الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: كنوز الفقراء

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

رابعا ـ  كنز الفضل

1 ـ جوهرة السعي

2 ـ جوهرة الإحسان

إحسان العدالة

إحسان العبودية

الزكاة:

الحق الذي سوى الزكاة:

الكفارات:

النذور:

إحسان المروءة

إطعام الطعام:

صلة الجار:

التنافس على الكرم:

التحذير من البخل:

إحسان الرحمة

3 ـ جوهرة الالتزام

4 ـ جوهرة الدعاء

الخاتمة

 

رابعا ـ  كنز الفضل

سرت مع معلم السلام نبحث عن القصر الذي يتواجد به كنز الفضل، لاح لنا قصر جميل، كله أبواب يؤدي بعضها إلى بعضه، بل هو نفسه يشبه بابا كبيرا، وقد غرست على جوانب القصر الأربع أصناف الأشجار المثمرة والزروع اليانعة.

لقد كان القصر يشبه لوحده مدينة ضخمة تعج بالحياة، التفت إلىاللافتة المعلقة في بوابة القصر، فإذا مكتوب عليها قوله تعالى:) لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ((يوسف: من الآية67)

سألت المرشد عن سر وضع هذه الآية هنا، فقال: هذا قصر الفضل، وهذا القصر يعرفونه في مدائن الغنى بقصر الأبواب، فهو كثير الأبواب، وهي متداخلة بعضها في بعض، ولكن أبوابه الكبرى أربعة.

وقد وضعت هذه اللافتة هنا لتنبه الداخل إلى أن لا يلتمس بابا واحدا للدخول، بل إذا وجد بابا مغلقا في وجهه يلتمس بابا آخر، فلا بد لكل داخل لهذا القصر من أبواب مفتوحة، ومن جواهر ينالها.

قلت: كيف؟ لم أفهم.. عهدي في قصور هذه المدائن أن أدخلها من بابها، ثم أرتقي طوابقها طابقا طابقا إلى الطابق الرابع.

قال: هذا القصر ليس فيه طوابق، بل فيه بدل ذلك أبواب، ألم تسمع عن أبواب الجنة؟

قلت: بلى، سمعت، فقد قال تعالى فيها:) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ((الرعد:23)، وقالتعالى:) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ((الزمر:73)  

قال: فما عددها؟

قلت:  ورد في النصوص أنها ثمانية أبواب كبرى، فقد قال r:( في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون )[1]

ولا مانع من وجود أبواب فرعية لهذه الأبواب الكبرى، وهو ما يجمع بين النصوص في هذا الباب.

قال: فما فائدة تلك الأبواب؟

قلت: لا يدخل من كل باب من تلك الأبواب إلا المستحق له، فقد قال r:(  لكل باب من أبواب البر باب، من أبواب الجنة، وإن باب الصيام يدعى الريان )[2]، وقال r:( من توضأ فأحسن الوضوء ثم رفع بصره إلى السماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء )[3]

قال: أرأيت لو أن شخصا لم تتوفر فيه الخصال الكافية لدخول واحد من تلك الأبواب، أيؤذن له بدخوله؟

قلت: كلا، فالنصوص تدل على حرمانه منه.

قال: فكذلك هذه الأبواب.. فهي أبواب لفضل الله، وهي أربعة، لا يجوز دخول أي واحد منها إلا لمن استحق دخوله.

قلت: فما هي؟

قال: باب السعي، وباب الإحسان، وباب الالتزام، وباب الرجاء، أما هذان البابان الأخيران، فهما مفتوحان لكل داخل، وأما باب السعي فمفتوح للأقوياء فقط، وأما باب الإحسان، فمفتوح للضعفاء فقط.

قلت: فأين جواهر هذا القصر؟

قال: هي في أبوابها، فبمجرد تحققك بما يقتضي الباب من معارف تنال الجواهر التي تناسب ذلك الباب.

قلت: فلم كانت الأبواب أربعة، والجواهر أربعة؟

قال: لأن الله تعالى جعل لفضله في هذه الدنيا هذه الأبواب الأربعة.

قلت: ولكن أبواب فضل الله لا تحد ولا تعد.

قال: ولكنها تجتمع في هذه الأربع لا تعدوها، وكلها مذكورة في القرآن الكريم، ومفصلة في أحكام الشريعة.

1 ـ جوهرة السعي

كان أول باب مقابل لنا باب كتب عليه ( باب السعي )، ومكتوب بجانبه لافتة سجل عليها ( لا يدخله إلا من له كسب، أو قدرة على الكسب)

اقتربت مع المعلم من ذلك الباب لالتماس الجوهرة التي يحتوي عليها، فلاحت لي جوهرة نفيسة دهشت لجمالها.

سألت المرشد عنها، فقال:( هذه جوهرة نفيسة، تؤنس تعبي، وتمسح عرقي، وتمدني بالقوة التي أحمل بها فأسي ومعولي )

ابتسمت، وقلت: أتحمل أيها المرشد فأسا ومعولا، أين؟.. لم أرك تفعل ذلك.. بل إن هندامك يدل على أنك لا تعرف الفأس ولا المعول.. فكيف تزعم أنك تحمله؟

قال: ما أسرع ما تنسى، ألم أقل لك: إنني ذلك الرجل الذي زرته في بيته.. ألم تر في البيت فأسا ومعولا؟

قلت: بلى.

قال: فأنا إذا ما أرهقني التعب، جئت إلى هذه الجوهرة مستأنسا بها.

قلت: فما الحقائق التي تنطوي عليها، والتي تجعل لها هذه القدرة العجيبة على تبديل التعب راحة، والألم لذة؟

قال: ذلك سؤال يجيب عنه المعلم، لا أنا، فقد أذن له في الكلام، ولم يؤذن لي.

التفت إلى المعلم، فقلت: ما الحقائق التي تنطوي عليها هذه الجوهرة؟

قال: حقائقها عظيمة، ولكن الصراع الذي تتعاملون به مع الأشياء أوقعكم في الغفلة عنها.

قلت: فعلمني ما أصارع به الصراع فأصرعه.

قال: السلام لا يعرف الصراع، ولا يعلم الصراع.

قلت: فكيف ينتهي الصراع إذن؟

قال: ينتهي بالسلام.. ينتهي بالنسيم العليل الذي يهب على صفحة البحار الهادرة ليجعلها مرآة تنتظم الحقائق.

قلت: فانفخ في بحار روحي الهادرة هذا النسيم العليل، لأعيش السلام.

قال: ألم أقل لك: إنني لا طاقة لي ببناء ولا هدم، فكيف تكون لي طاقة بالنفخ؟

قلت: فكيف أتحقق إذن؟

قال: بالحقيقة.

قلت: وكيف أصل إلى الحقيقة؟

قال: بالنور.

قلت: نور الشمس أم نور القمر؟

قال: بكليهما، فنور الشمس يغذي نور القمر.

قلت: تقصد بالسراج المنير الحامل للحقائق، وبالقلب الصافي المستعد لتقبلها.

قال: أقصد نور الله الهادي، ونور الإيمان المستوعب.

قلت: فما الحقائق التي ينالها من يستلم هذه الجوهرة؟

قال: أربع.. كل واحد منها مرتبة تؤدي إلى التي تليها.. أو كل باب منها يؤدي إلى الباب الذي يليه.

قلت: ما هي؟

قال: التشجيع، والتدريب، والمال، والعمل.

قلت: فعلمني علومها.. وفقهني من فقهها.

قال: لن تتعلم علومها هنا.

قلت: فأين تتعلمها؟

قال: عندما ترحل باحثا عن مفاتيح المدائن[4].

 

2 ـ جوهرة الإحسان

اقتربنا من الباب الثاني من أبواب الفضل، فرأيت خيرا كثيرا يتساقط كما يتساقط الثلج، لكنه ثلج دافئ لطيف تنتشر منه روائح زكية، فسألت المرشد عن هذا الباب، فقال: هذا باب الإحسان.

قلت: باب ( أن تعبد الله كأنك تراه )؟

قال: لا.. هو مشتق من ذلك الباب، وهو نور من أنواره، بل هو أول نور من أنوره.

قلت: فما جهة اشتقاقه؟

سكت المرشد، فقال المعلم: لا يمكنك أن تعرف الله، ثم يمتلئ قلبك قسوة على خلقه، فمن أحب الله امتلأ قلبه رحمة ورقة ومودة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألم تقرأ القرآن الكريم؟

قلت: بلى.. فقد قرأته بحمد الله ومنته.

قال: فكيف تحدث عن المساكين؟

قلت: لقد ربط الله تعالى حقوق المساكين بحقوقه، فقال تعالى:) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ( (البقرة:83)، وقال تعالى:) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ  مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً( (النساء:36)

بل ربطها بالإيمان به، فقال تعالى:) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ( (البقرة:177)

قال: فهذا ما يدلك على أن أول نور من أنوار الإحسان أن تشمل الخلق بما أعطاك الله من فضل.. ألا ترى السراج؟

قلت: ما به؟

قال: أيمكن أن ينشر السراج الظلام؟

قلت: لو فعل ذلك لم يبق سراجا.

قال: فكذلك المؤمن العارف بربه لا يمكن إلا أن يكون محسنا.

قلت: ولكن انتظار الإحسان من الخلق قد يملأ صدور الفقراء بالغفلة.

قال: أهل الله من الفقراء لم يعنهم أن تصلهم الأعطيات التي رتبها الله لهم، وإنما ملأ صدورهم أشواقا وراحة وسرورا اقترانهم بالإيمان بالله ، وبعبوديته، فلذلك إذا نالهم ما نالهم من يد الأغنياء قبضوها باسم الله ، ومن يد الله، فبورك لهم فيها.

***

رأيت أربعة نوافذ تقابل الداخل من باب الإحسان، فسألت المرشد عنها، فقال: هذه نوافذ الإحسان الأربعة، يهب على كل نافذة منها فضل من فضل الله ولطف من ألطافه.

قلت: فما النافذة الأولى؟

قال: نافذة العدالة.

قلت: فأي ريح تهب من هذه النافذة.

قال: نافذة الخلفاء الراشدين المهديين.

قلت: الأربعة؟

قال: الأربعمائة.. ففضل الله أعظم من أن يحصر في أربعة.

قلت: فما تقصد به؟

قال: نافذة الحاكم العادل الذي يقسم مال الله على خلق الله.

قلت: فما النافذة الثانية؟

قال: نافذة العبودية.

قلت: فأي ريح تهب من هذه النافذة؟

قال: رياح العبودية التي ترسلها التكاليف الشرعية.

قلت: تقصد الزكاة.

قال: كل فرائض الله من الزكاة والنذور والكفارات.

قلت: فما النافذة الثالثة؟

قال: نافذة المروءة.

قلت: فأي ريح تهب منها؟

قال: ريح الأخلاق السامية ، والآداب الرفيعة، التي تمنع المؤمن من أن يبيت شبعان وجاره جائع.

قلت: فما النافذة الرابعة؟

قال: نافذة الرحمة.

قلت: فأي ريح تهب منها؟

قال: نافذة الرقة التي تنتشر من القلب إلى اليد ، فتنتشر منها روائح الإحسان الزكية.

إحسان العدالة

اقتربنا من النافذة الأولى، والتي تشع منها روائح العدالة الطيبة، فقال لي المعلم: ويل للحكام من دولة الفقراء.

قلت: أللفقراء دولة؟ متى وأين؟

قال: في محكمة العدل الإلهية ، سيقتص الله لجميع الفقراء من جميع الحكام.

قلت: وما علاقة الحكام بفقر الفقراء؟ إن الحاكم يحكم الرعية جميعا، لا الفقراء وحدهم، بل هو عادة لا يحكم إلا بعد أن يرضى عنه الأغنياء، فكيف تطلب منه أن يغني الفقراء؟

قال: ولكن أولى الناس برحمة الحاكم أضعفهم ، أليس الحاكم أب لرعيته؟

قلت: يمكنك أن تقول ذلك.

قال: فمن أولى الأولاد برعاية والدهم؟

قلت: أضعفهم حتى يقوى ، وأحوجهم حتى يغتني.

قال: فكذلك الحاكم العادل.. يمتد بصره أول ما يمتد إلى الفقراء والضعفاء من رعيته، فيشملهم بما وضع الله لهم من أرزاق.

قلت: ولكن الله وضع الزكاة للفقراء.

قال: وقبل الزكاة وضع العدالة، فلو عدل الحكام في توزيع ثروة الأمة ، لما احتاج الفقراء إلى الزكاة.

قلت: أتريد إسقاط فريضة الزكاة؟

قال: لقد جعل الله للزكاة ثمانية أصناف لا بد أن يوجدوا في كل عصر لا محالة، فقال تعالى:) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( (التوبة:60)

قلت: أتريد أن تخص الزكاة لغير الفقراء؟

قال: لا.. هم أولى الناس بها.. وهي مكملة للعدالة ، فلا يمكن أن يكتفي الفقراء بما تدر عليهم جيوب الأغنياء.

قلت: ولكن مطالب الدولة كثيرة ، ولا يمكن الوفاء بها مع الاهتمام بالمعوزين.

قال: أوضع الراعي لحاجات الإنسان، أم لحاجات البنيان؟

قلت: لا يمكن أن يكون الإنسان بلا بنيان.

قال: ولا يمكن أن يكون البنيان بلا إنسان، أتريدون أن تعمروا بنيانكم بالخفافيش؟

قلت: نعمرها بالأغنياء.

قال: ستنزل عليكم حينها لعنات الفقراء، فتظلم عليهم قصورهم.

قلت: أترى أن توزع ثورة الأمة على الفقراء؟

قال: على الأمة جميعا ، فقراءهم وأغنياءهم بحسب حاجاتهم.

قلت: نحن نوزعها على العاملين.

قال: والعاجزون والبطالون الذين لم يجدوا عملا؟

قلت: نتركهم لرحمة الأغنياء.

قال: فإن شح الأغنياء؟

قلت: نكتب القصائد المؤثرة في رثائهم لنستدر عطف الأغنياء على أولادهم.

قال: هذه روائح القارونية التي خسف الله بسلفها الأرض.

قلت: وهل هناك غير القارونية؟

قال: هناك الخلافة الراشدة.. وهناك الخلفاء الراشدون.. ألم تقرأ سيرهم؟

قلت: بلى.. فقد كان الخلفاء الراشدون يوزعون ثورة الأمة على أفرادها.

قال: يعطونهم حقهم الذي جعل الله لهم.

قلت: لقد روى المؤرحون عن عمر t من ذلك الكثير.

قال: فاذكر بعض ما رووا لتنتفعوا بهديهم، ألم يأمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن تستنوا بهديهم؟

قلت: بلى.. فقد جاء في الحديث عن العرباض بن سارية t قال: وعظنا رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. فقلنا: يا رَسُول اللَّهِ كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال:( أوصيكم بتقوى اللَّه والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد[حبشي]، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً! فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )[5]

قال: فكيف كانت سنة عمر - صلى الله عليه وسلم - في تقسيم أموال الأمة؟

قلت: أراد أن يفرض للناس، فقالوا: ابدأ بنفسك، فقال: لا، فبدأ بالأقرب فالأقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففرض للعباس، ثم علي حتى والى بين خمس قبائل، حتى انتهى إلى بني عدي بن كعب[6].

وروي عن قيس بن أبي حازم أن عمر بن الخطاب t فرض لأهل بدر خمسة آلاف، وقال: لأفضلنهم على من سواهم.

قال: أتدري لم فضل عمر t خيار الناس على غيرهم؟

قلت: لقد ظللت أتساءل عن سر عدم تسوية عمر t بين رعيته مع أن العدالة تقتضي التسوية بين الرعية.

قال: لقد نظر عمر t إلى مصلحة الفقراء، فلذلك جعل الأموال في أيدي الصالحين.

قلت: فلم لم يضعها في أيدي الفقراء مباشرة؟

قال: لو وضعها في أيديهم لأفسدوها، أو لأفسدتهم.. أليست الأموال هي قوام حياة الأمة؟

قلت: يمكنك أن تقول ذلك.

قال: بل لا بد أن أقول ذلك ، ألم تسمع قوله تعالى:) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً( (النساء:5)، فقد اعتبر الله الأموال هي قوام حياة الأمة[7].

قلت: بلى.. فما في هذا الاستدلال؟

قال: هذه دعوة للحرص على قوام حياة الأمة بأن لا يوضع إلا في الأيدي النزيهة الحكيمة، لأنه لو وضع في يد غيرها ضاع وضيع.. عد بنا إلى سياسة عمر في حفظ مال الأمة وتوزيعه.

قلت: لقد روى الثقاة عنه أنه قال:( لئن بقيت لأجعلن عطاء الرجل أربعة آلاف: ألف لسلاحه، وألف لنفقته، وألف يخلفها في أهله، وألف لفرسه)

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان عمر بن الخطاب يرسل إلينا بأعطائنا حتى من الرؤس والأكارع.

قال: ولي الأمر العادل هو الذي ينظر إلى الحاجات الأساسية للرعية فيكفيها.

قلت: روي أن أبا هريرة t قدم على عمر من البحرين، قال: فقدمت عليه، فصليت معه العشاء، فلما رآني سلمت عليه، فقال: ما قدمت به؟ قلت: قدمت بخمسمائة ألف، قال: تدري ما تقول؟ قلت: مائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، قال: إنك ناعس ارجع إلى بيتك فنم ثم اغد علي، فغدوت عليه فقال: ما جئت به؟ قلت: بخمسمائة ألف، قال: أطيب، قلت نعم، لا أعلم إلا ذاك، فقال للناس: إنه قدم علي مال كثير، فإن شئتم أن نعده لكم عدا، وإن شئتم أن نكيله لكم كيلا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين إني رأيت هؤلاء الأعاجم يدونون ديوانا، يعطون الناس عليه، فدون الديوان، وفرض للمهاجرين في خمسة آلاف خمسة آلاف، وللأنصار في أربعة آلاف اربعة آلاف، وفرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في اثنى عشر ألفا اثنى عشر ألفا[8].

