بحاجة إلى نطفة وجرثومة الحياة من أجل هذا المشروع ايضاً. إنه بعد أن يجمع الذرات اللامرئية ويرتبها إلى جانب بعضها ضمن نظام وترتيب خاص بخلقة الأنسان، عليه أن يمنح الروح لهذا القالب! وعلى فرض أنه وُفّق للقيام بكل هذه الاُمور الخارقة للعادة، هنالك إحتمال واحد فقط من بين ملايين الاحتمالات لظهور حيوان لم تشاهد عين الدهور شيئاً أغرب منه. والأعجب هو أن هيغل لن يقول بعد الموفقية في هذا الأمر أن هذا الموجود العجيب ظهر بحسب التصادف والاتفاق، بل يقول: (إن ذكائي ونبوغي هو الذي خلقه)[33]

قلت للمعلم: ولكن قومي عندما يبصرون هذه المخترعات العجيبة التي تظهر كل يوم، بل كل ساعة تجعلهم يحتقرون خلق الحياة مقارنة بعجائب الجماد.

قال: فاسمع إذن لما يقوله رجل من قومك هو (جورج والد) أستاذ علم الأحياء في جامعة (هارفارد)، فقد قال كلاما مهما عن شروط ظهور الحياة، وصعوبتها مقارنة بالصناعات المادية.

التفت، فإذا به أمامي يقول من غير أن أسأله: من أجل تشكيل البروتين يجب التحام مئات أو آلاف الجزئيات (أحماض أمينية) بنِسب مختلفة وبأشكال متنوعة على شكل سلسلة، وإن عدد أنواع البروتينات لا محدود حقاً، لأنه لايمكن العثور على نوعين من الحيوانات يكون لهما نوع واحد من البروتينات، إذن فجزيئات المواد العضوية تشكل مجموعة عظيمة لا حدود لتنوعها وتعقيدها يبعث على الحيرة، ومن أجل صنع موجود حي واحد لا نحتاج إلى مقدار كاف ونسب معينة من انواع البروتينات اللامتناهية فحسب، بل يجب ترتيبها ترتيباً صحيحاً أيضاً، أي ان بناءها له من الأهمية ما لتركيبها الكيمياوي من الأهمية.

ثم.. إن بناء البروتينات معقد حقاً، وإن اعقد الأجهزة التي صنعها الانسان (كالعقل الألكتروني ) هي بحكم الألعوبة مقابل أبسط الكائنات الحية! يكفي الانسان أن يفكر في هذه العظمة لتتضح له إستحالة الخلقة الذاتية أو التصادفية.

العناكب:

قلت: فما إشارة الآية الثانية؟

قال: إن البيوت التي تعتصمون بها أو تخافون منها لا تعدوا أن تكون خيوط بيت عنكبوت، فهل رأيت أوهن منها؟

قلت: لا.. إن بيتها الذي تتفنن في بنائه سرعان ما يتهدم بداخل أو بخارج.. وهي لغبائها لا تختار إلا المداخل أو المخارج.

قال: وأنتم لا تختلفون عنها، فإن قواكم التي منحكم الله لا تضعونها إلا في المواطن التي تصيبكم بالهلكة.

قلت: كيف؟

قال: أنتم لا تستعملوها لترحموا المستضعفين، بل لتقتلوهم وتقضوا عليهم، وتتفننون في ذلك أكثر من تفنن العناكب في صناعة بيوتها.

قلت: ولكن خيوط العناكب واهية.

قال: وخيوطكم أوهى، ولكن الزمن الذي تتوهمونه هو الذي يحول بينكم وبين رؤية خيوطكم وهي تتقطع خيطا خيطا.

قلت: فكيف أتخلص من خيوط العنكبوت التي أرتبط بها، ويرتبط الضعفاء بها؟

قال: بأن تعلم بأنها خيوط عنكبوت.

قلت: كيف؟

قال: أرأيت لو وقعت في البحر، وحام بك الموت ليلتهمك، فرأيت حبلا متينا مرتبطا بسفينة ضخمة فيها كل وسائل الإنقاذ، أكنت تتعلق بذلك الحبل الذي يوصلك إلى سفينة النجاة، أم تتعلق بخيوط عنكبوت تراها من بعيد كما يرى الظمآن السراب؟

قلت: أحمق أنا إن التجأت لخيوط العنكبوت، وتركت سفينة النجاة.

قال: وحمقى أنتم عندما تتعلقون بالأيدي الفقيرة العاجزة وتتركون يد الله الممدودة إليكم.

قلت: نعم.. لقد أدركت مدى ما نقع فيه من جهل عندما نرى الخلق ولا نرى الله، ونرى الخيوط الواهية التي يمدنا بها الخلق أو يغروننا بها، وننسى حبال الله الممدودة إلينا.

التفت لأسأل المعلم، أو ليسألني، فلم أره.. لست أدري هل انصرف عني أم انصرفت عنه، أم اكتفى باقتناعي بما أراد قوله.

بعد ذهابه ترددت في أذني آيات من القرآن الكريم، وهي تقرر عجز الخلائق لتربطني بقوة الله.

لقد سمعت الله، وهو يقول متحديا كل من يستجير بغير الله أن يدعوه إذا حلت به المصائب:)  قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً((الاسراء:56)

ويبين لهم حقيقة من يتوجهون إليهم بالدعاء والضراعة والحاجة فهم بشر مثلهم يملكون قصورهم وضعفهم وحاجتهم، وبناؤهم كبنائهم معرض في أي لحظة للهدم قال U:)  إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( (لأعراف:194)

ويبين لهم بعض عيوب هذه الآلهة المزعومة، فهي آلهة لا تملك أرجلا تمشي بها ولا آذانا تسمع بها، ولا أعينا تبصر بها، ولا أيد تبطش بها، فهي أضعف من الذين يتوجهون لها بالعبادة، قال U:)  أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا (لأعراف:195)

ويبين القرآن الكريم أن هذه الآلهة أعجز من أن تنصر أنفسها فكيف تنصر غيرها قال U بصيغة الخطاب المتوجهة لكل نفس:) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ( (لأعراف:197)

وفي آية أخرى يتوجه بنفس الخطاب بعد أن يقدم له بذكر أفعال الله، وملكه، ليبين لهم الفقر الشديد للذين يلتجئون إليهم من دون الله، قال U:)  يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ((فاطر:13)

ثم يأمرهم بمراجعة أنفسهم، ويضع لهم الفرضيات المحتملة للبحث فيها، ليعرفوا مدى قوة من يحتمون به، قال U:)  قل أرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا(40  

ولذلك، فإن هذه الحصون المزعومة التي عبدت من دون الله أعجز من كشف الضر، أو منع الرحمة، قال U:)  وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ(38

لأن القاضي الوحيد، والمقدر الوحيد، والضار الوحيد، والنافع الوحيد هو الله U، قال U:)  وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(20)

والقرآن الكريم يخبر عن هذه الحقيقة بعد أن يجرب هؤلاء آلهتهم المزعومة التي التجأوا إليها من دون الله، قال U:)  وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا(52، وقال U:)  وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ(64

لأن ما يدعونه كان وهما نسجوه بأنفسهم، وأوحت لهم به خيالاتهم:) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(62

ونتيجة لهذا العجز الذي تقوم عليه هذه الحصون الوهمية يوجه الله تعالى الخطاب للنفس بمنطق المنفعة والمصلحة الذي جبلت عليه للتخيير بين اللجوء لحصن الله أو لحصون غيره، ويبين عاقبة ذلك اللجوء، يقول U:) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ((يونس:106)

وخطورة الظلم هنا أنه ظلم للنفس، وما أشده، لأن النفس لا تؤجر عليه ولا تقتص ممن ظلمها إلا بمزيد العذاب، فالنفس هي التي تعاقب نفسها.

ولذلك يعتبر القرآن الكريم عاقبة هؤلاء نوعا من الضلال عن مصالح النفس، فالذي ابتعد عن الله ابتعد عن كل مصالحه قال U:)  يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ((الحج:12)

ويخبر عن النتيجة التي يتوصل إليها هؤلاء بعد فوات الأوان، قال U:)  وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ(

ويعطي صورة كاريكاتورية للذين يترددون بين آلهة مختلفة في الوقت الذي يتوحد فيه المؤمنون، فيعتبرهم تحت رحمة أعدائهم من الشياطين يضلونهم عن السبيل، فهم تائهون بين سبل مختلفة، والمؤمنون يدعونهم إلى السبيل ويخبرونهم أن الهدى هدى الله، ولكنهم في ضلالهم وتيههم لا يسمعون ولا يستفيدون، قال U:)  قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ((الأنعام:71)

فالهدى الوحيد هو هدى الله كما أن الحصن الوحيد هو حصن الله، والسالم الوحيد في هذا الكون هو من أسلم كل كيانه لرب العالمين، ولهذا ورد بصيغة التأكيد والحصر ) قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى (

ولهذا فإن كل من يلتجئ إلى غير الله يعذب به، وبحسب نوع التجائه يكون نوع عذابه وشدته، قال U:)  فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ((الشعراء:213)

بعد يقيني بهذا شعرت بجوهرة عظيمة تتنزل علي، تنفي عن صدري بعض الظلمات.

3 ـ الأمل فيه

صعدت طابقا آخر في قصر الاستعفاف، ووقفت مع المعلم أمام الجوهرة الثالثة من جواهره، فسألت المرشد عنها، فقال: هذه جوهرة نفيسة اسمها ( الأمل فيه ) من حازها حيزت له الدنيا بحذافيرها، بل كل شي بحذافيره.

ابتسمت في نفسي من هذه الأسماء الغريبة، ثم التفت إلى المعلم ليشرح لي حقائقها.

نظر إلي المعلم، وقال: هذه الجوهرة النفيسة لم تكن لتصل إليها، لو لم تنل الجوهرتين السابقتين.

قلت: لم؟

قال: ألم تقرأ ما ورد في بعض الكتب الإلهية من أن الله تعالى يقول:( وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل مؤمل غيري بالياس، ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس، ولأخيبنه من قربي ولأبعدنه من وصلي، ولأجعلنه متفكرا حيران يؤمل غيري في الشدائد، والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجو غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري، وبيدي مفاتيح الأبواب، وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني )

قلت: أنا لا أومن إلا بما في كتابه الخاتم وسنة نبيه الصحيحة، أما سائر الكتب، فقد عراها التحريف، ولا آمن كثيرا مما فيها.

قال: ألم تقرأ قوله - صلى الله عليه وسلم - في الأثر الإلهي الصحيح:( قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )[34]

قلت: بلى، قرأته كثيرا، وما كثر ما خفت منه، فما وجه الإشارة في هذا.

قال: الأمل هو مفتاح الطلب، والطلب هو عنوان الاستعانة، والاستعانة لا تكون إلا به، فلذلك من وضع أمله في الخلق وكله الله إليهم، فإذا رفع يده عنهم وجد الله أقرب إليه من نفسه.

قلت: نعم، فهمته، لكأني بك تذكرني بقول ابن عطاء الله:( كما لا يحب العمل المشترك، كذلك لا يحب القلب المشترك، العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يقبل عليه )

قال: بل أقصد ما ورد في القرآن الكريم، وفي أم الكتاب، السورة التي اختزنت الحقائق.

قلت: تقصد قوله تعالى:) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ((الفاتحة:5)

قال: لا، بل أقصد السورة جميعا، فما قبلها مقدمات لما ذكرت، وما بعدها متممات لها، ألم تسمع قول علي t:( لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب )

قلت: بلى.. ولكن فهم ذلك يحتاج إلى أنواع من النظر والتأمل.

قال: بل يكفي لذلك قلب يفهم الحقائق، ويطيق تحمل الأنوار.

قلت: فاشرح لي يا معلم كيف أستنبط من هذه السورة هذه المعاني.

قال: هو ذا الإمام الخطيب المفتوح عليه في الإيمان والكلام يشرح لك ذلك.

