المؤلف: نور الدين أبو
لحية |
العودة للكتاب: مفاتيح المدائن |
الناشر: دار الكتاب الحديث |
الفهرس
رابعا ـ أبواب
الجهد
خرجنا
من أبواب المال لندخل أبواب الجهد، قلت للمعلم: سندخل الآن أبواب الجهد، لنرى
أنواع الأعمال التي يحتوي عليها هذا القصر البديع.
قال
المعلم: لن نجد في هذا الباب عمالا.
قلت:
طبعا .. كما لم نجد في باب المال أموالا.
قال:
ليس الشأن أن تعمل، ولكن الشأن أن تعرف ماذا تعمل، ولماذا تعمل.
قلت:
أهذا هو قانون العمل؟
قال:
نعم .. فقد يحمل الأحمق فأسا يريد به تحويل البحر إلى الصحراء، أو الجبل إلى
البيداء.
قلت:
ولكنهم فعلوا .. ألم يربطوا بين البحر الأحمر والبحر الأبيض؟
قال:
أكان حمقا ما فعلوا؟
قلت:
لا .. بل عين العقل .. ولو أنهم انتهكوا كل الحرمات بسببه.
قال:
ولماذا ربطوا بينهما؟ أنفد ماء البحر الأحمر، فزودوه بماء الأبيض؟
ضحكت،
وقلت: لا .. بل رأوا شدة حمرة البحر الأحمر، فخففوها بلون البحر الأبيض.
ضحك،
وقال: أخبرني بجد .. لماذا اجتهدوا كل ذلك الجهد؟
قلت:
لمصالح كبيرة رأوها في ذلك.
قال:
وهل هذه المصالح تستحق ما بذل من جهود.
قلت:
أجل، فقد ساهم هذا الوصل في الإنتاج، فربح المصريون من هذه القناة التي حفروها ما
لم يربح أي صاحب قناة أخرى .. اللهم إلا القنوات الفضائية ..
قال:
فقد ذكرت إذن أن المصريين لم يكن غرضهم من الحفر مجرد الحفر؟
قلت:
بل كان غرضهم تحقيق مصالحهم .. وتوفير إنتاجهم.
قال:
فهل حقق هذا الجهد بعض تلك المصالح؟
قلت:
أجل .. بل كفى المصريين، بل العالم جهودا كبيرة كانت نجثم على كواهلهم قبل حفر هذه
القناة.
قال:
فقد ذكرت ثلاثة أشياء خطرت على بال المصريين، وهم يمسحون على عرقهم جهد الحفر.
قلت:
أجل، ذكرت: الإنتاج، والمصلحة، والكفاية.
قال:
وأضف إليها: الشرعية.
قلت:
عم تتحدث يا معلم .. نحن نتحدث عن قناة السويس .. فما علاقة الشرعية بهذا .. تذكرت
.. تقصد الشرعية الدولية.
قال:
لا .. بل أقصد الشرعية الربانية.
قلت:
وما علاقتها بهذا .. لقد نسينا يا معلم .. تهنا عن أبواب الجهد بالحديث عن قناة
السويس.
قال:
لا .. لم نته نحن الآن نبحث عن أبواب الجهد.
قلت:
لم نسر حتى نبحث عنها.
قال:
نبحث عنها بعقولنا قبل أن نبحث عنها بأعيننا، ألم تعلم أن العقول هي دليل العيون؟
قلت:
بلى .. فكيف نبحث عنها .. ومن أين نبدأ؟
قال:
لقد بحثنا عنها ووجدناها.
قلت:
متى؟
قال:
الآن.
قلت:
وما هي؟
قال: أربعة: الإنتاج، والمصلحة، والكفاية،
والشرعية.
قلت:
نعم .. لقد عرفتها .. لقد اكتشفت أنا ثلاثة .. واكتشفت أنت الرابع ..
ضحك
وقال: لا تزال فيكم روائح قارون.
قلت:
أي روائح؟
قال:
ألم يقل:) إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ( (القصص: من
الآية78) تبرأ إلى الله من علمك ليعلمك العلم الذي لا تمحوه مياه الدنيا.
شعرت
بحياء تقاطر منه عرقي، ثم قلت: فما أقول؟
قال: قل ما قال
أعرف العارفين بالله.
قلت:
تقصد الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ
قال:
أجل، ألم يقل يوسف u:)
ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي( (يوسف: من
الآية37) .. ألم يقل سليمان u:)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْر( (النمل: من
الآية16) .. ألم تقل قبل ذلك الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ:) سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ
لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( (البقرة: من
الآية32)
قلت:
بلى .. لقد علمنا الله .. وأستغفر الله.
قال:
فسل الله يعلمنا من معانيها ما علمنا من ألفاظها.
اقتربت من الباب الأول من أبواب الجهد، فقال المعلم: هذا
باب الشرعية، وهو أول باب من أبواب الجهد، ولا يصح دخول سائر الأبواب إلا بعد حمل
ترخيص منه.
قلت: أعلم سر كونه أول باب من أبواب الجهد، فلا يحل لأحد أن
يدخل أمرا حتى يعلم حكم الله فيه، ولهذا اشترط الفقهاء فيمن يتصدى
للعمل بالسوق ـ مثلا ـ أو يمارس أي عمل تجاري أن يكون فقيهاً بأحكام البيع
والشراء، عالماً بالحلال والحرام، حتى تكون معاملته صحيحة بعيدة عن الفساد.
قال: بل نص على
ذلك عمر t عندما قال:( لا يَبِعْ في سوقنا إلا من تفقه في الدين )[1]، وقد كان t
يطوف بالسوق، ويضرب بعض التجار بالدرة، ويقول:( لا يبيع في سوقنا إلا من يفقه،
وإلا أكل الربا شاء أم أبى )
قلت: بل نص قبل
ذلك كله القرآن الكريم ـ فالله هو الذي أحل لنا البيع، فقال تعالى:) وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ( (البقرة: من
الآية275)، وهو الذي حدد لنا مواقيت تحريمه، فقال:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ( (الجمعة:9)، وهو
الذي حدد لنا مواقيت إباحته، فقال تعالى:) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ( (الجمعة:10)
قال: بل هو
الذي حدد لنا فوق ذلك كله ميادين الجهد وضوابطه وقواعد أحكامه.
قلت للمعلم:
فلنخرج من هذا الباب إذن، فلا أرى أنا سنستفيد شيئا جديدا، ولنبحث في الأبواب
الأخرى عن الجديد.
قال: لا .. ألا
تعلم ثمار العجلة .. انتظر .. فلن ترى ما في سائر الأبواب من كنوز حتى تعلم ما في
هذا الباب.
قلت: ولكنه باب
الفقهاء والمفتين، بل هو الباب الذي يصيرون به فقهاء ومفتين .. فلنتركه لهم ..
ولنذهب إلى ما نحن فيه.
قال: ألا تعلم
أن الدين كل متكامل لا يصح التفريق بين تخصصاته!؟
قلت: ولكن
الفقهاء لن يرضيهم أن نزاحمهم أسرار مهنتهم، وخصائص وظائفهم .. ولا يرضون فوق ذلك
كله أسلوبك النقدي الجارح في التعامل مع الأشياء.
قال: السلام لا
ينتقد .. ولا يجرح .. السلام يصف الحقائق .. فيجرح الباطل بوصفه لا بفعله.
قلت: ولكن
الجرح يظل جرحا سواء تسببت فيه أو لم تتسبب.
قال: لا .. الجروح
مختلفة .. هناك جروح تولد الأدواء .. وهناك جروح تنبت الشفاء.
قلت: لم أسمع
أن جسم الإنسان أرض تحتاج أن تحرث حتى تنبت.
قال: ولكن روح
الإنسان أرض لا يصح استنباتها قبل حرثها.
قلت: لا أقبل
منك هذا إلا بشاهد .. فالروح عالم آخر .. وقد قال تعالى:) وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً( (الاسراء:85)
قال: الشاهد
قوله تعالى:) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً
كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ وَمَثَلُ
كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا
لَهَا مِنْ قَرَارٍ( (ابراهيم:26)،
أتعلم الكلمة الطيبة المقصودة في هذه الآية.
قلت: لا إله
إلا الله.
قال: بم شبهت؟
قلت: بالشجرة
الطيبة.
قال: وأين
تغرس؟
قلت: في الروح.
قال: وغرسها
يحتاج إلى حفر حفرة لها.
قلت: ذلك صحيح،
بدليل قوله تعالى:) أَصْلُهَا ثَابِتٌ (
قال: فالحق
أقول لك: إن كل من لم يجرح لم ينبت.
قلت: ولكنك
تريد أن تجرح الفقهاء.
قال: أرأيت لو
مرض ولدك واحتجت إلى إجراء عملية له، والعملية تحتاج إلى جرح .. هل تتركه لآلامه
حرصا عليه .. أم ترضى بأن يجرح؟
قلت: بل أبذل
الأموال لذلك.
قال: فالجرح
إذن لا ينم عن حقد، وإنما عن حب ورحمة.
قلت: ولكن
الفقهاء يتربعون في أبراج عاجية.
قال: فلننزلهم
منها .. ونتحدث معهم .. ألم يكن - صلى الله عليه وسلم - يحادث الصبي والعجوز؟ ..
ألم تناقشه امرأة وتجادله .. فسمع لها من غير أن يقاطعها إلى أن جاء تأييد الله
لها؟.. ألم توقف امرأة عمر t لتناقشه، فيسمع لها .. بل يقبل منها .. بل يعترف أمامها وأمام
الناس بخطئه وصوابها؟
قلت: بلى، فقد روى
مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ثم قال:
أيها الناس ما إكثاركم في صداق النساء!! وقد كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم
- واصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم، فما دون ذلك. ولو كان الإكثار في
ذلك تقوى عند اللّه أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة
على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل. فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين
نهيت الناس عن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم؟ قال: نعم، فقالت أما سمعت
ما أنزل اللّه في القرآن؟ قال: وأي ذلك؟ فقالت: أما سمعت اللّه يقول:) وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً ( (النساء: من
الآية20) قال: اللهم غفراً، كل الناس أفقه
من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال:( أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في
صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب ) وفي رواية:( امرأة أصابت ورجل أخطأ )[2]
.. ولكن مع
ذلك، فهو عمر .. ومن يرتقي إلى ما ارتقى إليه عمر؟
قال: دع عنك
لكن وأخواتها .. وسر بنا نتبصر حقائق النور، ولا يهمنا من عارضها أو وافقها ..
قلت: ولكن من
أي باب ندخل، فقد نتهم في ديننا؟
قال: ندخل من
باب النصيحة لأئمة المسلمين .. أليس الفقهاء من أئمة المسلمين؟
قلت: تقصد قوله
- صلى الله عليه وسلم -:( إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة )
قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال:( لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم )[3]
قلت: فما هي
أبواب هذا الباب؟
قال: أربعة.
قلت: أعلم أنها
أربعة .. ولكن ما هي؟
قال: الورع،
والرفق، والواقعية، والاجتهاد.
قلت: فما وجه
الحصر فيها؟
قال: ليس هذا
حصرا .. وإنما هذه نواح أساسية لاحظت بعض غيابها .. ويمكن اعتبارها حصرا بنوع من
التكلف أمقته.
قلت: فما هو ..
فلعلي أستحلي ما تمقته.
قال: لا يحل أن
تقدم على جهد حتى تعلم حكم الله فيه، فإن لم تفعل، فقد تركت الورع، واقتحمت
الحرمات أو الشبهات.
قلت: هذه
الأولى، فما الثانية؟
قال: من
استفتيته في الذي شاك في صدرك يحتاج إلى أن يرفق بك، فلا يشدد عليك تشديدا يضر
بمصالحك.
قلت: فأنا لآن
بين قبضتين: إحداهما تشدني، والأخرى ترسلني.
قال: ولا
يستقيم حالك إلا بذلك، فإنك إن شدد عليك انقبضت ولم تعمل شيئا، وإن أرخي عليك
تفسحت، ويوشك أن تتفسخ وتنحل.
قلت: فهذان
يكفيان وهما منحصران، فما الحاجة إلى الثالث والرابع.
قال: الثالث
يزج بك في الواقع .. ويخرج من الخيال والمثل.
قلت: فما
الحاجة إلى هذا؟
قال: هو ما أرى
قومك فيه من غرق في واقع سبق، أو أحلام لواقع لم يحضر.
قلت: تقصد أننا
بعيدون عن الواقع.
قال: في أحيان
كثيرة، وهو ما جركثيرا منكم إلى الانحراف عن الشرع بحجة التخلف أو بحجة المثالية.
قلت: والرابع؟
قال: يبحث لك
عن الأحكام، ويضع لك البدائل.
قلت: أشعر أن
هناك بعض الحصر في هذه الأربع.
قال: لا يهمك
ذلك .. بل الأهم هو أن تتحقق بالمعاني، لا أن تدقق في التصنيف.
قلت: التدقيق
طريق التحقيق.
قال: هلم إلى
الأبواب ننهل منها ما يعرفنا حقائق الشرع.
تقدمت مع
المعلم إلى الباب الأول من أبواب ( الشرعية )، فرأيت صورة لرجل يلوح النور في
وجهه، يتحرك حركات منتظمة دقيقة على صراط معتدل مستقيم، وكلما لاح له شيء يريد أن
ينحرف به عن مساره فتح كتابا كان يحمله لينظر ما فيه، ثم يستمر على سيره.
وكان الصراط دقيقا
جدا .. لعله أدق من الشعرة، وأحد من السيف .. فلذلك كان يسير، وفي قلبه خوف من أن
يحيد قيد أنملة، فيقع أسفل ذلك الصراط .. وهو حيات وعقارب.
سألت المعلم
عنه، فقال: هذا باب الورع، وهو أول باب من أبواب الشرعية .. لا يحل دخول سائر
أبواب الشرعية إلا منه.
قلت: فمن هذا
الرجل الذي على هذه الصورة.
قال: هذا رجل
منكم امتلأ ورعا، فراح يحمل جميع حركاته على هدي الله، فلا يحيد عنه قيد أنملة.
قلت: ليت
المسؤولين عن هذه المدينة يعلمون مدى إخلاصه فيرحموه من هذا السير.
قال: وأين
يضعونه؟
قلت: في مكتب
من المكاتب.
قال: لو كان الأمر
إلي لأغلقت جميع مكاتبكم، أو حولتها مصانع ومخابر .. أو حولتها دورا للذين يفترشون
الأرض في الشوارع.
قلت:
والمسؤولون .. أين سيجلسون؟
قال: مع العمال
.. يعاينون جهودهم، ويعينونهم فيها.
قلت: ليس الأمر
بهذه السهولة يا معلم .. فهم لا يستطيعون التفكير في قاعات غير مكيفة.
قال: التكييف
يخدر عقولهم.
قلت: ويريح
أجسامهم.
قال: الجسم
الذي لا يتعب لا يعرف الراحة .. الراحة نعمة من الله يمن بها على من يعانون
ويجتهدون.
قلت: ولكن هذه
مثالية.
قال: بالورع
تصير واقعية.
قلت: إذن نحن
دخلنا باب الحديث عن الورع من غير أن نشعر ..
قال: قل: من
غير أن أشعر، فليس من الورع أن تعبر بلسانك عن مشاعر غيرك.
قلت: هذا أيضا
من الورع في التعبير .. لقد قرأت بأن الورع يدخل كل باب.
قال: وبالورع
ينفتح كل باب ..
قلت: فما أول
الأبواب؟
قال: باب
السماء .. ألم تسمع ذكره - صلى الله عليه وسلم -:( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد
يديه إلى السماء:( يا رب يا رب ) ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي
بالحرام فأنى يستجاب لذلك )[4]، فمع أن هذا
الرجل الذي ذكره - صلى الله عليه وسلم - قد أتى بجميع ما يتطلبه من الدعاء من
تواضع وتبذل ومسكنة إلا أن الله تعالى لم يستجب له، لتساهله في الحرام، وعدم تورعه
عنه.
قلت:
ذكرتني بقول بعض السلف:( لا تستبطيء
الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي )، وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:
نحن
ندعو الإله في كل كرب ثم ننساه عند كشف
الكروب
كيف
نرجو إجابة لدعاء قد سددنا
طريقها بالذنوب
قال: وقد اتفق
السلف الصالح y على هذا المعنى، وقد كان سعد بن أبي وقاص t
مستجاب الدعوة، فسئل عن سبب ذلك، فقال:( ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من
أين مجيئها ومن أين خرجت )، وقال أبو ذر t:( يكفي مع البر من الدعاء مثل ما يكفي الطعام من الملح )، وقال
محمد بن واسع:( يكفي من الدعاء مع الورع اليسير )، وقيل لسفيان:( لو دعوت الله )
قال:( إن ترك الذنوب هو الدعاء )
قلت: وقد قرأت
في أخبار الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أن موسى u
رأى رجلا رافعا يديه وهو يسأل الله مجتهدا فقال موسى u:(
أي رب عبدك دعاك حتى رحمته، وأنت أرحم الراحمين فما صنعت في حاجته ) فقال:( يا
موسى لو رفع يديه حتى ينقطع ما نظرت في حاجته حتى ينظر في حقي )[5]
وقد روي أنه
أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجا فأوحى الله تعالى إلى نبيه u
أن ( أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة وترفعون إلى أكفا قد سفكتم بها
الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن اشتد غضبي عليكم، ولن تزدادوا مني إلا
بعدا )
قال: فهذا أول
باب يفتحه الله على من آثر الله على المتاع الزائل.
قلت: فما الباب
الثاني؟
قال: العدل.
قلت: كيف؟
قال: ألم تقرأ
سيرة الخلفاء الراشدين؟
قلت: بلى،
قرأتها ..
قال: فهل كانوا
عادلين؟
قلت: بل كانوا
العدل نفسه .. ومن يعدل إن لم يعدلوا؟
قال: أرأيت لو
أن نفوسهم امتلأت بالشهوات التي لا تفرق بين الحلال والحرام، أكانوا يتحققو بما
تحققوا به من العدل.
قلت: كلا .. بل
إني أراهم حينئذ، وقد اجتهدوا في جمع اللذات يعوضون بها ما فاتهم في أعوام الضيق
والشدة.
قال: ألم تسمع
بما روي أنه كان لأبي بكر الصديق t خادم يغل عليه فأتاه ليلة بطعام، فتناول منه لقمة، فقال له
الخادم:( ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟) قال:( حملني على ذلك الجوع
.. من أين جئت بهذا؟) قال:( مررت بقوم في الجاهلية، فرقيت لهم، فوعدوني فلما أن
كان اليوم مررت به، فإذا عرس لهم فأعطوني ) فقال:( أف لك كدت تهلكني ) فأدخل يده
في حلقه، فجعل يتقيأ وجعلت لا تخرج فقيل له:( إن هذا لا تخرج إلا بالماء)، فدعا
بعس من ماء، فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها، فقيل له:( يرحمك الله كل هذا من أجل
هذه اللقمة ) فقال:( لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يقول:( كل جسد نبت من سحت، فالنار أولى به )، فخشيت أن ينبت شيء من
جسدي من هذه اللقمة )[6]
قلت: أمن أجل
شربة لبن فعل هذا؟ .. إن عمال قومي ليأكلون العباد، ويمتصون دماءهم، فإذا ما تابوا
اقتصروا على استغفار يحتاج إلى استغفار.
قال: ويحدث ابن
مليكة عنه قال: كان ربما سقط الخطام من يد أبي بكر الصديق t،
فيضرب بذراع ناقته فينيخها، فيأخذه، فقالوا له:( أفلا أمرتنا نناولكه? ) قال:( إن
حبي - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن لا أسال الناس شيئا )[7]
قلت: إن أبسط
مسؤول عندنا لا ينزل من سيارته حتى تنزل حاشيته مسرعين ليفتحوا له الباب، فإذا مشى
سبقوه بالبسط، فإذا تكلم بادروا كلماته يحفظونها ليرددوها في المناسبات.
قال: وما عملهم
مع الأموال التي خولهم الله قسمتها بين عباده؟
قلت: جعلوها
أموالهم .. يعطون ويمنعون.
قال: أما أبو
بكر t وإخوانه من الخلفاء الراشدين الورعين، فلم يقبلوا من الأمة إلا
الأجر الذي لا تستقيم حياتهم إلا به، فعن عطاء بن السائب قال: لما استخلف أبو بكر أصبح
غاديا إلى السوق، وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة، فقالا له:(
أين تريد يا خليفة رسول الله ) قال:( السوق ) قالا:( تصنع ماذا، وقد وليت أمر
المسلمين ) قال:( فمن أين أطعم عيالي؟) قالا له:( انطلق حتى نفرض لك شيئا ) فانطلق
معهما، ففرضوا له كل يوم شطر شاة، وما كسوه في الرأس والبطن.
ويروي حميد بن
هلال قال: لما ولي أبو بكر t الخلافة قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( افرضوا
لخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يغنيه ) فقالوا:( نعم برداه إذا
اخلقهما وضعهما وأخذ مثلهما، وظهره إذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل أن
يستخلف ) فقال أبو بكر t:( رضيت )
قلت: أهذه كل
أجرته؟.. ثم يضطر إليها اضطرارا.
قال: ليس ذلك
فقط .. بل إنه عندما مرض مرضه الذي مات فيه قال:( انظروا ماذا زاد في مالي منذ
دخلت في الإمارة، فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي)، فنظروا فإذا عبد نوبي كان يحمل
صبيانه، وإذا ناضح كان يسقي بستانا له، فبعثنا بهما إلى عمر، فلما رآها عمر t
بكى وقال:( رحمة الله على أبي بكر، لقد أتعب من بعده تعبا شديدا )
قلت: أهذا كل
ما ترك .. إن عمالنا يموتون وهم لا يعلمون ما لهم من أموال؟
قال: أزهدا فيها؟
قلت: بل .. لا
قدرة لهم على عد أموالهم .. بل إن من أموالهم ما يدخل خزائنهم من غير أن يعلموا
به.
قال: أتدري ما
الذي جعل أبا بكر t بهذه الصفة؟
قلت: ما هو؟
قال: إنه الورع
.. ألسنا في باب الورع .. واسمع إليه لتدرك ما للورع من تأثير، فقد قال في بعض
خطبه:( أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشأنهم، أين الملوك الذين بنوا المدائن
وحصنوها بالحيطان؟ أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب؟ قد تضعضع بهم
الدهر فأصبحوا في ظلمات القبور .. الوحا الواحا .. النجاء النجاء )
قلت: أهذه خطبة
خليفة ترتجف الملوك عند ذكر اسمه؟
قال: لو لم يقل
هذا .. أو لم يكن يخطر على باله هذا لما ارتجفت الملوك منه .. ويروى أنه لما حضرته
الموت دعا عمر فقال له: اتق الله يا عمر،
واعلم أن لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار، وانه
لا يقبل نافلة حتى تؤدي فريضته، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة
باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، حق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون
ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة بأتباعهم الباطل في الدنيا
وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا، وان الله تعالى ذكر
أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلت: اني لأخاف أن لا
الحق بهم وإن الله تعالى ذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم ورد عليهم أحسنه فإذا
ذكرتهم قالت إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء ليكون العبد راغبا راهبا، لا يتمنى على
الله، ولا يقنط من رحمة الله. فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أحب إليك من الموت
وهو آتيك، وإن أنت ضيعت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت، ولست تعجزه.
قلت: فما الباب
الثالث؟
قال: باب
البركة .. ألم تعرف باب البركة؟
قلت: بلى ..
مررنا سابقا على بابها.
قال: فكيف
وجدته؟
قلت: بابا طيبا
تجتمع الخيرات فيه، بل تتضاعف.
قال: فالورع من
مفاتيحه .. ألم تسمع قوله تعالى:) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ( (لأعراف:96)
قلت: فحدثني عن
مثال له يثبته، أو ينفتح له باب فهمي.
قال: مفتاحه
أبا أبي حنيفة.
قلت: أتقصد
ثابتا أبا النعمان؟
قال: نعم ..
أبو ذلك الفقيه العظيم الذي طلعت شمسه على الأمة.
قلت: ولا تزال
طالعة لم تأفل .. ما به؟
قال: لقد بورك
له في ابنه .. بل في حياته جميعا بموقف من مواقف الورع.
قلت: أجل ..
لقد رأيت ذلك مرة في فيلم عنه.
قال: فمر قومك
يتفرجوه .. ليبارك لهم في أولادهم، فإني أراكم تشكون العقوق.
قلت: إن ذلك
لكائن.
قال: فعلموهم طاعتكم
بطاعتكم لله، وتورعكم أمام أحكامه.
قلت: فما الباب
الرابع؟
قال: باب
العزة.
قلت: العزة! ..
ما العزة؟
قال: الرأس
الذي لا يعرف الانحناء إلا في الركوع .. والجبهة التي لا تطأ الأرض إلا في السجود.
قلت: وما علاقة
الورع بالعزة.
قال: من تورع
عن أموال الناس لم يضطر إلى الانحناء لهم.
قلت: ومن يدخل
هذا الباب؟
قال: هذا باب
العلماء الذين رأوا العلم أشرف من أن يبتذلوه أمام أبواب السلاطين.
قلت: فحدثني
عنهم.
قال: إذن لن
نخرج من هذا القصر.
قلت: فلنتحدث
عن أحدهم كنموذج .. مثلما تحدثنا عن أبي بكر.
قال: هو ذاك العالم
العابد الذي لم يحن رأسه إلا لله، فانحنت الرؤوس بين يديه.
قلت: هم كثيرون
بحمد الله .. ألسنا أمة الأولياء؟
قال: هو ذاك
الذي عبر عن ورعه، فقال:( لو أن الدنيا كلها بحذافيرها جعلت لي حلالا لكنت أتقذرها
)
قلت: تقصد أن
هذا القول مفتاح شخصيته.
قال: إذا كان لشخصيته
مفتاح واحد، فهذا هو المفتاح .. فحب الدنيا سم قاتل .. لا يشفي منه إلا الورع.
قلت: فمن هو
هذا الذي شوقتني إليه؟
قال: الفضيل بن
عياض ..
قلت: لله .. ما
أحسن اختيارك .. إن كلماته ترياق مجرب .. لكأنها تصدر من عيون الحكمة.
قال: من أخلص
لله آتاه الله الحكمة.
قلت: لقد كان t
غزير الدمعة، يقول عنه مهران بن عمرو الأسدي: سمعت الفضيل بن عياض عشية عرفة
بالموقف، وقد حال بينه وبين الدعاء البكاء، يقول:( واسوأتاه، وافضيحتاه وإن عفوت )
ويحكي سعد بن زنبور
قال: كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنا عليه، فلم يؤذن لنا، فقيل لنا:( إنه لا
يخرج إليكم، أو يسمع القرآن )، وكان معنا رجل مؤذن، وكان صيتا، فقلنا له: اقرأ:) أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ( (التكاثر:1)،
فقرأها ورفع بها صوته، فأشرف علينا الفضيل، وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع، ومعه
خرقة ينشف بها الدموع من عينيه، وأنشأ يقول:
بلغت
الثمانين أو حزتها فماذا أؤمل أو
أنتظر?
أتى
لي ثمانون من مولدي وبعد الثمانين ما
ينتظر
علتني
السنون فأبلينني ..........
ثم خنقته
العبرة، وكان معنا علي بن خشرم فأتمه لنا فقال:
علتني
السنون فأبلـينـنـي فرقت عظامي وكل
البصر
وكان t
مع عبادته وفضله لا يرى لنفسه أي حظ من الكمال، بل من الخير، فقد أخذ t
بيد سفيان بن عيينة، فقال له:( إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس
ما تظن )
قال: فهذا
الورع العابد كان جبلا من جبال العزة، ونجما من نجوم الكرامة .. أتعلم موقفه مع
هارون الرشيد؟
قلت: هو موقف
عظيم، ولكنه طويل .. وسيستهلك مني حبرا كثيرا.
قال: أعظم ما
استهلك فيه الحبر ذكر الصالحين .. فتعبد الله بذكرهم.
قلت: حدث الفضل
بن الربيع وزير هارون الرشيد، قال: حج أمير المؤمنين الرشيد فأتاني، فخرجت مسرعا
فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك فقال: ويحك قد حك في نفسي شيء، فانظر
لي رجلا أسأله فقلت: ها هنا سفيان بن عيينة فقال: امض بنا إليه.
فأتيناه فقرعت الباب، فقال: من ذا? فقلت: أجب
أمير المؤمنين فخرج مسرعا، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال له:
خذ لما جئناك له رحمك الله.
فحدثه ساعة، ثم قال له: عليك دين، قال: نعم
فقال: أبا عباس اقض دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئا، انظر لي رجلا
اسأله فقلت له: هاهنا عبد الرزاق بن همام، قال امض بنا إليه، فأتيناه فقرعت الباب
فقال: من هذا? قلت: أجب أمير المؤمنين. فخرج مسرعا فقال: يا أمير المؤمنين لو
أرسلت إلي أتيتك قال: خذ لما جئناك له. فحادثه ساعة ثم قال له عليك دين قال: نعم
قال: أبا عباس اقض دينه.
فلما خرجنا قال: ما أغنى صاحبك شيئا انظر لي
رجلا اسأله قلت: ها هنا الفضيل بن عياض قال: امض بنا إليه فأتيناه فإذا وهو قائم
يصلي يتلو آية من القرآن يرددها، فقال: اقرع الباب، فقرعت الباب، فقال: من هذا،
فقلت: أجب أمير المؤمنين، فقال:( ما لي، ولأمير المؤمنين ) فقلت: سبحان الله أما
عليك طاعة? أليس قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:( ليس للمؤمن أن
يذل نفسه)، فنزل ففتح الباب ثم رتقى إلى الغرفة، فأطفا المصباح ثم التجأ إلى زواية
من زوايا البيت، فدخلنا، فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف هارون قبلي إليه،
فقال:( يا لها من كف ما ألينها، إن نجت غدا من عذاب الله عز وجل ) فقلت في نفسي:
ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي.
فقال له: خذ
لما جئناك له رحمك الله، فقال:( إن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة دعا سالم بن
عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم:( إني قد ابتليت بهذا
البلاء، فأشيروا علي ) فعد الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة.
فقال له سالم
بن عبد الله:( إن أردت النجاة غدا من عذاب الله، فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك من
الموت )
وقال له محمد
بن كعب القرظي:( إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أبا،
وأوسطهم عندك أخا، وأصغرهم عندك ولدا، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك )
وقال له رجاء
ين حيوة:( إن أردت النجاة غدا من عذاب الله عز وجل، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك،
واكره لهم ما تكره لنفسك،ثم مت إذا شئت)
وإني أقول لك:(
أني أخاف عليك أشد الخوف يوم تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يشير عليك
بمثل هذا? )
فبكى هارون
بكاء شديدا حتى غشي عليه فقلت له:( ارفق بأمير المؤمنين) فقال:( يا ابن أم الربيع
تقتله أنت وأصحابك وارفق به أنا )، ثم أفاق فقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا
أمير المؤمنين بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكا إليه فكتب إليه عمر:( يا أخي
أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله
فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء)، قال فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر
بن عبد العزيز، فقال له:( ما أقدمك؟) قال:( خلعت قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولاية أبدا
حتى ألقى الله عز وجل )
فبكى هارون
بكاء شديدا ثم قال له:( زدني رحمك الله ) فقال:( يا أمير المؤمنين، إن العباس عم
المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:( يا
رسول الله أمرني على إمارة ) فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:( إن الإمارة
حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل )
فبكى هارون بكاء شديدا، وقال له:( زدني رحمك
الله ) فقال:( يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم
القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار، فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي
قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:( من اصبح لهم غاشا
لم يرح رائحة الجنة )
فبكى هارون،
وقال له:( عليك دين ) قال:( نعم، دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني،
والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي) قال: إنما أعني دين العباد قال:(
إن ربي لم يأمرني بهذا أمر ربي أن أوحده وأطيع أمره، فقال تعالى:) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا
أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ( (الذريات:56 ـ
58)
فقال له
هارون:( هذه ألف دينار، خذها، فأنفقها على عيالك، وتقو بها على عبادتك ) فقال:(
سبحان الله، أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا? سلمك الله ووفقك
)
ثم صمت، فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده فلما صرنا على الباب قال هارون:
أبا عباس إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين.
فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: يا هذا قد ترى
ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به، فقال لها:( مثلي ومثلكم
كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه، فأكلوا لحمه )
فلما سمع هارون
هذا الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج، فجلس في السطح على
باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه، فلا يجيبه، فبينا نحن كذلك، إذ
خرجت جارية سوداء فقالت:( يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك الله،
فانصرفنا.
قال: فهذا هو
سيد المسلمين .. وهذا هو مثال العالم الورع .. لا العالم الذي يوزع الفتاوى لمن
يطلبها.
قلت: أتقصد
علماء قومي.
قال: أقصد من
يفعل ذلك من علماء قومك .. أقصد الذين خاطبهم الفضيل بقوله:( كنتم معشر العلماء
سرج البلاد يستضاء بكم، فصرتم ظلمة، وكنتم نجوما يهتدى بكم، فصرتم حيرة، ثم لا
يستحي أحدكم أن يأخذ مال هؤلاء الظلمة، ثم يسند ظهره يقول: حدثنا فلان عن فلان )
قلت: لكنه
قال:( لأن أطلب الدنيا بطبل ومزمار أحب إلي من أن أطلبها بالعبادة ) فكيف يقول هذا:
ألم يعلم ما قيل في الطبل والمزامير؟
قال: انصح
الدجالين من متعالمي قومك بأن يشتروا طبولا ومزامير، فهي خير لهم من بيع الدين
بالدنيا، أليس للطبل عندكم سوقا؟
قلت: بل
أسواقا.
قال: فلأن
يأتوا يوم القيامة مع الطبالين والزمارين، خير من أن يأتوا مع الأحبار والرهبان.
قلت: كيف؟
قال: ألم يقل
الله تعالى:)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ
لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ( (التوبة: من
الآية34)
قلت: وهؤلاء هم
الذين قال فيهم عبد الله بن المبارك:
وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ وأحبارُ سوء ورهبانُها
قال: فهل هذه
حقيقة أم دعاوى؟
قلت: لقد
ذكرتني يا معلم بحكاية حدثنا بها شيخنا يوسف القرضاوي، قال: دعي أحد العلماء
اللامعين إلى ندوة تليفزيونية في أحد الأقطار، تدور المناقشة فيها حول موضوع (
تحديد النسل في نظر الشريعة الإسلامية )، وكانت دهشة الرجل المكلف بإدارة الندوة
بالغة حين قال له هذا العالم: هل تهدف الندوة إلى تأييد التحديد، أو معارضته حتى
أهيئ نفسي؟! )
قال: وأضف إلى
حديثه هذا ما قاله على لسان الشباب الذين لم يجدوا في كثير من العلماء موضع قدوة.
قلت: لقد قال
يحكي عن نفسه: قلت لأحد هؤلاء: يجب أن تأخذوا العلم من أهله، وتسألوا أهل الذكر من
العلماء فيما لا تعلمون.
فقال: وأين نجد
هؤلاء العلماء الذين نطمئن إلى دينهم وعلمهم؟ إننا لا نجد إلا هؤلاء الذين يدورون
في فلك الحكام، إن أرادوا الحل حللوا، وإن أرادوا الحرمة حرموا؛ إذا كان الحاكم
اشتراكياً باركوا الاشتراكية ووصلوا نسبها بالإسلام، وإذا كان رأسمالياً أيدوا
الرأسمالية باسم الإسلام!
العلماء الذين
إذا أراد حاكمهم الحرب، فالسلم حرام ومنكر، وإذا تغيرت سياسته فأراد السلم، صدرت
الفتاوى بالتبرير والتأييد:)
يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاما( (التوبة: من
الآية37)، العلماء الذين سوّوا بين الكنيسة والمسجد، وبين الهند الوثنية وباكستان
الإسلامية! )
قال: لقد سمعت
أن نفرا من قومك أفتوا بإباحة الربا الذي توعد الله بمحاربة أهله[8]؟
قلت: ذلك صحيح
.. ولكنهم وجدوا لذلك بعض المخارج.
قال: وهل
المخارج تناقض النصوص وتتلاعب بالنصوص .. دعنا منهم .. سمعت أن نفرا من قومك
أباحوا بيع الخمر من أجل مصلحة البلاد في
استقطاب السياحة .. ونفرا منهم أباحوا الإفطار في رمضان من أجل ألا تتعطل مصلحة
الأعمال في البلاد .. ونفرا منهم أباحوا التعامل بالربا من أجل تنشيط الحركة
التجارية والنهوض بها .. ونفرا منهم أباحوا الجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع
لما في ذلك من تهذيبٍ للأخلاق وتخفيفٍ للميل الجنسي بينهما[9] .. ونفرا منهم
رأوا التسوية بين الأبناء والبنات في الميراث[10].
قلت: لقد وجدوا
لكل ذلك مخارج.
قال: هي مخارج
كمخارج أهل السبت ..
قلت: هم أهل
السبت .. لكننا أهل الجمعة .. ونحن أمة مرحومة.
قال: كف عن هذا
.. فإن الله العدل لا يفرق في حسابه بين أهل السبت وأهل الجمعة .. فالخلق كلهم
سواء ) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ
الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَلِيّاً وَلا نَصِيراً( (النساء:123)
تقدمت مع
المعلم إلى الباب الثاني من أبواب ( الشرعية )، فرأيت صورة لنفس الرجل السابق ..
الرجل الذي يلوح النور في وجهه، والذي يتحرك حركات منتظمة دقيقة على صراط معتدل
مستقيم، وكلما لاح له شيء يريد أن ينحرف به عن مساره فتح كتابا كان يحمله لينظر ما
فيه، ثم يستمر في سيره.
ولكني لم لم أر
الصراط دقيقا جدا كما رأيته في الباب السابق، صحيح أنه أدق من الشعرة، وأحد من
السيف .. ولكن الكتاب الذي كان يحمله يحول من ذلك الضيق مساحة تستغرق الأرض جميعا
.. بل تحتوي الكون جميعا ..
فلذلك لم أر
الرجل خائفا، ولا وجلا .. بل إنه يكاد يرقص على ذلك الحبل الدقيق من عظم اتساعه.
سألت المرشد:
أرى أن الذي رسم هذه الصورة لم يقصد إلا معارضة رسام الصورة السابقة.
قال المرشد:
التعارض في أرض الصراع، لا في أرض السلام .. المسالم لا يعارض أحدا.
التفت إلى
المعلم، وقلت: كيف هذا؟ إن أبسط عاقل يرى التعارض بين الصورتين.
قال: عندما
يعزل العاقل عقله، فيرى الأشياء بعينه، لا بعين الحقيقة يرى التعارض.
قلت: أأنا الآن
أعزل عقلي؟
قال: ما أكثر
ما تعزلون عقولكم ..
قلت: ولكنها
معنا.
قال: هي معكم
.. ولكنكم لا تستخدمونها .. أنتم كتائه في الصحراء لا ينظر إلى الهداة ولا يستمع
لهم .. ثم يظل حزينا لأن الصحراء تلتهمه برمالها.
قلت: بين لي
كيف ينتفي التعارض بين الصورتين.
قال: إن نفرا
من قومك قرأوا ما في الورع من فضل، فضيقوا به ما وسع الله من دينه، ولم يروا في
الدين من ألفاظ إلا ألفاظ ( الباطل والحرام )
قلت: ولكن هذه
الألفاظ موجودة.
قال: ولكنها
محدودة.
قلت: فلماذا لا
نجعل الأصل الحذر من وجودها لنتقيها؟
قال: لأنك لو
فعلت ذلك لم تقدم ولم تتحرك ولم تتطور .. أنسيت ما تعلمته في أبواب التدريب.
قلت: بلى ..
التدريب يقتضي التطوير، والتطوير يقتضي التحرك، والتحرك يقتضي التغيير.
قال: ونفر من
قومك يعتبرون التغيير محدثا، ويعتبرون كل مجدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة
في النار.
قلت: هذه حقيقة
نطق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال:( من أحدث في أمرنا هذا، فهو
رد )[11]
قال: ولكنه
قال:( أنتم أعلم بامور دنياكم )
قلت: أتقصد أن
نبيح كل التعاملات لكي نتطور.
قال: التعاملات
الإنسانية التي يقرها العقل، ولا يعارضها الشرع.
قلت: وهم لا يتكلمون
إلا فيما يعارضه الشرع.
قال: الشرع يضع
الضوابط، ويحد الحدود، ويترك الحياة بعد ذلك تسير في مساحة واسعة من الاختيارات،
ألم تر الرجل الذي في الصورة كيف يسير في مساحة تسع الكون مع أنها في نظر العقول
الضيقة أحد من السيف وأدق من الشعرة.
قلت: إذن
الصورة ترمز إلى هذا المعنى.
قال: إن رحمة
الله التي وسعت كل شيء تأبى أن تختبر عباد الله بما هو أدق من الشعرة، وأحد من
السيف، ألم تقرأ ما ورد في أوصاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو قدوة
العلماء في بيان أحكام الشرع.
قلت: بلى ..
فقد وصفه الله تعالى بالرحمة والرأفة بالخلق، فقد قال تعالى فيه:) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ( (التوبة:128)، وقالتعالى:) وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( (الانبياء:107)
وقد قال - صلى
الله عليه وسلم - عن نفسه:( إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني
معلماً ميسراً )[12]
قال: فهل كان -
صلى الله عليه وسلم - يتخير التشديدات ليعاقب بها أمته؟
قلت: كلا .. بل
كان رحمة مهداة، يقول فيه الحق تعالى:) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ
وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ( (لأعراف:157)
وكان - صلى
الله عليه وسلم - يقول عن نفسه:( بعثت بالحنيفية السمحة )، وقال لأميريه معاذ وأبي
موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن:( بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا
تختلفا )
قال: فالتوسعة
على الناس أصل من أصول الدين، وسنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قلت: ولكن
الورع يقتضي التشديد حفظا لحرمات الدين وأحكامه.
قال: ألم تقرأ
ما قال الإمام أحمد في الذين يتورعون فيتشددون في أحكام الطلاق؟
قلت: بلى، فقد قال ـ مع كونه إماما
من أئمة الورع ـ مبينا موضع الورع الحقيقي في هذا الباب: ( الذي لا يأمر بالطلاق
فإنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر الطلاق قد أتى خصلتين: حرمها عليه، وأحلها لغيره،
فهذا خير من هذا، وأنا اتقي جميعها )[13]
قال: وهذا هو منهج كل العلماء
المحققين الذين ورثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنيفيته وسماحته.
قلت: أجل، فقد قرأت عن ابن القيم
كلاما جميلا في هذا، فقد قال:( فعند رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - السعة والرحمة وعند غيره الشدة والنقمة، فما جاءه
مكروب إلا وجد عنده تفريج كربته ولا لهفان إلا وجد عنده إغاثة لهفته، فما فرق بين
زوجين إلا عن وطر واختيار، ولا شتت شمل محبين إلا عن إرادة منهما وإيثار، ولم يخرب
ديار المحبين بغلظ اللسان ولم يفرق بينهم بما جرى عليه من غير قصد الإنسان، بل رفع
المؤاخذة بالكلام الذي لم يقصده بل جرى على لسانه بحكم الخطأ والنسيان أو الإكراه
والسبق على طريق الاتفاق)[14]
قال: فانصح علماء قومك ومن يفتون
الناس بهذا.
قلت: يا معلم .. ولكن ما علاقة هذا
بما نحن فيه؟
قال: ألم تعلم أن السعي الجاد للخروج
من التخلف يستدعي ـ أول ما يستدعي ـ الشرعية؟
قلت: أجل، فقد عرفنا ذلك.
قال: وهذا يستدعي اللجوء إلى العلماء
للبحث عن أحكام الله.
قلت: هذا صحيح، فالورع هو الذي يراعي
خطواته، أين يضعها؟
قال: ولكن الذين لا يدركون سماحة
الشريعة ورحمتها لا يرون من الأحكام إلا جانبها التشديدي، فيمنعون من كل نشاط،
ويوقفون كل حركة، ويمنعون كل تطور.
قلت: فاضرب لي أمثلة على ذلك.
قال: لو ضربت لك الأمثلة لعرفت من
نقصد .. والناصح ينصح ولا يفضح.
تقدمت من الباب
الثالث من أبواب الشرعية، وهو باب ( الواقعية ) فرأيت صورة لرجل ينظر إلى ما حوله
.. ويحد البصر .. ولا يتحرك حركة حتى يحسب لها كل حساب.
فسألت المعلم
عنه، فقال: هذا رمز الإنسان الواقعي الذي يعيش واقعه ولا يتيه عنه بالأحلام، ولا
بالخيال، ولا بالواقع الذي قد مضى، ولا بالمستبقل الذي لا يزال في رحم العدم.
فقلت: ولكن
الفقهاء يستمدون علومهم من الماضي، فكيف لا ننظر إلى الماضي، وهم يتوقون لتحقيق
المثل، فكيف يجمعون بين الواقع والأحلام؟
قال: ومن قال
بأن ما ورد في النصوص ماض .. النصوص تخاطب الماضي والحاضر والمستقبل .. هي خطاب
الله .. وخطاب الله لا يؤثر فيه الزمان.
قلت: ولكنها
نزلت في الماضي.
قال: ولا تزال
تتنزل .. ألم تسمع بأن الفهم الحقيقي للنصوص يتطلب سماعها لا قراءتها .. سماعها
يجعلها تأمرك وتنهاك .. وقراءتها تجعلك تفسرها بالوقائع التاريخية لتنزلها على
غيرك لا على نفسك.
قلت: هذا صحيح
.. فالله يخاطب الأجيال لا جيلا واحدا .. بل إنه يتحدث عن المستقبل بصيغة الماضي
.. فلا معنى للزمن عند الله .. ولكن ما علاقة الواقعية بهذا الباب؟
قال: أحكام
الله ثابتة، ولكن تطبيقها تتغير صوره بتغير الواقع .. فما أبيح هنا قد يحرم هناك.
قلت: لا أفهم
هذا، فكيف تكون ثابتة، ثم هي في نفس الوقت متغيرة.
قال: هي ثابتة
ثبات الأصول، متغيرة بتغير الحوادث ..
قلت: اشرح لي
هذا، فإني لا أكاد أفهم هذا التعارض.
قال: إذا قصدت
وجهة معينة، فإن طلب الوجهة مستقر في نفسك .. أليس ذلك؟
قلت: بلى.
قال: ولكن طريق
الوجهة قد يحوي منعرجات ومنحدرات وعوائق، فهل تسير فيها جميعا سيرا واحدا؟
قلت: لا .. بل
ألبس لكل حالة لبوسها.
قال: فكذلك
أحكام الشرع، مقاصدها ثابتة لكن تطبيقاتها تختلف باختلاف مطبقيها.
قلت: لقد
ذكرتني بكلام جميل لابن القيم، عقد له فصلا عنوانه:( تغير الفتوى واختلافها بحسب
تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد ) يقول فيه:( هذا فصل عظيم النفع جداً، وقد وقع
بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل
إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى مراتب المصالح لا تأتي به، فإن
الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها
ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها،
ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها
بالتأويل ) [15]
قال: وقد كان
فقهاء الإسلام الكبار الذين من الله بهم على هذه الأمة يتمثلون هذه المقولة
ويضعونها بين عينيهم في فتاواهم واجتهاداتهم.
قلت: أجل، بل
إنهم وضعوا لذلك قاعدة فقهية تقول:( لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان )[16]، ومن الأمثلة
التي ذكروها لهذه القاعدة ما أفتى به المتأخرون من تضمين الساعي بالفساد لتبدل
أحوال الناس مع أن القاعدة تنص على أن ( الضمان على المباشر دون المتسبب ) وهذا
زجرا للمفسدين[17]
قال: ولكنكم
تخطئون كثيرا في تطبيق مثل هذه القواعد، وفي تبرير الواقعية، فتجعلونها أحيانا
وسيلة للإفلات من الأحكام الشرعية، ومن مقتضيات الورع.
قلت: كيف هذا؟
قال: ألم يفت
متأخروكم بجواز إغلاق أبواب المساجد في غير أوقات الصلاة[18] مع أن مكان
العبادة ينبغي أن لا يغلق، بل يظل مفتوحا لكل قاصد من ليل أو نهار؟
قلت: إنما
جوزوا ذلك صيانة للمسجد من السرقة والعبث.
قال: أفلم يجدوا
من الحلول غير إغلاقها؟
قلت: هذا أيسر
الحلول .. فذلك خير من أن يتداولوا على حراستها أو يكلفوا من العمال من يقوم
بحراستها.
قال: ولكني أرى
أسواقكم ومحالكم تفتح ليل نهار؟
قلت: تلك
معايشنا لا بد لنا منها.
قال: لو فكرت
في دينكم مثل ما تفكرون لمعايشكم لضمنتم الدين والدنيا.
قلت: فما
تنصحنا؟
قال: أبواب
الله مفتوحة، ويده مبسوطة لخلقه كل حين، فافتحوا مساجدكم يفتح الله عليكم.
قلت: وهل نخطئ
في غير هذا؟
قال: أحيانا
كثيرة .. عندما جاءتكم الإشتراكية جعلتم دينكم إشتراكيا، وعندما جاءت الرأسمالية
حولتموه رأسماليا، وعندما جاء من يحذركم من الجهاد ذهبتم إلى آيات الجهاد تمحونها
من مقرراتكم، وأخشى إن جاءكم من يدعوكم إلى الإلحاد، أن تمحوا اسم ( الله ) من
وجودكم.
قلت: فبم
تنصحنا؟
قال: ارفعوا
الواقع .. ولا تنزلوا إليه.
قلت: كيف؟
قال: أثروا فيه
.. ولا تدعوه يؤثروا فيكم.
قلت: كيف .. لا
أزال أحتاج توضيحا.
قال: اصنعوا
واقعكم، ولا تدعوه يصنعكم.
قلت: وما الفرق
بين صناعتنا له، وصناعته لنا.
قال: إذا
صنعتموه تناسب مع طبائعكم ودينكم وكمالكم، وإذا صنعكم عجنكم بالقوالب التي صنع
بها، فالواقع لا بد أن يصنعه بشر .. فإما أن تكونوا أنتم الصانعون، وإما أن تكونوا
مجرد لبنات من صنع غيركم.
تقدمت من الباب
الرابع من أبواب الشرعية، وهو باب ( الاجتهاد ) فرأيت صورة لرجل مستغرق في التأمل،
يشعر بكل ما حوله، ولكنه في تأمله يبدوا كغائب عن كل ما حوله.
فسألت المعلم
عنه، فقال: هذا رمز الاجتهاد.
قلت: لا أفهم
رمزية هذا الرمز .. فهل هذا يبصر كل ما حوله .. أم هو غائب عن كل ما حوله .. هل هو
خليط في الواقع .. أم هو مميز عنه .. هل هو معتزل كاعتزال المفكرين، أم هو مخالط
للعامة والدهماء؟
قال: هو ذلك
جميعا.
قلت: إن رسامي
مدينتكم يتقنون فنون المتناقضات.
قال المعلم: من
لم تكن له القدرة على التنسيق بين المتناقضات وفهمها لا يعيش السلام، ولا يرى
السلام، ولا يحلم بأن يرى السلام.
قلت: كيف؟
قال: لأن
السلام تتناسق فيه الموجودات ولا تتناقض .. وتتسالم ولا تتصارع ..
قلت: يا معلم
اسمح لي، فقد أخطأت خطأ لغويا.
قال: وما هو؟
قلت: أنت قلت:(
تتسالم ) لتشاكله مع قولك ( تتصارع )، وهذا غير صحيح في اللغة، فيجوز أن تقول:(
تتصارع )، ولا يجوز لك أن تقول ( تتسالم )
قال: ولماذا
أجزتموه في الصراع، ولم تجيزوه في السلام؟
قال: هكذا نطقت
العرب؟
قال: أكلام
العرب وحي يوحى لا يجوز خلافه، أو لا يجوز القياس فيه، أو لا يجوز استنباط الألفاظ
منه؟
قلت: في ذلك
خلاف.
قال: فاجتهدوا
أن ترفعوا الخلاف، فاللغة الحية لا ينبغي أن تميت نفسها بالتقليد.
قلت: فقد دخلنا
إلى الحديث عن الاجتهاد في الشريعة من باب الاجتهاد في اللغة.
قال: الاجتهاد
في الشريعة يقتضي الاجتهاد في كل شيء.
