المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: مفاتيح المدائن |
الناشر: دار الكتاب
الحديث |
الفهرس
أولا ـ باب التشجيع
كان أول باب قابلنا بعد دخولنا من
الباب الأكبر بابا يحمل صورا لناس خاملين كادوا يذوبون من فرط خمولهم .. وفجأة لاح
نور عظيم سرى إلى عقولهم ومنها إلى أجسادهم، فهبوا بأعظم نشاط.
وقد سرى إلي من ذلك النور ما جعلني
أشعر بنشاط وحيوية عجيبة، سألت المعلم عن سر هذا الباب، فقال: هذا باب التشجيع.
قلت: فما الحاجة إلى التشجيع؟
قال: التشجيع أول مراتب السعي، فإن
النفس الخاملة، والهمة المنحطة، والعجز القاعد، لا ينهض بهم إلا ما ينفخ فيهم روح
النشاط، ويحيي فيهم نشاط الروح.
ضحكت، وقلت: هل سنشاهد مباريات في
كرة القدم، فنشجع فريقا من فرقها؟
قال: دعنا من لغوكم وصراعكم، فما هذه
الكرة التي تهتفون بها سوى لغو من لغو الشيطان ينفخه فيكم كما تنفخون جلدها.
قلت: ولكنها رياضة؟
قال: الرياضة لمن يمارسها .. لا لمن
يتفرجها .. هي كالعلم تماما هو لمن يعمل به لا لمن يصفه ويتحدث عنه.
قلت: ولكنها تنشئ فينا نشاطا وحيوية
وشبابا؟
قال: ولكنها تنشئ بينكم صراعا، وتفرغ
لكم جيوبا، وتهدر لكم طاقات.
قلت: صدقت، فنحن نصرف عليها مصاريف
ضخمة.
قال: لو أنكم وفرتموها لاستطعتم
توفير أسباب الرياضة لشعوبكم جميعا لا لأفراد محدودين.
قلت: صدقت، فنحن في عصرنا لا نتعامل
مع أفراد الشعوب، بل نتعامل مع ممثليهم والنخبة منهم، فننفخهم وندللهم ونسمنهم.
قال: وتتركون غيرهم يموت هزالا.
قلت: لقد خرجنا يا معلم عن موضوعنا.
قال: لا لم نخرج، فلن نتعلم السلام
حتى نتخلص من الصراع، ولن نتخلص من الصراع حتى نعرف مداخله، ألم تسمع ما قال عمر t
.
قلت: عن الجاهلية؟
قال: أجل.
قلت: لقد قال:( إنما تنقض عرى
الاسلام عروة عروة اذا نشأ فى الاسلام من
لم يعرف الجاهلية )
قال: فما معنى هذا؟
قلت: إن كمال الاسلام هو بالأمر
بالمعروف والنهى عن المنكر، وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله، ومن نشأ في المعروف
لم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه، ولا يكون
عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم، ولهذا يوجد الخبير بالشر واسبابه اذا كان
حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع اهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره[1].
ولهذا كان الصحابة y
أعظم ايمانا وجهادا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير
وبغضهم للشر لما علموه من حسن حال الاسلام والايمان والعمل الصالح وقبح حال الكفر
والمعاصى[2].
قال: صدق ابن تيمية ـ رحمه الله ـ
فقد كان عالما ربانيا.
قلت: كيف عرفت أن هذا كلام ابن تيمية؟
قال: دعك من هذا .. وعد لما نحن فيه
.. قل لي: إلى من يتوجه قومك بالتشجيع؟ وكيف؟
قلت: رويدك يا معلم، فقد سألت سؤالين
كل واحد منهما يحتاج موسوعة خاصة به.
قال: فقل لي أولا: من هم الأشخاص
الذين يتوجه إليهم قومك بالتشجيع؟
قلت: أولهم الحكام، فما إن يخطب
الحاكم خطبة، حتى ينهض الشعب من سباته العميق يحمل لافتات ضخمة، وصورا كثيرة تمجد
الحاكم وتسبح بحمده.
قال: ويتركون أشغالهم لأجل ذلك؟
قال: بل إن المرأة لتذهل عن رضيعها
لأجل ذلك، فتصيح مع الجموع لتسكت بصياحها صياح ابنها.
قال: ومن تشجعون أيضا؟
قلت: الفنانين.
قال: أتقصد الذين يتذوقون الجمال
فينثرونه شعرا أو نثرا؟
قلت: لا .. أقصد الذين يتفننون في
إضحاك الناس أو في إخراج الدموع من مآقيهم.
قال: بالوعظ والإرشاد، أو بالتعليم
والتدريب؟
قلت: بل بالصياح والنفير، والرقص
والصفير.
قال: أعادت جاهلية المكاء والصفير.
قلت: تلك جاهلية أولى، أما جاهليتنا
فأكثر إبداعا وتفننا.
قال: فمن تشجعون أيضا؟
قلت: أصحاب الرياضات المختلفة كما
ذكرت لك، وخاصة كرة القدم.
قال: أنتم لا تشجعون أصحاب الرياضات،
وإنما تشجعون من يمثلهم.
قلت: نحن في كل الأشياء نفعل ذلك.
قال: فمن تشجعون أيضا؟
قلت: من يقدمون لنا خدمات إنسانية.
قال: هذا شيء جميل.
قلت: رويدك يا معلم، فنحن لا نشجع
هذا الصنف إلا بعد أن يأوي إلى الثرى، أو يكاد يأوي إلى الثرى.
قال: فما فائدة التشجيع حينذاك؟
قلت: لنحذر من يسلك سبيلهم من الغرق
في متاهة النسيان.
قال: فكيف تشجعون؟
قلت: أما الأثرياء، فنشجعهم بزيادة
ثرائهم، وأما االفقراء والمحتاجون، فنشجعهم بشهادات تقديرية.
قال: فهل تشجعون العمال الذي يعتمد
رزقكم على اجتهادهم؟
قلت: العمال هم طبقة المنبوذين في
مجتمعنا.
قال: ولكن طبقة المنبوذين طبقة هندية
لها علاقة بالديانات الهندية.
قلت: ألم تسمع قوله r:(لا
تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي أخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع، قيل: يا رسول
الله! كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك )[3]
قال: وكيف يعيش هؤلاء العمال بدون
تشجيع؟
قلت: يلتهمهم وحش الروتين القاتل الذي
يعيشونه، أو تشغلهم أنواع اللهو التي يستهلكونها.
قال: فلماذا لا يطالبون بالتشجيع؟
ضحكت، وقلت: هم يعرفون أن هذا الاسم
لا يرتبط إلا بمن ذكرت، فإذا تجرأ أحدهم، وطالب بالتشجيع، قيل له: ارتق أولا من
طبقة المنبوذين التي تعيش فيها إلى طبقات الفنانين والرياضيين والحكام لنشجعك.
قال: قد عرفنا رياح الجاهلية، فهيا
لنعرف سلام الإسلام.
قلت: فهل يضع الإسلام لهؤلاء العمال
جوائز؟
قال: جوائز أعظم من الجوائز التي
ينالها حكامكم أو فنانوكم.
قلت: فما الغرض من وضع هذه الجوائز
.. وما حاجة العمال لها؟
قال: ألم تقرأ في كتب الفقه ما ورد
في النصوص من الترغيب في الوضوء والصلاة والصيام، وكل الأعمال الصالحة؟
قلت: بلى، بل لقد كتب المنذري في ذلك
كتابا عظيما سماه ( الترغيب والترهيب )، وكتب النووي كتابه المشهور ( رياض
الصالحين )
قال: فما غرضهم من ذلك؟
قلت: بعث الهمم إلى العمل الصالح.
قال: ودخولهم إلى العمل بالنية
الصالحة.
قلت: لم أفهم؟
قال: من علم أن الله تعالى أعد أجرا
معينا لعمل معين دخله مؤمنا محتسبا، ومن دخل العمل مؤمنا محتسبا أعطاه الله ما طلب
من أجر.
قلت: لكأني بك تشير إلى النصوص
الكثيرة التي تقيد بلوغ الأجور لأصحابها باحتسابهم، كقوله r:( من لقي الله لا يشرك به شيئا وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه
محتسبا وسمع وأطاع فله الجنة )[4]،
وقوله r لعبد الله بن عمرو:( يا عبد الله بن عمرو إن قاتلت صابرا محتسبا
بعثك الله صابرا محتسبا، وإن قاتلت مرائيا مكاثرا بعثك الله مرائيا مكاثرا، يا عبد
الله ابن عمرو على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تلك الحال )[5]،
وقوله r:( إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله عنك
خطاياك إلا الدين، كذلك قال لي جبريل آنفا )[6]،
وقوله r:( من أذن سبع سنين محتسبا
كتب الله له براءة من النار )[7]،
وقوله r:( الطاعون كان عذابا
يبعثه الله تعالى على من يشاء وأن الله تعالى جعله رحمة للمؤمنين فليس من أحد يقع
الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان
له مثل أجر شهيد)[8]
قال: وقوله r:( من صام رمضان إيمانا
واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)[9]،
وقوله r:( من قام ليلة القدر
إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)[10]،
وقوله r:( من تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معها حتى يصلى عليها
ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد؛ ومن صلى عليها ثم
رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط من الأجر )[11]
قلت: وأحاديث أخرى كثيرة .. ولكن ما
فائدة هذا؟
قال: أن ينتقل العمل من العادة إلى
العبادة، ومن قصره على أجر الدنيا إلى العروج به إلى سموات الآخرة، بالإضافة إلى
ما يحدثه في النفس من سكينة وطمأنينة.