التفت، فإذا الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير يتكلم بخشوع يخاطب الآفاق:.. إذا اتفق للإنسان هداية إلهية تهديه إلى سواء السبيل وقع في قلبه أن يتأمل في هذه الأسباب تأملا شافيا وافيا فيقول: هذا الأمير المستولي على هذا العالم استولى على الدنيا بفرط قوته وكمال حكمته أم لا؟

الأول باطل لأن ذلك الأمير ربما كان أكثر الناس عجزا وأقلهم عقلا، فعند هذا يظهر له أن تلك الإمارة والرياسة ما حصلت له بقوته وما هيئت له بسبب حكمته، وإنما حصلت تلك الإمارة والرياسة لأجل قسمة قسام وقضاء حكيم علام لا دافع لحكمه ولا مرد لقضائه.

ثم ينضم إلى هذا النوع من الاعتبار أنواع أخرى من الاعتبارات تعاضدها وتقويها فعند حصول هذه المكاشفة ينقطع قلبه عن الأسباب الظاهرة، وينتقل منها إلى الرجوع في كل المهمات والمطلوبات إلى مسبب الأسباب ومفتح الأبواب.

ثم إذا توالت هذه الاعتبارات وتواترت هذه المكاشفات صار الإنسان بحيث كلما وصل إليه نفع وخير، قال: هو النافع وكلما وصل إليه شر ومكروه قال هو الضار، وعند هذا لا يحمد أحدا على فعل إلا الله ولا يتوجه قلبه في طلب أمر من الأمور إلا إلى الله، فيصير الحمد كله لله والثناء كله لله، فعند هذا يقول العبد ) الْحَمْدُ لِلَّهِ (

قلت: هذا قوله تعالى:) الْحَمْدُ لِلَّهِ ((الفاتحة: من الآية2)، فكيف يصل إلى ) رَبِّ الْعَالَمِينَ((الفاتحة: من الآية2)، وما يستقي منها؟

قال: اعلم أن الاستقراء المذكور يدل العبد على أن أحوال هذا العالم لا تنتظم إلا بتقدير الله، ثم يترقى من العالم الصغير إلى العالم الكبير، فيعلم أنه لا تنتظم حالة من أحوال العالم الأكبر إلا بتقدير الله، وذلك هو قوله: ) رَبِّ الْعَالَمِينَ((الفاتحة: من الآية2)

قلت: و ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ((الفاتحة:3)

قال: ثم إن العبد يتأمل في أحوال العالم الأعلى فيشاهد أن أحوال العالمين منظومة على الوصف الأتقن والترتيب الأقوم والكمال الأعلى والمنهج الأسنى فيرى الذرات ناطقة بالإقرار بكمال رحمته وفضله وإحسانه فعند ذلك يقول: ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ((الفاتحة:3)

قلت: فـ ) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ((الفاتحة:4)

قال: فعند هذا يظهر للعبد أن جميع مصالحة في الدنيا إنما تهيأت برحمة الله وفضله وإحسانه ثم يبقى العبد متعلق القلب بسبب أنه كيف يكون حاله بعد الموت فكأنه يقال: مالك يوم الدين ليس إلا الذي عرفته بأنه الرحمن الرحيم فحينئذ ينشرح صدر العبد وينفسح قلبه، ويعلم أن المتكفل بإصلاح مهماته في الدنيا والآخرة ليس إلا الله، وحينئذ ينقطع التفاته عما سوى الله، ولا يبقى متعلق القلب بغير الله.

قلت: فـ ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ((الفاتحة:5)

قال: إن العبد حين كان متعلق القلب بالأمير والوزير كان مشغولا بخدمتهما، وبعد الفراغ من تلك الخدمة كان يستعين في تحصيل المهمات بهما، وكان يطلب الخير منهما، فعند زوال ذلك التعلق يعلم أنه لما كان مشتغلا بخدمة الأمير والوزير، فلأن يشتغل بخدمة المعبود كان أولى فعند هذا يقول ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ (، والمعنى إني كنت قبل هذا أستعين بغيرك، وأما الآن فلا أستعين بأحد سواك.

قلت: فـ ) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ((الفاتحة:6)

قال: لما كان يطلب المال والجاه اللذين هما على شفا حفرة الانقراض والانقضاء من الأمير والوزير فلأن يطلب الهداية والمعرفة من رب السماء والأرض أولى فيقول: اهدنا الصراط المستقيم.

قلت: فقوله تعالى:) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ((الفاتحة:7)

قال: إن أهل الدنيا فريقان: أحدهما: الذين لا يعبدون أحدا إلا الله ولا يستعينون إلا بالله ولا يطلبون الأغراض والمقاصد إلا من الله والفرقة الثانية: الذين يخدمون الخلق ويستعينون بهم ويطلبون الخير منهم فلا جرم العبد يقول: إلهي اجعلني في زمرة الفرقة الأولى، وهم الذين أنعمت عليهم بهذه الأنوار الربانية والجلايا النورانية ولا تجعلني في زمرة الفرقة الثانية، وهم المغضوب عليهم والضالون، فإن متابعة هذه الفرقة لا تفيد إلا الخسار والهلاك.

ثم انصرف عني كما أتى لا أدري من أين جاء، ولا أين ذهب، فسألت المعلم: ما هي الحقائق الأربعة التي تنشر الأمل في قلبي في الله، فلا أرى سواه، ولا أعتمد على غيره؟

قال: وما أدراك أنها أربعة.

قلت: عهدي بك تجعل الأمور كلها أربعة.

ضحك، وقال: أنا لا أجعلها، بل هي كذلك، ألا ترى جدران بيتك الأربع؟

قلت: فاذكر لي جدران الأمل في الله الأربع.

قال: الغنى والكرم والقرب والإجابة.

قلت: فما وجه الحصر فيها؟

قال: لا يمكنك أن تأمل في فقير، فالفقير يطلب منك، ومن كان يطلب منك لا تطلب منه.

قلت: فالكرم؟

قال: قد يكون الغني بخيلا، لا يصيبك نواله، ولا تمتد إليه أعناق طمعك.

قلت: فالقرب؟

قال: قد يكون كريما، ولكنه بعيد عنك، تحبه وتعجب من سيرته، ولكن نواله يظل بعيدا بقدر بعده عنك.

قلت: فالإجابة.

قال: قد يكون كريما وغنيا وقريبا، ولكنه لا يلتفت إليك ولا يهتم بك، فمشاغله أكثر من أن تنحصر فيك.

قلت: فعلمني من الحكمة ما يقرر هذه الحقائق في نفسي.

قال: هذه الحكمة تتصل بالله، فالبس لها لباسها، وأحرم لها إحرامها.

قلت: وما لباسها؟

قال: الأدب، فمن لم يتأدب عند الباب، رد إلى سياسة الدواب.

قلت: وما إحرامها؟

قال: أن تحرم على قلبك الالتفات لغيره أو النظر لسواه، ألم تسمع ثناء الله تعالى على أدب نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمام الحضرة الإلهية، حيث قال:) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى((لنجم:17)؟

الغنى

قلت: علمت فقرهم، فحدثني عن غناه.

قال: لا تطيقه.

قلت: فقرب لي.

قال: ما هي الوسائل التي يغتني بها قومك؟

قلت: يختلفون، فمنهم من تدر عليه التجارة بشآبيب الربح، ومنهم من تدر عليه الفلاحة، ومنهم من يكون حظه في الصناعة.. ومنهم من يكون حظه في تجارة السلاح.. ومنهم المخدارت.. ومنهم..

قال: فكم تدر عليهم؟

قلت: بالملايين أو بالملايير، بحسب نشاطهم واجتهادهم.

قال: فلو أن أحدا منهم ملك طلسما بحيث لا يتعب نفسه في تجارة ولا صناعة ولا شيء من ذلك، بل يكتفي أن يذكر الشيء، فيكون أمامه.

قلت: يبزهم بغناه، بل يملكهم بغناه.

قال: فإذا ملك وسائل إنتاجهم بغناه.

قلت: يحولهم خدما لبابه، بل يتحولون فقراء بين يديه يستجدون طلسمه كما يستجديهم الشحاذون.

قال: فإذا لم يملكهم فقط، بل ملك الكواكب جميعا، بل السماء جميعا.. بل الكون جميعا، ومع ذلك لا يفتقر إلى شيء منها.

قلت: ذلك هو الغني المحض.

قال: ذلك هو الله، فإنه )بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ((البقرة:117)) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ((يّـس:82)

ثم التفت إلي، وقال: فمن كان مدد خزائنه قوله ) كن ( أتنفذ خزائنه؟

قلت: لا، فما أسرع أن يملأها إن نفذت.

قال: أخبرني عن خزائن قومك التي يتيهون بها، والتي تجعلكم تستجدونها.

قلت: فيها الذهب والجواهر الكريمة.. وفيها الأرزاق المختلفة وأنواع المآكل والمشارب.. وفيها بعض أنواع المتع الطيبة والخبيثة.. وفيها بعض الأدوية التي تخفف الآلام أو تقهرها.

قال: وهل فيها السكينة؟

قلت: دعهم أولا يجدوها، فليس في الأرض عقار صالح لتحقيقها.

قال: فهل فيها الخلود؟

قلت: ذلك حلم، ما أجمله لو تحقق، ولكن البشر يئسوا منه، فاكتفوا بالتنعم بما عندهم من أنواع النعيم الزائل.

قال: فهل فيها الشباب الدائم؟

قلت: لا، فذلك إكسير أحمر، ما أسرع ما تهب عليه رياح الخريف.

قال: فهل فيها الأمن الدائم والنعيم المقيم..؟

قلت: ما شأنك يما معلمي.. أراك مغرما بما لا يكون.

قال: فلماذا تتعلقون بالخزائن الخاوية التي تضعون فيها بعض اللعب التي لا تختلف عن لعب الأطفال.

قلت: لعب الأطفال.

قال: نعم ما الفرق بين لعبكم ولعب الأطفال.. الأطفال يشتغلون بلعبهم وقت الصبا، وأنتم تشتغلون بها في ربيع العمر وخريفه.

قلت: فهل توجد خزائن تحوي الكنوز التي ذكرتها؟

قال: نعم.. إنها خزائن الغني الحقيقي، خزائن الله، ألم تسمع قوله تعالى:) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ((الحجر:21)، ألم تسمع قوله تعالى:) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ((صّ:9)، فقد جعل للرحمة خزائن خاصة بها.

قلت: فأين هذه الخزائن؟

قال: ) وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ((المنافقون: من الآية7)

قلت: فمن يملك مفاتيح هذه الخزائن؟

قال: خزائن الله لا مفاتيح لها، بل هي متسعة للكل، ألم تسمع قوله تعالى:) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً((الاسراء:100)

قلت: فلماذا إذن نلجأ لغير باب الله، ونستمطر الخزائن الفارغة.

قال: لأنكم تصورتم أن خزائن الله بيد عباده، والله تعالى ينفي ذلك..

قاطعته قائلا: بلى.. لقد سمعت الساعة الله تعالى وهو يقول:) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ((الطور:37)، فخزائن الله بيد الله، لا بيد أحد من الناس.

 

 

 

الكرم

قال لي: أتعلم حقيقة الكرم.

قلت: أن تنيل المحتاج من فضلك ما يضطر به إلى شكرك.

قال: ألا تعلم ما ينطوي عليه تعريفك هذا من البخل؟

قلت: كيف، فهذا هو الكرم.

قال: انتظارك المحتاج إلى أن يحتاج بخل، وتنعمك عليه بفضلك لا برأس مالك بخل، واضطراره إلى شكرك بخل..

قلت: فما الكرم؟

قال: الكريم ( هو الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يبالي كم أعطى ولمن أعطى، وإن رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفي عاتب وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به والتجأ ويغنيه عن الوسائل والشفعاء، فمن اجتمع له جميع ذلك لا بالتكلف، فهو الكريم المطلق)[35]

قلت: هذا هو تعريف الغزالي للكريم.

قال: وهو لا يصدق إلا على الله، فهو الكريم الحقيقي وغيره كريم على المجاز.

قلت: كيف يكون كريما على المجاز؟

قال: لو أن كريما من كرماء قومك وكل ـ لسعة أمواله ـ وكلاء ينوبون عنه في إيصال كرمه إلى الناس.. من يكون الكريم في نظر الناس: هل الوكلاء، أم من وكلهم؟

قلت: بل الكريم صاحب المال، أما الوكلاء فهم مجرد عمال ينالون أجورهم، بل هم يعيشون تحت ظل كرم ذلك الكريم، فكيف يطمعون في وصفه.