قال: ولي الأمر العادل هو الذي يعلم رعيته بما لديها من أموال، ويستشيرها في كيفية إنفاقه.

قلت:روى أسلم قال: سمعت عمر t يقول: اجتمعوا لهذا المال، فانظروا لمن ترونه، وإني قد قرأت آيات من كتاب الله سمعت الله يقول:) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ( (الحشر:7 ـ 8) والله ما هو لهؤلاء وحدهم:) وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (الحشر:9)، والله ما هو لهؤلاء وحدهم ) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ( (الحشر:10)، والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال، أعطي منه أو منع حتى راع بعدن[9].

قال: ولي الأمر العادل هو الذي يوزع ثروة الرعية على الرعية، ولا يستأثر منها بشيء.

قلت: أجل.. وقد روي في هذا الكثير، فعن الأحنف بن قيس قال: كنا جلوسا بباب عمر فخرجت جارية فقلنا: سرية أمير المؤمنين، فسمعت فقالت: ما أنا بسرية أمير المؤمنين، وما أحل له، إني لمن مال الله، فذكر ذلك لعمر، فقال: صدقت، وسأخبركم بما أستحل من هذا المال، أستحل منه حلتين: حلة للشتاء، وحلة للصيف، وما يسعني لحجي وعمرتي وقوتي وقوت أهل بيتي، وسهمي مع المسلمين كسهم رجل ليس بأرفعهم ولا أوضعهم[10].

وعن الحسن قال: كتب عمر إلى حذيفة أن أعط الناس أعطيتهم وأرزاقهم، فكتب إليه: إنا قد فعلنا وبقي شيء كثير، فكتب إليه عمر أنه فيئهم الذي أفاء الله عليهم، ليس هو لعمر، ولا لآل عمر، إقسمه بينهم[11].

وروي عن ابن عمر قال: قدمت رفقة من التجار، فنزلوا المصلى، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن نحرسهم الليلة من السرق؟ فباتا يحرسانهم، ويصليان ما كتب الله لهما، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه، فقال لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك، ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه، فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان في آخر الليل سمع بكاءه، فأتى أمه، فقال: ويحك إني لأراك أم سوء، مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة؟ قالت: يا عبد الله قد أبرمتني منذ الليلة إني أريغه عن الفطام فيأبى، قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم، قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهرا، قال: ويحك لا تعجليه، فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، فلما سلم قال: يا بؤسا لعمر كم قتل من أولاد المسلمين، ثم أمر مناديا فنادى ألا لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام وكتب بذلك إلى الآفاق: إنا نفرض لكل مولود في الإسلام.

قال: وولي الأمر العادل هو الذي يعلم أن لكل زمن رزقه ، فلذلك لا يخزن الأموال ليعبث بها العابثون.

قلت: لقد روي في ذلك عن يحيى بن سعيد عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب لعبد الله بن الأرقم: اقسم بيت مال المسلمين في كل شهر مرة، اقسم مال المسلمين في كل جمعة، ثم قال: اقسم بيت مال المسلمين في كل يوم مرة، فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين لو أبقيت في بيت مال المسلمين بقية تعدها لنائبة أو صوت، يعني خارجة، فقال عمر للرجل الذي كلمه: جرى الشيطان على لسانك لقنني الله حجتها، ووقاني شرها، أعد لها ما أعد لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاعة الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم -[12].

وروي عن الحسن قال: كتب عمر بن الخطاب t إلى أبي موسى:( أما بعد فاعلم يوما من السنة لا يبقى في بيت المال درهم حتى يكتسح اكتساحا حتى يعلم الله أني قد أديت إلى كل ذي حق حقه )[13]

 

إحسان العبودية

اقتربنا من النافذة الثانية، والتي تشع منها روائح العبودية الخاشعة، فقال لي المعلم: ويل لمن ملك المال، ولم يؤد عبوديته[14].

قلت: أراك ترسل الويل أمام كل نافذة، ألم نؤمر بالتبشير؟

قال: وهذا من التبشير، ألم تسمع قوله تعالى:) وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( (التوبة: من الآية34)

قلت: ولكنه تبشير مجازي.. التبشير الحقيقي هو التبشير بالنعيم.

قال: هناك من شغله ما يعيش فيه من نعيم عن كل نعيم ، فاحتاج إلى هذا النوع من التبشير المؤلم.

قلت: فأي ريح من روائح الإحسان تهب من هذه النافذة؟

قال: أرياح كثيرة تجمعها أربعة: الزكاة، والحق الذي سوى الزكاة ، والكفارات، والنذور.

الزكاة:

قلت: فما الزكاة؟

قال: هي الأموال التي تخرج من خزائن الأغنياء، لتحفظ أموالهم من المحق.

قلت: أراك تذكر مصالح الأغنياء من الزكاة، وتغفل عن مصالح الفقراء فيها.

قال: لأن مصالح الأغنياء من الزكاة أعظم من مصالح الفقراء، فلولاها لمحقت بركة أموالهم.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أرأيت الدم الذي يخرجه المحتجم من عروقه؟

قلت: أجل.. ما به؟

قال: أيستفيد جسمه من خروجه أم لا؟

قلت: بل يستفيد أعظم فائدة، وقد رأينا بعض ذلك في ابتسامة الأنين.

قال: فهكذا المال الذي يخرج بالزكاة.

قلت: ولكن الفقراء ـأيضا ـ تنالهم بركات الزكاة.

قال: تنالهم بركات زكاة العبودية التي تخرج خالصة لوجه الله ، ولا تحتال على أحكام الله.

قلت: أهناك من يحتال على الزكاة؟

قال: كما أن هناك منن يحتال على الضرائب التي تفرضها دولكم، هناك من يحتال على الزكاة التي فرضها ربكم.

قلت: الحيل على الضرائب يمارسها المحاسبون والمحامون، والزكاة ليست بيد هؤلاء.. هي بيد الفقهاء، وهم من هم دينا وورعا.

قال: لا يعوز الأغنياء أن يجدوا من يحتال لهم.

قلت: سمعت بالحيل الفقهية، ولكني أعلم أنها من فعل اليهود، ومن فعل أهل السبت منهم خصوصا.

قال: وأهل الأحد والجمعة؟

قلت: لم تذكر لهم حيل في القرآن الكريم.

قال: ولكن حيلا كثيرة ذكرت في دواوينهم، أما أهل الأحد، فقد احتالوا على شريعتهم جميعا، فنسخوها بعبارة واحدة[15]، وأما أهل الجمعة، فما أكثر ما احتالوا لأنفسهم.

قلت: فهلا ضربت لي أمثلة؟

قال: الأمثلة كثيرة.. وليس هذا ميدانها، وقد علمت أن لك كتابا في هذا.

قلت: أجل.. وقد توقفت في كثير من مسائله ، فبم تشير علي؟

قال: لا تعمل عقلك مع النصوص.

قلت: ما تقصد؟

قال: لقد كفاكم الله جميع ما تحتاجون إليه من العلم، فلا تؤولوا النصوص ولا تهربوا منها، ولا تحتالوا عليها.

قلت: ولكن مسائل كثيرة مستجدة حدثت ، ولا بد من إعمال العقل للبحث عن حكم الله فيها.

قال: عيشوا النصوص، أو اسمعوها ، وستجدون كل ما تبحثون عنه.

قلت: فهلا ضربت لي مثالا على هذا أعيه، أو أنطلق منه؟

قال: أنتم تحرمون خلقا كثير من الزكاة بسبب قياس فاسد.

قلت: نحن نفعل هذا؟

قال: أجل.. وتكادون تجمعون عليه.

قلت: فما نفعل؟

قال: ألم ترد النصوص بوجوب الزكاة في نصاب الذهب والفضة؟

قلت: بلى.. فقد قال تعالى:) وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( (التوبة: من الآية34) فقد نبهت الآية بهذا الوعيد الشديد على أن في الذهب والفضة حقًا لله تعالى.

وقد ورد في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -:(  ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار )[16] ، وكل هذا الوعيد لمن لا يؤدي حق الذهب والفضة.

قال: فما ينوب عن الذهب والفضة في عصركم؟

قلت: تنوب عنها النقود الورقية والمعدنية.

قال: فلماذا اخترتم في قياسكم الذهب على الفضة؟

قلت: لأنه لو اخترنا الفضة، فإن جماهير كثيرة من الناس تجب عليها الزكاة مع أنها لا تعتبر في عرفنا من الأغنياء.

قال: وما علاقة عرفكم بأحكام الله.. أخبرني أيهما ورد النص الصريح بنصابه: زكاة الذهب، أم زكاة الفضة؟

قلت: بل زكاة الفضة.. فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة )[17]، والخمس الأواقي: مائتا درهم.

أما النقود الذهبية فلم يجيء في نصابها أحاديث في قوة أحاديث الفضة وشهرتها، لذا اختلف الفقهاء في نصابها على أقوال.

قال: أراكم تنتقون في قياسكم.. أين الورع؟

قلت: نحن نتورع من إبجاب الزكاة على من لم تجب عليه.

قال: وتحرمونه من بركات الزكاة، وتحرمون الفقراء مما أعطاهم الله من فضل.. أخبرني ما قال فقهاؤكم فيمن تجب عليه زكاة الفطر؟

قلت: أكثرهم يقول بوجوبها على الأغنياء والفقراء على حد سواء، ويدل لذلك ما ورد في النصوص من إيجاب زكاة الفطر على كل مسلم بما في ذلك الغني والفقير، وبما صرح به أبو هريرة في حديثه:( غني أو فقير )، وما رواه أحمد وأبو داود عن ثعلبة بن أبي صغير عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:( أدوا صدقة الفطر صاعًا من قمح -أو قال: بر- عن كل إنسان صغير أو كبير، حر أو مملوك، غني أو فقير، ذكر أو أنثى. أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى )، وفي رواية أبي داود:( صاع من بر أو قمح عن كل اثنين )

قال: فقيسوا ذلك على هذا.. سمعت أنكم وضعتم صناديق تجمعون فيها الزكاة.

قلت: أجل.. ونحن نستن بسنة السلف الصالح y في ذلك.

قال: فاستنوا بهم في جمعها من جميع أصناف الأموال، ووضعها في يد المستحقين.

قلت: نحن نفعل ذلك.

قال: لا.. أنتم لا تفعلون كلا الأمرين.. هل تجمعون زكاة المعادن التي وهبها الله لكم.

قلت: هي من المال العام، والمال العام لا زكاة فيه.

قال: فما دامت من المال العام، فهل يصل الفقراء من ريعها؟

قلت: يصلهم عن طريق طرق يسيرون عليها ، وشرطة تحفظ أمنهم، وجيش يحفظ حدودهم، وساسة يسهرون على راحتهم.

قال: وبطونهم الخاوية، وأجسادهم العارية، وأمراضهم التي لم تجد الدواء الذي يعالجها، وأولادهم الذين لم يجدوا المدارس التي تؤويهم.

قلت: لو التفتنا إلى هذا.. فإن عجلة التطور ستدوسنا.. ولن نلحلق بالعالم المتقدم.

قال: لو لحقتم به لخسف بكم.. هو يبني العمران على حساب الإنسان، هو يقيم جسورا، ويحطم قلوبا.. هو يبني القصور ويهدم الأكواخ.

قلت: أنت تخرج على الإجماع بإيجابك الزكاة في البترول والمعادن وثروة الأمة.

قال: إذا وصلت هذه الثروة إلى أفراد الأمة، كما فعل عمر t ، وكما سيفعل المهدي u، فلن تجب فيها الزكاة، أما إذا لم ينتفع به إلا قارون وأحفاد قارون، فإن الزكاة تجب فيها جميعا، لا في خمسها فقط.

قال: لمن تسلمون ما تجمعونه من زكوات؟

قلت: جزء للفقراء المحرومين، وهو أقل الأجزاء وأحقرها، وجزء نقيم به مشاريع استثمارية، أو نساعد به الشباب على الاستثمار.

قال: أراكم تتلاعبون بالزكاة وبحقوق الفقراء.. أنتم لا تفكرون في الجائعين والمحرومين والأرامل والأيتام.. أنتم لا تنظرون إلا لبطونكم المنتفخة لتزيدوها انتفاخا.

قلت: ما تقول يا معلم؟

قال:  أنتم تدفعون الزكاة لمن ينتج.. لأن في الإنتاج مصالحكم.

قلت: ومصالح الفقراء.

قال: أول مصلحة للفقير أن تشبع بطنه الجائع ، وتعلم ابنه الجاهل، وتسكنه المسكن الذي يليق به.

قلت: ولكنا إن وفرنا للشباب من الفقراء فرص العمل نكون قد قدمنا لهم من الخدمات ما يقيهم الفقر، بل قد يصبحون من دافعي الزكاة.

قال: أتضحكون على الله، أم على أنفسكم؟

قلت: ما تقول؟

قال: أنتم تدفعون لأصحاب البطون المنتفخة من أموال الأمة ما لا تفي به صناديقكم جميعا، ثم تعتذورن لهم إن لم تنجح مشاريعهم، ثم تعطون لهؤلاء ما جمعتموه من خبز الفقراء الملطخ بأناتهم، ثم تريدون منهم أن يصبحوا من رجال الأعمال.

قلت: صدقت في هذا.. فنحن نحرم الفقراء المعوزين لنعطي هذا الشباب.. بل قد نعطي للشاب الواحد من هؤلاء أكثر من مائة ضعف ما نعطيه لعائلة فقيرة ليس لها عائل.

قال: ألم أقل لك: إنكم تتلاعبون.. وتهربون من النصوص إلى الأهواء.

قلت: وهل ورد النص بعلاج هذه النازلة؟

قال: النصوص فيها كل شيء لمن عقل عن الله ، وسمع منه، ألا تعرف قصة الذي جاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟

قاطعته قائلا: بلى.. فقد روي أن رجلا من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ فقال: بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه الماء فقال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده فقال: من يشتري هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا؟)، فقال رجل: أنا أخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فائتني به، فلما أتاه به شد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عودا بيده، ثم قال:( اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما )، ففعل وجاء فأصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تحل إلا لثلاث: لذي فقر مدقع[18]، ولذي غرم[19] مفظع[20]، ولذي دم موجع[21] )[22]

قال: فقد كان - صلى الله عليه وسلم - قادرا على أن يعطيه من الزكاة ما يشتري به آلة الصناعة.

قلت: ولكن كل المجامع الفقهية أقرت جواز الاستثمار في أموال الزكاة إذا كان ذلك في مصلحة الفقراء والمساكين.

قال: فما قالت هذه المجامع في زكاة البترول والمعادن التي أخرج الله لكم؟

قلت: لقد سبق أن ذكرت لك أنها اعتبرتها من المال العام.

قال: فإذا زكيتم تلك الثروات الضخمة، فلا بأس أن تستثمروا فيها، أما ما تخرجونه من أفواه الشح ، فلا ينبغي أن يذهب إلا للأفواه الجائعة[23].

الحق الذي سوى الزكاة:

قلت: عرفت الزكاة، فما الحق الذي سوى الزكاة؟

قال: لا يحل للغني أن يهنأ بماله ، وهناك من يتضور جوعا، أو يموت بردا.

قلت: ولكن الغني أدى ما عليه إن أدى زكاة ماله.

قال: زكاة المال أدنى ما على الغني إخراجه، وقد وضعه الشارع الحكيم للحالة العامة، فإن لم يكف ما يخرج من الزكاة أخرجوا من غيرها.

قلت: ولكني سمعت النصوص تذكر خلاف ما ذهبت إليه.

قال: معاذ الله أن أتبع الهوى.. ما سمعت؟

قلت: لقد جاء رجل إلى رسول الله r من أهل نجد، ثائر الرأس، يُسمع دوي صوته، ولا يُفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله r فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله r: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع. قال رسول الله r: وصيام رمضان. قال: هل عليَّ غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوع، وذكر الزكاة، فقال: هل عليَّ غيرها قال: لا، إلا أن تطوع) فأدبر وهو يقول: لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فقال رسول الله r:( أفلح إن صدق )، أو:( دخل الجنة إن صدق )[24]، فقد أخبر الرسول r الرجل: أن لا شيء عليه غير الزكاة، إلا أن يتطوع.

وروى أبو هريرة t: أن أعرابيًا أتى النبي r فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلتُ الجنة، فقال:( تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان )، قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا، فلما ولى، قال رسول الله r:( مَن سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا )[25]

قال: فما في الحديثين من الاستدلال على ما ذكرت؟

قلت: الحديثان واضحان، ففيهما أعلن الرجلان السائلان: أنهما لا يزيدان على الزكاة المفروضة شيئًا، ورضى الرسول r منهما ذلك، بل أخبر أنهما من أهل الجنة، ولو كان في المال حق سوى الزكاة ما استحقا الجنة مع تركه.

ويدل لهذا قوله r:( إذا أديتَ زكاة مالك فقد قضيتَ ما عليك )[26]، ومن قضى ما عليه في ماله لم يكن عليه حق فيه، ولا يُطالب بإخراج شيء آخر على سبيل الوجوب.

ويدل له كذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -:( إذا أديت زكاة مالك، فقد أذهبت عنك شره )[27]، وإنما يذهب عن الإنسان شر المال في الدنيا والآخرة إذا أديت منه الحقوق كلها.

ويدل له كذلك ما روي عن أم سلمة: أنها كانت تلبس أوضاحًا من ذهب، فسألت عن ذلك النبي r فقال: أكنز هو؟ فقال:( إذا أديت زكاته فليس بكنز )[28]، وفي بعض رواياته:( ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز )[29]، ففيه دلالة على أن الوعيد الذي جاء في حق الكانزين لأموالهم لا يلحق من أدى زكاته، ولو كان في المال حق واجب آخر، ما سلم من الوعيد.