قلت: كيف؟
قال: سلف هذه
الأمة الصالح تناولوا من الحضارات الأخرى، فطبعوها بطابعهم، ولم يأخذوها كما
أخذتموها أنتم بحلوها ومرها وخيرها وشرها حتى ألسنة من أخذتموها منه ترطنون بها في
دوركم وأسواقكم وجامعاتكم، وتفخرون بها ولا تفخرون باللغة التي حملت كتاب ربكم.
قلت: هذا صحيح
.. ولكن ما علاقة هذا بالاجتهاد التشريعي؟
قال: هذا
ميدانه .. فالشريعة لا نبحث عن أحكامها فقط، بل نحاول أن نطبق أحكامها بالبحث عن
الكيفيات المناسبة والبدائل الصحيحة.
قلت: ولكن
المجتهد في الشريعة يشبه المراقب، فدوره يقتصر على استنباط أحكام النوازل ليبين
صحتها أو بطلانها، أو موافقتها للشريعة أو مخالفتها.
قال: المجتهد
في الشريعة هو الذي لا يقول عن شيء:( إنه باطل ) حتى يضع له من البدائل ما يجعل في
الخلق شعورا باستغنائهم عن ذلك الباطل القليل إلى الحق الكثير الذي اجتهد المجتهد
في البحث عنه.
قلت: ولكن ذلك
قد لا يكون ميدان اختصاصه.
قال: فكيف
يتكلم في شيء لا علاقة له به.
قلت: هو مستشار
في ذلك.
قال: إنكم
تعبرون عن الفقهاء بأنهم أطباء، وأن الناس في التجائهم إليهم كالمرضى.
قلت: أجل.
قال: أرأيت لو
ذهبت إلى طبيب، أفيكيتفي بإخبارك باسم مرضك، ثم يصرفك عنه، أم يعطيك العلاج؟
قلت: إن لم
يعطني ما أعالج به علتي لم يستحق مني أي أجر؟
قال: فكيف
تعتبر المجتهد مجتهدا، وهو لا يبحث عن الحلول المناسبة للوقائع المختلفة.
قلت: لا أزال
أتصور أن هذا ليس ميدانا للفقهاء.
قال: سأضرب لك
مثالا مما نحن فيه.
قلت: بالمثال
سيتضح المقال.
قال: ألا ترى
الفقراء عندكم ـ على حسب الإحصائيات التي تذكرها ـ من الكثرة بحيث يحتاجون بحثا
شرعيا شاملا يعالج المشكلة من أساسها.
قلت: أجل ..
هذا صحيح.
قال: فما دور
الفقهاء المجتهدين في هذا؟
قلت: يطالبون
الأمة بالزكاة التي أمر الله تعالى بها.
قال: ويكتفون.
قلت:
وبالصدقات.
قال: وهل
ينظمون كلامهم في هذا بحيث يؤتي ثماره؟
قلت: لا .. بل
يتيهون في أحيان كثيرة في الخلاف وفي نصرة المذاهب عن القضية التي يريدون الحديث
فيها.
قال: فهل عولج
الفقر؟
قلت: بل هو
يزداد كل حين مع كوننا ـ بحمد الله ـ أصحاب ثروات هائلة نحسد عليها، ونغزى بسببها.
قال: فليخرج
المجتهدون من صوامعهم والأبراج العاجية التي بنوها لأنفسهم، وليتخلصوا من القيود
التي ربطوا أنفسهم بها، وليحيوا دين الله ويحببوه إلى الخلق، فإنهم إن لم يفعلوا
كانوا حجبا بين الله وعباده.
قلت: يا معلم
.. لا يزال في نفسي شيء .. فلا أرى أن على الفقيه هذه المهمة الثقيلة التي تكلفه
بها، فحسبه أن يراجع أحكام الشريعة من مصادرها المختلفة، وهي كثيرة جدا لا يفي
العمر ببعضها، فكيف تكلفه مع ذلك بالبحث عن البدائل؟
قال: اسمح لي
.. وليسمح فقهاؤكم أن أقول لهم: لقد ضيعتم أوقاتا كثيرة فيما لا طائل وراءه ..
همكم أن تختصروا الكتب لتجعلوها متونا ثم تشرحوها، ثم تعقبوا عليها، وتجعلوا جل
جهودكم أن تفسروا تلك المتون وكأنها قرآن يتلى .. فكم من الأوقات ضاعت في الحفظ ..
وكم من الأوقات ضاعت في الشرح .. كان يمكنكم بدلها أن تجدوا من الحلول أضعاف ما
حفظتموه وتعبتم في شرحه.
قلت: ولكن هذا
المنهج العلمي ضروري.
قال: والبدائل
ضرورية .. ألم تعلم لماذا طلب يوسف u من الملك أن يتولى خزائن الأرض؟
قلت: لقد آنس
من نفسه القدرة على حل المشكلة التي تنتظر المصريين ومن يحيط بهم، فرأى أن حلها لا
يصلح له إلا أن يتولى بنفسه أمر التموين، قال تعالى على لسانه:) اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ( (يوسف:55)، فقد
ذكر خصلتين يحتاجهما من يقوم بهذه الوظيفة، وهي الحفظ ليحفظ الأرزاق التي تساق
إليه، والعلم بكيفية حفظها وتوزيعها.
قال: فكيف حصل
هذا؟
قلت: هذا
اجتهاد اجتهده.
قال: ولكن
الأنبياء مهمتهم حفظ الدين لا حفظ الدنيا.
قلت: هذا خاص
بيوسف u.
قال: ما أسرع
ما تفرون للتخصيص، ألا تعلم أنه لا تخصيص بدون مخصص..
قلت: فما تفهم
ن هذه الآيات؟
قال: الله
تعالى يأمر المجتهدين أن يبحثوا عن حلول الأزمات، ولا يكتفوا بوصفها .. لقد كان
يوسف u قادار على الاكتفاء بتأويل الرؤيا، ولكن همته العالية أبت عليه أن
يترك أمة من الناس تموت جوعا، فظل يفكر في حل الأزمة إلى أن وجد حلها.
قلت: فما الدور
الذي تأمر الفقهاء بأدائه انطلاقا مما فهمت من قصة يوسف u.
قال: سأخرج بك قليلا
إلى السياسة .. ما حديث فقهائكم فيها؟
قلت: حفظك الله
يا معلم .. دعنا من السياسة .. فكم ألهت أمتي وشغلتهم عن مصالحهم؟
قال: فعن
الاقتصاد .. فكنوز الفقراء تستدعي اقتصادا رائدا يغني الفقراء .. فهل اجتهد
فقهاؤكم على مدى الأجيال في هذا الجانب.
قلت: هناك تقصير
كبير في هذا الباب ..
قال: أسببه
النصوص والمصادر التي تضيق عليكم البحث في هذا الجانب؟
قلت: لا ..
النصوص والمصادر تتيح لنا مساحة كبرى من التفكير .. ولكن نصرة المذاهب وشرح
الأقوال والخلاف والجدل شغلنا ..
قال: فلذلك قلت
لك: لا يمكن أن تنهظوا قبل أن تتعلموا علم السلام.
قلت: وما علاقة
علم السلام بهذا؟
قال: علم
السلام يجعلك تبحث في الحقائق لا في الألفاظ، وفي الحلول لا في الجدل، وفي نصرة
الله والمستضعفين لا في نصرة الأقوال والقائلين.
قلت: لقد قلت
لك يا معلم .. ليس هناك كتب في هذا العلم.
قال: بلى، كتاب
ربكم وسنة نبيكم وهدي سلفكم هو الخزانة التي تختز درر هذا العلم .. ففجروها ..
واخرجوا من خلافاتكم، وابحثوا عن علاج لأدوائكم.
اقتربت من الباب الثاني من أبواب الجهد، فلاحظت صورة كنوز
مملوءة جواهر .. ولكنها لا تصدر أي بريق كذلك البريق الذي تصدره الجواهر.. بل
بريقها زروع وثمار وعمران وأجهزة وأشياء كثيرة لا يمكن حصرها.
فقلت للعلم: ما هذا الكنز العجيب؟ وما هذه الجواهر الغريبة؟
فقال: هذا باب الإنتاج، وهو الباب الذي يظهر آثار الأعمال،
ويخرج المنجزات من النظر إلى الواقع، ومن الفكر إلى الحياة .. فلذلك كان بريق
جواهره ما تراه من منجزات وخيرات.
التفت للمعلم وقلت: لم كان الإنتاج ضابطا من ضوابط الجهد،
وركنا من أركانه؟
قال: لأنه ثمرة العمل، ونتيجته، أرأيت لو أن شخصا اشترى
أرضا بكل ما يملكه من أموال، ثم بذل في حرثها وتهيئتها من الجهد أضعاف ما بذله من
مال، ثم بعد أن تهيأت لتنتج غرس فيها أعشابا وأشواكا لا تصلح طعاما له ولا
لحيواناته.
قلت: أي غبي أكثر غباء من هذا .. هذا أولى من السفيه بالحجر
عليه.
قال: هذا هو أنتم .. وهكذا يتعامل قومك .. هم يبذلون الجهود
الكبيرة ثم لا يرون أي ثمار .. لأنهم لم يغرسوا ما يثمر .. بل زرعوا شوكا .. ولا
يجنى من الشوك العنب.
قلت: كيف هذا .. لم أر قومي يغرسون أشواكا في أراضيهم.
قال: ولكنهم يغرسون أشواكا في حياتهم.
قلت: فبين لي ذلك، أو فاضرب لي مثالا.
قال: سأذكر لك أربعة أنواع من الإنتاج تجنونها، لا تسهم في أي
نهظة، ولا تحرركم من أي فاقة، وكلها مما ورد الشرع بتحريمه، ومع ذلك تضربون بالشرع
عرض الحائط، وتبحثون عن الرخص التي تبيحها لكم.
قلت: وما هي؟
قال: نتاج المال، ونتاج اللهو، ونتاج الطمع، ونتاج الكسل.
قلت: أهذه الأبواب المقابلة المغلوقة هي أبوابها.
قال: أجل، من انفتحت له، انفتح له كل شر.
قلت: فما تنطوي عليه هذه الأبواب من مضار؟
قال: هلم بنا إليها لنرى ذلك.
اقتربنا من باب ( نتاج المال ) فرأيت
صورة أرعبتني .. صورة رجل امتلأ بطنه بالأموال .. وكانت في يده ملعقة، وأمامه
صحون، كل صحن يحوي نوعا من أنواع الأموال، وهو يلتهمها، والدماء تسيل من فمه وبين
أسنانه، ثم يتخبط صريعا، كما يتخبط الممسوس .. وهو في تخبطه يمد يده إلى أمواله
ليضعها في فمه .. وكأنه مدمن لا يشبع.
قلت للمعلم: لا شك أن هذه صورة آكل
الربا، فالفنان الذي رسم هذه الصورة استوحى قوله تعالى:) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا
يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ( (البقرة: من
الآية275)
قال: صدقت، فآكل الربا لا يختلف في
حقيقته عن هذا الرجل.
قلت: فما علة هذا التشبيه؟
قال: لقد خلق الله تعالى بحكمته
الأموال لننتفع بها وتستقيم حياتنا، فأبى آكلو الربا إلا أن يأكلوا بأموالهم،
ويمتصوا عرق المحرومين ودماءهم، فلذلك عاقبهم الله بهذا التخبط الذي تراه، فهم
كالممسوس لا ينهض إلا ليسقط.
قلت: لا أفهم معنى أكل الأموال، أو
الأكل بالأموال.
قال: الأصل في الأموال أن ينتجها
الجهد والإنتاج الذي ينتفع به البشر وتستقيم به الحياة، فالذي يحرث أرضك، ثم يأخذ
أجرته يكون قد قدم لك خدمة ليستفيد أجرا، وتلك الخدمة لا تنتفع بها أنت وحدك، بل
ينتفع بها الخلق جميعا، فلولا الحرث لم يكن الزرع، ولولا الزرع لم يكن الحصاد،
ولولا الحصاد لم تستقم الحياة.
أما آكل الربا، فهو نائم يغظ في
نومه، وليس له من جهد سوى إرسال أمواله لتدر عليه الأرباح الطائلة دون أن يبذل أي
جهد أو يتحرك أي حركة.
فأمواله وليدة أمواله لا وليدة
جهوده، فهي كالسرطان الخبيث المتنامي لا يضع أي حساب لأجهزة الجسم وخلاياه.
قلت: كيف؟
قال: أليس السرطان هو تضخم بعض
الخلايا؟
قلت: لست أدري ما يقول المختصون في
ذلك، ولكن ربما يكون كلامك صحيحا، فما وجه الشبه؟
قال: المرابي يجعل من المال مقصودا
لذاته، كما أن الخلايا السرطانية تجعل من انتشارها أمرا مقصودا لذاته، فهي لا تنفع
جسم صاحبها، ولا تزيد في طاقاته، بل همها أن تنهشه، وتعضه بانيابها لتحيله إلى
الموت البطيء الأليم.
قلت: لقد ذكرتني بما يقول علماء
الاقتصاد، فهم يقررون أن النقود هي دماء الاقتصاد، وأنه بمقدار سلامتها تكون سلامة
الاقتصاد، وبمقدار مرضها يمرض الاقتصاد.
بل إنهم يوافقونك ـ يا معلم ـ في كون
نقود العالم الحالية مريضة بالتضخم الناتج عن الربا، وهم لا يرون من حل لذلك سوى
معالجة التضخم، ولن يتم علاجه إلا بإلغاء فوائد الربا، كما لا يتم علاج الأورام
إلا باستئصالها.
وقد قال أحد المختصين في هذا، وهو
الاقتصادي الألماني( جوهان فيليب بتمان )[19]:(
كلما ارتفعت الفائدة تدهور النقد، فكما يؤدي الماء إلى رداءة النقود .. قد يبدو
الأمر أننا نسوق تعبيرات أدبية، أو أننا نبسط المسألة ونسطحها ؛ ولكن الحقيقة أن
هذه العبارة السهلة البسيطة هي في الواقع معادلة سليمة وصحيحة تدل عليها التجربة،
ويمكن إثباتها ؛ فالفائدة العالية تدمر قيمة النقود، وتنسف أي نظام نقدي ما دامت
تزيد كل يوم، وتتوقف سرعة التدمير وحجمه على مقدار الفائدة ومدتها )[20]
قال: وهذا ما عبرت عنه النصوص
بالمحق، ألم يقل الله تعالى:) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا
يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ( (البقرة:276)،
فقد اعتبر الله الربا ماحقا للمال ولبركات المال .. وقد قال - صلى الله عليه وسلم
-:( إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل )[21]
وكل ذلك سببه الصراع .. فلا بركة في
الصراع .. ولا بركة في المصارعين.
قلت: وهل المرابي مصارع؟
قال: المرابي يصارع كل شيء في سبيل
ماله .. يبدأ صراعه مع الله، لينتهي مع نفسه .. لذلك كان الربا عدوا لدودا من
أعداء السلام.
قلت: إن للربا في عصرنا سوقا، بل
أسواقا .. فهلم حدثني عنه .. فإن من قومي من يكاد يلغيه .. بل جعلوا منه مسألة
تاريخية عفا عليها الزمن ونسخها الاقتصاد الحديث.
قال: سأحدثك عنه من باب السلام، فهو
الباب الذي أذن لي أن أحادثك فيه .. أما باب الأحكام، فأدع حديثه لك في ( فقه
المال )
قلت: لقد أخبرتني بأن المرابي يصارع
الله.
قال: لم أخبرك أنا، بل الله هو الذي
أخبرنا، ألم يقل الله تعالى محذرا المرابين:) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا
تُظْلَمُونَ( (البقرة:279)
قلت: إن هذه معركة خاسرة، فمن يجرأ
على محاربة الله.
قال: ولكن النهم الذي تمتلئ به نفس
المرابي تجعله لا يبالي، فالأموال هي ربه المعبود، لا الله، ألم تعرف أن الدينار
من أخطر المعبودات التي يعبدها قومك من دون الله.
قلت: بلى، لقد عرفنا ذلك من قبل.
قال: فاعلم ـ هنا ـ أن أعظم تجل
لألوهية الدرهم والدينار هو الربا .. فالمرابي مخلص في عبادته، فلا يجعل بينه وبين
الدينار والدرهم أي واسطة، ولا أي شريك، فلذلك هو لا يحترم العرق المتصبب من جباه
المكدودين المتعبين .. بل يطالبهم بالمزيد من الجهد ليؤدوا ما عليهم من فوائد
ربوية.
قلت: كيف يصارع المرابي الله ..
والله في عليائه!؟
قال: ألم تعلم أن الله مع المنكسرة
قلوبهم الذين احتقرهم الخلق وازدروهم وتلاعبوا بهم.
قلت: بلى، وقد ورد في ذلك حديث عظيم
يقول فيه - صلى الله عليه وسلم -:( إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم!
مرضت فلم تعدني؟ قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين! قال: أما علمت أن عبدي
فلانا مرض فلم تعده! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم! استطعمتك فلم
تطعمني؟ قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي
فلان فلم تطعمه! أما علمت لو أنك أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم! استسقيتك فلم
تسقني؟ قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه،
أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي)[22]
قال: فقد عرفت إذن بأن الله مع
المستضعفين.
قلت: والنصوص الدالة على ذلك أكثر من
أن تعد.
قال: فالمرابي مصارع لهؤلاء
المستضعفين لا تنتفخ بطنه إلا بالأموال التي يكدسها من تعبهم وعرقهم ودمائهم.
قلت: ولكني لم أفهم بعد وجه التعبير
بالحرب دون سائر التعابير، ثم ما مظاهر هذه الحرب التي يعلنها الله على أكلة
الربا، وهل هي تشريعية أم تقديرية؟
قال: هي تشريعية وتقديرية، فالله
تعالى يحارب هؤلاء المرابين بمقاديره وسننه التي بثها في الكون وفي بني الإنسان،
كما يأمرنا بحرب هؤلاء المستكبرين الذين ينهشون لحوم المستضعفين، ويمتصون دماءهم.
قلت: أجل، فقد قرأت بأن المرابي إذا
أصر ( على عمل الربا إن كان من شخص وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله
من التعزيز والحبس إلى أن تظهر منه التوبة، وإن وقع ممن يكون له عسكر وشوكة، حاربه
الإمام كما يحارب الفئة الباغية وكما حارب أبو بكر t ما نعي الزكاة، وكذا القوم لو اجتمعوا على ترك الأذان، وتترك دفن
الموتى، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من عامل بالربا
يستتاب فإن تاب وإلا ضرب عنقه )
قال: هذا صحيح .. فللحاكم العادل أن
يطبق ما يراه من عقوبات بشرط العدل .. بشرط العدل .. بشرط العدل.
قلت: لماذا كررت هذا ثلاثا؟
قال: أخشى أن تطبقوا هذه الأحكام ـ
كشأنكم في كل شيء ـ على المستضعفين، وتتركون المتخمين، فيقتل من يرابي في الدولار من
يرابي في الدينار.
قلت: هذا حرب التشريع، فما حرب
التقدير؟
قال: ألم تقرأ ما قال ابن عباس t
في تفسير الآية؟
قلت: لقد قال:( يقال يوم القيامة
لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب )
قال: وما قال - صلى الله عليه وسلم -
في المخابرة ..
قلت: قال - صلى الله عليه وسلم -:( من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من اللّه ورسوله
) .. ولكن يا معلم ما سر تحريم المخابرة[23]؟
قال: هو سر تحريم ( المزابنة )[24]،
و( المحاقلة )[25]
قلت: فما سر التحريم فيهما[26]؟
قال: سره مودع في قوله - صلى الله عليه
وسلم -:( الربا ثلاثة وسبعون باباً )، وقوله:( الربا سبعون جزءاً أيسرها أن ينكح
الرجل أمه )[27]، وقوله:(
يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا ) قال، قيل له: الناس كلهم؟ قال:( من لم
يأكله منهم ناله من غباره )
قلت: فما سر هذه النصوص؟
قال: سرها ما أخبر عنه - صلى الله
عليه وسلم - بقوله:( لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها[28] فباعوها وأكلوا أثمانها )
قلت: تقصد أن هذه جميعا وسائل مفضية
إلى الربا.
قال: أجل .. فالله تعالى إذا حرم
شيئا حرم كل ما يؤدي إليه، ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:( لعن اللّه آكل
الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ) .. ماذا تسمع من هذا الحديث؟
قلت: أسمع أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - اخبر عن لعنة الله على من توفرت فيه هذه الأمور.
قال: هذا معناه الظاهر .. أما معناه
الخفي الذي يحتاج إلى سمع مرهف، فهو أن آكل الربا بما يستدعيه من كتبة وشهود يجعل
من عقده الآثم عقدا شرعيا بما يعطيه من صورة العقد الشرعي، وقد يستدعي من الفقهاء
من يبسط شأنه وييسره للناس.
قلت: لقد وجدت أقوال كثيرة تتساهل في
هذا الباب في عصرنا، وهي تكاد تجعل من الربا أمرا تاريخيا لا وجود له.
قال: إذن فقد صدق فيكم قوله - صلى
الله عليه وسلم -:( ليأتين على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا، فإن لم
يأكله أصابه من غباره )
قلت: ولكنهم للأسف يستحلون ذلك عن
طريق الفقهاء.
قال: ألم تسمع ما قال الحسن لفرقد
السبخي؟
قلت: بلى، فقد سأل فرقد السبخي الحسن
عن الشيء فأجابه، فقال: إن الفقهاء يخالفونك، فقال الحسن t:( ثكلتك أمك فريقد، وهل رأيت فقيها بعينك، إنما الفقيه الزاهد في
الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكاف نفسه
عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم )
قلت: لقد بدأو، فأباحوا ربا الفضل، أو
تساهلوا فيه[29].
قال: كيف ذلك، ألم يحرمه - صلى الله
عليه وسلم -، ألم يقع الإجماع على تحريمه؟
قلت: هم يرون أن هناك فروقا أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة، وكمثال
على ذلك حديث بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديء وأخذ صاعا من التمر الجيد.
قال: ولكن
ألم يلد التمر التمر سواء كان جيدا أو رديئا .. ثم لماذا لا يعرض ما يريد استبداله للبيع بالنقد الذي جعله الله تعالى واسطة التعامل، ثم يشتري الصنف المطلوب بالنقد، إبعادا لشبح الربا من العملية تماما!
قلت: بذلك
تطول العملية.
قال: وبذلك
تبتعد من أن تستغل غيرك، أو يستغلك غيرك.
قلت: وقد
ساروا في عصرنا إلى إباحة ربا البنوك، وسموه فائدة.
قال: إن أصل
تأسيس ما تسمونه ( البنوك ) قائم أساسا على الربا، فهو يتاجر في المال، ويتعامل
فقط مع المال[30]،
مثاله تماما مثال الرجل الذي رأيته في اللوحة .. هو يأكل المال، ويقيئ المال.
قلت: ولكنه
مع ذلك يقدم خدمة، فهو الذي يزود المشاريع بالمال، ولولاه لما قام أي مشروع؟
قال: وهو
يجهض المشاريع ويمتصها، ويدعوها إلى الانحراف إلى أسلوبه في جمع المال .. ودعني
أسألك سؤالا لتفهم هذا.
قلت: اسأل.
قال: أرأيت
لو أن أي مدير لبنك من البنوك كان بمخزنه مبلغ محدود من المال، فجاءه رجلان كلاهما
يريد قرضا كبيرا بالفائدة .. قرضا يكاد يستهلك ما في البنك من أموال .. وكلاهما
عرض فوائد كبيرة .. فلأيهما يميل مسؤول البنك؟
قلت:
لأكبرهما.
قال: سنا ..
قلت: فائدة
.. فما جدوى السن في هذا؟
قال: فهل
يهمه نوع المشروع؟
قلت: إنما
يهمه عظم الفائدة.
قال: فلو
أعطاه فائدة 100 % .
قلت: لو فعل
ذلك لأقام مدير البنك الأعراس والولائم.
قال: فلو
أعطاه هذه الفائدة أو أكثر منها على أن يعمل في مشروع قد يحطم اقتصاد بلاده، وينخر
أخلاق شبابه، ويدمر الأسس التي يقوم عليها المجتمع.
قلت: هو لا
يهمه كل ذلك .. يهمه شيء واحد هو أن يكسب بنكه المزيد من الأموال .. إن الصورة
التي رأيتها في الباب تشبهه تماما، أو هو يشببها تماما.
قال: فكيف
يقول هؤلاء بإباحة هذا النوع من الربا .. إن هذا هو الربا الصرف .. ولو كان الأمر
إلي لعلمت موظفي تلك البنوك حرفا، وجعلت من البنوك محال تنتج إنتاجا .. لا محال
تمتص أموالا.
قلت: ولكن
الشرع أباح القراض وهو متاجرة بالأموال[31].
قال: القراض
مخاطرة بالأموال .. وهي مخاطرة يستحق صاحبها أجرا عليها، بل إن كونها مخاطرة يدفعه
إلى الاهتمام بها ورعايتها.
قلت: وما
الفرق بين المخاطرة والمتاجرة.
قال: البنك
يربح ربحا معلوما، ولا يهمه هل خسر عميله أو ربح، فائدته مضمونة .. أما القراض،
فإن فائدته تتوقف على نجاح المتعامل معه، فإن نجح نال من الفوائد بقدر نجاحه، وإن
خسر نال من الخسارة بقدر خسارته.
قلت: ولكنهم يقولون بأن شيوع نصيب كل من
المتعاقدين في الربح ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-؟
قال: ومن قال هذا؟ ألم يتعاقد - صلى الله عليه وسلم - مع أهـل
خيبر على شطر ما يخرج منها من تمر وزرع؟
.. ألم ينه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن استئجار الأرض بتحديد ناحية معينة
منها يكون نتاجها لصاحب الأرض؟
قلت: بلى، فقد ورد في الصحيح عن رافع
بن خديج t قال:( كنا أكثر الأنصار حقلاً،
فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج
هذه فنهانا عن ذلك )[32]
قال: أخالف أحد من الفقهاء في هذا؟
قلت: لا .. لقد خضعت الأمة جميعا
لهذه النصوص، بل عللوا ذلك بما يترتب على التحديد من الظلم وعدم العدل بين
الشريكين، وأكدوا هذا الشرط في المزارعة والمساقاة والمضاربة وسائر الشركات،
واعتبروه شرطاً شرعياً لا تجوز مخالفته، وليس شرطاً جعلياً للمتعاقدين حرية فيه، وأجمعوا
عليه، وقد قال ابن المنذر يحكي الإجماع في المسألة:( أجمع كل من نحفظ من أهل العلم
على إبطال القراض إذا اشترط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة )
وقد علل ابن رشد هذا بأنه إذا اشترطت
دراهم معلومة فمن المحتمل ألا يربح غيرها فيستضر العامل، ومن المحتمل كذلك ألا
يربح مطلقاً، فيأخذ من رأس المال، ومن المحتمل كذلك أن يربح كثيراً فيستضر من شرطت
له الدراهم.
قال: فقد حرم بهذا لا بالنص فقط، بل
بالإجماع وبالإضرار الذي ورد النص بتحريمه مطلقا، فقد قال - صلى الله عليه وسلم
-:( لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله، ومن
شاق شق الله عليه )
قلت: ولكن هناك شبهة أخرى يطرحونها
هنا.
قال: وما هي؟
قلت: يقولون بأنه حتى لو سلمنا
بأن المضاربة الفاسدة، فإن للعامل أجر
مثله ؛ وعلى هذا يكون ما أخذه البنك من الأرباح بعد خصم النسب المئوية التي يأخذها
المودع هو أجرة المثل مهما بلغت ..
ضحك، وقال: أيهما أجير عند الآخر
العامل أجير عند البنك، أم البنك أجير عند العامل؟ ثم هل يحل للمسلم أن يقدم على
عقد فاسد!؟ ألم ينعقد الإجماع على أن الإقدام على العقود الفاسدة حرام، وإذا وقع
وجب فسخه؟
قلت: بلى، فقد قال ابن رشد:( واتفقوا
على أن القراض الفاسد يجب فسخه ورد المال لصاحبه ) .. ولكن هناك شبهة أخرى .. هم
يقولون بأن فساد الذمم والضمائر لدى العاملين في البنوك قد يجعلهم يزعمون خسارة
مشاريعهم، فيضيع على العميل ربحه، وبناء على ذلك كان لولي الأمر أن يعرض على
البنوك تحديد الربح مقدماً، وكان له أيضاً أن يحمل البنك ضمان ما عنده من مال إذا
تلف.
قال: وهذا ما يجعل العميل حريصا على
تتبع المشاريع التي يقوم بها البنك .. وهو ما يساهم في الإنتاج، ويعرض الأموال
للمخاطرة التي يحل بها الربح، فالغنم بالغرم.
قلت: كيف هذا؟
قال: من خاطر بماله في سبيل مصلحة من
المصالح، فإن الله يكافؤه على ذلك بأن يربح ما يشاء جزاء له على مغامرته.
قلت: يا معلم .. هناك شبه أخرى.
قال: دعني من شبهك .. وأخبرني عن هذه
البنوك التي يدافعون عنها أأجدت على الأمة خيرا؟
قلت: لا .. إنها زادت الفقراء فقرا،
والأغنياء غنى .. وملأت بلادنا بكل أشكال الانحراف.
قال: فليتق الله من يخضع شرع الله
لأهواء الناس .. وليعمل عقله في البدائل الصحيحة، لا في تبرير الأخطاء والدفاع
عنها.
قلت: أتقصد البنوك الإسلامية؟
قال: لا أقصدها .. بل أقصد بدائل
كثيرة غيرها .. لا تسمى بنوكا .. ولا علاقة لها بتصرفات البنوك.
قلت: فما هي؟
قال: ألم أقل لك: إني لا أبني ولا
أهدم .. فكيف تطلب مني أن أقترح؟
قلت: ومن يقترح؟
قال: عقولكم .. أعملوا عقولكم ..
فستصلون إلى حلول يحتار العالم في كيفية وصولكم لها.
قلت: فما يكون رائدنا لها؟
قال: التقوى .. ألم يقل الله تعالى:) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ( (البقرة: من
الآية282)، فاجعلوا رائدكم البحث عن الإنتاج الفاعل لا على الأموال، وستصب عليكم
أموال الدنيا جميعا، فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يخشى عليكم الفقر،
ولكن يخشى أن تبسط عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسوها ن فتهلككم كما أهلكتهم.
قلت للمعلم: فهمت صراع المرابي مع
الله، فكيف يصارع الحضارة .. والحضارة هي التي أنشأت الربا؟
قال: أنتم لا تفهمون الحضارة ..
الحضارة هي القيم الرفيعة لا المباني المتطاولة .. هي الرحمة والعدل والحق .. هي
أن لا يسمن قوم عل حساب قوم، ويحيا قوم ليموت قوم.
قلت: فمن أين تستوحي صراع المرابي للحضارة؟
قال: من قوله - صلى الله عليه وسلم -
في حجة الوداع:( ألا كل شيء من أمر
الجاهلية تحت قدمي موضوع )، ثم قال:( وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا
العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله )
ومن قوله تعالى وهو يبين أسباب ما
حاق باليهود من العذاب:)
فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ
لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا
وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا
لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ((
النساء: 160-161)
قلت: لا يزال اليهود هم أباطرة الربا
في العالم، فكبريات مؤسساته ومصارفه هم من اليهود، وهم الذين أفسدوا اقتصاد
العالم، ونشروا المعاملات المحرمة، وحطموا أسعار كثير من العملات، وأفقروا كثيرًا
من الشعوب.
قال: بمناسبة ذكرك لليهود، سمعت
بانهيارات اقتصادية ضخمة تحصل في العالم كل حين، ويكون لليهود في العادة دور
الفاعل فيها[33].
قلت: أجل، فقد سمحت دول شرق آسيا في
فترة ما لبعض المضاربين الكبار أمثال اليهودي المجري الأصل ( جورج سوروس )
بالمضاربة بعملاتها المحلية والتلاعب بها دون قيود أو محاسبة، مما أدى إلى انهيار
الأسواق المالية الآسيوية، فنتج عنها هبوط حاد لقيمة العملات المحلية في كل من
تايلند وأندونيسيا وماليزيا وإلى حد ما في هونج كونج، ثم انتقلت عدوى هذا المرض
إلى أقوى الاقتصادات في العالم ليصيب اليابان حيث خسرت قرابة 800 مليار دولار
أمريكي، في وقت قياسي، وأفلس على أثرها بعض مصارفها الرئيسة بالإضافة إلى إعلان
أكثر من 221 شركة يابانية إفلاسها مع انهيار العديد من مؤسساتها المالية، وارتفاع
نسبة البطالة إلى 4.1%، كما انخفض حجم الاستهلاك المحلي، وبدأ القطاع المصرفي
يعاني من داء الديون المعدومة أو السيئة والمشكوك في تحصيلها والبالغ قيمتها نحو
560 مليار دولار أمريكي، ناهيك عن التدهور الحاد في سعر صرف الين الياباني مقابل
الدولار الأمريكي، وقد ساهم في استمرار هذا الوضع تزايد درجات التشاؤم المسيطر على
المتعاملين في البورصة إزاء إمكان تحسن أوضاع الاقتصاد الراكدة في المستقبل
القريب.
ثم امتدت الأزمة لتلحق بروسيا
الفيدرالية التي خسر فيها المستثمرون نحو 200 مليون دولار، وما تبع ذلك من خفض
لقيمة الروبل، مما أثار البلبلة داخل الأسواق الروسية، وأدت فيما بعد إلى انخفاض
أسعار الأسهم مباشرة في البورصة الروسية بمقدار 15%، وهكذا دخلت روسيا في دائرة
مغلقة من التضخم المفرط وانهيار العملة.
ولم تَسلم البرازيل من هذه الأزمة،
فخسرت هي الأخرى 200 مليار دولار أمريكي، بسبب هروب الرساميل الأجنبية، بل إن
الولايات المتحدة بلغت جملة ديونها 3.5 تريليون دولار، وتكون بذلك قد بلغت الذروة
منذ نشوئها وهي تغرق في مشكلاتها الاقتصادية يوماً بعد يوم، مع ارتفاع عجزها
المالي ونسبة البطالة فيها.
قال: فهل يمكن لحضارتكم أن تستمر مع
هذ الأوضاع؟
قلت للمعلم: فكيف يصارع المرابي
الإنسانية؟
قال: المرابي يصارع البشر بالدنانير
والدراهم .. لقد رآها قوام حياة الناس فراح يطعنهم بها .. ألا تعلم مصير أموال
الدنيا لو ظلت على هذا الأسلوب؟
قلت: ما مصيرها؟
قال: مصيرها أن تجتمع في خزائن قارون
واحد، أو بعض القارونات، وهم سيفرضون على العالم بعدها أن يسير تبعا للأهواء التي
تجثم في عقول هؤلاء القارونات.
قلت: هذا صحيح .. ونحن نعيش بعض
أماراته، فصناديق النقود الدولية لم تعد تتدخل في اقتصادنا فقط، بل راحت تتدخل في
حياتنا الإنسانية وشخصيتنا وطبائعنا، لتفرض علينا ماذا نأكل، وكيف نسير، وماذا
نعمل, وإلى أين نتوجه.
قال: لقد فقدتم حريتكم إذن.
قلت: تقريبا .. وهذا ما يسميه
البعض:( الاستعمار الاقتصادي )
قال: وما سببه؟
قلت: ديون كنا قد اقترضناها لنرفع
اقتصادنا .. فحطمته وحطمتنا معه.
قال: وما الذي اضطركم إليها؟
قلت: العجلة.
قال: العجلة لأي شيء؟
قلت: لقطار الحضارة الذي فاتنا.
قال: ما أعظم غباءكم .. لو كان الأمر
إلي لحجرت على أولئك السفهاء الذين يتربعون على خزائنكم ليتلاعبوا بأموالكم ..
ويتلاعبوا بعدها بإنسانيتكم وقيمكم، ويستعبدوكم بأموالكم.
قلت: يا معلم .. لقد ورد على خاطري حديث
لست أدري: هل له علاقة بهذا أم لا؟
قال: تقصد قوله - صلى الله عليه وسلم
-:(:( الربا ثلاثة وسبعون بابًا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض
الرجل المسلم )[34]
قلت: أجل، ومثله قوله - صلى الله
عليه وسلم -:( درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية )[35]
.. فما سر هذا الربط بين الربا والزنا مع أن الزنا أعظم بكثير من الربا؟
قال: لأن الربا بما يؤدي إليه من
انهيار اقتصادي في المجتمع يؤدي بالضرورة إلى الزنا، بل يؤدي إلى إشاعة الزنا
وإقامة مؤسسات له كتلك المؤسسات التي يقيمها قومك.
قلت: فلهذا كان أخطر من زنا الأفراد.
قال: أجل فإشاعة الفواحش والتسبب في
وجودها أعظم من الفواحش نفسها، فهي لا تحطم أفرادا محدودين، بل تحطم المجتمع
جميعا.
قلت للمعلم: فكيف يصارع المرابي
نفسه؟
قال: ماذا رأيت على الصورة المعلقة
على الباب؟
قلت: صورة نهم يأكل الأموال.
قال: فهل تشبع جميع أموال الدنيا
آكلها من جوع، أو ترويه من عطش؟
قلت: كلا .. فالطعام هو الذي يشبع،
والشراب هو الذي يروي.
قال: فكذلك أولئك المنهومين سيظلون
على جوعهم وفاقتهم .. يملأون نفوسهم ويخربون حقائقهم .. ألا تعلم أن كل من سلم
ذاته لغير الله استعبد؟
قلت: بلى، والقرآن الكريم أشار إلى
هذا عندما ضرب هذا المثل، قال تعالى:) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ
وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ( (الزمر:29)
قال: فكذلك هؤلاء سيقتلهم الخوف الذي
يولده الطمع .. وسيهلكون واحدا واحدا بالجزع الذي يولده النهم.
قلت: لقد ذكرتني بقول أحد كبار
الاقتصاديين الأوروبيين، فقد قال:( الربا تجارة الموت، ومن شأنه أن يشعل
الرأسماليون الحرب وإن أكلت أكبادهم في سبيل مضاعفة رأس المال ببيع السلاح )[36]
اقتربنا من
الباب الثاني من أبواب الإنتاج المغلقة، وهو ( نتاج اللهو ) فرأيت صورة رجل يرتدي
ثياب مهرج يضحك الناس ويسليهم، فإذا انشغلوا بالضحك مد يده لجيوبهم يستل ما فيها،
ثم يعود لتهريجه.
أما الناس
الملتفون به، فإنه كلما مد أحدهم يده إلى جيبه فوجده فارغا يصيح بعويل لا يختلف عن
الضحك الذي كان يضحك به، فيختلط العويل بالضحك .. وتخلتط الكآبة بالفرح.
فسألت المعلم
عن حكاية هذا الرجل، وحكاية من حوله، فقال: هذا الرجل هو الذي يشتري أموال الناس
بلهو مبك، وفرح حزين، وسرور كئيب.
قلت: ما بالك
يا معلمي.. أنت أيضا تتكلم بالمتناقضات .. كيف يكون الفرح حزنا والسرور كآبة؟
قال: الفرح
الذي يلهيك عن حقيقتك حزن، والسرور الذي ينقلب غما كآبة.
قلت: ما علاقة
هذه الصورة بهذا الباب؟
قال: هذه صورة
اللهو المحرم الذي يفتر ثغرك عن ابتسامة آثمة تجرح قلبك، وتفرغ جيبك، وتدنيك من
الفقر الكافر.
قلت: فما هذا
اللهو الكاذب؟
قال: أشياء
كثيرة تمارسونها وتغرمون بها .. ثم تفتقرون بسببها.
قلت: اذكر لي
أمثلة عنها.
قال: سأذكر لك
مثالين.
قلت: فما
المثال الأول؟
قال: الميسر،
ألم تسمع قوله تعالى:) يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ( (البقرة: من
الآية219)، وقوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( (المائدة:90)وقوله
تعالى:) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ( (المائدة:91)
قلت: بلى، وقد
ذكرت هذه الآيات الآثار الخطيرة التي تنتج عن الوقوع في مستنقعات الميسر.
قال: فأول ما
فيها الإثم، والإثم حزاز القلوب، وأول ما فيها من الإثم اشتغال قلب صاحبها بها عن
الله وعن حقيقته، وعن الوظائف التي كلف بها .. إنها أكبر محرض من محرضات عبودية
الدينار والدرهم.
قلت: ولكن الله
تعالى ذكر أن فيها منافع؟
قال: المنافع
التي تصير إلى مضرة مضار .. هي كالفرح تماما الذي ينقلب إلى حزن .. فقد يفرح
المقامر ببعض مال يكسبه .. ولكنه ـ ولما تربى في نفسه من كسب المال بهذا الأسلوب
الذي لا جهد فيه ولا إنتاج ـ يعاود القمار ليكسب أكثر، وقد يكسب .. ولكن مصيره في
الأخير إلى خسارة تأخذ ماله جميعا .. ليفتر ثغره بعد ذلك عن عويل يختلط مع الضحك
كما يفعل المجانين.
قلت: ألهذا
اعتبره الله رجسا؟
قال: هو ليس
رجسا فقط .. بل من عمل الشياطين .. وهو لذلك مناف للإنسانية محطم لها.
قلت: وقد ذكر
الله تعالى ـ زيادة على هذه الآثار ـ ما يحدثه في المجتمع من صراع يبدأ بالبغض،
لينتهي بالعداوة.
قال: فلذلك كان
عدوا لدودا من أعداء السلام.
قلت: يا معلم
.. إن له في عصرنا نواد ضخمة .. بل أصبح الآن عالميا، فيمكن لأي شخص في أي منطقة
من مناطق العالم أن يقامر صاحبه في الشط الآخر منه.
قال: هو
كالربا، وككل مال مختلط بالحرام .. يبدأ بالرجس وينتهي بالرجس.
قلت: يا معلم
إن من قومي من يلهون لهوا مباحا، ولكنهم يخلطونه بالأموال.
قال: كل مال لم
يأتك من جهد، ولم ينتج إنتاجا نافعا فهو من أكل أموال الناس بالباطل، ألم تسمع
قوله تعالى:) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ( (البقرة: من
الآية188)، وقال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ( (النساء: من
الآية29)
قلت: ولكن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في بعض أنواع الرهان، فقال:( لا سبق إلا في خف
أو حافرٍ أو نَصْل )[37]،
فالسَبقُ هو ما يُدْفع عند الفوز بالرهان، والخف: إشارة إلى سباق الإبل، والحافر:
إشارة إلى سباق الخيل، والنصل: إشارة إلى السباق برمي السهم.
ألا يعتبر هذا
من أكل اموال الناس بالباطل، فأي إنتاج ينتج هؤلاء المتسابقون؟
قال: ينتجون
القوة.
قلت: كيف؟ ألم
تقل: إن الرياضة لمن يمارسها لا لمن يتفرج عليها.
قال: نعم ..
هذا صحيح .. ولا تناقض بين الأمرين، ولكن الرياضة النافعة التي تقوي أجساد أفراد
الأمة، وتحقق الأمر الواراد في قوله تعالى:) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ( (لأنفال: من
الآية60) لا حرج فيها لخدمتها لهذه المصلحة.
قلت: لكأن قولك
هذا يشير إلى أنك لا تقصر الحكم على ما ورد في الحديث مع أنه ورد بصيغة الحصر.
قال: الحصر
الوارد في الحديث لا يدل على مفردات المحصورين، بل يدل على العلة الجامعة بين
المحصورين، وهي القوة التي تبرز بالتنافس.
قلت: فكأنك ترى
جواز القياس عليها مع أني أراك لا تحب القياس.
قال: ليس هناك
قياس في هذا، بل هذا من باب قوله - صلى الله عليه وسلم -:( لا صلاة بحضرة طعام ولا
صلاة وهو يدافعه الأخبثان )، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ) فهما لا
يعنيان الحصر بدليل ورود النصوص بغيرها.
قلت: فما يدخل
في هذا الباب مما لا تعتبره من المقامرة المحرمة؟
قال: قد ذكرت
لك: إن القاعدة هي إباحة كل ما كان إنتاجه مما يصب في مصالح الأمة .. ومصالح الأمة
كثيرة.
قلت: فاضرب لي
أمثلة.
قال: سأضرب لك
أمثلة من النصوص، ألم تسمع عن مصارعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لركانة ومراهنته
عليه، وقد ورد في حديث المراهنة ( شاة بشاة
)
قلت: بلى، فما
في هذه المراهنة من الإنتاج المباح.
قال: هو ذا ابن
القيم يشرح لك سرها.
فجأة ظهر ابن
القيم، وهو يقول ـ وكأنه كان يسمع ما دار بيننا ـ:( وهذه المراهنة من رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وصديقه هي من الجهاد الذي يُظهر الله به دينه ويعزه به، فهي
من معنى الثلاثة المستثناة في حديث أبي هريرة، ولكن تلك الثلاثة جنسها يُعد للجهاد
بخلاف جنس الصراع، فإنه لم يعد للجهاد، وإنما يصير مشابهاً للجهاد إذا تضمن نصرة
الحق وإعلائه، كصراع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركانة.
وهذا كما أن
الثلاثة المستثناة إذا أريد بها الفخر والعلو في الأرض وظلم الناس كانت مذمومة،
فالصراع والسباق بالأقدام ونحوها إذا قصد به نصر الإسلام كان طاعة، وكان أخذ
السَبَق به حينئذ أخذاً بالحق لا بالباطل )
قلت للمعلم: قد
فهمت هذا، ولكن كيف أطبقه على ما في عصرنا من أنواع الرهانات، وكيف أميز بين ما هو
من الميسر المحرم، وبين ما هو مباح؟
قال: تفاصيل
هذا لا تبحث هنا، وقد علمت أنك خصصت جزءا من:( موسوعة الفقه المقاصدي ) لهذا.
قلت: أجل ..
فهذه المسائل تبحث في ( فقه الحياة الشخصية )
قال: فاعتبر
هذا المقصد في هذا الباب، فلهو المسلم كجده كله كسب وإنتاج.
قلت: فاضرب لي مثالا آخر على نتاج
اللهو.
قال: القنوات الإعلامية التي يشفرها
أصحابها، ثم يبيعون الفرجة عليها أموالا تغنيهم وتفقركم.
قلت: هي تغنيهم .. نعم، ولكنها لا تفقرنا،
فنحن نظل نتفرج شهرا كاملا أو شهورا معدودة بمبالغ زهيدة.
قال: وتلك المبالغ الزهيدة تذهب إلى
قوم لا حظ لهم من دين، ولا نصيب لهم من خلق، تعينوهم بها لينشروا من الرذيلة ما
تقعدهم الفاقة عنه.
قلت: ولكنه لا تضرنا المبالغ التي
يطلبونها منا؟
قال: هي أموال تخرج من ذمتكم لتنزل
في ذمتهم، تخسرون بها إنتاجا ينهضكم، أو علما يرفعكم .. قل لي: ماذا يبثون فيها
حتى تبذلوا اموالكم في سبيلها؟
قلت: فيها الحق وفيها الباطل، وفيها
الخير وفيها الشر.
قال: والنفوس إلام تميل .. أإلى
خيرها أم إلى شرها؟
قلت: إن شئت الصراحة، فهي إلى الشر
أميل، بل قد أثبتت الدراسات العلمية وجود علاقة طردية بين ما يشاهده الشباب وبين
الانحراف، فقد أثبتت دراسة بحثية علي شباب الأحداث أن نسبة 16.7% فقط يشاهدون في
وسائل الإعلام برامج توجيهية ( دينية، ثقافية، علمية ) في حين نسبة 51% يشاهدون
البرامج الرياضية، بينما 64.2% يشاهدون برامج مثيرة كالأفلام والمسلسلات
والمسرحيات[38]
وقد أثبتت هذه
الدراسات أن نوعية البرامج التي يشاهدها الفرد لها أثرها الواضح في سلوكه، والعكس
صحيح، فمن يشاهد البرامج المثيرة للغرائز قد تكون دافعة للجنوح من خلال ما يكتسبه
المشاهد منها من قيم ومواقف تدفعه لتقمصها ومحاولة تقليدها، وقد أشار أحد الأحداث
المنحرفين إلي أن سبب دخوله دار الملاحظة هو محاولة تقليد بعض الأفلام[39]،
كما أثبتت بعض الدراسات أثر وسائل الإعلام المرئية علي الشباب ودورها في انحرافه[40]
وكذلك أظهرت
دراسة أخري أن نسبة 32% من المنحرفين يقلدون بعض المشاهد التي يشاهدونها في
الأفلام[41]،
وكذلك أثبتت دراسة توصلت إلي أن مشاهدة برامج العنف قد تؤدي إلي سلوك عدواني
مستقبلا[42].
وقد أصدرت
منظمة اليونسكو الدولية تقريرا عن خطورة برامج الإعلام علي الشباب حيث اعتبرت
المنظمة أن أفلام العصابات تؤدي إلي اضطرابات أخلاقية تكمن وراء الجرائم المختلفة[43]،
كل ذلك يدل علي حجم تأثير وسائل الإعلام بمختلف أنواعها المقروءة والمسموعة
والمرئية علي الشخصية العادية فضلا عن الفئة الشبابية، وتبين هذه الدراسات مقدار
ما تبثه من دواعي الشر وأسبابه، وتقديمه لفئة سريعة التأثر والانجذاب إليه، خاصة
وأنه يُعرض في صورة تأسر أصحاب النفوس المضطربة .
قال: ألم تسمعوا قوله تعالى:) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي
لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا
هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ( (لقمان:6) .. ألا ترى
نوع العقاب المرتبط بهؤلاء.
قلت: بلى ..
إنه العذاب المهين.
قال: فبشر من
يشتري لهو الحديث المضل بهذا النوع من العذاب.
قلت: يا معلم
.. إني أرى تباشير ما تذكره من هذا النوع من العذاب في الدنيا قبل الآخرة، إني
أراهم ولطول إلفتهم لما يرون عليه العالم الغربي يحتقرون أنفسهم وأساليب حياتهم
ويزدرونها، وكأنهم يتصورون أنفسهم خلقوا من طينة أردأ من الطينة التي خلق منها
أولئك الذين امتلكوا عقولهم وقلوبهم وجيوبهم.
قال: إن حكمة
الله الممزوجة برحمته تأبى أن تؤجل العقوبة تأجيلا كاملا، بل ترسل من النذر ما
يذكر من استحقها بما ينتظره من العذاب.
تقدمت من الباب الثالث من الأبواب
المغلقة لباب الإنتاج، فرأيت صورة لرجل يحمل كيسا ضخما، وهو فاغر فاه يعد نفسه
لملأ كيسه بأموال تبرز ثم تختفي، وتقترب منه فيمد يده إليها مسرعا، لكنها تنفر
أسرع منه .. فإن طال غيابها أخرج ما في جيبه من نقود، ورماها في الهواء لتبرز له
تلك الأموال الكثيرة، ثم تختفي من غير أن ينال منها شيئا، اللهم إلا ما ضاع منه من
نقود.
سألت المرشد عنه، فقال: هذا مثال من
يشتري الطمع.
ضحكت، وقلت: وهل الطمع يشترى، وفي أي
سوق، وما هو ثمنه؟ .. ما أغرب هذا!
قال المعلم: أنتم تشترونه، وفي كل
أسواقكم، وبمبالغ ضخمة يمكنها أن تحسن مستوياتكم، وتقتل الفقر الجاثم على صدوركم.
قلت: اسمح لي يا معلم أن أخبرك بأني
لم أر في حياتي سلعة تباع اسمها الطمع .. حقيقة هو سلوك إنساني تحدثنا عن علاجه في
( كنز القناعة ) لكني لا أتصور أنه يباع .. فالمرض لا يباع، بل يعالج.
قال: أليس الطمع هو طلب النفس لأشياء
كثيرة تمني نفسها بحصولها، ولو من غير ممارسة أسبابها؟
قلت: نعم .. وهو طبع لبعض الكسالى
المتقاعدين .. ومع ذلك يودون لو أن كل خيرات العالم بأيديهم ينهلون منها.
قال: فأنتم في واقعكم تغذون هؤلاء
الكسالى بما يزيد طمعهم، وينهب ما يملكونه من أموال قليلة كانت او كثيرة.
قلت: فاضرب لي على ذلك أمثلة[44]، فإني لا أكاد أتصور هذا.
قال: ستضرب أنت هذه الأمثلة .. قل
لي: أرى إعلانات كثيرة في هذا الذي تظلون مشدوهين حوله، تدعوكم لكسب الآلاف، ومئات
الآلاف، والملايين.
قلت: أجل .. هذه مسابقات.
قال: فكيف تشاركون فيها؟
ضحكت، وقلت: ما بالك يا معلم أغرك
إعلامنا .. أتريد أن تشارك في هذه المسابقات .. إن ذلك سهل جدا فما عليك إلا أن تتصل
برقم من أرقام الهواتف المعلنة .
قال: وهل الأجر الذي تطلبه هذه
الهواتف سهل ميسور؟
قلت: كلا .. فالاتصال بتلك الأرقام
ليس بالأجور العادية، وإنما بأجور مرتفعة جداً.
قال: ومن ينال ثمار تلك المكالمات؟
قلت: الجهة التي أجرت المسابقة، وجزء
منها لشركة الإتصالات .
قال: فهذا من القمار الصريح، فإن هذا
يخسر مالا موجودا في ذمته طمعا في مال كثير هو أشبه بالسراب، أو بالهباء.
قلت: ألا تعلم ـ يا معلم ـ بأن الذين
يتصلون بهذه الجهات يغرمون العشرات، أو المئات، وأحياناً الآلاف، يمنيهم الشيطان
بالحصول على المبالغ الضخمة، والسيارات الفاخرة، وغير ذلك مما هو معلن عنه .. وهذه
الجهات تنال بسببهم أموالا ضخمة.
وبعض هؤلاء رأوا أن الدعوة إلى
الإتصال فقط قد لا تكفي للإغراء، فوضعوا أسئلة ساذجة و دعوا إلى الاتصال للإجابة
عنها.
بل إنهم ـ من باب المخادعة ـ يجعلون
الأسئلة دينية أحيانا، ويسمون هذا النوع من المقامرة باسم:( مسابقة رمضان )
قال: وأين الرقابة؟
قلت: الرقابة .. ماذا تعني ..
الرقابة لا علاقة لها بهذا .. بل إن هذا النوع من المقامرات لا يخضع لأي جهة
رقابية، و لذلك يعلن المقامرون ما شاءوا، حتى أعلن بعضهم عن جوائز بعشرات الملايين
من الدولارات، والمخدوعون بهذه الإعلانات لا توجد أي جهة تضمن لهم الحصول على شيء
مما يأتي في الإعلانات، بل يمكن أن يغرموا مبالغ المكالمات الهاتفية، ثم يظهر أن
الملايين كانت مجرد سراب خدعوا به.
قال المعلم: فهذا مثال عن نتاج الطمع
.. فهل هناك مثال آخر؟
قلت: الأمثلة في هذا كثيرة .. فقد
سقطت على خبير .. فمن الأمثلة التي يصلح إيرادها هنا:( لعبة النصب الهرمية )
قال: وما هي هذه اللعبة؟
قلت: هذه اللعبة تقوم بها شركات
أجنبية معظمها من بلاد الغرب، ولكن الأموال التي تسعى للحصول عليها هي أموال
المسلمين في البلاد العربية والإسلامية، حيث لا تجد من تخدعه في الغرب، وظهرت هذه
اللعبة بأسماء مختلفة مثل: هانك، و الدولار، و الصاروخي، و البنتاجونو، و غيرها.
و تبدأ بشراء قائمة فيها ستة أسماء –
مثلاً - مرتبين من المرتبة الأولى إلى السادسة، وفي أسفل القائمة يكتب المشتري
اسمه وعنوانه باعتباره مشتركاً جديداً.
هذا المبلغ كان عند هانك منذ عشرين
عاماً عشرة دولارات، وبلغ بعد ذلك عند غيره أربعين دولاراً .
المشترك الجديد يرسل مبلغاً مماثلاً
للشركة غير المبلغ الذي دفعه ثمناً للقائمة، ويرسل مثله أيضاً لحساب المشترك في
أعلى القائمة، وبعد هذا يصله من الشركة ثلاث قوائم يحاول أن يبيعها حتى يسترد
المبلغ الذي غرمه، فإن لم يتمكن من بيعها خسر ما دفع، ولذلك فهو يضغط على أقاربه
وأصدقائه ومعارفه لبيع هذه القوائم، وهنا يظهر خبث هذه اللعبة، فكل من اشترى منهم
يقوم بالعمل نفسه لتصله ثلاث قوائم يحاول بيعها، وهكذا يظل الضغط على الأقارب
والأصدقاء، والأموال يذهب الثلثان منها لشركة النصب ويعود الثلث للمشتركين.
فالثلث الذي يأخذه من يصلون إلى
المرتبة الأولى إنما هو من أموال المسلمين الذين خسروا، وليس من أموال الشركة.
قال: فهذا القمار لم يكتف بضحية
واحدة، بل طلب من ضحيته الدعوة للمقامرة ونشر هذه الرذيلة.
قلت: إن هناك مسابقات أخرى استفادت
من نجاح هذا الأسلوب .. ائذن لي يا معلم أن أذكر لك بعضها للتنبيه على خطورتها،
وما يحتوي عليه التعامل معها من أنواع الإثم.
قال: اذكر ما شتهر منها ليحذر منها
.. ودع الميت في أكفانه فلا خير في إحيائه.
جولد كوست:
قلت: بل هي حية ممتلئة حياة، ولا
تزيدها أموالنا التي نسقيها بها إلا حياة ونشاطا وشبابا .. فمن هذه الجهات جهة
اسمها: جولد كوست، وهي ـ بدلاً من أن تبدأ ببيع قائمة لا قيمة لها في ذاتها ـ جعلت
البدء بيع ذهب، ولكن بسعر قد يبلغ ثلاثة أضعاف الثمن.
قال: كيف ذلك، ومن يشتري منها بهذا
السعر؟
قلت: هنا جاء استثمار فكرة النصب
الهرمية .. فالمشتري يدفع نصف الثمن، ولا يتسلم الذهب في الحال.
قال: لا يستلمه في الحال .. هذا ربا
ألم يقل - صلى الله عليه وسلم -:( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر،
والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء يدا بيد،
فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إن كان يدا بيد )[45]
قلت: ليت الأمر توقف عند هذا الحد ..
بل إن هذا الضحية يطالب بعد دفع ماله بأن يأتي بعشرة مشترين على الأقل، و عندئذ
تحسب له الشركة 10% من أموال العشرة، فيصبح كأنه دفع الثمن كاملاً، ويرسل إليه
الذهب، وما زاد على العشرة من المشترين عن طريقه يرسل إليه نسبة العشرة في المائة
وتأخذ الشركة 90%، أما إذا لم يستطع أن يأتي بعشرة مشترين فلا يأخذ شيئاً، ولا يرد
له ما دفع، و إنما يرسلون إليه نصف سبيكة الذهب.
أكوام كوم:
قلت: ومن الجهات التي استفادت من
لعبة النصب شركة ( أكوام كوم)، فالمشترك يدفع مائة دولار، ثم يبدأ الضغط على
الأقارب و غيرهم حتى يجعل عشرة يشتركون، فتأخذ الشركة تسعمائة دولار، وترد له
المائة التي دفعها، ثم إن استمر في جذب مشتركين حصل على مبالغ أخرى .
و ما تقدمه الشركة مقابل الاشتراك لا
يلتفت إليه، ولا أحد ينظر إليه أو يهتم به، فالمشترك دفع المائة طمعاً في المئات
أو الآلاف التي قد يحصل عليها نتيجة إشتراك غيره، فإن لم يستطع ندم لضياع ماله
هباءً.
قال: فهذه المسابقات تعطي جوائزها
لأقدر الناس على الدعاية لها وإشاعة منكرها، فهل هناك مسابقات أخرى لها أدوار
أخرى؟!
قلت: أجل .. وأهمها وأكثرها انتشارا
ما يمكن تسميته بمسابقات الاستهلاك .. وهي تدخل ضمن الحوافز التجارية.
قال: وما الحوافز التجارية؟
قلت: هي جميع الأعمال التي تقوم بها
مؤسسة ما لزيادة مبيعاتها[46].
قال: هذا أمر لا حرج فيه إذا تحلى
بالضوابط الشرعية، بل إن الشرع يأمر بالإتقان المؤدي إلى رغبة المشتري في الشراء.
قلت: من الحوافز ما يمكن اعتباره من
هذا الباب، ولا أظن أن هناك من يخالف فيه[47].. ولكن منها ما لادور له عدا دور واحد هو تشجيع الاستهلاك من غير
أي فائدة تعود على المستتهلك.
قال: فاذكر لي أمثلة على ذلك.
قلت: من أمثلتها أن تأتي إلى محل
تجاري قد وضع أي سلعة، فمن اشترى منه أعطاه ورقة فيها مسابقة ؛ فيها بعض الأسئلة
تقوم بحلها، ثم بعد ذلك تفرز الإجابات، وقد يحل الأسئلة جمع من الناس، وحينذاك
تُفرز عن طريق الحظ.
وقد أفتى العلماء بحرمة هذا القسم
إذا كانت الجائزة مؤثرة في السعر بحيث إن التاجر رفع السعر مقابل الجائزة، لأنها
من الميسر، فالعميل أو المستهلك لمَّا اشترى هذه السلعة زاد في الثمن، وقد يحصل
على الجائزة وقد لا يحصل على الجائزة ؛ فهو إما غانم أو غارم .
أما إذا لم يكن للجائزة أثر في السعر
؛ ولم يكن قصده من وضعها إلا الشراء منه، فقد اختلف فيها العلماء، فمنهم من ذهب
إلى التحريم مطلقاً، وعللوا ذلك بأن السلعة وإن كانت بسعر المثل، والعميل يحتاجها
فإن اشتراط عدم الزيادة في السعر مما يصعب ضبطه .
زيادة على أن قصد العميل للسلعة أمر
خفي يصعب التحقق منه لأن العميل قد يأخذ في اعتباره الجائزة، فإذا قصد الجائزة دخل
في القمار .
ثم إن مثل هذه المعاملات مدعاة لأن
يشتري الإنسان ما لا يحتاجه، وهذا فيه شيء من الإسراف .
ومنهم من فصل،
فقال: إن كان قصد المستهلك السلعة لحاجته إليها فهذا جائز، فالمهم عنده السلعة
وليس قصده الجائزة، فكونه يدخل في المسابقة ويحل الأسئلة جائز ولا بأس به .
أما إن كان قصده الجائزة، وهو ليس
محتاجا إلى السلعة، وإنما أراد من هذا الشراء أن يحوز على الجائزة، فقد نصوا على
حرمته لأنه لا يخلو من القمار فهو داخل إما غانم أو غارم، وما دام أنه لا يحتاج
إلى السلعة فغالباً لا ينتفع بها.
قال: في القول بالتفصيل شيء من
الحقيقة، ولكن الآثار النفسية والاجتماعية التي يحدثها هذا النوع من المسابقات
تدعو إلى التشديد في الحكم .. وقد أعجبني ما قاله عالم من علماء عصركم في هذه
المسألة، فقد ذكر مقاصد كثيرة ربما غابت على من قالوا بالتفصيل، وإن كان لقولهم
وجه حق.
قلت: لعلك تقصد الشيخ القرضاوي، فقد
اطلعت على فتوى له في هذا الجانب، وقد ذكر أربعة وجوه ترجح القول بتحريمها إن أذنت
عددتها.
قال: هاتها .. فالحكم المقاصدي لا
يغني الإجمال فيه عن التفصيل.
قلت: من الوجوه التي ذكرها الشيخ ـ
حفظه الله ـ أن هذا التعامل وإن لم يكن عين الميسر والقمار ففيه روح الميسر
والقمار، وهي الاعتماد على الحظ لا على السعي وبذل الجهد وفق سنن الله في الكون
وشبكة الأسباب والمسببات وما شرع الله لعباده من العمل في الزراعة والصناعة
والتجارة والحرف المختلفة أن مهمته أن ينتظر أن تهبط عليه من السماء جائزة تغنيه
من فقر، وتعزه من ذل وتنقله من طبقة إلى طبقة دون أن يبذل مجهوداً أو يعطي الحياة
كما أخذ منها.
قال: هذا صحيح، ولهذا أغلق الشرع
أبواب الاتكال على الحظ، فالعمل والإنتاج هو الذي يولد النجاح لا الحظ.
قلت: وقد استدل الشيخ لهذا بتحريم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنرد[48]،
وقال:( من لعب النرد فقد عصى الله ورسوله )، وقال:( من لعب النردشير فكأنما صبغ
يده في لحم خنـزير ودمه )، وما ذلك إلا لأنه يقوم على الحظ، لا على عمل العقل ولا
عمل البدن.
قال: هذا وجه صالح واستدلال قوي، فما
الوجه الثاني؟
قلت: هو أن هذا السلوك يذكي نزعة
الأنانية والأثرة عند الإنسان، ولهذا كان إفرازاً من إفرازات الرأسمالية الغربية التي
تقوم أول ما تقوم على إذكاء النـزعة الفردية وتقويتها ولو كان ذلك على حساب
الآخرين ومصالحهم ووجودهم المادي أو الأدبي.
ومن هنا عرف النظام الرأسمالي بهذا
التنافس الشرس الذي لا يبالي فيه التاجر أن يسحق الآخرين فالتجارة في هذا النظام
لها مخالب وأنياب تفترس وتقتل ولا تترحم على من تقتله.
ومن أجل هذا يسعى كل واحد أن يجذب
إليه العملاء والزبائن بكل ما يمكنه من ألوان الدعاية والإعلان والإغراءات ولو
خربت بيوت الأغيار وأغلقت متاجرهم شعار كل منهم: أنا وليمت من يموت.
قال: هذا وجه ممتاز .. بورك في الشيخ
.. إن الأخلاق الإسلامية تأبى هذا كل الإباء، ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )[49]
قلت: لقد ذكر الشيخ هذا الحديث، وذكر
أن التاجر في العصور القريبة في بعض البلاد الإسلامية إذا رأى محله قد جاءه زبائن
كثيرة ورأى جاره لم يدخل عليه أحد يوصي زبائنه أن يذهبوا إلى محل جاره، فعنده من
البضاعة ما عنده، وبعضهم كان يغلق دكانه إذا باع ما يكفيه وعياله، ليتيح الفرصة
لجاره أن يكسب مثل ما كسب.
ثم تساءل الشيخ قائلا:( فأين هذه
الروح الأخوية الإيثارية من تلك الروح الأنانية التي تريد أن تحيي نفسها ولو
بإماتة الآخرين؟
ويل للتاجر الصغير في هذه السوق
الجشعة، ستدوسه أقدام الكبار، وتفرمه عجلاتهم الجبارة، حيث لا يملك أن ينافسهم في
رصد مثل هذه الجوائز الكبيرة المغرية للطامعين من الخلق وما أكثرهم! )
قال: فما الوجه الثالث؟
قلت: هو أن قيمة هذه الجوائز الكبيرة
-في التحليل النهائي- تؤخذ من مجموع المستهلكين، أي أن التاجر يستطيع أن يبيع
السلعة بتسعين أو بثمانين، ولكن العشرة أو العشرين هذه يقتطعها من المشترين أو
المستهلكين، حين يبيع السلعة بمائة كاملة، وما اقتطعه من هؤلاء وهم جملة ألوف أو
عشرات ألوف تشتري به الجائزة الثمينة ليأخذها واحد منهم فقط، ولا يصيب الآخرون
منها شيئاً إلا التمني!
ومعنى هذا عند التحقيق: أننا ظلمنا
مجموع المستهلكين، وبعنا لهم السلعة بأكثر مما ينبغي لكي نشبع رغبة واحد منهم فقط
بإعطائه ما لم يتعب فيه.
ولا يقال: أن مبلغ هذه الجائزة
الكبيرة إنما أخذ من ربح التاجر، وليس من مجموع المستهلكين. فهذا مخالف للواقع.
فإن التاجر يقدر لنفسه ربحاً معيناً أو نسبة معينة إلى رأس المال، وهو يأخذها
ويوفرها لنفسه قبل كل شيء.
أما هذه الجوائز فهي شيء آخر بعدما
أخذ لنفسه ما أخذ، رصده لجذب عدد أكثر وأكثر من المشترين والمستهلكين.
قال: ما أحسن هذا الوجه .. فما الوجه
الرابع؟
قلت: هو أن رصد هذه الجوائز الكبيرة
يهدف إلى تحريض الناس على كثرة الامتلاك والمزيد من اشتراء السلع ولو لم يكن لهم
حاجة حقيقية إليها. وهذا هو توجه الحضارة الرأسمالية الغربية التي سماها بعضهم
(حضارة الاستهلاك) .. ففلسفة هؤلاء مناقضة لفلسفتنا، ومنهجهم يخالف منهجنا.
منهجنا يقوم على القصد والاعتدال في
الإنفاق، وتحريم الإسراف .. ومنهج أولئك القوم يقوم على إغراء الناس بالإسراف في
الاستهلاك وشراء سلعهم وإن كان لديهم ما يغني عنها، حتى أن المرء يشتري بالدين أو
بالأقساط، ويحمِّل نفسه أكثر من طاقتها بإعلاناتهم المثيرة وجوائزهم المغرية
والدَين هَمَّ بالليل ومذلة بالنهار.
بل رأينا من يستدين من البنوك
الربوية بالفوائد، ويقتحم النار على بصيرة، ليشتري أشياء ليست ضرورية ولا حاجية،
بل هي كماليات، ربما كان عنده مثلها، ولكنه وقع تحت سحر الإغراء فاستجاب له، وضعفت
إرادته أمام هذا التحريض المنظم، الذي هو أشبه بالغزو لعقل الإنسان وإرادته، حتى
يستسلم.
وإذا كان من الأقوال المأثورة عندنا:
أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا باعوا لم يمدحوا وإذا اشتروا لم يذموا، فهؤلاء
القوم إذا باعوا بالغوا في مدح سلعهم الجديدة، وذم سلع غيرهم أو حتى سلعهم القديمة
حتى يعمد الإنسان إلى إطراح ما عنده واقتناء الجديد.
وإذا كان من القواعد الشرعية: أن ما
أدى إلى الحرام فهو حرام، وأن سد الذرائع إلى المفاسد والمحرمات واجب، وكانت هذه
الجوائز الكبيرة ذريعة إلى الإسراف المحرم، والاستدانة المذمومة، كان الواجب سد
الذريعة إلى هذا الفساد والإفتاء بتحريم هذا التصرف محافظة على أموال المسلمين
وعلى أخلاقياتهم.
قال: صدق الشيخ .. وهذه هي الفتوى
المستوعبة الشاملة .. فالشيطان قد يتخذ من الحق قنطرة للباطل، ومن الخير سبيلا
للشر .. فانظروا إلى الأحكام من جميع الزوايا .. فمن نظر من زاوية واحدة وقع في
أخطاء قد تجر بعدها سيولا من المنكرات.
قلت: صدقت .. فقد أفضى القول
بالتفصيل أو الإباحة إلى اعتبار هذا الأسلوب من أساليب التحفيز هو الأسلوب الوحيد
.. فلم يعد يجدي ما كان معروفا من رحمة المستهلكين بالتخفيض والجودة .. بل صار
تحفيزهم بخلق الطمع الذي زادته هذه المسابقات رسوخا وتأكيدا.
قال: فلذلك أغلقت مدائن الغنى هذا
الباب .. ولم تفتح من أبواب الإنتاج إلا باب الكسب الطيب، والجهد المثمر، والإنتاج
الحي.
اقتربنا من باب ( نتاج الكسل ) فرأيت
رجلا جالسا على مكتبه الفارغ، وهو يتثاءب، وينظر بين الحين والحين إلى ساعته، وإلى
يومية معلقة بجانبه، وقد كتب في يوم من أيامها:( هذا موعد نيلي لمرتبي )
ضحكت، وقلت: أخيرا ظفرت بصورة واقعية
.. هذا الرجل يمثل كثيرا من موظفينا، فهو بتثاؤبه ونظرته إلى ساعته واهتمامه بعد
الأيام لينال مرتبه يمثل واقع كثير من الوظائف عندنا.
قال المعلم: نعم هذه صورة تمثل
الواقع بوقاحته .. فتفضحه من غير ألوان قد تغض الطرف عن بعض عيوبه.
قلت: وأي عيوب في هذا، يا معلم، لا
بد للموظف من ساعة، ولا بد له من مرتب، ولا حرج عليه إن تثاءب مادام يضع يده على
فمه حتى لا يضحك عليه الشيطان.
قال: الشيطان لا يضحك على تثاؤبكم
فقط .. بل يضحك على جواهر أعماركم التي تعدونها، لا لتغرسوا فيها الفضائل،
وتعمروها بالكمالات، بل لتقضوا عليها، وتميتوها موتا بطيئا.
قلت: أللأعمار جواهر .. وكيف نقضي
عليها؟
قال: إن كل نفس يتنفسه الإنسان جوهرة
نفيسة لا تعدلها جميع جواهر الدنيا، ألا تعلم غلاوة وقت الإنسان؟
قلت: بلى، فوقت الإنسان هو حياته،
ولا يمكن قياسه بأي ميزان من موازين الدنيا.
قال: فأراكم تتلاعبون بأوقاتكم،
وتذيقونها من العذاب ألوانا.
قلت: تقصد عمالنا أم بطالينا؟
قال: أقصد العمل المقنع بقناع
البطالة، أو البطال الذي يخادع نفسه بالعمل.
قلت: هناك فرق كبير بين العامل
والبطال، فالعامل ينال مرتبا، بينما البطال المسكين لا ينال أي مرتب .. والعامل من
جهة أخرى له عيد شهري يحسده عليه جميع بطالي الدنيا .. وحدث عن فرحته وترقبه لذلك
العيد ولا حرج.
قال: أي عيد هذا الذي ينفرد به
العامل دون البطال؟
قلت: إنه عيد المرتب، ولولاه لما فرح
الناس بعيد الفطر وعيد الأضحى.
قال: عيد العامل الحقيقي هو إنتاجه
والثمرات التي جناها من عمله، أما المرتب والرزق المساق إليه، فذاك آت لا محالة ..
فلا حاجة لأن يستعجله أو يستبطئه، ألم تقرأ قوله - صلى الله عليه وسلم -:( إن روح
القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله
فأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية، فإن الله تعالى
لا ينال ما عنده إلا بطاعته)[50]
قلت: ولكن .. ماذا عساه يعمل العامل
المسكين، وهو يذهب إلى عمله صباحا، فلا يجد أي شيء، فيظل جالسا ينتظر دق جرس
الخروج ليعود إلى بيته، وقد لا يحتاج إلى ذلك إذا كان إماما، فللأئمة عندنا من
الفراغ ما يكاد يقتلهم.
قال: عجبا .. ألأئمتكم فراغ قاتل؟
قلت: أجل .. فهم لا يكلفون عادة إلا
بالصلوات الخمس التي يشترك فيها جميع الناس، أو بخطبة الجمعة، وهي مكتوبة عنده من
لدن أجداده، ليس له من دور إلا قراءتها على من يحسن القراءة، وإن شاء أن يقدم
للناس دروسا في الطهارة فعل، وهو لا يتعب فيها لأنه حفظ أحكامها من صباه.
قال: أهذا كل دوره، الأئمة هم ورثة
الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أفلا يسيرون إلى الناس يعلمونهم.
قلت: ماذا يعلمونهم؟
قال: أحكام الله .. دين الله ..
يردون الشبهات بنور اليقين.. يمحقون الباطل بسيوف الحق.
ضحكت، وقلت: وما علاقة الأئمة بهذا؟
.. وظيفتهم التي ينالون مرتبها لا علاقة لها بما ذكرت.. بالإضافة إلى ذلك .. أبشرك
بأن أكثر أئمتنا من بلدي الذي أتحدث منه، ومن كثير من بلاد المسلمين من أنصاف
الأميين .. نعم إنهم يحسنون القراءة ولكن الهمة المنحطة تجعلهم لا يبالون بشيء.
قال: ما تقوله خطير، ألم تسمع قوله
تعالى:) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً( (الاسراء:36)؟
قلت: أتمنى من كل قلبي أن أكون مخطئا
.. بل أتمنى لو أكون كاذبا ومدعيا .. ولكن هذا هو الواقع .. ألا تعلم أني أستاذ
بمعهد يخرج الأئمة، ويدربهم، ويعيد تدريب المتدريبن منهم؟
قال: أجل .. أعلم ذلك.
قلت: تصور ـ يا معلم ـ أن الطالب
يدرس عندنا ليتخرج إماما، فيمكث بعد تخرجه عشر سنوات أو أكثر في وظيفته التي لا
تتجاوز أداءه الصلوات الخمس وخطبة الجمعة، ثم يأتينا بعد العشر ليعاد تكوينه لغرض
الترقي، فنجده أميا، لا علاقة له بعلم ولا دين .. حتى القرآن الكريم الذي دخل معهد
التكوين على أساسه نراه ينساه، ولا يحفظ منه إلا الأوراد التي يستل بها ما في جيوب
الناس من أموال.
قال: فكيف تقبلونه؟ .. ثم كيف ينجح؟
قلت: ومن يهتم؟ .. الكل يأكل الخبز
بوظيفته، وينتظر مرتبه .. ألا تعلم شعار الرأسمالية؟
قال: بلى ( دعه يعمل، دعه يمر )
قلت: قلبناها نحن، فقلنا:( دعه يأكل،
دعه يمر )
قال: أتدعونه يأكل الحرام، من أجاز
له أن يرتزق من الصلوات الخمس أو من خطبة الجمعة، إن أي فرد من المسلمين يستطيع أن
يفعل هذا؟
قلت: وماذا عساه يفعل غير هذا؟
قال: إن نال أجرا، فهو لا يناله إلا
لأحد أمرين، وبأحد سببين: تفرغه لطلب العلم والتضلع فيه ليكون من أهل قوله تعالى:) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ( (التوبة:122)
أو خروجه للناس يعلمهم وينصحهم، لا
يخاف في ذلك لومة لائمة.
قلت: ليس له القدرة على كلا الأمرين
.. أما الأمر الأول، فإن المستوى المحدود لأكثر الأئمة يمنعهم من الاهتمام بالعلم
أو مدارسته .. ألا تعلم يا معلم أن أبسط المستويات عندنا هي مستويات الأئمة، فأكثر
الأئمة عندنا من الذين لم ترحمهم المدارس، فطردتهم لعدم أهليتهم؟
أما الجانب الثاني، فلا قدرة له عليه
أيضا، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
قال: فما يفعل أئمتكم إذن؟
قلت: يتثاءبون، وينظرون إلى ساعاتهم،
وإلى يومياتهم كما رأينا في الصورة.
قال: فهم لا يختلفون عن البطالين
المقنعين بقناع العمل.
قلت: هناك فرق يا معلم، فالإمام لا
ينظر للساعة ليخرج، وإنما ينظر إليها ليعلم مواقيت الصلاة، فالويل له إن لم يذهب
في الوقت.
قال: الويل له ممن؟
قلت: من الناس الذي يحاسبونه على
أنفاسه.
قال: الويل لهم منه .. فهو الذي
يحرمهم من كل خير .. الإمام هو الذي يعلم الناس القرآن، ويؤدبهم بآدابه .. ولا
يدخر أي جهد في سبيل نصحهم وتعليمهم.
قلت: يا معلم .. أرى أنا بالغنا في
الحكم على هؤلاء .. ففيهم الناصحون..
قال: لولا ما فيهم من الناصحين لخسف
بكم .. بشر هؤلاء الذين جعلوا من الإمامة مغنما بقوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ
وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ ( (التوبة: من
الآية34)
قلت: ولكن هذه الآية نزلت في أهل
الكتاب.
قال: القرآن الكريم كتابكم، لا كتاب
أهل الكتاب .. ولو كانت هذه الآية لأهل الكتاب لنزلت في كتبهم .. ألم تسمع ما ورد
من النصوص في الأئمة المضلين؟
قلت: بلى، فقد قال - صلى الله عليه
وسلم -:( إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين )[51]،
بل أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن خوفه من هؤلاء أعظم من خوفه من الدجال مع ما
ذكر من فتنته، فقال:( غير الدجال أخوف على
أمتي من الدجال الأئمة المضلون )[52]،
بل اعتبرهم - صلى الله عليه وسلم - دجالين، فقال:( يكون في آخر الزمان دجالون
كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا
يضلونكم ولا يفتنونكم )[53]
قال: ألا تعلم أن خطر هؤلاء الأئمة ـ
الذين يجعلون من الرسالة التي وكلت إليهم مهنة يأكلون بها ـ أعظم من خطر الظلمة من
الحكام.
قلت: كيف، فلولا الحاكم الظالم ما
كان هذا النوع من الأئمة.
قال: بل قل: لولا هؤلاء ما ظلم
الحاكم .. إن هؤلاء بجهلهم وتثاؤبهم وانشغالهم عن الوظيفة الخطيرة التي وكلت إليهم
وتشويههم للدين ولرجاله مكن للمفسدين العابثين بالخلق، وأعطاهم الفرص المواتية
ليفعلو ما يشاءون.
قلت: فما الحل ـ يا معلم ـ هذا واقع
نعيشه، ولا نستطيع أن نفلت منه.
قال: الأمير الحازم يخرجكم من هذا
المأزق.
قلت: كيف ذلك؟
قال: يحمل درة عمر t،
ويطوف على هؤلاء كما كان يطوف عمر t، ويسألهم واحدا واحد، فكل من قصر يبعثه إلى المراكز التي هيأتموها
لتدريب العمال.
قلت: هم لا يتقنون أي عمل، فكيف تطلب
منهم أن يدربوا العمال .. أم أنك تريد أن تُدمٍٍََّر هذه المراكز كما دُمّرت
المساجد؟
قال: ومن قال لكم: إنهم سيدربون
العمال.
قلت: وماذا يفعلون في هذه المراكز؟
قال: يتعلمون أعمالا أجدى من عمل
الإمامة الذي لا يحسنونه.
قلت: فإن لم تكن لهم القدرة على
التعلم.
قال: ابعثوهم أعوانا للعمال، فمن لم
يستطع أن يحترف يعين القادر على الحرفة.
قلت: ولكن الأعوان عندنا كثيرون، وهم
أيضا يشكون البطالة، وهم أيضا من الذين يتثاءبون وينظرون إلى ساعاتهم.
قال: أهم أولئك الذين يجلسون في
مكاتبهم يمضغون الكلام، ويرتلون الصحف.
قلت: أجل، وما أكثرهم .. فعمل أحدهم
في شهر كامل قد لا يتجاوز ساعة واحدة .. زيادة على أن أكثر تلك الأعمال مما يسمى
بالبيروقراطية.
قال: البيروقراطية .. ما
البيروقراطية؟
قلت: اصبر علي لأشرحها لك، فليس من
السهولة توضيحها.
قال: ) سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ
أَمْراً( (الكهف: من
الآية69)
ضحكت، وقلت: ليس لهذه الدرجة ..
فالأمر أهون من ذلك بكثير ..
رد بجده المعهود قائلا: هذا أدب طالب
العالم، ولا يمكنني أن أتعلم على يديك شيئا، وأنا لا أتحلى بهذا الأدب.
قلت: فاسمع إذن .. إذا رشحت نفسك
لطلب وظيفة تستدعي وجود يدك اليمنى مثلا .. إما للكتابة أو السياقة أو الحفر أو
تقديم الشاي للمسؤول أو غيرها، فإن ذلك يستدعي وجود يدك اليمنى.
قال: هذا صحيح .. وقد عدل من اشترط
هذا الشرط.
قلت: ولكن العدل يتوقف هنا.
قال: كيف؟
قلت: لأن هؤلاء لا يكتفون بالنظر إلى
يدك اليمنى، بل يطلبون منك أن تثبت وجودها ..
قال: وكيف أثبت وجودها بغير الحس؟
قلت: هناك جهات كثيرة وظيفتها إثبات
وجود يدك اليمنى.
قال مشدوها: جهات كثيرة!
قلت: أجل .. تبدأ بالطبيب العام الذي
يرسلك لطبيب مختص .. وهو يقوم بالتصوير الإشعاعي للتأكد من وجود عظام يدك اليمنى،
فلا يمكن لعضلات اليد أن تقوم بدون عظام .. ثم يرسلك لإجراء التحاليل اللازمة
للتأكد من أن الدم يضخ في عروق اليد اليمنى.
قال: ولماذا؟
قلت: لأن اليد اليمنى قد تكون جدباء
من الدماء، وحينذاك لن تستطيع أن تقوم بأي عمل .. فإذا تأكدوا من جريان الدماء في
يدك أرسلوك إلى طبيب الأعصاب ليتأكد من وجود الأعصاب في يدك .. فلا يمكن لليد أن
تعمل بدون أعصاب .. فإن تأكدوا من سلامتها أرسلوك إلى خبير ..
قال: خبير .. في ماذا؟
قلت: لست أدري .. هم يقولون هذا ..
ولكنك لن تصل إلى الخبير حتى تمر على عشرة من أعوانه كل واحد منهم يطلب منك وثيقة
من الوثائق.
قال: فإذا أكملتها جميعا.
قلت: حينذاك يمن الله عليك برؤية
الخبير الذي قد لا يحتاج لرؤية كل تلك الحقيبة التي تحملها من الوثائق، بل يكتفي
بإرسال نظرة إلى يدك، ثم يوقع وثيقة وجودها.
قال: مادام الأمر بهذه البساطة ..
لماذا لم تذهب إلى الخبير بادي الرأي؟
قلت: يا معلم .. وسائر العمال ..
أتريد أن يسرحوا من وظائفهم؟
قال: وما جدوى وظائف لا جدوى منها.
قلت: المهم أنها وظيفة.
قال: ولكن الوظيفة هي التي تنتج
إنتاجا، وتقدم خدمة إيجابية ينتفع بها الناس.
قلت: فبماذا تنصح؟
قلت: سمعت أن لكم أرضا شاسعة تحتاج
إلى إصلاح ..
قلت: أراضينا بحمد الله كثيرة ..
وأكثرها بور.
قال: وسمعت أنكم تستوردون طعامكم.
قلت: أجل .. نحن نستورد جميع أنواع
الأطعمة.
قال: فأرسلوا هؤلاء العمال، مع من
يعينهم من الأئمة، مع البطالين المتفرغين ليستصلحوا أراضيكم، ويكفوكم أمر رزقكم ..
أو ارفعوا شعار:( من أحيا أرضا مواتا فهي له ) ليتنافس هؤلاء العمال في إحياء
الأراضي الميتة.
قلت: يا معلم .. أتريد أن تخرج بهم
من القاعات المكيفة إلى الحر والبرد .. أجسادهم لا تحتمل.
قال: فاشغلوهم بالعلم النافع ..
قلت: لقد نالوا الشهادة .. وبعضهم له شهادات عليا.
قال: وما علاقة العلم بالشهادة ..
الشهادة ورقة قد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة .. وهي على كل حال محدودة .. أما
العلم، فلا حدود له.
قلت: يا معلم .. هم يتبرمون من العلم
.. ويكتفون بما تورده الصحف من معلومات.
قال: من معلومات، أو لغو؟
قلت: معلومات قد يوجد فيها بعض
اللغو.
قال: بل قل: لغو يوجد فيه بعض العلم
.. دعنا من هذا .. قل لهم: اشغلوها بالطاعة .. ألا تعلم أن كل دقيقة من العمر يمكن
أن يكسب بها كنز من كنوز الجنة.
قلت: ذكرتني يا معلم برسالة قصيرة[54] كنت قد قرأتها، حسب صاحبها الأعمال التي يمكن أن تفعل في دقيقة
واحدة.
قال: فاذكر ذلك لهؤلاء الذين
يتثاءبون، ويقضون أعمارهم في اللاشيء.
قلت: لقد عد صاحب الرسالة ما يمكن
فعله في دقيقة واحدة، فذكر أنه يمكن قراءة سورة الفاتحة (7) مرات سرداً وسراً،
وحسب بعضهم حسنات قراءة الفاتحة، فإذا هي أكثر من (1400) حسنة ؛ فإذا قرأها (7)
مرات حصل أكثر من (9800) حسنة، وكل هذا في دقيقة واحدة.
وفي دقيقة واحدة نستطيع أن تقرأ سورة
الإخلاص 20 مرة سرداً و سراً، مع أن قراءتها مرة واحدة تعدل ثلث القرآن، فإذا
قرأناها (20) مرة، فإنها تعدل القرآن(7) مرات، ولو قرأناها كل يوم في دقيقة واحدة
(20) مرة لكنا قد قرأناها في الشهر (600) مرة، وفي السنة (7200) مرة، وهي تعدل في
الأجر قراءة القرآن 2400 مرة.
وفي دقيقة واحدة نستطيع أن تقرأ
وجهًا من كتاب الله، وأن نحفظ آية قصيرة من كتاب الله، وأن تقول:( لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ) (20) مرة، وأجرها
كعتق (8) رقاب في سبيل الله تعالى من ولد اسماعيل، وأن تقول:( سبحان الله وبحمده )
(100) مرة، ومن قال ذلك:( غفرت ذنوبه وان كانت مثل زبد البحر )، وأن نقول:( سبحان
الله وبحمده سبحان الله العظيم ) 50 مرة، وهما ( كلمتان خفيفتان على اللسان،
ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن )[55]
وفي دقيقة واحدة نستطيع أن نقول:(
سبحان الله، والحمد لله، ولاإله إلا الله، والله أكبر ) أكثر من (18) مرة، وهذه
الكلمات هي أحب الكلام إلى الله، وأفضل الكلام، ووزنهن في الميزان ثقيل كما ورد في
الأحاديث الصحيحة.
وفي دقيقة واحدة نستطيع أن نقول:( لا
حول ولا قوة إلا بالله ) أكثر من 40 مرة، وهي كنز من كنوز الجنة[56]، كما أنها سبب عظيم لتحمل المشاق، والتضلع بعظيم الأعمال.
وفي دقيقة واحدة نستطيع أن نقول:( لا
إله إلا الله ) 50 مرة تقريباَ وهي أعظم كلمة، فهي كلمة التوحيد، والكلمة الطيبة،
والقول الثابت، ومن كانت آخر كلامه دخل الجنة.
وفي دقيقة واحدة نستطيع أن نقول:(
سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه وزنة عرشه، ومداد كلماته ) أكثر من (15)
مرة وهي كلمات تعدل أضعافاَ مضاعفة من أجور التسبيح والذكر كما صح عنه - صلى الله
عليه وسلم - .
وفي دقيقة واحدة نستطيع أن نستغفر
الله عز وجل أكثر من (100) مرة بصيغة ( أستغفر الله )، والاستغفار هو سبب المغفرة،
ودخول الجنة، وهو سبب للمتاع الحسن، وزيادة القوة، ودفع البلايا، وتيسير الأمور،
ونزول الأمطار، والإمداد بالأموال والبنين.
وفي دقيقة واحدة نستطيع أن نصلي على
النبي - صلى الله عليه وسلم - 50 مرة
بصيغة ( صلـى الله عليه وسلم )، فيُصلي
عليك الله عزّ وجلّ مقابلها (500) مرة، لأن الصلاة الواحدة بعشر أمثالها.
وفي دقيقة واحدة نستطيع أن نتفكر في
خلق السماوات والأرض، فتكون من أولي الألباب اللذين أثنى الله عليهم في كتابه
الكريم.
وفي دقيقة واحدة نستطيع أن ينبعث من
قلوبنا من شكر الله، ومحبته، وخوفه، ورجائه والشوق إليه، فنقطع مراحل في العبودية
من غير عناء ولا تعب.
وفي دقيقة واحدة نستطيع أن أن تقرأ
أكثر من صفحتين من كتاب مفيد يسير الفهم، ونستطيع أن نصل رحمنا عبر الهاتف، وأن
نرفع أيدينا وندعو بما شئنا من جوامع الدعاء.
قال: فليشتغلوا بهذا .. فإنهم إن لم
ينالوا الدنيا نالوا الآخرة .. وأحسب أنهم لو اشتغلوا بما ذكرت لاستحيوا من
أنفسهم، ولأنتجوا إنتاجا مباركا تنهض به أمتهم، وتحيا به حياتهم.
اقتربنا من الباب الثالث من أبواب
الجهد، فلاحظت صورة ثغرات كثيرة، بعضها أخاديد بسيطة، وبعضها أخاديد عميقة، وبعضها
في عمقها كالآبار، وبعضها في سعتها كالأنهار والبحار .. ثم لاحظت رجالا مختلفين
بألبسة مختلفة يحاولون سد تلك الثغرات، وملأها بأصناف الخيرات .. وهم لا يألون
جهدا في ذلك.
سألت المعلم عن سر هذه الصورة، فقال:
أترى تلك الثغرات الكثيرة؟
قلت: أجل .. فما أكثرها، وما أكثر
تنوعها .. أهي حفر يدفن فيها الخلق، أم سراديب تخبأ فيها الأموال .. أم ..
قال: هي أصناف الحاجات التي يتطلبها
وجود الإنسان على هذه الأرض، واستقامة حياته فيها.
قلت: وأولئك الرجال؟
قال: هم العمال المكلفون بسد تلك
الثغرات، وقضاء تلك الحاجات.
قلت: لقد فهمت المعنى الرمزي الذي
تحمله الصورة .. لكني لم أفهم بعد علاقة الكفاية بالجهد .. وارتباط ذلك بما سبق من
أركان الجهد.
قال: ألم تكتشف أنت هذا البعد من
أبعاد الجهد؟
قلت: ألم تسمع ـ يا معلم ـ قوله -
صلى الله عليه وسلم -:( نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني فرب حامل
فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )[57]
قال: بلى، وفهمته، وأحسنت في جوابك
هذا .. قل لي: لو أن الجهد المبذول كان شرعيا، أي أنه لم يتصف بأي وصف من الأوصاف
التي تجلب له الحرمة، أيكون ذلك كافيا ليكون جهدا ناجعا؟
قلت: لا .. لقد ذكرنا ضرورة أن يكون
الجهد منتجا، أي له إنتاج ينتفع به، وقد برهنا على ذلك في الباب السابق، وأنا
مقتنع به.
قال: أرأيت لو أن جميع الجهود توجهت
وجهة واحدة لا تعدوها، أتضيع مصالح الخلق بذلك.
قلت: أجل .. وهي تشبه كما أن لو أن
جميع العمال الذي رأيناهم على لوحة الباب توجهوا لأخدود واحد ليسدوه، وتركوا سائر
الأخاديد يتضرر الناس بها، وتتضرر حياتهم.
قال: فتوزيع الجهد على الحاجات
المختلفة هو ما سموه هنا في مدائن الغنى بـ ( الكفاية )، وهم يتشبهون في ذلك باسم
الله ( الكافي )، وقد عرفت أنه الاسم المرتبط بسد الحاجات.
قلت: فهمت هذا، وقد ذكرتني بكلام
جميل لأبي حامد الغزالي يلوم فيه طالبي العلم في عهده إلى الانصراف إلى الفقه،
وترك الطب، مع أن الحاجة لكليهما واحدة.
قال: فما قال ذلك الفقيه العارف؟
قلت: قال بحسرة وألم:( فكم من بلدة
ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من
أحكام الفقه، ثم لا نرى أحدا يشتغل به، ويتهاترون على علم الفقه لا سيما الخلافيات
والجدليات، والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الوقائع .. فليت
شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا
قائم به، هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا
وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأفران والتسلط به على
الأعداء .. هيهات هيهات قد اندرس علم الدين بتلبيس العلماء السوء فالله تعالى
المستعان وإليه الملاذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان
)[58]
قال: لهذا حرقوا كتبه.
قلت: من؟
قال: أولئك الذين لبسوا عباءة
الفقهاء، كما لبسها من قبلهم أحبار أهل الكتاب.
قلت: أراك متحاملا عليهم .. أخشى أن
يحرقوا ما تقوله كما أحرقوا كتب الغزالي.
قال: لوأحرقوها .. فستنبت كما نبتت
كتب الغزالي .. بل كما نبتت كل الكتب المحروقة، وكل الجثث المحروقة.
قلت: يا معلم .. ماأصناف الحاجات
التي أمر الشرع بكفايتها، فإني أرى أشياء كثيرا يعتبرها قومي من الحاجات، وهي ليست
كذلك؟
قال: فلنعرفها قبل أن نعرف ما أمر
الشرع بسدده.
قلت: من أمثلة ذلك كثرة البوابين
والحجبة الذين تحتاج إلى قطعهم للوصول إلى الذي تريد أن تتحدث معه.
قال: فما وجه ضرورة هؤلاء؟ .. وما
الثغرات التي كلفوا بسدادها؟
قلت: ثغرة إزعاج المسؤول .. فالمسؤول
لو أزعج قلب الدنيا ظهرا على بطن.
قال: أي مسؤول تقصد؟ .. الكبير أم
الصغير؟
قلت: كل المسؤولين .. فصغيرهم يقتدي
بكبيرهم في وضع الحجب .. فلا تصل إليه إلا بعد قطعها أو قطع أنفاسك.
قال: لقدكان الخلفاء الراشدون
المهديون الذين أمرتم بالاستنان بهم يملكون أعظم ما يملك أكبر مسؤوليكم، وفي أوقات
كلها حروب وطوارئ، ومع ذلك لم يفكر أحدهم في بواب أو حاجب.
قلت: ولكن الفتن في عصرنا كثيرة.
قال: فأخمدوها بالعدل والرحمة، فليست
الحجب إلا حجبا.
قلت: دعنا من هؤلاء .. فما أعرف في
الخوض في السياسة من خير.
قال: نحن لا نخوض في السياسة، بل
ننصح لأئمة المسلمين، فلا خير فيمن لا ينصح.
قلت: ولا خير فيمن لا يقبل النصح ..
لنعد إلى ما كنا فيه .. لقد سألتك عن أصناف الحاجات التي أمر الخق بسدها.
قال: أربعة: الفكر، والخدمة،
والحماية، والسياسة.
قلت: أتنحصر حاجات الخلق فيها؟
قال: أجل .. فكل فروع الأعمال تعود
إليها.
قلت: فهذه الأبواب المقابلة أبوابها.
قال: أجل، فهلم بنا إليها.
اقتربت من الباب الأول، فإذا بلافتة
مشعة مكتوب عليها قوله تعالى:) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء( (فاطر: من
الآية28)، وتحتها أو في أثنائها صورة لرجال بطلعات مهيبة ينظرون إلى الكون،
ويقتبسون منه أنوارا كثيرة مختلفة، ثم يصبونها على الخلق، فيهتدوا بها في الفلوات،
ويستنيروا بها من الظلمات.
فسألت المعلم: من هؤلاء .. فوجوههم
وجوه خير، وأعمالهم أعمال خير.
قال: هؤلاء وسائط النور الإلهي.
قلت: وما وسائط النور الإلهي؟ .. وهل
نور الله بحاجة إلى وسائط؟ .. وما معنى الواسطة؟ .. وما وجه الحاجة إليها؟ .. وما
علاقة ذلك بالباب؟ .. وما ..؟
قال: رويدك، فالعلم إذا أتى جملة ذهب
جملة ..
قلت: فما معنى الواسطة؟ وما وجه
الحاجة إليها؟
قال: ما الفرق بين ضياء الشمس ونور
القمر؟
قلت: هذا من أسرار الدقة في التعبير
القرآني، فالله تعالى يعبر في القرآن الكريم عما يصدر عن الشمس من أشعة بالضياء،
ويعبر عن أشعة القرم بالنور، كما قال تعالى:) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً ( (يونس: من الآية5)
قال: وما السر في هذا التنوع في
التعبير[59]؟
قلت: ما أكده العلم الحديث من أن
المراد من الضياء هو النور الذاتي , أما النور فإنه أعم من الضياء، ويـشـمل الذاتي
والعرضي , وعلى هذا فان اختلاف تعبير الاية يشيرالى هذه النقطة، وهي أن اللّه
سبحانه قد جعل الشمس منبعا فوارا للنور, في الوقت الذي جعل للقمر صفة الاكتساب ,
فهو يكتسب نوره من الشمس .
ويدل لهذا قوله تعالى:) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً( (نوح:16)، وقوله
تعالى:) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا
سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً( (الفرقان:61)،
فإن نورالسراج ينبع من ذاته , فلذلك شبهت الشمس في الآيتين بالسراج.
قال: فنور القمر إذن مستمد من ضياء
الشمس؟
قلت: هذا صحيح .. ولا يخالف فيه أحد.
قال: فكذلك من رحمة الله بعباده أن
جعل فيهم أقمارا تستمد نورها من الشمس لتضيء به ظلمات الخلائق.
قلت: فهم وسائط الشمس.
قال: هم وسائط الهداية.
قلت: فهم الفقهاء والمفسرون ..
قال: كل العلماء .. أتحسب أن من يبحث
في الذرة والخلية لا علاقة له بالله .. إنه قمر من أقمار الله يهدي به الله من شاء
من عباده .. ولكن لكل ميدانه .. ولا يستغني بعضهم عن بعض.
قلت: فهمت هذا .. ولكني لا أفهم
علاقة هؤلاء الأقمار بهذا الباب، فنحن في باب الجهد .. والجهد عادة يرمز له
بالعضلات العاملة، لا بالعقل المفكر.
قال: لا يمكن أن تعمل العضلات عملا
منتجا من دون عمل العقل .. ولا يمكن أن تسير الحياة بدون عمل العقل.
قلت: في أي ميدان؟
قال: في كل الميادين، ابتداء بالتعرف
على الله والسلوك إليه، وانتهاء بمرافق الحياة .. أرأيت لو أن البشر لم يعلموا
عقولهم في مرافق الحياة، واكتفوا بالجهد العضلي، أكان يمكن أن يصلوا إلى ما وصلوا
إليه؟
قلت: لو اكتفوا بذلك لكنا الآن من البدائيين
.. نعيش على الصيد أو على ما تنتجه الأشجار من أنواع الثمار.
قال: هذا إن ظللتم موجودين .. ألا
تعلم الأوبئة الفتاكة، وما تفعل بالبشرية .. ألم ينهض لمقاومتها أقمار الأطباء
الذين اهتدوا بشموس شفاء الله!؟
قلت: أجل .. ألهذا إذن كان أول باب
من أبوب الجهد هو الفكر؟
قال: هذا سبب .. وسبب آخر هو ما أرى
عليه قومك من التقصير في حق المفكرين والمبدعين .. أقمار الهداية الربانية.
قلت: كيف نقصر في حقهم .. فلهم وظائف
تدر عليهم مرتبات .. نعم هي أقل من مرتبات غيرهم .. ولكنها مع ذلك أحسن من مرتبات
كثير من المستضعفين، ثم هي تكفيهم لحياة لا تجعلهم يمدون أيديهم للخلق بالسؤال.
قال: هذه الوظيفة الخطيرة .. وظيفة
الفكر المنتج تتطلب أربعة حقوق لا تقوم إلا بها .. والتفريط في واحد منها قد يؤدي
إلى خسوف جزئي أو كلي لهؤلاء الأقمار.
قلت: فما هي؟
قال: التفريغ، والتيسير، والتحفيز،
والتأثير.
قلت: أهي محصورة كانحصار الأركان.
قال: أجل .. ولا يغني بعضها عن بعض
.. وهذه أبوابها، فهلم إليها.
اقتربنا من الباب الثاني من أبواب
الفكر، وقد علقت على بابه صورة عالم جليل، قد توفر له من أسباب الرزق ما صرفه صرفا
كليا لطلب العلم وتعليمه، وقد أبدع الفنان الذي رسم الصورة في التعبير عن هذا
المعنى، بما لا يستطيع اللسان التعبير عنه.
قلت للمعلم: لا شك أن هذا باب
التفريغ، فالراحة النفسية التي جعلت هذا العالم منصرفا انصرافا كليا للعلم سببها
ما توفر لديه من انتفاء الموانع التي تحول بينه وبين البحث والطلب.
قال: أجل .. وهذا هو أول ركن من
الأركان التي تسهم في النهضة العلمية، فلا بد أن يوفر للعالم ولطالب العلم من
الرزق ما يجعله متفرغا لطلب العلم أو للبحث فيه، فلا يمكن للعقل المملوء بهموم
المعيشة أن يتفرغ للتفكير السليم.
قلت: أتقصد أن يعطى العلماء من
الأجور ما يفرغهم للبحث؟
قال: ليس العلماء فقط، بل العلماء
وطلبة العلم، فلا يمكن أن يصير الشخص عالما إذا لم يبدأ طالبا.
قلت: لو أن الأمر بهذه الصورة، فإن
كل الخلق سوف يتركون وظائفهم وأعمالهم ليسجلوا أنفسهم في دوائر أهل العلم ..
وستتعطل بذلك الحياة.
قال: للعلم أهله، وليس كل من سجل
نفسه في دائرة من الدوائر قبل فيها.
قلت: أتقصد الانتقاء؟
قال: أجل، فالعلم لا ينهض به إلا من
توفرت فيه خصائص أهل العلم، فإن وجدت في المتقدم، وكان له من القدرات ما يمكن أن
يصير به قمرا من أقمار الهداية قبل، ووضع له من الرزق ما يغنيه عن الانشغال عن
العلم.