قال: ولكنكم انشغلتم بمدح الوكلاء، ومد أيديكم إليهم، ونسيتم من وكلهم.

قلت: كيف؟

قال: من أين ينفق كرام قومك؟

قلت: من أموالهم.

قال: وهي من أين؟

قلت: منها ما ورثوه، ومنها ما حصلوا عليه باجتهادهم.

قال: أرك تردد دائما مقالة قارون:) إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي( (القصص: من الآية78)

قلت: فما أقول؟

قال: قل مقالة القرآن الكريم.

قلت: وما هي؟

قال: المال مال الله، ألم تسمع الله وهو يقول:) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ( (النور: من الآية33)؟

ألم تسمع قول فاروق هذه الأمة:( أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة ولي اليتيم: إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت قرضا بالمعروف ثم قضيت )؟

قلت: فزدني تفصيلا.

قال: أو لم تؤمن؟

قلت: بلى، ولكن ليطمئن قلبي.

قال: ذكرنا سابقا نوعين للكرم، أو ركنين للكرم.

قلت: نعم: الكرم النفسي، والكرم المادي.

الكرم النفسي:

قال: فما منتهى الكرم النفسي؟

قلت: البشر والابتسامة والكلمة الطيبة.

قال: فلو أذن لك مسؤول كبير في الدخول إلى مكتبه والحديث معه وتقديم طلباتك بين يديه؟

قلت: يكون قد أكرمني غاية الإكرام، بل لا أظن أنني سأنسى جميل صنعه، ولا كريم طبعه.

قال: فلو كانت المبادرة بالدعوة منه لا منك؟

قلت: يكون أكرم وأنبل.

قال: فلو تكرر ذلك منه كثيرا؟

قلت: لا طاقة لي حينها بشكره.

قال: فهل يكون بذلك قد أحسن إليك؟

قلت: يكفيني سلوكه هذا ليكون محسنا لي، ولو لم أنل منه أي شيء، فحسبي أن أنتسب إليه.

قال: فالله تعالى خالق كل شيء ـ والذي لا يشكل ذلك المسؤول الذي كان له ذلك الخطر في نفسك سوى شيء ضئيل جدا من ملكه ـ يدعوك في كل لحظة لأن تقف بين يديه تكلمه ويكلمك بلا حجاب ولا رقيب، فهل هناك أكرم من هذا؟

قلت: ومع ذلك نظل نغلق الأبواب بيننا وبينه.

قال: وتأبون إلا الذلة على أبواب الذين يحتقرونكم، ويسدون أبوابهم في وجوهكم.. أخبرني هل ورد في القرآن الكريم ما يدل على حرمان الفقراء من الحديث مع الله؟

قلت: كلا.. بل أراه يخبر عن فضلهم، بل يثني عليهم من الثناء ما لم ينله غيرهم، قال تعالى:) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ((الأنعام:52)، وقالتعالى:) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً((الكهف:28)

قال: فهؤلاء هم الفقراء إلى الله على الحقيقة شغلتهم إرادة الله عن الطواف ببيوت عباده، وشغلهم الرجاء في الله عن التعلق بغير الله، وشغلهم النظر لما في يد الله عن الطمع فيما في أيدي عباده.

الكرم المادي:

قلت: فحدثنا عن الكرم المادي.

قال: هو ذا بديع الزمان يحدثك.

فجأة ظهر بديع الزمان، وهو يقول من غير أن أسأله: فلو أنعم الانسان النظر في سير الحوادث ابتداءً من أضعف كائن حيّ وأشده عجزاً، وانتهاءً بأقوى كائن، لوجد أن كل كائن يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، بل يَمنح سبحانه أضعفَهم وأشدّهم عجزاً ألطف الارزاق وأحسنها، ويسعف كل مريض بما يداويه.. وهكذا يجد كل ذي حاجة حاجته من حيث لا يحتسب.. فهذه الضيافة الفاخرة الكريمة، والاغداق المستمر، والكرم السامي، تدلّنا بداهة، ان يداً كريمة خالدة هي التي تعمل وتدير الامور.

فمثلاً: ان اكــساء الأشجــار جمـيعاً بحلل شبيـهة بالسـندس الخـضر - كأنها حور الجنة - وتزيينَها بمرصعات الازهار الجميلة والثمار اللطيفة، وتسخيرَها لخدمتنا بانتاجها ألطف الاثمار المتنوعة وألذها في نهايات اغصانها التي هي أيديها اللطيفة.. وتمكيننا من جني العسل اللذيذ - الذي فيه شفاء للناس - من حشرة سامة.. واِلباسَنا أجمل ثياب وألينها مما تحوكه حشرة بلا يد.. وادّخار خزينة رحمة عظيمة لنا في بذرة صغيرة جداً.. كل ذلك يرينا بداهةً كرماً في غاية الجمال، ورحمة في غاية اللطف.

الكرم الدائم:

قال لي المعلم: ما المدة التي يستطيع كرامكم، حاتم وغيره، أن يكرموا بها؟

قلت: مدة الضيافة، وهي ثلاث، وقد تمتد أسابيع، أو أشهرا.

قال: فلنفرض أنها تمتد العمر جميعا.. فماذا بعد ذلك؟

قلت: لا بد أن ينتهي الكرم في يوم ما.

قال: الكريم الحقيقي لا ينتهي كرمه، بل يستمر أبد الآباد، بل إنه ادخر كرمه الحقيقي إلى الوقت الذي ييأس فيه الخلائق من كرم بعضهم بعضا.

قلت: متى ذلك؟

قال: بعد الموت مباشرة تتدفق بحار كرمه على عباده الصالحين بما لا قدرة على وصفه، ألم تسمع قوله تعالى:) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ((الحجر:21)

قلت: بلى، فما وجه الإشارة فيها.

قال: إن كل ما تراه من خزائن الكرم لا يعدوا أن يكون جزءا ضئيلا جدا لا يكاد يرى من الكرم المعد في دار القرار.

قلت: فمثل لي ذلك بمثال يستوعبه خيالي.

قال: هو ذا بديع الزمان أمامك يصور لك مثال هذه الحقيقة.

فجأة ظهر بديع الزمان، وهو يقول من غير أن أسأله: هب انك تسير في طريق، وتشاهد أن عليها فندقاً فخماً بناه ملك عظيم لضيوفه، وهو ينفق مبالغ طائلة لتزيينه وتجميله كي يُدخل البهجة في قلوب ضيوفه، ويعتبروا بما يرون. بيد أن اولئك الضيوف لا يتفرجون الا على أقل القليل من تلك التزيينات، ولا يذوقون الا أقل القليل من تلك النعم، حيث لا يلبثون الا قليلاً ومن ثم يغادرون الفندق دون ان يرتووا ويشبعوا. سوى ما يلتقطون من صور أشياء في الفندق بما يملكون من آلة تصــوير وكـذلك يفـعل عمال صاحب الفندق وخدامه حيث يلتقطون حركات هؤلاء النــزلاء وسكنــاتهم بكل دقة وأمــانة ويســجلونها. فهــا أنت ذا ترى ان الملك يهدّم يومياً اغلب تلك التزيينات النفيسة، مجدداً اِياها بأخرى جديدة للضيوف الجدد.

أفبعد هذا يبقى لديك شك في مَن بنى هذا الفـندق على قارعة هذه الطريق يملك قصوراً دائمة عالية، وله خزائن زاخرة ثمينة لا تنفد، وهو ذو سخاء دائم لا ينقطع. وأن ما يبديه من الكرم في هذا الفندق هو لإثارة شهية ضيوفه الى ما عنده من اشياء، ولتنبيه رغباتهم وتحريكها لما أعدّ لهم من هدايا؟.

قلت: هذا صحيح، فما وجه الإشارة في هذا المثال؟

قال: إن تأملت من خلال هذا المثال في أحوال فنادق الدنيا هذه، وانعمت النظر فيها بوعي تام فستفهم أن هذه الدنيا - الشبيهة بذلك الفندق - ليست لذاتها. فمحال أن تتخذ لنفسها بنفسها هذه الصورة والهيئة. وانما هي دار ضيافة تملأ وتفرغ، ومنزل حلّ وترحال، أنشئت بحكمة لقافلة الموجودات والمخلوقات.

وستفهم أن ساكني هذا الفندق هم ضيوف مسافرون، وان ربهم الكريم يدعوهم الى دار السلام.

وستفهم ان التزيينات في هذه الدنيا ليست لأجل التلذذ والتمتع فحسب، اذ لو اذاقتك اللذة ساعة، اذاقتك الالم بفراقها ساعات وساعات، فهي تذيقك مثيرة شهيتك دون ان تشبعك، لقصر عمرها أو لقصر عمرك، اذ لا يكفي للشبع.

اذن فهذه الزينة الغالية الثمن والقصيرة العمر هي للعبرة، وللشكر، وللحض على الوصول الى تناول اصولها الدائمة، ولغايات اخرى سامية.

وستفهم ان هذه الزينة في الدنيا بمثابة صور ونماذج للنعم المدّخرة لدى الرحمة الإلهية في الجنة للمؤمنين.

وستفهم ان هذه المصنوعات الفانية ليست للفناء، ولم تخلق لتشاهَد حيناً ثم تذهب هباءً، وانما اجتمعت هنا، واخذت مكانها المطلوب لفترة قصيرة كي تُلتقط صورها، وتُفهم معانيها، وتُدوّن نتائجها، ولتُنسج لأهل الخلود مناظر أبدية دائمة ولتكون مداراً لغايات اخرى في عالم البقاء.

قلت: أريد توضيحا أكثر لهذا المعنى.

أمسك زهرة من الغيب في منتهى الجمال، وقال: تأمل في هذه الزهرة - وهي كلمة من كلمات القدرة الإلهية - انها تنظر الينا مبتسمة لنا لفترة قصيرة، ثم تختفي وراء ستار الفناء. فهي كالكلمة التي نتفوه بها، التي تودع آلافاً من مثيلاتها في الآذان وتبقى معانيها بعدد العقول المنصتة لها، وتمضي بعد أن أدت وظيفتها، وهي افادة المعنى، فالزهرة ايضاً ترحل بعد أن تودع في ذاكرة كل من شاهدها صورتها الظاهرة، وبعد ان تودع في بذيراتها ماهيتها المعنوية، فكأن كل ذاكرة وكل بذرة، بمثابة صور فوتوغرافية لحفظ جمالها وصورتها وزينتها، ومحل اِدامة بقائها.

فلئن كان المصنوع وهو في أدنى مراتب الحياة يعامل مثل هذه المعاملة للبقاء، فما بالك بالانسان الذي هو في أسمى طبقات الحياة، والذي يملك روحاً باقية، ألا يكون مرتبطاً بالبقاء والخلود؟ ولئن كانت صورة النبات المزهر المثمر، وقانون تركيبه - الشبيه جزئياً بالروح - باقية ومحفوظة في بُذيراتها بكل انتظام، في خضم التقلبات الكثيرة، أفلا يُفهم كم تكون روح الانسان باقية، وكم تكون مشدودة مع الخلود، علماً انها قانون أمري، وذات شعور نوراني، تملك ماهية راقية، وذات حياة، وذات خصائص جامعة شاملة، وقد اُلبست وجوداً خارجياً؟!

 

 

القرب

قال لي: لقد ذكرت لي بأن في قومك كراما.

قلت: لا أجحد ذلك، ولو أني اقتنعت بأن لهم كرما مجازيا لا حقيقيا.

قال: فأين هم؟

قلت: منهم من يسكن في الخليج، حيث يرمون الدراهم في الطرقات لينالها الغادي والرائح، ومنهم من يرحل إلى أوروبا وأمريكا حيث يتلذذ برؤية الشحاذين من الأغنياء، وهم ينحنون لجمعها.

قال: فهل يصلك منها شيء؟

قلت: تصلني أخبارها، وقد تسمعني القنوات الفضائية رنينها.

قال: وفي الأقدمين، هل تعرف كراما؟

قلت: كثيرون هم، يسرني ذكرهم، وتنتشي روحي بأخبارهم.

