المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: مفاتيح المدائن |
الناشر: دار الكتاب
الحديث |
الفهرس
خرجنا
من أبواب التدريب لندخل أبواب المال، قلت للمعلم: سندخل الآن بنوك هذا القصر، فنرى
ما تحتويه من ثروات .. لست أدري ما العملة التي يتعامل بها سكان هذه المدينة؟
قال:
ليس المهم السؤال عن العملة، إنما السؤال المهم: من أين تأتي، وإلى أين تذهب؟
قلت:
أنت تقصد العبارة المشهور عن المال:( أن يؤتى من حله ويوضع في محله )
قال:
أجل فهذه علاقة الورعين مع المال.
قلت: وهل
للورعين مال حتى تكون لهم علاقة معه!؟.. إنهم والمال كخطين متوازيين لا يلتقيان
مهما سارا، ألم تسمع ما يروي أصحاب الأناجيل عن المسيح u
من أن شاباً غنياً أراد أن يتبع المسيح u، ويدخل في دينه، فقال له:( بع أملاكك ثم اعط ثمنها للفقراء، وتعال
اتبعني )، فلما ثقل ذلك على الشاب قال المسيح:( يعسر أن يدخل غني ملكوت السموات ..
أقول لكم أيضاً:( إن دخول جمل في ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غيى ملكوت الله)
قال: صدق
المسيح u .. ولكن الشأن ليس في قوله، وإنما في فهمكم لكلامه.
قلت: كلامه
واضح .. لا يحتاج إلى أي تأويل .. لقد بين استحالة دخول الأغنياء ملكوت الله.
قال: لا .. هو
لم يبين الاستحالة، وإنما بين الصعوبة .. فللأغنياء من الحجب والحوائل ما قد
يصرفهم عن الحق، ولهذا اشتد على هذا الغني أن يخرج من ماله مع أن اتباعه للمسيح u
خير من ماله .. وقد كان المسيح u يقصد امتحانه بذلك ليرى مدى شوقه لاتباعه، فلما وجد حنينه للمال
أعظم من حنينه للحق تركه.
قلت: لقد عرفنا
في الكنز الأول من كنوز الفقراء أن أكثر من يتبع الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام
ـ هم الطبقات المنبوذة من المجتمع، وقد كان غالب من اتبعه - صلى الله عليه وسلم - في أول بعثته ضعفاء
الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء، كما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان حين
سأله عن تلك المسائل فقال له: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم،
فقال: هم أتباع الرسل.
وقد حكى الله تعالى عن قوم نوح u أنهم قالوا
لنوح u:) وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا
الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ
فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ( (هود: من
الآية27)
قال: وهذا لا يعني
عدم اتباع غيرهم للحق .. فالحق ليس حكرا على أجد .. أليس عبد الرحمن بن عوف من
أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
قلت: بلى، بل
هو من العشرة المبشرين بالجنة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( أنا في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في
الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وطلحة في
الجنة والزبير في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة )[1]
قال: فهل كان
غنيا؟
قلت: بل من
أكابر الأغنياء، بل كان يجري المال في يده جريا حتى أنه روي أنه لما توفي كان فيما
ترك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه، وقد روى ابن سعد في طبقاته أن إحدى
نسائه الأربع صولحت على نصيبها من التركة - وهو ربع الثمن (1/32) فكان ( 000ر80)
ثمانين ألفاً )
قال: فهل صرفه
ذلك عن الله؟
قلت: كلا .. لم
يصرفه بدليل أنه كان من السباقين إلى الإسلام .. ولكن في نفسي شيء أستحيي من ذكره؟
قال: ما هو؟
قلت: لقد روي
أنه يدخل الجنة حبوا، ولو أن النصوص تكلم فيها المحدثون إلا أن في نفسي منها شيء.
قال: فاروها
لي.
قلت: روي عن
أنس t قال بينما عائشة ـ رضي الله عنها ـ في بيتها إذ سمعت صوتا
رجت منه المدينة فقالت:( ما هذا؟) قالوا:( عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف من الشام )
وكانت سبعمائة راحلة فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول:( رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا )، فبلغ ذلك عبد الرحمن، فأتاها
فسألها عما بلغه فحدثته، قال:( فاني اشهدك انها باحمالها واقتابها واحلاسها في
سبيل الله عز وجل )[2]
قال: وما الذي
أزعجك من هذا حتى استحييت من ذكره؟
قلت: ما ورد
فيه من دخوله الجنة حبوا .. وهو ما يستدل به بعض قومي على تفضيل الفقر على الغنى.
قال: ألم يخبر
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يدخل الجنة .. وأنه من العشرة المبشرين بالجنة
.. وأنه بذلك سينال الدرجات العيا من الجنة .. وأنه ..
قلت: ولكن ما
معنى دخوله الجنة حبوا.
قال: لتفهم هذا
أجبني: لو أن شخصا نزل الدنيا، فاقتصر من دينه على الصلاة والصيام، ولم تكن له مع
الناس أي علاقة حتى مات، وقد أمن الناس شره كما يئسوا من خيره .. ما طول حسابه؟
قلت: ربما لا
يحاسب طويلا، فالحساب الطويل مع الحقوق الكثيرة.
قال: ولو أن
شخصا تولى مسؤوليات ضخمة تعلقت بالجم الغفير من الناس .. أيحاسب أم لا؟
قلت: أجل ..
سيحاسب، وسيطول حسابه، ولهذا كان عمر t يخشى ذلك ويقول:( لو عثرت بغلة بالعراق لخشيت أن يحاسبني الله
عليها )
قال: ألم يخبر
القرآن الكريم أن عيسى u، وهو رسول الله يسأل عما قال قومه، مع أنهم قالوه بعد رفع الله
له؟
قلت: بلى، فقد
قال تعالى:) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ
سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ
قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ( (المائدة:116)
قال: فهكذا
ينبغي أن تفهم ما روي من هذا الحديث، فدخوله حبوا يعني طول حسابه، ودخوله الجنة
دليل على أنه نجح في امتحان الحساب، ولهذا عندما سمع عبد الرحمن بن عوف t
بالحديث لم يتغير، ولم يركن إلى اليأس، بل قال:( فإني اشهدك انها باحمالها
واقتابها واحلاسها في سبيل الله عز وجل )[3]،
وفي رواية أخرى قال:( إن استطعت لأدخلنها قائما ) أتدري ما مثله في ذلك؟
قلت: ما مثله
في ذلك؟
قال: إن مثله
مثل من قيل له: إن امتحان مادة ما صعب جدا، فلم ييأس وإنما ذهب وراجع مراجعة
تتناسب مع صعوبة ذلك الامتحان .. ثم أجبني: هل غير المال شخصية عبد الرحمن؟
قلت: لا، بل
روي عن سعيد بن حسين قال:( كان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين عبيده )
قال: فهل كان ينظر إلى غناه كما ينظر قارون إلى
غناه؟
قلت: كلا .. بل
كان يحن إلى أصحابه الفقراء، ويبكي خوفا على أن يخلف به دونهم، فقد وري أنه أتي
بطعام، وكان صائما فقال:( قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني كفن في بردة ان غطي رأسه
بدت رجلاه وإن غطي رجلاه بدا رأسه واراه، وقتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد له ما
يكفن فيه إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وأعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد
خشينا ان تكون حسناتنا عجلت لنا )، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام )[4]
وروي عن نوفل
بن اياس الهذلي قال: كان عبد الرحمن لنا جليسا، وكان نعم الجليس، وأنه انقلب بنا
يوما حتى دخلنا بيته ودخل فاغتسل، ثم خرج فجلس معنا، وأتينا بصحفة فيها خبز ولحم،
فلما وضعت بكى عبد الرحمن بن عوف، فقلنا له: يا أبا محمد ما يبكيك؟ فقال:( هلك
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ولا أرانا
أخرنا لها لما هو خير لنا )
قال: فهل كان
كريما بماله؟
قلت: بل، لم
يكن يساوي ما يعطيه الله من فضل إلا ما يخرجه من إحسان، وقد روي أنه باع أرضا له
من عثمان بأربعين ألف دينار فقسم ذلك المال في بني زهرة وفقراء المسلمين وامهات
المؤمنين، وبعث إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ وغيرها بمال من ذلك المال فقالت عائشة
ـ رضي الله عنها ـ:( أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:( لن
يحنو عليكن بعدي إلا الصالحون، سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة )
وعن الزهري t
قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف t على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشطر ماله أربعة آلاف،
ثم تصدق باربعين الفا، ثم تصدق باربعين الف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل
الله تعالى، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله تعالى، وكان عامة ماله من
التجارة )
وروي عن جعفر
بن برقان قال: بلغني ان عبد الرحمن بن عوف اعتق ثلاثين ألف بيت.
قال: فهل كان
ماله خيرا وبركة على المسلمين .. أم شرا ووبالا؟
قلت: بل كان
خيرا وبركة، وقد جلب له الدعوات الصالحات، وجعله نموذجا صالحا للغني المسلم.
قال: ولذلك
سندخل هذا الباب من باب عبد الرحمن بن عوف، فهو أمير هذا الباب.
قلت: كنت أحسب
أنا قد شردنا عن الباب بالدفاع عن عبد الرحمن بن عوف.
قال: عبد
الرحمن بن عوف t والصالحون جميعا أعظم شأنا من أن يحتاجوا لمن يدافع عنهم .. لقد
كنا نبحث في سيرته t عن نموذج الغني المسلم.
قلت: فما
النظرة الإيمانية الشرعية التي تجعل من أغنيائنا نماذج من قالب ابن عوف t؟
قال: أربعة
أركان من الحقائق إذا امتلأ بها قلب الغني ووعيه صار ممن قال فيهم - صلى الله عليه
وسلم -:( نعما بالمال الصالح للرجل الصالح )[5]
قلت: فما هي؟
.. فقد شوقتني إليها كما شوقتني إلى اكتساب المال من حله ووضعه في محله.
قال:
الاستخلاف، والاسثمار، والتداول، والحفظ.
قلت: أليست هذه
الأبواب المقابلة هي أبواب هذه المعاني؟
قال: بلى ..
فهلم إليها ..
اقتربنا من الباب الأول من أبواب المال، فقال المعلم: هذا
باب الاستخلاف، وهو أول باب من أبواب المال، ولا يصح دخول سائر الأبواب إلا بعد
حمل ترخيص منه.
قلت للمعلم: لماذا تتشدد هكذا؟
قال: هذا ليس تشددا .. هذه حقيقة، فالاستخلاف هو التصور
الذي ينطلق منه المؤمن في تعامله مع المال، والتصور أساس التصرف.
قلت: فما حقيقته؟
قال: أن يعلم المؤمن أن المال مال الله، وأنه مجرد خليفة
عليه، لا مالك له.
قلت: أجل، فالقرآن الكريم يقرر ملكية الله للمال، فقد قال تعالى:)
وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ( (النور: من
الآية33)
وهناك نصوص تفيد هذا المعنى، فكل شيء ملك لله، لأنه من خلق
الله، قال تعالى:) وَلِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ( (آل عمران:109)، وقالتعالى:) أَلا إِنَّ
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ( (يونس:55)، وقالتعالى:) لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ( (لقمان:26)
بل صرح القرآن
الكريم بأن الله تعالى جعل الإنسان خليفة على هذا المال، فقال:) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ
كَبِيرٌ( (الحديد:7)
وأخبر القرآن
الكريم أن المال الواصل لخلقه هو من الله، فقال تعالى:) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا
بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( (آل عمران:180)، وقالتعالى:) وَمِنْهُمْ
مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ
وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ( (التوبة:75 ـ
76)
.. ولكن يا معلم لقد نسب الله تعالى الأموال للعباد في أكثر مواضع القرآن الكريم:
فالله تعالى يقول عن المنفقين:) الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( (البقرة: من
الآية262)،
ويقول:)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ
كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ
فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( (البقرة:265)
ويقول في تحريم الربا:) فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ
فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ( (البقرة:279)
ويقول في الحجر
على السفهاء:)
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا
وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً( (النساء:5)
ويقول في مال
اليتيم:)
وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ( (الأنعام: من
الآية152)،
ويقول:)
وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ( (الاسراء: من
الآية34)
قال: لا تعارض بين النسبتين.
قلت: كيف؟
قال: أرأيت لو وهبت لك هبة .. أليست الهبة هبتي.. وهي مع
ذلك ملك لك تستطيع أن تنسبها لنفسك.
قلت: فإذن أستطيع أن أتصرف بها كما أشاء.
قال: لا .. لأن الواهب شرط عليك أن لا تتصرف في هبته إلا
بما فيه المصلحة.
قلت: ولكن الله غني عنا.
قال: بما فيه مصلحتك ومصلحة المجموع لا مصلحتك وحدك.
قلت: اشرح لي هذا .. فإني لا أكاد أفهم.
قال: قبل أن أشرح لك أريد أن أسألك عن موقف قومك من ملكية
المال .. فهي أصل مواقفهم من كسبه وصرفه وأصل أخطائهم في ذلك.
قلت: قومي يختلفون .. هناك من يرى الملكية الفردية، ولا يحد
لها أي حدود، ويجعل صاحبها حرا في التعامل مع ماله يوجهه حيث يشاء، وهناك من يرى
عكس ذلك، وهناك من يحاول التوسط.
قال: فما تقول الطائفة الأولى؟
قلت: هذه الطائفة تعظم المال وتجعله عصب الحياة أو ركنا من
أركان الحياة، وقد قال أحد مؤسسيها[6]:( يوجد في
العالم ثلاثة اختراعات عظيمة هي الكتابة والنقود والجدول الاقتصادي )
بل تعتبر الملكية الفردية غريزة لا تختلف عن سائر الغرائز،
يقول مؤسس آخر[7]
لهذه الطائفة عن الملكية الفردية:( وهذه الملكية حق من حقوق الطبيعة وغريزة تنشأ
مع نشأة الإنسان، فليس لأحد أن يعارض هذه الغريزة )
قال: هذا كلام صحيح، فالنقود من نعم الله على عباده، وهي قوام
المعيشة، وعصب الحياة، ألم تقرأ قوله تعالى:) وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ( (النساء: من
الآية5)
وقد سمى القرآن
الكريم المال خيراً في مواضع منه، فقال تعالى:) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ( (العاديات:8)، وقالتعالى:) يَسْأَلونَكَ
مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا
تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ( (البقرة:215)، وقالتعالى:) كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ( (البقرة:180)
واعتبر الغنى
من نعم الله على عباده، فقد امتن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله:) وَوَجَدَكَ عَائِلاً
فَأَغْنَى( (الضحى:8)، وقال
نوح u لقومه يبشرهم بثمرات الاستغفار:) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً( (نوح:12)، وامتن
على بني إسرائيل بقوله:)
ثُمَّ
رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ
وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً( (الاسراء:6)،
وأخبر آثار التقوى، فقال:)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ( (لأعراف:96)
قلت: ولكنهم
يبالغون في طلبه والإكثار منه.
قال: لا حجر في
الإكثار وفي الطلب إن كان بالطرق الشرعية، ألم تسمع قول إخوة يوسف u:) مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ
أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ( (يوسف: من
الآية65)، ألم تسمع ما قال العبد الصالح لموسى u:)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا
أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ( (القصص: من
الآية27)
صحت، وقد اشتد
علي ما أسمعه من المعلم: لقد أدى بهم الجشع والحرص على الاستكثار من المال إلى
أمور خطيرة.
قال: وماهي؟
قلت: لقد جرهم
لهثهم وراء المال إلى أنانية مفرطة، حيث يتحكم فرد أو أفراد قلائل بالأسواق
تحقيقاً لمصالحهم الذاتية دون تقدير لحاجة المجتمع أو احترام للمصلحة العامة.
وهم في سبيل
كسب المال لا يبالون بالطرق التي يحصلون بها عليه، فهم محتكرون خبيرون بالاحتكار،
يقومون باحتكار البضائع وتخزينها حتى إذا ما فقدت من الأسواق نزلوا بها ليبيعوها
بسعر مضاعف يبتزون به المستهلكين الضعفاء.
وهم يجعلون من
الحياة ميدان سباق مسعور، كل هم المتسابقين فيه إحراز الغلبة، والحياة عندهم لا
تختلف عن حياة الغاب، حيث يأكل القوي فيها الضعيف.
وهم يجعلون
العمال البسطاء خاضعين لمفهومي العرض والطلب، مما يجعل العامل معرضاً في كل لحظة
لأن يستبدل به غيره ممن يأخذ أجراً أقل أو يؤدي عملاً أكثر أو خدمة أفضل.
والبطالة عندهم
ظاهرة مألوفة، وتبرز أكثر إذا كان الإنتاج أكثر من الاستهلاك، مما يدفع بصاحب
العمل إلى الاستغناء عن الزيادة في هذه الأيدي التي تثقل كاهله.
وهم يجعلون
الحياة محمومة بالصراع، حيث نجد طبقتين: إحداهما مبتزة يهمها جمع المال من كل
السبل، وأخرى محروقة تبحث عن المقومات الأساسية لحياتها، دون أن يشملها شيء من
التراحم والتعاطف المتبادل.
بل هم فوق
ذلك ـ وبدافع البحث عن المواد الأولية،
وبدافع البحث عن أسواق جديدة لتسويق المنتجات ـ يدخلون في صراع مع الشعوب المختلفة
يستعمرونها ويتسرقون شعوبها ويسخرون كل ما فيها لمصلحتهم.
قال: ما هي تصوراتهم التي جعلتهم يتطرفون كل هذا التطرف؟
قلت: هم يتصورون بأن المال مالهم، كسبوه بعرقهم وجهدهم أو
ورثوه عن أهلهم وأقاربهم .. ولا يحق لغيرهم أن يشاركهم فيه.