قلت: أتقصد أن يكون حاملا لشهادة من
الشهادات العالية؟
قال: ليس بالضرورة ذلك، فكثيرمن حملة
الشهادات أميون متسترون بذلك القرطاس الذي منحوه.
قلت: فكيف يعرف العالم أو طالب العلم
إن لم يعرف بالشهادة؟
قال: بالعلم .. وبإنتاج العلم ..
وبتحقيق العلم.
قلت: ولكن البشر توصلوا إلى الشهادة
كسبيل من سبل التعرف على أهل العلم .. وقد سبق المسلمون إلى ذلك، ففرقوا ـ مثلا ـ
بين المجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، والمتبع، والمقلد، وفرقوا في الحديث بين
المحدث والحافظ والحجة والحاكم وهكذا في كل العلوم نجد المراتب المختلفة.
قال: فتلك المراتب بما نالوها ..
أبشهادات نالوها أم بالبحث والاجتهاد؟
قلت: بل بالبحث والاجتهاد.
قال: فلذلك إن أردتم أن تتحققوا
بحقائق أهل العلم انشروا العلم بين الناس، ودعوا العباقرة يولدون في الشوارع
والطرقات والأكواخ والقصور، فالعبقرية ليست حكرا على الجامعات والمعاهد.
قلت: لم أفهم إلى الآن قصدك من كل
هذا.
قال: التفريغ الذي أقصده لا يتعلق
إلا بمن توفرت فيه القدرة على الإنتاج العلمي، فلا يكفي فيه مجرد الانتساب
للجامعات والمعاهد.
قلت: وكيف نعرف ذلك؟
قال: بالجرح والتعديل.
ضحكت، وقلت: وما علاقة الجرح
والتعديل بهذا؟
قال: ألم يكن العلماء في القديم
يدرسون شخصيات المحدثين ليروا مدى ورعهم، ومدى قدرتهم على الحفظ والضبط ليحكموا
على حديثهم بعد ذلك بالقبول أو الرفض؟
قلت: أجل ..
قال: فكذلك فافعلوا .. فللعلم
أماراته.
قلت: فإن لم نجد فيهم الأهلية.
قال: أنواع الجهود كثيرة، فمن لم
يصلح لهذا الباب صلح لغيره.
قلت: ولكن نفوسهم قد تميل لهذا النوع
من الجهد.
قال: ليثبتوا ما تميل إليه نفوسهم،
وإلا فإن أكلهم المال المرصد لأهل العلم حرام، ألم تقرأ ما قال الغزالي فيمن يسكن
الرباطات الموقفة على الصوفية من غير تحقق بما يقتضيه هذا الوقف من صفات؟
قلت: أجل، فقد قال وهو ينكر على
متصوفة عصره:( وإنما عصيانهم في التلبيس والسؤال على اسم التصوف والأكل من الأوقاف
التي وقفت على الصوفية،لأن الصوفي عبارة عن رجل صالح عدل في دينه مع صفات أخر وراء
الصلاح، ومن أقل صفات أحوال هؤلاء أكلهم أموال السلاطين وأكل الحرام من الكبائر،
فلا تبقى معه العدالة والصلاح، ولو تصور صوفي فاسق لتصور صوفي كافر وفقيه يهودي،
وكما أن الفقيه عبارة عن مسلم مخصوص، فالصوفي عبارة عن عدل مخصوص لا يقتصر في دينه
على القدر الذي يحصل به العدالة، وكذلك من نظر إلى ظواهرهم ولم يعرف بواطنهم
وأعطاهم من ماله على سبيل التقرب إلى الله تعالى حرم عليهم الأخذ وكان ما أكلوه
سحتا )[60]
قال: فكذلك الأموال المرصدة لأهل
العلم هي من أموال موقوفة على من اتصف بصفات معينة، فمن توفرت فيه جاز له أن
ينالها، ومن لم تتوفر فيه كان آكلا للسحت، وتحق بحقيقة قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ
وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ( (التوبة: من
الآية34)، فمن أكلهم الباطل نيلهم لأجر لا يستحقونه.
قلت: لقد ذكرتني يا معلم باهتمام
سلفنا الصلح y بالوقف على العلماء وطلبة العلم.
قال: وكان ذلك الوقف هو سبب النهضة
العلمية الكبيرة التي عاشوها، والتي جعلت العلم من الحرف التي يتطلع إليها المجتمع
بجميع أطيافه.
قلت: أتعلم يا معلم أنه لولا الوقف لما
صار الأزهر أكبر جامعة من جامعات الدنيا، فقد عاش الأزهر يؤدي رسالته في نشر العلم
وخدمة العلماء وطلاب العلم أكثر من ألف عام[61].
بل إن موارد الأزهر استمرت تزداد
شيئاً فشيئاً حتى تضخمت وبلغت الأوقاف المصرية العامة طبقاً لإحصاء سنة 1812م
(1227هـ) 600.000 فدان أي أنها كانت تزيد على خمس جميع الأراضي المصرية، لأن إحصاء
جميع الأراضي المصرية سنة 1813م بلغت فيه مساحة الأراضي المصرية كلها
(2.500.000فدان) [62]
وكانت الدولة تُعيّن ناظراً على
أوقاف الأزهر من المماليك يتولى الإشراف على أوقاف الأزهر وإدارتها والصرف على
الأزهر في العصر المملوكي والعصر العثماني وشيئاً فشيئاً تدخل العلماء إلى أن
أصبحوا يتولون النظارة على أوقاف الأزهر، وعلى كثير من الأوقاف الخاصة بالمساجد
والمدارس والأسبلة وخاصة في نهاية العصر العثماني .
وكانت تلك الأوقاف مصدر قوة للجامع
الأزهر وقد حققت له استقلالاً ذاتياً عن التأثرات السياسية، والمذهبية. فلم يعرف
عنه طوال عصوره شيئاً من ذلك، بل عاش علماء الأزهر وطلابه معززين مكرمين، بمنأى عن
الخضوع لأحد، ومارس علماؤه حرية مطلقة في اختيار الدراسات والبحوث والموضوعات التي
تلقى على الطلاب، وفي انتقاء الكتب التي يقرؤها المشايخ عليهم دون إشراف من أحد،
أو توجيه منه.
وقد تصدى علماء الأزهر لكل من أراد
المساس بأوقاف الأزهر وأرزاق العلماء، فعندما كثرت الأوقاف أراد بعض الحكام
الاستيلاء عليها، فقد أراد السلطان (الظاهر برقوق) نقض كل ما أرصده الملوك على
المساجد والمدارس والأسبلة وغيرها من وجوه البر، وقال إن هذه الأراضي أخذت بالحيلة
من بيت المال، وقد استوعبت نصف أراضي الدولة، وعقد لذلك مجلساً حافلاً من العلماء
لأخذ الرأي والفتوى في هذا الأمر، وحضر هذا المجلس الشيخ (أكمل الدين) شيخ الحنفية
في عصره، والشيخ (سراج الدين عمر البلقيني)، والشيخ (البرهان ابن جماعة) وغيرهم من
علماء العصر.فاتفقوا على أن ما أرصده الملوك والأمراء من رزق يخرج من بيت المال لا
سبيل إلى نقضه، وانفصل المجلس على هذا[63].
وفي سنة 1121هـ تصدى علماء المذاهب
الأربعة للوالي التركي إبراهيم باشا القبودان، لأنه أراد نقص ما أرصده أكابر مصر
على الزوايا والمساجد والمدارس، وأعلنوا فتواهم في جرأة بأنه لا يجوز نقض ما حبسه
أهل البر من الأراضي والعقارات والأرزاق حيث كان المُرصد عليهم من العلماء،
والفقراء والأيتام وطلبة العلم.
وفي الفتوى: أن العالم والفقيه وطالب
العلم يستحقون أرزاقاً من بيت المال، وإن كانوا أغنياء ؛ لأنهم فرغوا أنفسهم لنفع
المسلمين في المستقبل، وكذلك من يعلم الناس القرآن لتفريغه نفسه لتعليم الناس.
وكان في مقدمة هؤلاء العلماء الذين
تصدوا لهذه الفتوى الشيخ علي بن السيد علي الحسيني الحنفي، والشيخ علي العقدي
الحنفي والشيخ أحمد النفراوي المالكي، والشيخ محمد شنن المالكي، والشيخ أحمد
الشرقي شيخ رواق المغاربة بالأزهر، والشيخ محمد الزرقاني شارح الموطأ، والشيخ عبد
الباقي القليبي المالكي، والشيخ عبد ربه الديوي الشافعي، والشيخ منصور المنوفي،
والشيخ محمد الأحمدي الشافعي، والشيخ أحمد المقدسي الحنبلي.
وقد كتب هؤلاء العلماء السالفين
فتواهم على طريقة السؤال والجواب، وعقدوا اجتماعاً في بيت قيطاس بك الغفاري حينئذٍ
وحضر الاجتماع جمع غفير من أكابر مصر وحكامها وعلمائها وغيرهم، وقرأ عليهم هذه
الفتاوى الشيخ عيسى الصفتي فاستحسنها الحاضرون، ثم أرسلوها إلى الوالي التركي
إبراهيم باشا المذكور فعاند في ذلك، فكتب العلماء والأكابر عريضة إلى السلطان
وأرسلوا معها هذه الفتاوى إلى السلطان أحمد خان الخليفة العثماني، فأمر بكتابة خط
شريف بإبقاء الإرصادات والمرتبات على ما هي عليه من غير نقض ولا إبرام، وأرسلت تلك
الأوامر السلطانية إلى مصر، وانتصر العلماء في الدفاع عن حقوقهم[64].
قال: ولم يتوقف الأمر على الجامعات،
بل كان الوقف على المدارس صغيرها وكبيرها منتشرا، وهو ما أسهم في حياة الأمة ..
فحياة الأمة بحياة العلم .. وحياة العلم بحياة أهله ومؤسساته.
قلت: أجل، فقد شمل الوقف المدارس
الصغيرة التي تعلم الصبيان القراءة، والكتابة، والقرآن وبعض العلوم العربية،
والرياضيات، وهي ما تسمى بالكتاتيب، وهي قديمة قدم الإسلام، وقد ذكر بعض المؤرخين
أنها وجدت في عصر الصحابة y، وكانت من الكثرة بحيث عد ابن حوقل ثلاثمائة كتاب في مدينة واحدة
من مدن صقلية[65].
وكان الكُتَّاب في بعض البلدان من
السعة بحيث يضم مئات وآلافاً من الطلاب، ومما يروى عن أبي القاسم البلخي أنه كان
له كتاب يتعلم به ثلاثة آلاف تلميذ، وكان كتابه فسيحاً جداً، ولذلك كان أبو القاسم
يحتاج إلى أن يركب حماراً ليتردد بين طلابه وليشرف على شؤونهم [66].
وكانت هذه الكتاتيب تمول بأموال
الأوقاف.
وإلى جانب هذه الكتاتيب، فقد كان
الأمراء والأغنياء، والتجار يتسابقون في بناء المدارس والوقوف عليها بما يضمن
استمرار وإقبال الطلاب على الدراسة فيها وكثيرون جداً هم الذين جعلوا بيوتهم مدارس
وجعلوا ما فيها من كتب وما يتبعها من عقار وقفاً على طلاب العلم الدارسين فيها [67].
حتى إن ابن جبير الرحالة الأندلسي
هاله ما رأى في المشرق من كثرة المدارس والغلات الوافرة التي تغلها أوقافها، فدعا
المغاربة أن يرحلوا إلى المشرق لتلقي العلم[68].
ويكفي برهاناً على كثرة أوقاف
المدارس والمساجد في دمشق أن النووي لم يكن يأكل من فواكه دمشق طيلة حياته؛ لأن
أكثر غوطتها وبساتينها أوقاف([69]).
وإذا كانت دمشق قد اشتهرت بكثرة
مدارسها والأوقاف التي حبست عليها، فإن غيرها من الحواضر الإسلامية كبغداد،
وقرطبة، والكوفة، والبصرة، والقيروان، والقاهرة كثرت فيها المدارس.وكل ذلك جاء
ثمرة من ثمرات الأموال الموقوفة التي خصصت للدراسة العلمية.
ويتحدث ابن خلدون عما شاهده في
القاهرة من التطور العلمي والحضاري فيذكر أن هذا التطور مرده إلى الأموال الموقوفة
من أراض زراعية ومبان وبيوت وحوانيت، وأن هذه الأموال التي حبست على المؤسسات
التعليمية في القاهرة أدت إلى أن يفد إلى هذه المدينة طلبة علم وعلماء من مغرب
العالم الإسلامي ومن مشرقه في سبيل الحصول على العلم المجاني، وبذلك نما العلم
وازدهر في مختلف الفروع والتخصصات ([70]).
وكانت الدراسة في تلك المدارس تشبه
الدراسة الثانوية والعالية في عصرنا الحاضر، وكان التعليم فيها لجميع أبناء الأمة
دون تفرقة بين فئة وأخرى، وكان الطلاب الذين يدرسون فيها نوعين:
النوع الأول: الغرباء الذين
وفدوا من بلاد نائية ويدخل مع هؤلاء الذين لا تساعدهم أحوالهم المادية أن يعيشوا
على نفقات آبائهم، وكان لهذا النوع من الطلاب غرف خصة للنوم ومكتبة ومطبخ وحمام،
وهو قسم داخلي.
والنوع الثاني من الدارسين: يمثلون الطلاب
الذين يرغبون في أن يرجعوا في المساء إلى أهليهم وذويهم وهؤلاء في قسم خارجي.
وكلا النوعين يدرس مجاناً، وكانت بعض
المدارس بالإضافة إلى ما تقدمه لطلابها من علم ترعاهم صحياً، فقد كان بجوار بعض
المدارس مستشفى لعلاج المرضى من الطلاب بالمجان.
وعرفت المدارس التخصص العلمي في
إنشائها، حيث كانت تقام المدارس لنوع واحد من فروع العلم، ومن ثم كانت هناك مدارس
لتدريس القرآن وتفسيره وحفظه وقراءاته، ومدارس للحديث خاصة، ومدارس - وهي أكثرها-
للفقه لكل مذهب فقهي مدرسة خاصة به، ومدارس للطب، وأخرى في كل مجال من مجالات
التخصص العلمي.
يقول ابن كثير في حوادث سنة إحدى
وثلاثين وسبعمائة: فيها كَمُلَ بناء المدرسة المستنصرية ببغداد ولم يبن مدرسة
قبلها، ووقفت على المذاهب الأربعة، من كل طائفة اثنان وستون فقيهاً، وأربعة
معيدين، ومدرس لكل مذهب، وشيخ حديث، وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من
المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام، وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى
والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد[71].
والدراسة في تلك المدارس مفتوحة لكل
راغب في العلم دون قيد أو شرط، وكان طلاب هذه المدارس يتمتعون بكل الرعاية من طعام
وشراب وعلاج وإقامة للغرباء والفقراء، وكان الأساتذة الذين يقومون بالتدريس فيها
ينتخبون ممن شهد لهم الشيوخ بالكفاءة العلمية، وكان المتخرجون من هذه المدارس
يمنحون إجازة علمية باسم شيخ المدرسة، وما كان يسمح للأطباء بممارسة مهنة الطب إلا
بعد نيل هذه الشهادة أو الإجازة من كبير أطباء المدرسة.
ومن العلماء الذين درسوا في بعض
المدارس أو كانوا شيوخاً لها: النووي، وابن الصلاح، وتقي الدين السبكي وغيرهم
كانوا يدرسون في دار الحديث في دمشق، والغزالي، وإمام الحرمين الجويني،
والفيروزابادي صاحب القاموس المحيط، وأبو إسحاق الشيرازي، وغيرهم كانوا يدرسون في
المدرسة النظامية في بغداد[72].
اقتربنا من الباب الثالث من أبواب
الفكر، وقد علقت عليه صورة مكتبة ضخمة تحوي أصناف الكتب، وقد هيئت في تلك المكتبة
كل الوسائل التي يحتاجها الباحث من الأقلام والأوراق .. بل حتى أصناف الحواسيب
والأجهزة العلمية الحديثة .. ولا أحسب أن هناك ما يحتاجه الباحث في هذه المكتبه
إلا ويجده فيها.
قلت للمعلم: لله .. ما أجمل هذه
المكتبة .. لكأنها مركز ضخم من مراكز البحوث، وليست مجرد مكتبة.
قال: نعم، فهذا باب التيسير المتفرع
من باب الفكر، والتيسير يستدعي توفير كل ما يحتاجه المفكر من وسائل.
قلت: ولم سمي هذا تيسيرا؟
قال المعلم: لأن الوسائل التي
يحتاجها الباحث هي التي تيسر عليه الوصول إلى المعلومة التي يريدها .. قل لي: هل
كان يمكن لعلماء الفلك أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من نتائج لولا توفر المراقب؟
قلت: كلا .. بل ستظل النظريات
القديمة سواء ما بني منها على العقل أو على الوهم هي السائدة.
قال: ولو لم يخترع المجهر؟
قلت: ستظل الميكروبات وغيرها من
أصناف الأحياء الدقيقة في حصون عالم الغيب لا يمتد إليها العقل، ولا تكدر صفوها
الأدوية.
قال: فهكذا كل الوسائل نعم من نعم
الله علينا خلقها لنا لنسخرها في البحث والاكتشاف .. فلذلك كان توفيرها للباحثين جزءا
من الحقوق التي تتطلبها وظيفتهم .. فأهل العلم لا يحتاجون فقط إلى الطعام والإدام،
بل هم في حاجة أكثر إلى الكتب والأقلام، وكل ما يخرجه الله لعباده من أصناف
الأجهزة والوسائل.
قلت: فكيف يتحقق التيسير؟
قال: بتوفير كل ما يخدم العلم وينشره
ليستفيد منه الخاصة والعامة .. فالعلم لا يعرف خاصة وعامة.
قلت: علمت احتياج الخاصة، وكيفية
سده، فما احيتاج العامة، وكيف نسده؟
قال: بالتيسير.
قلت: كيف؟
قال: أنا لا أقترح، وإنما أدل ..
ولكن قل لي: أنتم تتفنون فيما تسمونه بالمسلسلات والأفلام والرسوم المتحركة.
قلت: أجل .. فالعامة يحبونها حبا جما
.. فلذلك نستورد منها كل جديد.
قال: تستوردون! .. أهذا ما تتقنون؟
قلت: فما عسانا نفعل، فالمطالب أكبر
من طاقتنا الإنتاجية؟
قال: فوفروا المطالب بالتحفيز.
قلت: وما التحفير؟
قال: سنمر على بابه لنعرفه .. ولكن
قل لي الآن: ألا يمكنكم استغلال هذا الحب الجم الذي عليه جمهوركم نحو الأفلام
الهابطة في تغذيتهم بالمعارف والعلوم والسلوك الصالح!؟
قلت: يمكن ذلك .. ولكن هل سيقبل
العامة ذلك؟
قال: حاولوا أن تتعرفوا على أذواقهم
لتطعموهم إياها حتى يألفوها.
قلت: يا معلم .. أرى في الصورة
حواسيب كثيرة .. ما الغرض منها؟
قال: هذه الحواسيب هدية الله إليكم
.. وهي السيف الذي تفتحون به روما وواشنطن وبكين وباريس ..
ضحكت، وقلت: أهذه الحواسيب لنا ..
ولكنها صنعت عندهم.
قال: هم صنعوها لتعمروها أنتم .. ثم
تنشروا ما هداكم الله إليه من الخير بها.
قلت: أعرف يا معلم ما لبرامج هذه الحواسب
من تأثير عميق .. بالإضافة إلى ما يسره الله في هذا العصر من الاتصال بالعالم أجمع
بضغطة زر واحدة.
قال: فتعلموا تلك الضغطة .. فهي
مفتاح كل خير .
قلت: إن بعض قومي ينظرون إلى هذه
الوسائل نظرة مغايرة .. بل هم يتصورون أن مجرد كونها من الغرب يجعلها عارية من كل
خير.
قال: فدعهم .. ولا تجادلهم .. فهؤلاء
لا يفقهون عن الله .. ألم يسم الله ما ابتدعتموه من وسائل النقل خلقا لله؟
قلت: بلى .. فقد قال تعالى:) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً
وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ( (النحل:8)، ففي هذه
الآية إشارة صريحة لوسائل النقل الحديثة.
قال: وهكذا .. فقد ذكر الله تعالى
القلم ليشير إلى كل الوسائل التي تيسر الوصول للعلم وتنشره .. ألم يذكر الله القلم
في أوائل ما أنزل؟
قلت: بلى، فقد قال تعالى في أول ما
أنزل من القرآن الكريم:)
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ( (العلق:4) ..
ولكن يا معلم كيف ننشر العلم بهذه الوسائل .. ونحن في عصر تغلب فيه التجارة ..
والتجارة تتطلب برامج خاصة ترضي الأذواق .. ولا ترضي العقول؟
قال: بالأوقاف .. أليست الأوقاف سنة
من سنن الخير .. ألم ينتشر العلم في الأمة بمدارس الأوقاف وكتاتيب الأوقاف وجامعات
الأوقاف؟
قلت: أجل .. وقد عرفنا بعض ذلك في
الباب السابق.
قال: فكيف كانت خدمة الأوقاف لوسائل
التيسير في عهد أسلافكم؟
قلت: كانت طيبة .. فقد أدرك كل
الواقفين للمدارس، وزوايا العلم، وحلقات الدرس في المساجد أهمية الكتاب لنشر
العلم، وأن الاقتصار على تشييد الأبنية وتوفير جهاز للتدريس غير كاف فاهتموا بوقف
الكتب عليها لتكون وسيلة ميسرة للتحصيل والمراجعة، توفر مادة علمية يستند إليها
المعلم والمتعلم في وقت واحد، فأصبح من المعتاد وجود مكتبة في كل مدرسة، أو جامع،
أو رباط وقف على طلبة العلم وغيرهم[73] .
وكان ابتداء وقف الكتب بمكة في القرن
الهجري الأول كما في مكتبة عبدالحكيم ابن عمرو الجمحي[74].
وفي القرن الثاني ظهرت بيت الحكمة
ببغداد وكان من بين أقسامها مكتبة حظيت بعناية مجموعة من خلفاء بني العباس وبخاصة
المأمون.
ومكتبة بيت الحكمة كان الهدف من وراء
إنشائها مساعدة العلماء والباحثين بتوفير أكبر قدر من مصادر المعلومات لهم لتسهيل
سبل الدرس والمطالعة والتأليف والترجمة لمن يرغب في ذلك [75].
وانتشرت خزائن الكتب الوقفية منذ
القرن الرابع الهجري، بحيث يمكن القول بأنه قلما تخلو مدينة من كتب موقوفة.
وبلغ من انتشار هذه الخزائن وتوافرها
في الأندلس أن أبا حيان التوحيدي النحوي كان يعيب على مشتري الكتب، ويقول:( اللَّه
يرزقك عقلا تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف ) [76].
ويذكر ياقوت الحموي عن مدينة مرو:
أنه كان فيها عشر خزائن للوقف وذلك في القرن السابع الهجري ويقول عنها:( لم أر في
الدنيا مثلها كثرة، وجودة، منها خزانتان في الجامع إحداهما يقال لها العزيزية،
وقفها رجل يقال له عزيز الدين أبو بكر عتيق الزنجاني .. وكان فيها اثنا عشر ألف
مجلد أو ما يقاربها، والأخرى يقال لها الكمالية وبها خزانة شرف الملك المستوفي أبي
سعيد محمد بن منصور في مدرسته، وخزانة أخرى في المدرسة العميدية وخزانة لمجد الملك
أحد الوزراء المتأخرين بها، والخزائن الخاتونية في مدرستها والضميرية في خانكاه
هناك وكانت هذه الخزائن سهل التناول لا يفارق منزلي منها مئتا مجلد، وأكثره من غير
رهن ) [77].
وقال ابن جبير في رحلته إلى مصر بعد
أن اطلع على أحوال مكتباتها ودور العلم فيها وعاش في بعضها، واستفاد من أموالها
الموقوفة:( ومن مناقب هذا البلد ومفاخره ـ أي مصر ـ أن الأماكن في هذه المكتبات
خصصت لأهل العلم فيهم، فهم يعتبرون من أقطار نائية فيلقى كل واحد منهم مأوى إليه
ومآلاً يصلح أحواله به جميعاً ) [78].
وكانت هذه المكتبات بكتبها الوقفية
إضافة إلى المكتبات الخاصة مثل مكتبات الخلفاء والأمراء والوزراء والعلماء، وراء
حركة الازدهار العلمي التي شهدها العالم الإسلامي على مدى قرون طويلة، فقد اعتمد
عليها العلماء وطلاب العلم في دراستهم ومراجعاتهم، ووضع مصنفاتهم .
قال: فاقتدوا بهؤلاء الأسلاف لتنشروا
العلم .. فالأمة لا تنهض .. والفقر لا يقتل إلا بنشر العلم .. العلم وحده.
قلت: أتقصد أن نبني المكتبات ونقفها؟
قال: لكل عصر أوقافه .. أسسوا
القنوات الفضائية وأوقفوها لله .. أسسوا دور النشر، والمطابع والمكتبات .. اشتروا
كل وسائل العلم وأوقفوها لله .. حرضوا على الصدقة الجارية .. فلا ينهض بكم إلا ما
تدره الصدقات الجارية من بركات.
اقتربنا من الباب الثالث من أبواب
الفكر، وقد علقت عليه صورة إعلان عن مسابقة لتشجيع المواهب المختلفة .. كانت
المواهب كثيرة .. وكان التشجيع على المتحقق عظيما.
لم أكد أنتهي من قراءة ما فيها حتى
فاجأني المعلم، وهو يقول: هذا باب التتحفيز، وهو الباب الذي يخدم الفكر وينشره
متوسلا بما في طبيعة الإنسان من الرغبة والطمع.
قلت: دعني أقرأ .. فلعلي أرشح نفسي
لبعض هذه الجوائز.
قال: فقد أدركت إذن تأثير الحوافز في
خدمة العلم ونشره من غير أن نحتاج إلى شرح لذلك.
قلت: ومن يشك في تأثير الحوافز .. لا
في النهضة العلمية وحدها .. بل في كل المجالات .. ولكن قد عرفت ـ يا معلم ـ فيم
توضع الحواز عندنا .. ومن يحفزون؟
قال: عرفت .. وتأسفت ..
قلت: نحن نحفز مواهب الغناء والرقص
والتمثيل .. أما أهل العلم فنتركهم في دركات النسيان.
قال: فإن أردتم أن تنهضوا .. فحفزوا
الأمة على التنافس على الخير .. ودلوا من يتولى أمركم على حل بسيط لحفظ الأمن في
بلده وحفظ الكراسي التي يجلسون عليها من كل شغب.
قلت: أهناك حل لذلك ..
قال: أجل .. قل لهم: ضعوا تلك
الأموال التي تضعوها رشوة في أيدي الأجهزة المختلفة حوافز للأمة على البحث والعلم
.. فسوف تنشغل الأمة بالعلم عنكم، وعن المكيدة لكم .. بل ستضيف إلى ذلك الدعاء لكم
.. فتكسبوا الدنيا والآخرة.
قلت: هذا حل جميل .. ليتهم ينتبهون
إليه .. ولكن يا معلم .. ألم يأمر الله بالإخلاص .. وهو يستدعي خلاص النفس من كل
مطالب العوض، ولهذا وردت النصوص تحث على الإخلاص،
وتشدد في ذلك، وقد ورد في الحديث الشريف:( صدقة السر تطفىء غضب الرب عزّ وجلّ )[79]
وورد
في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:( ورجل ذكر الله خاليا
ففاضت عيناه )، ومنهم ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه
)[80]
ولهذا
كان أحب العباد إلى الله المخلصون الذين يسترون أعمالهم الصالحة كما يستر الناس
معاصيهم، قال - صلى الله عليه وسلم -:( إن
أدنى الرياء شرك، وأحب العبيد إلى الله تعالى الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا
لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم )[81]
قال: هذا صحيح .. وهو لا يتنافى مع
ما ذكرنا .. لأن الغرض هنا هو نشر وعي معين .. أما الإخلاص فمن السهل تحصيله لمن
صدق في طلبه.
قلت: لم أفهم .. فالإخلاص أصعب
الأمور.
قال: ولكن أليس العامل هو الذي يخلص؟
قلت: أجل .. فالقاعد فيم يخلص.
قال: فلنعلمهم أولا العمل .. فإذا
عملوا وأتقنوا علمناهم الإخلاص .. بل إن العلم نفسه قد يكون دليلهم على الإخلاص ..
ألم تقرأ ما قال بعضهم:( طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله )
قلت: بلى .. وقد كان هذا من الحوافز
التي جعلتني أستكثر من العلم لعلي أصل إلى سر الإخلاص.
قال: ألم تعلم بأن الله تعالى يدعو
عباده إلى بابه بهذه الحوافز؟
قلت: كيف؟
قال: ألم تقرأ قوله تعالى وهو يدعو
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتبشير المؤمنين بما أعد الله تعالى لهم من فضل
جزاء على أعمالهم الصالحة، كما قال تعالى:) وَبَشِّرِ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا
الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا
أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(
(البقرة:25)
ففي هذه الآية الكريمة تبشير لمن جمع
بين الإيمان والعمل الصالح بهذا الجزاء العظيم الذي سيلقونه عند الله تعالى .
وقد يرد التبشير بجزاء الله وفضله
على أعمال خاصة، تحتاج إلى محفز عظيم، ومن ذلك قوله تعالى:) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(
(البقرة:155)
فالله تعالى جمع في الآية الكريمة
بين الإخبار على ما يعد للمؤمنين من صنوف الاختبار وما أعد لهم بجنبه ـ إن نجحوا ـ
من صنوف الجوائز ليكون الجزاء حافزا للعمل ومثبتا عليه وداعيا إليه.
ومثل ذلك قوله تعالى:) وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(
(البقرة: من الآية223)، فالتبشير منصرف في الآية للمؤمنين الذين تحققوا بتقوى
الله.
ومثل ذلك قوله تعالى:) إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ
الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً
عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(
(التوبة:111)، فقد اعتبر الله تعالى ما يقدمه المؤمنون من بذل لأنفسهم وأموالهم في
سبيل الله بضاعة لتجارة رابحة يبشرهم الله بوفور ربحها في الدنيا قبل الآخرة.
ومثل ذلك ختم الله تعالى صفات عباده
الصالحين بدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبشيرهم، قال تعالى:) التَّائِبُونَ
الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ
الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ
لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(
(التوبة:112)
ولذلك اعتبر الله تعالى التبشير من
وظائف الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ، فقال عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-:) أكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ
أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ
عِنْدَ رَبِّهِم( (يونس: من الآية2)
وقال عن موسى u:)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ
بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ( (يونس:87)
قلت: ما سر هذا الاهتمام بالتبشير في
جميع هذه الآيات إلى درجة اعتباره جزءا من رسالة الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ
قال: سره هو ما ينشره التبشير في
النفس من انشراح وفرح يمتلئ القلب به طمأنينة والجوارح نشاطا، قال تعالى في بيان تأثير التبشير في النفس:) وَمَا جَعَلَهُ
اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ
إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(
(آل عمران:126)، وقال تعالى:)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(
(لأنفال:10)
ولهذا كان التبشير بما أعد الله
للمؤمنين من جزاء هو الجوائز الوحيدة التي يقدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- لمن اختار سبيله ونصرة دعوته والوقوف أمام جميع الأعاصير التي تتربص به.
وقد كانت سلوى آل ياسر لمواجهة ما
أعد لهم الطواغيت من عذاب هو ما قاله - صلى الله عليه وسلم - لهم، وقد رأى عظيم ما
يعانونه:( صبرا آل ياسر ان موعدكم الجنة )
وفي معركة بدر، حين اشتدّ البلاء على المسلمين،
ورأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضعف أصحابه وقلة عددهم وضعف عتادهم، لم يكن له
من الجوائز غير أن قال لهم:( قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، والذي نفس محمد
بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله
الجنة )
وهزت
البشرى نفوس الصحابة y، فقام عمير بن الحمام t، وقال
مندهشا:( عرضها السموات والأرض؟)، فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:( نعم )، فقال، والفرحة تكاد تطير به:( بخ بخ )،
فقال - صلى الله عليه وسلم -:( ما يحملك
على قولك بخ بخ؟) قال:( رجاء أن أكون من
أهلها )، فقال - صلى الله عليه وسلم - مبشرا، وقد علم صدقه:( فإنك من أهلها )
فتقدم
الرجل فكسر جفن سيفه، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم ألقى بقيتهن من يده، وقال:
لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة، ثم تقدم فقاتل حتى قتل t.
وقبل ذلك عندما كان رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - في مكة، ولا أنصار ينصرونه كان يتبع الناس في منازلهم، عكاظ و
مجنة، و في المواسم يقول: من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي و له الجنة )
ولم يكن له من جزاء يعد به غير
الجنة، فلا يجد أحداً يؤويه و لا ينصره، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر
فيأتيه قومه و ذوو رحمه فيقولون احذر غلام قريش لا يفتنك، و يمضي بين رحالهم و هم
يشيرون إليه بالأصابع..
إلى أن رحل إليه سبعون رجلاً حتى
قدموا عليه في الموسم فواعدوه شعب العقبة، فقالوا:( يا رسول الله علام نبايعك؟)،
فقال - صلى الله عليه وسلم -:( تبايعونني على السمع و الطاعة في النشاط و الكسل، و
النفقة في العسر و اليسر، و على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و أن تقولوا في
الله لا تخافوا في الله لومة لائم، و على أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما
تمنعون منه أنفسكم و أزواجكم و أبناءكم )
قالوا:( يا رسول الله إن بيننا و بين
الرجال حبالاً وإنا قاطعوها، وإنا نأخذك على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا
بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟)، فقال - صلى الله عليه وسلم -:( الجنة )، فقالوا:( ابسط يدك )، فبسط يده
فبايعوه.
وبعد ذلك، وفي معركة أحد، حين ابتلي
المؤمنون بما ابتلوا به، وتجمع المشركون حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
وهو في سبعة من الأنصار ورجل من قريش، قال: من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟ فجاء
رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل.
فلما عادوا ورهقوه قال: من يردهم عنا
وهو رفيقي في الجنة، حتى قتل السبعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-:( ما أنصفنا أصحابنا )
وكان هذا الحافز هو الذي يستعمله
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الترغيب في الأعمال الصالحة، كما قال - صلى
الله عليه وسلم - في الترغيب في شد العزم على العمل الصالح:( من خاف أدلج، ومن
أدلج بلغ المنزل ألا أن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة )[82]
ولهذا انتشرت قيمة جزاء الله في
الجيل الذي رباه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن سؤالهم إلا عن هذا
الجزاء العظيم، لا عن الجزاء الدنيوي المحدود، بل سرى هذا إلى الأعراب ـ مع ما كان
فيهم من جفاء وغلظة ـ جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:( ما
ثمن الجنة؟)، فقال - صلى الله عليه وسلم -:(
لا إله إلا الله )[83]،
وجاء أعرابي آخر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:( يا رسول دلني على
عمل إذا عملته دخلت الجنة )، فقال:( تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة
وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان )، فقال:( والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا
شيئا أبدا ولا أنقص منه )، فلما ولى قال - صلى الله عليه وسلم -:( من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر
إلى هذا )[84]
وجاء النعمان بن قوقل إلى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - فقال:( يا رسول الله، أرأيت إذا صليت المكتوبة وحرمت
الحرام وأحللت الحلال أدخل الجنة )، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( نعم )
وقد كان الصحابة y
يتتبعون من وعدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة يسألون عن أعماله، كما
يسأل التاجر الحريص عن السلع الرابحة، وذات يوم والنبي - صلى الله عليه وسلم -
جالس مع أصحابه, نظر في وجوه أصحابه وقال لهم:( يطلع علينا الآن رجل من أهل الجنة
)، وأخذ الأصحاب يتلفتون صوب كل اتجاه يستشرفون هذا المبشر بأعظم ما يحلمون به،
وبعد حين قريب, طلع عليهم سعد بن أبي وقاص.
وجاءت غزوة أحد فذهب عمرو الى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوسل اليه أن
يأذن له وقال له:( يا رسول الله انّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك الى
الجهاد.. ووالله اني لأرجو أن أخطر, بعرجتي هذه في الجنة )
قلت: فهمت هذا .. ولكن كل ما ذكرته
من أجزية مرتبط بالآخرة .. ولا نرى صحة أن ننشر إعلانا على مسابقة يقول: من اخترع
كذا، أو بحث في كذا فإن له الجنة.
ضحك، وقال: تريد المكاسب الدنيوية.
قلت: أجل .. ومن لا يريدها؟
قال: لقد أخبر الله تعالى عن هذه
الحوافز الدنيوية ليدعونا إلى استعمالها، فقد قال تعالى مشيرا إلى هذا النوع من
الجزاء:) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا
فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(
(العنكبوت:27)، وقال تعالى:) وَآتَيْنَاهُ
فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(
(النحل:122)
فالله تعالى يخبر في هاتين الآيتين
أنه آتى إبراهيم u أجره في الدنيا قبل الآخرة، ومن الأجر الذي آتاه ـ كما قال
العلماء ـ ما فتح الله عليه من خزائن
الرزق وبارك له فيه، وهذا ما سميناه هنا بالثواب المادي.
ويشير إليه من السنة قوله - صلى الله
عليه وسلم -:( من قتل قتيلا فله سلبه )، ففي هذا الحكم الذي أطلقه رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - في بعض الغزوات تشجيع للمقاتلين بحافز مادي هو أن كل من قتل
قتيلا يستطيع تملك ما معه من غير أن يحسب ذلك من نصيبه في الغنائم.
ويشير إليه كذلك الأحاديث الداعية إلى مكافأة
المحسن، فمن مكافأته ما يعطى من الجوائز والهدايا تشجيعا له على إحسانه، ومن ذلك
قوله - صلى الله عليه وسلم -:( من أتى
إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له )[85]
ويشير إليه كذلك تفريق عمر t
لعطايا بيت المال بحسب درجات الصحبة والقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
وكأنه يجعل من الحظ الزائد مكافأة على ذلك، وقد كان t فرض لأسامة في العطاء
خمسة آلاف، ولابنه عبدالله ألفين؛ فقال له عبدالله:( فضلت علي أسامة وقد شهدت ما
لم يشهد )، فقال:( إن أسامة كان أحب إلى رسول الله r منك، وأباه
كان أحب إلى رسول الله r من أبيك)، ففضل t محبوب رسول
الله r على محبوبه.
وقد قدر السلف أهمية ترغيب الأبناء
وثوابهم عند حسن استجابتهم ومن ذلك ما رواه النضر بن الحارث قال: سمعت إبراهيم بن
أدهم يقول، قال لي أبي:( يا بني اطلب الحديث، فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم
)، فطلبت الحديث على هذا.
قلت: لقد ذكرتني يا معلم بما يعمد
إليه محترفو السيرك عند ترويض بعض الحيوانات الضخمة أو الشرسة وتدريبها على القيام
بأعمال تدعو للدهشة والاستغراب، فهم يطلبون من هذا الحيوان عملاً معيناً، فإذا حقق
منه نسبة نجاح معينة أعطوه قطعة لحم، وربتوا على جسمه دلالة على رضاهم عنه، ثم
يكررون العملية عدة مرات مع قطع لحم أخرى أيضاً، وتزداد نسبة النجاح شيئاً فشيئاً
حتى يتوصلوا للمقصود.
قال: فقد أدرك هؤلاء ما للحوافز من
تأثير على البهائم .. فاقتدوا بهم في النهوض من كبوتكم.
اقتربنا من الباب الرابع من أبواب
الفكر، فرأيت صورة لمنصة عالية جلس عليها رجل يظهر على ملامحه أنه من أهل العلم
يخاطب أقواما كثيرين.. وقد صوبت أمامه كاميرات كثيرة تنقل كلامه لجميع الدنيا.
فقلت للمرشد: لا شك أن هذا هو
الحاكم.
قال: لا .. هذا هو العالم .
قلت: أيترك للعالم أن يخاطب كل هذه
الجموع؟
قال: هذا باب التأثير، وهو الباب
الذي يخرج فيه العلم من المكتبات والمخابر ليملأ حياة الناس، فلا يصح أن يحجر على
العلم.
قلت، وقد غلبني الضحك: أيحجر على
العلم، وهل هو سفيه حتى يحجر عليه؟
قال المعلم: أنتم تعاملون العلم
معاملة السفيه، فتحجرون عليه، وتحجرون على أهله.
قلت: كيف ذلك؟
قال: أرأيت لو منع الطبيب من معالجة
المرضى، أيكون قد استفاد شيئا من إرهاق نفسه في البحث عن الأمراض وعلاجها؟
قلت: لا يستفيد شيئا .. فالغرض من
الدواء هو المداواة.
قال: فكذلك من أغراض العلم التعليم
.. فالعلم يبدأ بالنفس لينتشر إلى المجتمع.
قلت: ولكنا وضعنا لأهل العلم المدارس
والجامعات.
قال: لا يكفي ذلك .. العلماء يوضعون
في كل الأماكن .. ابتداء بوسائل الإعلام، وانتهاء بكل مراكز الاتصال والتأثير من
المساجد وغيرها.
قلت: المساجد! .. هي للأئمة .. فهل
نترك هؤلاء يزاحمونهم فيها؟
قال: ليس في العلم مزاحمة ..
والمساجد ـ خصوصا ـ ليست حكرا على الأئمة وحدهم .. ألا يحتاج الناس إلى الأطباء؟
قلت: أجل.
قال: فلماذا لا يقدم الأطباء للناس
دروسا في المساحد تحفظ صحتهم، وتزيد وعيهم؟
قلت: ولكن المساجد تبع لوزارة
الأوقاف، والأطباء تبع لوزارة الصحة.
قال: وما علاقة الوزارت بهذا؟ أتضعون
مصالح المجتمع في يد سياسات تتلاعب بها الرياح.
قلت: فما تقصد؟
قال: هذه مؤسسات المجتمع .. لا
مؤسسات الساسة، وقوانينها ثابتة لا ينبغي للحكام أن يتلاعبوا بها.
قلت: هذا حال سلفنا من المسلمين ..
ولكن للدولة في هذا الوقت تدخلها في كل الشؤون دينا ودنيا.
قال: فكيف تنهضون، وأنتم كلعبة بيد
أطفال من الساسة يتحركون كما يشتهون، فتتزلزل الأرض بحركاتهم.
قلت: دعنا من السياسة .. لنرجع إلى
ما كنا فيه.
قال: ألم تسمع ما روي عن سفيان
الثوري t حين قدم عسقلان، فمكث لا يسأله إنسان فقال:( اكروا لي لأخرج من
هذا البلد، هذا بلد يموت فيه العلم)
قلت: بلى، ومثله ما روي عن عطاء t
قال: دخلت على سعيد بن المسيب، وهو يبكي، فقلت:( ما يبكيك؟) قال:( ليس أحد يسألني
عن شيء )
قال: فلا تحجروا على العلماء ..
وامنحوا لهم من وسائل التأثير ما يحيوا به الأمة .. فالعلماء هم ( سرج الأزمنة، كل
واحد مصباح زمانه يستضيء به أهل عصره )، و( لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم )[86]
اقتربت من الباب الثاني من أبواب
الجهد، فإذا بلافتة مشعة مكتوب عليها قوله تعالى:) وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ( (الرعد: من
الآية23)، وتحتها أو في أثنائها صورة لرجل
قد التف حوله جمع غفير من الخدم، كل واحد يقدم له خدمة من الخدمات.
سألت المعلم عن سر هذا الرجل: أفرعون
هذا .. أم قارون؟
قال: لا .. هذا كل مسلم .. بل كل
إنسان.
قلت: كيف؟ أرى الخدم يلتفون به.
قال: هذا باب الخدمات .. وهو الباب
الذي تبذل فيه كل ألوان الخدمات لمن يحتاجها.
قلت: ولكن ما سر وضع هذه الآية هنا،
فلا أرى لها مناسبة.
قال المعلم: في هذه الآية إشارة
بديعة إلى وجوب توفير كل الخدمات لكل من يحتاج إليها، لتسد بكل باب من الأبواب
نافذة من نوافذ الحاجات.
قلت: ولكن الآية تتحدث عن الجنة.
قال: وما الذي يمنعكم أن تجعلوا من
الدنيا جنة؟
قلت: ولكن الآية تتحدث عن الملائكة ـ
عليهم الصلاة والسلام ـ
قال: وما الذي يمنعكم من التشبه
بالملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ألم يكن - صلى الله عليه وسلم - يقول لأمته:(
ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟)، قالوا:( يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة
عند ربها؟)، فقال - صلى الله عليه وسلم -:( يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف
)
بل اعتبر - صلى الله عليه وسلم - ذلك
من كرامات الله لهذه الأمة، فقال - صلى الله عليه وسلم -:( فضلنا على الناس بثلاث:
جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا
إذا لم نجد الماء، وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم
يعطها نبي قبلي )
وقد كان عمر t إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه، ثم قال: أقيموا صفوفكم،
استووا قياماً، يريد اللّه تعالى بكم هدي الملائكة، ثم يقول:) )وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ( (الصافات:165)،
تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبر)[87]
قلت: فكيف ندخل على الناس من كل باب؟
قال: كل باب يشير إلى حاجة من
الحاجات، فالمرض حاجة تستدعي توفير الأطباء والدواء، والجوع حاجة تستدعي توفير من
يقوم بتوفير الطعام ابتداء من الفلاح وانتهاء بالطباخ، والمأوى حاجة تستدعي توفير
كل من يقوم به ابتداء من المهندسين، وانتهاء بكل وسائل البناء وأسبابه .. وهكذا.
التفت فرأيت أربعة أبواب مفتوحة
تقابل الداخل لهذا الباب، فسألت عنها، فقال: هذه هي الأبواب التي تمثل الأركان
التي تقوم عليها الخدمات.
قلت: فما هي؟
قال: التنوع، والعموم، والاحترام،
والرعاية، فإن كل ما يتعلق بالخدمات من وظائف يعود إليها.
تقدمنا إلى باب التنوع، وقد علقت على
بابه صورة مصنع ضخم تجمعت فيه كل الأعمال، ففيه آلات النسيج والتغذية والمطابع وما
لا يحصى من الآلات .. بل إن أرض المصنع لم تخل من استغلال، فقد غرست فيها أصناف
النباتات، والأشجار المثمرة.
قلت للمرشد: ما هذا المصنع العجيب؟
وفي أي منطقة من مناطق العالم يوجد؟ عهدي بالمصانع متخصصة في صناعات معينة؟ وعهدي
بالفلاحة منفصلة عن الصناعة .. فما هذا الاختلاط؟
قال: هذا باب التنوع، وما رأيته من
الصورة يشير إليه، فالتنوع يستدعي توفر كل ما رأيته وغير ما رأيته من أصناف
الحاجات، واجتماعها مع بعضها يدل على وجوب التناسق بينها، فلا ينبغي للصناعة أن
تضر بالزراعة، ولا ينبغي للصناعات أن يضر بعضها ببعض.
قلت: فهمت الصورة، فما الحقائق التي
تنطوي عليها؟
قال المعلم: لا بد من توفر الخدمات
التي يحتاج إليها البشر لاستقرارهم، فلا ينبغي التفريط في أي حاجة من الحاجات.
قلت: أليس في اشنغالنا بسد منافذ
الحاجات ما يشغلنا عن الله، وعن الوظيفة التي خلقنا لها؟
قال: لا .. فالله خلق لنا ما في
الكون لننتفع به، فلا يجوز لنا أن نقصر في الانتفاع بما خلق الله لنا.
قلت: نعم، لقد وردت النصوص الكثيرة
تخبر بتسخير الكون لنا، ولكني لا أفهم منها إلا معنى التفضل المستوجب للشكر لا
معنى الإيجاب المستوجب للعمل.
قال: إن نفس معنى الشكرالذي تفهمه
يدل على العمل؟
قلت: كيف ذلك؟
قال: ألم تسمع قوله تعالى:) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ
وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ( (سـبأ:13)
قلت: لقد ربط الله تعالى بين العمل
والشكر، فما سر ذلك؟
قال: الشكر ينتظم ثلاثة أمور: معرفة
النعمة وعلاقتها بالمنعم، والفرح الحاصل بانعامه، والقيام بما هو مقصود المنعم
ومحبوبه .. ومن هذا الأخير يدخل العمل، ويدخل كل ما تعرفونه من الشكر بالجوارح
واللسان.
قلت: عرفت الركنين الأولين لكني لم
أفهم علاقة العمل بالركن الثالث.
قال: الركن الثالث من أركان الشكر
يتعلق بالجوارح .. بأن تستعمل نعم الله تعالى في طاعته والتوقى من الاستعانة بها
على معصيته، فشكر كل نعمة لا يتم إلا باستخدامها فيما خلقت له.
قلت: فهمت كل هذا .. ولكني لا أقصد
بالعمل إلا ما يتمحض منه للدنيا.
قال: لا فرق بين الدنيا والآخرة ..
ولا بين الدين والحياة .. ألم تسمع قوله تعالى:) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا
إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا
يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا
كَانُوا يَفْتَرُونَ( (الأنعام:138)
قلت: هذه الآيات تشدد على الذين
حرموا ما رزقهم الله من النعم معتبرة ذلك من الافتراء على الله.
قال: فهي بطريق غير مباشر تدعوكم إلى
تناول هذه النعم باسم الله ليكون تناولكم لها جزءا من شكركم لله.
قلت: لم أفهم هذا .. فلا أرى في
التناول شكرا.
قال: أرأيت لو أن محسنا أهدى إليك
قميصا .. فرحت ووضعت ذلك القميص في القمامة .. وفي موضع يراه .. ألا تعتبر بذلك قد
رددت هديته بأبشع رد؟
قلت: أجل.
قال: فكذلك نعم الله التي أهداها لنا
من شكرها أن نتناولها باسمه، ونستعملها فيما أمر، ولا نرميها في القمامات.
قلت: لقد ذكرتني بحديث عظيم كأنه
يتحدث عن هذا، فقد مر - صلى الله عليه وسلم - على شاة ميتة، فسأل عنها فقالوا:
إنها شاة لمولاة لميمونة، فقال:( هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به؟ إنما حرم أكلها )[88]
قال: أجل هذا حديث هذا الباب، فالنبي
- صلى الله عليه وسلم - اعتبر الجلد المرمي الذي لم ينتفع به نوعا من التفريط في
نعم الله .. وهكذا فقد سخر الله لنا كل شيء، فإن استفدنا مما سخر الله لنا نكون قد
أدينا شكر ذلك المسخر، وإلا كنا مقصرين في الشكر، ولهذا اعتبر الله عمل آل دود
الحضاري شكرا.
قلت: فنحن في عصرنا إذن قد تحققنا
بقمة شكر الله، فإنا لم نترك قانونا من قوانين الكون إلا سخرناه.
قال: لا .. الشكر يستدعي معرفة
المنعم .. فلا يكفي أن تستعمل النعمة وتغيب عن المنعم بها.
قلت: ألا يدخل في هذا الباب ما ورد
في النصوص من أمره - صلى الله عليه وسلم - بتناول الطعام الساقط على الأرض وعدم
تركه للشيطان، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:( إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط
ما كان بها من أذىً وليأكلها، ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق
أصابعه؛ فإنه لا يدري في أي طعامه البركة )[89]،
وفي حديث آخر عن أنس t قال: كان رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل طعاماً
لعق أصابعه الثلاث، وقال:( إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها، ولا
يدعها للشيطان )، وأمرنا أن نسلت القصعة وقال:( إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة
)[90]
قال: أجل، فالنبي - صلى الله عليه
وسلم - يحذرنا من التفريط في النعمة صغيرها وكبيرها .. حتى ما يبقى في القصعة أو
في الأصابع .. وقد ربط - صلى الله عليه وسلم - هذا بالشيطان، لأن الشيطان يمثل جحود
النعم، ولهذا اعتبر المبذر من إخوان الشيطان، كما قال تعالى:) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ
الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً( (الاسراء:27)
قلت: على هذا الاعتبار أيأثم من له
مورد من موراد الرزق يملكه، ولكنه لا يستغله.
قال: أجل .. فقد عرفنا أنه لا حق
لأحد في شيء، فالمال مال الله، والعبد مستخلف فيه، فلا يحق له أن يكنز من مال الله
ما يعود ضرره على خلق الله، ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم - :( من كانت له
أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه)[91]،
ولهذا وردت النصوص تأمر بالمزراعة وعدم ترك الأرض خرابا، قال عمر بن عبد العزيز t:(
زارعوا على الأرض بنصفها، بثلثها، بربعها … إلى عشرها، ولا تدعوا الأرض خراباً )
قلت: بل إن النبي - صلى الله عليه
وسلم - زارع اليهود على أرض خيبر بالشطر مما يخرج منها.
قال: وهكذا .. فلا يحل لأحد أن يترك نعمة
من نعم الله لا يستسخرها فيما ينتفع به الخلق.
قلت: أتعلم يا معلم أن هذا الأصل
الذي ذكرته يجعل جميع الخدمات التي يحتاج إليها الإنسان تخرج من باب الشكر لا من
باب الأنانية والهوى؟
قال: أجل .. وهذه هي نظرة المؤمن في
تناوله الأشياء وتسخيره لها .. هو يتناولها من باب العبودية لله، أما غيره
فيتناولها، وهو يصارع في تناولها .. فلذلك قد يعبث بها، أو يسخرها فيما لم تخلق
له، ألم تقرأ شكوى العصفور، والبقرة؟
قلت: أجل، فقد أنكر رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - على من قتل عصفوراً عبثاً، وأخبر أنه سيشكو إلى الله قاتله يوم
القيامة قائلا:( يا رب، قتلني عبثاً ولم يقتلني منفعة )[92]
أما البقرة، فقد ورد في الحديث
الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم -:( بينما رجل راكب على بقرة فالتفتت إليه
فقالت: إني لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث، فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر،
وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلبه حتى استنقذها منه فقال له
الذئب: هنا استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري؟ فإني أومن بهذا
وأبو بكر وعمر )[93]
قال: ألا تسمع صياح آلاف الأبقار
وشكاواهم؟
قلت: أسمع خوارهم، ولا أسمع شكاواهم.
قال: أولئك المجرمون غلاظ القلوب
الذين يضعون الثيران في حلبات، ثم يطعنونهم بما شاءت لهم قلوبهم القاسية، أرحم أم
هذا الذي ركب على البقرة؟
قلت: بل هو أرحم، فلعل المسكين احتاج
إلى ركوبها، أما هؤلاء فلا مبرر لما يفعلونه سوى ما تنفخه شياطينهم فيهم من القوة
الكاذبة.
قال: فأنت تسخرون كثيرا من قوانين
الكون، ولكنكم تخلطون التسخير بعبث كثير.
قلت: فحدثنا عنه حتى نتقيه.
قال: ذلك درس آخر من دروس السلام.
قلت: متى موعده؟
قال: حين نرحل إلى ( أكوان الله )
***
قلت: عرفت أصول التنوع، فما أصول التنسيق بين
الأنواع؟
قال: ألم تسمع قوله تعالى:) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا
مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ
يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ( (الحديد:25)
قلت: بلى، فالله تعالى يمن على عباده
بما أنزل عليهم من الكتاب والميزان والحديد.
قال: ألا ترى ذلك الجمال في اجتماع
هذه جميعا في محل واحد، ثم التعبير عنها جميعا بكونها منزلة من الله.
قلت: بلى، بل إني أرى ضرورتها جميعا،
فلا يصح أن نكتفي بأحدها دون الآخر.
قال: فالله تعالى في هذه الآية عندما
ذكر الحديد، هل اكتفى بوجه من وجوه صناعته؟
قلت: كلا، بل إن الله تعالى جمع في
الآية بين الصناعات السلمية للحديد، والصناعات الحربية.
قال: فهل تستقيم الحياة بوجه واحد من
وجوه الصناعة؟
قلت: كلا .. إلا إذا عمر السلام
العالم، فحينذاك لن يحتاجوا إلى الصناعات الحربية.
قال: وذلك لن يكون .. فالبشر هم
البشر.
قلت: وبذلك ستظل الحاجة إلى حمل
السلاح دائمة .. وإلى صناعة السلاح ضرورة.
قال: فقد فهمت إذن معنى التناسق.
قلت: أتقصد أنه مراعاة جميع الحاجات،
والاهتمام بها جميعا في نسق واحد.
قال: أجل، بل إن في قوله - صلى الله
عليه وسلم -:( إذا تبايعتم بالعينة، ورميتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم
الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم،حتى تراجعوا دينكم )[94]
دليلا على هذا.
قلت: كيف، فالحديث ينهى عن الركون
للأرض، وإن من قومي من يفهمه عكس ما تريده .. فهو يفهم منه ضرورة الاهتمام
بالجهاد، وإغفال الجوانب الأخرى.
قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم
- في هذا الحديث لم ينه عن التجارة, ولا عن الزراعة، وإنما ينهى عن ترك الجهاد في
سبيل الله، لما في تركه من الثغرات التي تطمع الأعداء، وتمكن لهم.
قلت: كأنك تقصد أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - في هذا الحديث ينهى عن استغلال الحديد في الجانب السلمي فقط.
قال: أجل .. مادام الصراع موجودا،
فلا بد من توفر الحديد الذي يردع النفوس المصارعة، وهكذا .. فكل حاجة من الحاجات منفذ
من المنافذ يحتاج إلى ما يسده .. أتحسب أن الحروب تأتيكم فقط من الجيوش المحاربة؟
قلت: أتقصد الاستعمار الثقافي
والاقتصادي .. وغيرها؟
قال: أقصد استعمار كل شيء لكم حتى
استعمار الفيروسات والجراثيم .. فإنها إن لم تلاق بجنود من الأطباء يردعونها،
فستعيث في أرض أجسادكم من الفساد ما لا يستطيع أي عدو القيام به.
تقدمنا إلى الباب الثاني من أبواب
الخدمات، وقد علقت على بابه صورة، لست أدري هل كانت كاريكاتورا ساخرا، أم أن
صاحبها جاد فيما قصده، فقد صورت أناسا محترمين ببذلات مهنهم، بعضهم أطباء، وآخرون
قضاة، وآخرون أساتذة، بل بعضهم سياسيين وحكاما، وليس في هذا كله أي غرابة، ولكن
الغرابة هي وضعهم في مرتبة واحدة مع الكناسين والحمالين، أو ما يسميهم بعض الفقهاء
بأصحاب الصناعات الدنية.
سألت المعلم عن سر هذه الصورة،
والمعنى الذي ترمز له، فقال: هذا باب الاحترام، وهذه صورته، فالعمال كلهم محترمون
.. فلا وضيع بينهم ولا محتقر.
قلت: ولكن الخلق يكادون يتفقون على
شرف بعض الحرف ووضاعة بعضها، بل إن من الفقهاء من اعتبروا الكفاءة في الحرفة، وهو
قول جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة في رواية، وهو قول أبي يوسف من الحنفية.
وقد سئل بعضهم عن تاجر قمح يقرأ بعض
القرآن زوج ابنته لرجل شلبي طحان، فهل الزوج كفء لها وهل العقد صحيح أو لا؟
فأجاب:( أنه ليس الزوج كفء الزوجة ونكاحها باطل )[95]،
وليس ذلك لأجل القرآن، لأن القرآن ليس حرفة، وإنما لأجل التجارة.
وفي فتوى أخرى سئل عن أخوين أحدهما
حائك وتاجر والآخر حائك فقط زوج الأول ابنته بولاية الإجبار لابن الثاني فهل هو
كفء لها أو لا؟
فأجاب بأنه لا يكافئ بنت عمه
المذكورة لأن المكافأة المساواة وهي معتبرة في الزوجين وآبائهما وشرف التجارة عرفا
المتصف به والدها غير موجود في والده
وظاهر أن ابن الحائك ليس كفؤا لبنت التاجر )[96]،
فالأخوان لا يكافئ بعضهما بعضا لأجل التجارة.
وفي فتوى أخرى أجاب:( بأنه ليس بكفء
لها لأنه ابن حائك وأبوها تاجر)[97]
وفي فتوى أخرى سئل عما إذا تزوج عالم
ببنت عالم ولم يكن أبو الزوج عالما يصح النكاح أم لا؟ فأجاب بأنه إن زوجها وليها
به بإذنها فيه ولو بسكوت البكر صح نكاحها،
وإلا فلا يصح لعدم الكفاءة )[98]
وفي فتوى أخرى ينقلها ابن حجر
الهيثمي بقوله:( وقع في الدرس السؤال عما لو جاءت امرأة مجهولة النسب إلى الحاكم
وطلبت منه أن يزوجها من ذي الحرفة الدنيئة ونحوها، فهل يجيبها أم لا؟ والجواب عنه:
أن الظاهر الثاني للاحتياط لأمر النكاح، فلعلها تنسب إلى ذي حرفة شريفة، وبفرض ذلك
فتزويجها من ذي الحرفة الدنيئة باطل، والنكاح يحتاط له)[99]
وقد عبر السبكي عن علة هذه الفتاوى
بقوله عندما سئل عمن يأكل من كسب يده، هل هو أشرف ممن يأكل من الصدقة، وهل أحدهما
كفء للآخر؟ فأجاب بقوله:( الذي يظهر أنه
يعتبر في ذلك عرف أهل بلد الزوجة المطردة إذ الأفضلية في ذلك أمر شرعي، والفقهاء
في هذا الباب ينظرون للعرف أكثر من نظرهم للفضائل الشرعية)[100]
ولم يكتف هؤلاء بحرفته فقط بل عمموا
ذلك إلى حرفة آبائه فلا تزال تنزل عليه لعناتها، فلذلك قالوا:( حرفة فيه أو في أحد
من آبائه وهي ما يتحرف به لطلب الرزق من الصنائع وغيرها)[101]
بل إن بعض الشافعية قاس على هذا حرفة
الأم أيضا، قال الأذرعي:( قياسه النظر إلى حرفة الأم أيضا فإن ابن المغنية
والزامرة والماشطة والحمامية ونحوهن ينبغي أن لا يكون كفؤا لمن أمها ليست كذلك لأنه
نقص في العرف وعار ومأخذ هذه الخصلة العرف والعادة)[102]
وقد صنفوا على هذا الأساس الصناعات بحسب شرفها ودناءتها
معتبرين في ذلك العرف، قال في فتح القدير:( وعلى هذا ينبغي أن يكون الحائك كفئا
للعطار بالإسكندرية لما هناك من حسن اعتبارها وعدم عدها نقصا ألبتة، اللهم إلا أن
يقترن به خساسة غيرها)[103]
وقال الشافعية:( في الحرف لا يكافئ
الكناس والحجام وقيم الحمام والحارس والراعي ونحوهم بنت الخياط والخياط لا يكافئ بنت البزاز والتاجر
ولا يكافئ المحترف بنت القاضي والعالم)[104] وقال
الروياني: ويراعى فيها عادة البلد فإن الزراعة في بعض البلاد أولى من التجارة وفي
بعضها بالعكس[105].
ومن تلك الأعراف التي كان يفتى على
أساسها ما ذكره في البحر الرائق بقوله: ( وينبغي أن يكون صاحب الوظائف في الأوقاف
كفؤا لبنت التاجر في مصر إلا أن تكون وظيفة دنيئة عرفا كسواق وفراش ووقاد وبواب
وتكون الوظائف من الحرف؛ لأنها صارت طريقا للاكتساب في مصر كالصنائع، وينبغي أن من له وظيفة تدريس أو نظر يكون كفؤا
لبنت الأمير بمصر وفي القنية الحائك لا يكون كفؤا لبنت الدهقان وإن كان معسرا،
وقيل هو كفء)[106] وهذه
أمثلة لبعض ما ذكروا من تصنيف الصناعات:
وعلى
هذا الأساس عرفوا الصنائع الدنيئة بأنها (ما دلت
ملابسته على انحطاط المروءة )، ومثلوا لها بالحائك، والحجام، والحارس، والكساح،
والدباغ، والقيم، والحمامي، والزبال.
قال: وبم يستدلون على ذلك؟
قلت: يروون في ذلك حديثا يقول: (
الناس أكفاء إلا الحائك والحجام)[107]،
وهو مع ضعفه الشديد إلا أنهم يقبلون الاستدلال به، وقد روي أنه قيل لأحمد في هذا
الحديث:كيف تأخذ به وأنت تضعفه؟ قال: العمل عليه. يعني أنه ورد موافقا لأهل العرف
)[108]
ويستدلون كذلك بقوله تعالى:) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ((النحل:71)
قال: أما الحديث، فيكفي فيه ما قال
المحدثون، ولو أجزنا الاستدلال بمثل هذا لخربنا الشريعة، بل لخربنا الدين جميعا
عقيدة وشريعة.
أما الآية فليس لهم فيها مطمع،
فالتفاضل في الأرزاق لا يعني تفاضل أصحابها، ولو كان الأمر كذلك لكان الرعي أشرف
الحرف، ألم يرع الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ الأغنام.
وزيادة على هذا أين يضعون قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( (الحجرات:13)
ثم .. لو أن هؤلاء الكناسين
والحمالين تركوا هذه المهن الوضيعة التي رماهم بها هؤلاء الفقهاء، وذهبوا جميعا
إلى المهن الشريفة التي تخول لهم الزواج بمن شاءوا من النساء، هل تستقيم الحياة؟
قلت: لا شك أنه لو ترك عمال النظافة
التنظيف أسبوعا واحدا لامتلأت الشوراع بالأوساخ والقاذورات، ولهرب الناس إلى
البوادي يطلبون العافية.
قال: فكيف تعتبرون مهن هؤلاء
المنظفين خسيسة؟
قلت: فما الأصل الذي دعا الفقهاء إلى
هذا؟
قال: هو الأعراف المنحرفة التي أسسها
المترفون، وأرادوا أن ينسخوا دين الله بها ..
قلت: ولكن العرف مصدر من مصادر
الشريعة.
قال: عرف الصالحين، لا عرف المترفين،
وعرف المقربين، لا عرف الفاسقين، وعرف السامعين من الله، لا عرف المستقبلين لإلهام
الشياطين.
قلت: يا معلم .. أتعلم أن من اكبر
أسباب البطالة في عصرنا، والمؤدية إلى الفقر هذا الجانب؟
قال: كيف؟
قلت: إن الكثير من المتخرجين من
الجامعات عندنا تربأ أنفسهم في بداية حياتهم العملية من أي عمل قد لا يتناسب مع
البذلات التي يلبسونها، فيظلون يحلمون بمكاتب مكيفة إلى أن ينطوي بساط العمر من
بين أيديهم من غير أن يفعلوا شيئا.
قال: فهلا اقتحموا مستنقعات الحياة،
ليستخرجوا منها لآلئ النجاح.
قلت: وهل في المستنقعات لآلئ.
قال: اللآلئ والكنوز في كل محل، ففضل
الله واسع وبره عظيم، ولكنه لا ينال إلا الباحثين المجدين.
تقدمنا إلى الباب الثالث من أبواب
الخدمات، فرأيت أرزاقا شتى تنزل على خلق كثير، فلا تميز في نزولها بين غني وفقير،
وشريف ووضيع.
فسألت المعلم عنها، فقال: هذا باب
العموم.
قلت: وما باب العموم؟
قال: هو الباب الذي ينتشر منه فضل
الله على خلق الله.
قلت: وخدماتنا تنشر فضل الله على خلق
الله.
قال: خدماتكم تميز بين الخلق، فتهطل وابلا
صيبا على السمان، وتترك المهزولين يموتون بهزالهم.
قلت: ولكن المهزولين ليس لديهم من
المال ما يسددون به ثمن الخدمات.
قال: الخدمات حق من حقوق الخلق، ولا
علاقة لها بقدرتهم على السداد.
قلت: فكيف يتمبز الأغنياء عن الفقراء
إذن إذا تساووا في الخدمات؟
قال: الأغنياء يملكون، والفقراء
يستفيدون.
قلت: فهم طفيليون إذن.
قال: لا .. الطفيلي هو الذي يستفيد
من غير أن يكون له حق في الاستفادة، أما الفقراء فيستفيدون ما هو حق لهم.
قلت: بأي وصف نالوا هذا الحق؟
قال: بوصف فقرهم.
قلت: وهل الفقر صك يجوز لهم تناول
الخدمات من غير أن يدفعوا ما يقابلها؟
قال: نعم .. فلا ينبغي أن يحرم
الفقراء من حقوقهم بسبب فقرهم.
قلت: اضرب لي مثالا على هذا، فإن ما
تقوله يقضي على الفقر قضاء كليا، وهو ما لا أراه في الواقع أو في النصوص.
قال: سأضرب لك أربعة أمثلة: التعليم،
والصحة، والأرزاق، والسكن.
قلت: أكل هذه توفر للفقراء مجانا.
قال: وغيرها.
قلت: فلنبدأ بالتعليم.
قال: أليس من الخدمات التي ينالها
الأغنياء حقهم وحق أولادهم في التعليم.
قلت: أجل.
قال: فلا يحق أن يحرم الفقراء من هذا
الحق بسبب فقرهم.
قلت: واقعنا يقول بهذا، ولكنه يشترط
ـ أحيانا ـ من الشروط والرسوم ما يحرم الفقراء من هذا الحق.
قال: الحقيقة لا يهمها الواقع
المنحرف.
قلت: أجل، فقد كان العلم في المجتمع
الإسلامي مشاعا ينال الفقراء والأغنياء، بل كان الفقراء لا يجدون من الملاجئ
لأولادهم أفضل من المدارس، وإني لا أزال أذكر قصة أبي حامد، وكيف رحمه الله بالفقر
ليصير إلى ما صار إليه، فقد روى ابن النجار بسنده: أن والد أبي حامد كان يغزل
الصوف ويبيعه في دكانه بطوس، فأوصى بولديه محمد وأحمد إلى صديق له صوفي صالح،
فعلمهما الخط، وفني ما خلف لهما أبوهما، وتعذر عليهما القوت، فقال: أرى لكما أن
تلجآ إلى المدرسة، كأنكما طالبان للفقه، عسى يحصل لكما قوت، ففعلا ذلك.
وقال أبو العباس أحمد الخطيبي: كنت
في حلقة الغزالي، فقال: مات أبي وخلف لي ولأخي مقدارا يسيرا، ففني، بحيث تعذر
علينا القوت، فصرنا إلى مدرسة نطلب الفقه، ليس المراد سوى تحصيل القوت، فكان
تعلمنا لذلك لا لله، فأبى أن يكون إلا لله.
قال: هذه هي الخدمة الأولى، والشرع
يوجب استفادة الأغنياء والفقراء جميعا منها، فبذل العلم في الأمة واجب لا يستثنى
منه أحد .. ولا يكتفى في هذا بالمدارس البسيطة، بل يعمم في جميع المدارس بسيطها ومعقدها
.. ولا يكتفي في ذلك بالمدارس وحدها، بل كل ما يتطلبه العلم من وسائل التيسير التي
رأيناها في أبواب الفكر.
قلت: أليس الغذاء من وسائل التيسير،
فلا يمكن للجائع أن يفهم؟
قال: أجل .. فطالب العلم ينبغي أن
يطعم من الطعام ما يكفيه لئلا يشغله الجوع عن علمه، وقد عرفنا ذلك في باب التفريغ.
قلت: فما بقاء الفقر إذن بعد هذا؟
قلت: فما الخدمة المجانية الثانية؟
قال: الصحة، فلا يصح أن ندع الفقراء
يلتهمهم المرض.
قلت: ولكن فراغ جيوبهم يحول بينهم
وبين التداوي الذي يخص المترفين، فبعض العمليات عندنا تتطلب أموالا ضخمة تنوء بها
كواهل الأغنياء فكيف بالفقراء؟
قال: ذلك لأنكم حولتم من الطب تجارة
.
قلت: وهل هو شيء غير التجارة؟
قال: لا يصح أن تصبح الحاجات
الأساسية للخلق تجارة.
قلت: أتقصد أن يداوي الأطباء مجانا؟
قال: الناس مختلفون، فيهم الغني الذي
يقدر على أن يدفع، وفيهم الفقير ولا قدرة له على الدفع ..
قلت: تقصد أن يقبض الطبيب من
الأغنياء حق خدمته، ولا يقبض من الفقراء.
قال: هذا صحيح، فكيف يقبض منهم ما
ليس عندهم؟
ضحكت، وقلت: لكأني بك يا معلم لا
تعرف هؤلاء الأطباء، إنهم لا يضعون سماعاتهم على صدرك حتى يضعوها على جيبك.
قال: كيف .. أجيبك ينبئهم عن مرضك؟
قلت: لا .. بل ينبئهم عن استحقاقك
للعلاج أو عدم استحقاقك.
قال: أيتركونك للموت من أجل فراغ
جيبك؟
قلت: هم يخلون أنفسهم من المسؤولية.
قال: فأين زكاة صناعتهم؟
قلت: يدفعون ربع العشر عند مرور
الحول .. هذا إن بقي لهم النصاب الذي لم يأت عليه ما يتطلبه الترف.
قال: هناك زكاة المال، وهناك زكاة
الصناعة.
قلت: لا أعرف في أبواب الزكاة ما
يسمى بزكاة الصناعة.
قال: ألا تعرف أن زكاة العلم إنفاقه؟
قلت: بلى، فلا يصح أن يكتم العلم،
وقد قال تعالى:) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا
مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي
الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ( (البقرة:159)، وقالتعالى:) إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ( (البقرة:174)
وقد ورد في الحديث الشريف قوله - صلى
الله عليه وسلم -:( من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار )[109]، وقد قال
- صلى الله عليه وسلم -:( إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق )
قال: أليس الطب علما من العلوم؟
قلت: بلى .. بل هو علم من العلوم
الشريفة .. فلولاه ما حفظت الصحة التي هي الأصل لحفظ الدين.
قال: فكيف يكتمون ما يحفظ الصحة ولا
يبذلونه؟
قلت: ولكن كيف يصطادون المال إن
بذلوا هذا النوع من العلم النفيس.
قال: لا أتصور أبدا أن تصبح الصحة
موضعا للتجارة .. ولا أتصور طبيبا يقف أمام مريض على شفا الموت، يتركه لمعاناته
لأجل خلو جيبه من المال.
قلت: هذا هو الواقع يا معلم ..
فالتمس حلا آخر.
قال: فأسسوا مستشفيات للفقراء تغنيهم
عن البخلاء من الأطباء.
قلت: بماذا نؤسسها؟ وكيف نؤسسها؟
قال: بأموال المحسنين، وزكاة
الأطباء.
قلت: تقصد أن نؤسس مستشفيات الأوقاف.
قال: نعم، فتلك سنة سلفكم الصالح.
قلت: أجل .. فقد كانت المستشفيات ـ
والتي كان يطلق عليها البيمارستانات ـ من الظواهر البارزة في تاريخ الحضارة
الإسلامية، ومن المعلوم أن أساس نشأتها الأوقاف بداية، وتطويراً، وتعليماً
للعاملين فيها، وبرزت أسماء عديدة في هذا المجال، مثل: البيمارستان العضدي ببغداد،
والبيمارستان النوري في دمشق، والبيمارستان المنصوري في القاهرة، وبيمارستان
مراكش، والبيمارستان المقتدري.
ويقدم للمرضى في هذه البيمارستانات
العناية الصحية وفق تنظيم مدهش لفت انتباه كل من زارها، فبالإضافة إلى الأكل،
والشرب، والملبس الذي يقدم للمرضى برزت خدمات اجتماعية مصاحبة، ومن ذلك أنه تم
تخصيص بعض البيمارستانات للفقراء دون الأغنياء، فيتم علاجهم دون مقابل، ومثل هذا
كان في البيمارستان الذي أنشأه نور الدين زنكي ـ يرحمه اللَّه ـ في دمشق حيث تمّ تخصيصه للفقراء دون الأغنياء
مما يؤكد الهدف الاجتماعي من إنشائه.
كما طالت يد الرعاية الاجتماعية لهذه
البيمارستانات الفقراء في منازلهم، فقد نص السلطان قلاوون في كتاب وقفه
البيمارستان الذي أنشأه على أن تمتد الرعاية الصحية إلى الفقراء العاجزين ويصرف
لهم ما يحتاجون من أدوية وأغذية، وقد بلغ عدد هذا الصنف من المرضى الذين يزورهم
الأطباء في بيوتهم في فترة من الفترات أكثر من مائتي فقير[110].
ومن الأدوار الاجتماعية التي كانت
تؤديها بعض البيمارستانات رعاية المريض حتى بعد خروجه، فيعطى ما يكفيه من معيشة
حتى يباشر عمله الذي يتقوت منه، بالإضافة إلى كسوة، وهذا كان دارجاً في
البيمارستان المنصوري، وتمتد رعايتهم للمريض حتى بعد وفاته، فقد نصت وثيقة الوقف
على أن ( يصرف الناظر ما تدعو الحاجة إليه من تكفين من يموت من المرضى والمختلين
من الرجال والنساء فيصرف ما يحتاج إليه برسم غسله، وثمن كفنه، وحنوطه، وأجرة
غاسله، وحافر قبره، ومواراته في قبره، على السنة النبوية والحالة المرضية)[111]. وفي ذلك
يقول أحد الشعراء المعاصرين لذلك البيمارستان الذي شملت خدماته عموم الناس وغطى
جميع جوانب الرعاية:
ولا
تنس مارستانه واتساعه وتوسعة الأرزاق
للحول والشهر
وما
فيه من قوامه وكفاته ورفقهم
بالمعتفين ذوي الفقر
فللميت
المقبور حسن جهازه وللحي رفق في علاج
وفي جبر
ويذكر مصطفى السباعي عن غريب ما اطلع
عليه في مجال الرعاية الاجتماعية والنفسية للمريض أنه وجد وقف مخصص ريعه لتوظيف
اثنين يمران بالمارستان يومياً فيتحدثان بجانب المريض حديثاً خافتاً ليسمعه المريض
عن احمرار وجهه وبريق عينيه بما يوحي له بتحسن حالته الصحية[112]، وهذا له أثره الفعال في نفسية المريض وسرعة شفائه.
واستكمالاً لحلقات الرعاية
الاجتماعية للمرضى نجد أن الواقفين قد نصوا على أن أصحاب الوظائف الذين يعملون في
المدارس التي أوقفوها حين إصابتهم بأمراض خطيرة أو معدية فإنهم يجري عليهم رزقهم
طوال فترة عزلهم عن الطلاب حتى يشفوا أو يتوفاهم اللَّه[113].
وهذا يمثل نظاماً للضمان الاجتماعي،
وقد يعد أساساً لنظام التأمينات الاجتماعية أو نظام التقاعد في وقتنا المعاصر، كما
أنه يمثل قمة الإحساس بمتطلبات الرعاية الاجتماعية لأفراد المجتمع، وتلمس حقيقي
لمواطن الاحتياج لديهم .
قلت: فما الخدمة الثالثة؟
قال: الرزق من المطعم والمشرب
والملبس .. فهذه ضرورات لا بد منها، فلا يصح أن يحرم الفقراء بسبب فقرهم من قوام
معيشتهم.
قلت: ولكن فقرهم إن قعد بهم عن ذلك،
فما عساهم يفعلون؟
قال: يفرض لهم ما يكفيهم من ذلك.
قلت: ومن يفرض لهم؟
قال: الكل.
قلت: الحاكم أم المحكوم؟
قال: الحاكم والمحكوم.
قلت: فأي فرق بين الإسلام والشيوعية
في هذا، فهي تدعو لمساواة الناس في المعاش.
قال: هي تسلب وتغصب وتظلم وتصارع
لتفعل ذلك .. ثم لا تفعله، انشغالا بصراعها .. أما الإسلام فيحيي كل ذلك بحقائق
السلام.
والشيوعية وأبناؤها يحددون الملكية،
فلا يجيزون تملك وسائل الإنتاج، ويعملون على تأميمها، والإسلام يبيح ذلك، ولكن
يدعو لانتفاع كل الناس بها فلا يحق لمن يملك أن يعيش وحده.
قلت: فاذكر لي تأصيل هذا، وتفاصيله.
قال: سنراه فيما يأتي من الأبواب.
قلت: فما الخدمة الرابعة؟
قال: لا يصح أن يبيت مسلم بالعراء.
قلت: هناك الفنادق، فلذلك لا يضطر
المسلم لأن يبيت بالعراء.
قال: فإن لم يجد المال الذي يكفيه
ليسد مبيته في فنادقكم.
قلت: يبحث له عن أرض نظيفة يفترشها،
أما السماء فتكفيه غطاء.
قال: هذا في قوانين الجبارين الطغاة.
قلت: فما قوانين المسلمين الموحدين؟
قال: لا بد لكل مسلم من مسكن يؤويه،
ويستره، فالسكن حق لكل كائن.
قلت: أتقصد ما يسمونه بالملاجئ؟
قال: الملاجئ لأصحاب الحاجات الخاصة،
أما أصحاب الأسر، فلا بد لهم من مساكن تؤويهم.
قلت: قد وضعت لهم مساكن، ولكن استولى
عليها الأغنياء واستعمروها وراحوا يبيعونها بأفحش الأثمان.
قال: أمسلمون هم؟
قلت: هم يصلون ويصومون ويحجون، بل
ويعتمرون.
قال: بأموال حرام يحجون .. ألم
يقرأوا قوله - صلى الله عليه وسلم -:( من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه سبع أرضين )[114]
قلت: هم يقرأونه ويؤولونه.
قال: أيخادعون الله أم يخادعون
أنفسهم؟ كيف تطمئن أنفسهم وهم ينامون على الفرش الوثيرة، وغيرهم يفترش الطرق
ويلتحف السماء.
قلت: فبماذا تنصحنا؟
قال: ببناء مساكن الآخرة.
قلت: أليسكن فيها هؤلاء الذين لم
يجدوا بيوتا في الدنيا تؤويهم؟
قال: لا .. لكم ولأغنيائكم .. بشروهم
ببيوت الآخرة ليكفوا عن بناء البيوت التي لا يسكنونها .. أو بشروهم ببيوت في جهنم
لمن حرم مستضعفا من هذا الحق.
قلت: هم لم يحرموهم، ولكن المساكين
قعد بهم ضعفهم.
قال: فبمن يلوذ الضعيف؟
قلت: بالله.
قال: والله قد وكل هؤلاء الأغنياء
ليبنوا بيوت الفقراء ..
قلت: ولكنهم انشغلوا بالتطاول في
البنيان.
قال: فانشروا بينهم هذه البشارات
ليرغبوا في قصور الجنة، أو يرهبوا من بيوت النار .. ألم تعلم أن الاحتساب هو الرمح
التي تقتلون بها الفقر، والفأس التي تهدمون بها التخلف.
قلت: ولكنهم قد يعطون الفقراء مساكن
فيبيعوها، ثم يعودون يفترشون الأرض ويلتحفون السماء طمعا في مساكن أخرى.
قال: ومن يأذن لهم ببيعها؟
قلت: فكيف يسكنونها إذن؟
قال: ألم تعلم الوقف .. أليس هو الذي
حل مشكل الصحة والتعليم .. فليحلل مشكل السكن؟
قلت: فكرة رائعة .. ولكن كيف تتم؟
قال: فكروا .. واصدقوا في تفكيركم،
فستجدون من الحلول ما يسكن كل فقير، ويؤوي كل يتيم.
قلت: نعم خطرت لي أفكار رائعة ..
نقيم مشروعا ندعوه ( قصور للبيع) ننشره في جميع وسائل الإعلام، فإن مثل هذا المشروع
سيحرك الأغنياء جميعا للاتصال .. وحينها نقنعهم بالاستثمار في مساكن الأوقاف ..
مساكن تؤوي جميع المستضعفين .. تتوفر على جميع شروط الصحة والعافية .. وتوضع شروط
لمن يسكنها .. فيسكنها ما دام معوزا، فإن عافاه الله من العوز انتقلت إلى غيره من
المعوزين، وهكذا سيموت مشكل السكن ..
ولكن هل سيستجيب الأغنياء ..
قال: اصدقوا فقط في حديثكم معهم، فما
أخفقت حاجة وراءها صادق.
قلت: فكيف نصدق؟
قال: بالعفاف .. انظروا للأغنياء
كحلول جعلها الله للفقراء .. لا حلولا لسمنكم وحاجاتكم.
قلت: تقصد زهد العلماء.
قال: نعم .. فكلام العالم لا يسمع
إلا إذا زينه بزينة الزهد.
تقدمنا إلى الباب الرابع من أبواب
الخدمات، فرأيت عمالا بثياب مهنهم، منشغلون انشغالا كليا، فلا تطرف لهم عين، ولا
ينشغل منهم عضو بغير ما هم فيه، فقلت في نفسي: ما أصدق هؤلاء العمال، وما أعظم إخلاصهم،
ليتني قدرت على حملهم إلى بلادي .. إذن لنجحت في كل مشروع أقوم به.
وبينما أنا كذلك إذ رأيت شخصا لا
يكاد يختلف عنهم، ولكنه مع ذلك يبدو أنه صاحب المصنع، فقد كان يتفقدهم، ولكنه لا
يتفقد فقط إتقانهم، بل يتفقد حاجاتهم، ويسألهم عن أهلهم، ويعطي كل واحد منهم ما
يحتاجه، وهم يبتسمون له، ويبتسم لهم، فقلت: لا غرابة أن يصدر منهم كل ذلك الإخلاص،
ورئيسهم يتعامل معهم بهذا الأسلوب.
قال: نعم، فهذا باب الرعاية، وهو
الباب الذي يخدم أصحاب الخدمات .. فلا يمكن للخدمات أن تتم، والقائمون عليها
ضائعون.
قلت: أتقصد حقوق العمال؟
قال: الرعاية أعظم من الحقوق ..
الحقوق فيها نفحة من نفحات الصراع .. أما الرعاية ففيها نفحة من نفحات الأبوة
والأخوة ..
قلت: فما الفرق بين الرعاية والحقوق؟
قال: من وجوه شتى، أقلها أنكم لا
تعتبرون الابتسامة حقا من الحقوق.
ضحكت، وقلت: الابتسامة .. وما جدواها
.. لا هي تطبخ، فتؤكل، ولا هي تفصل، فتلبس.
قال: وهل الحياة أكل ولباس؟ أين
المشاعرالطيبة، والنفس المطمئنة الوديعة، ألم يكن من سنة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - طلاقة الوجه وانشراح الأسارير والابتسامة إلى درجة أن لوحظ ذلك عليه،
فعن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - [115].
قلت: أجل، ولهذا لا تذكر وجوه
المؤمنين في القرآن إلا مستبشرة منطلقة مسفرة ضاحكة، ولا تذكر وجوه غيرهم إلا
وعليها غبرة ترهقها قترة، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - عندما عبس في موقف من
المواقف نزل النهي القرآني عن ذلك العبوس ونزل الأمر بتبديله بشرا وانطلاقا حتى لا
يؤثر في وجه المؤمن أي موقف من المواقف.
وطبق الصحابة y هذه السنة، فعن أم الدرداء قالت: كان أبو الدرداء إذا حدث حديثا
تبسم، فقلت: لا يقول الناس إنك أي أحمق فقال: ما رأيت أو ما سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يحدث حديثا إلا تبسم[116].
قال: وحتى لا تتأولون أفعاله - صلى
الله عليه وسلم - وردت الأحاديث الكثيرة العامة والصريحة، معتبرة طلاقة الوجه من
المعروف، قال - صلى الله عليه وسلم -:) لا يحقرن أحدكم شيئا من المعروف، وإن لم
يجد فليلق أخاه بوجه طليق وإن اشتريت لحما أو طبخت قدرا فأكثر مرقته واغرف لجارك
منه([117].
بل معتبرة لها من الصدقات، بل قرنت
مع أصول للدين، قال - صلى الله عليه وسلم -:( تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك
بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل
الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة،وإفراغك من
دلوك في دلو أخيك لك صدقة ( [118]
وجمعه - صلى الله عليه وسلم - بين
هذه الخصال جميعا يدل على أن هناك علاقة بينها جميعا، وكأنه - صلى الله عليه وسلم
- يقول: ليس الكمال أن تفعل الخير، ولكن الكمال أن تفعله، وأنت منشرح الصدر منطلق
الأسارير، فإذا أمرت بالمعروف أو نهيت عن المنكر أو أرشدت الضال أو فعلت الخير مما
ذكر، فافعله مبتسما لا ضجرا، لأن ضجرك سيرفع ثواب عملك، بل يحيل خيريته شرا
وحلاوته مرا.
وقد بين - صلى الله عليه وسلم -
الثمرة التي تجنى من هذا السلوك السهل البسيط الذي ينتفع به الجسم والروح والأهل
والمجتمع بقوله:) إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه وحسن
الخلق ([119]
قلت: فنحن نسمي هذا النوع من
الحقوق:( الحقوق النفسية )
قال: سموها بما تشاءون .. المهم أن
تعيشوها وتطبقوها.
قلت: لا أكتمك أن كثيرا من الرؤساء
عندنا يحرصون على ألا يظهروا إلا بوجوه عابسة مكفهرة.
قال: لم .. أهم في مأتم دائم؟
قلت: لا .. ولكن يخشون إن أظهروا بعض
التواضع لعمالهم أن يتسلطوا عليهم .. أو يستهينوا بأعمالهم.
قال: الصراع إذن هو السبب .. ألم أقل
لك: إن الصراع هو سم الحياة .. فليتعلموا السلام .. فلا يبتسم إلا من تعلم السلام.
قلت: فهمت الحق الأول، فما الحق
الثاني؟
قال: هو ما عبر عنه - صلى الله عليه
وسلم - بقوله:( اعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)[120]،
بل أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن من الثلاثة الذين يخاصمهم الله يوم القيامة:(
ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره )[121]
قلت: تقصد حق العامل في أجرة عمله.
قال: أجل .. فهذا من الجهد المشروع
المتج.
قلت: نحن لا نختلف في هذا .. فليس
هناك عامل في الدنيا إلا وينال أجره.
قال: لا .. أنتم تظلمون العمال ظلما
عظيما .. فلا تعدلون في الأجور .. بل تجعلون الناس طبقات مختلفة، فترفعون المرتفع،
وتخفضون المنخفض.
قلت: أتريد أن نخفض المرتفع، ونرفع
المنخفض ليتساويا .. هذه شيوعية.
قال: هذه عدالة .. وسمها بأي اسم شئت؟
قلت: اشرح لي قصدك وتأصيلك لهذا ..
فإني أخشى أن أرمى بالافتراء على الله، والتحريف لدين الله، فإني بين قوم لا
يفرقون بين الفتوى والقضاء.
قال: التحريف هو الظلم .. قل لي ولا
تخف: هؤلاء الوزراء الذين يتربعون على عروشهم، فيقسمون بينكم أجور جهودكم .. ما هي
أجورهم؟
قلت: هي كثيرة جدا .. لا يحل للعامة
أن يطلعوا عليها.
قال: هل هي من العلم المكنون أم هي
مما استأثر الله بعلمه .. ألم نعرف أجرة الخلفاء الراشدين؟
قلت: أجل .. لقد مر معنا ما روى حميد
بن هلال قال: لما ولي أبو بكر t الخلافة قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( افرضوا
لخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يغنيه) فقالوا:( نعم برداه إذا
اخلقهما وضعهما وأخذ مثلهما، وظهره إذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل أن
يستخلف ) فقال أبو بكر t:( رضيت )
أما عمر t فإنه لم يأخذ أجرته إلا بعد أن أصابته الخصاصة، فعن أبي أمامة بن
سهل بن حنيف قال: مكث عمر زمانا لا يأكل من المال شيئا حتى دخلت عليه في ذلك
خصاصة، وأرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشارهم فقال: قد شغلت
نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي منه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعم، وقال ذلك سعيد
بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقال لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء قال،
فأخذ بذلك عمر[122].
وعن سعيد بن المسيب أن عمر استشار
أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: والله لأطوقنكم من ذلك طوق الحمامة! ما
يصلح لي من هذا المال؟ فقال علي: غداء وعشاء، قال: صدقت[123].
وعن ابن عمر قال: كان عمر يقوت نفسه
وأهله ويكتسي الحلة في الصيف ولربما خرق الإزار حتى يرقعه، فما يبدل مكانه حتى
يأتي الإبان[124]، وما من
عام يكثر فيه المال إلا كسوته فيما أرى أدنى من العام الماضي، فكلمته في ذلك حفصة
فقال: إنما أكتسي من مال المسلمين وهذا يبلغني[125].
أما عمر بن عبد العزيز t،
فقد سار على هديهم، فلم يكن له في خلافته سوى قميص واحد يلبسه، فكان إذا غسلوه جلس
في المنزل حتى ييبس. وهو الذي نشأ وشب في أحضان النعيم.
ودخل على امرأته يوماً فسألها أن
تقرضه درهماً يشتري به عنبا، فلم يجد عندها شيئاً .. فقالت له: أنت أمير المؤمنين
وليس في خزائنك ما تشتري به عنبا؟!فقال: هذا أيسر من معالجة الأغلال والأنكال غداً
في نار جهنم.
.. ولكن مع ذلك، فهم يتصورون أن هذه
تشددات أملاها الورع على هؤلاء الخلفاء، ولا ينبغي أن يشدد على الخلق بما يراه
الورعون.
قال: ومن قال بأن هذا من الورع، هذا
دين، وهذه شريعة، ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( إني - والله - لا
أعطي ولا أمنع أحدا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت )[126]
فهذا رسول رب العالمين، قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره، كما يفعل
ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في ماله، وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من
أحبوا، وإنما هو عبد الله، يقسم المال بأمره، فيضعه حيث أمره الله تعالى[127].
وقد قيل لعمر بن الخطاب: يا أمير
المؤمنين - لو وسعت على نفسك في النفقة، من مال الله تعالى، فقال له عمر: أتدري ما
مثلي ومثل هؤلاء؟ كمثل قوم كانوا في سفر، فجمعوا منهم مالا، وسلموه إلى واحد ينفقه
عليهم، فهل يحل لذلك الرجل، أن يستأثر عنهم من أموالهم؟.
وحمل مرة إلى عمر بن الخطاب t،
مال عظيم من الخمس، فقال: إن قوما أدوا الأمانة في هذا لأمناء، فقال له بعض
الحاضرين: إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى، فأدوا إليك الأمانة، ولو رتعت رتعوا.
ثم التفت إلي وقال: لماذا لا تطالبون
بمعرفة أجور هؤلاء الوزراء ومن فوقهم ومن تحتهم من المسؤولين؟
قلت: نخشى أن يطالب الناس بمثل
أجورهم.
قال: لهم الحق في ذلك، ألم تقرأ ما
قال سلمان لعمر t في شأن القميص.
قلت: بلى، ولكن الأمر مختلف عندنا ..
قال: لقد خالفتم فخولف بكم.
قلت: ما هذا؟
قال: ألا تعلم أن الله لا يغير عادته
مع قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
قلت: بلى.
قال: فالله تعالى أكرمكم بما أكرمكم
به من عزة وعدل ووحدة، فلما خالفتم أصابكم ما أصاب كل مخالف، ألم تسمع قوله تعالى:) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ
وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً( (مريم:59)،
فاحذروا من الغي.
قلت: هو واد في جهنم.
قال: ومثله وديان في الدنيا .. فالله
ديان الدنيا والآخرة.
قلت: يا معلم .. دعنا من الوزراء ومن
فوقهم، ولنتكلم عمن تحتهم.
قال: سل ما بدا لك.
قلت: إن من قومي من يجعلون المستأجر
حرا في التعامل مع أجرائه، فالمال ماله والعمل عمله، فلذلك له أن يفرض من الأجور
ما يشاء .. أما العميل فهو بين أن يقبل أو يرفض.
قال: هذا صحيح، فقد وسع الله على
الخلق في هذا الباب، وهو ما يدعو إلى التنافس.
قلت: ولكن هذا قد استغله البعض
فظلموا العمال مستغلين حاجتهم.
قال: يمنع الظالم من ظلمه.
قلت: ولو بمخالفة ما ذكر الفقهاء.
قال: الفقهاء ذكروا لأصل .. ولكنهم
يتفقون على تحريم الضرر، فلذلك لو ظلم العامل بطلب ما يفوق أجره، أو طلب المستأجر
بما يفوق عمل العامل رد إلى العدل.
قلت: أهذا تسعير للأجرة؟
قال: لا .. هذا رد للعدل .. فلا يحل
لأحد أن يظلم أحدا مستغلا حاجته وضرورته.
قلت: فما الحق الثالث؟
قال: حق الراحة بعد العناء، والتفرغ
لله بعد النصب، ألم تسمع قوله تعالى:) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ( (الشرح:7 ـ 8)
قلت: بلى .. ولكن ما محل هذه الآية
هنا .. هي تتحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقول له:( إذا فرغت من أُمور
الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغ البال،
واخلص لربك النية والرغبة )، كما قال مجاهد: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى
الصلاة فانصب لربك. وعن ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل.
ولكن هذا المعنى لا علاقة له بهذا
الباب.
قال: كيف يتفرغ العامل لله إن لم
تترك له فرصة للتفرغ.
قلت: له فرصة للتفرغ كل يوم في وقت
الراحة.
قال: تلك الفرصة اليومية، وأنتم
تفسدونها ببرامج أعمالكم.
قلت: وهل هناك فرصة أخرى.
قال: فرصة العمر .. الراحة التي
يتسلمها العامل بعد انتهاء أشغال العمر.
قلت: تقصد التقاعد.
قال: أنتم تسمونها كذلك .. أما نحن
فنسميها التفرغ لله .. ألم تقرأ ما قال مالك t عن أهل المدينة؟
قلت: تقصد قوله عن تفرغ أهل المدينة
لله إذا بلغوا الأربعين.
قال: أجل، ويشير إليه قوله تعالى:) حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى
وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي
إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ( (الاحقاف: من
الآية15)
قلت: أتقصد أن نجعل سن التقاعد يبدأ
من الأربعين، إن العامل عندنا يبدأ عمله من الأربعين، ويتزوج في سن الأربعين ..
قال: أنا لا أحدد لك سنا معينة، ولست
أعني بالتفرغ ما تفهمونه من التقاعد .. فأنتم أعلم بأمور دنياكم.
قلت: وماذا تعني؟
قال: أعني أن يمنح العامل في سن معينة
ما يتيح له أن ينصب لله بعد نصبه في عمله.
قلت: تقصد أن يخفف عنه.
قال: بحسب عمله .. أما أصحاب الأشغال
الشاقة فبحسب ما تتيح لهم وظائفهم .. وأما العالم فمن المحبرة إلى المقبرة .. إلا
إذا قعدت قواه العقلية عن ذلك.
قلت: لقد ذكرتني بقول ابن خلاد:( إذا
تناهى العمر بالمحدث فأعجب الي أن يمسك في الثمانين فإنها حد الهرم والتسبيح
والاستغفار وتلاوة القرآن أولى بأبناء الثمانين فإن كان عقله ثابتا ورأيه مجتمعا
يعرف حديثه ويقوم به ويجري أن يحدث احتسابا رجوت له خيرا )[128]
قال: نعم، فلكل شخص قدراته الخاصة ..
اقتربت من الباب الثالث من أبواب
الجهد، فرأيت لافتة مكتوبا عليها قوله تعالى:) وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ( (قريش: من
الآية4)
ورأيت في مدخل الباب أقواما هم أشبه
بالجنود والشرطة، ولكنهم لا يحملون أذناب البقر، ولا يعبسون في وجوه الناس، ولا
يرتدون الخوذات الواقية.
فقلت للمعلم: ما بال هؤلاء .. ألا
يخافون أن تطحن رؤوسهم بالحجارة، ومن يرهبهم وهم لا يحملون أذناب البقر؟
ضحك، وقال: وما أذناب البقر؟
قلت: تلك التي أخبر عنها - صلى الله
عليه وسلم - بقوله:( صنفان من أهل النار لم أرهم بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر
يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤسهن كأسنمة البخت المائلة،
لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا )[129]
قال: وهل ذكر رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - هؤلاء ليحث على الاقتداء بهم، أم ذكرهم ليستهجن أسلوبهم؟
قلت: بل ذكرهم كرمز للقمع والظلم.
قال: فاعلم إذن أن السلام لا يصنعه
هؤلاء، فالأمن لا تحققه الهراوات، ولا المدافع، ولا السجون ..
صحت: فما الذي يحققه؟ .. وما الذي
يردع النفوس الظالمة، والقلوب القاسية، والعيون المتحجرة؟ .. من الذي يحطم ذلك
الكبرياء الذي تمتلئ به نفوس المجرمين، فيقدمون أنانيتهم على كل شيء؟
قال بهدوئه المعتاد: السلام.
قلت: أبهذه البساطة؟ .. إن الأمر
أخطر من هذا بكثير.
قال: أنتم تبحثون عن الأمن .. ولا
يمكنكم تحقيقه إلا بالسلام ..
قلت: ومن نسالم .. أنسالم الذين
يقتلوننا، ويمدون أيديهم لدمائنا يمتصونها؟
قال: نعم .. السلام لا يتعامل مع كل
شيء إلا بالسلام.
قلت: أنت تحيرني يا معلم .. فأفصح ..
فقد يفهم كلامك خطأ، فالسلام عند بعضنا مرادف للخنوع والذلة.
قال: لا .. السلام هو العزة والكرامة
والرفعة .. ولا يصح أن يرادف الخنوع والذلة.
قلت: فكيف نتعامل إذن مع من
يظلموننا؟
قال: بالسلام تتعامل مع من يظلمك،
ومن لا يظلمك.
قلت: لقد عدنا يامعلم، فوضح.
قال: أجبني: في أي باب نحن؟
قلت: في باب الحماية.
قال: وما تعني الحماية؟
قلت: الأمن.
قال: أي أمن؟
قلت: الأمن الداخلي والخارجي.
قال: فبم يتحقق الأمن الداخلي
والخارجي؟
قلت: أما الأول فيتحقق بمجوعات كثيرة
منها الشرطة والمخابرات وفرق التدخل السريع والحرس الملكي أو الجمهوري أو الوطني
أو .. وأما الثاني، فيتحقق بالجيش وبالأسلحة التي تمتلكها الجيوش.
قال: فقد ذكرت صنفين من أصناف
الحماية.
قلت: أجل: حماية داخلية، وحماية
خارجية.
قال: فلنبدأ بالحماية الداخلية.
قلت: هي الحماية التي تمثلها الشرطة
وغيرها من المكلفين بحفظ الأمن الداخلي.
قال: فما وظيفتهم؟
قلت: يراقبون حركات المجتمع
وسلوكياته، ليردعوا الظالم، ويعينوا المظلوم.
قال: أهذه هي الحماية في تصوركم؟
قلت: أجل، وفي تصور جميع الناس، ولا
أرى أن هناك تصورا آخر .. بل لا أرى أنه يمكن أن تكون هناك مدينة بلا شرطة إلا في
حالة واحدة هي أن يكون سكان المدينة ملائكة لا بشرا.
قال: ولكن الجنة مدينة الحضارة
الربانية لا تحتوي على الشرطة.
قلت: تلك الجنة، وهي التي قال الله
تعالى فيها:) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ( (لأعراف: من
الآية43)، وقال فيها:)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ
مُتَقَابِلِينَ( (الحجر:47)
قال: فما تعني؟
قلت: إن طهارة قلوب أهل الجنة تجعلهم
لا يحتاجون إلى الشرطة.
قال: لماذا؟
قلت: لأن أساس الجرائم جميعا مهما
تنوعت يرجع إلى الصدور المملوءة بالأمراض من غل وحسد وحرص وجشع .. فلولاها لما
ظهرت السرقة والقتل وجميع أنوع الجنايات.
قال: فسبب الجرائم الداخلية إذن هي
الصدور المظلمة بأوزار الذنوب.
قلت: أجل، لا شك في ذلك .. ولهذا خلت
الجنة من الجرائم لطيبة أهلها، كما قال تعالى:) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً
حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا
سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ( (الزمر:73)، فقد
كانت طبيتهم هي المفتاح الذي فتحت لهم به الجنة.
قال: فحضارة الجنة إذن مبنية على
طيبة أهلها.
قلت: إلى الآن ـ يا معلم ـ لم أفهم
سر تعبيرك عن الجنة بكونها حضارة .. الجنة هبة ربانية وليست حضارة مكتسبة.
قال: ستفهم سر هذا عندما نرحل إلى (
دور السعادة ) .. ولكن أليس تفاضل أهل الجنة في الجنة منطلقه الكسب؟
قلت: بلى، قد قال تعالى:) وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( (لأعراف: من
الآية43)
قال: فالحضارة كذلك هبة من الله، وهي
تنال بالكسب، وهي درجات قد تصلون إلى قمتها إذا تحققتم بما يتطلب هذا الكسب من
سلوك.
قلت: فهمت هذا .. ولكني لم أفهم
تحقيق الحماية بالسلام بدل الشرطة.
قال: أنا لم أقل:( استغنوا عن
الشرطة، وعن جميع الأجهزة المذكورة ) ولكني قلت: علموا الشرطة أن يقضوا على
الجريمة بالسلام.
ضحكت، وقلت: عدنا إلى السلام.
قال: نعم .. فهو الحل .. وهو مفتاح
الحضارة .. فلا يمكن لأمة أن تتحضر الحضارة الحقيقية، الحضارة الفردوسية، وهي
تصارع.
قلت: أتطلب من الشرطة إذن أن يعلموا
السلام.
قال: أجل .. بسلوكهم وأخلاقهم، لا
بأذناب البقر التي يحملونها.
قلت: فهمت الآن .. أنت تخالف أساليب
الشرطة القاسية.
قال: أنا لا أخالف ذلك فقط .. بل
أخالف أساس وظيفتهم التي ينالون عليها رزقهم.
قلت: لقد أقررت بضرورة وجودهم.
قال: أجل .. فوجودهم فرض في الواقع.
قلت: فكيف تناقش في أساس وظيفتهم؟
قال: أرأيت لو أن كل شرطي وقف يعلم
الناس ما يقتضيه السلام من أخلاق مما يحد من الجريمة .. أتبقى هناك جريمة؟
قلت: لعل الناس سيضحكون من سلوكه،
ويقولون له: اذهب إلى المسجد، فهو أولى بك من هذا المحل.
قال: هذه بدع ابتدعتموها، أو أعراف
تعارفتم عليها، أو سنة من سنن من قبلكم، ومن معكم حذوتم حذوها .. رأيتم الشرطة
عابسين فعبستم، ورأيتموهم يحملون أذناب البقر، فحملتموها، ورأيتم كل شرطي يحمل
مسدسا، فحملتم، ثم تصورتم أن أمنكم موكول بذلك المسدس الذي يحمله ذلك الشرطي .. ثم
لم تكتفوا بذلك، بل رحتم تصورون الأفلام البوليسية الكثيرة، والتي تبدأ بإطلاق
الرصاص، وتنتهي بإطلاق الرصاص.
قلت: هذا واقع يا معلم .. أتريد من
الأفلام البوليسية أن تبدأ بالمصافحات، وتنتهي بالمصافحات.
قال: فالشرطي الناجح هو الشرطي الذي
ينسى سلاحه.
قلت: سيحكم عليه بالإعدام إن نساه.
قال: ولكنهم لا يحكمون عليه بالإعدام
إن لم ينسه.
قلت: هذه وظيفته.
قال: التي ابتدعتموها.
قلت: ولكن الاقتراح الذي تطرحه يكاد
يكون محالا.
قال: لقد جربتم الكثير من الطرق
والسياسات .. جربتم الشيوعية والاشتراكية الرأسمالية .. فلا عليكم أن تجربوا هذا
الاقتراح.
قلت: أتقصد أن نعلم الشرطة الأخلاق
بدل تعليمهم السلاح.
قال: السلاح يتعمله كل مؤمن لوجه
الله، ولا يتعلمه الشرطي فقط، والأخلاق يتعلمها كذلك كل مؤمن.
قلت: فبم يتميز الشرطي؟
قال: بالسلوك والتعليم.
قلت: إذن يصبح كل الشرطة معلمين ..
فكم من المدارس يكفي لذلك؟ وأين نضع المعلمين؟
قال: لا .. الشرطة يعلمون في الشوارع
والطرقات .. وفي الأسواق والحدائق .. يراقبون سلوك الناس وينصحونهم.
قلت: فهمت .. أنت تتحدث عن المحتسب
.. لا عن الشرطي.
قال: لا فرق بينهما .. بل إن ذهاب من
تسمونه بالمحتسب هو الذي رفع البركة فملأ دكاكين الشرطة بالزبائن.
ضحكت، وقلت: أللشرطة دكاكين؟
قال: لكل قوم دكاكينهم.
قلت: فمخازنهم إذن هي سجونهم؟
قال: أجل .. فقد ملأتم خزائن الشرطة
بجميع أصناف البضاعات البشرية.
قلت: هذا واقع .. فما علاجه؟
قال: أن تلبسوا الشرطي لباس المحتسب
.. فلا يتعامل بالسلاح فقط .. بل يتعامل بالعلم والتعليم والتربية والنصح ..
فالخلق لا يؤدبهم السلاح .. بل يؤدبهم السلام.
قلت: فهمت الآن قصدك من استخدام
السلام وسيلة للحماية.
قال: هذا حل من الحلول .. فالأمن لا
يمكن أن يصنعه الشرطي وحده؟
قلت: فمن يصنعهم عداهم؟
قال: ألم تقل بأن النفوس الطيبة لأهل
الجنة هي التي منعت ظهور المجرمين؟
قلت: أجل.
قال: فضعوا جزءا من تلك الأموال الكثيرة التي
تخدمون بها الأمن في ملأ القلوب بالطيبة ونزع الأحقاد .. فسوف تكفون كل شر.
قلت: بماذا؟
قال: بتعليم السلام .. فإنكم تتفننون
في تعليم الصراع أكثر من تفننكم في تعليم السلام.
قلت: نعلم الصراع ..
قال: نعم .. تلك الأفلام البوليسية
ألا تعلم الصراع؟
قلت: بلى .. بكل أسف .. بل هي جامعة
لتعليم جميع أنواع الإجرام.
قال: فلو أنكم بدلها .. وبدون حاجة
إلى مسدسات علمتم الناس فنون الابتسامة العذبة، وفنون ) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ ( (المائدة: من
الآية28)[130] لتخلوا
عن الصراع، ولجعلوا القوي في نظرهم هو قوي الروح لا قوي الجسد، فليس الشديد
بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
قلت: فكيف السبيل إلى ذلك؟
قال: بتعليمهم الإيمان.
قلت: الناس مؤمنون بحمد الله ورثوا
الإيمان أبا عن جد.
قال: دعوكم من الإيمان الوراثي ..
فالإيمان لا يورث .. الإيمان جدة وحياة، وأنتم تبلونه وتقتلونه بالوراثة.
قلت: فكيف نحييه .. وكيف نجدده؟
قال: نفس الأساليب التي تحيون بها
الصراع في النفوس أحيوا بها السلام فيها.
قلت: تقصد التعليم والإعلام ..
قال: كل ما تمارسونه من أساليب
لإحياء الصراع مارسوها لتعليم الإيمان الذي هو مفتاح السلام.
قلت: لقد ذكرتني يا معلم بحادثة مهمة
لم تفلح فيها الشرطة بجيمع أجهزتها ووسائلها، بينما أفلح فيها الإيمان.
قال: فاذكرها لقومك ليعتبروا.
قلت: ذكرها كثير ممن قبلي.
قال: فذكر ) فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ( (الذريات: من
الآية55)
قلت: لقد جاء في الأخبار التي يرويها
الثقاة أن الولايات المتحدة فكرت في يوم من الأيام في أن تحرم الخمر على شعوبها
لما رأت من أضرارها الشديدة على البناء الصحي والخلقي للمجتمع.
قال: أسلكت لتحقيق ذلك سبل السلام،
أم سبل الصراع كعهدها؟
قلت: فعلت المستحيل، أولا بدأت
بإصدار قانون[131] .. ولم يكن مجرد أمر ملكي أو منشور إمبراطوري، بل كان تشريعا جاء
عن طريق برلمان في بلد ديمقراطي دستوري حر، فحوالي عام 1918ثارت المشكلة في الرأي
العام الأمريكي. وفي عام 1919أدخل في الدستور الأمريكي تحت عنوان ( التعديل الثامن
عشر )، وفي نفس السنة أيد هذا التعديل بأمر حظر، أطلق عليه التاريخ قانون
(فولستد).
قال: هذا قانون .. وهو أضعف من أن
يحقق شيئا:
لن
يصلح القانون فينا رادعاً حتى نكون
ذوى ضمائر تردع
قلت: ولكنهم لم يكتفوا بالقانون، بل
جيشوا كل جيوشهم لتطبيقه، فجند الأسطول كله لمراقبة الشواطئ، منعاً للتهريب، وجند
الطيران لمراقبة الجو، وشغلت أجهزة الحكومة، واستخدمت كل وسائل الدعاية والإعلام
لمحاربة الخمر، وبيان مضارها وجندت كذلك المجلات والصحف والكتب والنشرات والصور
والسينما والأحاديث والمحاضرات وغيرها.
قال: فكم أنفقوا على ذلك من نفقات؟
قلت: يقدرون ما أنفقته الدولة في
الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليوناً من الدولارات، وأن ما أصدرته من كتب
ونشرات يبلغ عشرة ملايير صفحة، وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم -في مدة
أربعة عشر عاماً_ لا يقل عن مائتين وخمسين مليون جنيه، وقد أعدم في هذه المدة
ثلاثمائة نفس، وسجن 532,335 نفس، وبلغت الغرامات ستة عشر مليون جنيه، وصادرت من
الأملاك ما بلغ أربعمائة مليون وأربعة ملايين جنيه.
قال: لو أن كل هذه الأموال صرفوها في
تثبيت الإيمان لنجح القانون من غير شرطة .. قل لي: ما نتيجة ما فعلوا؟
قلت: لم يزدد الأمريكيون إلا غراماً
بالخمر، وعناداً في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933الى إلغاء هذا القانون،
وإباحة الخمر إباحة مطلقة.
قال: فكيف نجح محمد - صلى الله عليه
وسلم - في تحريم الخمر على العرب، بل على أمته جميعا إلى قيام الساعة، وكم من
المصاريف أنفق؟
قلت: أنت تعلم ذلك يا معلم.
قال: فاذكر الصورتين ليعتبروا.
قلت: لم ينفق محمد - صلى الله عليه
وسلم - على ذلك درهما واحدا، بل كفاه عن كل ذلك آية قرآنية واحدة نزلت، فجعلت كل
القلوب تنفر من الخمر من غير شرطة لا قوانين ولا مصادرات.
لقد نزل قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ( (المائدة: 90،
91)، فبمجرد نزولها صارت الخمر رجسا تنفر منها الأنفس.
فعن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:( يا أيها الناس إن الله يبغض
الخمر، ولعل الله سينزل فيها أمراً، فمن كان عنده شيء فليبعه ولينتفع به)، قال أبو
سعيد: فما لبثنا إلا يسيراً، حتى قال:( إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية
-يعني آية المائدة السابقة- وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبيع )، قال أبو سعيد:
فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها[132].
وعن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة
وأبي بن كعب فجاءهم آت فقال: إن الخمر حرمت .. فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها
.. فأهرقها[133].
ويحدث أبو موسى الأشعري قال: بينما نحن قعود على
شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلة -أي حلالاً- إذ قمت حتى آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر،
فجئت إلى أصحابي، فقرأتها عليهم .. قال: وبعض القوم شربته في يده شرب بعضاً وبقي
بعض في الإناء .. فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا ما في
باطيتهم فقالوا: انتهينا ربنا .. انتهينا ربنا[134].
قال: فهل كانت العرب تكره الخمر قبل
نزول التحريم؟
قلت: لا .. لقد كان حب العرب للخمر
لا يقل عن حب الأمريكيين لها، حتى أنه لم تكن تخلو قصيدة من قصائدهم في مدحها، حتى
قال بعضهم:
إذا
مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي
بعد موتي عروقها
حتى أن امرؤ القيس لم يدع الكأس من
يده، وقد بلغه قتل أبيه، ولم يفارق مجلس ندمائه، بل قال كلمته المشهورة:( اليوم
خمر وغداً أمر )
ومما يدل على اهتمامهم بالخمر أنهم
وضعوا للتعبير عنها أسماء كثيرة، وكنايات مختلفة، وألقاباً متعددة - المدامة،
السلافة، الراح، الصهباء، ابنة العنقود، ابنة الكرم، بنت الحان، بنت الدنان .. إلى
آخر الأسماء التي بلغت أكثر من مائة[135]
قال: فما الذي جعلهم ينفرون منها بعد
محبتهم لها .. أالشرطة ام الفرق التي تحفظ الأمن أم الأساطيل التي ذكرتها؟
قلت: لا .. الإيمان .. الإيمان وحده.
قال: فاجعلوا الإيمان شرطيكم.
قلت: ومتى كان الإيمان شرطيا؟
قال: في حضارة أهل الله كان الإيمان
شرطيا، ألم تقرأ كيف كان الناس في عهد عمر t؟
قلت: بلى، فقد حكى المؤرخون من نواحي
عدله الكثير.
قال: لا .. نحن لا نتحدث الآن عن
عدله، بل نتحدث عن شرطي الإيمان.
قلت: يروي المؤرخون في ذلك قصصا.
قال: فاحك بعضها لقومك ليعتبروا.
قلت: أصدر عمر بن الخطاب t
مرة قانوناً يمنع غش اللبن بخلط بالماء ..
قال: هذا قانون جميل، فلماذا لا
يصدره قومك؟
قلت: وكيف يصدرونه، إنهم يحتاجون أن
يحللوا كل قطرة لبن ليروا مكوناتها ليعرفوا من خلال ذلك هل غش اللبن أم لم يغش ..
ومصاريف ذلك تفوق مردوده.
قال: ولكن كيف أصدر عمر t
هذا القانون؟
قلت: كانت الرعية مؤمنة، وقد حكي أن
امرأة كانت تريد أن تخلط اللبن طمعاً في زيادة الربح، فذكرتها البنت بمنع أمير
المؤمنين، فقالت الأم: أين نحن من أمير المؤمنين؟! إنه لا يرانا..ولكن البنت ردت:(
إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فرب أمير المؤمنين يرانا!! )
ولما هبط المسلمون (المدائن) وجمعوا
الأقباض، أقبل رجل بحق معه. فدفعه إلى صاحب الأقباض فقال الذين معه: ما رأينا مثل
هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه!! فقالوا له: أخذت شيئاً؟ فقال: أما والله
لولا الله ما أتيتكم به.. فعرفوا أن للرجل شأناً فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله
لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه .. فأتبعوه
رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه .. فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس t[136].
وقال عبد الله بن دينار: خرجت مع عمر
بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة فعرسنا في بعض الطريق فانحدر بنا راع من الجبل،
فقال له: يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم.فقال: إني مملوك. فقال -اختباراً له-: قل
لسيدك أكلها الذئب. فقال الراعي: فأين الله؟ فبكى عمر رضي الله عنه ثم غدا مع
المملوك، فاشتراه من مولاه، وأعتقه وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن
تعتقك في الآخرة.
قلت: حدثتني عن الحماية الداخلية،
فحدثني عن الحماية الخارجية؟
قال: من يتكفل بها بين قومك؟
قلت: الجيوش المجيشة، والآلات
العسكرية المتطورة.
قال: فكم تصرفون من أموال على هذه
الجيوش، وما تستعمله من أسلحة؟
قلت: ما يكفي لإغناء الشعب كله.
قال: وبأي حجة تصرفون كل هذه
المصاريف؟
قلت: لا يمكن للناس أن يعيشوا
أغنياء، وهم يخافون، ألا تعلم يا معلم أن الأمن شيء أساسي في الحياة؟
قال: بلى، فقد ذكره الله في مواضع
كثيرة شرطا من شروط الحياة، وركنا من أركانها[137].. ولكن ما علاقة هذه الجيوش بالأمن؟
قلت: هي التي تحمينا إن داهمنا
العدو.
قال: اذكر لي مثالا واحدا حمت فيه
الجيوش بلادها من الاستعمار.
قلت: الآن .. لا أذكر .. ولكن لا
أتصور أن للجيوش دورا آخر غير حماية بلادها.
قال: سأضرب لك مثالا عن دولة من
دولكم صرفت أموالا ضخمة على جيوشها، وعلى ترسانتها العسكرية حتى أصبحت قوة من
القوى يحسب لها كل حساب .. أتدري من هي؟ وما مصير جميع أسلحتها؟ بل ما مصير شعبها؟
قلت: أجل .. أدري، وأتأسف.
قال: على ماذا تتأسف؟
قلت: على الذي حل بها .. فهم قوم من
قومي ممتلئون طيبة وكرامة وإيمانا.
قال: السلام لا يحب التأسف، ولايحب
المتأسفين، ألم تسمع قوله تعالى:) لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ ( (آل عمران: من
الآية153)، وقوله تعالى:) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا
آتَاكُمْ ( (الحديد: من
الآية23)
قلت: بلى .. ولكنه حادث عظيم.
قال: ولكن العبرة منه ـ إن استفدتم
منها ـ قد تكون أعظم مما فاتكم .. فالأسف لا يجدي، ولا ينفع.
قلت: وبماذا نعتبر؟
قال: أنتم منذ فترة طويلة تتأسفون
على تخلفكم العسكري، ولا تتأسفون على تخلفكم الأخلاقي .. فجاءت هذه الأحداث
لتنبهكم على أن التقدم العسكري لا ينفع وحده .. بل قد يكون داء من الأدواء الخطيرة
..
ثم سكت برهة، وقال: هيا لنمحو بعض
الزمن .. أو لنعد تركيب الزمن .. ولنبحث عن موضع العبرة.
قلت: نمحو الزمن .. ونركب الزمن ..
كيف؟
قال: لنفرض أن تلك البلاد توجهت
بجميع ما آتاها الله من ثروة في خدمة اقتصادها وشعوبها وسمعتها الطيبة في العالم
.. بحيث صارت مضرب المثل في كرامتها وشهامتها ونبلها .. وصار حكامها مضرب المثل في
عدلهم وإخلاصهم وحكمتهم .. ولنفرض جدلا أنهم لم يصنعوا أي سلاح .. بل ولم يدربوا
أي جندي .. هل كان يمكن أن يحدث لهم ما حدث؟ .. أو يمكن أن يحصل لجيرانهم بسببهم
ما حصل؟
قلت: إن شئت الصدق .. فإنه لو حصل ما
ذكرت لتغير التاريخ تماما.
قال: كيف؟
قلت: دعني أجنح بخيالي لأرى ما سيمكن
أن يحصل.
قال: اجنح بخيالك .. فلا خير فيمن لم
يستعمل هذه الطاقة العظيمة التي وهبها الله له.
سرحت بذهني أقول، وكأني أرى ما أقول:
تلك ثروة عظيمة من الله بها علينا، فرحنا نحسبها .. نقسمها فلسا فلسا .. وضعنا
نصيبا وافرا منها في خطة مستعجلة للقضاء على الفقر وقتله.. ونصيبا آخر لرفع
الاقتصاد وبناء المؤسسات التي لا تحوجنا لأحد من الخلق .. ونصيبا آخر لنشر العلم
وبجانبه التربية .. ونصيبا آخر للإعلام .. ننشر القنوات الفضائية الملتزمة ..
وننشر الكتب بكل لغات العالم .. لنعود كما كنا مهدا للحضارة .. وحينها ستشتاق جميع
أفئدة العالم لزيارة بلادنا، والتبرك بثراها .. وسوف لا نبخل عليهم .. بل نحسن
معاملتهم .. ونتألف قلوبهم، ونريهم من نحن، بل نريهم حقيقة الإنسان التي غفلوا
عنها.
قال: والميزانية العسكرية الضخمة؟
قلت: لن نحتاج إليها .. لأن الحب
الذي عمرنا به قلوب العالم نحونا يجعلهم لا يفكرون في غزونا ولا قهرنا ولا
الاستيلاء علينا، فإن فكروا لم يجدوا الشعوب التي تؤيدهم .. ولم يجدوا من شعوبنا
من يقف معهم.
قال: فإن فكروا، ودخلوا .. وليس لكم
أي جندي، ولا أي سلاح .. فماذا تفعلون؟
قلت: لن يتغير الموقف كثيرا .. بل
لعل الموقف سيكون أحسن من وضعنا الحالي.
قال: كيف؟
قلت: سيدخلون من غير أن يدمروا ..
لأنهم لن يجدوا السلاح الذي يخافون منه.
قال: ولكنهم سيرهبونكم بسلاحهم.
قلت: ولكن القوة التي بثها فينا
العلم والتربية لن تسمح لهم بأن يغزونا .. ألا تعلم أنهم لا يغزون إلا من وجدوا
فيه الاستعداد لأن يغزى .. هم كالذباب تماما لا يقعون إلا حيث توجد المستنقعات
والقاذورات.
قال: فقد أجبت عن سؤالك ..
عدت إلى نفسي، وقلت: أي سؤال؟
قال: ألم تكن تحيل أن تكون هناك دولة
بلا جيش؟
قلت: بلى .. ولا زلت أقول باستحالة
ذلك.
قال: فماذا يفعل الجيش؟ .. وماذا
تفعل الترسانة العسكرية المتطورة التي تسرفون في تدليلها؟
قلت: هي ثقل علينا، وعلى اقتصادنا ..
ومع ذلك نرى لزومها.
قال: سمعت أنكم تشترون أسلحة متطورة
.. وطائرات ضخمة .. ممن تشترونها؟
قلت: إن شئت الصدق، فنحن نشترها من
أعدائنا .. لأنه ليست لدينا صناعات متطورة في هذا الميدان، كما في غيره من
الميادين.
قال: وهل أعداؤكم ينصحونكم إلى هذه
الدرجة، بحيث يبيعونكم هذه الأسلحة المتطورة.
قلت: هي على الأقل تقف لنتفرج عليها
..
قال: فإذا تطورت الأسلحة .. واستحدثت
أسلحة جديدة .. ماذا تفعلون؟
قلت: سنعوض القديمة بالجديدة.
قال: فمن يستفيد من كل هذا؟
قلت: إن شئت الصدق .. لا يستفيد من
هذا إلا تجار الأسلحة .. أما نحن، فهذه الأسلحة عبء كبير علينا .. فنحن نحتاج كل
لحظة لصيانتها في انتظار أن نرمي قطع غيارها لنلوث بها البحار.
قال: ومن يشترون الأسلحة، هل يفكروون
في الغزو بها؟
قلت: هم أضعف في أن يفكروا في ذلك ..
بل هم لا يفكرون حتى في مجرد الدفاع بها.
قال: فانصحهم بأن يبيعوا أسلحتهم،
ويشتروا بدلها ما ينفعهم وينفع شعوبهم.
قلت: والجيوش .. أتبقى بدون أسلحة؟
قال: انصحهم بأن يستثمروا الأراضي
الكثيرة التي وهبكم الله لتشبعوا بطونكم وبطون المستضعفين.
قلت: ما الذي تقول؟
قال: هذا خير لكم من سلاح تعطونه كل
ما تملكون من مال وجهد لترموه بعد ذلك في المستنقعات.
قلت: ولكن كيف نحمي أنفسنا؟
قال: بالسلام .. بنشر السلام .. بملأ
قلوب العالم محبة لكم وشوقا إليكم .. اجعلوهم ينظرون إليكم كما ينظرون إلى
القديسين .. وسوف لن يؤذيكم أحد.
قلت: ولكن هل يمكن أن تكون هناك دولة
بلا جيش؟.. إن النظام سيفلت.
قال: النظام يفلت من الجور والظلم
والاستبداد، لا من العدل والرحمة والصفاء.
قلت: ولكن قومي لن يقبلوا ما تطرحه
.. أنت تتحدث عن خيالات.
قال: فما أجداهم الواقع .. وما
أجدتهم جيوشهم .. ألا تعلم من وراء أكثر الانقلابات التي تحدث في بلاد المستضعفين؟
قلت: لا شك في ذلك، فنحن نسميها:(
انقلابات عسكرية ) أي أن العسكر هم سببها.
قال: فالجيش إذن لا يفعل شيئا مع
العدو .. ويفعل كل شيء في بلاده.
قلت: هو ماهر في ذلك .. ولعله ماهر
في ذلك فقط.
قال: فما الحاجة إليه إذن؟
قلت: يا معلم .. هناك شيء لم تنتبه
إليه .. وهو يدعو إلى ضرورة الجيش؟
قال: تقصد الحدود.
قلت: بلى .. فنحن نحمي حدودنا من
جيراننا.
قال: ومن جيرانكم؟ .. هل المستضعفون،
أم المستكبرون؟
قلت: لو كانوا مستكبرين لوهبناهم
أرضنا من غير أن يسألونا، ولكنهم مستضعفون مثلنا.
قال: فلماذا ترهقون أنفسكم وشعوبكم
من أجل قطع أرض لا تسمن ولا تغني من جوع؟
قلت: ولكنه الوطن .. ألم تسمع قول
الشاعر:
بلادي وإِِن جارتْ عليَّ عزيزةٌ وأهلي وإِن ضَنُّوا عليَّ كرامُ
أو
ما قال أحمد شوقي:
إِذا عظَّمَ البلادَ بنوها أنزلتهمْ منازلَ الإِجلالِ
توَّجتْ
مهامَهمْ كما توجوها بكريمٍ من الثناءِ وغالِ
أو
ما قال الآخر:
بلادي
هواها في لساني وفي فَمي يمجدُها قلبي
ويدعو لها فمي
ولا
خيرَ فيمن لا يحبُ بلادهُ ولا في حليفِ
الحُبِّ إِن لم يتيَّم
قال:
أنتم تتاجرون بالوطن أكثر مما تخدمونه.
قلت:
نعم، هناك من يفعل هذا، كما قال الشاعر:
وجدْنا
خدمةَ اللأوطانِ فخاً يصيدُ به
مطامعَه الأريبُ
وكم
مُلِئَتْ جيوبٌ من نُضارٍ بذاكَ كأنما
الوطنُ الجيوبُ
ولكن
فينا المخلصون لأوطانهم.
قال:
الإخلاص لا يكون إلا لله .. فمن أخلص لله أخلص لكل شيء، ومن خادع الله خادع كل
شيء.
قلت:
حب الوطن من الإيمان .. وهو مفطور في الطباع.
قال:
فرق بين أن تحب، وبين أن تتاجر .. وفرق بين أن تحب، وبين أن تظلم .. ألا تعلم أن
الإخلاص ينبغي أن يكون لكل الكون لا للوطن وحده؟ .. ألا تعلم أن جميع هذا الكون
وطن المؤمن؟
قلت:
هذه حقائق كبرى.
قال:
فعيشوها .. فالحقائق الصغرى تقتلكم وتبيدكم وتجعل قراكم كقرى النمل، وبيوتكم كبيوت
العنكبوت.
قلت:
فأنت تدعو إذن للعالمية والوطن الإنساني.
قال:
مخطئ أنا إن قلت ذلك.
قلت:
فقد كنت تقوله.
قال:
أنا أدعو إلى الأخوة الكونية، والوطن الكوني .. فما العالم إلا جزء من الكون ..
وما الإنسان إلا فرد من أفراد العالم.
قلت:
أتريدنا أن نؤاخي الملائكة وسكان الكواكب ..
قال:
الملائكة والجن وكل سكان الكون .. ألسنا نشترك في العبودية لله؟
قلت:
أجل .. ولكن لكل منا خصائصه ومزاياه.
قال:
الخصائص والمزايا المختلفة تدعو للتعارف لا للتنافر، وتدعو للأخوة لا للعداوة ..
وتدعو للانسجام لا للانفصال .. سمعت بعضكم يقول:( غزو الفضاء ) أتفكرون في غزو
الفضاء أيضا؟
قلت:
لا تلمهم يا معلم .. فقد تفرجوا في الأفلام الخيالية كيف يحاربون سكان الكواكب
المختلفة.
قال:
أتدري ما منبع هذا التعبير؟
قلت:
ما منبعه؟
قال:
تلك الجيوش التي تتفننون في صناعتها ونشر قواعدها وتطوير أسلحتها .. تلك القوة
التي صاحت بها عاد، فقالت:) مَنْ أَشَدُّ
مِنَّا قُوَّةً( (فصلت: من الآية15) .. فماذا فعل
الله بهم؟
قلت:
أبيدوا عن آخرهم.
قال:
فهل نفعتهم قوتهم؟
قلت:
كما لم تنفعنا قوتنا.
قال:
فاعتبروا بهم، واعتبروا بأنفسكم، واعتبروا بعدوكم.
قلت:
بعدونا.
قال:
أجل .. سمعت أنكم في هذا القرن تجرعتم غصص حربين متتاليتين حصدت الأخضر واليابس.
قلت:
أجل .. هما الحربان العالميتان الأولى والثانية .. وقد قتل فيهما الملايين .. وشرد
عشرات الملايين .. وآثارهما لا زلنا نعيشها إلى الآن.
قال:
أتدري سبب تلك الحروب؟
قلت:
أحداث تاريخية .. فألمانيا ..
قال:
دعنا من التاريخ .. ولنبحث في السنن .. إن تلك الجيوش غرتها قوتها وغرها سلاحها
وغرها فوق ذلك الفراغ القاتل الذي تعانيه، فراحت تبحث لها عن حرب تتذرع لها
الذرائع.
قلت:
هذا صحيح ..
قال:
هذا هو السبب المباشر .. ولو أن ذلك الجيش كان عمالا في المصانع والمزارع .. ولو
أن الباحثين توجهوا إلى الزراعة والصناعة وامتطاء سنن الله، لكان واقع الآن خلاف
ذلك تماما.
قلت:
فأنت تدعو لإلغاء الجيوش.
قال:
لا جيوشكم وحدها، بل جيوش العالم جميعا .. فلم يصدر شر في العالم إلا بسببها ..
ولعلي أجد من أنصار الإنسان من يقف معي يدعو لإلغاء الجيوش، كما وجدت الحيوانات
أنصارا لها تحميها من الانقراض.
قلت:
ولكن الجيوش هي التي خلصت المستضعفين من نير الاحتلال الروماني في بلاد الشام ومصر
والمغرب، وهي التي حررت المسلمين في العراق وفارس من نير الاستبداد الكسروي، وهي
التي ..
قال:
عندما تجدون جيوشا كتلك الجيوش طالبوا بعودة الجيوش.
قلت:
وقبل ذلك .. إن داهمنا عدو ماذا نفعل؟
قال:
تعاملوا معهم كما تعامل أسلافكم مع التتر.
قلت:
وما فعلوا؟
قال:
حولوا المنتصر إلى دين المنهزم .. فسلم الأمر لهم من غير سلاح.
قلت:
كيف هذا؟
قال:
لأنه لم يكن للعدو فضل ثقافة .. كان فارغا كفراغ أعدائكم .. فلما دخلوا امتلأوا،
أو امتلأت فطرهم برؤية الحق، فصاروا أنصارا للحق.
قلت:
أنت تدلنا على طرق جديدة للدفاع.
قال:
سمها:( تقوية الجبهة الداخلية )
قلت:
نحن نطلق هذا على الجيوش.
قال:
فأطلقوها على جبهات الأنفس .. فلا خير في جندي مدجج بجميع أنواع الأسلحة .. وباطنه
خراب في خراب.
قلت:
ولكن الله تعالى يقول:) وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ
اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ( (لأنفال:60)، فقد أمر بالإعداد.
قال:
وبماذا أمر قبله؟ .. فالسورة جميعا تتحدث عن الإعداد ..فلا تأخذوا ببعض الكتاب،
وترفضوا بعضه.
قلت:
تبدأ هذه السورة بالحث على طاعة الله ورسوله وإصلاح ذات البين، كما قال تعالى:) يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ
الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ
بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ( (لأنفال:1)، ثم تبين صفات
المؤمنين، قال تعالى:) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ
آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( (لأنفال:2)
قال: فإن وجدتم جيشا كهذا، فعلموه
السلاح، وأعطوه السلاح.
قلت: فإن لم نجد.
قال: إن لم تجدوا مثل هؤلاء .. فلا
تعطوهم السلاح، لئلا يجرحوا أنفسهم به.
قلت: ولكنهم ليسوا أطفالا .
قال: من لم يكن كمن وصفهم الله من
المؤمنين، فهو أقل عقلا من الأطفال.
قلت: بجد تحدثني يا معلم .. فإن قومي
ستمتلئ أفواههم ضحكا إن سمعوا هذا الكلام.
قال: فليضحكوا .. هذا خير من أن
يبكوا.
قلت: ولكنهم سيضحكون عليك .. وعلي
تبعا لك .. ولعلهم يملؤون الجرائد استهزاء وسخرية.
قال: فقد ملأوها قبل ذلك صيحات
حماسية .. فماذا فعلوا بعدها؟
قلت: نكسوا على رؤسهم .. وكتموا
دمعات حارة في مآقيهم.
قال: فليعتبروا بتلك الدمعات ..
وليرسلوها ولا يكتموها كما لم يكتموا ضحكاتهم.
قلت: نحن نحسن كتمان البكاء .. ولكنا
لا نحسن كتمان الضحك.
قال: واجهوا أنفسكم .. اصرخوا
ببكائكم وبضحككم .. انتقدوا أخطاءكم .. قاوموا الدجل الذي تعيشونه .. فلن ترتفعوا
قيد شبر، وأنتم راضون عن أنفسكم ساكنون لها.
قلت: ولكن أرضنا ضاعت .. ونحن لا
نزال نصرخ.
قال: أنتم ضيعتموها .. لقد كانت لكم
أسلحة كثيرة، وجيوش جرارة .. ولكن لم يكن هناك فرد واحد يستطيع أن يحمل السلاح ..
فلذلك سلمتم أرضيكم وأراض كثيرة جديدة من أراضيكم .. ثم بكيتم كثيرا .. ثم ضحكتكم
.. ثم أنتم الآن تعيدون المهازل من جديد .. فدعهم يضحكون .. وأوصهم فقط بأن يضعوا
أيديهم على أفواههم عند الضحك حتى لا يدخل الذباب إلى أفواههم فيستعمرها، كما
استعمر أراضيهم.
اقتربت من الباب الرابع من أبواب
الجهد، فرأيت لافتة مكتوبا عليها قوله تعالى:) يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ( (صّ:26)
وإذا تحت هذه الآية رجل ساجد لله،
والدموع تنهمر من عينيه، فتنبت من دموعه أصناف الثمار، وتهتز الأرض بالعشب، وتمطر
السماء بالغيث.
والتفت خلفه .. فإذا بشر كثيرون
يسجدون بسجوده .. فتنبت بسجودهم أصناف الثمار .. وألوان الأزهار.
قلت: لا شك أن هذا هو داود u،
فالآية تتحدث عنه، وقد أخبر الله تعالى أنه أواب، وأنه ) خَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ( (صّ: من
الآية24)
قال: لا .. هذا داود، وسليمان، وأبو
بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز .. والمهدي .. والمسيح، وغيرهم كثير.
قلت: ولكنه شخص واحد .. فكيف يكون
جميعهم؟
قال: هذا رمز الخليفة المسلم ..
قلت: فكيف ينشغل عن رعيته بالسجود؟..
وكيف ينشغلون عن أعمالهم به؟
قال: ولكنك رأيت الأرض تهتز من حولهم
خضرة.
قلت: كيف هذا؟
قال: الأرض تهتز خضرة لمن يسجد
عليها.
قلت: وهي تهتز خضرة لمن لم يسجد
عليها.
قال: هي خضرة تلعنه، ولا تباركه.
قلت: وخضرة المؤمن؟
قال: تدعوا الله له، وتسجد معه لله.
قلت: فما يعني هذا الرمز؟
قال: الله هو الحاكم الأعلى ..
والحاكم يستوحي حكمه من الله .. لأنه يعلم أنه ليس الحاكم، وإنما الله، والشعب
يتبع الحاكم لكونه إماما يصلي لله لا حاكما على العباد من دون الله.
قلت: لم أفهم مغزى ما تقول؟
قال: هل عرفت معنى الاستخلاف في
المال؟
قلت: أجل، فالاستخلاف يعني أن ننتفع
بالمال كما يأمر صاحب المال.
قال: ومن صاحب المال؟
قلت: الله .. فالله تعالى يقول:) وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ( (النور: من
الآية33)
قال: وما دور المنتفع بالمال؟
قلت: هو مستخلف فيه يسيره حسب أمر
مالكه.
قال: فإن كانت الأموال ملكا لله ..
فمن يملك الخلق؟
قلت: الله ..
قال: فكيف يملكهم الحاكم إذن؟
قلت: هو لا يملكهم .. بل هو يحكمهم.
قال: كيف يحكمهم؟
قلت: هناك أنظمة كثيرة، منها النظام
الجمهوري والملكي .. وغيرها.
قال: لا أقصد هذا .. فهذا شكل من
أشكال الحكم، وأنتم أعلم بأمور دنياكم .. لكني أسأل عن منهج الحكم.
قلت: منها الاستبدادي، ومنها
الديمقراطي.
قال: فما الفرق بينهما؟
قلت: الاستبدادي يستبد فيه الحاكم،
والديمقراطي يستشير فيه الشعب.
قال: وأين الله؟
قلت: ما تقصد؟ أتقصد سؤال الجارية؟
قال: أنت ذكرت حكم الحاكم وحكم الشعب
ولم تذكر حكم الله.
قلت: هم يزعمون أن حكم الحاكم أو حكم
الشعب هو حكم الله.
قال: فهم يسجد بعضهم لبعض إذن ..
يسجد الحاكم لشعبه، أو يسجد الشعب لحاكمه.
قلت: ليس هناك سجود بالمعنى الحرفي.
قال: السجود هو الخضوع .. فإذا خضع
الحاكم لرأي الشعب .. أو خضع الشعب لرأي الحاكم كان ذلك سجودا.
قلت: ولكن مصالح الشعب والحاكم تتحقق
بذلك.
قال: لا .. العشب لا ينبت بذلك ..
العشب لا ينبت إلا بالسجود، فإن نبت نبت ليلعنهم لا ليباركهم.
قلت: فكيف يسجد الجميع لله؟
قال: بسجود الحاكم لله، وسجود الشعب
تبعا له .. فهل كان إمام الدين إلا إماما للدنيا .. ألم يقل الصحابة y
عن أبي بكر t:( رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا أفلا نرضاه
لدنيانا )
قلت: أجل.
قال: فلا يصح أن يحكمكم حاكم لا يعرف
كيف يسجد.
قلت: كلهم يسجدون.
قال: سجود القلب لا سجود الجبهة.
قلت: فكيف يسجدون القلب؟
قال: أربعة أركان يقوم عليها الحكم
العادل إن تحققوا بها سجدوا سجود القلب.
قلت: فما هي؟
قال: ها هي أبوابها .. هلم إليها.
اقتربنا من الباب الأول، فإذا بي أرى
رجلا ـ هو نفس الرجل السابق ـ يمد يده إلى رعيته، ويمدون أيديهم إليه .. ووجوههم
تنم عن ابتسامة عريضة تدل على مدى صدقهم في مد أيديهم إليه، ومدى صدقه في مد يده
إليهم.
قلت: يا معلم .. ما يرمز هذا؟
قال: هذا الخليفة العادل .. هو لا
يرضى أن يستخلف إلا بالبيعة.
قلت: فأين صناديق الانتخاب؟
قال: تلك لعب تتقنونها .. وتتلاعبون
بها .. وتكسبون منها.
قلت: البيعة تقتضي ذلك.
قال: في تصوركم، وفي تصور الصراع
الذي يملأ صدوركم.
قلت: فمن ينتخب الحاكم إذن؟
قال: اثنان.
ضحكت، وقلت: اثنان فقط .. ولكن
شعوبنا الآن بالملايين .. فمن أولهما؟
قال: الحاكم نفسه.
قلت: فكيف ينتخب نفسه؟
قال: ألم تسمع قول يوسف u:)اجْعَلْنِي
عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ( (يوسف: من
الآية55)؟
قلت: أجل.
قال: فقد انتخب نفسه وبايعها ..
أتدري لماذا؟
قلت: لقد ذكر أنه حفيظ عليم.
قال: فإذا واصل إلى هذه الدرجة جاز
له أن يرشح نفسه، وأن ينتخب نفسه، وأن يصيح بملأ فيه:( أنا لها .. أنا لها )
وحينذاك لن يناقشه أحد.
قلت: لقد ذكرتني بموقف خالد بن
الوليد t في غزوة مؤتة.
قال: لقد عين رسول الله مجموعة قادة
في تلك الغزوة[138]، فهل كان بينهم خالد؟
قلت: لا ..
قال: فمن عينه؟
قلت: خبرته العسكرية، فعندما قتل من
عينهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان،
فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل .
فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ؛
فلما أخذ الراية دافع القوم، وحاشى بهم، ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس .
قال: فلماذا لم يقبلها ثابت بن أقرم؟
قلت: لم ير نفسه أهلا لها.
قال: فلماذا قبلها خالد؟
قلت: لقد كان أهلا لها.
قال: فهل أقره رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -؟
قلت: أجل .. بل سماه سيفاً من سيوف
الله، فإنه خطب الناس وأعلمهم بقتل زيد وجعفر وابن رواحة، وقال:( ثم أخذ الراية
سيف من سيوف الله خالد بن الوليد، ففتح الله عليه )
قال: فهل نال بذلك ثقة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -؟
قلت: أجل .. فلم يزل من حين أسلم
يوليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعنة الخيل
فيكون في مقدمتها، وشهد مع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -
فتح مكة فأبلى فيها، وبعثه رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - إلى العزى وكان بيتاً عظيماً لمضر تبجله
فهدمها، وهكذا تعامل معه سائر الخلفاء.
قال: فلماذا لم يجعله رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - خليفة من بعده؟
قلت: هو يصلح للقيادة العسكرية ..
وفرق بين قيادة الشعب، وبين قيادة الجيوش.
قال: فالأهلية إذن هي التي جعلته
ينتخب.
قلت: أجل.
قال: وهي بحسبها .. فلا يصح لمن
انتصر في المعارك أن يحكم شعبه لمجرد كونه انتصر.
قلت: لقد ذكرتني يا معلم بحالنا ..
فنحن لا نزال يحكمنا قوم بسبب وحيد هو أنهم انتصروا، أو كانوا سببا في النصر.
قال: إن كانوا أهلا لذلك فبلى ..
وإلا فقل لهم: ضعوا الأمر في أهله .. فلا يصلح كل شيء إلا بأهله.
قلت: عرفت الشخص الأول .. فمن الثاني؟
قال: أبو بكر الصديق.
قلت: لو وجدناه لوليناه هو نفسه.
قال: فالستة.
قلت: أي ستة تقصد؟
قال: الذين عينهم عمر t
لاختيار الخليفة.
قلت: إنهم في الجنة، وفي رضوان الله
ينعمون.
قال: من ينوب عنهم من المسلمين.
قلت: لم يوصوا لأحد بعدهم، وقد عرفت
ما حصل في الأمة من الفتن.
قال: من يمثل العائلة؟
قلت: أبوهم.
قال: فمن يمثل الحي؟
قلت: أصلحهم.
قال: فمن يصلي بالناس؟
قلت: إمامهم.
قال: فليمثل الناس من يمثلهم في
انتخاب الراعي.
قلت: لا أفهم هذا.
قال: ألم يقل - صلى الله عليه وسلم
-:( لِيلني منكم أولو الأحلام والنهى )؟
قلت: أجل.
قال: فأنتم في الانتخابات تهتمون
بالكثرة بغض النظر عن كونها من أهل النهى والأحلام أم من أهل السفه والطيش، فيستوي
في صناديق الانتخابات صوت العالم النحرير بصوت الطائش الصغير.
قلت: هذه حقيقة.
قال: فما قال الله تعالى عن الكثرة؟
قلت: الكثرة في القرآن الكريم ترد في
مواضع الضلال والانحراف، قال تعالى:) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ( (الأنعام:116)، وقالتعالى:) وَاتَّبَعْتُ
مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ
نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ( (يوسف:38)، وقالتعالى:) وَمَا أَكْثَرُ
النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ( (يوسف:103)، وقال تعالى:) وَلَقَدْ
صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً( (الاسراء:89)
وفي السنة ورد قوله - صلى الله عليه
وسلم -:( إنما النّاس كالإبل المائة لا
تكاد تجد فيها راحلة)[139]
قال: ولذلك يسارع من يرشح نفسه من
الفسقة ليرضي أهواء العامة على حساب مصالحهم.
قلت: أجل هذا صحيح.
قال: هم يعدونهم بلعب الأطفال ..
فإذا ما تولوا سلبوا منهم لعبهم واستسخروهم.
قلت: هذا واقع صحيح .. لا نفر منه.
قال: وفوق ذلك تتصارعون .. فتتفتتون
شعبا وأحزابا كل همها أن تصير حكاما .. وأن تعتلي كراسي الحكام.
قلت: هذا واقع نأسف عليه.
قال: فإلى متى تأسفون .. قل لي كم من
الدماء أريقت بسبب تلك الكراسي؟
قلت: الكثير .. لا يمكن إحصاء الدماء
..
قال: ولا زلتم تتحدثون عن السياسة.
قلت: هذا شيء لا بد منه .. فما نفعل؟
قال: استعيذوا من السياسة وتوبوا
منها.
قلت: فمن يحكمنا إذن؟
قال: اثنان: إما زاهد فيها، وإما كفء
لها يطلبها.
قلت: أهناك من يزهد فيها؟
قال: المخلص يزهد فيها .. فيعينه
الله بفضل إخلاصه، فيتخذ البطانة الصالحة.
قلت: والكفء؟
قال: تعينه كفاءته فيصلح برأيه أو
برأي البطانة التي يختارها.
قلت: وصناديق الانتخابات ماذا نفعل
بها؟
قال: املأوها بالخضر والفواكه ..
وتصدقوا بها على المستضعفين.
اقتربنا من الباب الثاني من أبواب
السياسة، فإذا بي أرى رجلا ـ هو نفس الرجل السابق ـ يمسك بصرركثيرة يقسمها بين
رعيته كل بحسب حاجته .. ورعيته لا تقبض إلا ما أعطي لها .. فلا تمتد أعينها لغير
ما أعطاها.
قلت: لا شك أن هذا باب العدل.
قال: صحيح .. فالعدل أساس الحكم ..
فالله هو الحكم العدل.
قلت: فعلام يبنى العدل؟
قال: أول أساس للعدل أن يمحو الحاكم
اسم الحاكم عن نفسه.
قلت: كيف؟
قال: أن يعتقد نفسه أجيرا عند الرعية
لا حاكما عليها.
قلت: لقد ذكرتني بأبي مسلم الخولاني
فقد دخل على بعض الملوك قائلاً:( السلام عليك أيها الأجير ) فقال له بعض
الجالسين:( قل السلام عليك أيها الأمير ) فقال:( السلام عليك أيها الأجير )
فقالوا:( قل:أيها الأمير )، فقال:( السلام عليك أيها الأجير )، فقالوا:( قل أيها
الأمير )، فما كان للحاكم إلا أن قال:( دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول ) فقال
أبو مسلم:( إنما أنت أجير استأجرك رب هذا الغنم لرعايتها، فإن أنت هنأت حرباها
وداويت مرضاها، وحبست أولاها على آخرها وفاك سيدك أجرك )
ولهذا كان يسمى الوالي في العهود
الأولى:( عاملا )
قال: ومتى ينال العامل أجره؟
قلت: إن وفى بما شرط عليه صاحب
العمل.
قال: فهل يحق له أن يعمل لنفسه،
ويطلب من صاحب العمل أن يعطيه أجره؟
قلت: لا ..
قال: فهذا هو الشرط الأول للعدل ..
أتدري ما منبعه؟
قلت: لا.
قال: أن يعتقد الحاكم أنه مستخلف لا
ملك .. فالمستخلف نائب عن الملك، يملك مجازا لا حقيقة.
قلت: وهل هناك فرق بين الخليفة
والملك؟
قال: لقد سأل الخلفاء العدول هذا
السؤال، فقد سأل عمر بن الخطاب t نفرا من أصحابه، فيهم طلحة وسلمان والزبير فقال: إني سائلكم عن
شيء فإياكم أن تكذبوني فتهلكوني وتهلكوا أنفسكم، أنشدكم بالله! أخليفة أنا أم ملك؟
فقال طلحة والزبير: إنك لتسألنا عن أمر ما نعرفه، ما ندري ما الخليفة من الملك،
فقال سلمان يشهد بلحمه ودمه: إنك خليفة ولست بملك، فقال عمر: إن تقل فقد كنت تدخل
فتجلس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال سلمان:( وذلك أنك تعدل في
الرعية، وتقسم بينهم بالسوية، وتشفق عليهم شفقة الرجل على أهله وتقضي بكتاب الله )[140]
قلت: فأنت ترفض الشكل الملكي للسلطة؟
قال: أنا لا أرفضه ولا أقره، ولا يهم
الرعية أن يحكمهم الوالد أو ولده .. يهمهم شيء واحد هو العدل .. ألم يكن سليمان u
ابنا لدود u، ومع ذلك ورث عنه الحكم، ولكنه لم يرث الملك وحده، بل ورث قبله
العلم والدين والفهم.
قلت: صحيح هذا ..
قال: فابحثوا عن الصلاح والكفاءة،
ولا تبحثوا في دفاتر الأنساب .. فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه؟
قلت: فإن لم نجد بيننا من يصلح لها؟
قال: ابحثوا في مدن العالم وقراه عمن
يحكمكم .. أو انشروا إعلانا في الجرائد والمجلات تبحثون فيه عن الحاكم الصالح الذي
يتولى أمركم.
قلت: ولكنه قد يأتينا من خارج وطننا.
قال: أرأيت إن كنت مريضا، ولم يعرف
علاج علتك إلا طبيب من أقصى الأرض، أكنت ترفض علاجه لكونه من أقصى الأرض؟
قلت: بل أقبل علاجه ولو كان من
المريخ.
قال: فالحاكم طبيب رعيته.
قلت: هكذا نبحث عن الحاكم .. فكيف
نبحث عن بطانته من الوزراء؟ .. فنحن نخاف من الوزراء أكثر من خوفنا من الحاكم.
قال: أنتم تجرون المسابقات الدالة
على الكفاءة.
قلت: أجل .
قال: فاجروا المسابقات الدالة على
كفاءة الوزراء.
قلت: كيف نجريها؟
قال: لا يتولى أي وزارة من الوزارات
إلا من نبغ في تخصصها، وكان له من المشاريع المفيدة ما يجعله أهلا لها.
قلت: فما الشرط الثاني؟
قال: الأجير عندكم إذا كلف بعمل ..
هل يحاسب على أدائه أم لا؟
قلت: نعم .. يحاسب عليه حسابا شديدا
.. بل لا يكاد يسلم له أجره حتى يكمله إتقانا وجودة.
قال: فمن يحاسبه؟
قلت: صاحب العمل.
قال: فكذلك الرعية، التي وظفت الحاكم
عاملا عليها، فإنها تسأله وتحاسبه، وتخوفه الله إن ضيعها.
قلت: لقد ذكرتني بأعرابي وقف على عمر
بن الخطاب t فقال:
يا
عمر الخير جزيت الجنة جهز بنياتي
واكسهـنـه
أقسم
بالله لتفـعـلـنـه
قال: فإن لم أفعل يكون ماذا يا
أعرابي? قال: أقسم بالله لأمضينه. قال: فإن مضيت يكون ماذا يا أعرابي? قال:
والله
عن حالي لتسألنـه ثم تكون
المسألات عنه
والواقف
المسؤول بينهنه إما إلى نار
وإما جنـه
قال: فبكى عمر حتى اخضلت لحيته
بدموعه، ثم قال: يا غلام، أعطه قميصي هذا، لذلك اليوم لا لشعره، والله ما أملك
قميصاً غيره!.
قال: فحدث قومك عن صاحبة القدر.
قلت: روي أن عمر بن الخطاب t
طاف ليلة، فإذا هو بامرأة في جوف دار لها وحولها صبيان يبكون، وإذا قدر على النار
قد ملأتها ماء، فدنا عمر بن الخطاب من الباب، فقال: يا أمة الله، أيش بكاء هؤلاء
الصبيان? فقالت: بكاؤهم من الجوع. قال: فما هذه القدر التي على النار? فقالت: قد
جعلت فيها ماء أعللهم بها حتى يناموا، أوهمهم أن فيها شيئاً من دقيق وسمن.
فجلس عمر فبكى، ثم جاء إلى دار
الصدقة فأخذ غرارة، وجعل فيها شيئاً من دقيق وسمن وشحم وتمر وثياب ودراهم، حتى ملأ
الغرارة، ثم قال: يا أسلم، احمل عليّ. فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا أحمله عنك!
فقال لي: لا أم لك يا أسلم، أنا أحمله لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة.
فحمله على عنقه، حتى أتى به منزل
المرأة، وأخذ القدر، فجعل فيها شيئاً من دقيق وشيئاً من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده
وينفخ تحت القدر، قال الراوي: وكانت لحيته عظيمة، فرأيت الدخان يخرج من خلل لحيته،
حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده ويطعمهم حتى شبعوا، ثم خرج وربض بحذائهم كأنه سبع،
وخفت منه أن أكلمه، فلم يزل كذلك حتى لعبوا وضحكوا، ثم قال: يا أسلم، أتدري لم
ربضت بحذائهم? قلت: لا يا أمير المؤمنين! قال: رأيتهم يبكون، فكرهت أن أذهب وأدعهم
حتى أراهم يضحكون، فلما ضحكوا طابت نفسي.
قال: فحدثهم عن محاسبة عمر t
لنفسه.
قلت: قال الأحنف: كنت مع عمر بن
الخطاب، فلقيه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، انطلق معي فأعدني على فلان، فإنه قد
ظلمني. قال: فرفع الدرة فخفق بها رأسه فقال: تدعون أمير المؤمنين وهو معرض لكم،
حتى إذا شغل في أمر من أمور المسلمين أتيتموه: أعدني أعدني! قال: فانصرف الرجل وهو
يتذمر- قال: علي الرجل. فألقى إليه المخفقة وقال: امتثل. فقال: لا والله، ولكن
أدعها لله ولك. قال: ليس هكذا، إما أن تدعها لله إرادة ما عنده أو تدعها لي، فأعلم
ذلك. قال: أدعها لله. قال: فانصرف. ثم جاء يمشي حتى دخل منزله ونحن معه، فصلى
ركعتين وجلس فقال: يا ابن الخطاب، كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله،
وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم حملك على رقاب الناس فجاءك رجل يستعديك فضربته، ما
تقول لربك غداً إذا أتيته? قال: فجعل يعاتب نفسه في ذلك معاتبة حتى ظننا أنه خير
أهل الأرض.
قلت: فما الأساس الثالث للعدالة؟
قال: أن يعتبر الرعية جميعا ـ بما
فيهم نفسه ـ شخصا واحدا.
قلت: كيف ذلك ـ يا معلم ـ أنت تخالف
الحس بقولك هذا.
قال: ولكني أوافق الحكمة، وأوافق
كلام ربي.
قلت: دعني من الإلغاز، أنت تعرف
كثافة طبعي.
قال: ألم تسمع قوله تعالى:) هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ( (لأعراف: من
الآية189) وقوله تعالى:)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ
يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً
مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ
الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ( (الحجرات:11)،
وقوله تعالى:)
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ(
(النساء: 29)
قلت: بلى .. وقد قال - صلى الله عليه
وسلم -:( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )[141]
ولكن كيف تتسنى له هذه الرؤية؟
قال: أن لا يفرق في الرعية بين وجيه
ووضيع، وبين قوي وضعيف، فيعطي لكل صاحب حق حقه.
قلت: لقد ذكرتني بأول خطبة خطبها
أمير من أمراء الإسلام، أبو بكر الصديق t فقد قام خطيبا، فحمد الله
تعالى، وأثنى عليه، ثم قال:( أما بعد، أيها الناس، فإني وليت عليكم ولست بخيركم،
فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني .. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم
قوي عندي حتى أزيح عليه حقه إن شاء الله تعالى، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ
الحق منه إن شاء الله تعالى، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله
بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم بالبلاء ..أطيعوني ما أطعت الله
ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله )
قال: فهذا هو قانون الحكام، فانصحهم
به، ولتلزم الرعية راعيها به.
قلت: كيف تقول ذلك يا معلم أتريد من
قومي أن يصنفونا من الخوارج.
قال: ولماذا تصنف من الخوارج؟
قلت: إن من قومي من يعتبرون نصيحة
الإمام خروجا عليه، ثم يعتبرون الخارج كلبا من كلاب النار.
قال: ألم يسمعوا حديث النصيحة، ألم
يسمعوا قوله - صلى الله عليه وسلم -:( الدين النصيحة لله ولكتابه، ولرسوله، ولائمة
المسلمين وعامتهم )[142]
اقتربنا من الباب الثالث من أبواب
السياسة، وقد علقت عليه لافتة مكتوب عليها قوله تعالى:) وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ( (آل عمران: من
الآية159)، وإذا تحتها رجل ـ هو نفس الرجل السابق ـ أمامه جماعة يناقشهم،
ويناقشونه، لا يهابهم في الحق، ولا يهابونه.
فسألت المعلم: ماذا يفعل هذا الرجل؟
قال: مع مستشاريه وبطانته يستشيرهم
في أمور رعيته.
قلت: أهذا هو برلمانه؟
قال: وما البرلمان؟
قلت: هذا آخر تطور وصلت إليه البشرية
في شؤون الحكم، بحيث لا يحكم الشعب إلا الشعب.
قال: كيف ذلك؟
قلت: الشعب ينتخبون جماعة .. هذه
الجماعة هي التي تشرع القوانين، وهي التي تحاسب الحاكم على تنفيذها .. بل كل فرد
منهم ملك من الملوك، له من السلطات ما يسمح له بالسعي في مصالح الناس.
قال: وكيف ينتخب هؤلاء الحكام
الصغار؟
ضحكت، وقلت: نحن نسميهم نوابا ..
فليسوا هم بالحكام .. فلا تعدها لئلا يغضب الحاكم عليهم، فيقيلهم.
قال: كيف ينتخب هؤلاء النواب؟
قلت: بالصناديق.
قال: الصناديق عمياء صماء يقصدها
الكبير والصغير، والعالم والجاهل، والتقي والفاسق .. فكيف ترضونها حكما؟
قلت: ولكنا لم نر حلا آخر.
قال: فمن تنتخب هذه الصناديق؟
قلت: حكامنا طلبوا من الشعب أن يشكل
أحزابا .. وكل حزب يختار من يمثله في هذه الانتخابات .. وهو يخاطب الجماهير
ليقنعهم عبر ما نسميه بالحملة الانتخابية .. وهي الحملة التي يبث فيها كل حزب أو
جهة مترشحة مشروعها.
قال: لا شك أنكم تصرفون أموالا ضخمة
على هذه الحملات.
قلت: أجل .. وللأسف فهي حملات دورية
.. نسرف فيها إسرافا عظيما.
قال: وتشغلون أوقات الناس؟
قلت: أجل .. فكل حزب يقيم تجمعات
مختلفة يدعو أنصاره لحضورها.
قال: فمن يفوز في هذه الانتخابات؟
قلت: أكثرهم شعبية.
قال: سمعت أن أكثر الناس شعبية عندكم
لاعبو كرة القدم والفنانون والمهرجون.
قلت: أجل .. نحن نعلق صورهم في
بيوتنا، فنخشع أمامها كما نخشع في صلاتنا.
قال: فلو ترشح هؤلاء.
قلت: سيعطيهم الكل أصواته .. والحمد
لله أنهم لا يفكرون في ذلك.
قال: رأيت بعض هؤلاء النواب يرقصون
مع الشباب.
قلت: هم يفعلون ذلك مع الشباب
ليكسبوا أصواتهم .. ولو ذهبت إلى المسجد لرأيتهم في الصف الأول.
قال: لم؟
قلت: ليكسبوا صوت الإمام ورعيته.
قال: إذن هم في كل المحلات.
قلت: أشطرهم من يفعل ذلك .. فهو
يتجول في الأحياء الفقيرة أيام الحملة الانتخابية، وقد يمد يده مع المتسولين يطلب
أصوات الناس.
قال: فإذا أعطاه الناس أصواتهم.
قلت: لا يرونه بعدها إلا بعد خمس
سنوات.
قال: لم؟.. هل يسجن أم يحظر عليه
رؤيتهم؟
قلت: لا هذا ولا ذاك .. ولكن أشغاله الكثيرة
وطموحه لأن يصير وزيرا يحول بينه وبين ذلك.
قال: فللنيابة ما بعدها.
قلت: الطموح في هذا المجال لا حد له.
قال: سمعت أن نفرا من صالحي قومك
يخوضون فيما يخوض فيه هؤلاء.
قلت: ويسرفون .. بل لقد حصلت عندنا
مجازر خطيره بسبب هذه الكراسي المشؤومة.
قال: فإذا وصلوا إليها، هل يفيدون
الرعية شيئا؟
قلت: لا .. إنهم يرسخون الباطل
بالإمضاء على مشاريعه .. وكثير منهم يستحلون الكراسي الوثيرة التي يجلسون عليها،
فينسون ما قدموا من أجله.
قال: والصادقون.
قلت: سأحدثك عن واحد منهم لعل فيه
العبرة للصادقين جميعا .. نائب فاز بعضوية البرلمان تحت شعار ( أعطني صوتك لنُصلح
الدنيا بالدين ) وأعطاه النّاس أصواتهم
ثقةً فيه رغم كلِّ وسائل التزييف والتزوير في الانتخابات. واستمر النائب في عضوية
البرلمان دورتين متتاليتين، ثم قال بعدها:( إنه عَزَّ على البيان الإسلامي أن يجد
صداه المنطقي في هاتين الدورتين )
قال: كيف ذلك؟
قلت: ذهب هذا النائب يوماً إلى واحدة
من مديريات الأمن لقضاء مصالح مُواطنيه، ففوجئ في مكتب الآداب بحوالي ثلاثين
امرأةٍ يجلسن على البلاط فسأل قائلاً: ما ذنبُ هؤلاء؟ فقال له المسؤول:( إنهنَّ
الساقطات! ) فسأل:( وأين الساقطون؟ إنها جريمةٌ لا تتم إلا بين زانٍ وزانية )
فأخبره المسؤول بأنَّ الزاني عندهم هو مجردُ شاهدٍ بأنَّه قد ارتكب الزنا مع هذه
وأعطاها على ذلك أجراً، فهي تحاكم ليس لأنها ارتكبت الزنا، ولكن لأنها تقاضت
الأجر، فتحول المُقِّرُ والمعترفُ بأنه زان إلى شاهد عليها، ولا يلتفتُ القانون
إلى قراره واعترافه بالزنا.
غضب النائب العالم غضبةً لله، فقال
له المسؤول ببساطة:( نحن ننفذُ قانوناً أنتم أقررتموه في البرلمان )
أدرك النائب أنه مهما كثرت الجماهير
المنادية بتطبيق الشريعة، ومهما ساندها كتاب الله وسنة رسوله e فإن الآمال في تطبيق الشريعة لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق
البرلمان الذي يسمونه (السلطة التشريعية)، ولأنَّ السلطة القضائية لا تحكم إلا
بالقوانين التي تصدر عن البرلمان، وأنَّ السلطة التنفيذية لا تتحرك لحماية القرآن
والسنّة، ولا لحماية الإسلام إلا بمقدار ما أقره البرلمان من هذه الجوانب المقدسة،
اعتقد النائب العالم بأنَّ الوصول إلى هذه الغاية ممكنٌ إذا عَلِم نوابُ البرلمان
أن هذا قول الله، وقوله رسوله e، وحُكْمُ الإسلام ليقروه.
انطلق النائب فقدم مشروعَ قانون
لإقامة الحدود الشرعية، ومشروع قانون لتحريم الربا مع اقتراح الحلِّ البديل،
ومشروعَ قانون لتطويع وسائل الإعلام لأحكام الله، ومشروعَ قانونٍ لرعاية حرمة شهر
رمضان، وعدم الجهر بالفطر في نهاره، ومشروع قانون لتنقية الشواطئ من العربدة،
والعديد من المشاريع الإسلامية الأخرى. ووقع معه على مشاريع هذه القوانين عددٌ
كبيرٌ من أعضاء البرلمان.
وذهب النائب لأداء العمـرة، واصطحب
معه بعضَ أعضاء البرلمان، وعند الحجر الأسود عاهدوا الله جميعاً على مناصرة شريعة
الله في البرلمان، ثم ركبوا الطائرة إلى المدينة المنورة، ثم تعاهدوا في رِحاب
المسجد النبوي على رفع أصواتهم لنصرة شرع الله لا لنصرة انتماءاتهم الحزبية.
حمّل النائب العالم السلطات الثلاث
في الدولة مسؤولية إقرار المحرمات ومخالفة الشريعة، وتوعد وزيرَ العدل آنذاك بأنه
سيستجوبه بعد بضعة شهور إذا هو لم يقدم ما تم إنجازُه من قوانين تطبيق الشريعة
الإسلامية.
ولم يقدم له الوزيرُ ما طلبه منه
النائب فوجه إليه النائب استجواباً ـ والاستجواب في غرف البرلمانات ملزم للمستجوب
بالرد عليه ما لم تسقط عضوية الوزير أو يخرج الوزير المستجوب من الوزارة ـ وأصر
النائب على استجواب الوزير ووقفت الحكومة خلف وزيرها، وأصرت على إسقاط الاستجواب،
ولما اشتد إصرارُ النائب على الاستجواب أحدثت الحكومة تعديلاً وزارياً لم يخرج منه
إلا وزيرُ العدل، أي أن الوزير أُخرج من الوزارة ليسقط الاستجواب، وتكرر هذا العمل
حتى أصبح قاعدةً من قواعد التعامل مع البرلمان.
لجأ النائبُ
العالم مرةً ثانيةً إلى أعضاء البرلمان وقال لهم: إنَّ مشاريع القوانين الإسلامية
وُضِعت في أدراج اللجان، وقد عاهدتم الله في الحرمين على أنْ تكون أصواتُكُم لله
ورسوله، وطالب بتوقيعهم على المطالبة بالتطبيق الفوري للشريعة الإسلامية
فاستجابوا، ووقعوا على ما طالبهم به ووضعَ النائب هذه الوثيقة في أمانةِ البرلمان،
وطالب باسم النواب جميعاً النظر في قوانين شرع الله.
فقام رئيس
البرلمان وطالب باسم النواب جميعاً النظر في قوانين شرع الله. وقال للنواب: إنَّ
الحكومة لا تقل عنكم حماسةً للإسلام، ولكننا نطلبُ منكم فرصةً للمواءمات السياسية،
فصفق له النواب الموقعون، المتعاهدون في الحرمين على العمل على تطبيق شريعة الله،
ووافقوا على طلبه، فضاعتِ المطالبة بالتطبيق الفوري للشريعة، وانتصرت الحكومة.
غلب اليَأْسُ
النائب لعدم جدوى محاولاته في سبيل تطبيق الشريعة مع أعضاء يُناديهم فيستجيبون ثم
يعدلون، ثم فُوجئ يوماً باقتراح من رئيس البرلمان للموافقة على تكوين لجنّة عامة
لِقَوْنَنَةِ الشريعة الإسلامية، وتبيَّن حقيقة الأمر فوجد أنَّ قرار الحكومة
المفاجئ هذا لم يكن إلا تغطيةً لفضيحةٍ كبرى مست كرامة البلاد. ولم تتخذِ الحكومة
قراراً لصالح الإسلام.
ورحب النائب
بالفكرة رغم فهمه لأبعادها، واجتمعت اللجنة لكنَّ النائب العالم أحس عدم جِدية
الدولة في تطبيق شرع الله لأنها إذا أرادت إرضاء الله فهناك أمور لا تحتاج إلى
إجراءات. فإغلاق مصانع الخمور يمكن أن يكون بجرة قلم. وإغلاقُ الحانات يمكن أن يتم
بجرةِ قلم.
كانت هناك
مظاهر تدل على ما في الأعماق حقيقة، تضافرت كلُّها لتترك في نفس النائب انطباعاً ـ
يُشكل في حد ذاته قاعدة من قواعد التعامل مع البرلمانات ـ مؤاداه: أنَّ شرع الله
لن يتحقق أبداً على أيدي هؤلاء.
فُوجئَ النَّاس وفُوجئَ النائب
العالم بحلِّ البرلمان بعد أن كان هو رئيساً للجنة مرافعات تطبيق الشريعة
الإسلامية، وظل يُوالي مع اللجنة عملية الدراسة والتقنين عبر ثلاثين اجتماعاً. وفي
غيبة البرلمان صدر قرارٌ خطيرٌ في مسألة تمس حياة النّاس الشخصية. فوقف النائب
العالم ضد هذا القرار لأنه مخالفٌ للإسلام والدستور، ولكن القاعدة تقول: أنَّ
البرلمان كلّه يمكن أن يحل بقرار إذا أرادت الدولة فرض أمر على الناّس حتى ولو كان
مخالفاً للإسلام.
أما أهم قاعدة يستند إليها البرلمان
فقد لخصها النائب بقوله:( إنه مهما أُوتِيتُ من حجج ومهما استند موقفي إلى الكتاب
والسنّة فإن من عيوبِ البرلمان ومسئوليته الفادحة أنَّ الديمقراطية تجعل القرار
مُلكاً للغالبية المطلقة بإطلاق وبلا قيد ولا شروطٍ ولو خالف الإسلام )
أحس
النائب بأنَّ زحفاً من التضييق عليه يشتد من جانب الحكومة، ومن رئيس البرلمان، ومن
حزب الغالبية؛ وافتعلت رئاسة البرلمان ثورات ضده، واتهمته بأنه يُعطل أعمال
اللجان. ولكنَّه استمر في بذل جهوده.
قال:
فما نتيحة كل هذه الجهود؟
قلت: قام النائب العالم إلى المنصة
وقال لنواب البرلمان:( يا حضرات النواب المحترمين لستُ عابدَ منصبٍ، ولستُ حريصاً
على كرسي لذاته، ولقد كان شعاري مع أهل دائرتي ( أعطني صوتك لنصلح الدنيا والدين)
وكنت أظن أنه يكفي لإدراك هذه الغاية أن تقدم مشروعات القوانين الإسلامية لكنه
تراءى لي أنَّ مجلسنا هذا لا يرى لله حكماً إلا من خلال الأهواء الحزبية، وهيهات
أنْ تسمح بأن تكون كلمة الله هي العليا.. لقد وجدتُ طريقي بينكم إلى هذه الغاية
مسدوداً، لذلك أُعلن استقالتي من البرلمان غير آسفٍ على عضويته )
قال: فلو أن هذا النائب والذين وقفوا
معه سلكوا مسلك سفيان ومالك والشافعي والعز بن عبد السلام لجاءهم الحكام يترضونهم،
ولما احتاجوا إلى اللهث وراء السراب.
قلت: تعني اللجوء إلى القاعدة.
قال: العامة هم الذين يغيرون، لا
الساسة ولا النواب .. ولا الحكام أنفسهم .. غيروا ما بأنفسكم يغير الله من يحكمكم
.. فكما تكونوا يولى عليكم.
قلت: ذكرت واقعنا .. فمن تراه
مستشارا للحاكم؟
قال: ألم تقرأ قصة غزوة بدر؟
قلت: بلى.
قال: فكيف اختار رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - المحل بالضبط للغزوة؟
قلت: كانوا قد اختاروا محلا آخر،
فجاء رجل من بني سلمة، يسمىالحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت
هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي
والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا
ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نُغَوِّر ما
وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون
؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي[143] .
قال: فمن كان هذا الرجل .. وممن
انتخبه ليقول ما قال؟
قلت: رجل من المسلمين .. دعاه نصح
الله ورسوله.
قال: فهل كان ما رآه صوابا؟
قلت: أجل.
قال: وما الذي جعله صوابا؟
قلت: خبرته بالمكان زيادة على خبرته
العسكرية.
قال: فالشورى إذن ترجع للخبرة .. ولا
ترجع للانتخاب .. ومن أخطائكم أنكم تنتخبون ناسا يمثلونكم في كل الشؤون ما يحسنون
منها وما لا يحسنون.
قلت: فماذا تقترح؟
قال: لا يشير إلا المختص .
قلت: ولكن هذا كان فردا من الرعية.
قال: فيطلب رأي الرعية، ثم يختار
الصواب منها.
قلت: فمن يختار؟
قال: الستة.
قلت: تقصد أهل الحل والعقد.
قال: لا .. بل المختصون منهم .. فلا
يحق لأي شخص أن يتدخل فيما لا اختصاص له فيه، ألم تسمع قول ملأ ملكة سبأ.
قلت: بلى، فقد قالوا:) نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ
إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ( (النمل: من
الآية33)
قال: أتدري ما تشير إليه هذه الآية
من شؤون الحكم؟
قلت: إلام تشير؟
قال: هؤلاء أولو قوة، فلم يروا من
الحكمة أن يتدخلوا في مثل هذه الشؤون .. ولو كان الأمر لمستشاريكم لأشاروا على
ملكة سبأ أن تسير جيشا عظيما ليحارب سليمان u.
قلت: هذا صحيح .. والإشارة في الآية
واضحة .. وقد ذكرني كلامك هذا بنصوص كثيرة .. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أخذ برأي سلمان في بناء الخندق .. وأخذ برأي ..
قال: قومك يزعمون أنهم يعقلون.
قلت: هم يقولون ذلك.
قال: أرأيت إن حصلت لأحدهم علة،
فأفتاهم طبيب مختص من عامة الناس بحقيقة تلك العلة وعلاجها .. وأفتاهم جيش من
الممرضين ومساعدي الأطباء والعامة ووزير الصحة بغير تلك العلة وبغير ذلك العلاج
فبمن يثقون، ولمن يلتجئون؟
قلت: لا شك أنهم يقبلون رأي المختص
.. ويضحكون على رأي غيره.
قال: فخاطبهم بالعقل .. إن لم يفهموا
النصوص.
اقتربنا من الباب الرابع من أبواب
السياسة، وقد علقت عليه لافتة مكتوب عليها قوله تعالى:) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً( (البقرة: من
الآية143)
ورأيت تحتها صورة رجل يتربع على قمة
السمو الأخلاقي، والترقي الإيماني، والسلوك الرفيع .. ورأيت خلفه أمة من الناس
تسلك سبيله، وتهتدي بهديه، ورأيت خلفهم أمما كثيرة من الناس تنظر إليهم، وتحن لأن
تسلك سبيلهم، وتهتدي بهديهم.
سألت المعلم عن سر الصورة، وسر الآية
التي وضعت على الباب، فقال: هذا باب الشهادة، وهو وظيفة من وظائف الأمة.
قلت: فما علاقته بالسياسة؟
قال: لأن الساسة هم المكلفون بتحقيق
المقاصد الكبرى للأمة.
قلت: فإن قصروا؟
قال: وجب على الأمة أن تنوب عنهم في
تحقيق مقاصدها، ووجب عليها أن تبحث عن الساسة الذين يحققون مقاصدها.
قلت: لم أفهم إلى الآن المراد من
الشهادة.
قال: الشهادة من أخطر وظائف هذه
الأمة.
قلت: أجل .. فقد قال تعالى:) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً
عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ
النَّصِيرُ( (الحج:78)
قال: هذه الآية تبين سر الشهادة
وشروطها وكيفية تحقيقها.
قلت: فما سر الشهادة؟
قال: لقد كان الصالحون يذكرون أربع
مراحل لسير السالكين: أولها السير من النفس إلى الله، وهي رحلة البحث عن الله.
وثانيها: سير الإنسان من الله في
الله، بحثا عن معرفة الله .
وثالثها: سير الإنسان مع الله إلى خلق الله .
ورابعها: سير الإنسان مع الله بين خلق الله، لإنقاذ خلق
الله .
قلت: فأي سير منها يحقق الشهادة التي
هي وظيفة الأمة ووظيفة ساستها.
قال: هي المرحلة الأخيرة من سير
السالكين .. وهي رحلتهم لإنقاذ خلق الله من عبودية الشيطان.
قلت: فهمت الآن علاقة ذلك بالسياسة.
قال: فما فهمت؟
قلت: الحاكم هو الذي يسير الجيوش
التي تفتح أقطار الأرض، وتجعلها بأيدي المسلمين.
قال: لا .. ليست هذه هي الشهادة ..
الشهادة أخطر من هذا .. والحاكم الصالح لا يبحث عن الاستيلاء على الأراضي، وإنما
يبحث عن الاستيلاء على العقول والقلوب.
قلت: ولكن الخلفاء الراشدين سيروا
الجيوش التي فتحوا بها الأرض، ونشروا بها الإسلام.
قال: لم يكن سيرهم للاستيلاء على
الأرض، وإنما كان سيرهم لتخليص المستضعفين الذين حيل بينهم وبين تبصر الحق أو سلوك
سبيله .. وكيف ينشروا الإسلام بالسيف، وقد قال تعالى:) لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الْغَيِّ ( (البقرة: من
الآية256).
قلت: أجل .. فقد نصت النصوص القطعية
على حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يُجبر على تركه إلى غيره،
ولا يُضغط عليه ليتحول منه إلى الإسلام.
قال: ولم تذكر النصوص المقدسة هذه
الأحكام من باب التوجيه فقط، بل ورد في النصوص ما يحيلها أمرا عمليا سواء من
الناحية النفسية أو من الناحية التشريعية.
قلت: أجل .. فالإكراه لا يجوز مطلقا
بأي صفة كانت، فقد ورد قوله تعالى:)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ((البقرة:272)
في سياق ذكر الصدقات ونحوها من أنواع النفقات والصلات، وقد روى سعيد بن جبير مرسلا
في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر
فقراء المسلمين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:) لا تتصدقوا إلا على أهل
دينكم( فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام.
وروى ابن عباس t أنه قال: كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بني قريظة والنضير،
وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب
أولئك.
وقيل: إن أسماء ابنة أبى بكر الصديق
ـ رضي الله عنها ـ أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ثم امتنعت من ذلك كونه كافرا فنزلت
الآية[144]، فدلت هذه الأسباب على عدم استخدام التقصير في النفقة أو الشح بها
وسيلة للدعوة للإسلام.
قال: وبما أن مثل هذا الأمر لا تكفي
فيه التشريعات الدينية، بقدر ما تؤسسه القناعة الإيمانية والتوجيه التربوي، وردت
النصوص القرآنية الكثيرة تخبر أن الإيمان نعمة من الله يهبه لمن شاء من عباده، وأن
الإكراه لا ينتج المؤمنين، بل قد ينتج المنافقين.
فلهذا تعمق النصوص في نفوس المؤمنين
أن إكراه الناس على الإيمان تدخل في المشيئة الإلهية التي شاءت هذا الاختلاف، قال
تعالى: )
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (
(يونس:99)، قال ابن عباس t )كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على إيمان جميع الناس،
فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولا يضل
إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول [145](
وهي تخبرنا أن تبين الحق والضلال
والرشد والغي كاف وحده للدلالة على الإيمان، فلا حاجة لوسيلة أخرى، قال تعالى: ) لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي((البقرة:
256) وكأن هذه الآية تحث المؤمن على أن يكون نموذجا للرشد، فذلك وحده كاف للهداية
إلى الحق.
وهي تخبر أن الهداية نعمة إلهية يهبها الله تعالى لمن يشاء من
عباده، فهو الذي يشرح لها الصدور، قال تعالى ) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ ((النساء:272)، وقال تعالى:
)إِنَّكَ لَا
تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ((الكهف:56)، وقال تعالى:) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ((يونس:100)
وهي تخبر أن الهداية مصلحة شخصية،
والضلال مضرة شخصية، ودور المؤمن هو الدعوة للمصلحة والتنفير من المضرة، لا
الإلزام بذلك، قال تعالى:)قُلْ يَاأَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا
يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا
عَلَيْكُمْ بِوَكِيل(ٍ(يونس:108)وقال
تعالى: )إِنَّا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِوَكِيلٍ((الزمر:41)
وهي تخبر أن دور المؤمن هو الدعوة لا
السيطرة على من يدعوه أو إكراهه، قال تعالى: ) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُسَيْطِرٍ( (عبس:21)
وهي تخبر أن الإيمان والكفر حرية
شخصية تتبع مشيئة صاحبها لا الإلزام الخارجي، قال تعالى: ) وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ
شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ
سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي
الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا((الكهف:29)
قلت: عرفت هذا ووعيته .. ولكني لا
أزال أتساءل عن سر الشهادة التي هي وظيفة هذه الأمة نحو سائر الأمم.
قال: الشهادة تتحقق بأن تكون الأمة
نموذجا صالحا تهتدي بهديها الأمم، بل تحن لسلوك سبيلها.
قلت: فكيف تتحقق هذه الشهادة في
منتهى كمالها؟
قال: بأربع وظائف كبرى تشترك الأمة
مع أولي أمرها في تحقيقها.
قلت: فما أولها؟
قال: القوة.
قلت: تقصد امتلاك الأمة لأنواع أسلحة
الدمار الشامل.
قال: أقصد امتلاك الأمة لأنواع ما
يتطلبه السلام الشامل.
قلت: فما يتطلب السلام الشامل؟
قال: يتطلب تحقق الإنسان والمجتمع
والأمة بأرفع مراتب الكمال الممكن.
قلت: في أي مجال؟
قال: في كل المجالات: المعرفية،
والخلقية، والمرافقية.
قلت: ولكن النصوص تذم القوة، وتعتبرها
من مظاهر الطغيان .. بل إن القرآن الكريم يعتبر الفرح بالقوة هو الحائل بين كل قوة
عظمى أو صغرى ـ من الحضارات الكبرى أو القبائل البدوية البدائية البسيطة ـ وبين
قبول الحق، كما قال تعالى ضاربا المثل بعاد: ) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي
خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ((فصلت:15)
وهو الذي حال بين أكثر القرى وبين
طاعة أنبيائها والإسلام لله، فكان فرحهم حائلا بينهم وبين كل خير، كما قال تعالى:)كَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا
وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ
كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي
خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ((التوبة:69)
والقرآن الكريم يخبر بأنه كلما ازداد
تعاظم هذه القوى العظمى، وازدادت ثقتها بنفسها قرب موعد هلاكها كما قال تعالى:) حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ
وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا
أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ((يونس:24)
والحصيد هنا، وإن كان يراد به في
ظاهر اللفظ هو النبات الذي حصد وقطع، إلا أنه يشير إشارة صريحة إلى العمران
والتكنولوجيا والثقافة وكل ما يزهو ويتصور أثناء زهوه أنه لا يموت، وموته وحصاده
لا يحتاج إلى تدبير طويل بحسب ما تنص الآية،بل مجرد إتيان أمر الله في ليل أو نهار
يكفي لذلك، وأمر الله لا يتكرر،وهو أسرع من لمح البصر: )وَمَا
أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ(
(القمر:50)
قال: صدقت في كل ما ذكرت، وبورك فيك
.. ولكن قوة أهل الله تختلف عن هذا الطغيان الذي سميتموه قوة، كما سميتم الخمر
مشروبات روحية.
قلت: ولكن هذا المصطلح واضح في
دلالته على هذا المعنى.
قال: مصطلحات أهل الله تختلف عن
مصطلحاتكم، ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:( ليس الشديد بالصرعة، إنما
الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب )[146]،
فقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن المصارع الحقيقي الذي يتمتع بأعلى درجات القوة
هو من أوتي من الحلم ما يجعله يقهر غضبه، كما وضح ذلك الحديث الآخر، فقال - صلى
الله عليه وسلم -:( أتحسبون أن الشدة في حمل الحجارة؟ إنما الشدة في أن يمتلئ
أحدكم غيظا ثم يغلبه )[147]
قلت: تقصد أن نحمي تعاظم القوة
بالتخلق.
قال: لا قوة بلا خلق .. فالتردي
الخلقي أعظم ضعف.
قلت: أجل .. ولهذا ربط الله تعالى
بين القوة والأمانة، فقال تعالى في قصة موسى u:)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ((القصص:26)
قال: ذلك صحيح .. فالقوة وحدها بدون
أمانة ظلم وعتو،كما أن القوة بدون رأي وحكمة عجز وخور، كما قال تعالى مخبرا عن
المجلس الاستشاري لبلقيس مبينا أن القوة الجسمية وحدها لا تكفي بدون قوة الرأي
والتدبير:)
قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ
فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ((النمل:33)
ولذلك فإن القوة الحقيقية تتكامل مع
الأمانة والرأي والحكمة لتخدم الحق وحده، وبذلك تصبح من الأوامر الشرعية والتكاليف
التي لا مناص للمؤمن من القيام بها، قال تعالى:) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ((لأنفال:
من الآية60)
لأن أي عمل يستدعي نوعا من القوة
مناسبا لأدائه حتى أن ذا القرنين طلب عند بنائه السد أن يمدوه بقوة، كما قال تعالى:) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ
أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً(
(الكهف:95)
قلت: أجل .. انظر ما أجمل أدب ذي
القرنين حين قدم فضل ربه على طلب المعونة.
قال: لقد جعل القرآن الكريم ذا
القرنين نموذجا للمؤمن القائد القوي.
قلت: لقد رأيت الله تعالى يربط في
القرآن الكريم بين الكتاب والقوة، فقد قال تعالى عن موسى u عندما أعطاه ألواح التوراة: ) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً
وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا
بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ((الأعراف:145)
وأمر يحي u بنفس الأمر، كما قال تعالى:) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ((مريم:12)
.. فما سر ذلك؟
قال: إن الله تعالى يأمر بتوجيه
القوى المترفعة نحو الأخذ بالتكاليف والتقيد بها والتمسك بحبلها لأنها علامة القوة
الحقيقية،ولا يمكن أن تؤدى أداء مثاليا إلا بالقوة.
قلت: فلم خص موسى ويحي ـ عليهما
السلام ـ بالأمر بأخذ الكتاب بقوة وشدة وحزم؟
قال: ليس في الأمر تخصيص .. فالله
تعالى يخاطب كل فرد منكم باعتباره يحي وموسى.
قلت: لقد لاح لي أن سر ذلك يرتبط
ببني إسرائيل، فأسلوب تعاملهم مع أنبيائهم وأوامر ربهم، وهو أسلوب الاستهزاء
والهزل والتلاعب ومحاولة الاحتيال على أحكام الله، وهو أسلوب صادر عن تصورهم لله
الذي يمتزج فيه الدين بالعنصرية والذهب والأهواء، ولذلك وردت الآيات الكثيرة تخبر
عن أمر الله تعالى لهم بالأخذ بالكتاب بقوة حتى أن الجبل رفع فوقهم كأنه ظلة،قال تعالى:) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ
وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا
مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ((الأعراف:171)
ولكنهم مع ذلك لم يرتدعوا ولم
ينزجروا لأن شراب العجل الذي يسري في قلوبهم ويغذيهم بحب الذهب يحول بينهم وبين
الطاعة ولو أرادوا الطاعة، قال تعالى:) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ
خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ
بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ((البقرة:93)
قال: هذا بعض الحق.
قلت: فما كل الحق؟
قال: كل الحق أن يعتقد كل فرد منكم
أنه المخاطب الأول بالقرآن الكريم، فموازين الله لا تفرق بين جنس وجنس، ولا لون
ولون.
قلت: فحدثني عن مظاهر القوة التي
يطلب من الساسة تحقيقها.
قال: ستعرف ذلك في رحلة من رحلاتك في
عوالم أهل السلام .. فلا تعجل.
قلت: والآن؟
قال: قل لمن تربع على تلك الكراسي
العالية: إن الخلفاء العادلين الذين أعطاهم الله تعالى قوة اليد والسلاح، وعصمها
بقوة الإيمان والمعرفة يرهبون من المستضعفين، ولا يبالون ببالمتكبرين المتعاظمين.
ولا تنس أن تخبرهم بقول أبي بكر t في أول خطبة له:( وإن أقْوَاكم عندي الضعيفُ حتى أعْطِيه حَقَّه،
وإن أضْعَفَكم عندي القويُّ حتى آخُذَ منه الحق)
قلت: عرفت القوة، فما علاقتها
بالشهادة؟
قال: الناس تبع للأقوى .. فإن أردتم
من الأمم أن تهتدي بهديكم، وتسير مسيرتكم، وتحلم بأن تستظل بلوائكم، فاستظلوا بظل
القوة التي لا ترهب الأمم منكم، وإنما تجعلهم ينحنون محبة لكم، وشوقا إليكم.
قلت: فما الوظيفة الثانية التي
تتطلبها الشهادة؟
قال: العدل.
قلت: العدل مع الرعية .. لقد تحدثنا
عنه.
قال: لا .. العدل مع العالم ..
فالعدل الحقيقي لا يعرف تنوع المكاييل، ولا يفرق بين الأمم.
قلت: أجل .. فقد قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ
شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( (المائدة:8)، أي
لا يحملنكم بُغْض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقا كان
أو عدوًا.
ولكن كيف نؤمر بهذا، ونحن نؤمر في
نفس الوقت ببغض الكافر؟
قال: لقد أمرتم ببغض كفره، لا ببغض
لحمه ودمه وروحه.
قلت: فما الفرق بينهما؟
قال: الفرق بينهما عظيم .. هو كالفرق
بين بغض الطبيب لمريضه، وبغضه لمرضه .. فهل ترى من فرق بينهما؟
قلت: لا شك في ذلك .. فالطبيب إن
أبغض المريض منعه نصحه، بل لعله يحب استمرار المرض به .. أما إن أبغض مرضه، فإنه
يتوسل بكل ما لديه من صنوف العلاج ليريحه من علته.
قال: فكذلك أمرتم أن تفعلوا .. وبذلك
يكون العدل .. فالعدل ينطلق من منابع النفس الطاهرة، وليس مجرد طلاء يتلاعب به
القضاة والمحامون في محاكمكم.
قلت: ولكن قومي الذين طبعوا على
البغض في الله قد يأنفون من كثير مما ذكرت.
قال: فادعهم إلى إحياء السنة.
قلت: هم يتصورون أنهم يحيون السنة
بذلك.
قال: سنة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أم سنة اليهود والنصارى؟
قلت: وهل هناك سنة لليهود والنصارى
حتى تتبع؟
قال: أجل .. فهم الذين يكيلون
بالمكاييل المختلفة، أما أهل الله من المؤمنين، فإنهم لعبوديتهم لله، يتعاملون مع
خلق الله بما أمرهم الله لا بما تأمرهم أهواؤهم .. ألم تسمع قوله - صلى الله عليه
وسلم -:( دعوة المظلوم ـ وإن كان كافرًا ـ ليس دونها حجاب)[148]
قلت: أجل .. فما فيه مما نحن فيه؟
قال: النبي - صلى الله عليه وسلم -
يدلنا على تحقيق العبودية لله، بتسليم خلق الله لله .. فمن أعظم الشرك أن نعتبر
أنفسنا ديانين مع الله.
قلت: لا أرى في الحديث ما ذكرت .. كل
ما فيه هو أن دعوة المظلوم مستجابة حتى لو كان كافرا.
قال: والظلم بمعناه الشامل يدل على
ما ذكرت .. أرأيت لو أن بعض الأبناء عق والده، فرحت أنت تسبه وتلعنه .. أيرضي ذلك
والده؟
قلت: كلا .. فإن الأب مع بغضه لسلوك
ابنه إلا أنه لا يحب أن يمس بسوء، أو يتعدى عليه من أي جهة.
قال: فنزه ربك عن شبه التشبيه ..
وطبق هذا المثال على ما نحن فيه.
قلت: إن ما تذكره خطير يا معلم.
قال: هو شعاع من قوله تعالى:) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ((سورة الحج:
68-69)، وقال تعالى يخاطب رسوله ـ ومعه كل مؤمن ـ في شأن أهل الكتاب:) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ
لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ( (الشورى:15)
قلت: هذه الآية تحتوي على سبع كلمات
مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها، لها حكم برأسه.
قال: وكل
كلمة منها تنبه إلى المعنى الذي تاه عنه قومك بالبغض الذي أساءوا فهمه.
قلت: فبم تأمرنا الكلمة الأولى؟
قال: بالدعوة .. فأنتم مكلفون بدعوة
الناس، لا بالحكم عليهم، أنتم دعاة لا قضاة، معلمون لا محامون، مربون لا مدعون.
قلت: وبم تأمرنا الثانية؟
قال: بالاستقامة التامة الشاملة ..
قلت: فلم لم تذكر في هذا الموقف
الاستقامة المطاقة، كما قال تعالى:) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ( (التغابن: من
الآية16)؟
قال: لأنك في موقف الدعوة إلى الله
ينبغي أن تمثل ما تدعو إليه بأحسن صورة .. وهكذا الأمة لا يمكن أن تدعو الأمم إلى
العدل، وهي ترزح تحت نيران الجور، ولا يمكن أن تدعو إلى رحمة المستضعفين، وفقراؤها
يتقوتون من المزابل، وينامون على الطرقات.
قلت: وبم تأمرنا الكلمة الثالثة؟
قال: بعدم اتباع الهوى .. فلا تبيعوا
الحق بإرضاء بعضكم لبعض.
قلت: لقد رأيت بعض قومي يوزع درجات
الجنة على اليهود والنصارى والمنافقين والفاسقين تأليفا لقلوبهم.
قال: فما دام قد ضمن لهم الجنة، فلأي
شيء يؤلف قلوبهم؟.. هو يخونهم ويخدعهم ويغرهم عن أنفسهم .. لا ينبغي أن نبيع الحق
بالأهواء .. فالحق أحق أن يتبع .. والعدل يتحقق بالصدق، لا بالخداع والكذب.
قلت: وبم تأمرنا الكلمة الرابعة،
والتي نص عليها قوله تعالى:) وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ (؟
قال: تأمر بما تسمونه بالموضوعية
العلمية .. فالعدل يقتضي البعد عن الذاتية، وكل ما يؤدي إليها .. فقد أمرتم
بالإيمان بكل ما يأتيكم من الله، ولذلك لا تتعاملوا مع المخالفين من منطق أنكم
أصحاب الحق المحتكرين له، وإنما من منطق الباحثين عن الحق.
قلت: ولكنننا أصحاب الحق.
قال: فرق بين أن تكون صاحب حق، وبين
أن تحتكره .. صاحب الحق هو الذي يرجع الأمر لأهله .. أما المحتكر، فهو لا ينظر إلا
إلى نفسه، وما يتطلبه هواه.
قلت: فما الكلمة الخامسة التي هي
واسطة العقد؟
قال: قوله تعالى:) وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ (،
فالعدل ينطلق من النفس المؤدبة بآداب العبودية، ولهذا جاء الأمر فيها بهذه الصيغة،
صيغة الإلزام الألهي الذي لا يترك للنفس أي خيار.
قلت: فما
الكلمة السادسة التي هو قوله تعالى:) اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ (؟
قال: هذا ما
ذكرته لك في المثال الذي ناقشتني فيه.. فالله رب جميع الوجود، ومن الأدب مع الله
أن لا نتعامل مع خلق الله من واقع استعبادنا لهم؟
قلت: كيف
نستعبدهم، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.
قال:
الاستعباد لا يعني فقط ما تتصورونه من الرق .. أعظم استعباد أن تعتقد الله ربا لك
وحدك، بل تتأمر على ربك، فتأمره وتنهاه.
قلت: أنحن
نفعل هذا؟
قال: ولكنكم
لا تجسرون على قوله.
قلت: فما
الكلمة الخامسة؟
قال: هي
التي نص عليها قوله تعالى:) لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ (، وهي نتيجة لما سبق.. فالعاقل من
انشغل بصحيفته عن صحائف غيره.
قلت: أجل ..
فقد قال تعالى مبينا الموقف الصحيح للتعامل مع المخالفين:)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ
بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ( (يونس:41)
قال: لو رأى
غيركم منكم هذا التواضع لجلسوا يتعلمون على أيديكم، ولكنكم أبيتم إلا أن تصيروا
حجبا بين الله وخلقه.
قلت: فما
الكلمة السادسة؟
قال: هي
التي نص عليها قوله تعالى:) لا حُجَّةَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمُ (
قلت: لقد
قال مجاهد في معناها: أي لا خصومة بيننا وبينكم، وقال السدي: وذلك قبل نزول آية
السيف، وقد رجح ابن كثير هذا، فقال: وهذا مُتَّجَهٌ لأن هذه الآية مكية، وآية
السيف بعد الهجرة.
قال: أراكم
تضربون الكتاب بعضه ببعض .. فتنسخون ما تشاءون بما تشاءون .. كلام الله كله محكم ) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ( (فصلت:42)
قلت: ولكن الخصومة حصلت بيننا
وبينهم، فحاربونا وحاربناهم.
قال: أما سلفكم الصالح .. فلم
يحاربوهم، وإنما حاربوا طغيانهم وعتوهم وتجبرهم على خلق الله.
قلت: فما الكلمة السابعة؟
قال: هي التي نص عليها قوله تعالى:) اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (
قلت: لقد
ورد هذا في مواضع من القرآن الكريم، فالله تعالى
يقول في آية أخرى:) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا
ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ( (سبأ:26)
قال: هذا
أكبر ما يملأ قلوب العارفين حزنا وأسفا.
قلت: كيف
ذلك؟
قال: الله
يجمع بين خلقه جميعا ليقتص للمظلوم من ظالمه.
قلت: أجل ..
فقد ورد في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -:( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم
القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء تنطحها)[149]
قال: وأعظم
ظلم لهم أن تحجبوهم عن الحق الذي زين الله به الوجود، فيدخلوا جهنم الدنيا وجهنم
الآخرة بسببكم.
قلت: أجل ..
لقد وردت النصوص بحفظ حقوق غير المحاربين، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول:(
من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس
منه، فأنا حجيجه يوم القيامة )[150]، وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران أنه ( لا يؤخذ منهم رجل
بظلمِ آخر)[151]
قال: بل ورد ما هو أعظم من ذلك، فقد
قال - صلى الله عليه وسلم -:( من آذى ذِمِّياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم
القيامة )[152] .. بل ورد ما
هو أعظم من ذلك، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( من آذى ذميًا فقد آذاني، ومن
آذاني فقد آذى الله)[153]
قلت: لهذا اشتد الخلفاء الراشدون على
مدار التاريخ الإسلامي بدفع الظلم عن أهل الذمة، وكف الأذى عنهم، فقد كان عمر t
يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشية أن يكون أحد من المسلمين
قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له:( ما نعلم إلا وفاءً )[154]
وكان عليٌّ بن أبي طالب t
يقول:( إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا )[155]
قلت: فما الوظيفة الثالثة التي
تجعلنا شهودا عدولا على الأمم من حولنا؟
قال: الرخاء.
قلت: أراك تذم الترف .. فكيف تجعل
الرخاء ركنا من أركان الشهادة؟
قال: الترف رخاء الطغاة المتجبرين..
والرخاء ترف العبيد المتواضعين.
قلت: فكيف يكون وظيفة من وظائف
الشهادة؟
قال: كيف يستطيع مدرب النمور والأسود
أن يتسلط على قوى السبعية في النمر والأسد ليوجهها إلى اللعب واللهو .. فيجعل من
ذلك الذي يخافه الناس على نفوسهم وسيلة رزقه التي يحافظ بها على حياته؟
قلت: ما أسهل ذلك ـ يا معلم ـ لقد عرف
شهوات النمر والأسد، فراح يتلاعب به من خلالها.
قال: فكذلك من يحيط بكم من الأقوام،
استعبدتهم الدنيا، ولن تجروهم إلى الله إلا بسلاسل الدنيا.
قلت: لقد ذكرتني بقوله - صلى الله
عليه وسلم -:( عجب الله من قوم يدخلون الجنة بالسلاسل)[156]، ولكن كيف
يكون ذلك، وقد نهينا عن إكراه الناس على الدين.
قال: السلاسل لا تعني الإكراه ..
وإنما تعني ما رأيته من أسلوب التعامل مع النمر والأسد.
قلت: فما علاقة ذلك بالرخاء؟
قال: أكبر حجاب يحول بين أعدائكم،
وتبصر الحق الذي جعله الله لكم ما تقعون فيه من تخلف وفقر وضعف .. فلذلك كان
تقدمكم وغناكم وقوتكم هي السلاسل التي تجعلهم يلتفتون لكم، ويدرسون سر الرخاء
الطيب الذي وهبه الله لكم.
قلت: ولكن الرخاء هو الذي وضعنا في
هاوية التخلف.
قال: ذلك الترف .. لا الرخاء ..
والترف عبودية للمال .. أما الرخاء فإنه لا يزيد صاحبه الفاهم عن الله إلا عبودية
لله .. أليس أهل الجنة في رخاء؟
قلت: أجل ..
قال: فهل حال ذلك بينهم وبين الله؟
قلت: كلا.
قال: فحضارة أهل الجنة حضارة الرخاء
المؤمن، فتشبهوا بها.
قلت: في نفسي شيء مما تقول .. فلا
ينبغي أن يقاد الناس إلى الله بمثل هذا.
قال: ألم يجعل الله من سهام الزكاة
سهما للمؤلفة قلوبهم؟
قلت: أجل، فقد قال تعالى:) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( (التوبة:60)
قال: أتدري ما سره؟
قلت: حتى يكفوا شرهم عن المسلمين.
قال: وحتى يعلموا من غنى المسلمين،
وحسن أحوالهم ما يجعلهم يحنون لسلوك سبيلهم .. أليس فقراؤكم يحاولون تقليد
أغنيائكم؟
قلت: أجل .. وقد عرفنا بعض ذلك.
قال: فاعتبروا بهذا .. لتضعوا المال
الصالح في أيدي الرجال الصالحين الذين يمثلون عبودية الرخاء لله، كما مثلها سليمان
وحضارة سليمان.
قلت: فما الوظيفة الرابعة من وظائف
الشهادة التي يتوجب على أولي الأمر القيام بها ليكونوا أمثلة صالحة عن الإيمان
وأهل الإيمان؟
قال: السماحة.
قلت: أحسبنا تكلمنا عنها في العدالة.
قال: السماحة خلق .. والعدالة شرائع
.. وبالسماحة الخلقية يمكنك أن تجر من تشاء لما تشاء ..
قلت: فما علاقة ذلك بأولي الأمر؟
قال: أولي الأمر هم الذين ينشرون
السماحة بسلوكهم، يقتدون في ذلك بالخلفاء الراشدين الذين جعلهم الله أمثلة عن
تسامح هذه الأمة ورحمتها.
قلت: فحدثني عن أخبارهم.
قال: ستلتقي بأهلها في رحلتك في
عوالم السلام، فتلق العلم من أهله.
اقتربنا من الباب الرابع من أبواب
الجهد، وقد كتب عليه قوله تعالى:) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا((القصص: من
الآية77)، وقد برز منها شعاع رسم صورة جيش من العمال، له أياد كثيرة، تتوزع على
الوظائف المختلفة، ولم يكن هذا غريبا في نظري، ولكن الغريب أن جميع هذا الجيش
يتحرك بقلب واحد ينبض بالحياة، وقد كان لذلك القلب عينان، لا كسائر العيون، أما
إحداهما، فتتوجه إلى السماء مستغرقة فيها غافلة عما حولها.
وأما الثانية، فتتوجه إلى حركات
الأيدي، فتنسق بينها، وتنظم حركاتها.
سألت المعلم عن سر هذه الصورة، فقال:
هذه صورة رمزية لباب المصلحة الذي هو ركن أساسي من أركان الجهد.
قلت: فما سر القلب الواحد، والأيدي
الكثيرة؟
قال: القلب الواحد يدل على الهدف
الواحد الذي تتوزع الوظائف والأيدي على خدمته، فالوظائف كثيرة، ولكن المصالح
محدودة.
قلت: وما سر العينين الغريبتين؟
قال: العينان إشارة إلى قبلة
المصالح.
قلت: أللمصالح قبلة؟
قال: للمصالح قبلتان، لكل قبلة
عينها، مصالح الدنيا ومصالح الآخرة.
قلت: ولكن قومي يقصرون المصالح على
مصالح الدنيا.
قال: هم كالدجال .. أليس الدجال
أعور؟
قلت: ولكنهم يرون بأبصارهم.
قال: الحق أقول لك: كل من اقتصر في
أي جهد يبذله على مصالح دنياه غافلا عن مصالح أخراه فهو أعور.
قلت: فما مصالح الآخرة التي يتوجه
جهد المؤمن لتحقيقها؟
قال: المؤمن في حياته لا يبذل جهده
إلا في مصالح آخرته، فهو لا يحب الآفلين.
قلت: ولكن لا بد له من أن يتناول
الدنيا .. أليس بشرا يحتاج من المرافق ما يحتاجه البشر؟
قال: أجل .. وهو يتناول من دنياه
لأخراه .. فلا تحجبه دنياه عن أخراه.
قلت: لا أفهم هذا .. فالدنيا دنيا،
والآخرة آخرة.
قال: مثل ذلك مثل قوم مسافرين، وليس
لهم من المطايا ما يتنقلون عليه، فراحوا يخترعون صنوف الحيل ليقطعوا طريقهم، فهم
في ظاهرهم يلهون ويلعبون، وهم في حقيقتهم يقطعون المفاوز التي تحول بينهم وبين
أوطانهم.
قلت: لقد ذكرتني بما كنت أفعله في
صغري مع رفاقي، فقد كنا نحتال على بعد المسافة بالتسابق والعدو .. فسرعان ما نقطع
طريقنا من غير تعب ولا عناء.
قال: فهكذا يقطع أهل الآخرة مفازات
الدنيا، فهم في ظاهرهم من أهل الدنيا، وفي حقيقتهم من أهل الأخرى.
قلت: ولكن كل الناس يعدون،
ويتسابقون، فكيف أفرق بين أهل الدنيا، وأهل الآخرة؟
قال: هم لا يكادون يفترقون في حركات
أيديهم، ولكنهم يفترقون في هممهم، فعيون أهل البصيرة تتوجه لكلا القبلتين، أما
عيون أهل الغفلة، فهي قاصرة على الدنيا، عوراء عن الآخرة.
قلت: أتقصد أن جهود أهل الدنيا هي
نفس جهود أهل الآخرة .. والفرق بينهما لا يعدو الهمم والنيات؟
قال: الأصل في الفرق بينهما هو الهمم
والنيات .. وهذا الأصل ينبت لكل قوم ما يتناسب مع رغباتهم.
قلت: اضرب لي أمثلة على هذا تقرب لي
ما يعز على خاطري تصوره.
قال: أكثر ما يمارسه قومك من الجهود
عبث لا حاجة له .. وهم في سبيله يقضون مضاجعهم ومضاجع أهل الكون من حولهم .. ثم لا
يكادون يأبهون لما يفعلون.
قلت: وضح ما تريد.
قال: أكثر مصانعكم وملاعبكم ودور
لهوكم وعبثكم تحجبكم عن حقيقتكم، وتملأ الكون من حولكم بالضباب.
قلت: وأهل الآخرة، الذين جمعوا بين
الدنيا والآخرة.
قال: هم بمنجاة من ذلك كله ..
فحياتهم بسيطة، ولكنها تمتئ بالجمال، فالعالم من حولهم من الصفاء والرقة ما يجعلهم
يستغنون عن أكثر ما تمارسونه من لهو.
قلت: ومصانع الغذاء واللباس وأصناف
المراكب ..
قال: أكثرها مما يمكن الاستغناء عنه
.. فقد جعل الله في دار ضيافته ما يغني عن أكثر ما يملأ حياتكم عبثا.
قلت: وعيت هذا .. فما مصالح الآخرة
التي ينشغل بها عن أكثر لهو الدنيا وعبثها.
قال: أما العارفون، فقد انشغلوا
بالله عن كل شيء .. فهم في حمى الله، وفي كنفه، عجلت لهم جنانهم، فهم يروحون عليها
ويغدون.
قلت: هم ) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (
(الواقعة:14)، فحدثنا عن الأكثرين.
قال: لقد لاح لهم من نفحات الجنة ما
جعل جميع حركاتهم تنتظم متوجهة إليها .. فلذلك امتلأت حياتهم بالراحة، كما امتلأت
حياة قومك بالعناء.
قلت: كيف تقول عن قومي هذا.. وهم من
هم؟
قال: إن الضنك النفسي الذي يعيشه
قومك نتيجة الانشغال بالمصالح التي يوهمون أنفسهم بها لا يعوضه أي مكسب كسبوه أو
دنياه استفادوها، فما الدنيا إلا لأهل الطمأنينة والسلام.
قلت: صدقت في هذا .. فنحن نعيش حياة قاسية
شديدة, وإن كنا نبتسم بشفاهنا ابتسامة المجانين.
قلت: ما دام أهل الآخرة متوجهون إلى
الآخرة توجها كليا، فكيف يتجهون إلى الدنيا، وهل عندهم من الفراغ ما يجعلهم
يتوجهون إليها؟
قال: ألم أقل لك: إن أهل الآخرة لا
يفرقون بين الدنيا والآخرة، فهم يعيشون الدنيا بأجسادهم، ويعيشون الآخرة بهممهم
وأرواحهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:( ليس بخيركم من ترك دنيا لآخرته، ولا
آخرته لدنياه حتى يصيب منها جميعا، فإن الدنيا بلاغ الآخرة، ولا تكونوا كلا على
الناس )[157]، وقال -
صلى الله عليه وسلم -:( إذا كان في آخر الزمان لا بد لناس فيها من الدراهم
والدنانير، يقيم الرجل بها دينه ودنياه )[158]،
وقال - صلى الله عليه وسلم -:( من استطاع منكم أن يقي دينه وعرضه بمال فليفعل)[159]
قلت: لقد قال تعالى:) وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا((القصص: من
الآية77)، فما النصيب الذي لا ينبغي نسيانه من الدنيا؟
قال: لقد ذكر الله تعالى مجامع متاع
الدنيا، فقال:) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ
ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ( (آل عمران:14)
قلت: ولكن الله تعالى ذكر هذا بصيغة
الذم بدليل قوله تعالى بعدها:) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا
عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ((آل عمران:15)
قال: لا .. لم يذكر الله تعالى ذلك
بقصد الذم، فالله هو الذي زين فينا محبة تلك الشهوات، وما كان الله ليذم شيئا خلقه
فينا[160].
قلت: ولكن النص ظاهر الدلالة على
ذلك.
قال: لا .. النص يدل على معان أعمق
مما قد يوهمك ظاهره.
قلت: اشرح لي ذلك .. فإني لا أكاد
أفهم منه غير ظاهره.
قال: إن الله تعالى يبين في تلك
الآية الكريمة ما جبل عليه عباده من حب للشهوات، وهو لم يحرم عليهم تناولها، فما
كان الأمر التشريعي ليخالف الأمر التكويني، ولكن الذم متوجه للمنشغل بها المنحصر
في أكفانها، الذي حجبته عين دنياه عن مصالح أخراه، فلذلك راحت الآية تنبهه إلى عظم
الغبن الذي يقع فيه.
قلت: فما مجامع النعم التي تمثل أنواع
مصالح الدنيا؟
قال: أربع نعم ذكرتها الآية تجتمع
فيها جميع شهوات الدنيا ومصالحها.
قلت: فما أولها؟
قال: النساء والبنين ..
قلت: هذا للرجال .. فما للنساء؟
قال: الرجال والبنين .. فقد زين
النساء للرجال، وزين الرجال للنساء.
قلت: لم؟ .. أليكون بعضهم على بعض حجابا
على الله؟
قال: أو ليعين بعضهم بعضا على السير
إلى الله، ألم تسمع قوله تعالى:) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً
لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ((الروم:21)،
فقد ذكر الله تعالى نعمة السكينة التي أفاضها على عباده بالتزاوج بينهم .. ولن
تتحقق هذه المصلحة إلا بالتزاوج الصحيح الشرعي الذي ينظم الحياة، ويرفعها.
قلت: أرى أن قومي تلاعبوا بالنساء،
فحولوهن أذل من الجواري.
قال: لقد أوقعوا أمهاتهم وأخواتهم
وزوجاتهم وبناتهم في تلك الذلة التي لا يمحوها إلا عودتهم إلى الفطرة السليمة.
قلت: ولكن هل من حرج في التمتع
بالنساء؟
قال: ليس الحرج في تمتع الطرفين
بعضهما ببعض، ولكن الحرج في استغلال بعضهم لبعض، وحجب بعضهم لبعض، ألم تسمع قوله -
صلى الله عليه وسلم -:( مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ
مِنَ النِّساء)
قلت: هذا الحديث يدعو إلى اعتزال
النساء.
قال: لا .. هذا الحديث يدعو إلى
اعتزال فتنة النساء، واعتزال كل جهد يخدم فتنة النساء، أما النساء في ذواتهن، فقد
وردت النصوص بالترغيب في التزويج.
قلت: أجل .. فقد قال - صلى الله عليه
وسلم -:( الدُّنْيَا مَتَاع، وخَيْرُ مَتَاعِهَا المرْأةُ الصَّالحةُ، إنْ نَظَرَ
إلَيْها سَرَّتْهُ، وإنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْه، وإنْ غَابَ عَنْها حَفِظْتُه في
نَفْسهَا وَمَالِهِ )[161]
قال: بل حدث - صلى الله عليه وسلم -
عن نفسه، فقال:( حُبِّبَ إلَيَّ النِّسَاءُ والطِّيبُ وجُعلَتْ قُرة عَيْني فِي
الصَّلاةِ )[162]، وقالت عائشة،
رضي الله عنها: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النساء
إلا الخيل )[163]، وفي رواية:(
من الخيل إلا النساء )
قلت: إن تخليص الجهود من فتنة النساء
يجعل من كثير من الجهود هباء منثورا، فنحن نعيش في حضارة تتقوت على ما تزرعه من
بذور الفتنة.
قال: الفتنة لا تحرق إلا أصحابها ..
فدعوا الفتنة نائمة، فملعون من أيقظها.
قلت: لقد حولها قومي إلى:( مكرم من
أيقظها ) فهم يتبارون على أجمل الجميلات، وعلى أكثر الألبسة إغراء.
قال: ما أسرع ما تحترقون .. فابحثوا
عما يطفئ لهيب الفتن التي أيقظتموها.
قلت: فما البنين؟
قال: النساء والرجال ينتجون البنين.
قلت: بالتزاوج البهيمي؟
قال: بالتربية والسلوك والتخلق ..
فالله ابتلى الآباء والأمهات بالبنين والبنات.
قلت: ابتلاء فتنة؟
قال: هو في أصله نعمة، فالله يرحم
عباده، ولكنهم يفتتنون، ألم تسمع قوله تعالى، وهو يمن على عباده:) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ( (النحل:72)
قلت: فكيف يكون حب الأولاد فتنة؟
قال: إذا انشغل الآباء بعد أولادهم،
وتفاخروا بذلك وقعوا في سجين الفتن.
قلت: بلى .. فقد ذكر تعالى ذلك عن
أقوام، فقال:)
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ
كَافِرُونَ( (التوبة:55)،
وقال تعالى:)
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ( (سـبأ:35)، وقال
تعالى:)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً
وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ( (الحديد:20)
ولكن النصوص التي وردت بذم هذا هي
التي وردت باستحباب كثرة الأولاد، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( تزوجوا الودود
الولود, فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)[164]
وجاءه رجل فقال: إني أصبت امرأة ذات
حسب ومنصب , إلا أنها لا تلد, أفأتزوجها؟ فنهاه[165] , ثم أتاه الثانية , فنهاه, ثم أتاه الثالثة ,
فقال: تزوجوا الودود الولود , فإني مكاثر بكم )[166]
قال: لقد جمع - صلى الله عليه وسلم
- في هذا الحديث بين الود، وهو حسن الخلق
الذي يثمر التربية الحسنة للأولاد، مع كثرة الولادة ليدل على ضرورة الجمع بين كثرة
الأولاد والتربية الحسنة، فإن تعارض أحدهما مع الآخر قدمت التربية، فتستحب قلة
الأولاد إن خشي عليهم الانحراف في حال الكثرة.
قلت: أجل، ويدل لهذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علل ذلك بمكاثرته بهم
يوم القيامة وهو - صلى الله عليه وسلم -
لا يكاثر ويباهي إلا بالخيرين من أمته، أما الفسقة والمنحرفين فلا فضل في المكاثرة
بهم.
قال: بل إن الولد المنحرف لا يضر
نفسه فقط، بل يضر ـ أول ما يضر ـ أهله الذين آووه ورعوه.
قلت: لقد تهنا عن باب المصلحة من
أبواب الجهد.
قال: لا .. لم نته .. فإن أكثر
الجهود التي يبذلها قومك من أجل الأولاد تصارع قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ( (المنافقون:9)،
وتؤكد قوله تعالى:)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً
لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ( (التغابن:14)
قلت: كيف ذلك؟
قال: اذهب وانظر أكثر اللهو الذي
ينتجه قومك، فستجد أنه ليس له من دور غير شغل الآباء وأبناءهم عن ذكر الله.
قلت: وما تريد من الآباء نحو
أبناءهم؟
قال: أريدهم أن يجلسوا معهم جلسة
لقمان u، والتي قصها علينا القرآن الكريم، فإنه لم يقصها لنتسلى بها،
وإنما ليتحول كل أب لقمانا يعظ أبناءه، ويشتغل معهم بذكر الله.
قلت: وعيت هذا .. وقد وفقني الله
تعالى للكتابة فيه[167]، فما الأمر الثاني؟
قال: القناطير المقنطرة[168] من الذهب والفضة.
قلت: إلام يشير هذا المتاع؟
قال: يشير إلى الوسائل التي تحققون
بها متاع الدنيا، فالمال ركن من أركان الحاجات البشرية، والذي لا يمكن الاستغناء
عنه.
قلت: ولكن الآية ذكرت القناطير
المقنطرة، وهو فوق ما يفي بالحاجة.
قال: لقد حبب للإنسان كثرة الذهب
والفضة .. ولا حرج عليه في أن يحب كثرة الذهب والفضة، ولكن الحرج في الانشغال
بهما.
قلت: لقد عرفنا هذا في أبواب المال،
وعرفنا أنواع المصالح التي يمكن استجلابها بالأموال، فما الأمر الثالث؟
قال: المراكب التي عبر عنها قوله تعالى:) وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ( (آل عمران: من
الآية14)، فلا بد للخلق من مراكب يتنقلون عليها.
قلت: ولكن الناس استغنوا في عصرنا عن
الخيل بما اخترعوه من أصناف المراكب.
قال: ليست الخيل مقصودة بذاتها في
الآية، بل المراد منها كل وسائل الاتصال التي اختلفت العصور في التفنن في
اختراعها، والتي أشار إليها قوله تعالى:) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً
وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ( (النحل:8)
قلت: أتنكر ما وصل إليه قومي من
اختراعات قربت المسافات، ووصلت بين الأباعد؟
قال: لا أنكر ما وصل إليه قومك، فهم
لم يصلوا إليه إلا بتوصيل الله، ألم تسمع قوله تعالى:) وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ(،
فقد اعتبر ما توصلتم إليه من اختراعات خلقا من خلق الله.
ولكني أنكر ذلك الزهو الكاذب الذي
يملأ نفوسهم بالاستعلاء على الله، وعلى خلق الله إن ركبوا في تلك المراكب.
قلت: لقد ذكرتني بقوله - صلى الله عليه
وسلم -:( الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر: فرجل ربطها
في سبيل الله فهي لذلك أجر، ورجل ربطها تغنيًا ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا
ظهورها، فهي لذلك ستر، ورجل ربطها فخرًا ورياءً ونواءً لأهل الإسلام فهي على ذلك
وزر )[169]
قال: لقد بين - صلى الله عليه وسلم -
قوانين التعامل مع هذه الوسائل التي من الله بها عليكم، فأبيتم إلا أن تحولوها من
النعمة إلى النقمة، ومن المنحة إلى المحنة.
قلت: لقد ذكر - صلى الله عليه وسلم -
ثلاثة مقاصد للخلق من المراكب، وأرى الناس يتعاملون مع وسائل النقل على أساسها.
فبعضهم ـ وهم الصالحون ـ اتخذوا هذه
الوسائل وسائل يستفيدون منها ويفيدون، فهم يقربون البعداء، ويصلون المتقاطعين،
ويحنون على المرضى.
وبعضهم ـ وهم عامة الناس ـ انتفعوا
بها في خاصة أنفسهم.
وبعضهم ـ وهم الظلمة لأنفسهم ـ راحوا
يتكبرون بها على البلاد والعباد.
قال: ليتهم تكبروا فقط .. بل راحوا
يستعملونها ليبيدوا الأخضر واليابس، ويقتلوا البشر والحجر.
قلت: فما الأمر الرابع؟
قال: حاجاتكم الأساسية من المطعم
والمشرب، والتي عبر عنها قوله تعالى:) وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ( (آل عمران: من
الآية14)
قلت: أنفسد في هذا أيضا؟
قال: ليتكم تفسدون فقط .. بل أنتم
تفسدون، ثم لا تصلحون.
قلت: لقد عرفت تحقيق ذلك في ابتسامة
الأنين، فبورك فيك.
بعد أن مررنا على جميع تلك الأبواب
صادفنا باب عظيم احتوى على جميع أصناف البهاء، فصحت: هذا باب الجنة .. لا شك في ذلك
.. لكنا لم نمرر على الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف.
قال لي: لا .. هذا باب مدائن الدنيا
.. ولكن ـ مع ذلك ـ لا مانع من أن تعتبره بابا من أبواب الجنة، ففي الدنيا من
روائح الجنة ما لا يشمه إلا الصديقون.
قلت: والصراط؟
قال: لقد مررت به.
قلت: أتقصد هذا الطريق الذي سلكناه،
والأبواب التي فتحت لنا؟
قال: أجل، فهو أدق من الشعرة، وأحد
من السيف.
قلت: ولكنا كنا نسير فيه بسهولة
ويسر.
قال: لأن النور كان معنا .. ولولا
النور لتهنا عن طريقنا .. ولخرجنا إلى أبواب جهنم الكثيرة.
قلت: أهناك إذن أبواب لجهنم تؤدي إليها
تلك المسارات التي رأيناها؟
قال: أجل، وهي التي سلكتها مدائن عاد
وثمود وسدوم وعمورية، ومدائن الشرق الآفل، والغرب الذي أراد أن يقتل التاريخ.
قلت: أعرف عادا وثمودا وسدوم وعمورية
.. ولكني لا أعرف المدينتين الأخيرتين.
قال: سيعرفهما أولادك .. ولعلهم
يعتبرون بهما.
قلت: فكيف نفتح هذا الباب؟
قال: ككل الأبواب .. ندخله بفتحه.
قلت: ولكن أين المفاتيح؟
قال: المفاتيح هي الحقائق التي
وعيتها أثناء مرورك على الصراط .. فهل وعيت ما قلت؟
قلت: نعم .. وعيته، ولله الحمد
والمنة، ولك الشكر والفضل.
قال: سنرى.
قلت: ماذا؟
قال: إن كنت وعيتها، فسيفتح الباب
بمجرد أن نقترب منه، فإن لم يفتح، فهذا دليل على أنك لم لا تع ما قلنا أو بعض ما
قلنا.
قلت: لا تخف يا معلم، فأنا واثق مما
أقول .. فالمرارات التي عشتها في مدنيتي جعلتني لا أعي فقط ما قلنا، بل أحفظه،
وأعيشه.
قال: ولكن .. ألم أخبرك أن الوعي
الذي يتوقف على الذاكرة والحفظ لا يكفي وحده؟
قلت: تريد الحب والعزيمة.
قال: لا يكفي للتغيير أن تعرفوا ما
لم تمتلئ قلوبكم ببذور الشوق التي تنبت ثمار العزيمة.
قلت: لا تخف يا معلم .. فإن لي عزيمة
تفل الحديد.
قال: عزيمة على ماذا؟
قلت: عزيمة على الدعوة لما ذكرنا
ونشره والتبشير به.
قال: لا يكفي كل ذلك .. لا يكفي
الكلام.
قلت: وهل أملك غير الكلام .. لقد قلت
لي: إن فأسك هو قلمك .. ولذلك سأسخره لهذا السبيل.
قال: القلم أداة من أدوات الحضارة ..
ولكن الحضارة لا تقوم به وحده.
قلت: بماذا تقوم إذن؟
قال: بك.
قلت: ومن أنا؟
قال: الإنسان.
قلت: أعرف ضرورة الإنسان للحضارة،
فلا حضارة بلا إنسان ..
قال: فتحضر أنت قبل أن يتحضر قلمك.
قلت: بماذا أتحضر.
قال: بالسلوك .. بالترفع .. بالتخلق
.. بالعرفان .. فالحضارة ليست أشياء .. بل هي قيم ومبادئ.
قلت: أنا أتعلم على يديك ..
قال: أخاف أن تتصور أن ما ذكرته هو
النهاية، فتكتفي به .. أو أخاف أن ترى جمال هذه المدنية، فتقرر الاستقرار فيها،
وتكتفي بما عرفته كما اكتفيت مع كنوز الفقراء.
قلت: لا تخف يا معلم .. أعلم أن
الطريق طويل، وهذه البداية .. وأعلم أن ملكوت الله واسع، ولن أستقر في محل .. بل
همتي تترقى إلى الله، )
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى( (لنجم:42)
قال: إن كنت قلت هذا .. فاقترب من
باب المدائن، فستفتح لك.
اقتربت مع المعلم من الباب .. وبمجرد
اقترابنا فتح على مدينة عظيمة .. لست أدي هل كانت في الأرض أم في السماء .. كل ما
فيها جميل .. أشكال بناياتها تختلف كثيرا عن سائر ما أعرفه من أشكال البناء.
سألت المعلم: ما أجمل هذه الحلل التي
ترتديها هذه المدينة، من المهندسون الذين بنوها، أم من الفنانون الذين صمموها؟
قال: هؤلاء مهندسون من أهل الله فتح
الله عليهم، فصمموا هذه الأشكال البديعة، مستوحين لها من أشكال الكون.
قلت: أين ناطحات السحاب؟
قال: لا يعرف أهل هذه المدينة
التطاول في البينان.
قلت: أين مداخن مصانعهم .. أليس في
هذه المدينة مصانع؟
قال: بلى .. هي مملوءة بالمصانع ..
بل كل بيت من بيوتها مصنع من المصانع.
قلت: فأين مداخنها؟
قال: لقد حرص أهل هذه المدينة على
عدم تلويث الكون بأي ملوثات.
قلت: فما صنعوا معها؟
قال: هداهم الله، فخلصوا الصناعة من
كل الملوثات.
قلت: كيف وصلوا إلى ذلك؟ .. دلني على
هذا الاختراع .. فقومي محتارون مع الملوثات.
قال: قومك نظروا إلى كسبهم، ولم
ينظروا إلى كون الله .. وما كان الله ليهديهم لشيء لم يهتموا به.
قلت: أتقصد أن الطريق إلى ذلك هو
الاهتمام والرعاية؟
قال: أجل .. لو صدقوا لوجدوا .. لقد
صدقوا في البحث عن الذهب الأصفر.. فوجدوا الذهب الأسود والأصفر .. ولو صدقوا في
البحث عن طهارة الكون لوجدوها.
قلت: أين مدارس هذه المدينة
وجامعاتها .. فإني لا أرى الطلبة يجتمعون حول أبواب المدارس والجامعات؟
قال: كل بيت من بيوت هذه المدائن
مدرسة بحد ذاته، والعلم هنا يبذل بالمجان لكل الناس .. فأهل هذه المدينة كلهم
طلبة.
قلت: والمساجد .. أين هي المساجد ..
لا أرى المآذن العالية، والقباب الفخمة؟
قال: كل هذه المدينة مساجد .. بل هي
كلها مسجد لعبادة الله.
قلت: أقصد المواضع التي يلتقي فيها
المصلون لينالوا أجر الجماعة.
قال: في كل حي من أحياء هذه المدينة،
بل في كل حارة من حاراتها هذه المساجد .. فهي مثل دكاكين البقالة لا ينبغي أن تخلو
منها حارة، وإلا أصابها الجوع.
قلت: ولكني لا أراها .. لقد تعودنا
أن نضع المآذن الرفيعة على مساجدنا.
قال: ذلك لحبكم للتطاول .. فكل مأذنة
تتطاول على أختها.
قلت: ومساجد هذه المدينة؟
قال: بسيطة كبساطة مسجد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - .. فأول ما يتعلم المؤمن التواضع والزهد يتعلمه في المساجد[170].
قلت: ولكن قومي يصرفون أموالا ضخمة
على بيوت الله تعظيما لها.
قال: إن الله طلب منكم أن تعمروا
بيوته بالخشوع والإيمان والذكر، لا بأصناف الزخارف التي تعبدونها.
قلت: والملاعب .. أين الملاعب الفخمة
التي تتباهى دول العالم على تشييدها؟
قال: تلك سنة المترفين، وما كان لأهل
مدائن السلام أن يتشبهوا بمدائن الصراع في تشييدها.
قلت: ولكن النصوص تحض على الرياضة،
وتدعو إليها.
قال: النصوص تدعو إلى الرياضة .. لا
إلى التفرج على الرياضة، ولا إلى الصراع من أجلها.
قلت: فكيف يمارس أهل هذه المدينة
الرياضة؟
قال: في كل بيت من بيوت هذه المدينة
محل خاص يجمع بين المسجد والملعب والمستشفى والمصنع والكثير من المرافق التي تملأ
مدائنكم.
قلت: كيف تقول هذا؟ فما البيت إلا
بيت .. وهو لا يعدو أن يكون محل أكل وراحة.
قال: لقد عرف أهل مدائن السلام أهمية
البيت، فلذلك ملأوه بالمرافق الطيبة التي تعينهم على دينهم وحياتهم، ألم تسمع قوله
تعالى:)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ
بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:87)
قلت: بلى .. فما فيها من العلم؟
قال: إن موسى u أرسل لبني إسرائيل ليخرجهم من عوالم الهوان التي ألفوها إلى عوالم
أهل السلام .. والسلام كما يبدأ في النفس من النفس، يبدأ في المجتمع من البيت.
قلت: صدقت .. فإن من الناس من لا يجلس
مع أهل بيته إلا قليلا .. شغله المجتمع والعلاقات الاجتماعية عن نفسه وأهله ..
ولكن ألا يقضي هذا على الحياة الاجتماعية؟
قال: لا .. هذا يملأ الحياة
الاجتماعية بالإيجابية، فلا يلتقي الناس إلا على العلم النافع، والعمل الصالح،
والذكر الطيب.
قلت: ألهذا لا أرى النوادي والمقاهي
هنا؟
قال: إن أكثر المقاهي التي تملأ
شوارعكم سموم تهدم أعماركم، وتحطم حياتكم، وتنشر الخراب بينكم.
قلت: ولكن الكرم يقتضي وجودها، كما
يقتضي وجود المطاعم..
قال: إن أردت هذا .. ففي كل بيت من
بيوت هذه المدينة محال خاصة بالضيوف، ولكنهم يعمرونها بالذكر والعلم والعمل.
قلت: أيجتمع الضيوف على موائد العلم
والذكر، لا الطعام والشراب.
قال: لا خير في طعام لا يحلى بالعلم،
ولا يذاب بالذكر.
قلت: والجماعات والحركات، والطرق
والتنظيمات، والأحزاب والنقابات .. أين مقارها، فإني لا أرى لها أي مقار .. أتراهم
يكبتون الحريات؟
قال: وما المقاصد التي تأسس لها ما
ذكرته من جماعات وتنظيمات .. فإن أهل هذه المدائن لا يرون في الأشياء إلا مقاصدها؟
قلت: النقد البناء والهدام ..
والحفاظ على حقوق الخواص والعوام.
قال: فكل فرد من مجتمع هذه المدائن
يقوم بهذا .. فهو ينقد ليصلح، ويهدم ما يفسد، ليبني على أساسه ما يصلح.
قلت: وجمعيات النساء والأطفال..
قال: وما دورها؟
قلت: الحفاظ على الحقوق المضيعة،
وإرجاع ما اغتصب الرجال من حقوق النساء، وما اغتصب الكبار من حقوق الأطفال.
قال: مجتمع أهل السلام لا يقسم الناس
على هذه الأسس، فهو ينظر إلى النساء والرجال والأطفال كإنسان، لا كأفراد أو أجزاء
من الإنسان.
قلت: وكيف ينظر إلى الإنسان؟
قال: ينظر إلى الإنسان الخليفة العبد
الذي رحل من الجنة إلى الأرض ليعمرها بعبادة الله، وينقل حضارة الجنة التي خرج
منها إلى الأرض.
قلت: ألهذا أدخل الله الإنسان الجنة
قبل أن ينزله إلى الأرض؟
قال: أجل .. لقد كانت فترة دخوله
الجنة فترة استكشاف ليؤسس من خلالها العالم الجميل الذي خلقه الله له.
قلت: وجمعيات حقوق الحيوان والبيئة؟
قال: كل فرد من أفراد مجتمع السلام
صديق ودود للكون، فالعلاقات بينهم في منتهى الرقة والجمال.
قلت: أيصادق أهل السلام الحيوانات؟
قال: والجمادات .. وكل ما خلق الله
..
قلت: لا أعرف من الصداقة إلا الصحبة
التي تحتاج إلى المشاكلة، فأي مشاكلة بين الإنسان وبين ما ذكرت.
قال: أليس الكل مخلوقا لله، ويسبح
الله، ويحن لمعرفته؟
قلت: بلى ..
قال: ألا يكفي كل هذا ليملأ حياتهم بالقواسم
التي تربط بينهم، وتجعلهم جميعا على قلب واحد؟
قلت: بلى ..
قال: فانظر إلى الكون نظر العبد
العابد يحول الله كل ذرة من ذراته صديقا ودودا يملأ حياتك بالأنس.
قلت: والأحزاب السياسية التي يتم
بموجبها اختيار الحاكم؟
قال: لقد عرف سكان مدائن السلام قيمة
الوحدة فيما بينهم، فلم يتفرقوا إلى أحزاب.
قلت: ولكن اختيار الحاكم يقتضي
وجودها.
قال: الحاكم يعينه صدقه وسلامه
وامتلاء قلبه بالرحمة.
قلت: ألا يتنافس الناس هنا على
الحكم؟
قال: إن الشدائد الشديدة التي
يعانيها الحاكم في مدائن السلام، وحياة الزهد التي يعيشها، جعلت أهل السلام يحمدون
الله على أن جعلهم رعية لا رعاة.
قلت: أليس لهم حاكما؟
قال: بلى .. وقد تقدم إلى حكمهم من
باب الإيثار، لا من باب الأثرة.
قلت: أين الجرائد، والمجلات، ووسائل
الاتصال .. ما لي لا أراها في هذه المدينة؟
قال: لهم كل ذلك .. ولكنهم لا
يملئونها بالفراغ واللهو واللغو الذي تملئونها به.
قلت: فبم يملئونها إذن؟
قال: بالعلم النافع، والسلوك الرفيع،
وبرفع الهمم إلى الله.
قلت: أليست مكتوبة في أوراق
كجرائدنا؟ .. فإني أرى أرض المدينة نظيفة من أي ورق.
قال: لقد ابتكروا وسائل كثيرة أغنتهم
عن كثير مما يملأ حياتكم بالعبث والتلوث.
قلت: ووسائل التنقل من السيارات
والحافلات وغيرها .. فإني لا أكاد أرى طرقا كطرقنا.
قال: لقد هداهم الله، فاخترعوا من
وسائل النقل ما يحفظ جمال الحياة والطبيعة، فلم يجرحوا الحقول بالطرقات، ولم
يخربوا الأنهار بالجسور، ولم يلوثوا الأجواء بالدخان القاتل.
قلت: فما هي التقنيات التي وصلوا بها
إلى ما وصلوا؟
قال: بتقنية الذي عنده علم من
الكتاب.
قلت: تقصد صاحب سليمان u
الذي قال:)
أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ((النمل:
من الآية40)
قال: أجل.
قلت: ألم يكن ذلك كرامة له؟
قال: لو كان ذلك كرامة له ما ذكر
الله أنه ممن أوتي من علم الكتاب.
قلت: أي كتاب ذكر فيه هذا؟
قال: كل ما تراه من علوم من علم
الكتاب.
قلت: والمحاكم .. أين المحاكم؟ ..
تلك الدور التي ينشر فيها العدل.
قال: أو يباع فيها العدل بالمزاد.
قلت: في أرضنا قد يحصل هذا .. وأنا
أسألك عن مدائن السلام.
قال: في هذه المدينة .. كما في كل
مدائن السلام يجتمع الناس على أهل الحل والعقد من أهل الاختصاص، ممن توفر فيهم
العلم والتقوى والسلام، ولهؤلاء محل خاص، هذا المحل هو قلب هذه المدينة النابض.
قلت: ما اسمه؟
قال: الجامع.
قلت: الجامع عندنا هو المسجد الذي
تقام فيه الجمعة.
قال: كذلك هنا .. تقام الجمعة
الجامعة في الجامع .. حيث يجتمع أهل المدينة جميعا كل أسبوع .. وفي هذا الجامع
توجد كثير من المرافق التي تتفرق في مدائنكم.
قلت: مثل ماذا؟
قال: مثل الاستشارات الشرعية،
والتربوية، والاجتماعية، والعلمية، وفيه يفصل في الخلاف الذي قد يقع، ونادرا ما
يقع.
قلت: فبم يفصل بينهم؟
قال: لديهم أساليب كثيرة في ذلك،
ستراها في حينها، فلا تعجل.
قلت: أليس لديهم سجونا؟
قال: الوقت أغلى عند أهل هذه المدائن
من كل شيء، فلذلك لا يحرمون المخطئين منه.
قلت: فماذا يفعلون معهم؟
قال: يدلونهم على كيفية تصحيح
أخطائهم، كما دل العالم من قتل مائة نفس.
قلت: فعلمني علوم ذلك.
قال: ستعرفها عند رحلتك لعيون
الطهارة .. فلا تعجل.
قلت: إن ما ذكرته من الجامع يستحيل
تحقيقه في مدائننا، فهي من السعة بحيث لا يكفيها أي محل.
قال: وأكثر مشاكلكم بسبب تعقد مدنكم.
قلت: ومدائن أهل السلام؟
قال: صغيرة بسيطة.
قلت: نحن نفخر بالمدن الكبيرة.
قال: وتتعذبون بها.
قلت: ولكنها تكبر تلقائيا.
قال: يضخمها صراعكم .. أرأيت العائلة
التي يكثر أولادها ويكبرون هل يظلون مع أسرهم يضيق بعضهم على بعض؟
قلت: كلا .. بل يلتمس كل واحد منهم
بيتا خاصا يؤسس على أساسه حياته.
قال: وهكذا فعل أهل مدائن السلام ..
كلما أحسوا بأن مدينة ستكبر، وتضيق فيها الحياة انتقلوا إلى غيرها، وأسسوا غيرها.
قلت: فكيف اهتدوا إلى هذا الحل؟
قال: لقد سمعوه من قوله تعالى:) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً
فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً(
(النساء:97)
قلت: ولكن هذا خاص بالمستضعفين، وهي
تدعوهم إلى الهرب ممن يستضعفهم.
قال: لقد سمعوا معها قوله تعالى:) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ
فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ((العنكبوت:56)، وقوله تعالى:) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ((الزمر:10)
قلت: صدقت .. فما أجمل الحياة في
المدن الصغيرة، وما أبسطها .. إن أكثر العقد سببها تضخم المدن.
قال: لو علموا عواقب الإسراف
وشموليته لما وقعوا فيما وقعوا فيه.
قلت: أهذا من الإسراف؟
قال: ألم تعلم أن الإسراف يشمل جميع
الحياة، وجميع أسباب الحياة.
قلت: بلى .. لقد عرفنا ذلك في مستشفى
السلام .. ذكرتني بالمستشفيات .. أين المستشفيات؟
قال: لقد زرت مستشفى السلام، وهو مستشفى
من مستشفيات مدائن السلام.
قلت: والشرطة .. لا أرى شرطة في
المدينة.
قال: كل أهل هذه المدينة شرطة.
قلت: ومن يحمي حاكمهم؟
قال: عدله.
قلت: وكيف يثبت عدله إن لم يتخذ شرطة
وسجونا؟
قال: يثبتها بسلوكه، ألم تقرأ كيف
كان عمر t ينام بين الرعية؟
قلت: أجل، وقد قال فيه حافظ شعرا
جميلا.
قال: فكذلك حكام هذه المدينة.
قلت: والفقراء .. أين الفقراء؟ ..
وأين ملاجئهم؟
قال: سكان هذه المدائن كلهم فقراء ..
وكل هذه المساكن ملاجئهم.
قلت: فمن يتصدق عليهم؟
قال: من افتقروا إليه؟
قلت: الله؟
قال: لو افتقروا إلى الخلق ما وهبهم الله
هذه المدائن.
قلت: أهذه المدائن كسب كسبوه أم هبة
وهبوها؟
قال: الهبات لا تعطى للكسالى.
قلت: فهل لهذه المدينة من أعداء
يتربصون بها.
قال: لقد كان لهم أعداء كثيرون؟
قلت: فكيف انتصروا عليهم؟
قال: بحصون تحصنوا بها.
قلت: فما هي؟ .. دلني عليها، فما
أحوج المستضعفين من قومي إلى التحصن من أعدائهم الذين يتربصون بهم.
قال: سنقوم برحلتنا إلى هذه الحصون
في رحلتنا القادمة.
قلت: هل سنرحل في الدرس القادم إلى (
حصون المستضعفين )[171]؟
قال: أجل .. فقد انتهينا من مفاتيح
المدائن.
([8])
انظر: ردّ د.السالوس في كتابه: الاقتصاد الإسلامي
والقضايا الفقهية المعاصرة 1 / 330 –356 دار الثقافة بقطر الطبعة الأولى 1416هـ
ويتضمن الكتاب الرد على من أجاز الفوائد الربوية مثل د.عبد المنعم نمر و
د..الفنجري وغيرهم .
([9])
انظر: رفع الحرج لابن حميد ص 312 و 313 ؛ تزييف الوعي لفهمي هويدي ص 79، دار الشروق،
الطبعة الثالثة 1420 هـ فقد نقل عن د.محمد
فرحات عدم ملائمة حد السرقة وتحريم الربا للواقع والمصلحة.من خلال كتابه ( المجتمع
والشريعة والقانون ) ص 78 و88.
([17])
انظر: قواعد ابن رجب القاعدة 127، 2 / 597
تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عثمان،
الطبعة الأولى 1419هـ .
([20] ) ذكر ذلك في دراسة له
عنوانها: كارثة الفائدة، ترجمها الدكتور أحمد النجار، ونشرت في مجلة الاقتصاد
الإسلامي، عدد (194)، ص 54.
([26] ) نص الفقهاء على أن
العلة في تحريم هذه الأشياء وما شاكلها هو حسم مادة الربا، لأنه لا يعلم التساوي
بين الشيئين قبل الجفاف، فالجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرموا أشياء
بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه.
([29] ) يقول سيد قطب عن هؤلاء:« فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام
التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية أن يقصروا
التحريم على صورة واحدة من صور الربا - ربا النسيئة - بالاستناد إلى حديث أسامة , وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية.وأن يحلوا - دينيا - وباسم الإسلام! - الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية!
ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون
ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية.. فالإسلام ليس نظام شكليات.إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل.فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم صورة منه دون
صورة.إنما كان يناهض تصورا يخالف تصوره ; ويحارب عقلية لا تتمشى مع عقليته.وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضل إبعادا لشبح العقلية الربوية والمشاعر
الربوية من بعيد جدا!
ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام.سواء
جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكال جديدة.ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية , أو تتسم بسمة العقلية الربوية.. وهي عقلية
الأثرة والجشع والفردية والمقامرة.وما دام يتلبس بها ذلك الشعور الخبيث.شعور الحصول على الربح بأية وسيلة!
فينبغي أن نعرف هذه الحقيقة جيدا.ونستيقن
من الحرب المعلنة من الله ورسوله على المجتمع الربوي
»
([30] ) فوظيفة البنك -كما
يحددها أهل الاختصاص - ما هي إلا التعامل في الديون أو القروض أو الائتمان، ويشمل هذا
التعامل شقين:
الأول: الاتجار في الديون والقروض والائتمان.
والثاني: خلق الديون
والقروض والائتمان.
والدين والائتمان هما
وجها القرض، فمن وجهة نظر المدين يسمى ديناً، ومن وجهة نظر الدائن يسمى ائتماناً.
([31] ) البنوك التجارية ما هي
إلا واسطة بين المودع والمقترض: فهي تأخذ الوديعة من صاحبها وتحدد له نسبة مئوية
سنوية معلومة من قيمة هذه الوديعة، ثم
تعطي هذه الوديعة لمن يريد استثمارها أو لمن هو محتاج إليها في ضروراته بنسبة
مئوية سنوية أعلى والفرق بين النسبتين هو الذي يعيش عليه العاملون في البنوك، وإذا
شارك البنك في تأسيس شركة أو مصنع فإنه يشتري أسهماً محددة بنسبة ضئيلة يحددها
القانون ويفرض على البنك أن يكون الجزء الأكبر من أمواله قابلاً للسيولة السريعة.
وعلى هذا يكون من الظلم والافتراء افتراض أن
البنك يعمل بنظام المضاربة الشرعي، فالمضاربة الشرعية هي ما عبر عنها ابن رشد بقوله:« أجمعوا
على صفتها أن يعطي الرجل الرجل المال على أن يتجر فيه على جزء معلوم يأخذه العامل
من ربح المال أيّ جزء كان مما يتفقان عليه:
ثلثاً أو ربعاً أو نصفاً »
([35] ) أحمد 5/ 225، و
الطبراني في الأوسط (2682)، و الدراقطني (92819)، قال الهيثمي: رواه أحمد
والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح 4/117.
([42] ) حسون: تماضر، 1411هـ،
وسائل الاتصال الجمعية وانحراف الأحداث في الوطن العربي، مجلة الأمن العدد الثالث،
وزارة الداخلية، المملكة العربية السعودية، الرياض، ص 111 - 135 .
([43] ) محمود: إبراهيم إمام،
موقف الإعلام من التحدي القائم بين الحضارة الحديثة والشباب العربي، المركز العربي
للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض،
1408هـ، ص 53 .
([47] ) من الحوافز الصالحة
التي قد يرغب الشرع في استعمالها ما يسمى بـ:«
الرد الترغيبي » وهو ما يستعمله بعض التجار وأصحاب المحلات
لترويج سلعهم .. ويكون ذلك بإعطاء المشتري الحق في رد السلعة وأخذ
ثمنها، أو برد السلعة واستبدال غيرها بها، أو تقييد ثمنها لحساب المشتري.
وهذا يشبه ما يسميه
الفقهاء خيار الشرط، وهو خيار يثبت للعاقدين، أو لأحدهما حق فسخ العقد بالاشتراط،
ويشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي
يخدع في البيوع:« من بايعت فقل: لا
خلابة، ثم أنت بالخيار »، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للمشتري اشتراط
الخيار في هذا الحديث، فدلّ ذلك على جوازه.
ويشير إلى ذلك أيضا
قوله - صلى الله عليه وسلم -:« المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما
لم يتفرقا، إلا بيع الخيار »، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت الخيار
للمتبايعين قبل التفرق، وبعده إذا كان البيع بيع خيار، كما جاء مصرحاً في بعض
روايات هذا الحديث، فدلّ ذلك على أن اشتراط الخيار جائز.
ومن الحوافز ما يسمى «
الضمان الترغيبي »، هو ضمان صلاحية المبيع وقيامه بالعمل سليماً مدة معينة، بحيث
إذا ثبت صلاحه وسلامته فيها غلب على الظن صلاحه فيما بعد، وبموجَب هذا الضمان
يتعهد البائع بإصلاح الخلل المصنعي والفني الطارئ على المبيع أو تبديل غيره به إذا
اقتضى الأمر تبديله.
وهذا النوع من الضمان
الترويجي يستعمل غالباً في بيع المواد والآلات التي تتميّز بدقة في الصنع، وسهولة
تعرض أجزائها للخلل، كالسيارات، والأجهزة الكهربائية على اختلاف أنواعها،
والساعات، والمعدات، والسلع الاستهلاكية المعمرة، وما أشبه ذلك.
ومما يتميز به هذا
الضمان الترويجي أنه شامل لأي خلل فني أو مصنعي في المبيع، حتى لو لم يكن هذا
الخلل عيباً، فيكفي لثبوته كون المبيع غير صالح للعمل. كما أن هذا الضمان لايتعارض
في الحقيقة مع ضمان البائع للعيوب الخفيّة، فالبائع للعيوب الخفية، ولو لم يكن من
شأنها جعل المبيع غير صالح للعمل.
ومما ينبه إليه أن
ضمان الأداء، وجميع أنواع الضمان الترويجية لاتضمن العيوب، أو عدم صلاحية المبيع
التي تنشأ عن سوء استعمال المشتري، أو عدم عنايته بالمبيع، ولذلك فإن بعض السلع
التي يحتاج إلى صيانة يشترط للعمل بالضمان فيها التزام المشتري بجدول الصيانة
المقترح.
والنوع الثاني هو ضمان
معايير الجودة وهو ضمان يتعهد فيه المنتج بأن سلعته تتمشى من حيث الجودة
والمواصفات مع الخصائص والقياسات التي وضعتها هيئات حكومية أو صناعية واعترف بها
وهذا النوع من الضمان
الترويجي يعلن عنه غالباً بوضع علامات أو أحرف أو أرقام على الغلاف الخارجي
للسلعة، وذلك يبين للمستهلك مطابقة هذه السلعة للمواصفات والخصائص القياسية للجودة.
وهذا النوع من الضمان الترويجي يستعمل غالباً في المنتجات الغذائية، والأدوية، وما
أشبه ذلك، وقد يُستعمل في السيارات وغيرها من المنتجات.
انظر: إدارة التسويق للدكتور
بازرعه (2/172)، ضمان عيوب المبيع الخفية للدكتور دياب ص (317) .
([59] ) اختلف المفسرون في
الفرق بين كلمتي الضياء والنور,فالبعض منهم اعتبرهما مترادفتين وأن معناهما واحدا,
والبعض الاخر قالوا: ان الضياء استعمل في ضوء الشمس فالمراد به النور القوي , اما
كلمة النور التي استعملت في ضوء القمر فانها تدل على النور الاضعف، والتفسير العمي
الحديث ذهب إلى ما ذكرناه هنا.
([61] ) استفدنا المعلومات
الوادة هنا من: الأوقاف في العصر الحديث: كيف نوجهها لدعم الجامعات وتنمية مواردها
(دراسة فقهية)،د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح.
([67]) ينظر: البداية والنهاية 16/16، 19، 74،
102، 176، 217، 233، 341، و17/85، 106، 159، 465، ط. دار هجر، والمواعظ والاعتبار
للمقريزي 2/233، وطبقات الشافعية للأسنوي 2/26، ورحلة ابن جبير ص16، ومقدمة ابن
خلدون 1/88 .
([72]) ينظر: البداية والنهاية 16/13، 86، 118،
198، 275، 336، 383، 490، 532، 716، و17/5، 47، 61، 78، 169، 221، 258، 314، 349،
ط. دار هجر .
(1) الترمذي كتاب صفة القيامة رقم (2452) وقال هذا حديث حسن غريب
في سنده أبو فروة وهو ضعيف وأخرجه الحاكم. وقال صحيح لكن نوزع. تحفة الأحوذي
(7/146)
[87] رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
(2) روي الحديث بطرق مختلفة
وكلها ضعيفة أو موضوعة، قال في نصب الراية:« رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده من
حديث بقية بن الوليد عن زرعة بن عبد الله الزبيدي عن عمران بن أبي الفضل الأيلي عن
نافع عن بن عمر مرفوعا نحوه سواء قال بن عبد البر هذا حديث منكر موضوع، وقد روى عن
بن جريج /عن بن أبي مليكة عن بن عمر مرفوعا مثله ولا يصح عن بن جريج انتهى ورواه
بن حبان في كتاب الضعفاء وأعله بعمران بن أبي الفضل وقال إنه يروي الموضوعات عن
الأثبات لا يحل كتب حديثه انتهى ورواه بن عدي في الكامل وأعله بعمران وأسند تضعيفه
عن النسائي وابن معين ووافقهما وقال الضعف على حديثه بين انتهى وقال بن القطان قال
أبو حاتم هو منكر الحديث ضعيفه جدا»نصب الراية:3/398، وانظر:فيض القدير:4/398،
العلل المتناهية:2/618، الدراية تخريج أحاديث الهداية:8/63.
([110]) محمد أمين، الأوقاف والحياة الاجتماعية في
مصر (648-923) دراسة تاريخية وثائقية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1980م، ص169.
([111]) سعيد عاشور، المؤسسات الاجتماعية في الحضارة
العربية في (موسوعة الحضارة العربية الإسلامية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
بيروت، 1987م، ج3،ص342، ص349-353.
([120] ) ابن ماجة عن ابن عمر
وعبد الرازق عن أبي هريرة والطبراني عن جابر والحكيم الترمذي عن أنس وطرقه ضعيفة
ولكن يقوي بعضها بعضًا.
([130] ) إشارة إلى قوله ':) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا
بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ(
(المائدة:28)
([131] ) انظر: تنقيحات، أبو
الأعلى المودودي، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي، ص
177هامش.
([137] ) ويكفي للدلالة على ذلك
قوله ':) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا (
(إبراهيم الآية 35)، فقد سأل إبراهيم u الأمن للبلد الحرام، وقال ' وهو يبشر عباده المؤمنين:) وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ((النور الآية 55)، وقال ' يقرن نعمة الرزق بنعمة الأمن:) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً
يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ
فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ((النحل:112)
([138] ) قال ابن إسحاق: حدثني
محمد بن جعفر بن الزبير، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثة إلى مؤتة
في جمادى الأولى سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن
أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس .
(2) اختلف العلماء في
المزين في هذه الآية على أقوال كلها وجوه صحيحة يمكن القول بها:
القول الأول: أن المزين
هو الله تعالى، ومن الأدلة على ذلك:
1. أن خالق
جميع الأفعال هو الله تعالى، بالإضافة إلى أنه لو كان المزين هو الشيطان، فمن الذي
زين الكفر والبدعة للشيطان، فإن كان ذلك شيطاناً آخر لزم التسلسل، وإن وقع ذلك من
نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن كذلك الإنسان، وإن كان من الله تعالى، فليكن في
حق الإنسان كذلك، وفي القرآن إشارة إلى هذه النكتة في سورة القصص في قوله ':) رَبَّنَا
هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا(( القصص: 63 ) يعني إن اعتقد أحد أنا أغويناهم فمن الذي أغوانا.
القول الثاني: أن الشيطان
هو الذي زين لهم، ومن الأدلة على هذا:
1. أنه تعالى أطلق حب
الشهوات، فيدخل فيه الشهوات المحرمة ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان.
2. أنه تعالى ذكر
القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وحب هذا المال الكثير إلى هذا الحد لا يليق إلا
بمن جعل الدنيا قبلة طلبه، ومنتهى مقصوده، لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة.
3. قوله ':) ذلك متاع
الحياة الدنيا (
ولا شك أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا والذم للشيء يمتنع أن يكون
مزيناً له.
4. قوله ' بعد هذه الآية:) قُلْ
أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم (( آل عمران: 15 ) والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا
وتقبيحها في عينه، وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه .
القول الثالث: أن
المزين لهذه الأشياء هو الله واحتجوا عليه بوجوه أحدها:
2. أنه تعالى كما رغب
في منافع الآخر فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده، وإباحتها للعبيد تزيين لها،
فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهى، وخلق للمشتهي علماً بما في تناول المشتهى من
اللذة، ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزيناً لها.
3. أن الانتفاع بهذه
المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة، والله تعالى قد ندب إليها، فكان مزيناً لها.
4. أن القادر على
التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة
كان أكثر ثواباً، فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب
الآخر.
القول الثالث: أن كل ما
كان من هذا الباب واجباً أو مندوباً كان التزيين فيه من الله تعالى، وكل ما كان
حراماً كان التزيين فيه من الشيطان.
([161] ) مسلم في صحيحه برقم (1467)
والنسائي في السنن (6/69) وابن ماجه في السنن برقم (1855) من حديث عبد الله بن
عمرو بن العاص رضي الله عنه.
([163] ) النسائي في الكبرى (4404) من طريق
سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك، به. وله شاهد من حديث معقل بن يسار، رواه أحمد في
مسنده (5/27).
([165] ) يظهر من هذه النصوص أن
النهي عن زواج العقيم ليس من باب التشريع، وإنما هو من باب المشورة، وإلا فإنه لا
خلاف في صحة الزواج من العقيم، بل ويستحب ذلك إن كانت امرأة صالحة، وقصد من زواجه
منها تحصينها، خاصة مع تشريع تعدد الزوجات، لأن من أغراضه ومقاصده الأصلية تزويج
ذوي الحاجة من النساء.
([168] ) اختلف المفسرون في
مقدار القنطار على أقوال، منها: أنه المال الجزيل، كما قاله الضحاك وغيره، وقيل:
ألف دينار. وقيل: ألف ومائتا دينار. وقيل: اثنا عشر ألفا. وقيل: أربعون ألفا.
وقيل: ستون ألفا وقيل: سبعون ألفا. وقيل: ثمانون ألفا. وقيل غير ذلك.
وقد روى أحمد عن أبي
هريرة t قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« القِنْطَارُ اثْنَا
عَشَرَ ألْف أوقيَّةٍ، كُلُّ أوقِيَّةٍ خَيْر مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ »
وروي عن أبيّ بن كعب t، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« القِنْطَارُ ألْفُ
أوقِيَّةٍ ومائَتَا أوقِيَّةٍ »
قال ابن كثير: وهذا
حديث منكر، والأقربُ أن يكون موقوفا على أبي بن كعب، كغيره من الصحابة.
وعن أنس بن مالك قال:
سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الآية، فقال:« القِنْطَارُ ألفا
أُوقِيَّةٍ »، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
([170]) وردت النصوص بالنهي عن
المبالغة في زخرفة المساجد، فقد روى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن
حبان عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« لا تقوم الساعة حتى يتباهى
الناس بالمساجد »، ولفظ ابن خزيمة:« يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد ثم لا
يعمرونها إلا قليلا »، وروى أبو داود وابن حبان وصححه عن ابن عباس أن النبي - صلى
الله عليه وسلم -:« ما أمرت بتشييد المساجد » زاد أبو داود: قال ابن عباس
لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى، وروى ابن خزيمة وصححه: أن عمر t أمر ببناء المساجد فقال:« أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو
تصرف فتفتن الناس » رواه البخاري معلقا.