قال: فهل يصلك نوالهم؟

قلت: كيف يصلني نوالهم، وقد رمموا؟

قال: فلماذا تشغل قلبك بكرم بعيد إما في أصقاع الأرض، أو في أطباق الثرى، وتنسى الكريم الذي هو أقرب إليك منك.

قلت: الله؟

قال: الله، فهو أكر م الأكرمين، وأقرب الأقربين، ألم تسمع قوله تعالى:) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ((يونس:61)

ألم تسمع قوله تعالى:) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ((قّ:16)

ألم تسمع قوله تعالى:) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ( (الواقعة:85)

ألم تسمع قوله تعالى:) مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ((المجادلة: من الآية7)

ألم تسمع إليه، وهو يحدثك من سرادقات قدسه، ومن وراء حجب عزته ليقول لك:

متى جئتني قبلتك..

إن أتيتني ليلا قبلتك.. وإن أتيتني نهارا قبلتك

إن تقربت مني شبرا تقربت منك ذراعا.. وإن تقربت مني ذراعا تقربت منك باعا.. وإن مشيت إلى هرولت إليك.

لا تحجبك الخطايا عني، فلو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة.. ولو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك.

هل هناك من هو أعظم مني جودا وكرما..

عبادي يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فرشهم.

إني والجن والإنس في نبإ عظيم: أخلق ويعبد غيري وأرزق، ويشكر سواي خيري إلى العباد نازل وشرهم إلى صاعد أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي.

من أقبل إلي تلقيته من بعيد ومن أعرض عني ناديته من قريب ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد ومن أراد رضاي أردت ما يريد ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد.

أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا إلي فأنا حبيبهم فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب.

من آثرني على سواي آثرته على سواه الحسنة عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والسيئة عندي بواحدة فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له.

أشكر اليسير من العمل وأغفر الكثير من الزلل.

رحمتي سبقت غضبي وحلمي سبق مؤاخذتي وعفوي سبق عقوبتي أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها )

بهذا الحديث الودود وغيره يخاطبك، وبهذه العذوبة والجمال يدعوك إليه، ليرفع الحجب التي تحول بينك وبينه، ويزيل الأعذار التي تعتذر بها عن التقرب إليه.

قلت: فما علاقة هذا القرب بالكرم؟

قال: القرب نفسه كرم، فمن عرف قرب الله أعطاه الله من الغنى والسعادة ما يحتقر به الأحجار التي تتباهون بها، وتملأون بها خزائنكم؟

قلت: فهل وجد المقربون لله هذه الثمرة الزكية؟

قال: وكيف لا يجدونها، وقد عاشوا بها.. فقد عمر الله عليهم حياتهم، فامتلأت أنسا، وعمر عليهم أنفاسهم، فامتلأت ذكرا، وشغل خواطرهم فلم يخطر عليها غيره، فقلوبهم تردد:

خيالك في عيني وذكرك في فمي
 

ومثواك في قلبي فأين تغيب
  

وأشواقهم تنشد:

ومن عجب أني أحن إليهم
 

وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
  

وتطلبهم عيني وهم في سوادها
 

ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
  

وأسرارهم تترنم:

يا ثاويا بين الجوانح والحشى
 

مني وإن بعدت علي دياره
  

عطفا على صب يحبك هائم
 

إن لم تصله تصدعت أعشاره
  

لا يستفيق من الغرام وكلما
 

حجبوك عنه تهتكت أستاره
  

ثم التفت إلي، وقال: من صادق منكم أميرا أو وزيرا أو ملكا أيشعر بالفقر والحاجة، أو الحزن والألم؟

قلت: كيف يشعر بذلك، وهو محل غبطة جميع الناس؟

قال: فمن كان في صحبة الله، كيف يشعر بالفقر والحاجة، أو كيف تصيبه الذلة والهوان؟

الإجابة

قال لي المعلم: من المجيب من قومك؟

قلت: من إذا سألته أعطاني، وإن ظرقت بابه فتح لي.

قال: ومن أعطاك قبل أن تسأله، وفتح لك بابه قبل أن تطرقه؟

قلت: ذلك المجيب المطلق.

قال: فذلك هو الله.

قلت: أبهذه النظرة كان ينظر ابن عطاء الله حين قال:( طلبك منه اتهام له )؟

قال: وبهذه النظرة نظر العارفون حين رددوا مع أبي الحسن الشاذلي قوله: ( لا يكن همك في دعائك الظفر بقضاء حاجتك فتكون محجوباً، وليكن همك مناجاة مولاك )

أو حين رددوا مع ابن عطاء الله قوله:( لا يكن طلبك تسبباً إلى العطاء منه، فيقل فهمك عنه. وليكن طلبك لإظهار العبودية، وقياماً بحقوق الربوبية)

قلت: لقد علل كون الطلب لا يكون سبباً للعطاء بثلاث علل:

أما العلة الأولى، فعبر عنها بقوله:(  كيف يكون طلبك اللاحق سبباً في عطائه السابق؟ )، فعطاء الله للعبد عطاء أزلي سابق، وهو السبب في العطاء الحادث، والسبب لا بد من تقدمه على المسبب.

أما العلة الثانية، فعبر عنها بقوله:(  جل حكم الأزل أن ينضاف إلى العلل )، أي أن حكم الله يتنزه ويتقدس أن يؤثر فيه أي مؤثر.

أما العلة الثالثة، فعبر عنها بقوله:( عنايته فيك لا لشيء منك، وأين كنت حين واجهتك عنايته، وقابلتك رعايته؟ لم يكن في أزله إخلاص أعمال، ولا وجود أحوال، بل لم يكن هناك إلا محض الإفضال، وعظيم النوال )

قال: وهذا هو الأثر الإيماني اللذيذ الذي يعمر القلب بحلاوة الإيمان، فعناية الله الأزلية هي السبب في كل نعمة، لا سؤالها، وهذا ما يشعر القلب بمحبة الله واصطفائه على الكثير من خلقه، وهو ما يجعله يعبد الله مستشعرا منته عليه، وإحسانه السابق إليه.

قلت: أفنترك الدعاء لهذا؟

قال: لا تسئ فهم كلام العارفين، فتحجب دون مقاماتهم.

قلت: لكني أسمع كلاما صريحا لا يحمل إلا معنى واحدا، فهذا الواسطي يقول:( أخشى إن دعوت أن يقال لي: إن سألتنا مالك عندنا فقد اتهمتنا، وإن سألتنا ما ليس لك عندنا فقد أسأت الثناء علينا، وإن رضيت أجرينا لك من الأمور ما قضينا لك في الدهور )

قال: الواسطي t يعبر عن حالة وجدانية، لا عن حقيقة شرعية.

قلت: فكيف أجمع بينهما؟

قال: إذا توقف علاج علتك على دواء مسهل، أتتناوله؟

قلت: كيف لا أتناوله، وعليه يتوقف علاج علتي؟

قال: ولكنه سيصيبك بإسهال، وهو علة أخرى.

قلت: ولكني سوف أحتال فأبادر الإسهال بما يقيني منه.

قال: فهذا ما لحظه العارفون، فقد خشوا أن يخطئ العامة فيسيئوا فهم الدعاء، فيشبهوا الله بخلقه.

قلت: كيف يكون التشبيه في هذا المحل، ولا أسمع يدا ولا ساقا.

قال: التشبيه لا يتوقف على اليد والساق، بل إن في قياس إجابة الله بإجابة عباده رمي لله ببخل العباد.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لأن عناية الله بعباده لا تفتقر إلى سؤالهم.

قلت: فلماذا أمرهم بسؤاله؟

قال: لتسوقهم حاجاتهم إلى الله، فيكون دعاؤهم أفضل من حاجاتهم.

قلت: فهلا ضربت لي على ذلك مثالا.

قال: أرأيت لو أن أبا رحيما رأى في ولده تقصيرا في طلب العلم، ورأى انشغاله باللعب قد ملك عليه كل وقته، فخشي إن نهره أن ينفلت منه بالكلية، فبحث عن شيخ مرشد، وأعطاه من اللعب التي يرغب فيها الصبيان الكثير، وقال له:( سيأتيك ابني طالبا اللعب، فلا تعطه اللعبة حتى تعلمه علما)، ثم قال لابنه:( أي لعبة رغبت فيها.. فافزع إلى فلان، فإن عنده ما تشتهي )

فكان ابنه يذهب إلى ذلك المعلم ليأخذ اللعب، فلا يتركه المعلم حتى يعلمه ما شاء من العلوم إلى أن زرع الله محبة العلم في قلبه، فجاءه يوما ليقول له:( لم آتك اليوم لطلب اللعب، وإنما أتيتك لطلب العلم )

قلت: فما محل هذا المثال من الدعاء؟

قال: لقد علم الله حبنا للدنيا ولهوها ولعبها.

قلت: نعم، فقد قال تعالى معبرا عن طبيعة الإنسان:) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ((العاديات:8)، وقال تعالى:) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً((الفجر:20)

قال: فلو قال لكم الله تعالى:( دعوا أموالكم وتعالوا إلي ) لم تطيقوا ذلك، لتصوركم أن أموالكم أعظم من الله.

قلت: هذه حقيقة نعيشها، وإن كنا لا نجرؤ على التصريح بها.

قال: فلذلك جعل الالتجاء إلى بابه، وطرق خزائن كرمه أسبابا لا لرزقكم فقط، فقد ضمن ذلك لكم، وإنما لتسعدوا بلقائه، وقد يجعلكم ذلك تطلبونه ولا تكتفون بالطلب منه.

قلت: وما الفرق بينهما؟

قال: كالفرق بين الحقيقة والخيال.

قلت: وما الفرق بينهما؟

قال: كالفرق بين قامتك وظلها.

قلت: فما الفرق بينهما؟

قال: كالفرق بين الوجود والعدم.

قلت: ولكن ظلي موجود.

قال: بك لا به.

ثم انصرف عني أو انصرفت عنه، لكنني أحسست بجوهرة عظيمة تتنزل علي تنجلي من نورها بعض الظلمات.

 

 

 

4 ـ مد يدك إليه

صعدت مع المعلم طابقا آخر في قصر الاستعفاف، وهو آخر طوابقه، ومنه تمتد اليد التي رأيتها خراج القصر، فوجدنا شعاعا عظيما متلألئا، سألت المرشد عنه، فقال: هذه جوهرة نفيسة من جواهر الاستعفاف اسمها ( مد يدك إليه )

التفت إلى المعلم، وقلت: أفي هذا المحل أضع يدي كما ذكرت؟

قال: نعم، في هذا المحل تضع يدك في محلها الصحيح.

قلت: أهناك حجر كالحجر الأسود ألمسه في هذا القصر؟

قال: الحجر الأسود حجر واحد تلتقي عنده أفئدة المؤمنين.

قلت: فأين أضع يدي إذن؟

قال: املك يدا أولا، ثم اسأل عن المحل الذي تضعها فيه.

التفت إلى يدي، وقلت: ها هي ذي يدي في جسدي، فكيف أحتاج إلى امتلاك يد.

قال: تحتاج للتحقق بحقائق هذه الجوهرة إلى امتلاك أربعة أيد.

قلت: تقصد يدين ورجلين؟

قال: لا.. أربعة أيد، لكل يد لسان يعبر عنها.

قلت: هذا وصف غريب.. لعلك تريد أن تحولني كائنا أسطوريا.

قال: ما فائدة اليد؟

قلت: إمساك النعمة.

قال: فكيف تأتيك النعمة؟

قلت: بسؤالها.

قال: فهل يمكن أن تمد يدك لبعض الناس من غير أن يتكلم لسانك بما تحتاج؟

قلت: لا.. لأنه ربما يظن أني أمد يدي لمصافحته، لا لسؤاله..

قال: وربما يعطيك ما لم تسأل.

قلت: وربما يمد يده إلي ليبطش بي لتصوره أني مددتها للبطش به.

قال: فما الذي يعبر عن قصدك من مد يدك؟

قلت: لساني.

قال: ولذلك يستعمل الشحاذون ألسنتهم.

قلت: ولولاها لم ينالوا أي شيء.

قال: فمن أشطرهم؟

قلت: أقدرهم على إظهار اضطراره وفقره وعجزه ومسكنته.

قال: فكيف يظهر ذلك؟

قلت: للاضطرار لسانه، وللافتقار لسانه، وللعجز لسانه، وللمسكنة لسانها.