قال: أتقصد ( القارونية ) التي قال مؤسسها، أو المعبر عنها:) إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ
عِنْدِي( (القصص: من الآية78) جوابا لمن
ذكره بأن المال مال الله، وينبغي أن يسير فيه بما أراد الله فقال له:) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ
اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ
كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ
اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ( (القصص:77)
أو تقصد ما قال قوم شعيب u:) يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ
أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا
نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ( (هود: من
الآية87)
قلت: بل أقصد طائفة عصرية هي أكبر الطوائف عددا وأكثرها
أموالا تسمى ( الرأسمالية )
قال: وما تقول هذه الطائفة .. لم أرها مذكورة في كتب (
الملل والنحل)
قلت: هذه الطائفة لا علاقة لها بالدين، ولا تهتم له، ولا
تهتم به، إنما تحصر اهتمامها في المال.
قال: إذن هي من طائفة ( عبدة المال ) التي نص عليها قوله -
صلى الله عليه وسلم -:( تعس عبد الدينار )
قلت: لقد ذكرتني بما روى سيد قطب عن نفسه أنه أثناء زيارته
لأمريكا كان ذات مرة جالساً في حديقة فاقترب منه رجل أبيض، وسأله: من أين أنت؟
فأجاب سيد: من مصر، فرد عليه قائلاً: إذن أنت مسلم، قال: نعم، قال: إذن حدثني عن الإسلام،
فأخذ سيد يحدثه عن الإسلام، والرجل منصت باهتمام حتى أنهى سيد حديثه، عندها قال
الرجل: جميل ما قُلته، ولكن الدولار هو الإله الوحيد الذي أعرفه!!
قال: أمثل هؤلاء لا زالوا يحملون صفة ( الإنسان ) .. لقد
محى الله هذه الصفة على من لا يعرفه، فقال:) أَمْ تَحْسَبُ
أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ
بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً( (الفرقان:44)
بل فضل الحجارة
عليهم، فقال:)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ
الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( (البقرة:74)
قلت: نعم ..
لقد تحولوا إلى مسخ لا علاقة له بالإنسان، فهم لم يتحرجوا من إبادة شعوب وأمم بأكملها، كما فعل الأمريكان بالهنود الحمر بحثاً عن
الذهب الأصفر، وكما فعل مع سكان مستعمراته في إفريقيا حيث اقتاد منهم الألوف - بعد
أن نهب خيرات أوطانهم - مكبلين بالأغلال في الأعناق والأيدي والأقدام استغلالاً
لسواعدهم وقوة أجسامهم في استثمار اقتصادي لا يعود نفعه إلا إلى الرأسمالي ذاته.
ثم إن الطبقية ولدت عند هؤلاء، فاعتمد معيار اللون والثراء
في التفاضل؛ فالنازية في ألمانيا، جعلت العرق الآري أفضل من وجد على الأرض، والرجل
الأبيض عموماً في أوروبا وأمريكا وأفريقيا مارس أخلاقيات التفريق العنصري، واصطفى
ذاته لتكون في القمة، واضطهد السود -لمجرد أنهم سود - في أمريكا، وحتى وقت قريب في
جنوب إفريقيا، ولم تنعتق هذه الشعوب من قبضته واضطهاداته إلا عبر تضحيات باهظة
التكاليف ونضالات عنيدة ومتواصلة حتى انتزعت من بين فكيه شيئاً من حقوقها.
ثم إن مفردات
العدالة والحرية والإنسانية، تعدم محتواها الأخلاقي الرباني عندما تُحشى بهذه
التصورات الهائمة وراء عبادة الدولار! الذي أوحى إلى عابديه إباحة كل الشناعات
الأخلاقية قرباناً له، فلا حرج في وحي ذلك الإله المزعوم أن يعبد في محراب القمار
وبنوك الربا وأسواق الاستغلال ومواخير الفساد والانحلال الخلقي، ولا بأس من أن
يتقرب إليه عابدوه بأخلاقيات الظلم والغش والاحتكار، والعبث بإنسانية الإنسان بسن
تشريعات لا أخلاقية بهيمية تعقد لها المؤتمرات وتنفق عليها الأموال[8].
قال: أتعلم أن كل ما ذكرته من هذه الطائفة نص عليه القرآن
الكريم عند حديثه عن قارون.
قلت: إذن لقارون السبق في تأسيس هذه الطائفة .. فكيف ذلك؟
قال: لقد ذكر الله تعالى أربعة انحرافات لقارون، كل انحراف منها كاف لإدانته.
قلت: فما الانحراف الأول؟
قال: الظلم، وهو أول انحرفاته، ولعله نال ماله بسببه، فقد
قال تعالى:) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ
مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ( (القصص: من
الآية76)
قلت: وهو يمثل ما فعلته الرأسمالية من ظلم وتسلط ونهب
واستعمار واستعباد.
قال: لقد بدأ قارون بقومه.
قلت: وهم يبتز بعضهم بعضا وينهب بعضهم بعضا إن لم يجدوا من
ينهبون.
قال: والانحراف الثاني هو الفرح، كما قال تعالى:) إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا
تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ( (القصص: من
الآية76)، والفرح ـ هنا كما في أكثر مواضع القرآن الكريم ـ يعني البطر والكبر
والتعاظم واحتقار المستضعفين.
قلت: وهم يفعلون ذلك معنا، فيسمون أنفسهم العالم الأول،
ونحن العالم الثالث، وهم العالم المتقدم، ونحن العالم المتخلف .. ولأفرادهم من
القيمة ما ليس للآلاف عندنا، فلا حرج عندهم أن يفتكوا بالآلاف منا في سبيل واحد
منهم.
قال: والانحراف الثالث، هو الاستغراق في الدنيا، ونسيان
الله والدار الآخرة، وهو ما يدل عليه قوله تعالى على لسان المصلحين من قومه:) وَابْتَغِ
فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
( (القصص: من الآية77)
قلت: وهو ما وقعوا فيه من الغفلة عن الله، واعتبار الدين
نوعا من القضايا التي لا ينبغي البحث فيها ولا الاهتمام بها إلا الاهتمام الشكلي
الذي يعبر عن الاحتقار أكثر من تعبيره عن الإيمان.
قال: والانحراف الرابع، هو الإفساد في الأرض، كما قال تعالى على لسان المصلحين من قومه:) وَلا تَبْغِ
الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ( (القصص: من
الآية77)
قلت: وهو ما وقعوا فيه من إفساد للأفراد والمجتمعات
والأكوان من أجل مكاسب بسيطة لا تتجاوز خزائنهم.
قال: أتدري مصير قارونيتكم؟
قلت: لعل مصيرها هو مصير قارونية قارون، كما قال تعالى:) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ
الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا
كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ( (القصص:81)، أحادث ذلك يا معلم؟ أتحصل معجزة مثل هذه؟
قال: ولماذا تبحث عن هلاكهم؟
قلت: وعن ماذا أبحث؟
قال: عن توبتهم .. ألم ينصح أولو العلم قارون ويوجهوه؟
قلت: أجل .. لكنه لم يستجب.
قال: فوجهوهم .. وارحموهم بتوجيهكم .. فإن لم يستجيبوا ..
فاسألوا لله لهم ..
قلت: بل نسأل الله عليهم.
قال: إن أردتم السنة فاسألوا الله لهم، فعسى الله أن يخرج
من أصلابهم من يتوب من عبادة الدينار والدرهم .. ويسلم وجهه إلى الله، وما ذلك على
الله بعزيز.
قال: فما الطائفة الثانية؟
قلت: الشيوعية .. وهي طائفة ذات مذاهب متعددة، وهم على عكس
الطائفة الأولى، يحاربون الملكية الفردية، ويقولون بشيوعية الأموال.
قال: هناك أموال ينبغي أن تبقى مشاعة حتى لا يستأثر بها
الأغنياء، فيستولوا على حقوق الفقراء، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - مشيرا إلى
هذا النوع من الشيوعية:( المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء
والكلأ والنار، وثمنه حرام )، وفي رواية:( ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ، والنار )
قلت: هم لا
يقولون هذا فقط .. بل ينطلقون من هذا إلى أفكار خطيرة تدور كلها حول الصراع.
قال: الصراع!
.. ما أفلح من صارع! .. من يصارعون؟
قلت: أول من
صارعوه الله، فهم ينكرون وجود
الله تعالى وكل الغيبيات ويقولون بأن المادة هي أساس كل شيء.
وهم لذلك يحاربون الأديان، ويعتبرونها وسيلة لتخدير الشعوب
وخادماً للرأسمالية والامبريالية والاستغلال.
وهم في أحسن الأحوال لا ينشغلون عن الدين نفيا أو إثباتا
فمركز اهتماماتهم المادة وأساليب الإنتاج.
قال: فإذا حاربوا الله، وحاربوا دين الله فسيقعون في عبودية
غيره.
قلت: أجل .. لقد حصل ذلك، فقد وقعوا في عبودية الحزب
الشيوعي وقادته، فقد كان شعارهم: نؤمن بثلاثة: ماركس ولينين وستالين، ونكفر
بثلاثة: الله، والدين، الملكية الخاصة.
وقد لاحظ العالم جميعا كيف أن الشعب الكوري الشمالي أحتشد
حول صنم الزعيم الكوري غداة هلاكه ساجداً راكعاً.
بل إن من الحجارة من اكتسب شيئاً من القداسة في كوريا لكونه
حظى بجلسة من رائد الفكر الاشتراكي الكوري ؛ ففي تابوت زجاجي بساحات أحد المصانع
بكوريا الشمالية عرض حجر بداخله، ومكتوب عليه هذه العبارة:( الحجر الذي جلس عليه
الرفيق الحبيب المبجل عندما كان يتحدث)[9]
قال: ومن وقع في عبودية غير الله، سيقع في كل أنواع الصراع.
قلت: أجل .. لقد وقعوا في ذلك، فتميز كل تاريخهم بالصراع،
بل إنهم فسروا تاريخ البشرية بالصراع بين البورجوازية والبروليتاريا ( الرأسماليين
والفقراء) وينتهي هذا الصراع حسب زعمهم بدكتاتورية البروليتاريا.
وقد فسروا كل أحداث التاريخ بأنها نتيجة حتمية لتغير وسائل
الإنتاج، وفسروا الفكر والحضارة والثقافة بأنها وليدة التطور الاقتصادي.
حتى الأخلاق يقولون عنها بأنها نسبية وهي انعكاس لآلة
الإنتاج.
حتى الأسرة انمحت من قواميسهم، وفي كتاب مدرسي عن الأخلاق
الماركسية معد للمدارس الثانوية في المجر سنة 1978 م، يقول:( إن الطفل ابناً كان
أو بنتاً لا يصح بحال أن يُقدم على قتل أمه إلا إذا أصبحت خائنة للطبقة العاملة ..
)[10]
وخيانة الطبقة العاملة هي إبداء النقد لسلوكيات الفكر
الاشتراكي وأئمته أو التعامل معه بشيء من الحذر والحيطة، والأمانة الأخلاقية في
زعمهم هي الفناء في شخصية القيادة الماركسية، والدينونة لمقولاتها، وتكريس
عبادتها.
قال: وعلاقتهم بالمستضعفين؟
قلت: هم يزعمون أنهم يعملون في مصلحتهم، ولكنهم في الحقيقة
لم يحكموا الشعوب التي أتيح لهم حكمها إلا بالحديد والنار.
بل إنهم لا يحجمون عن أي عمل مهما كانت بشاعته في سبيل
غايتهم وهي أن يصبح العالم شيوعياً تحت سيطرتهم.قال لينين:( إن هلاك ثلاثة أرباع
العالم ليس بشيء، إنما الشيء الهام هو أن يصبح الربع الباقي شيوعياً )
وهذه القاعدة طبقوها في روسيا أيام الثورة وبعدها وكذلك في
الصين وغيرها حيث أبيدت ملايين من البشر، وقد اكتسحوا لذلك كثيرا من الأراضي
الإسلامية كبخارى وسمرقند وبلاد الشيشان والشركس.
وهم في هذه الأراضي يهدمون المساجد، ويحولونها إلى دور
ترفيه ومراكز للحزب، ويمنعون المسلم إظهار شعائر دينه، أما المصحف فهو جريمة يعاقب
عليها بالسجن لمدة سنة كاملة.
وقد كان توسعهم عل حساب المسلمين، فكان أن احتلوا بلادهم
وأفنوا شعوبهم وسرقوا ثرواتهم واعتدوا على حرمة دينهم ومقدساتهم.
وهم يعتمدون على الغدر والخيانة والاغتيالات لإزاحة الخصوم
ولو كانوا من أعضاء الحزب.
قال: أتحسبون أن هؤلاء بشرا؟
قلت: ) إِنْ هُمْ
إِلَّا كَالْأَنْعَامِ (
قال: ) بَلْ هُمْ
أَضَلُّ سَبِيلاً( (الفرقان: من
الآية44)
قلت: ولكن الله تعالى نجانا منهم، فقد انتهت دولتهم، فبعد أن حكمت الشيوعية عدة
دول كالاتحاد السوفياتي، والصين، وتشيكوسلوفاكيا، والمجر، وبلغاريا، وبولندا،
وألمانيا الشرقية، ورومانيا، ويوغسلافيا، وألبانيا، وكوبا لحقت بها سنن الله،
فانهارت في معاقلها بعد قرابة سبعين عاماً من قيام الحكم الشيوعي وبعد أربعين
عاماً من تطبيق أفكارها في أوروبا الشرقية.
بل أعلن كبار المسؤولين في الاتحاد السوفيتي قبل تفككه أن
الكثير من المبادئ الماركسية لم تعد صالحة للبقاء، وليس بمقدورها أن تواجه مشاكل
ومتطلبات العصر، الأمر الذي تسبب في تخلف البلدان التي تطبق هذا النظام عن
مثيلاتها الرأسمالية.
قال: أهؤلاء قومك؟
قلت: هؤلاء من قومي، ومنهم من يقول غير هذا، أو يحاول أن
يجمع بين هذا وهذا.
قال: فدعنا منهم، فإن للشياطين سبلا، وللشر ظلمات، ألم تر
أن الله تعالى عبر عن النور بالإفراد وعن الظلام بالظلمات.
قلت: بلى، فقد قال تعالى:) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( (البقرة:257)،
وقالتعالى:) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( (المائدة:16)،
وقالتعالى:) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( (الأنعام:122)
قال: فلنرجع
إلى النور نطفئ به جميع الظلمات.
قلت: فما هو
مصدر النور؟
قال: الله، ألم
تقرأ قوله تعالى:) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ( (النور: من
الآية35) .. فإن كان هؤلاء وأولئك اشنغلوا عن
الله بالدينار والدرهم، فإن المؤمنين المستنيرين بنور الله يبدأون علاقتم بالدينار
والدرهم من الله، فهم يشعرون بفقرهم التام وعجزهم المطلق وفنائهم المحض، ثم يشعرون
بأن الله بجوده من عليهم بأرزاق كثيرة منها ما تناولوه، ومنها ما اختبروا به.
قلت: فما هي الأرزاق التي تناولوها؟
قال: هي ما يشترك فيه الناس جميعا من المآكل والمشارب
والملابس والمساكن .. فهي أرزاق، الغرض منها حياة الإنسان، فلولاها ما صلح بقاؤه
على هذه الأرض.
قلت: وما أرزاق الاختبار؟
قال: هي ما فاض على ذلك وزاد عن الحاجة، ألم تقرأ قوله تعالى:) وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ
قُلِ الْعَفْوَ ( (البقرة: من الآية219)
قلت: فما العفو؟
قال: هو ما زاد عن الحاجة، فليس للإنسان فيه من حق التملك
إلا حق التسيير والإنفاق فيما أمر الله بالإنفاق فيه.
قلت: لكأني بك تعود بي إلى منطق الشيوعية.
قال: لا .. أنت تزعم أن الشيوعية تريد تساوي الناس في
التملك، وتحد من حرية الأغنياء في التملك.
قلت: أجل.
قال: أما الإسلام شريعة السلام .. فيعتبر مثل هذا النوع من
المصادرة سرقة .. فلذلك يترك للأغنياء حرية التملك كما شاء لهم جهدهم بشرطين: أن
يكون من حله، وأن يوضع في محله.
قلت: كيف هذا؟
قال: يجوز لأي شخص أوتي ذكاء وأموالا أن يتاجر في أمواله ـ
محفوفا بحماية الأمة ـ بشرط أن يكون ذلك في خدمتها، فهي أمواله من جهة تملكها، وهي
أموال الأمة من جهة الانتفاع بها.
قلت: اذكر لي مثالا يوضح لي هذا.
قال: من أوتي مالا بحيث استطاع أن يجلب أنواعا من الرزق
تحتاجها الأمة، سواء بالاتجار فيها، أو بصناعتها، فإنه يكون بذلك قد تخلق باسم
الله:( الرزاق) ويكون له من الأجر إذا نوى ذلك ما لا يخطر له على بال.
قلت: ولكنه ينتفع بذلك، وهو يخدم مصالحه.
قال: وما يهمنا إذا كانت مصالحه لا تتعارض مع مصالح الأمة،
بل تتوافق معها، أليس السلام هو توافق المصالح، والصراع هو تضادها؟
قلت: بلى.
قال: فلذلك ينظر المؤمن الفقير إلى الغني نظرة احترام لا
نظرة حسد، لأنه يعتبره واسطة من وسائط الرزق لا تختلف عن الأمطار الهاطلة والأرض
الطيبة .. ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:( الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون )[11]
قلت: بل روي في
رواية أخرى:( الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد
في كتاب الله )[12]
قال: ولهذا قرن الله تعالى الضاربين في الأرض بالمجاهدين في سبيل الله، فقال تعالى:) عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( (المزمل: من
الآية20)
قلت: ولهذا كان الصحابة y يعتبرون موتة
التاجر الناصح من الشهادة، فعن ابن مسعود t قال:( أيما
رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان له
عند الله منزلة الشهداء )
وقال ابن عمر t:( ما خلق الله
موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي، ابتغى من
فضل الله ضاربا في الأرض )
قال: وقد كان لهذه المعاني تأثيرها السلوكي في حياتهم فلم
تكن مجرد نظريات أو أمان.