ثم التفت إلي، وقال: ما الفرق بين من
يعمل العمل، ولا ينتظر عليه من الجزاء إلا ما يعطيه مستأجره إلى ماذا يكون نظره؟
قلت: إلى الأجر، فإن عظم حصل
الإتقان، وإن قصر قصر الإتقان.
قال: ولكن من عمل العلم، وهو لا
ينتظر فقط أجر من استأجره، بل ينظر ـ كذلك، وقبله وبعده ـ إلى الأجر الذي أعد الله
له.
قلت: سيكون إتقانه أعظم، وأجره أوفر،
بالإضافة إلى ما يكسبه من راحة نفسية.
قال: بالإضافة إلى هذا .. ألا ترى
أشياء كثيرة مقصر فيها تطبع مدنكم وشوارعكم بصور لا تليق؟
قلت: كالقمامات مثلا، وكأبنية مهدمة
لم تجد من يرممها، أو أنابيب طالها الصدأ لم تجد من يصلحها ..
قال: وأشياء كثيرة ..
قلت: إن المكلف بذلك يزعم أن القيام
بكل تلك الأعمال يحتاج ميزانية ضخمة ينوء بها ظهر الخزانة.
قال: هنا يبدو فضل الاحتساب، وفضل
مفتاح التشجيع.
قلت: كيف؟
قال: إذا انتشر في الأمة وعي ـ بفضل
هذا المفتاح المعتمد على الاحتساب ـ ستؤدى جميع هذه الأعمال، وبإتقان عظيم، ومن
غير أن ترهق أحدا.
قلت: كيف؟
قال: إذا عرفوا فضل تنظيف شوارعهم،
والأجور التي أعدها الله لذلك، والرضوان العظيم الذي ينتظر من فعل ذلك سيتنافسون
بل يتزاحمون في رفع القمامات، وترميم الجدران، وإصلاح العيوب ..
قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى:) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا
أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً( (الكهف:77)
قال: هذه الآية الكريمة تشير إل هذا
المعنى، فبالرغم من الأذى الذي حصل لموسى والخضر ـ عليهما السلام ـ من أهل القرية،
إلا أن ذلك لم يمنع الخضر u من أن يقيم جدارا كان يهم بالسقوط من غير أن ينتظر على ذلك أجرا،
بل إنه لم يرض عندما سأله موسى u أن يبتغي الأجر بذلك العمل.
قلت: ولكن ذلك سيشجع الدولة على حبس
خزانتها على أهوائها وترك الشعب للاحتساب.
قال: هذه أوهام تتوهمونها لا مخاوف
حقيقية، فمن المستفيد من الضياع الذي تعيشه مجتمعاتكم ..
أنتم تتهمون الفقر، ولكن الفقر لا
يمنعكم من أن تنظفوا بيوتكم وأفنيتكم وثيابكم وتكونوا كالشامة بين الناس.
إن مثلكم كمثل من أصيب بعض ثوبه بوحل
الطريق، وكان في إمكانه تنظيفه، فغضب على نفسه وخاض في الوحل بيديه ورجليه وصدره
ورأسه، فما يغنيه ذلك؟ .. وكذلك مثلكم أنتم .. كان الفقر لباسا خفيفا لامس بعض
جوارحكم، فأبيتم إلا أن تجعلوه لباسا لكيانكم كله.
قلت: فالاحتساب إذن علاج للفقر؟
قال: لا .. بل هو علاج لنهظة الأمة
جميعا .. فلا يمكن أن يؤدى أي عمل بإتقان تام إذا لم يطلب فيه وجه الله، أو ما وظف
الله من الأجور.
قلت: كيف؟
قال: المدرس الذي ينال أجره الدنيوي،
ولكنه لعلو همته لا يكتفي به، بل يبتغي بعمله وجه الله والدار الآخرة، فيقول:
سأربي من وكلت بتدريسهم، وأنقل لهم كل خبرتي ليساهموا في نهظة أمة محمد r،
وسأنال على ذلك من الأجر بكل حرف أقوله، ففي كل ثانية تنهال علي الأجور والدرجات
والرضوان ما يملؤني بالسعادة .. أهذا المدرس سينجح في ما وكل إليه من مهام؟
قلت: لا ينجح فقط، بل لو أن كل
المدرسين سلكوا سلوكه لتحولت بلادنا إلى عالم غير الذي نراه.
قال: وهكذا التاجر والصانع والفلاح
الذين لا يكتفون بما تدر عليهم أعمالهم من أرباح،
بل ينتظرون من أجور الله ما يجعلهم يشعرون بأنهم عمال عند الله لا عند
الناس.
قلت: لو أن هذا سرى بين الناس لتبدلت
الأرض غير الأرض .. ولكن هل ذلك ممكن؟
قال: كل شيء ممكن.
قلت: كيف؟
قال: بالتشجيع.
قلت: أللتشجيع كل هذه القيمة؟
قال: ولذلك كان أول باب من أبواب
السعي .. فالنهضة لا تقوم إلا على الهمم العالية، والهمم لا تعلو إلا إذا وجدت من
يرتقي بها.
قلت: ولكن من يقوم بالتشجيع؟ .. أئمة
المساجد ..
قال: لا الأمة جميعا بكل طاقاتها ..
ألستم تستخدمون وسائل الإعلام لإشهار السلع؟
قلت: بلى، فنحيي الميت، ونحول من
المعدوم موجودا، ومن الدميم جميلا، ومن القذارة طهارة.
قال: ويقبل الناس على ذلك مصدقين.
قلت: بل ومتهافتين.
قال: فقد صدقوكم وأنتم تكذبون، فكيف
لا يصدقوكم وأنت تصدقون؟
قلت: ولكن وسائل الإعلام لا تسمح
بتلك الإعلانات الإشهارية إلا بعد أن تنال أجورها.
قال: فلتحتسب بعض أجورها، ألم نعرف
بأن الاحتساب ركن أساسي من أركان نهظة الأمة؟
قلت: بلى ..
لاح لي أربعة أبواب داخل مدخل باب
التشجيع، فسألت المرشد عنها، فقال: هذه الأبواب هي التي تحوي الجوائز التي ينالها
العمال المحتسبون.
قلت: وما هي؟
قال: الأجور المضاعفة، وتكفير
الخطايا، ورفع الدرجات، وزيادة البركات.
اقتربت
من الباب الأول، فقال المرشد: هذا باب الأجور المضاعفة.
قلت: فما هي هذه الأجور؟
قال المعلم: لقد ورد في النصوص اقتران السعي في الأرض طلبا
لفضل الله بأعمال لها من الأجور ما لا يمكن احتسابه.
قلت: لماذا؟
قال: أرأيت لو أن شخصا كلف بوظيفة، فسأل عن الأجر الذي
يعطاه، فقيل له: سنعطيك أجر الوزير أو الحاكم، أو سنجعل أجرك وأنت وحدك كأجر جماعة
تعمل أعمالا مرهقة.
قلت: إن هذا أجر عظيم، وأنا ضامن بأن هذا الشخص سينبعث إلى
عمله بنشاط عظيم، بل لعله سيضيف من عنده أعمالا أخرى يشكر بها من قدم له هذا
الأجر، ويستبقي وده.
قال: فلهذا ورد في النصوص المقدسة اقتران السعي بأعمال لا
حدود لأجرها.
قلت: فما هي هذه الأعمال؟
قال: أولها الجهاد، ألا تعلم ما أعد الله للمجاهدين من
الثواب؟
قلت:
بلى، فقد اعتبر القرآن الكريم الجهاد في سبيل الله من أعظم أبواب الجنة، فقال تعالى:) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ
مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( (التوبة:111)
وفضل الله المجاهدين على غيرهم من
المؤمنين، فقال تعالى:) لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى
الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً( (النساء:95)
واعتبر الجهاد من أعظم أنواع التجارة
وأجزلها ثوابا، فقال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ
طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى
تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ( (الصف:10 ـ 13)
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - بأن
الحركة البسيطة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، فقال - صلى الله عليه وسلم
-:( لغدوة في سبيل اللَّه أو روحة خير من الدنيا وما فيها )[12]، وقال - صلى
الله عليه وسلم -:( رباط يوم في سبيل
اللَّه خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما
عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل اللَّه تعالى أو الغدوة خير من الدنيا وما
عليها )[13]
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن
الجزاء المعد للمرابط في سبيل الله، فاعتبره لا يقل عن جزاء الصائم القائم القانت
الذي لا يقعد عن ذلك طيلة غياب المجاهد في سبيل الله، فقد قيل لرسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: يا رَسُول اللَّهِ ما يعدل الجهاد في سبيل اللَّه؟ قال:( لا
تستطيعونه )، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول:( لا تستطيعونه )، ثم
قال:( مثل المجاهد في سبيل اللَّه كمثل الصائم القائم القانت بآيات اللَّه لا يفتر
من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل اللَّه )[14]
بل أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن
اليوم والليلة من المرابط في سبيل الله خير من صيام شهر كامل وقيامه، فقال - صلى
الله عليه وسلم -:( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جري عليه
عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان)[15]
بل أخبر - صلى الله عليه وسلم - بما
هو فوق ذلك، فقال:( رباط يوم في سبيل اللَّه خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل
)[16]
بل ورد ما هو أعظم من ذلك، فعن أبي
هريرة t قال: مر رجل من أصحاب رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بشعب
فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته، فقال لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، ولن
أفعل حتى أستأذن رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لرَسُول اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم - فقال:( لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل اللَّه أفضل من
صلاته في بيته سبعين عاماً، ألا تحبون أن يغفر اللَّه لكم ويدخلكم الجنة؟!