قال: فقد أقررت إذن بالألسنة الأربع التي تعبر عن الأيدي الأربع.

قلت: نعم.. ذكرت الألسنة الأربع، ولكني لم أذكر الأيدي الأربع.

قال: كل يد تعبر عن حاجة من الحاجات.. إذا مد الغريق يده إليك، فوضعت فيها دينارا، هل يقبله أم يظل يمد يديه إليك؟

قلت: بل لو أعطيته مليارا لرماه، فما يغني عنه إن تلقفه الموت، بل سيظل مادا يده إلي.

قال: وما يده التي يمدها؟

قلت: يد اضطراره.

قال: فقد أقررت إذن بأن للاضطرار يده التي تختلف عن يد الافتقار، ومثل ذلك يد الضعف ويد المسكنة.

قلت: فكيف أتحقق بهذه الأيدي؟

قال: بتحققك بألسنتها.

قلت: وكيف أتعلم ألسنتها، وهل في العالم مدرسة لغات تدرس هذه الألسن؟

قال: في مدرسة القرآن الكريم تتعلم كل اللغات التي لا يفهمها البشر فقط، بل لا يفهمها الكون جميعا.

قلت: ولكن القرآن الكريم لم ينزل إلا باللغة العربية؟

قال: تلك كسوته التي يمكن أن تصبغ بلغات العالم المختلفة، ولكن حقائقه تعلمك كيف تحل الشيفرة التي تفهم بها أسرار الكون وأسرار التعامل مع الكون.

قلت: فعلم لساني هذه اللغات.

قال: التعليم للسان قلبك، لا للسان فمك.

 

لسان الاضطرار

قلت: علمني لغة الاضطرار.

قال: لن تتعلم لسان الاضطرار حتى تعلم حقيقة الاضطرار.

قلت: ولكني أعلم حقيقة الاضطرار.

قال: وما هي؟

قلت: أن لا يبقى لي من الخيارات إلا خيار واحد، فأضطر إلى استعماله، ولو كان ثقيلا على قلبي.

قال: فاضرب لي مثالا على ذلك.

قلت: أقذر شيء إلى نفسي أن أتناول جيفة أو أشرب دما أو أذوق لحم خنزير، ومع ذلك، فإني إذا اضطررت إلى تناولها تناولتها لأحفظ حياتي، كما قال تعالى:) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ((البقرة:173)، وقالتعالى:) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ((النحل:115)

قال: ولماذا اضطررت إلى هذه المستقذرات؟

قلت: لعزة غيرها، وعدم ظفري به.

قال: ففي تلك الحالة التي تقف فيها على أعتاب الموت ماذا تشعر؟

قلت: أشعر بضياع عظيم وانحدار عميق، فالموت بأشباحه ينتهز فرصة غفلتي ليضمني إلى حزبه.

قال: ألا تيأس في ذلك الحين؟

قلت: أيأس فقط؟.. بل تجتمع في بحري كل أنهار الكآبة وسيول الحزن.

قال: في ذلك الحين يمكنك أن تتعلم لسان الاضطرار؟

قلت: كيف؟

قال: لسان الاضطرار يتولد من شعورك بعدم كل شيء إلا وجوده، وبفقد كل شيء إلا رحمته، وباليأس من كل شيء إلا الأمل فيه.

قلت: أهذا الشعور وليد ظرف خاص أمر به، أم هو وليد كل ظرف؟

اضطرار العارفين:

قال: أما العارفون، فيعيشون الاضطرار، وهم في بحار النعم، لأنهم لا يرون منعما غير الله، فلا يضطرون لغير الله.

قلت: لقد ذكرتني بقول ابن عطاء الله:( ما طلب لك شيء مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب إليك مثل الذلة والافتقار )

قال: بل ذكرتك بقوله تعالى:) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ((النمل:62).. أتدري السر الذي جعل العارفين يشعرون باضطرارهم الدائم إلى الله؟

قلت: ما هو؟

قال: هو ما عبر عنه الحق تعالى في هذه الآية بقوله:) أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (

قلت: هذا خطاب للمشركين يذكرهم بالله.

قال: وهو خطاب للغافلين يدعوهم لتحطيم الأصنام التي ترقد في جوانب كعباتهم، وتحول بينهم وبين الاضطرار لله.

قلت: لا أعلم أن في الأرض كعبة غير الكعبة.

قال: في كل قلب إنسان كعبة، منهم من يعمرها بالتوحيد، ومنهم من يملؤها بالأصنام.

قلت: ولكني لم أفهم كيف يشعر بالاضطرار من يعيش في بحار النعم، فلا أعلم الاضطرار إلا في الوقت الذي يباح فيه أكل الميتة.

قال: ولكن العارفين يشعرون دائما أنهم في حال من أبيح له أكل الميتة.

قلت: لم أفهم.. فلم أسمع أن العارفين يبيحون لأنفسهم أكل الميتة باعتبارهم مضطرين.

قال: هم لم يضطروا للميتة، ولن يضطروا لها، فخزائن الله تغنيهم عنها، ولكنهم مضطرون لله.

قلت: لم أفهم.

قال: لا يرون لحياتهم معنى ولا وجودا من غير الله.

قلت: كل الخلق كذلك، فلا يمكن أن يوجد موجود من غير إيجاد الله.

قال: ولكنهم يعيشون هذا المعنى ويستشعرونه ولا يكتفون بوضعه في زاوية مهملة من زوايا عقولهم.

قلت: فكيف يستشعرون هذا؟

قال: سأترك لك الأصمعي ليروي لك حكاية عن منبع من منابع الطهارة يصف لك ـ بحاله لا بمقاله ـ اضطرار العارفين.

فجأة ظهر الأصمعي، وكأن ملكا استدعاه ليروي مشاهداته، فقال: كنت أطوف حول الكعبة في ليلة مقمرة , فسمعت صوتا حنونا لرجل يناجي ربه.

بحثت عن صاحبه، واذا به شاب جميل رشيق القامة يبدو عليه الطيب، وقد تعلق باستار الكعبة , وكان يقول في مناجاته:( يـاسـيدي ومولاي , نامت العيون وغابت النجوم , وأنت ملك حي قيوم , لا تاخذك سنة ولا نوم, غلقت الملوك ابوابها, واقامت عليها حراسها وحجابها, وقد خلا كل حبيب بحبيبه , وبابك مفتوح للسائلين , فها انا سائلك ببابك مذنب فقير, خاطئ مسكين , جئتك ارجو رحمتك يارحيم , وأن تنظر الي بلطفك ياكريم ثم انشد:

يامن يجيب دعا المضطر في الظلم
 

ياكاشف الكرب والبلوى مع السقم
  

قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا
 

وعين جودك يا قيوم لم تنم
  

إن كان جودك لا يرجوه ذو سرف
 

فمن يجود على العاصين بالنعم
  

هب لي بجودك فضل العفو عن سرف
 

يا من أشار إليه الخلق في الحرم
  

ثم رفع رسه إلى السماء وناجى:( إلـهـي وسيدي ومولاي الحجة علي ) ورفع رأسه ثانية إلى السماء مناجيا بأعلى صوته:( ياالهي وسيدي ومولاي , ما طابت الدنيا الا بذكرك , ومـاطـابـت العقبى الا بعفوك , وما طابت الايام الا بطاعتك , وما طابت القلوب الا بمحبتك , وما طاب النعيم الا بمغفرتك )

فلا زال كذلك حتى أغمي عليه.

قلت فزعا: فما فعلت؟

قال: دنوت منه، وتأملت محياه، فاذا هـوعـلـي بن الحسين زين العابدين t , فأخذت رأسه في حجري وبكيت له كثيرا, فاعادته الى وعيه قـطـرات دمع سكبت على وجنتيه , فتح عينيه وقال:( من الذي شغلني عن ذكر مولاي؟)، قلت:( إنك من بـيـت النبوة ومعدن الرسالة، ألم تنزل فيكم آية التطهير؟ ألم يقل اللّه فيكم:) إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً((الأحزاب: من الآية33)

قلت له: نعم ما قلت، فقد أوتيت أدبا.

قال: لكنه نهض، وقال: ياأصمعي، إن الله خلق الجنة لمن أطاعه، ولو كان عبدا حبشيا, وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدا قرشيا. ألم تقرأ القرآن؟ ألم تسمع كلام اللّه:) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ((المؤمنون:101)

قلت: فما فعلت؟

قال: عندما وجدته على هذا الحال , تركته ومضيت لسبيلي.

ثم خرج الأصمعي كما دخل، لست أدري هل خسفت به الأرض، أم طار في أجواء السماء.

التفت إلى المعلم، وقلت: لقد سمعت حديث الأصمعي، وتأثرت له، ولكني لم أفهم معنى اضطرار العارفين.

قال: العارفون يطلبونه، والغافلون يطلبون منه.

قلت: فما في هذا من الاضطرار؟

قال: أتضطر أنت إلى التنفس؟

قلت: وكيف لا أضطر، ولولاه لاختنقت.

قال: فكذلك ضرورتهم إلى الله، بل هي أشد في أنفسهم من ضرورة الهواء والماء، ألم تسمع إلى عبد الله بن المنازل، وقد جاءه رجل، فقال: رأَيت في المنام كأَنك تموت إلى سنة، فقال عبد الله: لقد أجلتنى إلى أجل بعيد أعيش إلى سنة، لقد كان لى أنس ببيت سمعته من أبى على الثقفى:

يا من شكى شوقه من طول فرقته      اصبر لعلك تلقى من تحب غداً

قلت: فهذا يتمنى الموت الذي نهانا - صلى الله عليه وسلم - أن نتمناه؟

قال: هذا يحب لقاء الله الذي أمرنا الله تعالى برجائه، فقال:) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ((العنكبوت:5)

ألم تعلم بما اختبر الله دعوى محبة اليهود لله؟

قلت: بلى، فقد قال تعالى:) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ((الجمعة:6)

قال: فلذلك فإن العارفين قد يصبرون على كل شيء، ولكنهم لا يصبرون عن الله.

قلت: لقد ذكرتني بالشبلي t.

قال: حين وقف عليه رجل، فقال: أي صبر أشد على الصابرين فقال: الصبر في الله قال السائل: لا، فقال: الصبر لله، فقال: لا، فقال: الصبر مع الله، فقال: لا، قال الشبلي: فإيش هو قال: الصبر عن الله، فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف.

اضطرار الغافلين:

قلت: قد فهمت اضطرار العارفين، فما اضطرار غيرهم؟

قال: أما غيرهم، فلا يشعرون بالله إلا عندما تضيق بهم السبل، وتوصد في وجوههم جميع الأبواب، ألم تسمع قوله تعالى:) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ((يونس:22)

قلت: بلى، ولها نظيرات في القرآن الكريم، فالله تعالى يقول:) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ((النحل:53)، وقالتعالى:) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً((الاسراء:67)، وقالتعالى:) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ( (الأنعام:63 ـ 64)

قال: ومع ذلك، فإن الله برحمته يجيب من دعاه بهذا اللسان ولو كان ما كان، ولهذا لا تعجب ما يحكى من إجابة دعوات الكافرين إن وقفوا مواقف الاضطرار.

قلت: لقد ظللت زمنا محتارا في سبب هذا.

قال: إن الله برحمته التي لا تعد وبفضله الذي لا يحد يمهل عباده ويوفر لهم من السبل ما يدعوهم إلى لزوم بابه، فأبواب الله لا توصد، ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:( ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا لثلث الليل الآخر، فيقول من يدعوني فأستجيب له، أو يسألني فأعطيه، ثم يبسط يديه ويقول: من يقرض غير عديم، ولا ظلوم )[36]

ألم تسمع بفرح الله برجوع عبده إليه؟

قلت: بلى، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ، وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده، عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده )[37]

قال: فما يفهم قومك من هذا الحديث؟

قلت: يجادلون ويتصارعون في معنى الفرح وعلاقته بالله، وهل يفوض أم يؤول أم يشبه أم يعطل أم يثبت أم..!؟

قاطعني، وقال: ألم تسمعوا قوله - صلى الله عليه وسلم -:( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل )[38]

قلت: بلى، سمعوه.

قال: فماذا عملتم فيه.