بل قد روي في هذا حديث صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه:( ليس في المال حق سوى الزكاة)[30]

قال: أما الحديث الأخير الذي ذكرته، فأنت تعلم ضعفه الشديد، وهو بعبارات الفقهاء أليق منه بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -.

أما سائر الأحاديث، فتتحدث عن الحالة العامة، وهي الحالة التي قنن الشرع مقادرها، أما ما عداها من الظروف الطارئة، فلها أحكامها الخاصة بها.. ألا تقولون: لكل حادث حديث.

قلت: إن ما تذكره يا معلم لم يروه البخاري ولا مسلم، فكيف ترد به نصوصا صحيحة صريحة.

قال: سأذكر لك ما يجعلك تعمق فهمك لما رواه البخاري ومسلم.

قلت: فما هو؟

قال: كتاب ربك.. ألم تسمع ما ورد في كلام ربك عن التكافل الاجتماعي بين المسلمين؟

قلت: بلى.. فقد قال تعالى:) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً( (الاسراء:26)، وقال تعالى:) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ  مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً( (النساء:36) ، وقال تعالى:) لَيْسَ الْبِرَّ أن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ والكِتَابِ وَالنَّبِييَّنَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ، وَالصَّابِرِينَ فِي البَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ، وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ( (البقرة: 177)

 

ومن النصوص القرآنية الدالة على وجوب التكافل بين المسلمين ، كقوله تعالى:) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ( (المائدة: من الآية2)، وقال تعالى في وصف المؤمنين:) رُحماءُ بَيْنَهُمْ( (الفتح: 29)

ويمكن أن يدخل في هذا الباب الآيات الكثيرة التي جعلت إطعام المسكين والحض على إطعامه من علائم الإيمان، وتركه من لوازم الكفر والتكذيب بالآخرة، من مثل قوله تعالى:) أرَأيْتَ الَّذي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلكَ الَّذِي يَدُعّ اليَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ( (الماعون: 13)، وقال في أسباب دخول المجرمين في سقر:) قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلَّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ( (المدثر:43 ـ 44)، وقال في شأن مَن أوتي كتابه بشماله فاستحق صليّ الجحيم والعذاب الأليم:) إنَّهُ كَان لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكينِ( (الحاقة: 33 ـ 34).

قال: فما جاء في القرآن الكريم من الوعيد بشأن الذين يمنعون الماعون؟

قلت: لقد قال تعالى:) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الَّذيِنَ هُمْ يُرَاءُونَ ويمنعون الماعون( (الماعون: 4 ـ 7)

قال: فما الماعون؟

قلت: لقد قال عبد الله بن مسعود t:( كنا نعد الماعون على عهد رسول الله r عارية الدلو والقدر )[31]

قال: فهل ذكر الله تعالى في هذه الآيات الزكاة؟

قلت: لا..  لقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات أنواعا من الإحسان.

قال: فهي من الحق الذي جعله الله ما سوى الزكاة.

قلت: لا.. هذا من المستحبات والسنن، وليس من الواجبات.

قال: لقد ربط الله هذا بأصول الدين من العقائد والعبادات، فكيف تزعم بأنه من السنن والمستحبات.

قلت: يمكنك إدخالها في الواجبات من باب الزكاة.

قال: فإن لم تكف الزكاة، وهي ـ بما وضعتموه من الشروط ـ لا تكاد تكفي أحدا، فهل تترك كل هذه النصوص المحكمة الصريحة؟

قلت: ولكن السنة وضحت المراد بالكتاب، وقيدت ما يظهر من إطلاقه.

قال: ألم تسمع النصوص الكثيرة الدالة على هذا.. ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:(  من لا يرحم الناس لا يرحمه الله )[32] ، ومن أخاه جائعًا عريانًا ضائعًا فلم يغثه، فما رحمه بلا شك.

وعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدَّيق: أن أصحاب الصفة كانوا أناسًا فقراء، وأن رسول الله r قال:( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس.. أو سادس )[33]

وعن ابن عمر t أن رسول الله r قال:( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه )[34]، ومن تركه يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد أسلمه.

وعن أبي سعيد الخدري t أن رسول الله r قال:( من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له ) ، فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل )[35]، وهذا إجماع من الصحابة y يخبر بذلك أبو سعيد، وبكل ما في الخبر نقول.

وعن علي بن أبي طالب t قال: قال رسول الله r:( إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإنَّ الله يحاسبهم حسابًا شديدًا، ويعذبهم عذابًا أليمًا )[36]

بالإضافة إلى هذا كل ما ورد في النصوص من وحدة المسلمين وتعاونهم، كقوله - صلى الله عليه وسلم -:( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا )[37] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:( مَثَلُ المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمَثَل الجسد الواحد؛ إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر )[38]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:( ليس بمؤمن مَن بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع )[39]

قلت: فهمت هذا ووعيته.. ولكن النصوص النبوية تحدد بفهم الصحابة y  فهم أنقى الناس قلوبا، وأدركهم لمقاصد الشريعة، ولم ينقلوا لنا سوى الزكاة.

قال: ومن قال ذلك؟.. ألم تسمع ما روي عن عمر t  فقد قال:( لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لأخذتُ فضول أموال الأغنياء، فقسمتها على فقراء المهاجرين )[40]

قلت: هو عمر.. وقد كان شديدا.

قال: فقد قال عليّ بن أبي طالب t:( إنَّ الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحقٌ على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه )

قلت: هو علي.. وهو أشبه الناس بعمر.

قال: فقد روي عن ابن عمر t أنه قال:( في المال حق سوى الزكاة )

وروي عن عائشة والحسن بن عليّ وابن عمر y أنهم قالوا كلهم لمن سألهم:( إن كنت تسأل في دم موجع، أو غُرم مفظع، أو فقر مدقع، فقد وجب حقك )

وصح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلاثمائة من الصحابة y: أن زادهم فني، فأمرهم أبو عبيدة، فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم إياها على السواء، فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة y ، لا مخالف لهم منهم.

قلت: ولكن التابعين الذين وعوا الدين..

قال: لقد صح عن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم، كلهم يقول:( في المال حق سوى الزكاة )

الكفارات:

قال: مما يدلك على عظم حق الفقير أن الله ربط عفوه عن المخطئين بالإحسان إليهم.

قلت: أجل.. فقد قال تعالى في كفارة اليمين:) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( (المائدة:89)

وقال تعالى في كفارة قتل المحرم للصيد:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ( (المائدة:95)

وقال تعالى في كفارة الظهار:) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (المجادلة:4)

وقال تعالى في فدية من لم يطق الصيام:) وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ( (البقرة: من الآية184)

قال: ألا ترى أن الله تعالى ربط بين الطعام والصيام؟

قلت: أجل.. فإني رأيت النصوص قدمت الصيام على الإطعام.

قال: أتدري سر ذلك؟

قلت: فما سر ذلك؟

قال: من لم يستطع أن يحسن للفقراء، أمر بالجوع ليستشعر جوع الفقراء.

النذور:

قلت: أراك تجعل النذور من إحسان العبودية مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر , وقال:( إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل )[41]

قال: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونعم ما علل به سر تشريع النذر.

قلت: كيف تعتبر النذر مشروعا، وقد أفتى الفقهاء بكراهته؟

قال: ولكنهم أفتوا بلزومه.

قلت: ولكن التعبدات تكون من الواجبات والمستحبات، لا من المكروهات.

قال: هو مكروه لعلة البخل ، وليس مكروها في ذاته، بل هو في ذاته قد يكون من الواجبات أو المستحبات.

قلت: كيف ذلك؟

قال: الأصل في الطاعة أن تؤدى لوجه الله ، ولرغبة في طاعة الله، منبعثة من شوق عظيم لله.. والنذر يقصر في بعض هذا.. ولكنه قد يكون طريقا لكل هذا.

قلت: لم أع ما تقول.

قال: هناك من الناس من يكون كما وصفنا ، فتنبعث نفسه للطاعات، ولا تخذله عنها، وهذا هو الكريم، ومنهم من تشح نفسه، فيحتاج إلى أن يسوطها بسوط النذر، لتتعود على طاعة الله ، فتسير في طريق أهل الله.

قلت: أيمكن اعتبار النذر بهذا شعيرة من الشعائر التي يمكن استغلالها لمعاهدة النفس على سلوك مسالك الصلاح؟

قال: أجل.. ولهذا أثني الله على المؤمنين الموفين بالنذر، فقال تعالى:) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً( (الانسان:7)

ولولا هذا المعنى ما ورد في النصوص الحث والتشديد على الوفاء بالنذر.

قلت: أجل.. فقد قال تعالى:) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ( (الحج:29)، وقال تعالى:)وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ( (النحل:91)، وقال تعالى:) وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً( (الاسراء: من الآية34)

قال: فهذه النصوص تدلك على الدور التربوي الخطير الذي يحمله النذر، ولهذا كله علاقة بالفقراء.

قلت: وما علاقة ذلك بالفقراء.. لقد كنت أحسبنا تهنا عنهم.

قال: ألم تسمع قوله تعالى:) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ( (التوبة:75 ـ 76)

قلت: أجل.. ولكني أتعجب لمخالفة كثير من الفقهاء لهذه الآية.

قال: اعرف ما تقول.. فإن الفقهاء أورع من أن يخالفوا نصا صحيحا أو صريحا.

قلت: لقد رأيت بعضهم يقول: إن من نذر أن يتصدق بماله كله , أجزأه أن يتصدق بثلثه[42].. وبعضهم اكتفى بأن يخرج منه مقدار الزكاة.

قال: صدقوا.. فلا ينبغي أن نخرج فقراء من الفقر، وندخل غيرهم، ألم تسمع قوله r لأبي لبابة , حين قال: إن من توبتي يا رسول الله أن أنخلع من مالي.

قلت: بلى.. فقد قال له رسول الله r:( يجزئك الثلث ).. وروي عن كعب بن مالك t , قال: قلت: يا رسول الله , إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ، فقال رسول الله r:( أمسك عليك بعض مالك )[43]، وفي رواية:( يجزئ عنك الثلث )

 

إحسان المروءة

اقتربنا من النافذة الثالثة، والتي تشع منها روائح المروءة الطيبة، فقال لي المعلم: ويل لمن ملك المال، ولم تظهر عليهم سيما المروءة.

قلت: فما المروءة؟

قال: هو النبل الذي تمتلئ به النفوس الطيبة، فتسارع إلى حاجات الناس تقضيها، وكأنها تقضي حاجاتها.

قلت: فما ينبت هذا النبل؟

قال: أشياء كثيرة.

قلت: فاذكر لي بعضها لأبشر به.

إطعام الطعام:

قال: أولها إطعام الطعام.. فالمؤمن لا ينبغي أن يجوع بين إخوانه المسلمين.

قلت: هي سنة الخليل u ، فقد كان مضيافا، وقد قال الله تعالى عنه:) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ إبراهيم المكرمين((الذريات:24 ـ 27)، وقال تعالى:) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ( (هود:78)، ففي الآية الأولى دليل على إكرام الضيف، وفي الثانية دليل على حمايته.

قال: والنصوص لا تدل على ما تفهمونه من السنية فقط، بل تدل على الوجوب[44]، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )[45]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:(  من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته )، قالوا: وما جائزته يا رَسُول اللَّهِ؟ قال:( يومه وليلته. والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه )[46]، وفي رواية ( ولا يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه ) قالوا: يا رَسُول اللَّهِ وكيف يؤثمه؟ قال:( يقيم عند أخيه ولا شيء يقريه به )[47]

قلت: أتستدل بهذه النصوص على القول بالوجوب؟

قال: ليس بهذا فقط ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو t:( إنَّ لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا )[48] وقال - صلى الله عليه وسلم -:( أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محرومًا فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه )[49]، بل روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:( أيما رجل أضاف قومًا فأصبح الضيف محرومًا، فإن نصره حق على كل مسلم، حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله )[50]

قلت: ولكن سرعان ما يتنصل الناس من مثل هذه النصوص.

قال: أما الصالحون السامعون للهدي المقدس، فإنهم لا يأبهون لكل تحريف، ألم تسمع قوله تعالى فيهم:) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً( (الانسان:8)

قلت: بلى.. وقد روي من فعل السلف y ما بين كرم أخلاقهم وعظيم إيثارهم، فعن أبي هريرة t قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني مجهود. فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك حتى قلن كلهن مثل ذلك لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(  من يضيف هذا الليلة؟) فقال رجل من الأنصار: أنا يا رَسُول اللَّهِ. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: أكرمي ضيف رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - )، وفي رواية قال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني. قال: علليهم بشيء، وإذا أرادوا العشاء فنوميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل. فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين. فلما أصبح غدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:( لقد عجب اللَّه من صنيعكما بضيفكما الليلة )[51]

ومن هديه - صلى الله عليه وسلم - في إكرام الضيف ما ورد في خبر إسلام عدي بن حاتم الطائي t، فقد روي أنه قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأكرمه بالجلوس على وسادة، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأرض، قال عدي: ثم مضى بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا دخل بيته، تناول وسادة من أدم محشوة ليفا، فقذفها إلي فقال: اجلس على هذه، قلت: بل أنت فاجلس عليها، قال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأرض.

قال: ولكن قومك حرفوا الضيافة، فاستأثر بها الأغنياء دون الفقراء.

قلت: صدقت في هذا.. فقومي يتشرفون بأكل الأغنياء لطعامهم.

قال: أما الصالحون، فكانوا يتنافسون في إطعام الفقراء.

قلت: قومي يرجون بإطعام الأغنياء ما لا يرجون بإطعام الفقراء.

قال: فبشرهم بما ورد في النصوص ليقتنعوا بفضل الله، ويرغبوا به عن كل فضل.

قلت: لقد ورد في النصوص الإخبار بأن الله يبعث مع الضيف رزقه، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( الضيف يأتي برزقه ويرتحل بذنوب القوم يمحص عنهم ذنوبهم )[52]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إذا دخل الضيف على القوم دخل برزقه، وإذا خرج خرج بمغفرة ذنوبهم )[53]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إذا أراد الله بقوم خيرا أهدى إليهم هدية الضيف ينزل برزقهن ويترحل، وقد غفر الله لأهل المنزل) [54]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( الرزق أسرع إلى البيت الذي يؤكل فيه من الشفرة إلى سنام البعير)[55]

 بل أخبر - صلى الله عليه وسلم - ( إن أسرع صدقة إلى السماء أن يصنع الرجل طعاما جيدا، ثم يدعو إليه ناسا من إخوانه )[56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إن من موجبات المغفرة إطعام السغبان)[57]

بل أخبر - صلى الله عليه وسلم - بما هو أعظم من ذلك، فقال:( أطعموا الطعام، وأفشوا السلام تورثوا الجنان )[58]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( من أطعم مسلما جائعا أطعمه الله من ثمار الجنة )[59]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( من ذبح لضيفه ذبيحة كانت فداه من النار )[60]

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن فضل مطعم الطعام ، فقال:( خيركم من أطعم الطعام ورد السلام)[61]، وعلى عكس ذلك، قال - صلى الله عليه وسلم -:( لا خير فيمن لا يضيف )[62]

صلة الجار:

قال: ومن إحسان المروءة الإحسان إلى الجار.

قلت: لقد وردت النصوص الكثيرة تحث على صلة الجار والإحسان إليه، حتى قال - صلى الله عليه وسلم -:( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)[63]

قال: بل إن النصوص تربط حقه بالإيمان، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، واستوصوا بالنساء خيرا )[64]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه )[65]

قلت: بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقترح الطرق التي تيسر طرق الإحسان إلى الجار، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( إذا طبخ أحدكم طبخا فليكثر مرقها ثم ليناول جاره منها )[66]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إذا طبخت فأكثر المرق، وتعاهد جيرانك )[67]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( يا نساء المؤمنات لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة )[68]

قال: قد عدد - صلى الله عليه وسلم - أنواع حقوق الجار، فقال:( حق الجار إن مرض عدته، وإن مات شيعته، وإن استقرض أقرضته، وإن أعوز سترته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا ترفع بناءك فوق بنائه فتسد عليه الريح، ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها )[69]

قلت: وقد بين - صلى الله عليه وسلم - مخاطر الإساءة للجار، وتضييع حقوقه، فقال:(كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب هذا غلق بابه دونه فمنع معروفه)[70] ، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( لأن يزني الرجل بعشرة نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره، ولأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر له من أن يسرق من بيته جاره )[71]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه )[72]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به)[73]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه )[74]

قال: وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن حق الجار يشمل كل جار مسلما كان أو كافرا، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( الجيران ثلاثة: فجار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، فأما الجار الذي له حق واحد: فجار مشرك لا رحم له حق الجوار، وأما الذي له حقان: فجار مسلم: حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق: فجار مسلم ذو رحم: حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم )[75]

التنافس على الكرم:

قال: ومن هذا الباب كل ما ورد في النصوص من الحث على التنافس على كل سبل الكرم، فلا ينشر الفقر مثل البخل، ولا يقضي عليه مثل الكرم.