قلت: أجل، وقد روي عن بعض السلف أنه كان بواسط، فجهز سفينة
حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع الطعام يوم تدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد،
فوافق سعة في السعر؛ فقال التجار للوكيل: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره
جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا! إنا
كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا
فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا علي ولا
لي.
ويروى أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد، فافتقده ابن
عمر، فمشى إلى بيته، فقالت أمه: هو على طعام له يبيعه؛ فلقيه فقال له: يا بني! ما
لك وللطعام؟ فهلا إبلا، فهلا بقرا، فهلا غنما! إن صاحب الطعام يحب المحل، وصاحب
الماشية يحب الغيث.
قال: انظر إلى فقه ابن عمر t في تفضيله
الإنتاج على البيع، وهو ما تفتقدونه، فأنتم تتلهفون على الجاهز تشترونه من أي جهة
وبأي سعر، ثم تتوانون في الإنتاج.
قلت: لقد فهمت ما قلت، فلولا الغني ما بنيت المصانع التي
تشغل العمال، ولا أحضرت السلع التي تحتاجها الأمة، ولا نشط السوق الذي تتم به معايش
الناس .. ولكن كيف يكون الغني مجرد مالك.
قال: الشرع اذن له في أن يملك، ولكنه حجر عليه في الإنفاق،
بحيث لا ينفق ولا يتصرف في ماله إلا ما فيه المصلحة العامة بالإضافة إلى مصلحته
الشخصية، ألم تسمع قوله تعالى:) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا
وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً( (النساء:5)؟
قلت: بلى.
قال: فهذه
الآية تضع نظام العلاقة مع المال، فالذي لا يعرف كيف يتصرف في ماله لا يمنع من
الانتفاع به، بل يرزق منه ويكسى، ولكنه لا يباح له التصرف فيه بما يتناقض مع
المصلحة العامة، وقد علل تعالى ذلك بأنه قوام المجتمع، أي أن المال في الحقيقة،
وإن كان بيد الغني إلا أن مصلحته تنزل للمجتمع، فهو كالمطر تختزنه السحب، وتنتفع
به الأرض.
قلت: فهذا هو
الفارق إذن بين الشيوعية والإسلام، فالشيوعية تريد أن تجعل من كل فرد سحابة تهطل
على نفسها.
قال: وهو
الفارق بين الإسلام والرأسمالية القارونية، فهي تريد أن تجمع مياه الدنيا جميعا في
يد ثلة من الناس ترفعهم إلى أعالي السماء، ولا ترضى أن تنزل قطرة عليهم إلا بعد أن
تستعبدهم وتستذلهم.
قلت: والإسلام؟
قال: الإسلام
يرضى ببقاء السحاب في الأعالي، ولكنه يشترط عليه إنزال غيثه على الأسافل .. شرطا
لا تفضلا ..
قلت: لقد
ذكرتني بقوله - صلى الله عليه وسلم -:( مثل القائم في حدود اللَّه[13]
والواقع فيها كمثل قوم استهموا[14]
على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من
الماء مروا على من فوقهم؛ فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا.
فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )[15]
قال: هذا مثال
عظيم فيه دلالات عظيمة، فليس كل من امتلك شيئا جاز له التصرف فيه.
قلت: وكيف عبر
الإسلام على هذا؟
قال: عبر عنه
بالاستخلاف، ألسنا أمام باب الاستخلاف؟
قلت: ولم كان
أول باب من أبواب المال؟
قال: لأنه
التصور الذي يحمل حقيقة موقف الإسلام من المال وتملكه، وهذه الحقيقة هي التي تجر
المالك إلى تصرفه في ماله وفق ما يطلبه المالك الأصلي للمال، ألا تعلم أن المالك
الأصلي هو الله، وأن العبد مجرد وكيل لله؟
قلت: قد علمنا
ذلك.
قال: وهل يجوز
للوكيل أن يخالف تعليمات الموكل.
قلت: الوكيل
الصالح لا يفعل ذلك.
قال: والإسلام
يفرض هذا الصلاح على الوكيل، فإن أبى حجر عليه، ومنعه من التصرف إلا وفق ما يرتضيه
صاحب المال.
اقتربت من الباب الثاني من أبواب المال، وقد علقت عليه
لافتة في منتهى الجمال مكتوب عليها قوله تعالى:) وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ((التوبة:
من الآية34)
فسألت المعلم: ما محل هذه الآية الكريمة من هذا الباب؟
قال: هذه آية هذا الباب، فهذا باب الاستثمار، والكنز يناقض
الاستثمار، ويحاربه ويمنع منه، فلذلك توجهت هذه الآية للتحذير من الكنز.
قلت: ولكن النصوص التفسيرية قد لا تسمح لك بهذا النوع من
الاستدلال.
قال: فما قالوا؟
قلت: منهم من ذهب إلى أن هذه الآية الكريمة مختصة بأهل
الكتاب، واستدلوا على ذلك بأن الله تعالى ذكر الكنز بعد قوله:) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ( (التوبة: من
الآية34)
قال: أخطأ من ذهب إلى هذا .. القرآن الكريم منزل على هذه
الأمة، ولهذه الأمة، وليس وثيقة تاريخية[16]، حتى ما ذكرته من
الحديث عن الأحبار والرهبان لا يعني الأحبار والرهبان فقط، بل يشمل من زعم لنفسه
التصدر في شؤون الدين للناس من العلماء والعباد سواء كان من بني إسرائيل أو من هذه
الأمة أو من غيرهما من الأمم، فسنة الله في خلقه واحدة.
قلت:
لقد رووا في ذلك خلافا بين أبي ذر t ومعاوية بن
أبي سفيان.
قال:
وما رووا؟
قلت:
حكى زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟
قال: كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في قوله تعالى:) وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ((التوبة:
من الآية34)، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب.
فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه في ذلك، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي
عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت
ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت، فكنت قريبا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو
أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت.
قال:
وهل يصح أن تقارن بين رأي صحابي جليل تتلمذ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعاش
بالحق وللحق، وأخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - بقوله:( ما أظلت
الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى ابن مريم
)[17]
برأي رجل من الطلقاء جعل من الخلافة
الراشدة ملكا عضوضا، ولم يكتف بذلك، بل بغى على أهل الله وزاحمهم ما خولهم الله من
أمر الأمة .. أفلم يكتف بمزاحمتهم شؤون السياسة حتى زاحمهم شؤون الدين!؟
قلت:
أنت يا معلم تقول كلاما خطيرا لا يرضاه قومي.
قال:
وما علاقتي برضاهم!؟
قلت:
لقد كتبوا في مناقب هذا الذي تتهمه أكثر من كتابتهم في مناقب العشرة المبشرين
بالجنة.
قال:
دعهم يكتبوا، فهم لا يدافعون عنه، بل يدافعون عن أنفسهم، وعن قصورهم .. والطيور
على أشكالها تقع.
قلت:
فلنرجع إلى الآية التي استدللت بها .. هناك من يحملها محملا قد يكون صحيحا، وهو
يخرجها أيضا عن صحة الاستدلال بها في هذا الموضع.
قال: وما يقولون؟
قلت: يقولون بأن الكنز هو المال الذي لم تؤد زكاته، فإذا
أديت الزكاة خرج عن كونه كنزا حتى لو كان ما كان،
وقد رووا في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله:( من آتاه الله مالا
فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم
يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ) ثم تلا:) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ
شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ
مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( (آل
عمران:180)
ورووا في ذلك أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم -:( والذي نفسي بيده - أو والذي لا إله غيره أو كما
حلف - ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة
أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه
أولاها حتى يقضى بين الناس )[18]
قال:
ليس في هذين الحديثين أي شيء مما ذكروا، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر من
مغبة ترك الزكاة، والعقوبة التي تنتظر أصحابها.
قلت:
رووا عن ابن عمر t قوله:( ما أدي
زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق
الأرض)، ومثل ذلك عن جابر t.
وقد
قال أعرابي لابن عمر t:( أخبرني عن قول الله تعالى:) وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( (التوبة: من
الآية34)، فقال ابن عمر t:( من كنزها، فلم يؤد زكاتها فويل له،
إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال )[19]
وقد
حمل المفسرون قول أبي ذر t على هذا، كما
قال القرطبي:( يحتمل أن يكون مجمل ما روي
عن أبي ذر في هذا، ما روي أن الآية نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين وقصر يد
رسول الله r عن كفايتهم، ولم
يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون الجوائح هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء
من المال إلا على قدر الحاجة ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت. فلما
فتح الله على المسلمين ووسع عليهم أوجب r في مائتي درهم
خمسة دراهم وفي عشرين دينارا نصف دينار، ولم يوجب الكل واعتبر مدة الاستنماء، فكان
ذلك منه بيانا - صلى الله
عليه وسلم - )
قال:
وهل ضمن القرطبي عدم حصول أي فاقة للمسلمين؟
قلت:
لا .. ولذلك حلوله الخاصة.
قال:
أنا لا أنفي أن لهذه الآية علاقة بالزكاة والصدقات .. ولكن لها علاقة بناحية أهم
من ذلك كله.
قلت:
وما هي؟
قال:
الاستثمار .. هذه آية تحض على الاستثمار .. وهو أهم من إنفاق الصدقات والزكوات؟
قلت:
هذا قول خطير .. كيف هذا؟
قال:
المستثمر الصالح يخرج كل ما فضل على حاجته من ماله في مصلحة المسلمين، ولا يخرج
ربع العشر فقط.
قلت:
كيف؟
قال:
سأضرب لك مثالا .. أجبني: هل يمكن أن يمتلك الغني مالا يكفي مائة شخص من الناس؟
قلت:
بل من الأغنياء من له من المال ما يكفي مائة مليون من الناس.
قال:
فلو أن هذا الغني، ومثله من الأغنياء خبأوا أموالهم وكنزوها ولم يتجروا فيها، ولم
يؤسسوا بها المعامل والمصانع، ولم يضربوا بها في الأرض، واكتفوا بطقطقة المسابح،
وإخراج ربع العشر كل حول، أيكفي ذلك الناس؟
قلت:
سيموت الناس حينها جوعا، قويهم وضعيفهم، بل إن الأغنياء أنفسهم قد لا تنفعهم
أموالهم.
قال:
فقوله تعالى:) وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ( (التوبة: من الآية34) لا يعني فقط
عدم إنفاقها في الزكاة والصدقات، وإنما يعني أيضا، عدم الاتجار فيها واستثمارها،
وهو ما عبرت عنه صيغة الكنز في القرآن الكريم.
قلت:
أنت تفسر الإنفاق هنا بالاستثمار.
قال:
الاستثمار نوع من أنواع الإنفاق، وهو إن وافق محله لا يختلف عن إنفاق الصدقات.
قلت:
كيف .. ومال الصدقات يذهب عن صاحبه ولا يرجع، ومال الاستثمار يرجع مضاعفا.
قال:
ألم تسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -:( رأيت ليلة أسري بي مكتوباً على باب الجنة
الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر )
فقلت لجبريل:( ما بال القرض أفضل من الصدقة؟) قال:( لأن السائل يسأل وعنده
شيء، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة)[20]
قلت:
بلى، لقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بفضل القرض على الصدقة.
قال:
وما سبب ذلك؟
قلت:
أخبر - صلى الله عليه وسلم - بان القرض يغطي الحاجة بخلاف الصدقة التي قد لا تقع
في محلها.
قال:
ولكن .. أليس القرض يرجع إلى أصحابه؟
قلت:
بلى.
قال:
فكذلك الاسثمار.
قلت:
وما محل القياس؟
قال:
الاسثمار والقرض كلاهما يغطي حاجة، بل إن المستثمر أكثر تضحية من المقرض، لأنه قد يخسر
في استثماره بخلاف المستقرض الذي ضمن عودة ماله.. وزيادة على ذلك كله، فإن
الاستثمار يفيد أكثر الناس بخلاف القرض الذي لا يفيد إلا الفقراء .. وزيادة على
ذلك ..
قاطعته
قائلا: .. فإذن مال الفرد يصبح مالا للمجموع .. هو يملكه، وهم ينتفعون به.
قال:
صدقت، وذلك ما تحدثنا عنه في الاستخلاف .. هو يملك المال، ولكن لا يستطيع التصرف
فيه إلا بما تتطلبه مصلحة الجماعة.
قلت:
فيمكن تفسير قوله تعالى:)
وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ( (البقرة: من
الآية219) بهذا، فيعتبر الأمر بالإنفاق أمرا بالاستثمار، وبذلك ينتفي الخلاف في
المسألة، وينتفي القول بنسخها.
قال:
ذلك صحيح، وقد رويت أحاديث تكاد تكون صريحة في الدلالة على هذا المعنى، منها ما
روي عن أبي أمامة الباهلي t قال: مات رجل
من أهل الصفة فوجد في بردته دينار. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( كية
)، ثم مات آخر فوجد له ديناران، فقال رسول الله r:( كيتان )[21]
قلت:
ولكن ذلك علل بأنه إنما كان ذلك في صدر الإسلام، قبل أن يقرر الشرع ضبط المال
وأداء حقه.
قال:
لماذا تحرفون النصوص، من قال بأن هذا في صدر الإسلام، أو في آخر الإسلام؟ وأي فرق
بين الأمرين؟
قلت:
أأنت تحرم ادخار الأموال واكتنازها؟
قال:
أنا لست مشرعا حتى أحلل أو حرم .. ولكني أنقل لك ما يقول القرآن الكريم، وهو صريح
في الأمر بعدم ادخار الأموال .. لأنه لا يجوز لشخص أن يدخر ما ليس له .. أنسيت أن
المال مال الله .. وأنه خلقه لعباده لتستقيم حياتهم به، فإذا خبأوه فقد منعوا
عباده من تحقيق مقاصده .. سأضرب لك مثالا على هذا .. أو قل: هو نوع من القياس
الصحيح.
قلت:
هات قياسك لنعرضه على أصول القياس.
قال:
أرأيت لو أن شخصا آتاه الله من الأدوية التي قال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم
-:( لكل
داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله )[22]
فخبأه في سراديب له، ومنع الناس من استعماله، بحجة أن هذا الدواء مدخر لحاجته
المستقبلية .. ثم إن الناس تضرروا بذلك .. أفيكون عمله هذا مباحا؟
قلت: لا .. هذا من أعظم المحرمات،
ومن أدراه أنه سيمرض مرضا يحتاج معه إلى ذلك الدواء ..
قال: فقس هذا على ذاك.
قلت: كيف ..
قال: أليس المال نوعا من أنواع
الدواء؟
قلت: هذا يحتاج إلى برهان.
قال: أليس الدواء هو الذي يقاوم
المرض فيعالجه؟
قلت: بلى.
قال: أليس الجوع نوعا من المرض،
فالجسم بالجوع لا يقوم، والعقل لا يفكر؟
قلت: صحيح، وهم الآن يعتبرون سوء
التغذية من أخطر أسباب الأمراض.
قال: وكيف يداوى سوء التغذية؟
قلت: بالمال.
قال: إذن .. أنت تقول بأن المال
دواء.
قلت: بهذا الاعتبار هذا كلام صحيح.
قال: فالقياس إذن صحيح.
قلت: فهمت هذا .. ولكن السؤال الذي
يطرح نفيه بعد هذا هو فيم يستثمر؟ وكيف يستثمر؟
قال: ليس غرضنا في هذا الباب إلا أن
نقنعك بضرورة الاستثمار، أما كيفيته وجوانبه فسنعرفها في أبواب الجهد.
اقتربت من الباب الثالث من أبواب المال، وقد علقت عليه
لافتة في منتهى الجمال مكتوب عليها:) كَيْ لا
يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ((الحشر: من
الآية7)
قلت للمعلم: لا شك أن هذا هو باب التداول، فهذه آية
التداول.
قال: نعم، وهي صريحة لن تستنفذ منا جهدا في إثبات معناها
كما استنفذته منا آية الاستثمار.
قلت: ما الفرق بين الاستثمار والتداول؟.. إني لا أكاد أحس
فرقا بينهما.
قال: الاستثمار يهتم بتنمية المال، بغض النظر عن مالكه،
فلذلك لا يرى بأسا في أن يمتلك جميع أموال الدنيا رجل واحد بشرط أن يحسن استغلالها
والاستفادة منها، وتعميم تلك الاستفادة.
قلت: والتداول؟
قال: ينظر إلى مقصد آخر له أهميته التي لا تقل عن أهمية
الاستثمار، أو تكاد تكمل غرض الاستثمار.
قلت: وما هي؟
قال: أن لا يبقى المال في يد طائفة محدودة، بل ينتشر بين
طوائف من الناس.
قلت: وما الحكمة في ذلك؟
قال: هناك حكم كثيرة وفوائد جليلة، منها ما يرتبط بسنة
الاستخلاف التي مررنا على بابها، فالاستخلاف يعني الابتلاء بالأموال، ومن حكمة
الشارع أن يختلف المبتلون ليكون بعضهم حجة على بعض، أو قدوة لبعض.
قلت: هذه حكمة أخروية، ونحن الآن نتحدث عن الدنيا.
قال: الدنيا والآخرة أخوان، ولا تصلح الدنيا إلا بمهمات
الآخرة .. ولكني مع ذلك لن أناقشك في هذا، وسأدعه لمحل آخر نبين فيه ارتباط مصالح
الآخرة بمصالح الدنيا.
قلت: فاذكر لي حكمة التداول المرتبطة بالدنيا.
قال: عندما يكون المال بيد شخص من الناس له اهتمام معين،
ألا يجر جميع أنواع استثماراته إلى ذلك الاهتمام حرصا على الربح، أو لكونه يخاف
مخاطر غيره من أنواع الاستثمار.