قلت: اختلفوا فيه أيضا.. فأجازوه في علم الكلام.

قال: علم الكلام، أم علم الخصام؟.. انصحهم أن يتعلموا بدل ذلك علم السلام.

قلت: فإلام ينظر علم السلام في فرح الله بعبده؟

قال: إن من آتاه الله السلام في قلبه لا ينشغل بالألفاظ، فيتيه في الجدل، بل ينشغل بالحقيقة والمعاني، فيستشعر من الفرح والسرور والقرب والاتصال عند سماع هذا الحديث ما لا يستشعره الغافلون المكفنون في أكفان الحروف والأصوات.

قلت: فكيف يعبرون عن تلك المشاعر؟

قال: وهل يملك أحد أن يعبر عن مشاعره؟

قلت: أجل، هناك من يعبر عن مشاعره.

قال: وهل يفهمها الجامدون، أم لا يفهمها إلا من يعيشها؟

قلت: بل يقتصر فهمها على من يعيشها.

قال: فما داموا متفقين على معايشتها، فما الحاجة للتعبير عن ذلك؟

قلت: يعبرون بها للجامدين.

قال: وهل يملكون أن يفهموهم معناها؟

قلت: يقربون.

قال: فقد قرب - صلى الله عليه وسلم - ذلك إذن وكفانا، فلنقتصر على ظواهر ما عبر.

لسان الافتقار

قلت: علمتني لسان الاضطرار، فعلمني لسان الافتقار.

قال: لن تتعلم لسان الافتقار حتى تعلم حقيقة الافتقار.

قلت: الافتقار معروف.

قال: فما هو؟

قلت: أن تعود إلى بيتك خالي الوفاض، وعليك ثياب مرقعة، وأبناؤك من حولك يتضاغون من الجوع.

قال: وحينها يراودك وحش الحزن القاتل ليبعدك عن ربك، وينزع من قلبك الابتسامة.

قلت: ربما.

قال: فهذا افتقار كافر، يحجبك عن ربك، ولا يقربك إليه.

قلت: فهل هناك افتقار مؤمن؟

قال: أجل، هناك افتقار الصديقين.

قلت: ولكني علمت منك في كنز الاستغناء أن الصديقين أغنياء بالله.

قال: لا يتحقق الصديق بالغنى بالله حتى يتحقق بالافتقار لله.

قلت: فما لسان الافتقار؟

قال: هو عزل النفس عن مزاحمة الربوبية.

قلت: فهو السلام مع الله إذن؟

قال: هو قمة السلام مع الله.

قلت: كيف؟

قال: لأن من دخل على الله مستغنيا خرج من عنده فقيرا، ومن دخل عنده فقيرا خرج مستغنيا.

قلت: لا أراك تفسر الغوامض إلا بالغوامض، فهلا فسرت لي.

قال: أرأيت لو دخل عليك رجل يستجديك، فقعد يفخر عليك بمعلقة عمرو بن كلثوم أكنت تلتفت إليه؟

قلت: كنت أزدريه، فمن قال ما قال عمرو لا ينبغي أن يستجدي.

قال: فكذلك أنتم تطلبون الله، ولا تغضون أطرافكم عن أنفسكم التي تزاحم الله.

قلت: كيف نزاحم الله؟

قال: تدبرون وتعارضون وتناقشون وتجادلون.

قلت: نحن نفعل هذا مع الله؟

قال: نعم، أنتم تطلبون الله.. ولكنكم تمتلئون في نفوسكم استغناء عن الله، ألم يقل الله فيكم:) كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى( (العلق:6 ـ 7)

قلت: لقد ذكرتني بتعريف الصالحين للفقر.

قال: فما قالوا؟

قلت: سئل أبو حفص: بم يقدم الفقير على ربه؟ فقال: ما للفقير شيء يقدم به على ربه سوى فقره.

قال: وقال بعضهم وقد سئل: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فقال: إذا لم يبق عليه بقية منه، فقيل له: وكيف ذاك فقال: إذا كان له فليس له وإذا لم يكن له فهو له.

قلت: ما معنى هذا؟

قال:( أن يصير كله لله عز وجل، لا يبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه، فمتى بقي عليه شيء من أحكام نفسه، ففقره مدخول )[39]

قلت: فهمت هذا، لكن ما معنى:( إذا كان له فليس له وإذا لم يكن له فهو له )

قال: إذا كان لنفسه فليس لله، وإذا لم يكن لنفسه فهو لله.

قلت: فحقيقة الفقر إذن أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء بحيث تكون كلك لله.

قال: أجل، هذا هو الافتقار، وهذا هو لسانه.

قلت: ولكن هذا حقيقة كونية، فمن يجادل في أن العبد ليس له شيء إلا ما وهبه مولاه.

قال: نعم لا أحد يجادل في ذلك، ولكن قل من يؤمن بذلك، ويعيش لذلك.

قلت: هذا تناقض.

قال: أنتم تعيشونه.

قلت: لماذا؟

قال: لأنكم تحبسون معارفكم في زنازن، وتقيدونها بالأغلال، ولا ترجعون إليها إلا في استجوابات كاستجوابات المحققين.

قلت: فيكف تعامل المعارف عند العارف؟

قال: العارف يعيش المعارف، فيحرر الحقيقة من زنزانة العقل، ليضعها في رياض الوجدان.

قلت: فما تنبت؟

قال: تنبت كل الأزهار، وتثمر كل الثمار.

قلت: فأطعمني من ثمار الافتقار.

قال: يطعمك الأولياء من تلك الثمار.

قلت: فما قالوا؟

قال: هم ذا أمامك فاسألهم.

فجأة ظهرت شموس ساطعة بالكاد استطعت أن أراها.

قال الأول: الفقير لا تسبق همته خطوته، فهو ابن حاله ووقته، فهمته مقصورة على وقته لاتتعداه.

وقال آخر: أركان الفقر أربعة: علم يسوسه، وورع يحجزه، ويقين يحمله، وذكر يؤنسه.

وقال آخر: الفقير من لا يملك ولا يملك.

وقال آخر: الفقير من يملك، ولا يملكه مالك.

وقال آخر: من أراد الفقر لشرف الفقر مات فقيرا، ومن أراده لئلا يشتغل عن الله بشيء مات غنيا.

وقال آخر: الفقر له بداية ونهاية، وظاهر وباطن، فبدايته: الذل ونهايته: العز وظاهره: العدم وباطنه: الغنى.

وقال آخر: أول قدم الفقر: الخروج عن النفس وتسليمها لمالكها ومولاها، فلا يخاصم لها ولا يتوكل لها ولا يحاجج عنها ولا ينتصر لها بل يفوض ذلك لمالكها وسيدها.

وقال آخر: لا تخاصم لنفسك فإنها ليست لك دعها لمالكها يفعل بها ما يريد.

وقال آخر: هو قبض اليد عن الدنيا ضبطا أو طلبا، وإسكات اللسان عنها مدحا أو ذما، والسلامة منها طلبا أو تركا.

عرفت هذا المتكلم، فهو صاحب منازل السائرين، فبادرته قائلا: عرفتك، أنت شيخ الإسلام الهروي، ما معنى هذا؟

قال: هو ذا ابن القيم يشرح لك ما أردت.

التفت، فإذا ابن القيم يقول من غير أن أسأله:  قبض اليد عن الدنيا ضبطا أو طلبا يعني يقبض يده عن إمساكها إذا حصلت له، فإذا قبض يده عن الامساك جاد بها، وإن كانت غير حاصلة له كف يده عن طلبها، فلا يطلب معدومها، ولا يبخل بموجودها.

قلت: هذا معنى جميل، فكيف يسكت اللسان عن مدحها أو ذمها، وقد ورد في النصوص ما يدل على ذمها؟

قال: لأن اشتغاله بمدحها أو ذمها دليل على محبتها ورغبته فيها، فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره، وإنما اشتغل بذمها حيث فاتته، كمن طلب العنقود فلم يصل إليه، فقال: هو حامض، ولا يتصدى لذم الدنيا إلا راغب محب مفارق، فالواصل مادح، والمفارق ذام.

قلت: وما معنى تعطيل القلب منها؟

قال: السلامة من آفات طلبها وتركها، فإن لتركها آفات، ولطلبها آفات، والفقر سلامة القلب من آفات الطلب والترك، بحيث لا يحجبه عن ربه بوجه من الوجوه الظاهرة والباطنة، لا في طلبها وأخذها، ولا في تركها والرغبة عنها.

قلت: عرفت الآفة في أخذها وطلبها فما وجه الآفة في تركها والرغبة عنها؟

قال: من وجوه.

قلت: ما هي؟

قال: إذا تركها وهو بشر لا ملك تعلق قلبه بما يقيمه ويقيته ويعيشه وما هو محتاج اليه، فيبقى في مجاهدة شديدة مع نفسه لترك معلومها وحظها من الدنيا وهذه قلة فقه في الطريق، بل الفقيه العارف يردها عنه بلقمة كما يرد الكلب إذا نبح عليه بكسرة، ولا يقطع زمانه بمجاهدته ومدافعته، بل أعطاها حظها وطالبها بما عليها من الحق، وهذه طريقة الرسل وهي طريقة العارفين من أرباب السلوك.

قلت: هذا وجه حسن، فهل هناك وجه آخر؟

قال: تطلعه إلى ما في أيدي الناس إذا مسته الحاجة إلى ما تركه، فاستدامتها كان أنفع له من هذا الترك.

قلت: هذا وجه حسن كذلك، فالطمع فيما في أيدي الناس مناقض للزهد.

قال: وهناك وجه آخر، وهو ما يداخله من الكبر والعجب والزهو، وهذا يقابل الزهد فيها وتركها، كما أن كسرة الآخذ وذلته وتواضعه يقابل الآخذ التارك.

فجأة ذهب الجميع، ولم يبق معي إلا معلم السلام، فقلت له: ما أحلى كلام الأولياء.

قال: كل من اتصل بالله حلا كلامه.

قلت: لقد قال ابن عطاء الله في هذا حكما.

قال: وما قال؟

قلت: قال:( كل كلام يبرز، وعليه كسوة القلب الذي منه برز )

قال: فقلوب الأولياء منورة بنور الله، فلذلك تلوح عليها أنوار الإيمان.

قلت: يا معلم، لو قيل لي: لماذا نطرق أبواب الفضل ما دام للافتقار هذا الفضل.

قال: فقل: إن الله يقيم عبده في المواقف المختلفة ليعرفه في كل موقف، فتتكامل بالمواقف المختلفة ما أتيح له من معرفة الله، ألم تسمع ابن عطاء الله، وهو يناجي ربه قائلا:( إلـهي! قد علمت باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار، أن مرادك أن تتعرف إلي في كل شيء، حتى لا أجهلك في شيء )

قلت: ولكن خلو اليد من المال باب للتجريد، وتجريد الظاهر ميسر لتجريد الباطن.

قال: لا، فلم يكن هكذا سلوك الأنبياء الذين جعلهم الله قدوة لعباده، ولا هكذا نصح الأولياء، ألم تسمع حكمة ابن عطاء الله:( إرادتُكَ التجريدَ مع إقامةِ الله إِيَّاكَ في الأسباب من الشَّهوة الخفيةِ، وإرادتُكَ الأسبابَ مع إقامةِ الله إِيَّاكَ في التجريد انحطاطٌ عن الهِمَّةِ العَلَيَّةِ )

قلت: بلى، ولكن..

قال: ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:( ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة: الشيخ الزاني، والعائل المزهو، والإمام الكذاب)، وقواله r:( إني لأعلم أول ثلاثة يدخلون الجنة الشهيد وعبد أدى حق الله وحق مواليه وفقير عفيف متعفف وإني لأعلم أول ثلاثة يدخلون النار سلطان متسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حقه وفقير فخور)

قلت: بلى.

قال: فقد اعتبر - صلى الله عليه وسلم - الفقير المتكبر بعيدا عن الله قريبا من النار، فإفراغ الجيوب ليس هو الطريق، بل الطريق هو إفراغ القلب من حب الدنيا والرغبة فيها.. واسمع لهذين الإمامين الربانيين يحدثانك.

فجأة ظهر ابن القيم والغزالي، وكأنهما يمسكان بأيدي بعضهما، فتعجبت مما يصفه الناس من الخلاف بينهما.