اُغْزُوا في سبيل اللَّه، من قاتل في سبيل اللَّه فواق[17] ناقة وجبت له
الجنة)[18]
بل أخبر - صلى الله عليه وسلم -
باستمرار نوال المجاهد لأجره، ولو بعد وفاته، فقال:( كل ميت يختم على عمله إلا
المرابط في سبيل اللَّه فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن فتنة القبر )[19]
قال: أليست هذه أجور عظيمة؟
قلت: كيف لا تكون عظيمة؟ .. بل إن
هذه الأجور هي التي حركت القلوب المؤمنة المحتسبة للنهوض في وجه كل ظالم، ونصرة كل
مستضعف.
قال: وهذه النصوص نفسها هي التي
أخبرت بأن للعامل إن احتسب من الأجر ما لا يقل عن أجر المجاهد:
فقد رأى بعض
الصحابة شاباً قوياً يسرع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! فرد رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم بقوله:
( لا تقولوا هذا ؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن
كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه
يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان )[20]
بل صرح - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الجهاد، فقال لبعض
أصحابه:( أبشر، فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا
كالملحد في كتاب الله )[21]
قلت: يا معلم كيف هذا؟.. والمجاهد يذهب بنفسه وماله وقد لا
يعود بواحد منهما، بينما العامل مطمئن في بيته يسعى على رزقه.
قال: لأن كليهما مجاهد في سبيل الله.
قلت: كيف!؟ .. فإن فهم هذا صعب.
قال: الجهاد الذي هو حمل السلاح لا يكون في الشريعة إلا
لطارئ، وهو أشبه بالحراحة التي يقوم بها الطبيب لنزع علة معينة، أما الجهاد الذي
هو حمل الفأس والضرب في الأرض، فإنه لعمارة الدنيا التي أمرنا بعمارتها، فلا يليق
أن نملأ الدنيا التي هي دار الضيافة الإلهية بالجهاد المدمر، ولا نملؤها بالجهاد
المعمر.
قلت: ولكن فضل الشهادة عظيم؟
قال: وفضل الحياة الممتدة في سبيل الله أعظم، ألم تسمع قول
عمر t:( لأن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغى من فضل الله أحب
إلي من أن أقتل مجاهدا في سبيل الله ; لأن الله تعالى قدم الذين يضربون في الأرض
يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله:)
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (
(المزمل: من الآية20)
قلت: أجل، لقد
قرن الله تعالى في هذه الآية بين الجهاد والضرب في الأرض[22].
قال: بل قدم
الضرب في الأرض على الجهاد، فلا يمكن للمجاهد أن يجاهد لولا وجود من يضرب في
الأرض.
قلت: فإن كثيرا
من أغرار قومي قرأوا ما ورد في فضل الجهاد والموت في سبيل الله، فراحوا يحملون
السلاح على كل غاد ورائح.
قال: فأخبروهم
عن فضل العمل، وفضل الحياة في سبيل الله، وأعطوهم بدل أسلحتهم ما يرفع هامتكم
ويحصن ثغوركم.
قلت: حصوننا
محمية بجيوش لا قبل لأحد بها، وبأسلحة هي في غاية التطور.
قال: ولكنكم
تغزون علميا واقتصاديا وإعلاميا .. أنت تغزون في بيوتكم كل حين ولكنكم لا تشعرون.
قال: ومن الجزاء الذي اقترن بالسعي
العبادة، فقد ورد في النصوص اقتران الكسب بالصلاة التي هي عماد الدين، فقال تعالى:) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ( (الجمعة:10)
قلت: وورد
اقتران الكسب بالحج، فقال تعالى:) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ
رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ(
(البقرة:198)، فمن الأقوال في تفسير قوله تعالى:) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم( (الحج: من الآية28) أن المنافع ( الأجر في الآخرة والتجارة في الدنيا )
قال: أتدري ما
أسرار هذا الاقتران؟
قلت: ماهي؟
فأنا لا ألحظ أي سر في ذلك.
قال: إن كلام
الحكيم مرتب ترتيبا بديعا، فلا يقرن شيء بشيء إلا لأهميته، أرأيت لو قال لك شخص:(
أعطيك مليار دينار ودينار )؟
قلت: أضحك على
هذا، وأقول: ما يساوي الدينار أمام المليار، بل لعلي أقول له:( دع الدينار لك،
فأنا يكفيني أن تعطيني المليار )
قال: فقد رأيت
إذن أنه لا يقرن الأجر العظيم إلا بالأجر العظيم.
قلت: نعم،
فهمت، فلولا ما في العمل من القيمة ما قرن بالصلاة والحج اللذين هما من أركان
الإسلام.
قال: وبالإضافة
إلى هذا، فقد ورد في النصوص ما يدل على أن كل منتفع بعمل العامل يصب في أجره، فقد
قال قال - صلى الله عليه وسلم - في إحياء الأرض:( ما من امرئ يحي أرضا فتشرب منها
كبد[23] حرى أو تصيب منها عافية إلا كتب الله تعالى له به جرا )[24]
وقال - صلى
الله عليه وسلم - في أجر من أحيا أرضا ميتة:(
من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة )[25]
وقال - صلى
الله عليه وسلم - في غرس الغرس:( ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير
أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له به صدقة )[26]، وقال - صلى
الله عليه وسلم -:( ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من
ثمر ذلك الغرس)[27]، وقال - صلى
الله عليه وسلم -:( ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه
صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه[28] أحد إلا كان له صدقة )[29]
قلت: هذه أجور
عظيمة.
قال: فما
تأثيرها فيمن يفقهها؟
قلت: لن يترك
دقيقة واحدة من عمره تمضي إلا وهو يحي الأرض وينميها لينال من الأجر ما يناله.
قال: فإذا لم
يجازه الناس على جهده هذا؟
قلت: لقد وعده الله
بالأجر، فما انتظاره لأجوره الناس؟
قال: ولهذا قال
- صلى الله عليه وسلم -:( إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة[30]، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها )[31]
اقتربت
من الباب الثاني، فقال المعلم: هذا باب ( رفع الدرجات )
قلت:
فما باب الدرجات؟
قال:
ما هو منتهى آمال العمال عندكم غير الأجور؟
قلت
على البديهة من غير تفكير: الترقية.
قال:
وما الترقية؟
قلت:
أن ينتقل العامل البسيط إلى نائب رئيس للعمال، وأن يرتقي النائب إلى درجة الرئيس،
وهكذا ..
قال:
ألأجل الأجر المرتفع للمنصب الأعلى؟
قلت:
ليس ذلك فقط، بل أحيانا لا يكون هناك اختلاف كبير في الأجور، ومع ذلك يطمح
كل عامل في منصب أرقى.
قال:
لماذا إذن؟
قلت:
هذا شيء نفسي، فكل إنسان يحب أن يكون له من المناصب أرفعها .. لقد عجن هذا في
طبيعة الإنسان عجنا.
قال:
فما تسمونه بالترقيات تسميه النصوص بالدرجات، وهي من أنواع الجزاء التي ينالها
الساعي المحتسب .. وهي من الجزاء الذي وضعه الله لملء تلك الحاجة الإنسانية
الطالبة للترقي.
قلت:
فما هي هذه الدرجات؟
قال:
ألم تسمع قوله تعالى:) وَإِذَا
النُّفُوسُ زُوِّجَتْ( (التكوير:7)،
وقوله:) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ( (الصافات: من
الآية22)، وقوله:) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً
مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً( (الفرقان:13)
قلت: أجل، لقد ورد في تفسير هذه
الآيات عن السلف الصالح y أن المراد منه الجمع بين النظراء أو الأشكال
منهم كل صنف إلى صنف، وقد
ورد في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير الآية الأخيرة:( يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله )
وقال
عمر بن الخطاب t:( يقرن الفاجر
مع الفاجر، ويقرن الصالح مع الصالح )
وقال
ابن عباس t:( ذلك حين
يكون الناس أزواجا ثلاثة، السابقون زوج - يعني صنفا - وأصحاب اليمين زوج، وأصحاب
الشمال زوج )،
وعنه
أيضا:( قرن كل شكل بشكله من أهل الجنة وأهل النار، فيضم المبرز في الطاعة إلى
مثله، والمتوسط إلى مثله، وأهل المعصية إلى مثله )،
وقال
الحسن:( ألحق كل امرئ بشيعته: اليهود باليهود، والنصاري بالنصارى، والمجوس
بالمجوس، وكل من كان يعبد شيئا من دون الله يلحق بعضهم ببعض، والمنافقون
بالمنافقين، والمؤمنون بالمؤمنين )
ولهذا قال ابن مسعود t:(
لو أن رجلاً قام بـين الركن والمقام يعبد الله سبعين سنة لبعثه الله يوم القيامة
مع من يحب )
قال: أتجد تشبيها لهذا في واقع قومك؟
قلت: أجل، بل ما أسهل تشبيه هذا،
فنحن مثلا في مؤتمراتنا ننزل كل نظير مع نظيره، فأصحاب المقامات العالية ننزلهم
الفنادق الفخمة، ومن دونهم ننزلهم ما هو دونها، وهكذا، حتى لا يبقى إلا المتفرجون
فننزلهم الشوارع والساحات.
قال: فاجمع بين هذين المعنيين وابحث
في سير الكمل من عباد الله، فسيتضح لك علو المقامات والدرجات التي ينزلها الساعي
والعامل المحتسب.
قلت: فمن هم الكمل، وكيف كانوا؟
قال: أكمل الكمل هم الأنبياء ـ عليهم
الصلاة والسلام ـ وقد كانوا كلهم عمالا يأكلون من عمل أيديهم.
قلت: فاذكر لي من ذلك ما تمتلئ به
نفسي، ويعمق معناه في صدري.
قال: هو ذا الإمام الهمام أبو بكر
محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي أمامك يجيبك على ذلك، فقد كان فقيها , أصوليا ,
محدثا , صاحب همة عالية[32].
التفت، فإذا به أمامي يقول من غير أن
أسأله: أول من اكتسب أبونا آدم u، كما قال الله تعالى:) فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى( (طـه: من
الآية117) } أي تتعب في طلب الرزق، وقال مجاهد في تفسيره:( لا تأكل خبزا بزيت حتى
تعمل عملا إلى الموت )
وفي الآثار: أن آدم u
لما أهبط إلى الأرض أتاه جبريل u بالحنطة، وأمره أن يزرعها، فزرعها وسقاها وحصدها ودرسها وطحنها
وخبزها، فلما فرغ من هذه الأعمال حان وقت العصر أتاه جبريل u وقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن صمت بقية اليوم غفرت لك خطيئتك
وشفعتك في أولادك، فصام وكان حريصا على تناول ذلك الطعام لينظر يجد له من الطعم ما
كان يجد لطعام الجنة، فمن ثمة حرص الصائمون بعد العصر على تناول الطعام.
وكذا نوح u كان نجارا يأكل من كسبه وإدريس u كان خياطا وإبراهيم u كان بزارا ..
وداود u كان يأكل من كسبه، على ما روي أنه كان يخرج متنكرا فيسأل عن سيرة
أهل مملكته حتى استقبله جبريل u يوما على صورة شاب فقال له: كيف تعرف داود أيها الفتى فقال: نعم
العبد داود إلا أن فيه خصلة قال: وما هي؟ قال: إنه يأكل من بيت المال , وإن خير
الناس من يأكل من كسبه، فرجع داود u إلى محرابه باكيا متضرعا يسأل الله تعالى ويقول: اللهم علمني كسبا
تغنيني به عن بيت المال فعلمه الله تعالى صنعة الدرع ولين له الحديد حتى كان
الحديد في يده كالعجين في يد غيره، قال الله تعالى:) وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ( (سـبأ: من
الآية10)، وقال تعالى:) وَعَلَّمْنَاهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ
شَاكِرُونَ( (الانبياء:80)،
فكان يصنع الدرع ويبيع كل درع باثني عشر ألفا فكان يأكل من ذلك ويتصدق.
وسليمان u كان يصنع المكاييل من الخوص فيأكل من ذلك.
وزكريا u كان نجارا.
ونبينا - صلى الله عليه وسلم - كان
يرعى في بعض الأوقات، على ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه y
يوما:( كنت راعيا لعقبة بن معيط وما بعث الله نبيا إلا وكان راعيا )
وفي حديث السائب بن شريك عن أبيه t
قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
شريكي، وكان خير شريك لا يداري ولا يماري[33]، فقيل: فبماذا
كانت الشركة بينكما فقال: في الأدم.
وازدرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة
على ما ذكر محمد رحمه الله في كتاب المزارعة[34].
التفت إلى المعلم، وقلت له: قد فهمت هذا
ووعيته، ولكن في النفس شبهة أريد أن تأذن لي في ذكرها، وتصبر علي في طرحها، وفي
الإجابة عليها، فإن لها بين قومي نظيرات.
قال: تريد أن تقول بأن في السعي
انحطاط عن الهمة العلية، كما قال ابن عطاء الله:( إرادتُكَ التجريدَ مع إقامةِ الله إِيَّاكَ في الأسباب من الشَّهوة
الخفيةِ، وإرادتُكَ الأسبابَ مع إقامةِ الله إِيَّاكَ في التجريد انحطاطٌ عن
الهِمَّةِ العَلَيَّةِ )
أو تريد أن تقول ما روي عن يوسف بن
الحسين:( إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص والكسب، فليس يجيء منه شيء )
قلت:
هو ذا ما أردت، فالله تعالى قال في كتابه:) وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(
(الذريات:56)، وفي الاشتغال بالكسب ترك ما خلق المرء لأجله وأمر به من عبادة ربه.
وقال تعالى:) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا
نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى(
(طـه:132)، والخطاب وإن كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالمراد أمته , فقد
أمروا بالصبر والصلاة وترك الاشتغال بالكسب لطلب الرزق، فالله قد ضمن الرزق
لعباده، ولا أظن ابن عطاء الله إلا استنبط قوله:( اجتهادُكَ فيما ضَمِنَ لكَ، وتقصيرُكَ فيما طَلَبَ منكَ،
دليلٌ على انْطماسِ البصيرةِ منْكَ ) إلا من هذه الآية.
وقال
..
قال المعلم: رويدك .. هذه شبهة تحتاج إلى تأن في طرحها، وهي
شبهة قديمة، لذلك سنعرض ما تستند إليه واحدا واحدا، لنبين وجه الحق فيه ووجه
الباطل.
قلت: نعم، فقد رسخت في بعض آثار هذه الشبهة من كتب قرأتها،
ومن واقع عشته.
قال:
أما الآيتين اللتين أوردتهما، فإن الذي قالهما هو الذي حث على السعي في الأرض
ابتغاء لرزق الله، فقد قال تعالى:) هُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ
رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ( (الملك:15)، أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها
وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات.
وقال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (
(الجمعة: 9، 10) ففي هاتين الآيتين إشارة إلى امتلاء وقت المسلم بالعمل، فهو قبل
الصلاة منشغل ببيعه، وبعده منشغل بالانتشار في الأرض بحثا عن فضل الله.
وقد وصف الله
تعالى أهله المعلقة قلوبهم ببيوته، فقال:) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ
تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ
رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ
الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ
وَالْأَبْصَارُ(
(النور: 36، 37)، فقد وصفهم الله بعدم اشنغالهم بالبيع والتجارة عن الله، ولم يكن
ليصفهم هذا الوصف لو لم يكونوا مشتغلين بهما.
قلت:
ولكن الله تعالى ضمن الرزق لعباده، فقال تعالى:) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا
كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ( (هود:6)، وقالتعالى:) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا
تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ( (العنكبوت:60)
قال: وهذا صحيح، وهل تتصور الإنسان
بسعيه يسعى لأجل صنع رزقه؟
قلت: ولم يسعى إذن؟
قال: هو يسعى للحصول على رزقه وأكله،
أما الرزاق فهو الله.
قلت: اشرح لي هذا، فإنه يصعب علي
فهمه.
قال: لو تأملت جميع أسباب الرزق التي
يرتزق منها الإنسان لوجدتها جميعا من دون الله، أما سعي الإنسان فهو مجرد تناول
لذلك الرزق وأكل له، ألم تسمع قوله تعالى:) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ
نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ
تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(
(الواقعة:63 ـ 67)
قلت: بلى، فما فيها من العلم.
قال: إن الله تعالى ينفي عنا في هذه
الآيات الوهم الذي نحمله في نفوسنا من أننا نحن المتسببون في حصول الزرع والثمار
اللذين هما الغذاء الأساسي للإنسان.
قلت: هذا ليس وهما، بل هذه حقيقة.
قال: لو كانت هذا حقيقة لمات الخلق
جميعا من الجوع، لأن ذلك سيستدعي موظفين يرعون النبتة ويمدونها بالحياة وأسباب
الحياة إلى أن تثمر، ولو اجتمع الخلق جميعا أن يفعلوا ذلك بنبتة واحدة لم يطيقوا،
بل الله هو الذي يمد النبتة بالقوى التي تمكنها من استغلال ما حولها من المياه
والتربة والهواء والضوء لتنتج لنا بعد ذلك ما شاء الله لنا من رزق.
قلت: فأنت تقول بتأثير الأسباب؟
قال: أي شيء تقوله في هذا صحيح، عزلت
الأسباب أو أثبتها، فالله هو الخالق، خالق العلة وخالق المعلول.
قلت: فهمت هذا، وأنا لا أجادل فيه،
ولكني أتحدث عن المقامات الرفيعة التي تهفوا إليها نفوس العارفين، ويخافون أن
ينشغلوا عنها بأي مكسب أو رزق.
قال: سادة العارفين هم الأنبياء، وقد
عرفت أحوالهم في طلب الرزق، ولم نطالب بالاقتداء الكامل إلا بهم، ألم تسمع قوله
تعالى:) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( (الأنعام: من
الآية90)
قلت: ولكن الأنبياء لا يشغلهم شيء عن
الله.
قال: تريد من
دونهم، فالصحابة y كانت لهم أشغالهم وحرفهم التي لم تلههم
عن الرسالة التي وكلت لهم من حفظ هذا الدين وتبليغه، فقد كان أبو بكر وعثمان وعبد
الرحمن بن عوف وطلحة y
بزَّازين.
ولما استُخْلِف أبو بكر t
أصبح غادياً إلى السوق، وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا:
أين تريد؟ فقال: السوق. قالا: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمور المسلمين؟ قال: فمن أين
أطعم عيالي؟
ويررون أنه لما
استُخْلِف أبو بكر جعلوا له ألفين. فقال: زيدوني فإن لي عيالاً، وقد شغلتموني عن
التجارة، فزادوه خمسمائة.
وكان عمر بن الخطاب t
إذا رأى غلاماً فأعجبه سأل عنه: هل له حرفة؟ فإذ قيل: لا، قال: سقط من عيني.
ويروى أنه مر بقوم من القراء فرآهم
جلوسا قد نكسوا رءوسهم فقال: من هؤلاء؟ فقال: هم المتوكلون فقال: كلا , ولكنهم
المتآكلون يأكلون أموال الناس , ألا أنبئكم من المتوكلون؟ فقيل: نعم , فقال: هو
الذي يلقي الحب في الأرض ثم يتوكل على ربه عز وجل.
وكان يقول: يا
معشر الفقراء، ارفعوا رؤوسكم، فقد وضح الطريق، فاستبقوا الخيرات، ولا تكونوا
عيالاً على المسلمين.
وقال سعيد بن
المسيِّب: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجرون في تجر الشام، منهم
طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، وهما من العشرة المبشَّرة بالجنَّة.
قلت: الصحابة
تربية الأنبياء، وبقية آثارهم ..
قال: تريد من
بعدهم، فقد كان التابعون ومَن بعدهم يكتسبون ويأمرون بالكسب:
فقد كان سعيد
بن المسيِّب يقول: من لزم المسجد، وترك الحرفة، وقبل ما يأتيه، فقد ألحف في
السؤال.
وكان أبو تراب
يقول لأصحابه: من لبس منكم مرقعة فقد سأل، ومن قعد في خانقاه أو مسجد فقد سأل.
وقال رجل لإمام
أحمد بن حنبل: إني في كفاية، فقال: الزم السوق تصل به الرحم وتعود به على عيالك .
وقال لرجل آخر:
اعمل وتصدَّق بالفضل على قرابتك.
وقال عن
أولاده: قد أمرتهم -يعني أولاده- أن يختلفوا إلى السوق وأن يتعرضوا للتجارة.
وكان يقول: أحب
الدراهم إليَّ درهم من تجارة، وأكرهها عندي الذي من صلة الإخوان.
وكان إبراهيم
بن أدهم يحصد، وسلمان الخوَّاص يلقط، وحذيفة المرعشي يضرب اللَّبِن.
قلت: أنا لا
أنكر السعي، ولكن ..
قال: أنت تتحدث
عن الهمة العالية .. أجبني أيهما أرفع همة المتكسب الذي يسعى لينال رزقه، وينال
الناس رزقهم بسببه، أم القاعد الذي ينتظر رزقه أن يأتيه؟
قلت: إن اشتغل
..
قاطعني، وقال:
قبل أن تجيبني اسمع لهذه القصة التي رويت عن عن شقيق البلخي t وقد كان من أهل العبادة والزهد، فقد
ودَّع صديقه إبراهيم بن أدهم t
لسفره في تجارة عزم عليها. ولم يلبث إلا مدة يسيرة، ثم عاد، ولقيه إبراهيم، فعجب
لسرعة إيابه من رحلته، فسأله عما رجع به قبل أن يتم غرضه، فقصَّ عليه قصة شهدها،
جعلته يغير وجهته ويلغي رحلته، ويعود قافلاً.
ذلك أنه نزل
للراحة في الطريق، فدخل خربة يقضي فيها حاجته، فوجد فيها طائراً أعمى كسيحاً لا
يقدر على حركة، فرَقَّ لحاله، وقال: من أين يأكل هذا الطائر الأعمى الكسيح في هذه
الخربة؟ ولم يلبث أن جاء طائر آخر يحمل إليه الطعام ويمده به، حتى يأكل ويشبع، وظل
يراقبه عدة أيام وهو يفعل ذلك، فقال شقيق: إن الذي رزق هذا الطائر الأعمى الكسيح
في هذه الخربة لقادر على أن يرزقني! وقرر العودة.
أتدري ما قال
له إبراهيم بن أدهم؟
قلت: ما قال؟
قال: قال له:(
سبحان الله يا شقيق! ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى العاجز الذي ينتظر
عون غيره، ولا تكون أنت الطائر الآخر الذي يسعى ويكدح ويعود بثمرة ذلك على من حوله
من العمي والمقعدين؟! أما علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:( اليد العليا
خير من اليد السفلى )؟
فقام إليه شقيق
وقبَّل يده وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق!
ويشبه هذا ما
ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن
فقيرا دخل زاوية إبراهيم المتبولي فجلس للعبادة ليلا ونهارا وترك الكسب، وكان
الشيخ لا يحب للفقير عدم التكسب، فقال له:( يا ولدي لم لا تحترف وتقوم بنفسك
وتستغني عن حمل الناس لك الطعام؟)، فقال:( يا سيدي لما دخلت زاويتكم رأيت في تلك الطاقة
بومة عمياء لا تطيق أن تسعى مثل ما يسعى الطيور، ورأيت صقرا يأتيها كل يوم بقطعة
لحم يرميها لها في طاقتها )، فقلت:( أنا أولى بالتوكل على الله من هذه البومة )،
فقال له إبراهيم:( ولم تجعل نفسك بومة عمياء؟ هلا جعلتها صقرا تأكل وتطعم البومة؟
) فقال الفقير:( التوبة ) وخرج للكسب.
قال: فأيهما
أرفع همة من تشبه بصفة الله ( الرزاق ) أم من تشبه بصفة العبد المرزوق؟
قلت: صحيح هذا
.. ولكن ألا تشغل المكاسب عن السلوك إلى الله؟
قال: السلوك
الصحيح لا يكون إلا في الواقع، فلا يمكن أن تأخذ الناس إلى الفلوات لتربيهم، وقد
كان بعض المشايخ المربين يقول:( ما أجمل أن يجعل الفلاح فأسه مِسبحته، ويجعل
النجار منشاره مِسبحته، ويجعل الحداد مطرقته مِسبحته، وهكذا )
وقد حكى ابن
عطاء الله ـ الذي أسأت فهم حكمته ـ عن
بداية صلته بشيخه أبي العباس المرسي، فذكر أنه سمع من أصحابه من طلبة العلم أن
الذي يصحب مشايخ الطريق يضمُر حظه في العلم الشرعي الظاهر، قال: فشقَّ عليَّ أن
يفوتني العلم، وشقَّ عليَّ أن تفوتني صُحبة الشيخ.
فلما ذهب إلى
الشيخ كان أول ما بادره به أن قال:( نحن إذا صحبنا تاجر، ما نقول له: اترك تجارتك
وتعال، أو صاحب صنعة، ما نقول له: اترك صنعتك وتعال، أو طالب علم، ما نقول له:
اترك طلبك وتعال، ولكن نقر كل أحد فيما أقامه الله فيه، وما قسم له على أيدينا فهو
واصل إليه.
قال: وقد صحب
الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما قال لتاجر: اترك تجارتك، ولا لذي
صنعة: اترك صنعتك، بل أقرَّهم على أسبابهم، وأمرهم بتقوى الله فيها.
اقتربت
من الباب الثالث، فقال المرشد: هذا باب تكفير الخطايا.
قلت:
أهذه جائزة تشجيعية؟
قال:
بل من أعظم الجوائز التشجيعية.
قلت:
فاضرب لي مثالا على ذلك أعيه، ويعيه قومي.
قال:
أتعلم أخطر ما يقف في وجه المجرم الذي تناهى في الإجرام، فيحول بينه وبين التوبة؟
قلت:
نفسه الأمارة بالسوء، وشيطانه الرجيم الذي يزرع في نفسه ما ينبت تلك الجرائم.
قال:
وتلك النظرات القاسية التي يجدها في المجتمع، إما نظرات الخوف أو نظرات الاستعلاء
.. فلذلك لا يجد علاجا يمسح به جرائمه إلا المزيد من الجرائم.
قلت:
هو إذن كالواقع في الإدمان يعالج الداء بالداء.
قال:
نعم هو كذلك .. ألا تعلم ما يدل على هذا المعنى من النصوص؟
قلت:
لعلك تشير إلى الذي قتل مائة نفس.
قال:
بلى، ولكنه في الحقيقة لم يقتل ظلما إلا تسعة وتسعين نفسا، أما النفس المائة فقد
كانت جانية على نفسها، لأنها قنطته من رحمة الله، واعتبرته كالثوب القذر الذي لا
ينفع معه أي مطهر.
قلت:
ولكن شعوره بإمكانية الطهارة جعلته مستعدا للطهارة.
قال:
بل جعلته طاهرا، ولولا طهارته ما قبضته ملائكة الرحمة، فما كانت لترحم منجسا.
قلت:
أريد توضيحا أكثر لهذا، أعيه ويعيه قومي.
قال:
أرأيت لو أعطيت ما شئت من الأموال على أن تتحمل جريمة من الجرائم الخطيرة، بأن
تنسبها إليك، ولو لم تفعلها، على أن يضمن لك البراءة من الملاحقة، أترضى بذلك؟
قلت:
لا .. ولا أظن أن هناك من يرضى، فالمال لا يمكنه أن يغسل الوسخ الذي ينشئه رميي
بتلك الجريمة في المجتمع.
قال:
فالبراءة إذن فوق الأجور؟
قلت:
بل أحيانا فوق الدرجات، فالمسؤول الكبير ينهار من برجه العاجي الذي بناه طول حياته
بسبب فضيحة واحدة تسببها شهوة من شهواته.
قال:
فقد أقررت إذن بأن تكفير الخطايا جائزة.
قلت:
نعم، فما أعظم أن يمسح السجل الإجرامي للمجرمين.
قال:
فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - إذن بأن التعب الذي ينال الإنسان جراء سعيه على
رزقه الحلال مكفر لخطاياه، ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:( ما يصيب المؤمن
من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن ولا أذى، ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله
بها من خطاياه )[35]
وقد ورد في حديث آخر ما هو أصرح من
ذلك، فقد روي انه - صلى الله عليه وسلم - قال:( من بات كالا في طلب الحلال بات
مغفورا له )[36]
قلت: فهذا أجر عظيم قد جعله الله
لطالب الرزق الحلال.
قال: ويمكنكم أن تستثمروا هذا النوع
من الأجر في الدنيا قبل الآخرة.
قلت: كيف، والمغفرة لها علاقة
بالآخرة فقط.
قال: ألا تعلم أن الله يحب تشبه
عباده بصفات كرمه، فهو كريم يحب الكرماء، رحيم يحب الرحماء، وقد قال - صلى الله
عليه وسلم -:( الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من
في السماء )[37]؟
قلت: بلى، فهذه حقيقة تدل عليها
النصوص الكثيرة.
قال: فيمكنكم استثمار هذا إذن،
فتضعوا لمن تعاقبوهم من الفرص ما يستعيدون به طهارتهم.
قلت: كيف ذلك، ونحن نعاقبهم؟
قال: فلماذا لا تجعلوا نيتكم من
عقوبتهم أن تطهروهم؟
قلت: ولكن الحق العام يأبى ذلك، فهو
يريد أن يشفي غليله من المجرمين.
قال: وذلك لا يمنعه من تطهيرهم، بل
الحق العام يستفيد من طهارتهم أكثر من استفادته من مجرد عقوبتهم.
قلت: ولكن كيف يحصل ذلك؟
قال: أنا لا طاقة لي بوضع اقتراحات
لكم، فأنتم أعلم بأمور دنياكم، ولكن إن تصدقوا في البحث، فستجدون من فرص الطهارة
التي تضعوها بين يدي المجرمين، ما يجعل منهم طاقات حية نافعة لا قاذورات مهملة
مرمية في الزنازن والسجون تقتلها الكآبة، أو ترتع فيها وساوس الشياطين.
قال ذلك، ثم اختفى واختفى صوته، لست
أدري هل انصرف عني أم انصرفت عنه، وقد وددت لو استدرجته فحدثني عن هذه الفرص التي
توضع بين أيدي المجرمين.
لقد كانت فكرة جميلة، لكن من
سيقبلها؟ وكيف ستطبق؟ وما علاقة ذلك بالسلام الاجتماعي؟ وما علاقتها ـ قبل ذلك
وبعده ـ بأحكام الشريعة؟
ناداني من أعماقي: أما أحكام
الشريعة، فلا تسأل عنها ففي قصة الذي قتل مائة نفس دليلها.
قلت: كيف ذلك، وما وجه الاستدلال؟
قال: إن العالم الصالح دل المجرم
الذي يريد الطهارة على فرصة من فرص الطهارة، فكان في سلوكه لها تحقق طهارته.
قلت: فهل ننفي المجرمين إلى الأراضي
الطاهرة؟
قال: لا تكن جامدا على ظواهر النصوص،
فهي تدل بصيرتك على الطريق ليسلكها بما أوتي من نور البصيرة.
ثم سكت صوته، لتنبعث أصوات كثيرة في
أعماقي تستدعي الفقهاء وأهل الخبرات المختلفة للبحث عن البدائل التي تنظر إلى
المجرمين كثياب اتسخت يمكن تنظيفها، لا كسموم لا يصلح معها إلا الدفن في سراديب
النسيان.
اقتربت
من الباب الرابع، فقال المرشد: هذا باب ( زيادة البركات )
قلت:
فما الجائزة التي يختزنها هذا الباب؟
قال:
هي من الجوائز التي ينالها صاحبها في الدنيا قبل الآخرة، ألم تعلم بأن الله تعالى يعجل لعباده الصالحين بعض جوائزهم في الدنيا قبل الآخرة؟
قلت:
بلى، فقد قال تعالى:) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ
أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( (النحل:97)
وقال عن أوليائه:) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( (يونس:64)
وأخبر
- صلى الله عليه وسلم - أن الثناء الذي يلقاه المؤمن جزء من البشارة التي يبشر بها
في الدنيا قبل الآخرة، فقد روي عن أبي ذر الغفاري t أنه قال: يا
رسول اللّه: الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه ويثنون عليه به، فقال رسول اللّه
- صلى الله عليه وسلم -:( تلك عاجل بشرى المؤمن )[38]
ولهذا جعل الله يوم الفطر الذي هو
خاتمة شهر رمضان يوما ينال فيه عباده جوائزهم على فطره، فقد روي أنه - صلى الله
عليه وسلم - قال:( إذا كان يوم الفطر نادى مناد من السماء هذا يوم الجائزة فاغدوا
فخذوا جوائزكم )[39]
قال:
وأخبر تعالى عن تنزل البركات على المؤمنين المتقين، فقال تعالى:)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ( (لأعراف:96)
قلت: فما البركات؟
قال: هي أن يصبح القليل كثيرا،
والصغير كبيرا، والضعيف قويا؟
قلت: كيف ذلك، ولا أرى أنه من الممكن
تحول قنطار السميد إلى قنطارين، فكيف يصبح القليل كثيرا؟
قال: ألم تسمع حكمة ابن عطاء الله:( رب عمر اتسعت آماده، وقلت أمداده.ورب عمر قليلة آماده،
كثيرة أمداده )؟
قلت:
بلى، فهو يتحدث عن شيء واقعي ممكن، فقد يرزق الله من فضله صاحب العمر القصير من
الأمداد والفوائد ما لا يظفر به المعمرون.
وقد
أشار إلى هذا في الحكمة الأخرى التالية لهذه، بقوله:( من بورك له في عمره أدرك في
يسير من الزمن من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة
)، أي أن من بورك له في عمره بأن رزق من اليقظة ما يحمله على اغتنام الأوقات،
وانتهاز فرصة الإمكان خشية الفوات، فبادر إلى الأعمال الصالحة، واستفرغ في ذلك
مجهوده، أدرك في يسير من الزمن من المنن الإلـهية والمعارف الربانية ما لا يدخل
تحت دوائر العبارة لقصورها عن الإحاطة به ؛ ولا تلحقه الإشارة إليه لعلوه في مقامه
ومنصبه ؛ فيرتفع له في كل ليلة من لياليه من الأعمال الصالحة ما لا يرتفع لغيره في
ألف شهر ؛ فتكون لياليه كلها بمنزلة ليلة القدر، كما قال أبو العباس المرسي:
أوقاتنا والحمد لله كلها ليلة القدر)
قال:
فقد فهمت ـ إذن ـ معنى البركة.
قلت:
لقد فهمت معنى البركة في العمر، فهو لا بآماده، بل بأمداده، وعلى هذا وردت النصوص،
كقوله - صلى الله عليه وسلم -:( إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه،
ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر )[40]،
وورد في الحديث أن صلة الرحم تزيد في العمر، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( من سره أن يبسط له رزقه وينسأ له أثره فليصل رحمه )[41]
لكني
لم أفهم بعد كيف يصبح القليل كثيرا ..
قال: ألم تقرأ الاحاديث التي ورد فيها تكثير الطعام لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم -؟
قلت: بلى، فقد حصل مرات كثيرة، منها
ما روي عن جابر t قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت لنا كدية شديدة، فجاءوا النبى -
صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذه كدية عرضت فى الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام
وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبى - صلى الله عليه
وسلم - المعول فضرب فعاد كثيباً أهيل ( أو
أهيم ) فقلت:( يا رسول الله إئذن لى إلى
البيت)، فقلت لامرأتى:( رأيت بالنبى - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ما كان لى فى ذلك صبر، فعندك شىء؟)، قالت:( عندى شعير
وعناق)، فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم فى البرمة، ثم جئت النبى - صلى
الله عليه وسلم - و العجين قد انكسر و البرمة بين الأثافى قد كادت أن تنضج، فقلت:(
طعيّم لى، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان)، قال:( كم هو؟) فذكرت له، قال:( كثير طيب، فقل لها لا تنزع
البرمة و لا الخبز من التنور حتى آتى )، ثم نادى المهاجرين و الأنصار فقال لهم:(
يا أهل الخندق، إن جابرا قد صنع سوراً فحىّ هلا بكم )، فلما دخل جابر على امرأته قال:( ويحك جاء
النبى - صلى الله عليه وسلم - بالمهاجرين و الأنصار ومن معهم ) قالت:( هل سألك كم طعامك؟) قال ( نعم )،
قالت:( الله ورسوله أعلم )
ثم جاء النبى - صلى الله عليه وسلم -
فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمّر البرمة و
التنور إذا أخذ منه شىء، ويقرب الى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى
شبعوا وبقى بقية، قال:( كلى هذا واهدى، فإن الناس قد أصابتهم مجاعة )[42]، وفى رواية:(
فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوا وانصرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هى، وإن عجيننا
ليخبز كما هو )
ومثل هذا ما يروي أبو هريرة t
قال: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت
لأشد الحجر على بطني من الجوع. ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه فمر بي
النبي - صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآني وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم
قال:( أبا هر، قلت: لبيك يا رَسُول اللَّهِ. قال:( الحق ) ومضى فاتبعته، فدخل
فاستأذن فأذن لي. فدخلت فوجد لبناً في قدح فقال:( من أين هذا اللبن؟) قالوا: أهداه
لك فلان أو فلانة. قال:( أبا هر ) قلت:( لبيك يا رَسُول اللَّهِ ) قال:( الحق إلى
أهل الصفة فادعهم لي ) قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال
ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية
أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها. فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل
الصفة! كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربةً أتقوى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا
أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة اللَّه وطاعة رسوله -
صلى الله عليه وسلم - بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا
مجالسهم من البيت. قال:( أبا هر ) قلت: لبيك يا رَسُول اللَّهِ. قال:( خذ فأعطهم )
قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح، فأعطيه
الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى
انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه
على يده فنظر إلي فتبسم فقال:( أبا هر ) قلت: لبيك يا رَسُول اللَّهِ. قال:( بقيت
أنا وأنت ) قلت: صدقت يا رَسُول اللَّهِ. قال:( اقعد فاشرب ) فقعدت فشربت. فقال:(
اشرب ) فشربت. فما زال يقول:( اشرب ) حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق لا أجد له
مسلكاً. قال:( فأرني )، فأعطيته القدح فحمد اللَّه تعالى وسمى وشرب الفضلة[43].
قال: فقد رأيت أن هذا القليل الذي لا يشبع النهم تحول إلى الكثير، فيطعم أمة
من الناس.
قلت: ولكن هذا يذكر على سبيل المعجزة، فهو معجزة لنبينا - صلى الله عليه وسلم
-، لا يذكر كسنة عامة تشمل جميع الناس، وحديثنا هنا عن العموم لا عن الخصوص.
قال: ألم تسمع قوله تعالى:) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ( (لأعراف:96)،
أفهذه الآية خاصة بالأنبياء، أم بأمم الأنبياء؟
قلت: بل بأمم
الأنبياء.
قال: فقد وعد
الله بتنزل البركات عليهم، وهو يعني ما ذكرناه من تحول القليل كثيرا، والضعيف
قويا، والهزيل سمينا ..
قلت: أنا لا
أناقش في هذا، ولكن أناقش في تصوره، فلم أر في حياتي تحول الموازين ولا المقاييس
..
قال: أرأيت إن
خيرت بين أن ترزق مالا قليلا، ولكن يبارك لك فيه، فلا تستهلكه إلا فيما يفيدك،
ويمتعك، وبين أن ترزق مالا كثيرا، ولكن ترزق معه من البلاء كالأمراض والأشغال ما
يفنيه ويحوله قليلا لا يكاد ينفعك.
صحت: بل أرضى
بالقليل، فما فائدة الكثير الذي يرهقني، ثم لا أستفيد منه.
قال: فهذا
القليل تحول بسبب مباركة الله له إلى كثير، بل إلى ما هو أفضل من الكثير .. أجبني
.. لو خيرت بين أن يكون لك عشرة من البنين، وكلهم عاق ومنحرف، وبين أن يكون لك ولد
واحد، ولكنه بر تقي وصول، فأيهما تختار؟
قلت: بل الولد
الواحد، فما فائدة العشرة التي لا تزيدني ولا تزيدهم إلا ضياعا وضلالا.
قال: فقد بورك
إذن في الولد الواحد بسبب تقواه فصار أفضل من العشرة.
قلت: فقد فهمت
إذن، فالشيء يبقى هو نفسه، ولكن الله تعالى يبارك فيه بحمايته من الآفات، فيصبح
بتلك الحماية كافيا.
قال: ليس هذا
فقط، بل إن الله برحمته وبركته يمده من الزيادة ما لا نستطيع أن نتعرف عليه ..
فليس العالم شهادة فقط .. وكما للحكمة مظاهرها، فللقدرة مظاهرها.
قلت: لقد
نبهتني إلى نوع مهم من الغنى لا يفطن له كثير من الفقراء.
قال: ما هو؟
قلت: إن الله
يبارك في كثير من أولاد الفقراء، فينجحون في حياتهم، بل يكونون سببا في خروج
آبائهم من ضائقة الفقر، بينما يتيه أولاد كثير من الأغنياء في أودية الغفلة ..
فهذا من بركات الفقر على أهله.
قال: لا تفهمني
خطأ، فالبركة تشمل الغني والفقير، ونحن لا نفضل أحدهما، بل للبركة أسبابها التي
تحل بمن تحقق بها.
قلت: فما
أسبابها، فقد شوقتني إليها.
قال: أولها
الالتزام الذي أشار إليه قوله تعالى:) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ( (لأعراف:96)
قلت: عرفت هذا
.. فهل هناك أسباب أخرى؟
قال: القناعة،
فهي من أعظم أسباب البركة، ولعلك فهمت سبب ذلك عند زيارتك لقصر القناعة.
قلت: بلى، وقد
صرحت الأحاديث بذلك، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام:( يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه
بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع )[44]
قال: ومن أسبابها الصدق، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( البيعان بالخيار ما
لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما
)[45]
ومن أسبابها النشاط ..
قلت: وما النشاط؟
قال: عدم الخلود إلى الكسل في أوقات البركة؟
قلت: أهناك أوقات للبركة؟
قال: نعم، والعاقل هو الذي يبحث عنها.
قلت: أين؟
قال: في الشريعة والواقع.
قلت: أي في النصوص الشرعية، وفي البحث في سنن الحياة.
قال: نعم، فكلاهما كتاب الله تعالى.
قلت: فاضرب لي مثالا على ذلك.
قال: ما ورد في النصوص من استحباب التبكير، فقد دعا - صلى الله عليه وسلم -
لذلك، فقال:( اللهم بارك لأمتي في بكررها )[46]، ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية بعثها أول النهار.
وقد قال بعض السلف:( عجبت لمن يصلي
الصبح بعد طلوع الشمس كيف يرزق!؟ )
قلت: فهمت هذا، ولعله سبب مهم جدا من أسباب الفقر، فإني أرى في الواقع الرجل
ينهض وقت الضحى يتثاءب كسلا، ليطلب رزقه، ثم يشكو من سد أبواب الرزق في وجهه.
قال: ليس هذا فعل رجل واحد فقط، بل كلكم يفعله.
قلت: كيف؟
قال: أنتم تبدأون يومكم من نصفه لا من أوله.
قلت: كيف؟
قال: ألا تدعون الشمس حتى تطلع، لتنطلقوا في أعمالكم؟
قلت: هذه مواقيت عالمية للعمل.
قال: وما دخل العالم بهذا .. هي مصالحكم وأنتم أدرى الناس بها، ولو لم تناموا
ليلا ولا نهارا من أجل الحفاظ عليها لم يناقشكم أحد فيها.
قلت: ولكنهم يحمدون نوم الصباح، بل إن بعضهم يسخر من قول المؤذن:( الصلاة خير
من النوم )
قال: تسخرون من أنفسكم ومن حياتكم ومن مصالحكم، أما المؤذن فلم يرد لكم ولا
بكم إلا الخير.
قلت: فاضرب لي مثالا من سن الحياة.
قال: هو نفس هذا المثال، فالعلم يؤكد الدين، والخبرة تقرر الشريعة، واسمع لهذا
الخبير[47] ..
فجأة ظهر خبير يقول من غير أن أسأله: لقد أثبت العلم الفوائد الصحية التي
يجنيها الإنسان بيقظة الفجر، وهي كثيرة نذكر منها هذه الفوائد الأربعة.
قلت: أنت أيضا مغرم بالأربعة .. فما الفائدة الأولى؟
قال: إن أعلى نسبة لغاز الأوزون (O3) تكون في الجو عند الفجر، وتقل تدريجياً حتى تضمحل
عند طلوع الشمس، ولهذا الغاز تأثير مفيد للجهاز العصبي، ومنشط للعمل الفكري و
العضلي، بحيث يجعل ذروة نشاط الإنسان الفكرية والعضلية تكون في الصباح الباكر،
ويستشعر الإنسان عندما يستنشق نسيم الفجر الجميل المسمى بريح الصبا لذة ونشوة لا
شبيه لها في أي ساعة من ساعات النهار أو الليل .
قلت: فما الفائدة الثانية؟
قال: إن أشعة الشمس عند شروقها قريبة إلى اللون الأحمر، ومعروف تأثير هذا
اللون المثير للأعصاب، والباعث على اليقظة والحركة، كما أن نسبة الأشعة فوق
البنفسجية تكون أكبر ما يمكن عند الشروق، وهي الأشعة التي تحرض الجلد على صنع
فيتامين د .
قلت: فما الفائدة الثالثة؟
قال: الاستيقاظ الباكر يقطع النوم الطويل، وقد تبين أن الإنسان الذي ينام
ساعات طويلة وعلى وتيرة واحدة يتعرض للإصابة بأمراض القلب وخاصة مرض العصيدة
الشرياني الذي يأهب لهجمات خناق الصدر لأن النوم ما هو إلا سكون مطلق، فإذا
دام طويلاً أدى ذلك لترسب المواد الدهنية على جدران الأوعية الشريانية الإكليلية
القلبية.
قلت: فالمؤمنون الذين:) يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً
وَقِيَاماً( (الفرقان: من الآية64) بمنأى عن هذه الأمراض إذن؟
قال: نعم، فهم بذلك قد تجنبوا سببا مهما من أسباب هذه العلل.
قلت: فما الفائدة الرابعة؟
قال: من الثابت علمياً أن أعلى نسبة للكورتزون في الدم هي وقت الصباح حيث تبلغ
(7 ـ 22 ) مكروغرام / 100 مل بلاسما، ومن المعروف أن الكورتزون هو المادة
السحرية التي تزيد فعاليات الجسم بالطاقة اللازمة له.
قلت: هذه الفوائد الصحية، فما الفوائد الاجتماعية؟
قال: إذا ما أضيف إلى هذه الفوائد ما ذكره الخبراء في فوائد الصلاة والوضوء،
والتي ورد ذكرها في ( ابتسامة الأنين ) تجد المؤمن يستقبل يومه الجديد بجد و نشاط،
ويباشر أعماله اليومية في الساعات الأولى من النهار، حيث تكون إمكاناته الذهنية و
النفسية و العضلية على أعلى مستوى، مما يؤدي لمضاعفة الإنتاج، كل ذلك في عالم ملؤه
الصفاء و السرور و الانشراح و لو تصورنا أن ذلك الإلزام أخذ طابعاً جماعياً فسيغدو
المجتمع المسلم، مجتمعاً مميزاً فريداً و أهم ما يميزه هو أن الحياة تدب فيه منذ
الفجر.
ثم ذهب فجأة كما جاء، فالتفت للمعلم قائلا: فللبركة أسبابها إذن؟
قال: لكل شيء سببه، ألم تسمع قوله تعالى:عن ذي القرنين: ) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ
وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً( (الكهف:84)،
فهل نجح ذو القرنين في المهمة التي وكلت له من غير اتباع
الأسباب؟
قلت: كلا، فقد قال الله تعالى:) فَأَتْبَعَ سَبَباً( (الكهف:85)
قال: ولكن قومك المشغوفين بتحريف المعاني حرفوا معنى البركة تحريفا عظيما.
قلت: أجل .. فهم يذهبون إلى من شهروه بينهم بالولاية يلتمسون بركاته.
قال: فما بركاته؟
قلت: كسر خبز، أو قطع مناديل، أو حبات تمر.
قال: فما يفعلون بها؟
قلت: يعالجون بها أسقامهم، ويقضون بها حاجاتهم.
قال: فمرهم
بالتوبة إلى الله، فببركات الله لا تنال إلا من يد الله، ولا تمد اليد إلى الله
إلا إذا يئست من غير الله.
([2] ) وليس المراد من ذلك أن
كل من ذاق طعم الكفر والمعاصي يكون اعلم بذلك واكره له ممن لم يذقه مطلقا، لأن هذا
ليس بمطرد، فقد يكون الطبيب اعلم بالامراض من المرضى، والانبياء ـ عليهم الصلاة
والسلام ـ أعلم الناس بما يصلح القلوب ويفسدها، وان كان احدهم لم يذق من الشر ما
ذاقه الناس. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية: 10/301.
([14] ) البخاري ومسلم، وهذا
لفظ مسلم، وفي رواية البخاري: أن رجلاً قال: يا رَسُول اللَّهِ دلني على عمل يعدل
الجهاد. قال:« لا أجده » ثم قال:« هل
تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟»، فقال:
ومن يستطيع ذلك!
([21]) الحاكم عن اليسع بن
المغيرة، واليسع بن المغيرة المخزومي المكي قال أبو حاتم: ليس بالقوي وذكره ابن
حبان في الثقات. تهذيب التهذيب:11/378.
([22] ) قال القرطبي:« سوى الله
تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه
وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه
جمعه مع الجهاد في سبيل الله»، القرطبي: 19/55.
([30]) الفسيل: صغار النخل وهي
الودي والجمع فسلان مثل رغيف ورغفان الواحدة فسيلة وهي التي تقطع من الأم أو تقلع
من الأرض فتغرس. المصباح 2/647.
([32] ) يعده الحنفية من
المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب، وقد حبس مدة طويلة وألف
أكثر كتبه وهو سجين .
([37] ) أحمد وأبو داود
والترمذي والحاكم عن ابن عمر، زاد أحمد والترمذي والحاكم: والرحم شجنة من الرحمن
فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله.
([41] ) قد يظن من لا يفرق بين
أنواع المقادير بأن هذا معارض بقوله U:) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ(
(لأعراف:34)، والآيات الكثيرة الواردة في ذلك كقوله U:) لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ
الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)(آل عمران: من
الآية154)، وقوله U:) قُلْ لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً
لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً( (الأحزاب:16)، وقوله U:) أَيْنَمَا تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)(النساء: من
الآية78)، وقوله U:) الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا
لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ( (آل عمران:168) وقوله U:) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً)(آل عمران: من
الآية145)
ولكن التفريق بينها
يبين موضع التقدير الأول والتقدير الثاني، فالأول، وهو التقدير الاحتمالي مما
يحتمل النسخ، بخلاف التقدير الثاني الذي هو في أم الكتاب، والذي لا تغيير فيه ولا
تبديل.
وما ذكرنا من حمل
الحديث على ظاهره هو ما فسره به ترجمان القرآن ابن عباس t عندما قيل له:« كيف يزاد في العمر والأجل؟ »، فقال:« قال الله
تعالى:) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ
قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ(
(الأنعام:2)، فالأجل الأول أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني ـ
يعني المسمى عنده ـ من حين وفاته إلى يوم
يلقاه في البرزخ لا يعلمه إلا الله؛ فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده الله في
أجل عمره الأول من أجل البرزخ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره
في الدنيا ما شاء، فيزيده في البرزخ »، فهذه الزيادة في نفس العمر وذات الأجل كما
هو ظاهر اللفظ، في اختيار حبر الأمة.
والقول بهذا لا يعني
ما قاله بعض الطوائف من أنه لو لم يقتل القتيل لعمر، فإن ذلك يجعل الله U جاريا تحت أحكام عباده، أو أن علمه غير محقق، وهذا هو البداء الذي
ينزه الله عنه.
وإنما اعتمدنا في هذا
القول على ما ورد في النص، فمن الخطأ تحكيم بعض النصوص، وإلغاء بعضها، بل يحكم كل
نص على محله.
انظر تفاصيل المسألة
في:« أسرار الأقدار » من رسائل السلام.