قلت: أجل.. فقد وردت النصوص الكثيرة تحث على الكرم، وتعتبره من الكمال، فقد اعتبر - صلى الله عليه وسلم -:( السخاء خلق الله الأعظم )[76] ، ولذلك فإن ( السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة قريب من النار، والجاهل السخي أحب إلى الله من عابد بخيل)[77] ، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إن الله يدخل بلقمة الخبز، وقبضة التمر ومثله، مما ينفع المسكين ثلاثة الجنة: صاحب البيت الآمر به، والزوجة المصلحة، والخادم الذي يناوله المسكين )[78]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه بيمينه وشماله وبين يديه وورائه )[79]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( ما من مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله، إلا استقبلته حجبة الجنة، كلهم يدعوه إلى ما عنده )[80]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( كم من حوراء عيناء، ما كان مهرها، إلا قبضة من حنطة، أو مثلها من تمر )[81]

وقال - صلى الله عليه وسلم -:( اليد العيا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة )[82]، وقال:( لا حسد إلا في إثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)[83]

قال: بل أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الله يتقبل الصدقة ، ويربيها لصاحبها، فقال - صلى الله عليه وسلم -:( إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد )[84]، وفي رواية:( إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي ولده، أو فصيله حتى يكون مثل أحد )[85]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إن العبد ليتصدق بالكسرة، تربو عند الله حتى تكون مثل أحد )[86]

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن أحب الأعمال إلى الله الكرم، فقال:( أحب الأعمال إلى الله تعالى، من أطعم مسكينا من جوع، أو دفع عنه مغرما، أو كشف عنه كربا)[87]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( أحب الأعمال إلى الله بعد الفرائض، إدخال السرور على المسلم)[88]

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن حب الله للمكرمين، فقال:( إن أحب عباد الله إلى الله، من حبب إليه المعروف، وحبب إليه أفعاله )[89]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إن الله تعالى استخلص هذا الدين لنفسه، ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق، ألا فزينوا دينكم بهما )[90]، وقال:( إن الله تعالى جواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها )[91]، وقال:( ما عظمت نعمة الله على عبد إلا اشتدت عليه مؤنة الناس، فمن لم يحتمل تلك المؤنة للناس فقد عرض تلك النعمة للزوال )[92]

وقال - صلى الله عليه وسلم -:( خلقان يحبهما الله، وخلقان يبغضهما الله، فأما اللذان يحبهما الله فالسخاء والسماحة، وأما اللذان يبغضهما الله تعالى، فسوء الخلق والبخل، وإذا أراد الله بعبد خيرا، استعمله على قضاء حوائج الناس )[93]

وقال - صلى الله عليه وسلم -:( الدال على الخير كفاعله، والله يحب إغاثة اللهفان )[94]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله )[95]

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه، فقال:( لأن تصدق بخاتمي أحب إلي من ألف درهم أهديها إلى الكعبة )[96]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( يا أبا ذر، ما أحب أن لي أُحدا ذهبا، أمسي ثالثة، وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا، وهكذا ويا أبا ذر، الأكثرون هم الأقلون، إلا من قال هكذا وهكذا )[97]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إني ذكرت وأنا في العصر شيئا من تبر كان عندنا، فكرهت أن يبيت فأمرت بقسمه )[98]

قلت: وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الصدقة تقي صاحبها من النار، فقال:( ليتق أحدكم وجهه من النار ولو بشق تمرة )[99]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة )[100]، وفي رواية:( اجعلوا بينكم وبين النار حجابا ولو بشق تمرة )[101]، وفي أخرى:( تصدقوا ولو بتمرة، فإنها تسد من الجائع، وتطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار )[102]، وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وسلم -:( تصدقوا فإن الصدقة فكاككم من النار )[103]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إن الصدقة لتطفىء عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته )[104]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( من أطعم أخاه من الخبز حتى يشبعه، وسقاه من الماء حتى يرويه، بعده الله من النار سبع خنادق، كل خندق مسيرة سبعمائة عام )[105]

وفي حديث آخر يرسم - صلى الله عليه وسلم - الصورة التي تمثل ذلك بقوله:( ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا ير إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة )[106]

ويخبر - صلى الله عليه وسلم - عن مشهد آخر من مشاهد الآخرة، فيقول:( يقي أحدكم وجهه حر جهنم، ولو بتمرة، ولو بشق تمرة، فإن أحدكم لاقي الله وقائل له: ما أقول لأحدكم: ألم أجعل لك سمعا وبصرا؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أجعل لك مالا وولدا؟ فيقول: بلى، فيقول: أين ما قدمت لنفسك، فينظر قدامه وبعده وعن يمينه، وعن شماله، ثم لا يجد شيئا يقي به وجهه حر جهنم، ليق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة، فإني لا أخاف عليكم الفاقة، فإن الله ناصركم ومعطيكم، حتى تسير الظعينة فيما بين يثرب والحيرة أكثر ما يخاف على مطيها السرق)[107]

قال: بل أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن الجزاء المعد للكرماء في الدنيا قبل الآخرة، فقال:( إذا أراد الله بقوم نماء، رزقهم السماحة والعفاف، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعا فتح عليهم باب خيانة )[108]، وقال:( استعينوا على الرزق بالصدقة )[109] ، وقال:( استنزلوا الرزق بالصدقة )[110]

وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنها ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها:( ارضخي ما استطعت، ولا توعي فيوعي الله عليك )[111]، وفي رواية:( أنفقي ولا تحصي، فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي عليك )[112] 

وأخبر - صلى الله عليه وسلم -:( أن ملكين ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا )[113]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إن الله تعالى يقول يا ابن آدم أودع من كنزك عندي، ولا حرق، ولا سرق، ولا غرق، أوفيكه أحوج ماتكون إليه )[114]

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن سائلا أتى( امرأة، وفي فمها لقمة، فأخرجت اللقمة فناولتها السائل، فلم تلبث أن رزقت غلاما، فلما ترعرع جاء ذئب فاحتمله، فخرجت تعدو في أثر الذئب، وهي تقول: ابني، ابني، فأمر الله ملكا إلحق الذئب، فخذ الصبي من فيه، وقال: قل لأمة الله يقرئك السلام، وقل: هذه لقمة بلقمة )[115]

وأخبر أنه ( بينما رجل بفلاة من الأرض، فسمع صوتا في سحابة، يقول: إسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله: ما إسمك؟ قال: قلان: للإسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله: لم تسألني عن إسمي؟ قال لأني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: إسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما أنك قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأنا أتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثا، وأرد فيها ثلثا )[116]

 وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن تأثير الكرم في الوقاية من نيران الدنيا، فقال:( صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا، هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أهل المنكر في الدنيا، هم أهل المنكر في الآخرة)[117]، وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وسلم -:( صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تطفىء غضب الرب، وصلة الرحم زيادة في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا، هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة، وأول ما يدخل الجنة أهل المعروف)[118]

بل ذكر - صلى الله عليه وسلم - ما هو أعظم من ذلك، فقال:( تسد الصدقة سبعين بابا من السوء )[119] ، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( الصدقة تمنع سبعين نوعا من أنواع البلاء، أهونها الجذام والبرص)[120]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( الصدقة تمنع ميتة السوء )[121] ، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( مناولة المسكين تقي ميتة السوء )[122] ، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( تداركوا الهموم والغموم بالصدقات، يكشف الله تعالى ضركم، وينصركم على عدوكم )[123]

وقال - صلى الله عليه وسلم -:( الصدقة على وجهها، واصطناع المعروف، وبر الوالدين، وصلة الرحم، تحول الشقاء سعادة، وتزيد في العمر، وتقي مصارع السوء )[124]

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن عظم الغبن الذي يحيق بالبخلاء، فقال:( إعلموا أنه ليس منكم أحد، إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، مالك ما قدمت، ومال وارثك ما أخرت )[125]، وفي رواية:( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله، فإن ماله ما تقدم، ومال وارثه، ما تأخر )[126]

قلت: وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن عمومية الكرم، فهو خلق المؤمن فقيرا كان أو غنيا، فقال:( أفضل الناس رجل يعطي جهده )[127]

قال: وأخبر عن شموليته، فقال - صلى الله عليه وسلم -:( اصنع المعروف إلى من هو أهله، وإلى غير أهله، فإن أصبت أهله، أصبت أهله، وإن لم تصب أهله، كنت أهله)[128]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( للسائل حق وإن جاء على فرس )[129]

 ولكن جزاءه العظيم مدخر لمن وضعه في أهله، قال - صلى الله عليه وسلم -:( الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان، فصدقة وصلة )[130]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على عياله ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله عز وجل )[131] 

وقال - صلى الله عليه وسلم -:( يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى)[132]

وقال - صلى الله عليه وسلم -:( يقول ابن آدم مالي، وهل لك يا ابن آدم ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت زادك لأولادك، وما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس )[133]

قلت: وقد دعا - صلى الله عليه وسلم - إلى المبادرة إلى الكرم قبل أن يذهب زمنه، فقال:( تصدقوا فسيأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته، فيقول الذي يأتيه بها، لو جئت بالأمس لقبلتها، فأما الآن فلا حاجة لي فيها، فلا يجد من يقبلها )[134]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( تصدقوا قبل أن لا تصدقوا، تصدق رجل من ديناره، تصدق رجل من درهمه، تصدق رجل من بره، تصدق رجل من تمره، تصدق رجل من شعيره، لا تحقرن شيئا من الصدقة، ولو بشق تمرة )[135]

قال: لقد ربت هذه الأحاديث وغيرها أجيال الأمة على النفقة في سبيل الله، فتساوى الأغنياء والفقراء، وارتفعت الحواجز بينهم لأول مرة في التاريخ.

قلت: إني أحفظ من ذلك الكثير.

قال: فارو منه ما تملأ به نفوس الأغنياء شوقا للكرم، والتنافس في الكرم.

قلت: لقد سأل رجل الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ حاجة فقال له: يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لدي ومعرفتي بما بحب لك تكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله تعالى قليل، وما في ملكي وفاه لشكرك، فإن قبلت الميسور ورفعت عني مؤنة الاحتمال والاهتمام لما أتكلفه من واجب حقك فعلت، فقال: يا ابن رسول الله أقبل وأشكر العطية، وأعذر علي المنع، فدعا الحسن بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها فقال: هات الفضل من الثلثمائة ألف درهم، فأحضر خمسين ألفاً قال: فما فعلت بالخمسمائة دينار؟ قال: هي عندي، قال أحضرها، فأحضرها فدفع الدنانير والدراهم إلى الرجل وقال: هات من يحملها لك، فأتاه بحمالين فدفع إليه الحسن رداءه لكراء الحملين، فقال له مواليه: والله ما عندنا درهم! فقال: أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم.

واجتمع قراء البصرة إلى ابن عباس t، وهو عامل بالبصرة، فقالوا: لنا جار صوام قوام يتمنى كل واحد منا أن يكون مثله، وقد زوج بنته من ابن أخيه وهو فقير وليس عنده ما يجهزها به، فقام عبد الله بن عباس فأخذ بأيديهم وأدخلها داره وفتح صندوقاً فأخرت من ست بدر، فقال: احملوا، فحملوا فقال: ابن عباس ما أنصفناه أعطيناه ما يشغله عن قيامه وصيامه، ارجعوا بنا نكن أعوانه على تجهيزها فليس للدنيا من القدر ما يشغل مؤمناً عن عبادة ربه، وما بنا من الكبر ما لا نخدم أولياء الله تعالى ففعل وفعلوا.

وحكي أنه لما أجدب الناس بمصر وعبد الحميد بن سعد أميرهم فقال: والله لأعلمن الشيطان أني عدوه؛ فعال محاويجهم إلى أن رخصت الأسعار، ثم عزل عنهم فرحل وللتجار عليه ألف ألف درهم، فرهنهم بها حلي نسائه وقيمتها خمسمائة ألف ألف، فلما تعذر عليه ارتجاعها كتب إليهم ببيعها ودفع الفاضل منها عن حقوقهم إلى من لم تنله صلاته.

وكان أبو طاهر بن كثير شيعياً فقال له رجل. بحق علي بن أبي طالب t لما وهب لي نخلتك بموضع كذا وكذا، فقال: قد فعلت، وحقه لأعطينك ما يليها، وكان ذلك أضعاف ما طلب الرجل.

وقال أبو الحسن المدائني: خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حجاجاً ففاتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا، فمروا بعجوز في خباء لها فقالوا: هل من شراب؟ فقالت نعم، فأناخوا إليها وليس لها إلا شويهة في كسر الخيمة فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها. ففعلوا ذلك ثم قالوا لها: هل من طعام؟ قالت: لا، إلا هذه الشاة فليذبحها أحدكم حتى أهيئ لكم ما تأكلون، فقام إليها أحدهم وذبحها وكشطها ثم هيأت لهم طعاماً فأكلوا وأقاموا حتى أبردوا فلما ارتحلوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا رجعنا سالمين فألمي بنا فإنا صانعون بك خيراً ثم ارتحلوا وأقبل زوجها فأخبرته بخبر القوم والشاة فغضب الرجل وقال: ويلك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم، ثم تقولين نفر من قريش؟ قال: ثم بعد مدة ألجأتهما الحاجة إلى دخول المدينة، فدخلاها وجعلا ينقلان البعر إليها ويبيعانه ويتعيشان بثمه، فمرت العجوز ببعض سكك المدينة، فإذا الحسن بن علي جالس على باب داره فعرف العجوز وهي له منكرة، فبعث غلامه فدعا بالعجوز وقال لها: يا أمة الله أتعرفيني؟ قالت: لا، قال: أنا ضيفك يوم كذا ويوم كذا، فقالت العجوز: بأبي أنت وأمي أنت هو؟ قال: نعم. ثم أمر الحسن فاشتروا لها من شياه الصدقة ألف شاة، وأمر لها معها بألف دينار، وبعث بها مع غلامه إلى الحسين فقال لها الحسين: بكم وصلك أخي؟ قالت: بألف شاة وألف دينار، فأمر لها الحسين أيضاً بمثل ذلك ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر، فقال لها بكم وصلك الحسن والحسين؟ قالت: بألفي شاة وألفي دينار، فأمر لها عبد الله بألفي شاة وألفي دينار، وقال لها: لو بدأت بي لأتعبتهما، فرجعت العجوز إلى زوجها بأربعة آلاف شاة وأربعة آلاف دينار.

وخرج عبد الله بن عامر بن كريز من المسجد يريد منزله وهو وحده، فقام إليه غلام من ثقيف فمشى إلى جانبه فقال له عبد الله: ألك حاجة يا غلام؟ قال: صلاحك وفلاحك رأيتك تمشي وحدك فقلت أقيك بنفسي وأعوذ بالله إن طار بجنابك مكروه، فأخذ عبد الله بيده ومشى معه إلى منزله، ثم دعا بألف دينار فدفعها إلى الغلام وقال: استنفق هذه فنعم ما أدبك أهلك.

وحكي أن قوماً من العرب جاءوا إلى قبر بعض أسخيائهم للزيارة، فنزلوا عند قبره وباتوا عنده وقد كانوا جاءوا من سفر بعيد؛ فرأى رجل منهم في النوم صاحب القبر وهو يقول له: هل لك أن تبادل بعيرك بنجيبي؟ وكان السخي الميت قد خلف نجيباً معروفاً به، ولهذا الرجل بعير سمين، فقال له في النوم: نعم، فباعه في النوم بعيره بنجيبه، فملا وقع بينهما العقد عمد هذا الرجل إلى بعيره فنحره في النوم، فانتبه الرجل من نومه فإذا الدم يثج من نحر بعيره، فقام الرجل فنحره وقسم لحمه فطبخوه وقضوا حاجتهم منه ثم رحلوا وساروا، فلما كان اليوم الثاني وهم في الطريق استقبلهم ركب، فقال رجل منهم: من فلان بن فلان منكم؟ - باسم ذلك الرجل - فقال: أنا، فقال له هل بعث من فلان بن فلان شيئاً؟ وذكر الميت صاحب القبر، قال: نعم بعث بعيري بنجيبه في النوم، فقال: خذ هذا نجيبه، ثم قال: هو أبي وقد رأيته في النوم وهو يقول: إن كنت ابني فادفع نجيبي إلى فلان بن فلان وسماه.

وقدم رجل من قريش من السفر فمر برجل من الأعراب على قارعة الطريق قد أقعده الدهر وأضر به المرض، فقال: يا هذا أعنا على الدهر فقال الرجل لغلامه: ما بقي معك من النفقة فادفعه إليه، فصب الغلام في حجر الأعرابي أربعة آلاف درهم، فذهب لينهض فلم يقدر من الضعف، فبكى فقال له الرجل ما يبكيك لعلك استقللت ما أعطيناك؟ قال: لا، ولكن ذكرت ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني.

واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء أهل خالد فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قالوا يبكون لدارهم، فقال يا غلام ائتهم فأعلمهم أن المال والدار لهم جميعاً.

وبعث هارون الرشيد إلى مالك بن أنس رحمه الله بخمسمائة دينار، فبلغ ذلك الليث بن سعد فأنفذ إليه ألف دينار، فغضب هارون وقال أعطيته خمسمائة وتعطيه ألفاً وأنت من رعيتي؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن لي من غلتي كل يوم ألف دينار؛ فاستحييت أن أعطى مثل أقل من دخل يوم.

وحكي أنه لم تجب عليه الزكاة مع أن دخله كل يوم ألف دينار. وحكي أن امرأة سألت الليث بن سعد رحمة الله عليه شيئاً من عسل، فأمر لها بزق من عسل، فقيل له إنها كانت تقنع بدون هذا؟ فقال: إنها سألت على قدر حاجتها ونحن نعطيها على قدر النعمة علينا. وكان الليث ابن سعد لا يتكلم كل يوم حتى يتصدق على ثلثمائة وستين مسكيناً.

وقال الأعمش: اشتكت شاة عندي فكان خيثمة بن عبد الرحمن يعودها بالغداة والعشي ويسألني هل استوفت علفها؟ وكيف صبر الصبيان منذ فقدوا لبنها؟ وكان تحتي لبد أجلس عليه فإذا خرج قال: خذ ما تحت اللبد، حتى وصل إلي في علة الشاة أكثر من ثلثمائة دينار من بره حتى تمنيت أن الشاة لم تبرأ.