قال الغزالي: الفقير يستوي عنده وجود المال وفقده؛ فإن وجده لم يفرح به ولم يتأذ، وإن فقده فكذلك، بل حاله كما كان حال عائشة ـ رضي الله عنها ـ إذ أتاها مائة ألف درهم من العطاء فأخذتها وفرّقتها من يومها فقالت خادمتها: ما استطعت فيما فرّقت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه، فقالت: لو ذكرتيني لفعلت.

قلت: فما سر هذه الحالة؟

قال: من هذا حاله لو كانت الدنيا بحذافيرها في يده وخزائنه لم تضره، إذ هو يرى الأموال في خزانة الله تعالى لا في يد نفسه، فلا يفرق بـين أن تكون في يده أو في يد غيره، وينبغي أن يسمى صاحب هذه الحالة المستغني، لأنه غني عن فقد المال ووجوده جميعاً.

وقد حملت خزائن الأرض إلى رسول الله r وإلى أبـي بكر وعمر رضي الله عنهما فأخذوها ووضعوها في مواضعها وما هربوا منها، إذ كان يستوي عندهم المال والماء والذهب والحجر.

قال ابن القيم[40]: هذا الفقر الذي يشيرون إليه لا تنافيه الجدة، ولا الأملاك، فقد كان رسل الله وأنبياؤه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في ذروته مع جدتهم وملكهم، كإبراهيم الخليل u كان أبا الضيفان، وكانت له الأموال والمواشي، وكذلك كان سليمان وداود ـ عليهما السلام ـ وكذلك كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان كما قال الله تعالى:) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى((الضحى:8)

قالا ذلك، ثم اختفيا، لست أدري هل انصرفا عني أم انصرفت عنهما.

 

 

 

لسان العجز

قلت: فعلمني أن أتكلم بلسان العجز.

قال: لن تتعلمه إلا إذا تحققت بالعجز.

قلت: لقد عرفت في الجوهرة السابقة عجزي.

قال: ذلك عجز الخلائق، فأين عجزك؟

قلت: أنا من الخلائق.

قال: هناك فرق كبير بين رؤيتك للخلق، ورؤيتك لنفسك.

قلت: كيف ذلك؟

قال: عجزك وعجز الخلائق ضروري، ولسان العجز يستدعي شعورا، فقد يعيش المرء أشل، ولكنه يغيب عن شلله متصورا أن له قوى المصارعين وحملة الأثقال.

قلت: وكيف أتحقق بشعور العجز؟

قال: بأن ترى نفسك عبدا له، لا تتحرك إلا بتحريكه، ولا تتوقف إلا بإيقافه، ليس لك من ذاتك قوة، ولا لك من ذاتك حول.

قلت: تعني أن أقول:( لا حول ولا قوة إلا بالله )

قال: تقولها ترجمة عن حقيقتك، لا حروفا وأصواتا من لسانك.

قلت: فما ألحظ فيها؟

قال: تلحظ قوته، فتطيش قوتك أما قوته، وتلحظ حوله، فيطيش حولك أمام حوله.

قلت: فترجم ذلك لخيالي ليستوعبه وجداني.

قال: انظر إلى القوى التي تتيه بها.

قلت: قوة الإرادة، فهي القوة التي تدكدك الجبال، وتفل الحديد، و..

قال: أدبها بقوة الله حتى لا توقعك في المهالك، أو ترمي بك في أودية العجب والغرور.

قلت: وكيف أؤدبها؟

قال: لا تنسبها لنفسك، بل تنسبها لله.

قلت: كيف، وأنا أشعر أنها قوتي وحيلتي.

قال: شعورك بها يدلك على الاعتماد عليها، واعتمادك عليها يحجبك عن الله، ألم تعرف أن الله لا يقبل على القلب المشترك؟

قلت: بلى، فقد عرفنا حكمة ابن عطاء الله:( كما لا يحب العمل المشترك، كذلك لا يحب القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يقبل عليه )

قال: وهذا ما كان عليه أكبر العارفين.

قلت: تقصد الجنيد، أم..

قال: أقصد محمدا - صلى الله عليه وسلم -، فما الجنيد وغيره إلا أشعة من نور المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وقطرات من بحره، ومفردات من فهرس كمالاته، فلا تنشغل بالأشعة عن الجواهر، وبالقطرات عن البحار، وبالمفردات عن الفهارس.

قلت: فكيف كان - صلى الله عليه وسلم - متحققا بهذا الشعور بالعجز أمام الله؟

قال: ما هو دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - الذي دعا به في الطائف؟

قلت: الدعاء معروف، وقد سبق أن ذكرناه في بعض مجالسنا، ومن صيغه:( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني؟ أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السموات وأشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل علي غضبك أو تنزل علي سخطك ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك )[41]

قال: كيف ترى النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث؟

قلت: أراه ملتجئا إلى الله متضرعا إليه، كما يلتجئ الصبي الصغير الضعيف إلى والديه.

قال: وهل تاه - صلى الله عليه وسلم - بحيلة أو بقوة؟

قلت: لا، بل تبرأ من كل حيلة أو قوة، وأسند أمره كله لله.. ولكن يا معلم قد كان هذا في حالة شديدة، ونحن قد نلتجئ إلى الله في مثل هذه الأحوال، ولكنا في مواقف العزة ننسى ذلتنا، وفي مواقف القوة والشدة ننسى عجزنا.

قال: كان هذا حاله - صلى الله عليه وسلم - الدائم، ألم تسمع إليه، وهو يقول في ورد نومه الدائم:( اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت )[42]

بل إن تأملك لكل ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من أدعية وأوراد يحمل هذه المعاني العميقة من اللجوء إلى الله، والتبرؤ من الحول والقوة.

قلت: ولكن كثيرا من قومي استغنوا عنها بأوراد وضعوها لأنفسهم.

قال: أهم أعرف بالله من رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ أم لم يبلغهم ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم -؟ أم لم يكفهم ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم -؟ أم يريدون التميز بأنفسهم عن أمته - صلى الله عليه وسلم -؟

قلت: أهم مبتدعون؟

قال: أنا لست قاضيا حتى أحكم عليهم، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - هو ربان سفينة النجاة، وهو الدليل في المتاهات، فمن ابتعد عن الربان قد يغرق، ومن ابتعد عن الدليل ستلتهمه المفازات.

قلت: فاذكر لي من أدعيته - صلى الله عليه وسلم - ما يملؤني بهذا العجز الشعوري.

قال: كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه:( اللهم إنك تسمع كلامي وترى مكاني وتعلم سري وعلانيتي لا يخفى عليك شيء من أمري، وأنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته وفاضت لك عبرته وذل لك جسمه، ورغم[43]لك أنفه اللهم لا تجعلني بدعائك شقيا، وكن بي رؤفا يا خير المسؤلين ويا خير المعطين )[44]

قلت: هذا الدعاء يحمل معاني عظيمة من الالتجاء والتبرؤ من الحول والقوة.

قال: واسمع لقوله - صلى الله عليه وسلم -:( اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت؛ اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي القيوم الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون )[45]

قلت: هذا الدعاء كذلك يفيض باللجوء إلى الله والاستعانة به.. لكن يا معلم ألا ترى أن هناك تعارضا بين مد اليد إلى الله بلسان العجز، وبين استعاذته - صلى الله عليه وسلم - من العجز، فقد صح في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -:( اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر وفتنة الدجال، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها )[46] فقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من العجز ولواحقه.

وقد ورد في حديث آخر النهي عن العجز، فقال - صلى الله عليه وسلم -:( المؤمن القوى خير وأَحب إِلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كل خير. فاحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإِن أصابك شيء فلا تقل: لو أَنى فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاءَ الله فعل. فإِن لو تفتح عمل الشيطان )

قال: ليس هذا فقط، بل ورد ذم العجز في القرآن الكريم، فقد قال تعالى مخبرا عن عجز المنافقين عن الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:) الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ((آل عمران:168)

قلت: ولهذا الذم نظائر في القرآن الكريم، فقد قالتعالى:) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ((التوبة:46)، وقالتعالى:) لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً((النساء:95)، وقالتعالى:) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ((التوبة:86)

قال: بل ورد ذم العجز في كل شيء حتى في هذا الموقف الذي وقفه ابن آدم الأول، قال تعالى:) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ((المائدة:31)

قلت: إذن أنت تقر معي بذم العجز، فكيف يستقيم هذا مع طلب العجز، ومد اليد بلسان العجز؟

قال: العجز والقوة أمران نسبيان، فقد تظهر قوتك مع شخص، وتظهر عجزك مع آخر، فتكون قويا في الأول عاجزا في الثاني.

قلت: هذا صحيح، فإظهار قوتي مع من هو أقوى مني فضيحة لي، وقد يجرني إلى المتاعب التي لا أتحملها.

قال: فكيف إذا كان هذا القوي الذي يفوقك قوة هو الله؟

قلت: إظهار قوتي مع الله حمق.

قال: وهذا هو الذي عناه الأولياء بلسان العجز، فهم لا يريدون عجز الكسل، وإنما يريدون عجز الأدب.. ألم تسمع قصة الصاحبين المتحاورين في القرآن الكريم؟

قلت: بلى.

قال: فما هو المظهر الذي ظهر به الصاحب الذي رزقه الله الجنتين؟

قلت: بمظهر الكبرياء والاعتزاز بالقوة، كما قال تعالى:) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً((الكهف:34 ـ 36)

قال: فإلى ماذا دله صاحبه الناصح؟

قلت: إلى التواضع لله، كما قال تعالى:) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً((الكهف:37 ـ 38)

قال: وما هو الموقف الصحيح الذي دله عليه؟

قلت: هو ما نص عليه قوله تعالى على لسان الصاحب الناصح:) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً((الكهف:39 ـ 41)

قال: فما هي نتيجة مصارعة الكافر لله؟

قلت: هو ما نص عليه قوله تعالى:) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً((الكهف:42 ـ 43)

قال: أتدري لم قال:) يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (؟

قلت: لم، فلم يذكر القرآن الكريم أن هذا الصاحب من عباد الأصنام.

قال: بلى، فقد كان من عباد أخطر الأصنام، وهو صنم الأنا، صنم القوة التي تريد أن تصارع الله، وتعجز الله.

قلت: ألهذا إذن تكون عاقبة هؤلاء الهلاك الحتمي؟

قال: إذا جاء مصارع من المصارعين مدينة من المدن، وتحدى كل مصارعيها، فسكتوا، ولم ينبسوا ببنت شفة، ألا يعتقد أهل تلك المدينة، بل غيرها من المدن، بأن سكوتهم كان عن عجز؟

قلت: بلى.

قال: فلذلك سيأتي أبطال تلك المدينة بكل قواهم ليتحدوا ذلك المصارع، ويعجزوه.

قلت: كل هذا صحيح.

قال: فلذلك كل من تحدى الله يعجزه الله، ألم تسمع القرآن الكريم وهو يخبرنا بسقوط كل من تحدى الله في أودية العجز والهلاك؟

قلت: بلى، فقد قال تعالى مخاطبا المشركين:) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ((التوبة:2)، وقال لهم:) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ((التوبة:3)

وأخبر عن كثير من الأقوام الهالكين وسنة الله فيهم، فقال:) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ((هود:20)، وقالتعالى:) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ((النور:57)، وقالتعالى:) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً((فاطر:44)، وقالتعالى:) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ((الزمر:51)، وقالتعالى:) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ((الاحقاف:32)

وخاطب الذين تصوروا عجز الله عن أن يعيدهم أحياء بعد أن يصيروا ترابا، فقال:) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ((الأنعام:134)، وقالتعالى:) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ((يونس:53)

 لسان المسكنة

قلت: يا معلم، لقد تعلمت ثلاثة ألسن أستطيع أن أمد بها يدي إلى الله، أفلا يكفي ذلك؟

قال: لا.. حتى تمد يد التذلل مستشفعة بلسان المسكنة.

قلت: وما لسان المسكنة؟

قال: هو اللسان الذي تخفض به جناحك أمام الله.