قلت: هذا صحيح، فالاستثمار ينبع عموما من شخصية المستثمر،
وطموحاته، ونظرته إلى الحياة.
قال: فلنفرض مثلا أنه لم يكن من بين المستثمرين القلائل
الذين اجتمعت لديهم أموال الدنيا من له علاقة بالعلم، أو بالاهتمام بنشره، أيمكن أن توجد دور نشر
تنشر العلم، وقد تضحي في سبيله؟
قلت: لا .. بل ستصبح المكتبات حينها دورا لبيع الحلوى أو
أصناف اللعب.
قال: ألا يتضرر حينها الناس بفقد جزء مهم من حياتهم؟
قلت:
هذا صحيح .. وقد جربته، فقد يبتليني الله ببعض الأسفار إلى بعض المدن، فلا أجد
مكتبة أستريح فيها، أو أنهل منها، فأعيش غربة لا تقل عن الغربة التي عناها ابن
خاتمة الأندلسي بقوله:
الزمْ
مكانكَ فالتغربُ ذِلَّةٌ لو لم تَنَلْ
غيرَ القرارِ نجاحا
فإِذا
أرادَ اللّهُ مهلِكَ نملةٍ هيا لها
كيما تطيرُ جناحا
قال: فلذلك كان من رحمة الله أن يجعل المال متداولا بين
الناس.
قلت: وكيف جعله كذلك، ونحن نرى المال في الدول الرأسمالية
يتركز في يد طوائف محدودة، وقد ذكرت الإحصائيات أن 225 من أغنياء
العالم يملكون ما يعادل دخل 2.5 مليار شخص (تريليون دولار)[23]
وذكرت هذه
الإحصائيات أن 3 من أثرياء في العالم يملكون ما يزيد على الإنتاج المحلي في 48
دولة نامية[24].
وفي إحصائيات
أكثر حداثة ورد أن 358 مليارديرا يملكون نصف ثروات العالم، منهم 3 من أغنياء
أمريكا ثروتهم أكثر من أفريقيا التي بها 600 مليون نسمة.
وذكرت هذه
الإحصائيات أن 20% من سكان العالم يملكون 80% من ثرواته، وأن 80% من سكان العالم
يملكون 20% من ثرواته[25]
.
قال: ذلك في
عالمكم .. العالم الذي انهارت فيه القيم .. أما العالم الذي يحكمه الشرع، فيستحيل
أن يصل المرء إلى هذه الصورة.
قلت: أيسلب
الشرع أموال الناس، أم يصادرها لهم؟
قال: الشرع لا
يسلب ولا يصادر .. وإنما ينظم .. لأن أكثر أرباح هؤلاء لم تأت بالطرق الشرعية ..
إن الأرباح التي تجمعت لهم هي التي سببت الفقر في العالم.
قلت: كيف؟ ألم
نقل بأن الاستثمار لا يهتم بمن لديه المال .. المهم أن يستثمر فيه؟
قال: ولكن فيم
يستثمر؟
قلت: فيما يعود
بالمنفعة على الناس؟
قال: وهل تحقق
هذا؟
قلت: أحيانا.
قال: فكم ينفق
هؤلاء الأغنياء على ما تسمونه ( الآيس كريم )؟
قلت: ذكرت الإحصائيات
أنهم ينفقون 11 بليون دولار.
قال: وعلى مرضى
البدانة؟
قلت: 238 بليون
دولار تنفقها الولايات المتحدة وحدها على مرضى البدانة.
قال: وعلى
مستحضرات التجميل؟
قلت: ينفق
الأمريكيون والأوربيون 8 مليار دولار على مستحضرات التجميل[26].
قال: وكم عدد
الفقراء الذين يعيشون على دولارين في اليوم؟
قلت: 3 ملايير
إنسان.
قال: ومن
يعيشون على دولار واحد؟
قلت: 1.3 مليار
يعيشون على دولار واحد[27].
قال: هذه
الإحصائيات تنطق وحدها بالحقيقة .. ألم أقل لك: لو أنهم رجعوا إلى الأرقام وحدها
لهدتهم إلى الحق، ودلتهم على طريق الله.
قلت: ولكن ما
علاقة هذا بالتداول؟
قال: هؤلاء
الذين اجتمعت لديهم هذه الأموال الضخمة صرفوها في هذه المصارف التي نشرت الفقر في
المجتمع .. ولو أن أموالهم لم تكن بهذه الصفة لخافوا عليها، ولما تجرأوا على
تضييعها في مثل هذه الأمور، وسنرى في باب الحفظ تفاصيل أكثر ترشدك إلى هذا.
قلت: فأخبرني
عن السبيل الذي يجمع بين حرية الاستثمار والتداول .. فإني لا أكاد أرى من حل إلا
المصادرة التي قامت بها الأنظمة الشيوعية.
قال: سنرى في
أبواب الجهد التدابير التي وضعتها الشريعة للحيلولة دون تركز الثروة في يد فئات
محدودة، والآن لنرجع لآية هذا الباب نستلهم منها.
قلت: لقد قال
تعالى في مقدمة الآية:) مَا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ( (الحشر: من
الآية7)
قال: ما هو حرف المعاني الذي كثر تردده في هذه الآية؟
قلت: الواو، فقد ذكرت خمس مرات.
قال: لماذا؟
قلت: لتعدد الذين يفرق عليهم المال.
قال: فالشرع إذن عدد مصارف الأموال حتى لا تجتمع في يد فئات
محدودة .. لنقرأ آيات أخرى.
قلت: أي آيات؟
قال: اقرأ آيات المواريث، ولتسمعها من هذا الباب.
قلت: يا معلم .. أخشى لو حاولنا سماعها أن لا نخرج من هذه
المدينة.
قال: سنكتفي بسماعها من هذا الباب فقط .. باب التداول.
قرأت قوله تعالى:) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ
فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ
لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ
الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلِيماً حَكِيماً( (النساء:11)
قال: هذا ميراث الأبناء والآباء، فما ميراث من لم يكن له
ولد ولا والد؟
قلت: ورد ذلك في موضعين، قوله تعالى:) وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ
كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ
اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ( (النساء: من
الآية12)، وهؤلاء هم الإخوة والأخوات لأم.
وورد قوله تعالى:) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ
فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا
إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( (النساء:176)،
وهؤلاء هم الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب.
قال: وهل يقاس على الإخوة غيرهم؟
قلت: ليس نصا، وإنما قد ورد النص بتوزيع التركة على العصبة
من الأعمام وأبنائهم بحسب درجة القرابة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( ألحقوا الفرائض
بأهلها! فما بقي فلأولى رجل ذكر )[28]
قال: وهل يرث الأزواج والزوجات؟
قلت: أجل، بل إن لهم نصيبا معتبرا، فقد قال تعالى:) )وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ
إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ
مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ
الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ
وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ
بِهَا أَوْ دَيْنٍ ( (النساء: من
الآية12)
قال: ما تلاحظ في هذه الآيات التي لم يرض القرآن الكريم إلا
التفصيل في ذكرها؟
قلت: الله تعالى فتت الثروة التي يتركها الميت تفتيتا، فسدسها لقوم، وثلثاها
لقوم، وثلثها لقوم .. وسدسها .. ونصفها .. وربعها.
قال: فهل يجوز للميت أن يؤثر بثروته أفرادا محدودين يصب
عليهم وافر كرمه، ويترك الآخرين لسوء طالعهم؟
قلت: لا .. لا حرية له في ذلك .. فالشرع هو الذي قسم المال،
ولا حق لصاحب المال في تقسيمه.
قال: أرأيت لو أن شخصا ما خلف مليارا من هذه العملة التي
تسمونها ( دولارا )، ثم مات.
قلت: أعطني بيانات أقاربه .. فما أسرع أن أعطيك أنصبة
الوارثين؟
قال: ترك زوجة طبعا .. فلا يصح أن يموت غنيا كهذا بلا زوجة.
قلت: نصيبها إن مات بلا أولاد الربع، وهو 250000 دولارا،
أما إن كان له ولد، فترث 125000000دولارا.
قال: غني كهذا لا يعدم من الأولاد في العادة، فلنفرض أن له
خمسة بنين، وخمس بنات.
قلت: دعني أفكر قليلا .. للزوجة الثمن .. والأنباء يرثون
تعصيبا، فأصل المسألة من ثمانية، ولتصحيح المسألة فإنه ما دام للذكر مثل حظ
الأنثيين، فإن عدد أسهم البنين خمسة عشر، ولتصحيح المسألة فإنا نضرب ثمانية في
خمسة عشر تصبح 120، للزوجة منها الثمن وهو 15، وللأبناء الباقي، وهو 105، فإذا
قسمناه بينهم أي 105 على 15 فإن نصيب كل بنت يساوي 7 ونصيب كل ذكر 14 بالضرورة.
فإذا قسمنا التركة على عدد الأسهم نجد مقدار السهم الواحد
بالتقريب هو 8333333.33، فإذا ضربناه في عدد أسهم كل ولد، فإنه ينتج: لكل ذكر:
116666666.66، ولكل أنثى: 58333333.33.
قال: كيف يصبح هؤلاء الأولاد .. هل يبقون كأبيهم
مليارديرات؟
قلت: سيصبحون مليونديرات.
قال: فلو أن هذا الرجل سمح لهم أن يورث من يشاء، فأعطى
المال لواحد منهم عرف كيف يحتال على أبيه.
قلت: سيبدأ حينها مليارديرا، وسيوظف إخوانه عنده عمالا،
وستتضاعف ثروته فلا يموت إلا بعد أن يترك عشرات المليارات.
قال: فإذا ورثها أحد أولاده أيضا؟
قلت: سيملك ولده هذا الدولة التي يعيش فيها.
قال: أرأيت إذن حكمة الشارع في تفتيت الثروة بالموت ..
فالموت يعيد توزيع الثروة ليحقق التداول .. ولو أضفنا إلى هذا أن هذا الرجل لن
يكون قد استكمل له من الثروة ما استكمل إلا بعد طول جهد وطول عمر، لعرفنا أن
الثروة يكاد يستحيل اجتماعها في شخص بالصور التي ذكرتها سابقا .. وهذا كله بمعزل
عما سنذكره في أبواب الجهد من استحالة اجتماع مثل هذه الثروات بالطرق المشروعة.
قلت: فهمت هذا.
قال: هذا مثال واحد فقط، وتشريعات الإسلام في هذا الباب كما
في غيره من الأبواب كثيرة لا يمكن حصرها .. اقرأ علي آية المصارف.
قلت: قال تعالى:) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( (التوبة:60)
قال: كم من مصرف
للزكاة تذكره هذه الآية؟
قلت: ثمانية
مصارف تمتلئ بتفاصيلها كتب الفقه.
قال: مع أن
الشرع قصد بالصدقات والزكوات ـ أول ما قصد ـ الفقراء، إلا أنه ذكر هذه المصارف
لتكون مرجعا في الحالة التي يكثر فيها المال، وتمتلئ جيوب الفقراء.
قلت: لماذا؟
قال: حتى لا
يصبح المال دولة بين الفقراء.
قلت: وكيف ذلك؟
قال: إذا لم
يكن للزكاة إلا مصرف واحد .. ألم تقرأ قوله - صلى الله عليه وسلم -:( ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة
من الذهب فلا يجد أحداً يأخذها منه، ويُرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن
به من قلة الرجال وكثرة النساء)[29]
قلت: أجعل الله
سائر المصارف ملاذا في هذه الحال؟
قال: وفي كل
حال مشابهة، حتى لا يصبح الفقر حرفة، يضطر الأغنياء لإيجادها ليدفعوا زكاة
أموالهم.
قلت: فالشرع
إذن أمر بالتداول مطلقا الأغنياء والفقراء.
قال: أجل ..
فلا فرق بينهما في موازين الله .. ألا تعلم أن الله عدل حكيم؟
قلت: فهمت هذا
.. فبماذا تأمرني أن أنصح قومي؟
قال: علمت أن
لديكم مصارف تريد أن تحيي السنة.
قلت: أجل ..
وهي تسمى بنوكا إسلامية، وهي فتح من الله على هذه الأمة.
قال: فحذرها من
أن تسقط في عبودية المال.
قلت: هي تحتاج
منا إلى تدعيم وتشجيع لا إلى تحذير.
قال: تحذريك
لها هو تشجيعها.
قلت: هي تنقذنا
من الربا.
قال: ليس الربا
وحده هو الذي يهددكم .. والشرع لم يأت لمحاربة الربا وحده.
قلت: ولكن أساس
هذه المصارف هو البحث عن الاستثمارات التي لا يشكل الربا جزءا منها.
قال: إن
أراداوا أن يحيوا هذه الأمة ويبارك الله لهم، فليتصدقوا بجميع الأموال التي تخزن
عندهم.
ضحكت، وقلت:
أتريد أن يتهموني بالجنون، لو تصدقوا بها لانهارت مصارفهم، ولما قامت للإسلام سوق.
قال: ولكنها
ستعود عليهم بأضعاف من الأجور.
قلت: ومن يرغب
في أجور الآخرة في هذا الزمان؟
قال: ومن قال
بأن هذه الأجور أجور الآخرة وحدها .. هي أجورالدنيا والآخرة.
قلت: كيف ..
ألم تقل: يتصدقوا بها؟
قال: ألم تعرف
أن الاستثمار صدقة؟
قلت: فهم
يستثمرون.
قال: مع الكبار
.. فانصحهم بأن يستثمروا مع الصغار.
قلت: كيف؟
قال: يشترون
الفؤوس للحطابين، ألم تقرأ قصة السائل الذي دله النبي - صلى الله عليه وسلم - على
الفأس؟
قلت: تقصد ما
روي أن رجلا من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ فقال بلى حلس نلبس بعضه
ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه الماء فقال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده فقال: من يشتري هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم،
فقال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -:( من يزيد على درهم
مرتين أو ثلاثا؟)، فقال رجل: أنا أخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين
فأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما
فائتني به، فلما أتاه به شد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عودا بيده، ثم قال:( اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر
يوما )، ففعل وجاء فأصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول
الله - صلى الله عليه
وسلم -:( هذا خير لك من أن تجيء المسألة
نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تحل إلا لثلاث: لذي فقر مدقع[30]، ولذي غرم[31] مفظع[32]، ولذي دم موجع[33] )[34]
قال: أجل ..
أليس شراء الفؤوس سنة؟
ضحكت، وقلت: لو
علم بعض إخواننا بهذا لامتلأت بيوتهم بالفؤوس، ولقام سوق الفؤوس بعد ركود.
قال: أنا لا
أقصد بالفؤوس الفؤوس، إنما أقصد بها وسائل الإنتاج.
قلت: تعني أن
تشتري المصارف وسائل الإنتاج لتستثمر فيها.
قال: لا ..
لتملكها لأكبر عدد من الناس، فلا تدع يدا عاطلة، فالبطن الخاوي ابن اليد العاطلة.
قلت: وأرباحها
.. هي لم تقم إلا لتربح.
قال: ستربح ..
وتربح كثيرا .. وفوق ربحها إحياءها الغنى، وقتلها الفقر.
قلت: هي تستثمر
الآن.
قال: هي تهتم
بالبيع والشراء لتتضخم أكثر من اهتمامها بالاستثمار، فإن اهتمت بها سقطت على
الكبار، ونسيت الصغار.
قال: ولكن هذه
المصارف بممووليها.
قال: فانشروا
وعيا بين الناس.
قلت: بماذا؟
قال: بأن
يسحبوا أموالهم من بنوك العالم، ويضعوها في هذه المصارف، فلا أرى لكم حلا أنجع من
هذا.
قلت: ولكن
الخبراء الاقتصاديين ..
قال: دعكم من
هذ الفلسفات .. تعاملوا مع الله، لا مع الخبراء الاقتصاديين .. وسترون بركات الله
التي لا يراها هؤلاء الخبراء.
اقتربت من الباب الرابع من أبواب المال، وقد علقت عليه
لافتة في منتهى الجمال مكتوب عليها:) وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ( (النساء: من الآية5)
قلت: أي باب هذا .. أهذا باب الحجر؟
قال: تقريبا .. ولكنا نسميه هنا ( باب الحفظ )
قلت: فماذا تريدون منه؟
قال: أليس المال نعمة من نعم الله على عباده؟
قلت: بلى، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( ما نفعني مال
كمال أبي بكر )[35]،
وقال:( نعم المال الصالح للرجل الصالح )[36]، ودعا لأنس t، وكان في آخر
دعائه:( اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه )[37]
قال: أفلم يأمر الشرع بحفظ النعم.
قلت:
بلى، وقد أحسن علي بن أبي طالب t بقوله:
إِذا
كنتَ في نعمةٍ فارعَها فإِن المعاصي
تزيلُ النعمْ
وحافظْ
عليها بتقوى الإِلهِ فإِن الإِلهَ
سريعُ النقمْ
قال: ومن هذا الباب أمر الله تعالى بحفظ الأموال؟
قلت: أليست أحسن طرق حفظ الأموال هي كنزها .. فلا يراها إلا
صاحبها الفينة بعد الفينة؟
قال: لا .. كنزها إماتتها .. وقد حرم الشرع قتل الأموال.
قلت: كيف؟ لا أرى نصا يقول:( ولا تقتلوا أموالكم )
قال: أنسيت ما ذكرناه في الباب السابق.
قلت: اعذرني، فإني آدمي، وقد نسي أبي، فنسيت.
قال: فاعزم حتى لا تنسى، ألم يقل الله تعالى:) وَلَقَدْ
عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً( (طـه:115)
قلت: لقد ذكرت بأن حفظ الأموال مقصد من مقاصد الشارع ..
ومقاصد الشارع لا تستنبط بالعقل .. بل تستنبط من النصوص.
قال: ما أكثر النصوص الدالة على ذلك، وما أكثر التشريعات
المحققة لذلك.
قلت: فلنبدأ بالنصوص.
قال: ألم ينه النبي r عن إضاعة
المال؟
قلت: بلى، فقد قال:( إنّ اللّه كره
لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال،
وكثرة السّؤال )[38]
قال: وما قال - صلى الله عليه وسلم - لسعد t عندما عاده؟
قلت: قال له:( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم
عالة يتكففون الناس )[39]
قال: فقد أمره بحفظ أمواله مع كونه طلب أن يتصدق بها جميعا
في سبيل الله..
قلت: ومثله ما قال - صلى الله عليه وسلم - لكعب لما قال:(
يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله )، فقد قال
له - صلى الله عليه وسلم -:( أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك )[40]
قال: ألم يبح - صلى الله عليه وسلم - القتال دون المال؟
قلت: بلى، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( من قتل دون ماله فهو شهيد )[41]
قال: فهذه النصوص وغيرها كثير يدل على أن من أهم مقاصد
الشرع حفظ الأموال .. وهناك ناحية أخرى قد لا نحتاج معها إلى كل هذا الاستدلال.
قلت: وما هي؟
قال: أيمكن أن تتحقق مقاصد الشرع من الاستثمار والتداول دون
الحرص على حفظ الأموال؟
قلت: لا يمكن ذلك، فلا يمكن أن نتداول الخراب، ولا أن
نستثمر السراب.
قال: ألا تقولون دائما:( ما لا يتم الواجب إلا به فهو
واجب)؟
قلت: بلى.
قال: فقولوها في هذا الموضع.
قلت: فما هي التشريعات التي تحفظ الأموال؟
قال: أربعة، كل تشريع منها باب من الأبواب.
قلت: فما هو التشريع الأول؟
قال: حفظ المال من المختلسين والسارقين .. وكل من يروم أخذه
من غير حله.
قلت: والثاني؟
قال: حفظه من السفهاء، ألم تقرأ الآية التي كتبت على لافتة
الباب؟
قلت: بلى .. فما الثالث؟
قال: حفظه من المترفين.
قلت: والرابع؟
قال: حفظه من الاستغلال.
قلت: أليس الاستغلال هو الاستثمار؟
قال: لا .. الاستثمار أن تستثمر فيما هو لك، والاستغلال أن
تستثمر فيما ليس لك.
قلت: فاشرحها لي.
قال: هلم إلى أبوابها.
تقدمت من الباب
الأول من أبواب الحفظ، فرأيت صورة هي أشبه بصور المحاكم، ولكنه ينتشر منها نور
مضيء ونسيم عليل يمتلئ سلاما.
سألت المعلم عن
هذا الباب، فقال: هذا باب حفظ المال من اختلاس المختلسين .. أتدري من المختلسون؟
قلت: ومن لا
يدري؟ إنهم الذين يمدون أيدهم إلى الجيوب بخفة ومهارة .. وويل لمن وقع فيهم.
قال: أولئك بعض
المختلسين .. أو هم ـ بعبارة أصح ـ صغار المختلسين.
قلت: أفيهم
الصغار والكبار؟
قال: أجل ..
كبارهم يختلسون ويحكمون .. وصغارهم يختلسون ويسجنون.
قلت: أرجو يا
معلم أن لا تزج بي في متاهات السياسة.
قال: أنا لا
أزج بك، ولكنها الحقيقة .. ألم تسمع عن الملايير التي تختلس؟
قلت: بلى ..
قال: فأين
أصحابها؟
قلت: أنت أدرى
.. فدعنا منهم.
قال: أتعلم أن
أخطر مخاطر الاختلاس أن تحمل أموال الأمة إلى البنوك الأجنبية عنها؟
قلت: لم أسمع
أحدا يحرم هذا .. فإن حرموه نظروا إلى كونه ربا .. أو خشوا أن يكون للبنك علاقة
باليهود.
قال: ما أضعف
تفكيركم .. لقد رفعتم هؤلاء الحثالة فوق ما تستحق .. حتى حصرتم العداوة فيهم.
قلت: ومن نعادي
إن لم نعادهم؟ ألم يقل الله تعالى:) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ( (المائدة: من
الآية82)
قال: وهو الذي
يقول:)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو
حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ( (فاطر:6)،
ويقول:)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا
رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ( (يوسف:53)
قلت: ولكن
اليهود هم الذين اغتصبوا أرضنا.
قال: ولكنكم
أنتم بأنفسكم تحملون أموالكم وتضعوها في مصارف غيركم طالبين منهم أن يغتصبوكم بها.
قلت: اشرح لي
هذا.
قال: الأصل في
المال أن يخدم المجتمع .. ألم تعلم أن صاحب المال مستخلف في المال لا مالك له؟
قلت: أجل هذا
صحيح، وقد برهنا عليه في باب الاستخلاف.
قال: فهل يصح
لمن كلف بإدارة مصنع يحوي آلاف العمال أن يسرحهم، ثم يحمل ذلك المصنع لبلد آخر،
وبعمال جدد، يطلبون أجورا أعلى .. ويدع عمال قومه يلتهمهم الفقر ..
قلت: هذا لا
يصح .. ولا أرى أنه واقع.
قال: بل هو
الواقع .. ثم لا تعالجون هذا الواقع إلا أن تطلبوا من هذا المختلس الكبير أن يدفع
بعض ماله زكاة .. مع أن الشرع طالبه بأن يخرج كل ماله.
قلت: ولكنه
يخشى أن يخسر في بلاده.
قال: ألا يقدم
مثل هذا المستثمر على مشاريع قد يخاف الخسارة فيها.
قلت: أجل.
قال: فليكن هذا
من مشروعاته .. فإنه إن يخسر ماله في بلاده، فيغتني به بعض فقراء قومه، خير من أن
يخسر في غير بلاده فيغتني به أعداؤه.
قلت: ولكن
بلداننا صغيرة، والاستثمار فيها ضعيف .. ألا تعلم أنا في عهد ملوك الطوائف؟
قال: ولكن
بلادكم كبيرة .. ألستم تنشرون في أكثر بقاع الأرض؟
قلت: بلى ..
قال: فأنا لا
أقصد الوطن الضيق الذي عبدتموه من دون الله.
قلت: فما تقصد؟
قال: أقصد
الوطن الأكبر: وطن المسلمين، أو الوطن الأكبر منه: وطن المستضعفين.
قلت: وما علاقة
المستضعفين بهذا؟
قال: أليست
هناك شعوب يفتك بها الجوع والمرض من غير المسلمين؟
قلت: بلى، بل
قد ورد في الإحصائيات أن هناك 16 مليون شخص يتهددهم الموت في أفريقيا، و17 مليون
طفل يموتون بسبب الجوع وسوء التغذية في العالم سنويا، وأن 108 أشخاص معدل الوفيات
سنويا في شرق أفريقيا لكل ألف شخص[42]!!
وقد ذكرت
إحصائيات أخرى أن 1400 طفل دون الخامسة يموتون كل ساعة بسبب الجوع وأمراض الطفولة
التي يمكن الوقاية منها، وأن 5000 طفل يوميا يموتون من الجوع فقط، و20 مليون
يموتون من البشر سنويا نتيجة سوء التغذية أو الحرمان منها[43].
قال: فهؤلاء
المختلسون الكبار يتركون هؤلاء يموتون بلا رحمة، ويذهبون إلى السمان غلاظ القلوب
ليسلموهم أموالهم ونفوسهم ليستعبدوهم بها.
قلت: هذا صحيح،
فكثير من هؤلاء لا يملكون التصرف في أموالهم .. بل يخافون أن تجمد أرصدتهم في كل
لحظة.
قال: هذا جزاء
وفاق على جرائمهم ..
قلت: ولكنهم مع
ذلك يخافون؟
قال: لو خافوا
من الله لأمنهم.
قلت: لا .. هم
يخافون من فشل استثماراتهم في تلك البلاد.
قال: فلذلك خسف
الله بهم، فجاءهم الخوف من حيث أمنوا، ألم تسمع قوله تعالى:) وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ( (لأنفال: من
الآية30)؟
قلت: بلى.
قال: فهؤلاء
مكروا، فمكر الله بهم .. واسمع الأخبار فستأتيك بالعجائب .. فإنهم إن نجوا
بجلودهم، ورضوا من الغنيمة بالإياب، فقد أفلحوا.
قلت: ألديك شيء
من أخبارهم .. فإن لي شوقا لاستكناه المستقبل لا أختلف فيه عن بني قومي.
قال: لا يعلم
المستقبل إلا الله .. ولكني أقول لك: إن صراخ كل طفل جائع، وبكاء كل امرأة عليلة،
وعطالة كل يد قادرة على العمل والكسب، لن تذهب هدرا .. فقوانين الله السارية في
الوجود لن يعجزها أن تطبق على هذه الثلة التي عبثت بمال الله، وحولته إلى أرصدة
الشياطين.
قلت: دعنا من
الكبار .. ولنرجع إلى الصغار.
قال: لقد وضع
الله تعالى من التشريعات ما يحفظ الأموال من النهب والسلب والسرقة، وفي ذلك دليل
على أهمية حفظ الأموال من عبث العابثين.
قلت: تقصد حد
السرقة.
قال: نعم .. هو
حد وضعه الشرع لدرء النفس الأمارة بالسوء، ليكون عبرة لمن يعتبر.
قلت: ولكنه حد
خطير تتقزز النفس من مرآه.
قال: ولكنه
علاج.
قلت: كيف يكون
علاجا، وهو قطع؟
قال: ألا
يتعامل جراحوكم بهذا المنطق مع الأمراض المستعصية، فلم يكتفوا باستئصال الأيدي
والأرجل، بل يجاوزونها إلا الكلى والرئات والمصارين .. حتى المخ لم يسلم من
سكاكينهم!؟
قلت: أجل.
قال: فهم يجرون
العمليات على مستوى الأفراد حماية لبعض أعضائهم من بعض، والشرع يأمر بإجراء
العمليات لحماية أفراد المجتمع بعضهم من بعض.
قلت: ولكنهم
ينشرون تحذيرات شديدة من الإسلام بسببب هذا.
قال: دعوهم ولا
تجادلوهم، فإن قصدهم أن تجادلوهم.
قلت: إلى متى
نسكت؟
قال: إلى الوقت
الذي يطلبون فيه منكم أن تعلموهم أحكام الله في هذا الباب ليطبقوها.
قلت: عجبا ..
أذلك حاصل؟
قال: قريبا ..
قريبا جدا .
قلت: كيف .. لا
أمارة تدل على ذلك.
قال: ألم
يكونوا ينكرون الطلاق .. ويسبونكم به، ويشهرون بدينكم بسببه؟
قلت: بلى،
ولكنهم الآن شرعوه .. بل إن الإحصائيات ذكرت أن
85% هي نسبة الطلاق بالنسبة للزيجات في بعض الدول الغربية[44]،
وذكرت إحصائية أخرى أن نسبة الطلاق إلى الزواج في الغرب، هي: 60% في السويد، و40%
في الولايات المتحدة، و30% في ألمانيا[45].
قال: ألم
يكونوا يتعاملون بالربا .. ويبالغون في التعامل به.
قلت: ولا
زالوا.
قال: ألا
زالوا؟
قلت: أجل .
قال: سيظهر لهم
عواره، وسيتوبون منه، كما يتوبون من التثليب عليكم.
قلت: فما
تأمرنا قبل ذلك؟
قال: أن تثبتوا
على ما أنتم عليه حتى إذا بحثوا عن الحق وجدوكم.
قلت: وما تخشى
علينا؟
قال: أن تسمعوا
لهم، وتلغوا عقولكم باستماعكم .. وحين يبحثون عنكم لا يجدوكم ..
قلت: وأين نكون
حينئذ؟
قال: حينها
ستبحثون عن أنفسكم فلا تجدوها ..
تقدمت
من الباب الثاني من أبواب الحفظ، فرأيت صورة هي أشبه بصور المعتوهين، يريد أحدهم
أن يبعثر أمواله، فتأتي يد من السماء تمسكها، وتحول بينه وبين ذلك.
سألت
المعلم عن هذا الباب، فقال: هذا باب حفظ المال من تصرفات السفهاء .. هذا باب قوله
تعالى:) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ
لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً
مَعْرُوفاً ( (النساء:5)،
وقوله تعالى:) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا
تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا ( (النساء: من
الآية6)
قلت:
ومن السفهاء[46]؟
قال:
الذين لا يستخدمون عقولهم في صرف أموالهم.
قلت:
ألمرض عارض؟
قال:
لا .. لو كان مرضا لكانوا مجانين، ولما جاز تسليم الأموال لهم إطلاقا.. ولكن هؤلاء
لم يتدربوا التدريب الكافي على صرف الأموال، فيحتاجون لمن يقومهم، ويعدل سلوكهم،
فإن اعتدلوا سلمت إليهم أموالهم، الم يقل الله تعالى:) فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ (
قلت:
إلى متى يستمر هذا الحجر؟
قال:
إلى أن يتدربوا التدريب الكافي على الصرف الحسن للمال.
قلت:
ولو أن أحدهم استمر على سفهه، ولم يستطع أن يتدرب.
قال:
يستمر الحجر عليه، ما دام اسم السفه عالقا به.
قلت:
اسمح لي يا معلم أن أبدي لك عجبي من هذا الحكم، وأنا لا أبديه رأيا أخالف به النص،
ولكني أذهب مع أبي حنيفة t، فإنّه لا يحجر عليه بعد البلوغ، ولو بلغ غير رشيد إلاّ أنّه يمنع
وليّه من دفع ماله إليه، ولا يمنعه من أن يتصرّف بماله .. ولا يدفع إليه ماله إلاّ
أن يبلغ عمره خمساً وعشرين سنةً، فإذا بلغها دفع إليه ماله سفه أو رشد.
قال:
رحم الله أبي حنيفة، فقد كان فقيها .. ولكن ما الذي جعلك تميل إلى هذا القول؟
قلت:
ألم يخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل يسأل عن ماله فيما أنفقه، فكيف يسأل
هذا، وقد حجر عليه؟
قال:
وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل يسأل عن عمره فيما أفناه، فهل يحرم عليك
أن تمنع شخصا أراد إفناء عمره بالانتحار؟
قلت:
لا .. بل أمسك على يده، وأمنعه.
قال:
فهذا، كذاك.
قلت:
وحرية التصرف في المال، أليست الحرية هي منهج الشارع في التعامل مع الخلق، فهو
يهبهم حريتهم لينظر كيف يعملون؟
قال:
ولكنا عرفنا في الاستخلاف أن المال مال الله، وهو بالتالي مال الجماعة، فلا يجوز
للجماعة أن تفرط في مالها بحجة اختباره .. ثم لماذا نتكلم في هذا والنصوص قد
تكلمت؟
قلت:
ولكن النصوص قد يمكن صرفها عن ظواهرها، بل إن أبا حنيفة ومن وافقه استدلوا بقوله
تعالى:) وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا( (النساء: من
الآية6)، فاللّه تعالى نهى الوليّ عن الإسراف في مال اليتيم مخافة أن يكبر فلا
يبقى له عليه ولاية، والتّنصيص على زوال ولايته عنه بعد الكبر يكون تنصيصاً على
زوال الحجر عنه بالكبر، لأنّ الولاية عليه للحاجة، وإنّما تنعدم الحاجة إذا صار هو
مطلق التّصرّف بنفسه.
وقد
روي من حديث حبّان بن منقذ الأنصاريّ: ( أنّه كان يغبن في البياعات لآفة أصابت
رأسه، فسأل أهله رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يحجر عليه، فقال:( إنّي لا
أصبر عن البيع ) فقال - صلى الله عليه
وسلم -:( إذا بعت فقل: لا خلابة )[47]
جعل له الخيار ثلاثة أيّام.
فالنّبيّ
- صلى الله عليه وسلم - لم يحجر عليه على الرّغم من طلب أهله ذلك فلو كان الحجر
مشروعاً على من يغبن لحجر عليه.
قال:
ولكن الله تعالى قال:) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ( (النساء: من
الآية6)، فقد جعل تعالى غاية لتسليم الأموال هي الرشد، فهل قال تعالى:( فإن آنستم منهم خمسا وعرشين سنة)؟
ألم يقل الله تعالى:) فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ
لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ( (البقرة: من
الآية282)، فقد جعل عبارة السّفيه كعبارة من لا يستطيع التّعبير، ولذلك جعل
النيابة في التعبير لوليه.
قلت:
ولكن ما ذكره الحنفية لا يمكن دفعه.
قال:
ولا يمكن دفع ما ذكره غيرهم.
قلت:
فما المخرج؟
قال:
المخرج هو العدل، والإمام العادل، فالحجر قد عبث بأحكامه العابثون، فحالوا بين
الخير وأهله، بحجة الحجر على السفهاء، بل إنهم تدخلوا في الحياة الشخصية لمن
يرمونه بالسفه، ألم تقرأ ما قال الفقهاء في هذا؟
قلت:
لقد قرأته، وقد آذاني ما قرأته، وعجبت أن يذكر مثل ذلك في كتب الفقه.
قال:
اذكر بعض ما قرأت ليتبين الخطأ، فيجتنب، فإن من الناس من ينسخ بتلك الأقوال كلام
الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويعرض الدين عرضا مشوها ينفر الخلق منه.
قلت:
من أمثلة ذلك ما قال في روضة الطالبين:( فعلى الصحيح إن عين له امرأة لم يصح نكاح
غيرها، ولينكحها بمهر المثل أو أقل، فإن زاد فحكى ابن القطان قولا مخرجا أن النكاح
باطل، والمشهور صحته، لأن خلل الصداق لا يفسد النكاح، فعلى هذا تبطل الزيادة ويجب
مهر المثل.. وإن قال له الولي: انكح إمرأة من بني فلان، فلينكح واحدة منهن بمهر
المثل.. ولو جمع الولي في الإذن بين تعيين المرأة وتقدير المهر، فقال: انكح فلانة
بألف، فإن كان مهر مثلها دون الألف فالإذن باطل، وإن كان ألفا فنكحها بألف أو أقل
صح النكاح بالمسمى، وإن زاد سقطت الزيادة، وإن كان مهر مثلها أكثر من ألف فإن نكح
بألف صح النكاح بالمسمى، وإن زاد لم يصح النكاح)[48]
وذكر
آخر أنه إن لم يتزوج من عينها له (لم يصح النكاح،وإن كانت المعدول إليها دونها
مهرا، وخيرا منها جمالا ونسبا ودينا )[49]،
وكأن تسلط الولي هو الأساس في الإذن وعدمه لا مصلحة السفيه.
ولم
يكتف بعض الفقهاء بذلك، بل ألزموا الولي بالتعيين: ( أما إذا أطلق الولي الإذن فقال تزوج فوجهان
أحدهما: وهو محكي عن أبوي علي ابن خيران والطبري، وعن الداركي أنه يلغو الإذن ولا
بد من تعيين إمرأة أو قبيلة أو مهر)[50]
قال:
ما المصلحة المقصودة للسفيه، والتي يحرص الولي على تنفيذها من تزويجه من امرأة معينة
أو قبيلة معينة؟
قلت:
لعل الفقهاء نظروا في هذا إلى كثرة العوانس في بعض القبائل، فلم يجدوا غير السفهاء
ليقضوا بهم على ظاهرة العنوسة .. أليس تزويج العوانس من مقاصد الشرع؟
ضحك،
وقال: ما أحسن التماسك للمخارج .. فمن أين استفدته؟
قلت:
لقد استفدته من خلطتهم .. فقد خالطتهم زمانا طويلا.
قال:
فاستخدمها في المضايق الصحيحة.
قلت:
يا معلم، فما المخرج يا معلم من هذه المعضلة، فهناك من يسيء للسفيه بحجة الحجر
عليه، حتى أن أبا بكر t لو بقي حيا لحجر عليه .. ألم يخرج جميع ماله في سبيل الله؟
فعن عمر بن
الخطاب t قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق ووافق ذلك
مالا عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، قال: فجئت بنصف مالي.قال: فقال
لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( ما أبقيت لأهلك? ) قلت: مثله. وأتى أبو بكر
بكل ما عنده، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( ما أبقيت لأهلك? ) فقال:
أبقيت لهم الله ورسوله. فقلت: لا أسابقك إلى شي أبدا.
وعن قيس، قال: اشترى أبو بكر t
بلالا، وهو مدفون في الحجارة، بخمس أواق ذهبا، فقالوا: لو أبيت إلا أوقية لبعناك.
قال: لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته.
ولهذا استحق أن
يقول له - صلى الله عليه وسلم -:( ما
نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر )
فبكى أبو بكر t وقال:( هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله? )[51]
قال:
ليس أبا بكر وحده من يحجر عليه، بل سيحجرون على أكثر الصحابة y،
وأكثر كرام هذه الأمة وصالحيها.
ألم تخرج عائشة
ـ رضي الله عنها ـ ابنة الصديق t جميع ما وهب لها من المال حتى أنها نسيت أن تبقي درهما واحدا
تشتري به طعاما لفطورها؟
قلت: فما
المخرج يا معلم؟
قال: ألم أقل
لك هو العدل؟
قلت: ولكن
العدالة وصف يدعيه الجاهل والعالم.
قال: فتقنين
العدل يمنع الجاهل عن جهله.
قلت: كيف يقنن العدل؟
قال: تضبط
التصرفات التي يجوز للسفيه أن يتصرفها والتصرفات التي لا يجوز.
قلت: قد ضبط
الفقهاء ذلك.
قال: العصور في
ذلك مختلفة، والمحال مبتاينة، ولا يصح لمن عاش واقعا أن يشرع لغير واقعه .. وقد
قرأت قبل قليل بعض الأخطاء الواقعة في ذلك.
قلت: ولكن
أقوال الفقهاء عندنا مقدسة؟
قال: فتوبوا من
تقديس غير الله، أليس الله وحده:( القدوس )
قلت: ولكن
التزام المذهب؟
قال: دعنا من
هذا، فله محله في ( سراديب الاعتراض)، فلن يذوق السلام إلا من عاش يستلهم من الله،
ويسمع من الله.
تقدمت
من الباب الثالث من أبواب الحفظ، فرأيت صورا لطعام كثير، شكله يكاد يقول: (كلوني )
لكن تنبعث منه رائحة دونها كلها الروائح المنتنة، تنفر النفس منه، وقد علقت لافتة
على الباب مكتوب عليها:)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (
(الاسراء:16)
فسألت
المرشد عن هذه الصورة، فقال: هذا باب الترف، وهو باب قد تحمده العين، ولكن آثاره
تظل تلاحقك لتود بعدها لو أن الله رحمك بزكام لا ينقطع.
قلت
للمعلم: قد عرفنا سر الصورة، فما سر الآية؟
قال:
هذه آية سنة الله في المترفين.
قلت:
ففسرها لي، فإن بعض قومي يتخذها مطية لهجاء القرآن الكريم.
قال:
وماذا يقولون؟
قلت:
هم يفهمون منها بأن الله إذا أراد هلاك قرية بعث رسالة إلى مترفيها، أو بعث فيهم
نبيا يطلب منهم أن يفسقوا فيها لينزل عليهم العذاب، فيدمرهم.
قال:
وما جرهم إلى هذه الأغلوطة؟
قلت:
قوله تعالى:) أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا (
قال:
فهلا سألوا عن معناها، فإنما شفاء العي السؤال.
قلت:
هم بين أمرين: إما أن يكونوا قد سألوا، فوقعوا في محرف زاد الطين بلة، وإما أنهم
عرفوا الحق، فستروه، وعمدوا إلى الباطل يظهرونه.
قال:
فانشروا الحق الذي أرادوا ستره.
قلت:
بالرد عليهم .. فقد رددنا.
قال:
الرد جدل، والجدل صراع، انصروا الحق بإخراجه ليراه الناس.
قلت:
كيف، لم أتصور أن الرد صراع.
قال:
أرأيت لو اتهم بعض الناس امرأة هي في قمة الجمال الذي حباه الله عباده، بالدمامة،
فانبرى خطيب يصف جمالها، ويبالغ بالأشعار
في وصفه، أكان يغني من الأمر شيئا؟
قلت:
لو أنه بدل ذلك أسفرت المرأة عن بعض محاسنها، فرآه الذي اتهمها لتاب من اتهامه،
ولعله يتقدم لطلب يدها، أو لعله يموت كالمجنون شوقا إليها.
قال:
فكذلك فافعلوا .. لا تضيعوا أوقاتكم في الجدل والصراع .. ودعوا الحقيقة لتخرج
للناس حقيقة لا أوهاما .. وسترون كيف يقبل عليها الناس يقبلون يدها، وينحنون
أمامها.
قلت:
أرانا ـ يا معلم ـ قد تهنا على هذا الباب وحقائقه.
قال: لم نته ..
أرأيت لو كنت سائرا في طريق، فاعترضك شوك، أكنت تنزعه، أم تخاف أن يشغلك عن طريقك؟
قلت: بل أنزعه،
لأني لو دست عليه لانقطعت عن سيري.
قال: فكذلك ما
نفعله، ألم تقولوا:( السكوت عن البيان وقت الحاجة لا يجوز )
قلت: بلى، وقد
قال الغزالي في منخوله:( تأخير البيان عن وقت الحاجة محال لأنه من جنس تكليف ما لا
يطاق، وأما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز)[52]
قال: فهذا من
السكوت الذي لا يجوز.
قلت:
فما معنى قوله تعالى:) أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا (
قال:
فماذا قال المفسرون في معنى:( الأمر )
قلت:
ذكروا أقوالا كثيرة، تعود إلى هذه الأقوال الثلاثة:
الأول:
أنه من الأمر، وفي الكلام إضمار، تقديره: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا[53]،
ومثله في الكلام: أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر.
والثاني:
كثَّرنا يقال: أمرت الشيء وآمرته، أي: كثَّرته[54]،
ومنه قولهم: مهرة مأمورة، أي: كثيرة النتاج، يقال: أَمِرَ بنو فلان يأمرون أمراً:
إذا كثروا.
والثالث:
أنَّ معنى أَمرنا أمّرنا[55]،
يقال: أَمرت الرجل، بمعنى، أمّرته، والمعنى: سلّطنا مترفيها بالإمارة.
هذا هو مجمل
الخلاف الوارد في الآية .. فما ترجح يا معلم؟
قال: أرجح
الأقوال الثلاثة.
قلت: تقصد
التوقف .. لأن الأدلة متكافئة .. هذا صحيح، فكل ينصر دعواه بما ورد في اللغة.
قال: بل أرجح
الأقوال الثلاثة .. لأن الأقوال الثلاثة تفسر الآية، أو تحاول أن تسمع بعض معاني
الآية.
قلت: كيف، فقد
اعتدت على أن الترجيح يكون لبعض الأقوال لا لجميعها.
قال: الأصل في
الترجيح أن تجمع بين الأقوال لا أن تفرق بينها، لأن كل قول نتاج جهد، ولا ينبغي أن
نرمي الجهد دون أن نستفيد منه.
قلت: فما وجه
ترجيحك للأقوال الثلاثة؟
قال: هو الصيغة
التي وردت بها الآية .. فلو أن الله تعالى شاء أن لا يفهم من القرآن الكريم إلا
القول الأول، لأتى بالمضمر، فقال:( أمرنا مترفيها بالطاعة)، ولو شاء القول الثاني لقال
بدل أمرنا:( كثرنا )، ولو شاء القول الثالث لقال بدلها:( جعلناهم أمراء )
قلت: فما
الفائدة في الجمع بين هذه الأقوال؟
قال: هذه الآية
تبين ثلاثة مواقف إذا وقفها المترفون حاق بهم الهلاك، فهي تبين قانون الله تعالى
في عقاب المترفين، وهذا القانون يستند إلى ثلاثة أمور، وتكون العقوبة بحسب اجتماع
هذه الأمور او افتراقها.
قلت: فما الأمر
الأول؟
قال: القانون
الأول هو أن الترف يؤدي إلى الفسوق عن أمر الله، ألم يؤمر المترفون بالطاعة،
فجنحوا إلى المعصية؟
قلت: بلى.
قال: فهل كان
ذلك بإرادتهم؟
قلت: لو كانوا
مكرهين لارتفع عنهم التكليف، ألم يقل - صلى الله عليه وسلم -:( إن الله تعالى
تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )[56]
قال: بل كانوا
مكرهين .. ومع ذلك لم يرفع عنهم القلم.
قلت: أنت تخالف
النص بذلك .. بل تخالف الإجماع .. فقد انعقد إجماع الأمة على عدم تكليف المكره ..
بل تخالف القرآن الكريم ألم يقل الله تعالى:) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ
صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( (النحل:106)
قال: معاذ الله
أن اخالف واحدا مما ذكرت .. ولكن نوع الإكراه الذي وقع فيه هؤلاء من الجنس الذي لا
يرفع عن صاحبه العقوبة.
قلت: لقد تحدث
الفقهاء عن شيء من هذا، فذكروا الإكراه الملجئ والإكراه غير الملجئ .. فما نوع هذا
الإكراه؟
قال: هذا إكراه
الترف لصاحبه .. فإن الشهوات إذا تغلغلت في كيان صاحبها تحكم سيطرتها عليه، فلا
يستطيع منها انفكاكا.
قلت: هذا صحيح،
ونحن نرى الرجل عندنا يدخن ويسرف في التدخين، فإذا نصحه الطبيب بالإقلاع لم يستجب،
فإذا أخبره أن في تدخينه تلفه، لم يكد يسمع لقول الطبيب.
قال: فهذا واقع
تحت عبودية ما وقع إدمانه عليه.
قلت: أللترف من
القوة في نفس صاحبه ما للتدخين؟
قال: بل الأمر
أخطر مما تتصور .. ألم تسمع قوله تعالى:) فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ
يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا
مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا
مُجْرِمِينَ( (هود:116)، فقد اتبع المترفون ما أترفوا فيه ولم يتبعوا الرسل.
قلت: لكأن الله
تعالى يعتبر المترفين عبادا وقفوا بموازاة الرسل يعارضون دعوتهم.
قال: ذلك صحيح،
فللترف من التسلط على أتباعه ما يمنع من رؤية الحق أو الإذعان له.
قلت: لماذا؟
قال: لأن
المترف لا يرى من الحياة إل جانبها الجسدي، ولا يرى من جانبها الجسدي إلا ما يملأ
عليه شهواته التي لا تنتهي، فهو في شغل عن عبادة الله أو الاستماع لأوليائه، ألم
تسمع قوله تعالى:) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ( (المؤمنون:33) .. أتعلم السر المودع في قوله تعالى:) يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ (
قلت: لعلهم لم
يكونوا يرون من نبيهم إلا الطعام الذي يأكله، والشراب الذي يشربه.
قال: نعم .. هو
ذاك، فقد كانوا يتصورون أن معجزة النبي ينبغي أن تكون طعاما فارها.
قلت: ويكون
كتابه كتاب طبخ يدلهم على أجمل الوصفات التي ترضي شهواتهم.
ضحك، وقال: هذه
هي الحقيقة .. فلذلك تجد خشوعهم أمام من يصف لهم المطاعم والمشارب أعظم من خشوعهم
أمام من يؤدبهم بآداب الله، ويهديهم إلى سبيله.
قلت: ألا تعلم أن
أغلى المنشورات عندنا هي كتب الطبخ .. وأنها مع ذلك أكثر الكتب انتشارا.
قال: فهل يمكن
أن يسمع شيئا من استعبدته شهواته، فصرفته عن الله؟
قلت: ولكن
الترف عندنا ـ يا معلم ـ تجاوز الأكل والشرب .. فنحن الآن في مراحل متقدمة من
الترف.
قال: وما هي؟
قلت: ترف الأكل
والشرب أصبح عادة قديمة، وهو على الأقل ترف له معنى، ولكنه نشأ الآن ترف يطلق عليه
( الدلال ) أو ( الترف للترف )
قال: وما هو
الترف للترف؟
قلت: الترف
الذي لا يرضي أي شهوة إلا شهوة الترف.
قال: لم أفهم.
قلت: سأضرب لك
أمثلة مما تورده الصحف عندنا، وهو قليل من كثير.
لقد أوردت بعض
الصحف[57] أن:( 6000 دولار تنفقها أمريكية لتغسيل ملابسها في مرة واحدة ..
وذلك بإرسالها برسالة خاصة إلى باريس إلى
مغسلة تعتني بتغسيلها، وذلك في كل مرة تغسل ثيابها بها .. )
وذكرت هذه الصحيفة
أن ( أمريكية غيرت رخام منزلها ليتوافق مع لون جلد كلبيها )
وذكرت صحيفة
أخرى[58] أن 17 مليار دولار ينفقها الأوربيون وحدهم سنويا لشراء غذاء
الحيوانات المنزلية!!
في نفس الوقت
الذي ذكرت فيه هذه الصحيفة أن 6 مليار دولار تكفي لتغطية نفقات التعليم الأساسي لكل
شخص يحتاج إليه في شتى بقاع العالم.
وذكرت صحيفة
أخرى[59] أن 75 ألف دولار لعلاج
قردين (لمشكلة نفسية) وسيتم استئجار خبير في الطب النفسي لمساعدتهما على التكيف.
وذكرت صحيفة
أخرى [60] أن هناك
( تلفزيونا على مدى 24 ساعة في أمريكا خاص بالكلاب وجميع أفلامها كلاب والممثلين
والممثلات كلاب والجمهور كلاب )
وحسب إحصائية
مجلة (يو اس نيوزاند وورلد ريبورت) 1985 وردت هذه الأرقام:
92
مليون عدد الكلاب والقطط الأليفة في الولايات المتحدة الأمريكية.
8
مليار دولار مصروفات الحيوانات الأليفة.
ويوجد فنادق
للحيوانات في ولاية اللوينز ومطاعم.
394
دولارا للقبر الواحد للكلب أو القط في مقبرة ايلم لون مومريال.
180
دولارا للنعش.
قال: ما سر هذا
الغرام الغريب بالحيوانات؟
قلت: لعلهم
قرأوا قوله تعالى:) أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ ( (لأعراف: من
الآية179)، فراحوا يرحمون بني جنسهم.
قال: أهم يطبقون
القرآن الكريم إذن؟
قلت: بل القرآن
الكريم هو الذي يطبق عليهم.
قلت: فما الأمر
الثاني؟
قال: الترف
أشبه ما يكون بالفيروس الذي ينشر العدوى بين الناس، فلا يكتفي بالأغنياء يستل ما
في خزائنهم من ثروات، بل يلجأ إلى الفقراء يستل ما في جيوبهم منها.
قلت: هذا صحيح،
فما إن يقدم غني من الأغنياء عندنا على عرف من الأعراف يستحدثه حتى يسرع الفقراء
إلى كتب أولادهم ودفارتهم يبيعونها ليشتروا بدلها الترف الذي ابتدعه الغني.
قال: وما سبب
ذلك؟
قلت: التقليد
الأعمى .. أو الانبهار ..
قال: هو الترف
.. هذا أثر من آثار الترف .. أليس لكل مرض أعراضه؟
قلت: بلى.
قال: فهذا من
أعراض مرض الترف.
قلت: لكنه سبب
مشاكل عظيمة في حياة الناس حتى أن الصحف نشرت أن 13 مليون شاب في مصر بلغوا سن
الزواج ولا يستطيعون تدبير نفقاته، وأن مليون ونصف المليون شاب عقد قرانه ولا
يستطيعون البناء في مصر.
قال: وما سبب
ذلك؟
قلت: هو ما
نشرته الصحيفة نفسها، فقد ذكرت أنه من 100 -250 ألف جنيه تكلفة بعض الأعراس في
مصر، وذكرت أن 60 ألف درهم تكلفة بطاقات دعوة (في دبي).
ألا تعلم يا
معلم: أن 1.5 مليار دولار تنفقها المرأة الخليجية على مستحضرات التجميل[61]؟
قال: ولماذا لم
تنشروا معاني الزهد لتقضوا على مظاهر الترف؟
قلت: ولكن
المجادلين سيملأون الدنيا ضجيجا بتجريم الزهد، ليودعوه بعدها السجون والزنازن.
قال: ولماذا لا
يودعون الترف هذه السجون؟
قلت: لأن النص
يدل على استحبابه.
قال: أي نص ..
ألا ترى النصوص تحرمه؟
قلت: إيجاد
النصوص والتلاعب بها ليس صعبا، ألم تسمع قوله تعالى:) وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ
مِنَ الدُّنْيَا ( (القصص: من
الآية77)،وقوله تعالى:) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ( (لأعراف: من
الآية32)، وقوله تعالى:) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا ( (الكهف: من
الآية7) .. وقوله تعالى:) تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ( (الكهف: من
الآية28) .. وقوله تعالى:) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا( (الكهف: من
الآية46) .. وقوله تعالى:) مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ( (طـه: من
الآية87)
قال: ما بالك
تقطع القرآن الكريم تقطيعا يحرف معناه، ويغير حقائقه.
قلت: يا معلم
لا تلمني، فأنا أحكي ما يفعلون وما يفهمون، وليس على من روى ذنب.
قال: أتعلم
النصوص القرآنية الدالة على هذه السنة الاجتماعية: سنة تقليد الصغار للكبار،
والمعوزين للمترفين؟
قلت: لعلك تقصد
قوله تعالى:) وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى
بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا
أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادا ً(
(سـبأ: من الآية31 ـ 33)
قال: نعم ..
وآيات كثيرة .
قلت: ولكن
المستكبرين يتبرأون من التأثير في المستضعفين؟
قال: هذا صحيح.
قلت: ولكن ..
لماذا يرمي المستكبرون المستضعفين؟
قال: هم لا
يرمونهم في الحقيقة، وإنما يرمون استضعفاهم وتقليدهم واتباعهم الأعمى، وبيعهم
دينهم بدنيا غيرهم .. ألا تعلم أن الشعور بالضعف هو أخطر الأمراض، بل هو الأرضية
التي على أساسها تقبل الأمراض؟
قلت: كيف؟
قال: ألم يقل
الله تعالى:) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي
الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا
فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً( (النساء:97)
قلت: لقد سماهم
الله تعالى ظالمي أنفسهم، وسموا أنفسهم مستضعفين.
قال: ولو سموا
أنفسهم:( ظالمي أنفسهم ) لسماهم الله تعالى:( مستضعفين )
قلت: كيف؟ وما
الفرق؟
قال: المستضعف
الحقيقي يبحث عن كل أرض، ويمارس كل سبب، لكن الظالم لنفسه يقعد به كسله وشعوره
بضعفه عن عن أي سبب ولا يعتل لذلك إلا بضعفه.
قلت: فما الأمر
الثالث؟
قال: التسلط.
قلت: هذا صحيح،
فمن معاني ( أمرنا ) أمَّرنا، وقد قال ابن جرير
( يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء )، وهذا
يستقيم على قراءة من قرأ ) أمَّرنا
مترفيها (
وقد يدل لهذا القول
قول ابن عباس t في الآية:( سلطنا أشرارها فعصوا
فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم اللّه بالعذاب، ويدل لهذا قوله تعالى:) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ
قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا
بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(
(الأنعام:123)
قال: هذه الآية
تبين سنة اجتماعية أخرى يفرزها الترف، وهي تسلط المترفين على المستضعفين.
قلت: بالسيف؟
قال: لا
بالترف.
قلت: كيف ذلك،
لم أسمع أن حاكما تربع على العرش، وجعل وسيلته إلى ذلك ترفه.
قال: هو لم يجعل
.. ولكن الاستضعاف الذي امتلأت به نفوس
العامة، أو انتشار فكر الترف بين العامة أعماهم عن الصالحين، فلم يروا صالحا للحكم
غير المترفين، ألم تسمع قوله تعالى عن الطريقة
التي تربع بها فرعون على العرش:) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً
فَاسِقِينَ( (الزخرف:54)
قلت: لقد ربط
تعالى بين استخفافه وفسقهم.
قال: لولا
فسقهم، ما استخفهم.
قلت: ولكن
لماذا يتسلط المترفون على أموال الشعب .. ألا يكفيهم ما هم فيه من ترف؟
قال: المترف يرى
كل شيء ملكا له، ولذلك إذا استبدوا بالحكم جعلوا من أموال الشعب اموالا لهم
يهبونها لمن شاءوا، ويبنون بها ما شاءوا، ألم تسمع الصلات الضخمة التي كانت توهب
للشعراء من الخلفاء والوزراء؟
قلت: بلى، ونحن
نستدل على ذلك بكرم الخليفة والوزير، ولا نزال نروي ما روي عن كرم سيف الدولة حيث
بعث مرة لبعض خواص شعرائه وصيفة ووصيفا ومع كل واحد منهما بدرة وتخت من ثياب مصر
فقال من قصيدة طويلة:
لم
يغد شكرك في الخلائق مطلقا |
إلا
ومالك في النوال حبيس |
خولتنا
شمسا وبدرا أشرقت |
بهما
لدينا الظلمة الحنديس |
رشأ
أتانا وهو حسنا يوسف |
وغزالة
هي بهجة بلقيس |
هذا
ولم تقنع بذاك وهذه |
حتى
بعثت المال وهو نفيس |
أتت
الوصيفة وهي تحمل بدرة |
وأتى
على ظهر الوصيف الكيس |
وبررتنا
مما أجادت حوكه مصر |
وزادت
حسنه تنيس |
وقد كان ملوك الطوائف
بالأندلس يبذلون العطاء الوافر للشعراء والأدباء الذين يقولون قصائدهم في مدحهم،
وقد أسرفوا في هذا الأمر إسرافاً لا مثيل له .. فهذا المعتمد بن عباد يمنح الشاعر
عبد الجليل بن وهنون ألفين من الدنانير على بيتين من الشعر، بينما منح المعتصم بن
صمادح قرية بأكملها للشاعر أبي الفضل جعفر بن أبي عبد الله بن مشرف حينما أنشده
قصيدته التي مطلعها:
قامت
تجر ذيول العَصْبِ والحِبَرِ ضعيفة
الخصر والميثاق والنظر
ولما بلغ منها
قوله:
لم
يبق للجور في أيامهم أثر إلا الذي في
عيون الغيد من حَوَرِ
قال المعتصم:( لقد أعطيتك هذه القرية نظير
هذا البيت الواحد) ووقع له بها، وعزل عنها نظر كل وال[62].
قال: وتغفلون
عن الرعية الجائعة.
قلت: إلا من
كان منها من له القدرة على نظم الشعر، أو امتلك من البيان ما يسحر به الخلفاء
والوزراء والقادة.
ولكن مع ذلك،
فقد أنكر العلماء ما وقع فيه الحكام، فهذا ابن حزم يقول:( اللهم إننا نشكو إليك
تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها
عما قريب، عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم، وبجمع أموال ربما
كانت سبباً في انقراض أعمارهم وعوناً لأعدائنا عليهم عن حاجة ملتهم حتى استشرف
لذلك أهل القلة والذمة، وانطقت ألسنة أهل الكفر والشرك )[63]
قال: ألا
تخافون أن يحيق بكم ما حاق بالمترفين من هلاك؟
قلت: ولكنا من
الأمة المرحومة.
قال: سنة الله
مع خلقه واحدة، ألا تعلم أن الله ( عدل )
قلت: ولكن النصوص
وردت برحمة هذه الأمة.
قال: لماذا
تأخذون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، ألم يكن - صلى الله عليه وسلم - يخشى على أمته
عواقب الترف، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا )،
قالوا: وما زهرة الدنيا؟ قال:( بركات الأرض ) وذكر الحديث[64].
وعندما قدم أبو
عبيدة بن الجراح t بمال من البحرين، وسمعت الأنصار بقدومه وافوا صلاة الفجر مع
رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلما صلى رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه
وسلم - انصرفوا فتعرضوا له فتبسم رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حين رآهم
ثم قال:( أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟) فقالوا: أجل يا رَسُول
اللَّهِ. فقال - صلى الله عليه وسلم -:( أبشِرُوا وأمِّلُوا ما يَسُرُّكم، فوالله
ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم،
فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم )[65]
وقال أبو سعيد
الخدري t: جلس رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وجلسنا
حوله فقال:( إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها )[66]
وقال - صلى
الله عليه وسلم -:( الدنيا حلوة خضرة، وإن اللَّه تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف
تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء )[67]،
وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إن لكل أمة
فتنة وفتنة أمتي المال )[68]
قلت: ولكنا لم
نهلك، مع أن الترف منتشر عندنا، ويحكمنا المترفون ..
قال: أتستعجل
عقوبة الله؟
قلت: بل أبحث
عن مصاديق سنن الله.
قال: فسر في
الأرض .. أو اذهب إلى الأندلس لترى سنن الله.
أحسست بحسرة
عظيمة، وهو يذكر الأندلس، وكادت الدمعة تنزل من عيني، وأنا أسمع اسمها، فقلت: وأين
الأندلس يا معلم؟.. لكأني بك لا تعلم أنها قد ذهبت عنا .. حتى اسمها لم نعد نسمعه.
قال: ولماذا؟
.. ألم تحكموها قرونا طويلة؟
قلت: بلى ..
ولكنها في الأخير ذهبت .. ورثاها الشعراء، ألم تسمع ما قال أبو البقاء الرندي.
قال: وما قال؟
قلت: قال مصورا
هذه المأساة التي حلت بالمسلمين:
لكل شيء إذا ما تم نقصان |
فلا يغر بطيب العيش إنسان |
هي الأمور كما شاهدتها دول |
من سره زمن ساءته أزمان |
وهذه الدار لا تبقي على أحد |
ولا يدوم على حال لها شان |
أين الملوك ذوي التيجان من يمن |
وأين منهم أكاليل وتيجان |
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى |
قضوا فكأن القوم ما كانوا |
فجائع الدهر أنواع منوعة |
وللزمان مسرات وأحزان |
وللحوادث سلوان يسهلها |
وما لما حل بالإسلام سلوان |
إلى أن يقول:
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف |
كما بكى لفراق الإلف هيمان |
على ديار من الإسلام خالية قدأقفرت |
ولها بالكفر عمران |
حيث المساجد قد صارت كنائس |
ما فيهن إلا نواقيس وصلبان |
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة |
حتى المنابر ترثي وهي عيدان |
يا غافلا وله في الدهر موعظة |
إن كنت في سنة فالدهر يقظان |
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم |
وأنتم يا عباد الله إخوان |
ألا نفوس أبيات لها همم |
أما على الخير أنصار وأعوان |
بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم |
واليوم هم في بلاد الكفر عبدان |
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم |
عليهم من ثياب
الذل ألوان |
قال: لو لبسوا ثياب
الزهد لحالت بينهم وبين ثياب الذل .. أتعلم الثياب التي كان يلبسها عمر t
في الوقت الذي كان ملوك العالم يرتجفون من اسمه؟
قلت: لقد كان t
زاهدا، مبالغا في الزهد، وقد روى ابنه عبد الله t قال:( كان عمر يقوت نفسه وأهله ويكتسي الحلة في الصيف ولربما خرق
الإزار حتى يرقعه فما يبدل مكانه حتى يأتي الإبان[69]،
وما من عام يكثر فيه المال إلا كسوته فيما أرى أدنى من العام الماضي، فكلمته في
ذلك حفصة فقال: إنما أكتسي من مال المسلمين وهذا يبلغني[70].
وروى عروة عن
عامل لعمر t كان على أذرعات قال: قدم علينا عمر بن الخطاب وإذا عليه قميص من
كربيس فأعطانيه فقال: اغسله وارقعه، فغسلته ورقعته، ثم قطعت عليه قميصا قبطيا
فأتيته بهما، فقلت: هذا قميصك وهذا قميص قطعته عليه لتلبسه، فمسه فوجده لينا فقال:
لا حاجة لنا فيه؛ هذا أنشف للعرق منه[71].
قال: وما حمله
على هذا، وقد كان بيده خزائن الأموال يصرف منها ما يشاء؟
قلت: إن كون
خزائن الأموال بيده هو الذي جعله يقتر على نفسه هذا التقتير، وقد روى الربيع بن
زياد الحارثي أنه وفد إلى عمر بن الخطاب فأعجبته هيئته ونحوه فشكى عمر طعاما غليظا
أكله فقال الربيع: يا أمير المؤمنين! إن أحق الناس بطعام لين ومركب لين وملبس لين
لأنت، فرفع عمر جريدة معه فضرب بها رأسه وقال أما والله! ما أراك أردت بها الله
وما أردت بها إلا مقاربتي، إن كنت لأحسب أن فيك؟ ويحك! هل تدري ما مثلي ومثل
هؤلاء؟ قال: وما مثلك ومثلهم؟ قال: مثل قوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم
فقالوا له: أنفق علينا، فهل يحل له أن يستأثر منها بشيء؟ قال: لا يا أمير
المؤمنين! قال: فكذلك مثلي ومثلهم[72].
قال: فانصح
أولي الأمر من قومك أن يهتدوا بهدي عمر .. أليسوا معجبين بعدله؟
قلت: هم معجبون
بعدله .. ولكنهم أضعف من أن يهتدوا بهديه .. وقد وجدوا من المقربين من أهل العلم
من يزين لهم ما هم فيه، ويقبح لهم ما صنع عمر t.
انتفض قائلا:
ما هذا؟
قلت: هذا
الواقع .. إنهم يعتبرون ترقيع عمر t لثيابه بدعة، أو له مصادر هندية أو مانوية.
قال: ألم
يقرأوا ماروى حميد بن هلال أن حفص بن أبي العاص كان يحضر طعام عمر، وكان لا يأكل،
فقال له عمر: ما يمنعك من طعامنا؟ قال: طعامك جشب غليظ، وإني راجع إلى طعام لين قد
صنع لي فأصيب منه، قال: أتراني أعجز أن آمر بشاة فيلقي عنها شعرها، وآمر بدقيق
فينخل في خرقة، ثم آمر به فيخبز خبزا رقاقا وآمر بصاع من زبيب فيقذف في سعن[73]،
ثم يصب عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال؟ فقال حفص: إني لأراك عالما بطيب العيش،
فقال عمر: أجل، والذي نفسي بيده لولا كراهية أن ينقص من حسناتي يوم القيامة
لشاركتكم في لين عيشكم[74].
قلت: سمعوا ..
ولكنهم يقولون: هذا تشدد من عمر.
قال: ألم يسمعوا قوله - صلى الله عليه وسلم - لأم
المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ:( إذا أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد
الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه )[75]
قلت: هم
يحفظونه ويروونه .. ثم يؤولونه.
قال: وهل
يؤولون تسلط أعدائكم عليكم.
قلت:
صدقت يا معلم .. لقد بالغنا في الترف إلى الحد الذي تسلط فيه أعداؤنا علينا فهلكنا
بسببهم، لقد قال مؤرخ نصراني يسخر منا:( العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاءوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل
إلى الخفة والمرح والاسترسال في الشهوات )
ويقول مؤرخ منا[76]:(
والحقيقة تقول: إن الأندلسيين في أواخر أيامهم، ألقوا
بأنفسهم في أحضان النعيم، وناموا في ظل ظليل من الغنى الواسع والحياة العابثة،
والمجون وما يرضي الأهواء من ألوان الترف الفاجر، فذهبت أخلاقهم كما ماتت حميتهم
وحمية آبائهم البواسل، وغدا التهتك عن أي شيء يتحدث؟ عن أي قرن يتحدث؟ عن أي زمن
يتحدث؟ وغدا التهتك والخلاعة والإغراق في المجون، واهتمام النساء بمظاهر التبرج
والزينة بالذهب واللآلئ، من أبرز المميزات أيام الاضمحلال، لقد استناموا للشهوات
والسهرات الماجنة والجواري الشاديات. وإن شعبا يهوي إلى هذا الدرك من الانحلال
والميوعة، لا يستطيع أن يصمد رجاله لحرب، أو جهاد )
وقد ذكر المؤرخون الأمثلة الكثيرة على هذا، فقد ذكروا أن
سبب مقتل ابن هود، أنه تنازع هو ونائبه ووزيره في المرية، محمد الرميمي، بسبب
النزاع على جارية نصرانية، كل منهم يريدها لنفسه، والعدو يتربص بهم، فقام الوزير،
ودس من قتل ملك المسلمين أحد ملوك الطوائف: ابن هود، بسبب فتاة، جارية نصرانية.
ويقول عبد الله عنان في نهاية الأندلس:( لم يلبث أبو
الحسن، وهو أحد ملوك بني الأحمر، بل من آخرهم، أحد زعماء غرناطة، بل ومن آخرهم أن
ركن إلى الدعة وأطلق العنان لأهوائه وملاذه، وبذر حوله بذور السخط والغضب، بما سار
به في شئون الرعية والدولة، وما أثقل به كاهلهم من صنوف المغارم وما أغرق فيه من
دروب اللهو والعبث، وهكذا عادت عوامل الفساد والانحلال والتفرق الخالدة، تعمل
عملها الهادم، وتحدث آثارها الخطرة.
..
ذلك أن أبا الحسن ركن في أواخر أيامه إلى حياة الدعة،
واسترسل في أهوائه وملاذه، واقترن للمرة الثانية بفتاه نصرانية رائعة الحسن، أخذت
سبية في إحدى المعارك، واعتنقت الإسلام كما يقولون؛ ولهذا حل بالأندلس ما حل بها،
وانشغل المسلمون في بناء القصور، وبناء الدور، وبناء المزارع والبساتين، وعدوهم
يعبث، ويعمل عمله الرهيب حتى أتاهم على حين غرة )
ويذكر المؤرخون أنه عندما قصد الإفرنج بلنسية لغزوها في عام ستة وخمسين وأربعمائة هجرية، خرج
أهلها للقائهم بلباس الزينة، فكانت الوقعة التي هزم فيها المسلمون هزيمة منكرة حتى
قال الشاعر:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستموا حـلل الحــرير عليكمـوا
ألوانـا
ما كان أقبحـهم وأحسـنكم بهـا لو لم يكن ببطرنـة مـا كانـا
قال:
فقد جعل الله لكن في الأندلس عبرة، فاعتبروا .
قلت:
يا معلم .. لقد فهمت كل هذا .. لكن أيحجر على المترفين، لقد ورد في القرآن الكريم
الحجر على السفهاء، ولم أجد الحجر على المترفين.
قال:
وهل تتصور هذا الذي يبحث عن حتفه بظلفه رشيدا.
قلت:
لا .. الرشيد يبحث عن حياته لا عن حتفه.
قال:
فهؤلاء بسبب غرقهم في الترف، يبحثون عن حتفهم.
قلت:
فبم تنصحنا؟
قال:
احجروا على مترفيكم كما تحجرون على سفهائكم.
قلت:
كيف؟ أتريدنا أن نحجر على شعوبنا؟
قال:
إن وقعت جميع شعوبكم في الترف، فاحجروا عليها تشريعا قبل أن يحجر عليها الله تعالى
تقديرا.
قلت:
فكيف نحجر عليها؟
قال:
غيروا صياغة كل طلب يرسل لطلب سلعة بسلعة أخرى؟
قلت:
كيف ذلك؟
قال:
سمعت أنكم تبالغون في استيراد السجائر.
قلت:
أجل، فالسعودية وحدها تستورد ما قيمته 1.1 مليار ريال، وهي تعادل 14.4 ألف طن من
السجائر، منها 10 آلاف طن تستورده من أمريكا، بقيمة 895 مليون ريال، ومنها 3 آلاف
طن بقيمة 173.5 مليون ريال من بريطانيا[77].
حتى
قال سعد الدوسري:( كنا ندخن سبعة آلاف طن، وصرنا ندخن 14 ألف طن بزيادة قدرها 100
% والمستفيد الأكبر أمريكا وبريطانيا )[78]
قال:
فهذه المبالغ الضخمة التي ترسل إلى هذه الشركات الآثمة غيروا اتجاهها.
قلت:
إلى أين؟
قال:
إلى مصانع الفؤوس والمعاول.
قلت:
لم؟ .. وما الحاجة إليها؟
قال:
لتعمروا بلادكم، فبلادكم لا يعمرها الدخان، وإنما تعمرها الفؤوس والمعاول ..
وصحراؤكم لا يحييها اللهيب الذي تنفخه سجائركم، وإنما يحييها النشاط الذي تبعثه
فؤوسكم.
تقدمت
من الباب الرابع من أبواب الحفظ، فرأيت صورة لرجل جلد قوي يجري وراء صبية صغار
يحبون ليسرق حليبهم، وهم يتضاغون من الجوع، فلا يرحمهم .. ثم يغسل بالحليب الذي
سرقه منهم يديه ورجليه ويرمي الباقي منه في بركة صغيرة .. ثم يرمي نفسه يسبح فيها.
فقلت
للمعلم: ما هذه الصورة؟
قال:
هذه صوركم.
قلت:
معاذ الله أن تكون هذ صورنا .. كيف هذا؟
قال:
هذه صورتكم التي تسترونها، وتلحون في سترها، ولكن الحقيقة تأبى إلا أن تفضحكم.
قلت:
كيف تكون هذه صورتنا، ونحن الذين نهتم بالطفولة، ونرعاها، ونؤسس لها دور الحضانة
ونخترع لها كل يوم من الألعاب ما يجعلها تعيش جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.
قال:
أنتم تكذبون عليها، وتكذبون على أنفسكم، وتكذبون على كل الأجيال التي تأتي بعدكم،
ولا تكتفون بالكذب، بل تضمون إليه السرقة والغصب.
قلت:
كيف؟
قال:
لقد أودع الله ثروات في الأرض تكفي لكل فرد فيها إلى قيام الساعة.
قلت:
هذا صحيح .. خاصة إن حددنا نسلنا.
قال:
الله أكرم من يأمركم بحد نسلكم، فرزقه وفير، وخيره كثير.
قلت:
فكيف نغتصب إذن ما ليس لنا؟
قال:
أنتم تغتصبون ثروات الاجيال التي تأتي من بعدكم، لتجعلوا منها بركا ترضي غرامكم
بالسباحة.
قلت:
فسر لي يا معلم، فإني لا أكاد أفهم.
قال:
هذا النفط الذي ظهر بأرضكم .. أهو ممدود لا حد له .. أم مصيره إلى النفاذ؟
قلت:
بل هو محدود .. ومحدود جدا .. ولذلك نسمعهم يتحدثون عن احتياطي البترول[79].
قال:
فكونه محدودا يعني أن له نهاية ينتهي إليها.
قلت:
أجل .. فلا فرق بينه في ذلك وبين ما يخزن من طعام، بل إنه في هذه الناحية أقل من
الطعام قدرا.
قال:
لم؟
قلت:
لأن الطعام يمكن استنباته وزرعه ليعطينا أضعافا مضاعفة .. أما البترول، فلو زرعناه
لأنبت لنا التلوث، ولم يعطنا قطرة بترول واحدة.
قال:
أهذا البترول الذي وجد على أرضكم لكم خاصة، أم لكل من يسكن هذه الأرض التي
تسكنونها؟
قلت:
ما تقصد؟
قال:
هل هو لكم خاصة .. أم هو لأحفادكم وأحفاد أحفادكم؟
قلت:
هو لنا ولأحفادنا .. لا ينبغي أن نستأثر به دونهم.
قال:
فأنتم تستأثرون به .. ألستم تبالغون في الإنفاق من هذا الكنز؟
قلت:
كيف؟
قال:
أنتم تنفقون منه مئات أضعاف ما تحتاجونه، ثم تنفقون ما تنفقونه منه في تنمية
تخلفكم.
قلت:
هذا صحيح، فنحن نتعامل مع البترول بإسراف.
قال:
أنتم تتعاملون معه كما يتعامل ذلك الأبله الذي يسرق حليب الرضع ويتركهم يتضاغون من
الجوع.
قلت:
ولكن البترول ليس حليبا .. أتتصور أنه يمكن أن نصنع من البترول حليبا!؟ .. هذ فكرة
جيدة.. سأطرحها على قومي.
قال:
دعك من هذا .. فالغذاء ما خلقه الله، لا ما تصنعونه من سموم.
قلت:
ففسر لي ما تقول؟
قال:
الحليب رزق الله لهؤلاء الرضع .. وأنتم تعتدون عليه من غير حاجة.
قلت:
ولكنه وجد في أرضنا.
قال:
ولكل من وجد في أرضكم.
قلت:
اليس من قتل قتيلا استحق سلبه، ومن أحيا أرضا مواتا فهي له.
قال:
لا .. هي له يستغلها وينتفع بها لا ليستأثر بها دون غيره من خلق الله، ألم تعلم حقيقة
الاستخلاف؟
قلت:
تعني أن ننتفع دون أن نتملك.
قال:
نتملك تملكا مجازيا .. لا حقيقيا .. فالمال مال الله.
قلت:
ولكن لا نستطيع أن نفرض على أي شخص أن لا يتمتع بماله، بحجة تركه لعياله.
قال:
هناك من فرض هذا.
قلت:
تقصد الشيوعيين؟
قال:
لا .. أقصد عمر بن الخطاب t الخليفة الراشد.
قلت:
لم يكن في عهد عمر t بترولا.
قال:
ولكن الأرض كانت في عهده .. أتعلم ما فعل في أرض السواد؟
قلت:
أجل .. فقد رفض توزيع أرض السواد كغنيمة للفاتحين بعد معركة القادسية.
قال:
لماذا .. مع أن الأصل توزيعها.
قلت:
الأصل توزيعها .. ولكن المصلحة كانت في عدم توزيعها.
قال:
المصلحة الشخصية للفاتحين في توزيعها.
قلت:
ولكن عمر t نظر إلى مصلحة أخرى أهم.
قال:
ما هي؟
قلت: مصلحة
الأجيال التالية، ولهذا قال للمعارضين له في هذه المسألة:( تريدون أن يأتي آخر
الناس ليس لهم شيء؟! )
قال:
فهو قد ابتدع إذن .. ترك ما تدل عليه النصوص من أجل مصلحة.
قلت:
لا تقل هذا .. فعمر t أفقه من أن يفعل هذا.
قال:
فما دليله على ذلك؟
قلت: عن أسلم قال: سمعت عمر بن الخطاب t
يقول: اجتمعوا لهذا المال فانظروا لمن ترونه، ثم قال لهم: إني أمرتكم أن تجتمعوا
لهذا المال فتنظروا لمن ترونه، وإني قرأت آيات من كتاب الله، سمعت الله يقول:) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً
وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ( (الحشر:8)،
والله ما هو لهؤلاء وحدهم.
ثم
تلا:)
وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (الحشر:9) والله
ما هو لهؤلاء وحدهم.
ثم
تلا:)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ( (الحشر:10)،
والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال أعطي أو منع حتى راع بعدن )
وقد
جاء في رواية أخرى قوله عن الآية السابقة:( هذه استوعبت الناس جميعاً ولم يبق أحد
من المسلمين إلا وله في هذا المال حق إلا ما تملكون من رقيقكم، فإن أعش ـ إن شاء
الله ـ لم يبق أحد من المسلمين إلا سيأتيه حقه حتى الراعي بسر وحمير يأتيه حقه ولم
يعرق فيه جبينه )
قال:
لله ما أحلى هذا الاستدلال .. ألم أقل لك: إن القرآن الكريم حوى كل الحقائق.
قلت:
هذا صحيح، فهو استدلال بديع.
قال: فطبقوه على ما لديكم من ثروات.
قلت:
ولكن كتب الفقه التي ندرسها وندرسها لا تتحدث عن البترول.
قال:
فاكتبوا كتبا جديدة عن فقه البترول كما كتب أسلافكم في فقه الخراج.
قلت:
ولكن البترول بيدهم؟
قال:
ولكن الأقلام بأيديكم .. اكتبوا فلعل الله يخرج من أصلابهم من يقرأ ما تكتبون ..
أو لعل لله يبارك في المداد الذي تكتبون به، فيرسل نفحات عطر تجذبهم إلى قراءة ما
تكتبون.
قلت:
هذه فكرة جيدة .. فللمترفين غرام عجيب بالعطور .. فلنصطدهم بها.
قال:
اصطادوهم بثباتكم وعفافكم وزهدكم، أما العطور، فالشياطين أبرع في صناعتها منكم.
([2] ) أحمد، ومن هذا الباب ما
يررون أنه لما توفي عبدالرحمن بن عوف قال ناس من أصحاب رسول الله r إنما نخاف على عبدالرحمن فيما ترك. فقال كعب: سبحان الله! وما
تخافون على عبدالرحمن؟ كسب طيبا وأنفق طيبا وترك طيبا. فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضبا
يريد كعبا، فمر بلحي بعير فأخذه بيده، ثم انطلق يطلب كعبا، فقيل لكعب: إن أبا ذر
يطلبك. فخرج هاربا حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر. فأقبل أبو ذر يقص
الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هاربا
من أبي ذر، فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية، تزعم ألا بأس بما تركه عبدالرحمن!
لقد خرج رسول الله rيوما فقال: (الأكثرون
هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا). قال المحاسبي: فهذا عبد الرحمن مع
فضله يوقف في عرصة يوم القيامة بسبب ما كسبه من حلال، للتعفف وصنائع المعروف فيمنع
السعي إلى الجنة مع الفقراء وصار يحبو في آثارهم حبوا، إلى غير ذلك من كلامه.
وهذا غير صحيح وطريقه
لا يثبت، لأن في سنده ابن لهيعة وهو مطعون فيه. قال يحيى: لا يحتج بحديثه، والصحيح
في التاريخ أن أبا ذر توفي سنة خمس وعشرين، وعبدالرحمن بن عوف توفي سنة اثنتين
وثلاثين، فقد عاش بعد أبي ذر سبع سنين.
([6] ) هو فرنسوا كنز 1694-1778م ولد في فرساي بفرنسا، وعمل طبيباً
في بلاط لويس الخامس عشر، لكنه اهتم بالاقتصاد وأسس المذهب الطبيعي، وقد نشر في
سنة 1756 مقالين عن الفلاحين وعن الجنوب، ثم أصدر في سنة 1758م الجدول الاقتصادي
وشبه فيه تداول المال داخل الجماعة بالدورة
الدموية، وهذا القول عن جدوله هذا.
([16] ) ومما يدل على هذا ما ذكره
القرطبي من أنه لو أراد أهل الكتاب خاصة لقال: ويكنزون، بغير والذين. فلما قال:
"والذين" فقد استأنف معنى آخر يبين أنه عطف جملة على جملة. فالذين
يكنزون كلام مستأنف، وهو رفع على الابتداء.
([20] ) الطبراني في
الكبير،والحديث ضعيف إلا أنه روي من طريق حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - قال:« دخل رجل الجنة فرأى مكتوبا على بابها الصدقة بعشر
أمثالها والقرض بثمانية عشر » رواه
الطبراني والبيهقي كلاهما من رواية عتبة بن حميد.
([28] ) مسلم كتاب الفرائض باب
الحقوا الفرائض رقم (1615). والبخاري كتاب الفرائض باب ميراث الولد من أبيه
(7/187)
([33]) هو الذي يتحمل عن قريبه
أو حميمه أو نسيبه دية إذا قتل نفسا ليدفعها إلى أولياء المقتول. ولو لم يفعل قتل
قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله.
([46] ) السّفه والسّفاه والسّفاهة:
ضدّ الحلم، وهي مصادر سفه يسفه من باب تعب، وهو نقص في العقل أصله الخفّة
والحركة.يقال: تسفّهت الرّيح الشّجر - أي: مالت به، وسفه بالضّمّ وسفه بالكسر، أي:
صار سفيهاً، والجمع سفهاء وسفّه وسفاه.والمؤنّث منه سفيهة، والجمع سفائه.
واصطلاحاً: هو
التّبذير في المال والإسراف فيه ولا أثر للفسق والعدالة فيه .
([61] ) الوطن 5/4/1422، وقد
كشف مجلس اتحاد الغرف التجارية المصرية عن أن المستهلكين المصريين التهموا آيس
كريم مستورداً بمبلغ 50 مليون جنيه "حوالي 18 مليون دولار" خلال شهر
واحد.
وأكد أحد أعضاء المجلس
أن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استيراد هذه الكمية من الآيس كريم، رغم أن
هناك العديد من مصانع الآيس كريم المصرية المنتجة لهذه السلع، ووصف استيراد هذه
الكميات بأنه دليل على السفه الاستيرادي لدى بعض المستوردين.
وقد نشرت الصحف
المصرية تفاصيل مثيرة عن استيراد سلع كمالية من الخارج بملايين الدولارات مثل
الحلويات، ولحم الطاووس، والآيس كريم، والعجائن، وغيرها، محذرة من انتشار نمط من
الاستهلاك الترفيهي السفيه، وسعي بعض الأثرياء المصريين لاستيراد سلع ترفيهية
استفزازية، حيث يتفاخر أثرياء "بأنهم يطلبون" الفطور أو العشاء من
الخارج بالطائرة.
([73] ) السعن هو بضم السين ثم
السكون -: قربة أو إداوة ينتبذ فيها وتعلق بوتد أو جذع نخلة، وقيل هو جمع واحدة
سعنة. النهاية 2/369.
([79] ) لقد أخطأ الخبراء في
حساباتهم وتوقعاتهم بشأن كمية احتياطي النفط منذ عام 1874م ؛ إذ حذر الجيولوجيون
في ولاية بنسلفانيا من أن (الولايات المتحدة لا تمتلك من البترول إلا ما يكفي لإشعال
مصابيح الجاز لمدة أربع سنوات فقط.وجاء خبراء لاحقون ليسفهوا توقعات تاريخ استنفاد
النفط في العشرينات ثم الأربعينات من هذا القرن.وفي عام 1972م أعلن نادي روما أن
العالم يمتلك فقط ما بين 20 إلى 31 عاماً من احتياطي النفط.أما الآن فإننا نجد أن
الاحتياطات المقدرة هي أعلى بكثير من أي وقت مضى.
والحقيقة أن مفهوم
الاحتياطي النفطي ذاته يتغير ؛ فبدلاً من تعريفه على أنه عدد ثابت من البراميل،
أصبح ينظر إليه على أنه شيء ينمو في الوقت الذي تكشف فيه التقنية مصادر جديدة
للنفط وتستخلص المزيد من النفط الموجود في الحقول الحالية، ولنأخذ على سبيل المثال
حقول الأربعينات الضخمة في القطاع البريطاني في بحر الشمال، فقد قدرت شركة (بريتش
بتروليوم) احتياطي النفط في هذا الحقل بحوالي 8 , 1 بليون برميل عام 1970م إلا أنه
بحلول عام 1995م أنتج الحقل حوالي 6، 3 بليون برميل، وتقول الشركة إنه ما زال هناك
8، 2 بليون برميل من الاحتياطي المثبت وجوده في الحقل وهذا اخاضع للمصالح، انظر:
البيان:132،ص 102