وقال عبد الملك بن مروان لأسماء بن خارجة: بلغني عنك خصال فحدثني لها، فقال: هي من غيري أحسن منها مني، فقال: عزمت عليك إلا حدثتني بها؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما مددت رجلي بين يدي جليس لي قط، ولا صنعت طعاماً قط فدعوت عليه قوماً إلا كانوا أمن علي مني عليهم، ولا نصب لي رجل وجهه قط يسألني شيئاً فاستكثرت شيئاً أعطيته إياه.

ومرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه فقيل لهم: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزي الله ما لا يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً فنادى من كان عليه لقيس بن سعد حق فهو منه بريء، قال: فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من زاره وعاده.

وعن أبي إسحاق قال: صليت العصر في مسجد الأشعث بالكوفة أطلب غريماً لي، فلما صليت وضع بين يدي حلة ونعلان، فقلت: لست أهل هذا المسجد، فقالوا: إن الأشعث بن قيس الكندي قدم البارحة من مكة فأمر لكل من صلى في المسجد بحلة ونعلين.

وقال الشيخ أبو سعد الحركوشي النيسابوري رحمه الله: سمعت محمد بن محمد الحافظ يقول، سمعت الشافعي المجاور بمكة يقول: كان بمصر رجل عرف بأن يجمع للفقراء شيئاً، فولد لبعضهم مولود قال: فجئت إليه وقلت له: ولد لي مولود وليس معي شيء فقام معي ودخل على جماعة فلم يفتح بشيء، فجاء إلى قبر رجل وجلس عنده وقال: رحمك الله كنت تفعل وتصنع وإني درت اليوم على جماعة فكلفتهم دفع شيء لمولود فلم يتفق لي شيء، قال: ثم قام وأخرج ديناراً وقسمه نصفين وناولني نصفه، وقال: هذا دين عليك إلى أن يفتح الله عليك بشيء، قال: فأخذته وانصرفت فأصلحت ما اتفق لي به قال: فرأى ذلك المحتسب تلك الليلة ذلك الشخص في منامه فقال: سمعت جميع ما قلت وليس لنا إذن في الجواب، ولكن أحضر منزلي وقل لأولادي يحفروا مكان الكانون يخرجوا قرابة فيها خمسمائة دينار فاحملها إلى هذا الرجل فلما كان من الغد تقدم إلى منزل الميت وقص عليهم القصة فقالوا له: اجلس وحفروا الموضع وأخرجوا الدنانير وجاءوا بها فوضعوها بين يديه، فقال: هذا مالكم وليس لرؤياي حكم، فقالوا: هو يتسخى ميتاً ولا نتسخى نحن أحياء؟ فلما ألحوا عليه حمل الدنانير إلى رجل صاحب المولود وذكر له القصة، قال: فأخذ منها ديناراً فكسره نصفين فأعطاه النصف الذي أقرضه وحمل النصف الآخر، وقال: يكفيني هذا وتصدق به على الفقراء، فقال أبو سعيد: فلا أدري أي هؤلاء أسخى؟

وروي أن الشافعي رحمه الله لما مرض مرض موته بمصر قال: مروا فلاناً يغسلني، فلما توفي بلغه خبر وفاته فحضر وقال: ائتوني بتذكرته، فأتي بها فنظر فيها فإذا على الشافعي سبعون ألف درهم دين، فكتبها على نفسه وقضاها عنه، وقال هذا غسلي إياه؛ أي أراد به هذا. وقال أبو سعيد الواعظ الحركوشي لما قدمت مصر طلبت منزل ذلك الرجل فدلوني عليه، فرأيت جماعة من أحفاده وزرتهم فرأيت فيهم سيما الخير وآثار الفضل فقلت بلغ أثره في الخير إليهم وظهرت بركته فيهم.

وقال الشافعي t: لا أزال أحب حماد بن أبي سليمان لشيء بلغني عنه أنه كان ذات يوم راكباً حماره فحركه فانقطع زره، فمر على خياط فأراد أن ينزل إليه ليسوي زره، فقال: الله والله لا نزلت فقام الخياط إليه فسوى زره فأخرج إليه صرة فيها عشرة دنانير فسلمها إلى الخياط واعتذر إليه من قلتها.

وأنشد الشافعي لنفسه:

يا لهف قلب على مال أجود به
 

على المقلين من أهل المروءات
  

إن اعتذاري إلى من جاء يسألني
 

ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات
  

وعن الربيع بن سليمان قال: أخذ رجل بركاب الشافعي t فقال: يا ربيع أعطه أربعة دنانير واعتذر إليه عني.

وقال الحميدي: قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فضرب خباءه في موضع خارج عن مكة ونثرها على ثوب، ثم أقبل على كل من دخل عليه يقبض له قبضة ويعطيه حتى صلى الظهر ونفض الثوب وليس عنده شيء. وعن أبي ثور قال أراد الشافعي الخروج إلى مكة ومعه مال، وكان قلما يمسك شيئاً من سماحته، فقلت له ينبغي أن تشتري بهذا المال ضيعة تكون لك ولولدك، قال فخرج ثم قدم علينا فسألته عن ذلك المال، فقال ما وجدت بمكة ضيعة يمكنني أن أشتريها بمعرفتي بأصلها وقد وقفف أكثرها، ولكني بنيت بمنى مضرباً يكون لأصحابنا إلى حجوا أن ينزلوا فيه. وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه يقول:

أرى نفسي تتوق إلى أمور
 

يقصر دون مبلغهن مالي
  

فنفسي لا تطاوعني ببخل
 

ومالي لا يبلغني فعالي
  

وقال محمد بن عباد المهبلي: دخل أبي على المأمون فوصله بمائة ألف درهم فلما قام من عنده تصدق بها فأخبر بذلك المأمون، فلما عاد إليه عاتبه المأمون في ذلك فقال: يا أمير المؤمنين منع الموجود سوء ظن بالمعبود، فوصله بمائة ألف أخرى.

وقام رجل إلى سعيد بن العاص فسأله فأمر له بمائة ألف درهم فبكى، فقال له سعيد: ما يبكيك! قال: أبكي على الأرض أن تأكل مثلك، فأمر له بمائة ألف أخرى.

وروي أنه كان لعثمان على طلحة t خمسون ألف درهم، فخرج عثمان يوماً إلى المسجد فقال له طلحة. قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك. وقالت سعدى بنت عوف: دخلت على طلحة فرأيت منه ثقلاً فقلت له مالك؟ فقال اجتمع عندي مال وقد غمني، فقلت وما يغمك ادع قومك؟ فقال يا غلام علي بقومي، فقسمه فيهم فسألت الخادم كم كان؟ قال: أربعمائة ألف. وجاء أعرابي إلى طلحة فسأله وتقرب إليه برحم فقال: إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك، إن لي أرضاً قد أعطاني بها عثمان ثلثمائة ألف فإن شئت فاقبضها، وإن شئت فعتها من عثمان ودفعت إليك الثمن، فقال: الثمن، فباعها من عثمان ودفع إليه الثمن.

وقيل بكى علي t يوماً فقيل: ما يبكيك؟ فقال: لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام، أخاف أن يكون الله قد أهانني.

وأتى رجل صديقاً له فدفق عليه الباب فقال، ما جاء بك؟ قال علي أربعمائة درهم دين، فوزن أربعمائة درهم وأخرجها إليه وعاد يبكي، فقالت امرأته لم أعطيته إذ شق عليك؟ فقال إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتيحي.

التحذير من البخل:

قال: ومن هذا الباب كل ما ورد في النصوص من التحذير من البخل وذم أهله.

قلت: لقد وردت النصوص بذم البخل، وخطره على أهله، فقال تعالى:)   وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( (آل عمران:180)، ولهذا أخبر تعالى أنه من:) مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (الحشر: من الآية9)

وأخبر تعالى أن البخل من صفات الكفار، فقال:) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً( (النساء:37)

قال: وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن تأثير البخل في خراب المجتمعات، فقال:( إياكم والشح فإنه هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، أو أمرهم بالفجور ففجروا)[136]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل )[137]

قلت: ولهذا أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الشح لا يكون من صفات المؤمنين، فقال:( خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق )[138]

قال: بل أخبر - صلى الله عليه وسلم - بما هو أعظم من ذلك، فقال:( الشحيح لا يدخل الجنة)[139]، وقال:( قسم من الله تعالى لا يدخل الجنة بخيل )[140]

قلت: وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن الضنك النفسي الذي يعيشه البخيل مقارنة بالسعة التي يعيشها الكريم، فقال:( مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من يديهما إلى تراقيهما وأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت على جلده حتى تخفي أي تستر ثيابه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع )[141]

إحسان الرحمة

اقتربنا من النافذة الرابعة، والتي تشع منها روائح الرحمة الطيبة، فقال لي المعلم: ويل لمن ملك المال، ولم يملك معه الرحمة.

قلت: فما علاقة المال بالرحمة؟

قال: من ملك المال، ولم يملك الرحمة لم يزده ماله إلا قسوة، ولم تزده القسوة إلا بعدا عن ربه، ولم يزده بعده عن ربه إلا ألما وحسرة.

قلت: فما أول ما تنبت الرحمة من الإحسان؟

قال: الأهل من الوالد والأولاد، ألم تسمع قوله تعالى في الوالدين:) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً( (الاسراء:24)

قلت: لقد وردت النصوص الكثيرة المؤكدة لحقوق الأقارب، فعن كليب بن منفعة، عن جده، أنه أتى النبـي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله من أبَرُّ؟ قال: (أُمكَ وأَبَاكَ وأُختَكَ وَأَخَاكَ ومَولاَكَ الذِي يَلي ذاك، حَقٌّ واجِبٌ ورَحِمٌ مَوصُولَةٌ)[142]

وعن طارِق المُحاربـي قال: قدمتُ المدينة، فإذا رسولُ الله قائمٌ على المنبر يخطبُ الناسَ وهو يقول: (يَدُ المُعطي العُليَا، وَابدَأ بِمَن تَعُول، أُمكَ وَأَبَاكَ، وَأُختَكَ وأَخَاكَ، ثُم أَدنَاكَ أَدنَاكَ)[143] 

وعن أبـي هُريرة t قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله ، فقال: يا رسولَ الله من أحقُّ الناسِ بحُسن صَحَابتي؟ قال: (أُمُك) قال: ثُم مَن؟ قال: (أُمُّكَ)، قال: ثم من؟ قال: (أُمُّكَ)، قال: ثم من؟ قال: (أَبُوكَ ثُم أَدنَاكَ أَدنَاكَ)[144] 

وعن معاوية القُشيري رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسولَ الله مَن أَبَرُّ؟ قال: (أُمكَ)، قلتُ: ثم مَن؟ قال: (أُمكَ)، قلت: ثم من؟ قال: (أُمك)، قلت: ثم مَن؟ قال: (أَبَاكَ ثُم الأَقرَبَ فَالأَقرَبَ) 

وقد قال النبـي - صلى الله عليه وسلم - لهِند: (خُذي مَا يَكفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعرُوفِ)[145].

وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إن أطيَبَ مَا أكَلتُم مِن كَسبِكُم، وإن أَولاَدَكُم مِن كَسبِكُم فَكُلُوهُ هنيئاً)[146] 

وقال - صلى الله عليه وسلم -:( ابدَأ بِنَفسِكَ فَتَصَدق عَلَيهَا فَإِن فَضَلَ شَيءٌ، فَلأهلِكَ، فَإن فَضَلَ عَن أَهلِكَ شَيءٌ، فَلِذيِ قَرَابَتِكَ، فَإن فَضَلَ عَن ذِي قَرَابتِكَ، فِهٰكَذَا وهٰكَذَا)[147] 

قال: ويدل لهذا كله كل ما ورد في القرآن الكريم من النصوص الحاثة على أيتاء ذوي القربى ، كما قال تعالى:) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ( (البقرة: من الآية83)، وقال تعالى:) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً( (النساء:8)، وقال تعالى:) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ  مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً( (النساء:36)، وقال تعالى:) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( (لأنفال:41)، وقال تعالى:) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( (النحل:90)، وقال تعالى:) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً( (الاسراء:26)، وقال تعالى:) وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( (النور:22)، وقال تعالى:) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (الروم:38)

قلت: لقد بحث الفقهاء في هذه المسألة، واختلفوا فيها[148].

قال: فاعتمدوا من الأقوال أقربها للرحمة، فهي من مقاصد الشريعة الكبرى.

قلت: فما أقربها للرحمة؟

قال: لا يكون المؤمن رحيما، وبعض أهله يشكو الفاقة، وهو قادر على أن يخرجه منها.

قلت: إن الحقوق تكثر بذلك على الأغنياء.

قال: فهل رزقهم الله ما رزقهم إلا لتكثر حقوقهم، أليسوا وكلاء عن الله في إيصال رزق الله إلى خلق الله؟

قلت: لقد صرحت النصوص بذلك.

قال: فطبقوها.

قلت: هم يطبقونها على الأقارب الأدنين.

قال: فطبقوها على الأقارب الأبعدين.

قلت: ذلك يحتاج إل نصوص أصرح.

قال: النصوص التي وردت في حق ذوي القربى مليئة بالصراحة.

قلت: لقد استدل ابن القيم بها، فقال:( جعل سبحانه حق ذي القربى يلي حق الوالدين، كما جعله النبـيُّ سواءً بسواء، وأخبر سبحانه؛ أن لذي القربى حقاً على قرابته، وأمر بإتيانه إياه، فإن لم يكن ذلك حق النفقةِ، فلا نَدرِي أي حقَ هُوَ. وأمر تعالى بالإحسان إلى ذي القربى. ومن أعظم الإساءةَ أن يراه يموت جوعاً وعُرياً، وهو قادر على سد خَلته وستر عَورَتِهِ، ولا يطعمه لُقمة، ولا يَستُر له عَورَةً إلا بأن يقرضه ذلك في ذِمتِهِ )

قال: لقد صرح القرآن الكريم بذلك، فقال تعالى:) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( (البقرة:233)، فقد أوجب تعالى على الوارثِ مثل ما أوجب على المولود له.

قلت: لقد حكم الخلفاء العادلون بهذا، فقد روى سفيان بن عُيَـينَةَ، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، أن عمر t حَبَسَ عَصَبَةَ صبـيَ على أن يُنفِقُوا عليه، الرجال دون النساء.

وروي أن عمرَ بنَ الخطاب t وقف بني عم على مَنفُوسٍ كَلالة بالنفقة عليه مثل العاقلة، فقالوا: لا مال له، فقال: ولَو، وقوفُهم بالنفقة عليه كهيئة العقل، قال ابن المديني: قوله: ولو، أي: ولو لم يكن له مال.

وذكر ابن أبـي شيبة، عن سعيد بن المسيب، قال: جاء ولي يتيم إلى عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه، فقال: أَنفِق عليه، ثم قال: لو لم أجد إلا أقصى عشيرته لَفَرضتُ عليهم. وحكم بمثل ذلك أيضاً زيدُ بن ثابت.

قلت: أليس المراد بذلك البر والصلة التي تحمل على الاستحباب؟

قال: لا.. لقد سمى الله ذلك حقا ، وأضافه إليه، وأخبر النبـي - صلى الله عليه وسلم -  بأنه حقُّ، وأنه واجبٌ، وبعض هذا ينادي على الوجوب جهاراً.

قلت: فلعل المراد بحقه ترك قطيعته.

قال: لقد أجاب ابن القيم على هذا من وجهين. أحدهما: أن يقال: فأي قطيعة أعظم من أن يراه يتلظى جُوعاً وعَطَشاً، ويتأذى غاية الأذى بالحر والبرد، ولا يُطعِمُهُ لُقمَةً، ولا يَسقِيهِ جَرعة، ولا يكسوه ما يستر عَورَتَهُ ويقيهِ الحر والبردَ، ويُسكِنُهُ تحت سقف يُظله، هذا وهو أخوه ابن أمه وأبـيه، أو عمه صِنو أبـيه، أو خالته التي هي أمه، إنما يجب عليه من ذلك ما يجب بَذلُهُ للأجنبـي البعيد، بأن يعاوضه على ذلك في الذمةِ إلى أن يُوسر، ثم يسترجع به عليه، هذا مع كونه في غاية اليَسَارِ والجِدَةِ، وسَعَةِ الأموال. فإن لم تكن هٰذه قطيعة، فإنا لا ندري ما هي القطيعة المحرمة، والصلَةُ التي أمر الله بها، وحرم الجنة على قاطعها.

والوجه الثاني: أن يقال: فما هذه الصلة الواجبة التي نادت عليها النصوصُ، وبالغت في إيجابها، وذَمت قاطعها؟ فأيُّ قَدرٍ زائدٍ فيها على حق الأجنبـي حتى تَعقِلَهُ القلوب، وتُخبِرَ به الألسنة، وتَعملَ به الجوارحُ؟ أهو السلامُ عليه إذا لقيه، وعيادتُه إذا مرض، وتشميتُه إذا عطس، وإجابته إذا دعاهُ، وإنكم لا تُوجبون شيئاً من ذلك إلا ما يجبُ نظيرُه للأجنبـي على الأجنبـي؟ وإن كانت هذه الصلَةُ ترك ضربِه وسبه وأذاه والإزراءِ به، ونحو ذلك، فهذا حق يجبُ لكل مسلم على كُل مسلم، بل للذمي البعيد على المسلم، فما خصوصيةُ صِلة الرحم الواجبة؟.

قلت: أراك تذكر ابن القيم، وقد اشتد على الفقهاء المنكرين لهذا، وبالغ في تشدده.

قال: لقد نصحهم، ونصح الأمة، فاذكر ما قال ، فلا خير في قوم لا يتناصحون.

قلت: لقد ذكر أن بعضهم صَنفَ في صلة الرحم كتاباً كبـيراً، وأوعب فيه من الآثار المرفوعةِ والموقوفةِ، وذكر جنس الصلة وأنواعها وأقسامها، ومع هذا فلم يتخلص من هٰذا الإلزام، فإن الصلة معروفة يعرفُها الخاصُّ والعام، والآثارُ فيها أشهر من العلم، ولكن ما الصلةُ التي تختَصُّ بها الرحمُ، وتجب له الرحمة، ولا يُشاركه فيها الأجنبـي؟ فلا يُمكنكم أن تُعَينوا وجوب شيء إلا وكانت النفقةُ أوجبَ منه، ولا يمكنكم أن تَذكُروا مُسقِطاً لوجوب النفقة إلا وكان ما عداها أولى بالسقوط منه، والنبـيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد قَرَنَ حَق الأخ والأخت بالأب والأم، فقال: (أُمكَ وأَبَاكَ، وأُختَكَ وَأَخَاكَ، ثُم أَدنَاكَ فَأَدنَاكَ)، فما الذي نسخ هذا، وما الذي جعل أولَهُ للوجوب، وآخِرَهُ للاستحباب؟

قال: لقد ذكر بعد هذا كلاما طيبا، فاذكره، فقد قاله لقومك خاصة.

قلت: لقد قال:( ليس من بِر الوالدين أن يَدَعَ الرجلُ أباهُ يَكنُسُ الكُنُفَ، ويُكاري على الحُمر، ويُوقِدُ في أَتُّونِ الحَمامِ، ويَحمِلُ للناس على رأسه ما يَتَقَوتُ بأُجرَتِهِ، وهو في غاية الغِنى واليَسَار، وسَعَةِ ذاتِ اليدِ، وليس مِن بِر أمهِ أن يَدَعَهَا تَخدُمُ الناسَ، وتغسلُ ثيابهم، وتسقي لهم الماء ونحو ذلك، ولا يصُونُها بما يُنفِقهُ عليها، ويقول: الأبوان مُكتَسِبَان صحيحان، وليسا بِزَمَنَينِ ولا أَعمَيَـينِ، فيالله العجبُ أين شرطُ الله ورسولِه في بر الوالدين وصِلَةِ الرحمِ أن يكون أحدُهم زَمِناً أو أعمى، وليست صِلَةُ الرحمِ ولا بِرُّ الوالدين موقوفةً على ذلك شرعاً ولا لغةً ولا عرفاً )

3 ـ جوهرة الالتزام

اقتربنا من الباب الثالث من أبواب الفضل، فرأيت رجلا يمتلئ خشوعا، وهو يمسك بمسبحة يعد بها تسبيحاته، فإذا ما انتهى من عدها، ملئت جرة أمامه يواقيت وجواهير.

فقلت للمعلم: أهذا يطلب حسنات الله، وجواهر أهل الله، أم تراه يطلب حسنات أهل الدنيا، وجواهر أهل الغفلة.

قال: لا.. هذا رجل من أهل الله ، فقه عن الله، وعلم أن الله رب الدنيا والآخرة، وله خزائن حسنات الدنيا والآخرة، فراح يملأ خزائنه منهما.

قلت: ألا يقدح ذلك في إخلاصه؟

قال: وهل دعا الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أقوامهم لغير الإخلاص.

قلت: كلا.. ولكن ما علاقة ذلك بهذا الرجل.

قال: هذا رجل سمع قول نوح u:) اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً( (نوح:10 ـ 12)، فعلم أنه سنة من سنن الله، وسحابة من فضل الله، فراح يلتمس هذا السبب كما يلتمس غيره من الأسباب.

قلت: إن قومي يعتبرون هذا الباب من أبواب فضل الله من التواكل المنهي عنه.

قال: أولئك هم الجاهلون الغافلون الذي استعبدتهم الأسباب، فلا تسلك سبيلهم.

قلت: كيف لا أسلك سبيلهم، وهو يقولون حقا كثيرا.

قال: فما الحق الذي يقولونه؟

قلت: لقد رأوا قوما التزموا المسابح، وهجروا الفؤوس والمعاول.

قال: لقد أخطأ هؤلاء كما أخطأ أولئك، ولا ينبغي تصحيح الخطأ بالخطأ، بل الخطأ يصحح بالصواب.

قلت: فما الصواب الذي يعالج أوهام الخطأ؟

قال: هو قرع كل أبواب الله، أبواب الفؤوس ، وأبواب المسابح.. فلا يصح أن تهجر المسبحة لأجل الفأس، ولا أن تهجر الفأس لأجل المسبحة.

قلت: عرفت جدوى الفأس، فما جدوى المسبحة؟

قال: ستعرف فضلها في رحلتك في عوالم السلام، فلا خير في يد لا تحمل مسبحة، كما لا خير في يد لا تحمل فأسا.

قلت: أنت تدعوا لأمرين لم ترد بهما النصوص ، فليس في النصوص ما يدل على سنية حمل الفأس والمسبحة.

قال: أما سنية الفأس، فقد علمتها في باب الفضل، وستعلم تفاصيلها في مفاتيح المدائن.. وأما سنية المسبحة، فكل رحلتك في عوالم السلام تعلمك كيف تحمل المسبحة.

قلت: فعلمني من علومها الآن ما يملؤني قناعة بجدوى المسبحة في رزق الله، وفي طرق أبواب فضل الله.

قال: ألم تسمع قوله تعالى:) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً( (الطلاق:2 ـ 3)، وقوله تعالى:) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً( (الطلاق: من الآية4) )، وقوله تعالى:) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً( (الطلاق:5)

قلت: بلى.. فما فيها من العلم؟

قال: هذه الآيات تبين لك سنة الله مع الأتقياء من عباده، فهو يرزقهم من حيث يحتسبون ، ومن حيث لا يحتسبون.

قلت: ذلك صحيح.. وقد سمعت قوله تعالى عن مريم ـ عليها السلام ـ ما يملأ الصدر ثقة بفضل الله، فقد قال الله تعالى فيها:) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ( (آل عمران:37)، ولكن كل ذلك يكاد يكون خاصا بها، أليست أم المسيح u؟

قال: ومن قال ذلك؟ الله عدل يعامل خلقه معاملة واحدة.. كونوا كمريم طهارة وعفة ، وسيأتيكم من فضل الله ما يغنيكم عن مد أيديكم لغيره.

قلت: أيمكن أن تحصل لنا من كرامات الرزق ما حصل لمريم ـ عليها السلام ـ؟

قال: إذا اجتهدتم أن تكونوا مثلها، فترزقون بمثل ما رزقت.

قلت: من الغيب؟

قال: من الغيب، أو من الجيب.. فالله ربهما جميعا.

قلت: إن هذا سيشيع روح التواكل.

قال: من عرف الله ووحده لا يخاف عليه من هذا الذي تخافونه.

قلت: إن خوفنا من تسلل مثل ذلك الانحراف جعلنا نوسوس في طرح مثل هذه القضايا.

قال: ووسوستكم جعلتكم تتيهون عن محكمات قرآنية كثيرة، بل تتيهون عن سنن كثيرة من سنن الله، بل تتيهون عن أبواب عظيمة من فضل الله.. فحاق بكم من الجهل والغلظة ما حاق بالقرى.. ألم تسمع قوله تعالى:) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ( (لأعراف:96)

قلت: بلى.. وقد سمعت معها نموذج سبأ الذي ضربه الله لهذه السنن، فقد قال تعالى:) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ((سـبأ:15 ـ 19)

قال: أرأيت كيف تغير جيوش المعاصي على النعم؟

قلت: أجل..ولكني أرى أقواما تصر على المعاصي، ومع ذلك يتقاطر عليها من فضل الله ما يزيدها عتوا وعنادا.

قال: ومن قال بأن ما ينزل عليهم من فضل الله.

قلت: إن أموالهم تتضاعف، وخزائنهم لا تزيدها الأيام إلا انتفاخا.

قال: وقلوبهم؟

قلت: لا يزيدها امتلاء خزائنهم إلا قسوة.

قال: فليس هذا من فضل الله.. فكل رزق حجبك عن الله عذاب.. وليس له من عاقبة إلا الهلاك.. هو أشبه بمن تناول من الدواء الخطير ما ملأ جسمه سموما.

قلت: أجل.. لقد نص القرآن الكريم على هذه الحقيقة، فقال تعالى:) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ( (لأعراف:100) [149]، وقال تعالى:) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ( (طه:128)، وقال تعالى:) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ( (السجدة:29)، وقال تعالى:) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ( (الأنعام:6)، وقال تعالى بعد ذكره إهلاك عاد:) فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( (الأحقاف:25-27)، وقال تعالى:) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( (سبأ:45)، وقال تعالى:) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ( (الحج:45 ، 46)

قال: أفلا تكفيكم كل هذه النصوص القرآنية لتزيل غدة عبوديتكم لغيركم، وانبهاركم بهم، وذلتكم أمامهم.

قلت: نحن نتيه على غيرنا ، ولا ننبهر به.

قال: لأي عالم ينتمي قومك؟

قلت: للعالم الثالث.. وبعضهم يصنفهم في العالم الرابع.. وبعضهم لم يضع لهم تصنيفا بعد.

قال: أليس قبولكم بهذا التصنيف جزءا من الانبهار؟

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألا تطمحون لأن تصبحوا العالم الأول؟

قلت: لا حرج علينا في أن نطمح، فالله يحب أصحاب الهمم العالية.

قال: فمن هو العالم الأول في نظر قومك؟

قلت: العالم الأول هو العالم الأول.

قال: وهو عالم عاد وثمود وسبأ والروم والفرس والأندلس والروس والـ..

قلت: حسبك لقد وعيت ما قلت.

قال: لا يكفي أن تعي.. بل عش الحقائق، وبشر بها.

قلت: فلأي عالم ننتمي.. أللعالم الأول؟

قال: لا.. لن تصلوا إلى هذا العالم حتى تتخلصوا من الحجب التي تحول بينكم وبين عوالم السلام.

قلت: فأين ننتمي الآن؟

قال: لا انتماء إلا بعد سير.. فإن سرتم انتميتم.. وكانت أول خطوة صحيحة تسيرونها هي مفتاح وصولكم.

 

4 ـ جوهرة الدعاء

اقتربنا من الباب الرابع من أبواب الفضل، فرأيت أيد كثيرة ممدودة إلى السماء.. ورأيت خيرا كثيرا يتساقط على تلك الأيدي.. لست أدري كيف انشغلت عن المرشد والمعلم.. ولم أجد نفسي إلا وأنا أمد يدي مع أيديهم.. وأصيح بما بصيحون.. وأجأر إلى الله بما يجأرون.

بينما أنا كذلك نبهتني يد ، قال لي صاحبها: ردد معي هذا الدعاء ، فقد كان من أدعية السلف الصالح y.. فقد روي عن ابن مسعود t أنه قال:( ما دعا عبد قط بهذه الدعوات، إلا وسع الله له في معيشته، يا ذا المن ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول، لا إله إلا أنت ظهر اللاجين وجار المستجيرين ومأمن الخائفين، إن كنت كتبتني في أم الكتاب شقيا فامح عني اسم الشقاء، وأثبتني عندك سعيدا، وإن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب محروما مقترا علي رزقي، فامح حرماني ويسر رزقي وأثبتني عندك سعيدا موفقا للخير، فإنك تقول في كتابك الذي أنزلت ) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ( (الرعد:39))

قلت: يا هذا اعرف ما تقول.. فابن مسعود t أفقه من أن يصح عنه هذا.

قال: وما الذي منعك من تصديقه؟

قلت: أولا ابن مسعود t كان يطلب الله ، ويرشد إلى الله ، ولم يكن يطلب الدنيا ، ولا يرشد إليها.

قال: وطلب الدنيا وسعتها حجاب الغافلين عن الله، أما العارفون الفاقهون عن الله ، فلو وضعت الدنيا جميعا في خزائنهم ما شغلتتهم عن الله لحظة واحدة.. ألم تسمع مقالة سليمان u؟

قلت: أي مقالة؟

قال: لقد قال لله ، وبإلحاح متضرع:) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ( (صّ: من الآية35)

قلت: بلى.. ولا زلت محتارا في سر هذا الطلب العجيب.

قال: ستفقه سره الأوفى في مفاتيح المدائن.. أما هنا فاعلم أن سليمان u في غمرة ثقته بحبه الله، وامتلاء قلبه به ، قال: يا رب ابتلني بما شئت.. بالمال.. بالملك.. بل بالملك الذي لا يوجد نظيره.. فلن يزيغ بصري عنك ، ولن يطغى.

قلت: لقد فقهت هذا.. ولكني لا أفقه أن أسأل الله الرزق.. مع أنه رزاق بذاته.. فما حاجتي للطلب؟

قال: الله رزاق ، ومجيب.. فلا ينبغي أن يحجبك اسم عن اسم.. اعبد الله بأسمائه جميعا.

قلت: اشرح لي مرادك من هذا.

قال: لله في كل اسم من أسمائه الحسنى عبودية تليق به.. والكامل هو الذي نظر إلى كل اسم من أسماء الله، فبحث عن أسرار العبودية المرتبطة به.

قلت: اضرب لي مثالا يوضح هذا.. فإني أكاد أفهمه.

قال: أرأيت لو أن شخصا آتاه الله قدرات عجيبة، فهو فقيه طبيب فلكي مهندس.. وفوق ذلك هو مصارع قوي، ووجيه له من الوجاهة ما يجعل الخلق يبادرون لرغباته ، فلا يرفضون له طلبا، ولا يردون له شفاعة.. ومع كل هذا كان قريبا منك محبا لك.. وكان مع ذلك كله كريما خدوما يحب أن تسأله وتتعلم على يديه، وتستشفع به.

قلت: أراه كنزي الذي منه أنهل.. وبه أستعز ، وعلى يديه أتعلم، بل وبه تبرأ عللي ، وترفع أسقامي.

قال: فأنت تلاحظ كل وصف فيه ، ثم تستفيد منه بقدر طاقتك.

قلت: لا شك في ذلك.. وكلهم يفعله.. فمن الغباء عدم استثمار الطاقات.

قال: فنزه ربك عن التشبيه.. ثم ارم بجنود هذا المثال على ما ذكرت من شبه، ولا أراك يصعب عليك تطبيقه.

قلت: هذا مثال قد يغرقني في مستنقعات التشبيه.. فحدثني بكلام الله، ودعني من كلام الخيال.

قال: ألم تسمع قوله تعالى في الحديث القدسي:( يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي ، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي ، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )[150]

قلت: بلى.. هذا حديث عظيم.. وقد قال سعيد: كان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.. وروي عن الإمام أحمد بن حنبل t أنه قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث.

قال: لقد قصرا كثيرا في وصف شرف هذا الحديث.. فهذا الحديث يعبر عن حقائق عظيمة يقصر اللسان عن وصفها.. وقد فهم ابن المنكدر بعض حقائقه فراح يعيشها.

قلت: فأخبرني خبره.. فما أعظم أخبار الأولياء.

قال: حدث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: ( خرج قوم غزاة ، وخرج معهم محمد بن المنكدر ، وكانت صائفة ، فبينا هم يسيرون في الساقة قال رجل من القوم: أشتهي جبنا رطبا فقال محمد بن المنكدر: استطعموه يطعمكم ، فإنه لقادر على كل شيء فدعا القوم فلم يسيروا إلا قليلا حتى وجدوا مكتلا مخيطا ، كأنما أتي به من الروحاء ، فإذا هو جبن فقال بعض القوم: لو كان عسلا؟ فقال محمد: فإن الذي أطعمكم جبنا هاهنا قادر على أن يطعمكم عسلا ، فاستطعموا يطعمكم فدعا القوم ، فساروا قليلا ، فوجدوا قافزة عسل على الطريق ، فنزلوا فأكلوا وحمدوا ربهم وشكروا )

وبمثله حدث النضر الحارث بن النعمان قال: ( كان إبراهيم بن أدهم يجتني الرطب من شجر البلوط )

وبمثلهما حدث أبو سفيان المعمري قال: قال مغضب اليمامي: ( اللهم ارزقنا عنبا ، فإذا بجفنة مملوءة عنبا )

قلت: لقد وعيت ما ذكرت ، فبورك فيك.

انصرف عني.. واستمر في دعائه.

أمسكت يد بيدي ، ورفعتها مع يدي ، وهي تقول: ردد معي دعوة العلاء بن الحضرمي.

قلت: لن أرددها حتى تعلمني خبرها.

قال: لقد ذكر الثقة عن سهم بن منجاب قال: سمعت سهما يقول: غزونا مع العلاء بن الحضرمي دارين ، قال: فدعا بثلاث دعوات ، فاستجاب الله له فيهن كلهن قال: سرنا معه فنزلنا منزلا ، وطلبنا الوضوء فلم نقدر عليه فقام فصلى ركعتين ، ثم دعا الله فقال: ( اللهم يا عليم يا حكيم ، يا علي يا عظيم ، إنا عبيدك ، وفي سبيلك نقاتل عدوك ، فاسقنا غيثا نشرب منه ونتوضأ من الأحداث ، وإذا تركناه فلا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا قال: فما جاوزنا غير قليل ، فإذا نحن بنهر من ماء سماء يتدفق ، قال: فنزلنا فتروينا ، وملأت إداوتي ، ثم تركتها ، فقلت: لأنظرن هل استجيب له؟ فسرنا ميلا أو نحوه ، فقلت لأصحابي: إني نسيت إداوتي فذهبت إلى ذلك المكان ، فكأنما لم يكن فيه ماء قط فأخذت إداوتي فجئت بها فلما أتينا دارين - وبيننا وبينهم البحر - فدعا أيضا فقال: اللهم يا عليم يا حليم ، يا علي يا عظيم ، إنا عبيدك ، وفي سبيلك نقاتل عدوك ، فاجعل لنا سبيلا إلى عدوك، ثم اقتحم بنا البحر ، فوالله ما ابتلت سروجنا حتى خرجنا إليهم فلما رجعنا اشتكى البطن فمات ، فلم نجد ما نغسله به ، فكفناه في ثيابه ، ودفناه ، فلما سرنا غير بعيد إذا نحن بماء كثير فقال بعضنا لبعض: ارجعوا لنستخرجه فنغسله فرجعنا فطلبنا قبره ، فخفي علينا قبره ، فلم نقدر عليه ، فقال رجل من القوم: إني سمعته يدعو الله يقول: اللهم يا عليم يا حليم ، يا علي يا عظيم ، أخف جثتي ، ولا تطلع على عورتي أحدا، فرجعنا وتركناه )

قلت: هذا رجل عظيم مستجاب الدعوة.. وقد حدثني الثقاة عن أبي هريرة t قال: ( رأيت من العلاء بن الحضرمي ثلاث خصال لم أشهدها من أحد قبله ولا بعده: كنا في سفر ، فعطشنا عطشا شديدا في يوم حار ، فدعا الله فأمطرنا ، فسقينا وأسقينا وكنت معه فانتهينا إلى مكان فيه ماء فلم نقدر على العبور ، فدعا الله ، فمشى على الماء حتى عبر ذلك الجانب وشهدت موته ، فحفرنا له قبرا ، ووضعناه في اللحد ، فذكرنا أنا لم نحل العقد، فرفعنا اللبن فلم نر في اللحد شيئا )

قال: فتشبهوا به في الثقة بفضل الله.. واسألوا الله ، فلن يخيب الله من سأله.

قلت: ولكن هذا ولي من أولياء الله.. وأني لنا مرتبته.

قال: دعك من هذا الجدل.. فالله رب الخلق جميعا.. كن مع الله يكن الله معك.. فالله قريب مجيب.

قال ذلك ، ثم انصرف.. فأمسكت بيدي يد آخر، قال صاحبها: أنا عمر بن ثابت الخزرجي ، من أهل البصرة.

قلت: ما حديثك؟

قال: سمعتكما تتحدثان عن العلاء.. وقد رأيت رجلا من بلدنا دخلت في أذنه البصرة حصاة ، فعالجها الأطباء فلم يقدروا عليها حتى وصلت إلى صماخه ، فأسهرت ليله ، ونغصت عيش نهاره ، فأتى رجلا من أصحاب الحسن ، فشكا ذلك إليه فقال: ويحك ، إن كان شيء ينفعك فدعوة العلاء بن الحضرمي التي دعا بها في البحر وفي المفازة ، قال: وما هي؟ قال: يا علي يا عظيم ، يا عليم يا حليم قال: فدعا بها ، فوالله ما برحنا حتى خرجت من أذنه ولها طنين حتى صكت الحائط ، وبرأ )

قلت: أراكم ترغبون عن نور الشمس إلى نور الأقمار.

قال: الكامل من جمع بينهما.. نحن نرغب فيهما جميعا.. نحن نرغب في كل ما يوصلنا الله.. وما نور القمر إلا فيض من نور الشمس.

قلت: ولكن الكامل من جعل دعواته طلبا لله.. لا طلبا لما في يد الله.

قال: الكامل لا يفرق بين الأمرين.. وقد دعا أشرف الخلق من الأنبياء والأولياء الله تعالى لأجل أرزاقهم.. ألم تسمع قول الخليل u:) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ( (ابراهيم:37)

قلت: بلى..

قال: ولا زال السلف والخلف من الأولياء والصالحين يتضرعون إلى الله بهذا ومثله.. ألم تسمع دعوات الاستسقاء.. فهي من هذا الباب.. فالمطر هو أصل الرزق وبذره.

قلت: بلى.. هي كثيرة.. وأنا راغب في تعلمها.

قال: فاذهب إلى أولئك القوم يخبروك من شأنها.

اقتربت منهم، فسمعت أحدهم يقول: أصاب الناس قحط شديد على عهد عمر ، فخرج عمر بالناس ، فصلى بهم ركعتين ، وخالف بين طرفي ردائه ، فجعل اليمين على اليسار ، واليسار على اليمين ، فقال: ( اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك، فما برحوا حتى مطروا فبينا هم كذلك إذا أعراب قدموا ، فأتوا عمر ، فقالوا: يا أمير المؤمنين ، بينما نحن في بوادينا يوم كذا ، في ساعة كذا ، إذا أظلنا غمام ، فسمعنا منها صوتا: إياك الغوث أبا حفص ، إياك الغوث أبا حفص )

قال آخر: كنت مع أنس فجاء قهرمانه[151]، فقال: ( يا أبا حمزة ، عطشت أرضنا قال: فقام أنس وتوضأ ، وخرج إلى البرية ، فصلى ركعتين ، ثم دعا ربه ، فرأيت السحاب يلتئم وقال: ثم أمطرت حتى ملأت كل شيء فلما سكن المطر ، بعث أنس بعض أهله ، فقال:( انظروا أين بلغت السماء؟)، فنظر فلم تعد أرضه إلا يسيرا )

قال آخر: روي أن أهل المدينة ، قحطوا وكان فيها رجل صالح لازم لمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فبينا هم في دعائهم إذا أنا برجل عليه طمران خلقان ، فصلى ركعتين أوجز فيهما ، ثم بسط يديه إلى الله ، فقال: يا رب ، أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة فلم يرد يديه ، ولم يقطع دعاءه حتى تغشت السماء بالغيم ، وأمطروا ، حتى صاح أهل المدينة مخافة الغرق فقال: يا رب ، إن كنت تعلم أنهم قد اكتفوا فارفع عنهم ، فسكن وتبع الرجل صاحب المطر حتى عرف صومعته ، ثم بكر عليه ، فنادى: يا أهل البيت فخرج الرجل ، فقال: قد أتيتك في حاجة ، قال: وما هي؟ قال: تخصني بدعوة قال: سبحان الله ، أنت أنت ، وتسألني أن أخصك بدعوة؟ قال: ما الذي بلغك ما رأيت؟ قال: ورأيتني؟ قلت: نعم ، قال: أطعت الله فيما أمرني ونهاني ، فسألته فأعطاني.

قال آخر: حدث السري بن يحيى ، قال: بلغنا أن ملكا من الملوك الأعاجم أقبل في جيش ، فلقي عصابة من المسلمين ، فلما رأوه اعتصموا بربوة، فصعدوا فوقها ، فقال ذلك الملك: ما أحد ولا شيء أشد عليهم من أن نحيط بهم ثم ننزلهم مكانهم حتى يموتوا من العطش فأحاطوا بهم ، فأصابهم حر شديد وعطش ، فاستسقوا الله عز وجل ، فأقبلت سحابة ، فجعل الرجل يحمل برنسه يتلقى به الماء ، حتى يمتلئ ، ثم يشرب حتى يروى ، فقال ذلك الملك: ارتحلوا ، فوالله لا أقتل قوما سقاهم الله من السماء وأنا أنظر.

الخاتمة

قال لي معلم السبلام: لم تسألني عن موقع هذه المدائن، عهدي بك سؤولا؟

قلت: أعلم أن ملك الله عظيم، وقد أخبرتني بأنا لم نبرح الأرض، فاكتفيت بهذا، وقلت:( لعلها جزيرة من الجزائر المجهولة، كتلك الجزيرة التي تحدث عنها تميم الداري )

قال: لا.. لقد ذهبت بعيدا، فلا أحسب أن هناك جزيرة لم تدسها أقدام قومك، وهم يبحثون عن الذهب.

قلت: فأين كنا إذن، أفي المريخ، أم في القمر؟

قال: لقد كنا في مدينة واحدة من مدائن الغنى بالله، وكل تلك الكنوز التي رأيتها، والتي سال لعابك لها كنوز رجل واحد.

قلت: كل تلك الثروة لرجل واحد.. ما اغناه، لا أرى أن على البسيطة من هو أغنى منه.. هذا حقيق أن يحسد.. بل أخاف أن يقتل.

قال: لا تخف.. فالناس جميعا يحتقرون ثرواته ولا يتلفتون لها، بل يضحكون منها، ويهزؤون منه.

قلت: ما أبعدهم.. أليس لهم أعين يبصرون بها، أو آذان يسمعون بها.

قال: ) لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا ((لأعراف: من الآية179)

قلت: ) أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ ( (لأعراف: من الآية179) إذن.

قال: ) بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ((لأعراف: من الآية179)

قلت: فما حاله معهم؟

قال: هو منشغل بمدائنه يسوسها ويحفظها.

قلت: وحق له ذلك، فمن كان له مثل ثورته وملكه لا يلتفت للسوقة والرعاع.

قال: لا تفهم كلامي خطأ، هو يلتفت إليهم ويحبهم ويمد يده إليهم بالعطاء، ولكنهم يقبضون أيديهم، ويطلب منهم أن يعمروا صناديقهم بكنوزه، ولكنهم يأنفون من كنوزه، ويضحكون منه.

قلت:  فهلا ذهب إلى الفقراء، فللأغنياء من عزة النفس ما يحول بينهم وبين تقبل الصدقات ولو كانت كنوزا.

قال: ذهب للفقراء والأغنياء، فالكل عنده سواء، فالغنى غنى الروح.

قلت: فما فعل الفقراء؟

قال: رموه بالحجارة، وسخروا من دعواته لهم بدخول مدائن الغنى.

قلت: فماذا فعل؟

قال: هو منشغل عنهم بمدائنه وفأسه.

قلت: وما علاقة فأسه بمدائنه؟..  وأي فأس هذا؟.. أنا لم أر أي فأس في مدائن الأغنياء.

قال: لقد رأيته في بيته.

قلت: أي بيت؟

قال: بيت المرشد الذي كان دليلك في هذه المدائن.

قلت: نعم.. المرشد موظف في تلك المدائن، ولكن ما علاقة ذلك بفأسه.

قال: لم يكن المرشد موظفا في تلك المدائن، بل كان هو المدائن.

قلت: والكنوز.

قال: تلك هي ثروته.

قلت: فأين كنا نحن؟

قال: في أعماقه.. ألم أقل لك: هيا نبحث في أعماق ذلك الفقير الذي حزنت له عن كنوز الفقراء.

قلت: أكل ذلك الجمال، وتلك الثروة في أعماق فقير واحد؟

قال: نعم.. ويمكنها أن تكون لك جميعا.. بل لكل راغب فيها.. فجود الله عظيم.

قلت: فكيف لي أن يكون في أعماقي ما رأينا في أعماقه؟

قال: بالحب والإرادة والعزيمة.

قلت: فأنا أحب وأريد.

قال: لا يكفي ذلك، بل لا بد أن تعزم، ألم تسمع إلى الحق تعالى وهو يقول:) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً((طـه:115)، فقد أحب آدم u وأراد، ولكن الله عاتبه على أنه لم يعزم.

قلت: فقد عزمت.

قال: ) فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ((آل عمران: من الآية159)

قلت: قد توكلت.

قال: حق التوكل، ألم تسمع إلى قول نبيك - صلى الله عليه وسلم -:( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا، وتروح بطانا )[152]

قلت: قد توكلت على الله حق توكله.

قال: لا تتخط رقاب الصديقين.. قل إن شاء الله.. فالتحقق عظيم.

أحسست بأني لا شيء، وأن منه كل شيء، فنطقت من أعماقي:) لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ((الانبياء: من الآية87) ) وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ((هود: من الآية47))

قال لي: أما الآن، فانزل إلى أعماقك، وقل لي: ماذا ترى؟

نزلت إلى أعماقي، فلم أجد الظلمة التي كنت وجدتها من قبل، قال لي المعلم: لقد انجلت ظلمة الاعتراض، فاهتد بنور اليقين إلى مدائن الغنى التي تعمر أعماقك.

أخذت قطعة من نور التسليم التي وجدتها في أعماقي، وسرت بها، فإذ بي أرى مدائن الغنى، عليها رايات كنوز الفقراء، وعلى بابها رجل في جمال المرشد وبهائه، فقلت له: أنت يوسف، أم المرشد؟

فقال لي: أنا أنت.

قلت: أنت أنا؟.. كيف هذا؟

قال: اسأل المرشد.

قلت: كيف هذا؟

قال: هذا درس من دروس السلام.. ستعرفه في حينه.

ثم التفت إلي، وقال: هل أعجبتك مدائن الغنى التي جعلها الله في أعماقك.

قلت: بلى، فلله الحمد والمنة، ولك الشكر والفضل.

قال: فاشتغل بالدعوة إليها، كما يشتغلون بالدعوة إلى مصنوعاتهم.

قلت: كيف، وليس لي أي وسيلة إعلام.

قال: انشر هذه الرسالة، ودعها لوسائل الإعلام.

قلت: وما أسميها.

قال: ما رأيته في أعماقك، وما بحثت عنه في رحلتك.

قلت:كنوز الفقراء؟

قال: نعم..  ( كنوز الفقراء )

ثم انصرف عني أو انصرفت عنه، ولم ألتق به إلا بعد مدة في ( مفاتيح المدائن )

 



([1] )  البخاري.

([2] )  الطبراني في الكبير عن سهل بن سعد.

([3] )  النسائي وابن ماجة والحاكم عن عمر.

([4] )  انظر التفاصيل المرتبطة بهذه الأبواب في رسالة:« مفاتيح المدائن » وهو الجزء الثالث من هذه المجموعة.

([5] )   أبو داود والترمذي وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.

([6] )   البخاري ومسلم.

([7] )   قال ابن قتيبة: قياماً وقواماً بمنزلة واحدة ، تقول: هذا قوام أمرك وقيامه ، أي: ما يقوم به [ أمرك ]. وذكر أبو علي الفارسي أن «قواماً» و«قياماً» و«قيماً» ، بمعنى القوام الذي يقيم الشأن.

([8] )   رواه البيهقي في السنن الكبرى (6/350).

([9] )   رواه البيهقي في السنن الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة باب ما جاء قول أمير المؤمنين (6/351).

([10] )   أبو عبيد في الأموال ورواه البيهقي في السنن الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة باب ما يكون الموالي (6/353).

([11] )  ابن سعد.

([12] )   رواه البيهقي في السنن الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة باب الاختيار في التعجيل (6/357).

([13] )   ابن سعد وابن عساكر.

([14] )   أخرج الطبراني في الأوسط عن أنس t أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« ويل للأغنياء من الفقراء »

([15] )   فبولس يعتبر شريعة الله التي تهذب السلوك البشري لعنة، فيقول: " المسيح افتدانا من لعنة الناموس" (غلاطية 3/13)، ويعلن عن عدم الحاجة إليها بعد صلب المسيح فيقول: " قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان ، ولكن بعد ما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب " ( غلاطية 3/24 - 25 )، ويؤكد إبطال الناموس فيقول: "سلامنا الذي جعل الاثنين واحد.. مبطلاً بجسده ناموس الوصايا " ( أفسس 2/14-5 )، ويقول: " الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس ، بل بإيمان يسوع ، لأنه بأعمال الناموس لايتبرر جسد ما " ( غلاطية 2/16 )، بل يذهب إلى ما هو أخطر من ذلك ، فيقول:« قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس " ( غلاطية 5/4 )

([16] )   البخاري ومسلم وأبو داود وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه.

([17])     رواه أحمد ومسلم من حديث جابر، وهو لأحمد والبخارى من حديث أبى سعيد.

([18])  المدقع هو الشديد الملصق صاحبه بالدقعاء يعني الأرض التي لا نبات بها.

([19])  الغرم هو الذي يلزم صاحبه أداؤه يتكلف فيه لا في مقابلة عوض.

([20])  المفظع هو الشديد الشنيع.

([21])  هو الذي يتحمل عن قريبه أو حميمه أو نسيبه دية إذا قتل نفسا ليدفعها إلى أولياء المقتول. ولو لم يفعل قتل قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله.

([22])  أبو داود والترمذي.

([23])  انظر التفاصيل المرتبطة بهذه المسائل في:« فقه الزكاة برؤية مقاصدية » من موسوعة الفقه المقاصدي.

([24]) رواه الستة إلا الترمذي.

([25]) البخاري.

([26]) الترمذي ، والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي: 1/390، وقال ابن حجر في التلخيص:177: إسناده ضعيف.

([27]) ابن خزيمة في صحيحه والحاكم: 1/390 وقال: صحيح على شرط مسلم وافقه الذهبي وقال الحافظ في الفتح (3/175): رجح أبو زرعة والبيهقي وغيرهما وقفه كما عند البزار.

([28])الحاكم (1/290)، وقال: صحيح على شرط البخاري، وافقه الذهبي، وفي إسناده كلام.

([29]) أبو داود.

([30]) ابن ماجه، قال النووي في المجموع عنه: إنه حديث ضعيف جدًا لا يعرف  (5/332) وقبله قال البيهقي في هذا الحديث: يرويه أصحابنا في التعاليق، ولست أحفظ فيه إسنادًا  (السنن الكبرى: 4/84)

([31]) سكت عليه أبو داود، ثم المنذري مختصر السنن: 2/247 وأخرجه البيهقي أيضًا: 4/183.

([32]) رواه أحمد والشيخان والترمذي عن جرير بن عبد الله، وأحمد والترمذي عن أبي سعيد، وضح هذا المعنى بألفاظ مختلفة وطرق كثيرة، وصلت إلى درجة التواتر، كما في التيسير للمناوي: 2/447.

([33]) البخاري.

([34]) البخاري ومسلم.

([35]) مسلم ، وأبو داود ، وأحمد.

([36]) الطبراني في الأوسط والصغير وقال: انفرد به ثابت بن محمد الزاهد. قال المنذري: وثابت ثقة صدوق روى عنه البخاري وغيره وبقية رواته لا بأس بهم، وروى موقوفًا على عليّ t وهو أشبه. وذكره ابن حزم في المحلي موقوفًا على عليّ 6/158 من طريق سعيد بن منصور.

([37]) البخاري ومسلم.

([38]) البخاري ومسلم.

([39]) الطبراني والبيهقي وإسناده حسن.

([40]) قال ابن حزم في إسناد هذا الأثر: هذا إسناد في غاية الصحة والجلالة.

([41])  مسلم.

([42]) وبهذا قال الزهري , ومالك ، وقال ربيعة: يتصدق منه بقدر الزكاة ; لأن المطلق محمول على معهود الشرع , ولا يجب في الشرع إلا قدر الزكاة. وعن جابر بن زيد: قال: إن كان كثيرا , وهو ألفان , تصدق بعشرة , وإن كان متوسطا وهو ألف , تصدق بسبعة , وإن كان قليلا , وهو خمسمائة , تصدق بخمسة. وقال أبو حنيفة: يتصدق بالمال الزكوي كله. وعنه في غيره روايتان ; إحداهما , يتصدق به. والثانية , لا يلزمه منه شيء. وقال النخعي , والبتي , والشافعي: يتصدق بماله كله ; لقول النبي r:« من نذر أن يطيع الله فليطعه » ، ولأنه نذر طاعة , فلزمه الوفاء به , كنذر الصلاة والصيام.

وروى الحسين بن إسحاق الخرقي , عن أحمد , قال: سألته عن رجل قال: جميع ما أملك في المساكين صدقة. قال: كفارته كفارة اليمين. قال وسئل عن رجل قال ما يرث عن فلان , فهو للمساكين. فذكروا أنه قال: يطعم عشرة مساكين.

([43]) البخاري ومسلم.

([44])  اختلف الفقهاء في حق الضيف: هل هو واجب أو مستحب على قولين:

القول الأول: أن الضيافة من مكارم الأخلاق، ومحاسن الدين، وليست واجبة، وهو قول الجمهور، ومن الأدلة على ذلك:

1.   قوله  - صلى الله عليه وسلم -:« من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة »، فلفظ (جائزته)   المذكور في الحديث يدل على الاستحباب فإن الجائزة هي العطية والصلة التي أصلها على الندب، وقلما يُستعمل هذا اللفظ في الواجب.

2.   الأحاديث القاضية بحرمة مال المسلم إلا بطيب نفسه.

3.   الأحاديث الدالة على أن ليس في المال حق سوى الزكاة.

4.   أما الأحاديث الواردة في حق الضيف، فقد قال الخطابي:«إنما كان يلزم ذلك في زمنه r حيث لم يكن بيت مال، وأما اليوم فأرزاقهم في بيت المال، لا حق لهم في أموال المسلمين » أو أن هذا كان في أول الإسلام، إذ كانت المواساة واجبة، فلما اتسع الإسلام نُسخِ ذلك.

القول الثاني: وجوب الضيافة، وأنها واجبة ليلة واحدة، وهو قول الليث بن سعد، وهو قول ابن حزم، قال:« الضيافة فرض على الحَضَري والبدوي والفقيه والجاهل، يوم وليلة مبرة وإتحاف، ثم ثلاثة أيام ضيافة، ولا مزيد، فإن زاد على ذلك فليس نراه لازمًا، وإن تمادى على قراه فحسن، فإن منع الضيافة الواجبة فله أخذها مغالبة، وكيف أمكنه، ويُقضى له بذلك »، وقد انتصر له الشوكاني، واستدل له بما يلي، زيادة على ما سبق من الأدلة:

1.   إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك، وهذا لا يكون في غير واجب.

2.   التأكيد البالغ بجعل ذلك فرع الإيمان بالله واليوم الآخر، ويفيد أن فعل خلافه فعل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ومعلوم أن فروع الإيمان مأمور بها. ثم تعليق ذلك بالإكرام وهو أخص من الضيافة، فهو دال على لزومها بالأولى.

3.   قوله - صلى الله عليه وسلم -:«  فما وراء ذلك فهو صدقة » فهو صريح أن ما قبل ذلك غير صدقة، بل واجب شرعًا.

4.   قوله - صلى الله عليه وسلم -:«  ليلة الضيف حق واجب » فهذا تصريح بالوجوب، لم يأت ما يدل على تأويله.

5.   قوله r:« فإن نصره حق على كل مسلم » فإن ظاهر هذا وجوب النصرة، وذلك فرع وجوب الضيافة.

([45])  البخاري ومسلم.

([46])  البخاري ومسلم.

([47])  مسلم.

([48])  البخاري واللفظ له ، ومسلم وغيرهما.

([49])  أحمد ورواته ثقات والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

([50])  أبو داود والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

([51])  البخاري ومسلم.

([52])  أبو الشيخ عن أبي الدرداء.

([53])  الديلمي عن أنس.

([54])  أبو الشيخ في الثواب وأبو نعيم في المعرفة عن أبي قرصافة.

([55])  ابن ماجة عن ابن عباس وأنس، والبيهقي عن أنس.

([56])  ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان عن حبان بن أبي جيدة.

([57])  البيهقي في الشعب.

([58])  الطبراني عن الحسن بن علي.

([59])  أبو نعيم في الحلية عن أبي سعيد.

([60])  الحاكم عن جابر.

([61])  أبو يعلى، والحاكم عن صهيب.

([62])  أحمد، والبيهقي عن عقبة بن عامر.

([63])  البخاري ومسلم وغيرهما.

([64])  البخاري.

([65])  أحمد، والبخاري.

([66])  الطبراني.

([67])  أحمد، والبخاري في الأدب، والترمذي، والنسائي.

([68])  أحمد، والشيخان.

([69])  الطبراني.

([70])  البخاري في الأدب.

([71])  أحمد، والبخاري في الأدب، والطبراني.

([72])  البخاري في الأدب، والحاكم، والبيهقي.

([73])  البزار، والطبراني.

([74])  مسلم.

([75])  البزار وأبو الشيخ وأبو نعيم.

([76])  ابن النجار عن ابن عباس.

([77])  الترمذي، عن أبي هريرة t، والبيهقي عن جابر والبهقي والطبراني في الأوسط، عن عائشة رضي الله عنها.

([78])  الحاكم، عن أبي هريرة.

([79])  الشيخان عن أبي ذر.

([80])  أحمد، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم عن أبي ذر.

([81])  العقيلي في الضعفاء عن ابن عمر.

([82])  أحمد، والشيخان، وأبو داود، والترمذي: عن ابن عمر.

([83])  أحمد، والشيخان، وابن ماجة، عن ابن مسعود.

([84])  الترمذي عن أبي هريرة.

([85])  أحمد، وابن حبان في صحيحه عن عائشة.

([86])  الطبراني عن أبي برزة.

([87])  الطبراني عن الحكيم بن عمير.

([88])  الطبراني عن ابن عباس.

([89])  ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ عن أبي سعيد.

([90])  الطبراني عن عمران بن حصين.

([91])  البيهقي عن طلحة بن عبيد الله، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس.

([92])  ابن أبي الدنيا عن عائشة، والبيهقي عن معاذ.

([93])  البيهقي عن ابن عمر.

([94])  أحمد وأبو يعلى، والضياء عن بريدة، وإبن أبي الدنيا عن أنس.

([95])  أبو يعلى، والبزار عن أنس، والطبراني عن ابن مسعود.

([96])  الطبراني في الأوسط عن عائشة.

([97])  أحمد، والشيخان عن أبي ذر.

([98])  للنسائي.

([99])  أحمد عن ابن مسعود.

([100])  الشيخان، والنسائي عن عدي بن حاتم، وأحمد عن عائشة، والبزار، والطبراني، والضياء عن أنس والبزار، والطبراني، والضياء عن أنس، والبزار عن النعمان بن بشير وعن أبي هريرة، والطبراني عن ابن عباس وعن أبي أمامة.

([101])  للطبراني عن فضالة بن عبيد.

([102])  للطبراني عن فضالة بن عبيد.

([103])  الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية عن أنس.

([104])  الطبراني عن عقبة بن عامر.

([105])  النسائي، والحاكم عن ابن عمر.

([106])  أحمد، والشيخان، والنسائي، وابن ماجة عن عدي بن حاتم.

([107])  الترمذي عن عدي بن حاتم.

([108])  ابن عساكر، والطبراني عن عبادة بن الصامت.

([109])  الديلمي عن عبد الله بن عمرو المزني.

([110])  البيهقي عن علي، وابن عدي عن جبير بن مطعم، وأبو الشيخ عن أبي هريرة.

([111])  مسلم والنسائي.

([112])  أحمد والشيخان، عنها.

([113])  الشيخان وغيرهما.

([114])  البيهقي عن الحسن مرسلا.

([115])  ابن صصري في أماليه عن ابن عباس.

([116])  أحمد، ومسلم عن أبي هريرة.

([117])  الحاكم عن أنس.

([118])  الطبراني في الأوسط عن أم سلمة.

([119])  الطبراني عن رافع بن خديج.

([120])  الخطيب عن أنس.

([121])  القضاعي عن أبي هريرة.

([122])  الطبراني والبيهقي عن حارثة بن النعمان.

([123])  الديلمي عن أبي هريرة.

([124])  أبو نعيم في الحلية عن علي.

([125])  النسائي عن ابن مسعود.

([126])  أحمد، والترمذي عن ابن مسعود.

([127])  الطيالسي عن ابن عمر.

([128])  الخطيب عن ابن عمر، وابن النجار عن علي.

([129])  أحمد، والطبراني، والضياء عن الحسين، وأبو داود عن علي، والطبراني عن الهرماس بن زياد.

([130])  أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم عن سليمان بن عامر.

([131])  أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة: عن ثوبان.

([132])  أحمد، ومسلم عن أبي أمامة.

([133])  أحمد، ومسلم، وابن حبان في صحيحه، والنسائي عن عبد الله بن الشخير.

([134])  أحمد، والشيخان، والترمذي عن حارثة بن وهب.

([135])  مسلم عن جرير.

([136])  أبو داود، والحاكم.

([137])  الطبراني، والبيهقي.

([138])  البخاري في الأدب، والترمذي.

([139])  الخطيب.

([140])  ابن عساكر.

([141])  أحمد والشيخان والنسائي.

([142])  أبو داود.

([143])  النسائي.

([144])  البخاري ومسلم.

([145])  الترمذي.

([146])  أبـي داود.

([147])  النسائي من حديث جابر بن عبد الله.

([148])  اختلف الفقهاء في حكم هٰذه المسألة على أقوال كثيرة جمعها ابن القيم هذه خلاصتها:

القول الأول: أنه لا يُجبَرُ أحدٌ على نفقةِ أحدٍ من أقاربه، وإنما ذلك بِرٌّ وصِلَة، وهذا مذهب يُعزَى إلى الشعبـي. قال عبدُ بنُ حميدَ الكَشي: حدثنا قَبِـيصةُ، عن سفيان الثوري، عن أشعث، عن الشعبـي، قال: ما رأيت أحداً أجبرَ أحداً على أحدٍ، يعني على نفقته. وفي إثبات هذا المذهب بهذا الكلام نظر، والشعبـي أفقه من هذا، والظاهر أنه أراد: أن الناسَ كانوا أتقى لله من أن يحتاج الغنيُّ أن يجبرَهُ الحاكم على الإنفاق على قريبه المحتاج، فكان الناس يكتفون بإيجاب الشرع عن إيجاب الحاكم أو إجباره.

القول الثاني: أنه يجب عليه الفقةُ على أبـيه الأدنى، وأمه التي ولدته خاصة، فهٰذان الأبوان يجبر الذكر والأنثى من الولد على النفقة عليهما إذا كانا فقيرين، فأما نفقةُ الأولادِ، فالرجل يُجبرُ على نفقة ابنهِ الأدنى حتى يبلغ فقط، وعلى نفقة بنته الدنيا حتى تُزَوجَ، ولا يجبر على نفقة ابن ابنه، ولا بنت ابنه وإن سفلا، ولا تُجبَرُ الأُمُّ على نفقة ابنها وابنتها ولو كانا في غاية الحاجة والأم في غاية الغنى، ولا تجب على أحد النفقةُ على ابن ابن، ولا جد، ولا أخٍ، ولا أختٍ، ولا عمَ، ولا عمةٍ، ولا خالٍ ولا خالةٍ، ولا أحد من الأقارب البتة سوى ما ذكرنا. وتجب النفقةُ مع اتحادِ الدين واختلافه حيث وجبت، وهذا مذهب مالك، وهو أضيقُ المذاهب في النفقات.

القول الثالث: أنه تجبُ نفقةُ عمودي النسب خاصة، دون مَن عداهم، مع اتفاق الدين، ويَسَارِ المنفِقِ، وقدرته، وحاجة المُنفَق عليه، وعجزه عن الكسب بصغرٍ أو جنونٍ أو زمانةٍ إن كان من العمود الأسفل. وإن كانَ من العمود الأعلى: فهل يشترط عَجزهُم عن الكسبِ؟ على قولين. ومنهم من طرد القولين أيضاً في العمود الأسفل. فإذا بلغ الولد صحيحاً، سقطت نفقتُه ذَكراً كان أو أنثى، وهذا مذهب الشافعي، وهو أوسع من مذهب مالك.

القول الرابع: أن النفقة تَجبُ على كل ذي رحمٍ مَحرَمٍ لذي رحمه فإن كان من الأولاد وأولادهم، أو الآباء والأجداد، وجبت نفقتُهم مع اتحاد الدين واختلافه. وإن كان من غيرهم، لم تجب إلا مع اتحاد الدين، فلا يجب على المسلم أن ينفق على ذي رحمه الكافر، ثم إنما تجب النفقة بشرط قدرة المنفِق وحاجة المنفَقِ عليه. فإن كان صغيراً اعتُبِرَ فَقرُهُ فَقَط، وإن كان كبـيراً، فإن كان أنثى، فكذلك، وإن كان ذَكَراً، فلا بُد مع فقره من عَمَاهُ أو زَمَانَتِهِ، فإن كان صحيحاً بصيراً لم تجب نفقته، وهي مرتبة عنده على الميراث إلا في نفقة الولد، فإنها على أبـيه، خاصة على المشهور من مذهب.

وروي عن الحسن بن زياد اللؤلؤي: أنها على أبويه خاصة بقدر ميراثهما طرداً للقياس، وهذا مذهب أبـي حنيفة، وهو أوسعُ من مذهب الشافعي.

القول الخامس: أن القريب إن كان من عمودي النسب وجبت نفقتُه مطلقاً، سواءً كان وارثاً أو غير وارث، وهل يشترط اتحادُ الدين بـينهم؟ على روايتين وعنه رواية أخرى أنه لا تجبُ نفقتُهم إلا بشرط أن يرثهم بِفَرضٍ أو تَعصِيب كسائر الأقارب. وإن كان من غير عمودي النسب، وجبت نفقتهم بشرط أن يكون بـينه وبـينهم توارث. ثم هل يشترط أن يكون التوارث من الجانبـين، أو يكفي أن يكون من أحدهما؟ على روايتين. وهل يشترط ثبوت التوارُثِ في الحال، أو أن يكون من أهل الميراث في الجملة؟ على روايتين: فإن كان الأقارب من ذوي الأرحام الذين لا يرثون، فلا نفقةَ لهم على المنصوص عنه، وخرج بعض أصحابه وجوبَها عليهم من مذهبه من توارثهم، ولا بد عنده من اتحاد الدين بـين المنفِق والمنفَقِ عليه حيث وجبت النفقة إلا في عمودي النسب في إحدى الراويتين. فإن كان الميراث بغير القرابة، كالولاء وجبت النفقة به ظاهر مذهبه على الوارث دون الموروث، وإذا لزمته نفقةُ رجلٍ لزمته نفقةُ زوجتِهِ في ظاهر مذهبه. وعنه: لا تلزمه. وعنه: تلزمه في عمودي النسب خاصة دون مَن عداهم. وعنه: تلزمه لزوجة الأب خاصة، ويلزمه إعفاف عمودي نسبه بتزويج أو تَسَرَ إذا طلبوا ذلك.

قال القاضي أبو يعلى: وكذلك يجيء في كل مَن لزمته نفقتُه؛ أخ، أو عم، أو غيرهما يلزمُه إعفافُه، لأن أحمد رحمه الله قد نص في العبد يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك، وإلا بـيع عليه، وإذا لزمه إعفافُ رجل لزمه نفقة زوجته، لأنه لا تُمَكنُ من الإعفاف إلا بذلك، وهٰذه غير المسألة المتقدمة، وهو وجوب الإنفاق على زوجة المنفَق عليه، ولهٰذه مأخذ، ولتلك مأخذ، وهذا مذهب الإمام أحمد، وهو أوسع من مذهب أبـي حنيفة، وإن كان مذهب أبـي حنيفة أوسعَ منه من وجه آخر حيثُ يُوجِبُ النفقةَ على ذوي الأرحام وهو الصحيح في الدليل، وهو الذي تقتضيه أصولُ أحمد ونصوصُه وقواعد الشرع، وصلةُ الرحم التي أمر الله أن تُوصَلَ، وحرمَ الجنة على كل قاطع رحم.

فالنفقةُ تُستَحَقُّ بشيئين: بالميراث بكتاب الله، وبالرحم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

([149])  قال ابن جرير في تفسيرها: يقول تعالى: أو لم نبيِّن للذين يستخلفون في الأرض من بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها، فساروا سيرتهم، وعملوا أعمالهم، وعتوا على ربهم أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، ونختم على قلوبهم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ موعظة ولا تذكيرًا.

([150])  مسلم.

([151])  القهرمان: الخازن الأمين المحافظ على ما في عهدته.

([152])  أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم  عن عمر.