قلت: أفلا يكفي الاضطرار والافتقار والعجز؟

قال: لا.. فقد يبقى في المضطر والفقير والعاجز ما يتطاول به على ربه ويتكبر به عليه، ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر )[47]؟

قلت: فكيف أتحقق بلسان المسكنة؟

قال: بالافتقار إلى الله طلبا لها، ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:( اللهم أحييني مسكينا وتوفني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين فإن أشقى الأشقياء من جمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة )[48]

قلت: البعض يتهم هذا الحديث، بل يرويه في الموضوعات[49].

قال: من فعل ذلك فقد أوهم، وما كان لنا أن نرد حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بسبب سوء الفهم له.

قلت: ولكن هذا الحديث قد يعارض بما ورد في النصوص من النهي عن التذلل، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه )[50]  

قال: هذا صحيح، فإن المؤمن أعز من أن يذل نفسه.

قلت: فكيف يجمع بين النهي عن الذلة وطلبها؟

قال: كما جمع بين النهي عن العجز وطلبه.

قلت: أتعني أن الذلة محرمة مع الخلق واجبة مع الله.

قال: لا أقول مثل هذه التعبيرات، فهذه تعبيرات الفقهاء، ولكني أقول: المؤمن يذل نفسه لله، ولمن أمر الله.

قلت: أجل.. لقد تذكرت.. هناك من أمرنا بالتذلل لهم، كما قال تعالى في الأمر بالتذلل للوالدين:) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً((الاسراء:24)

قال: ومع ذلك، فإن التذلل إلى الله يحمل كل معاني العزة.

قلت: كيف؟

قال: لأن التذلل إلى الله انتساب له، ومن انتسب إلى الله أعطاه الله من العزة ما يناطح السحاب، ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم - في دعاء القنوت:( اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت )[51]

بل إن الله تعالى وسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بسمة العبودية فى أَشرف مقاماته، مقام الإِسراءِ ومقام الدعوة ومقام التحدى:

فقال تعالى في مقام الإسراء:) سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ((الاسراء:1)

وقال في مقام الدعوة:) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً((الجـن:19)

وقال في مقام التحدي:) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ((البقرة:23)

قلت: لقد ذكرتني بقول الشاعر الصالح:

ومما زادني شرفا  وتيها
 

وكدت بأخمصي أطأ الثريا
  

دخولي تحت قولك  يا عبادي
 

وأن صيرت أحمد  لي نبيا
  

وقال الآخر:

وإذا تذللت الرقاب تقرباً
 

منها إليك فعزها في ذلها
  

وقال الآخر:

حيث أسلمتني إلى الذال واللا
 

م  تلقيتني  بعين  وزاي
  

ولكن.. يا معلم، هذه حقيقة..  ولكن قومي يكادون يأبون عليها.

قال: وما يقولون؟

قلت: فيهم من يبالغون في المظاهر من لباس ومراكب وبنيان بحجة التعزز بها لنصرة دين لله، حتى أن بعضهم قال:( لو جاء - صلى الله عليه وسلم - في هذا الزمان للبس بذلة عصرية، وامتلك سيارة مرسيدس.. )

قال: وما مرسيدس؟

قلت: سيارة فخمة، لا يملتكها إلا الكبار.

قال: فقد أخطأ من قال هذا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم شأنا من أن نتكلم عنه بهذا الأسلوب، فمن نحن حتى نملي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يفعل؟

ثم التفت إلي، وقال: ألم يقرأوا كيف كانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟

قلت: بلى، ولكنهم يقولون: ذلك واقع، وهذا واقع، وأحكام الدين تتغير بتغير الواقع.

قال: أي واقع هذا؟ أتنسخون الدين بالواقع؟.. لقد كان في عهده - صلى الله عليه وسلم - من أنواع الترف ما كان، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - آثر الحياة التي عاشها على كل ذلك الترف، مؤثرا حياة العبودية، ألم يقرأوا ما روي عن عمر t في حديث طويل قال فيه:( فجلست فرفعت رأسي في البيت ـ أي بيته - صلى الله عليه وسلم - ـ فوالله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا أهبة ثلاثة، فقلت:( ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله )، فاستوى جالسا، ثم قال:( أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا )[52]

قلت: بلى، وقد رويت النصوص الكثيرة المؤيدة لهذا، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الأكل متكئا، ويقول:( إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد )[53]

وكان ينهى عن إطرائه والمبالغة في مدحه، ويقول:( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله )[54]

وعندما قال له رجل: يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:( قولوا ما أقول لكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنزلوني حيث أنزلني الله، أنا عبد الله ورسوله )[55]

قال: وهكذا كان سلف الأمة الصالح y، ألم تقرأوا سيرة عمر t؟

قلت: بلى، فقد اشتد على نفسه اشتدادا عظيما.

قال: وانتفعت الرعية بتشدده انتفاعا لا حدود له.

قلت: أذكر موقفا من المواقف التي لا تزال تسجل، فقد روى طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر بن الخطاب t الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره ونزع خفيه، فأخذهما بيده، وأخذ بخطام راحلته، ثم خاض المخاضة، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: لقد فعلت يا أمير المؤمنين فعلا عظيما عند أهل الأرض! نزعت خفيك وقدت راحلتك وخضت المخاضة! فصك عمر بيده في صدر أبي عبيدة، وقال: أوه يمد بها صوته! لو غيرك يقولها! أنتم كنتم أذل الناس وأضل الناس فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله تعالى )[56]

قال: فبمن استعز عمر t؟

قلت: بالله وبدين الله.

قال: فلماذا لم يستعز بما استعز به ملوك ذلك الزمان؟

قلت: لفقهه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

قال: ألا تعلم من أين استنبط عمر t هذا من القرآن الكريم؟

قلت: لا أعلم أن في القرآن الكريم ما يشير إلى هذا؟

قال: بلى، ففي القرآن الكريم علوم الأولين والآخرين.. لقد استنبط هذا من قوله تعالى لنبي إسرائيل:) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ((البقرة:58)، أتعلم كيف أمروا أن يدخلوا؟

قلت: نعم، فقد أمروا أن يخضعوا للّه تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها.

قال: لئلا يهزهم زهو النصر، وتجرهم نشوته إلىالتكبر والعزة الآثمة.

قلت: ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يظهر عليه خضوعا عظيما عند النصر، كما روي أنه كان يوم فتح مكة داخلاً إليها من الثنية العليا وإنه لخاضع لربه حتى أن عثنونه ليمس مورك رحله شكراً للّه على ذلك.

قال: أتدري بما قابل بنو إسرائيل هذا الأمر الإلهي بالتواضع؟

قلت: لقد نص القرآن الكريم على كونهم بدلوا ما أمروا به، فقال تعالى:) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ((البقرة:59)

وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - بما بدلوا به هذا الأمر، فقال:( قيل لبني إسرائيل ) وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ((البقرة: من الآية58)، فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدلوا وقالوا:( حبة في شعرة )[57]

قال: فحذر قومك من سراديب الاعتراض على النصوص وتأويلها والفرار من مستلزماتها.. فإن الأديان ما حرفت إلا بالاعتراض.

قلت: فكيف أمد يدي بلسان المسكنة؟

قال: بالكيفية التي علمنا - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان يلجأ إلى الله مطأطئ الرأس متواضعا بين يدي الله.

ثم التفت إلي ، وقال: فقد عرفت إذن.

قلت: وما عرفت؟

قال: أن لسان المسكنة هو لسان العبودية، وهو لسان الخضوع لله، والتذلل بين يديه، واسمع لهذا الدعاء الرقيق النابع من عبودية عظيمة، كان - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا قام إلى الصلاة:( وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما انا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك أنت ربي، وأنا عبدك ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت، وأهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله بيديك، والمهدي من هديت أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك )[58]

وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع قال:( اللهم لك ركعت وبك آمنت وإليك أسلمت أنت ربي، خشع سمعي وبصري ومخي وعظامي، وما استقلت به قدمي لله رب العالمين )[59]

وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن سيد الاستغفار أن يقول العبد:( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، لا يقولها أحد حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح إلا وجبت له الجنة، ولا يقولها حين يصبح فيأتي عليه قدر أن يمسي إلا وجبت له الجنة )[60]

وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول:( إن أوفى كلمة عند الله أن يقول العبد اللهم أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، ولا يغفر الذنوب إلا أنت أي رب فاغفر لي )[61]

ما إن قال هذا حتى شعرت بجوهرة عظيمة تتنزل علي، تنمحي بنزولها بعض الظلمات.

 



([1] )  أحمد وأبو داود عن أبي مالك الأشعري.

([2] )  الإحياء: 3/6.

([3] البخاري والنسائي عن أبي سعيد.

([4] )  الترمذي وقال: حديث حسن.

([5] )  ابن جرير.

([6] )  مسلم.

([7] )  البخاري ومسلم.

([8] )  البيهقي ن ابن عمرو.

([9] )  كريس موريس، طبيب وعالم نفساني مؤلف في كتابه «سر خلق الانسان»: 87 (بالفارسية).. هذا النص وغيره منقول من الأمثل.

([10] )  الدكتور «الكسيس كارل» في كتابه «الانسان ذلك المجهول» الصفحة5.

([11] )  العالم المعروف «وليام جيمس»

([12] )  هو الفلكي المعروف «فلا ماريون» انظر: «على اطلال المذهب المادي» الصفحة 138.

([13] )  هو (انشتاين» الرياضي المعروف والمكتشف لنظرية النسبية والبُعد الرابع، انظر: خلاصة الفلسفة النسبية.

([14] )  البخاري.

([15] )  مسلم والترمذي.

([16] )  تفرد به من هذا الوجه الإمام أحمد.

([17] )  فقه السيرة للغزالي.

([18] )  الإحياء: 3/6.

([19] )  الإحياء: 3/283.

([20] )  الإحياء: 3/283.

([21] )  نفحات القرآن.

([22] )  البزار عن بلال وعن أبي هريرة، والطبراني في الكبير عن ابن مسعود (أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3/126) وقال رواه الطبراني في الكبير وفيه قيس بن الربيع وثقه شعبة والثوري وفيه كلام وبقية رجاله ثقات. وقال: رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.

([23] )  البخاري في الأدب والترمذي وابن حبان عن أبي ذر،  قال الترمذي: حسن غريب،  وتتمة الحديث:« وأمرك بالمعروف صدقة ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة »

([24] )  البخاري ومسلم.

([25] )  البخاري.

([26] )  مسلم.

([27] )  ابن مردويه وأخرجه أحمد وابن ماجة.

([28] )  الإحياء: 1/216.

([29] )  الدار قطني في الأفراد من حديث ابن عباس وقال: غريب من حديث عكرمة عنه ورواه البيهقي في الشعب بسند ضعيف.

([30] )  الإحياء: 1/216.

([31] )  الإحياء: 1/216.

([32] )  الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([33] )  سر الخلق، ص 139 إلى 141.

([34] )  مسلم عن أبي هريرة.

([35] )  المقصد الأسنى.

([36] )  مسلم عن أبي هريرة.

([37] )  البخاري ومسلم عن ابن مسعود.

([38] )  أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم عن أبي أمامة.

([39] )  مدارج السالكين:2/440.

([40] )  مدارج السالكين:2/440.

([41] )  الطبراني في الكبير عن عبد الله بن جعفر.

([42] )  البخاري ومسلم.

([43] )  ذل وانقاض حتى مس التراب الذي هو الرغام.

([44] )  الطبراني في الكبير عن ابن عباس.

([45] )  مسلم عن ابن عباس.

([46] )  مسلم عن زيد بن أرقم.

([47] )  النسائي عن أبي هريرة.

([48] )  الحاكم عن أبي سعيد، وقال صحيح ووافقه الذهبي.

([49] )  مثل ابن الجوزي.

([50] )  ابن ماجه.

([51] ) أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.

([52] )  البخاري ومسلم.

([53] )  ابن عدي عن أنس.

([54] )  البخاري.

([55] )  ابن النجار.

([56] )  ابن المبارك وهناد، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة (3/82).

([57] )  البخاري عن أبي هريرة.

([58] )  البخاري ومسلم.

([59] )  البخاري ومسلم.

([60] )  الترمذي عن شداد بن أوس.

([61] )  الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري.