الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: أنبياء يبشرون بمحمد

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

رابعا ـ بشارة داود

البشارة الأولى:

البشارة الثانية:

البشارة الثالثة:

رابعا ـ بشارة داود

في اليوم الرابع خرجت من بيتي باكرا لأتجول في شوارع القرية الخالية، وأرى جمال السكون، وهو يلف بيوتها البسيطة الجميلة.

لكني ما سرت قليلا حتى سمعت صوتا نديا، كأحسن ما تسمع من الأصوات، وسمعت بجانبه صوت مطرقة .. فتعجبت من هذين الصوتين وامتزاجهما مع ذلك السكون ..

اقتربت من مصدر الصوت، فرأيت رجلا .. هو كهل في قوة الشباب، يرتل مزمورا من مزامير داود، ويطرق في نفس الوقت بمطرقته على حديد يصلحه في محل الحدادة الذي يعمل به.

اقتربت منه، فقلت: كيف تجمع بين هذين الصوتين المتناقضين: صوتك الجميل الندي الذي ترتل الطير صداه، وتميد الجبال بألحانه، بصوت هذه المطرقة المزعج الذي يوقظ النائم، ويزعج الحالم.

قال: أنا داود .. وقد كان من فضل الله علي أن أمدني بما سمعت من صوت رخيم، وأمدني معه بقوة يلين لي معها الحديد [1] .

قلت: أراك تلغز بداود النبي .. فما علاقتك به؟

قال: أكبر من علاقة الأخ بأخيه، والمحب بحبيبه، والأب بابنه .. هو النبي الذي انتشلني من ظلمات كثيرة إلى نور الله.

قلت: فأنت على دين داود؟

قال: نعم .. لقد كان داود مفتاحا فتح الله به علي أبواب الحقائق، فدخلت منه، فعرفت منها ما ملأني بالنور والحياة.

 قلت: ولكني لم أسمع أن هناك من يدين بدين داود .. ولا أعلم أن هناك دينا ينسب إليه.

قال: دين الأنبياء واحد .. ومن سار خلف أي نبي، فقد سار خلف الجميع.. كل واحد منهم يدلك على غيره إلى أن تصل إلى مصدر النور.

قلت: فما الذي جعلك ترغب في داود، وترغب عن غيره؟

قال: نعم أنا رغبت في داود .. ولكني لم أرغب عن غيره .. لقد كان داود هو المفتاح الذي فتح لي به، والنور الذي عرفت به الحقائق التي كان يحملها الأنبياء، ويبشرون بها.

قلت: أي مفتاح وجدته عند داود، جليت لك به الحقائق؟

قال: ما كنت أرتل فيه؟

قلت: أجل .. لقد كنت أسمعك تقرأ مزامير داود، ولكني لم أتبين ما كنت تقرأ ، فقد شغلتني مزامير صوتك عن مزامير داود.

البشارة الأولى:

قال: لقد كنت أقرأ ما جاء في المزمور (110/1-6)، فقد جاء فيه :( قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، يرسل الرب قضيب عزك من صهيون، تسلط في وسط أعدائك شعبك، فتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة .. أقسم الرب ولن يندم: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. الرب عن يمينك، يحطم في يوم رجزه ملوكاً يدين بين الأمم، ملأ جثثاً، أرضاً واسعة سحق رؤوسها )

قلت: الآن فقط فهمت ما ترمز إليه .. لقد كان داود هو دليلك إلى المسيح .. صدقت .. إن ما قرأته ينطبق على المسيح تماما، فالمسيح من ذرية داود.

قال: نعم .. لقد بشر داود بالمسيح .. ولكن هذا المزمور يبشر بشمس أخرى هي أعظم من جميع الشموس .. أشرقت ذات يوم على الأرض، ولا تزال مشرقة إلى اليوم، وقد من الله علي بالتنعم بأشعتها المنيرة الدافئة.

قلت: من تقصد؟

قال: محمد .. إنه شمس الهداية .. وهو الذي بشر به داود في ذلك المزمور.

قلت: لك أن تحب محمدا، ولك أن تتبع دينه، ولكن ليس لك أن تحرف كتابنا المقدس .. إذا شئت أن تحرف كتابا مقدسا، فحرف كتابكم، كتاب المسلمين.

قال: لقد كنت مسيحيا .. وكان كتابي هو كتاب المسيحيين المقدس .. وقد كنت طيلة عمري أرتله بخشوع .. وكانت لي عادة أن أبتغي الفأل من فتح الكتاب لأرى أي موضع سيفتح لي فيه .. وكان من حكمة الله ونوره الذي جذبني إليه أن لا يفتح لي الكتاب المقدس بكل كتبه ورسائله إلا على ذلك المزمور الذي يبشر بمحمد.

قلت: إن المزمور يبشر بالمسيح .. ألم تقرأ مقولة بطرس، الذي فسر النبوءة بالمسيح، فقال :( لأن داود لم يصعد إلى السموات، وهو نفسه يقول: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً) (أعمال: 2/29-37)؟

فكيف تفهم منه أنت أن البشارة بمحمد؟

قال: لقد درست العهد الجديد، ورأيت فيه نصا قاطعا، علمت من خلاله أن البشارة لا تصح إلا في محمد .. أما بطرس، فإن ما ذكره فهم فهمه، لا وحي أوحي إليه، وهو معذور في ذلك الفهم، فقد شغف كتاب الأناجيل بنبوءات العهد القديم، فعمدوا في تكلف ظاهر إلى تحريف معاني الكثير من النصوص، ليجعلوا منها نبوءات عن المسيح، إن محبتهم للمسيح هي التي دعتهم إلى ذلك .. وحبك للشيء يعمي ويصم ..

ألم تقرأ ما كتبه بولس في رسالته إلى العبرانيين، حيث حول بشارة الله لداود بابنه سليمان إلى المسيح مع أن النص لا يساعده على ذلك .. اسمع ما يقول بولس :( كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء .. صائراً أعظم من الملائكة، بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم، لأنه لمن مِن الملائكة قال قط: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك، وأيضاً أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً ) (عبرانيين 1/5).

فقد اقتبس بولس العبارة الواردة في سفر صموئيل الثاني (7/14)، وجعلها نبوءة عن المسيح، ففيه :( أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً )، فقد ظن بولس أن هذه العبارة نبوءة عن المسيح، فنقلها في رسالته.

إلا أن هذا الاقتباس غير صحيح، فالنص جاء في سياق الحديث إلى داود، فقد أمر الله النبي ناثان أن يقول لداود :( فهكذا تقول لعبدي داود..متى كملت أيامك واضطجعت مع آبائك أقيم نسلك الذي يخرج من أحشائك، وأثبت مملكته، هو يبني بيتاً لاسمي، وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد، أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً، وإن تعوج أودبه بقضيب الناس وبضربات بني آدم..كذلك كلم ناثان داود )(صموئيل (2) 7/8-17).

فالمتنبئ عنه يخرج من أحشاء داود، وليس من أحفاده، وهو يملك على بني إسرائيل بعد اضطجاع داود مع آبائه أي موته، وهو باني بيت الله، وهو متوعد بالعذاب إن مال عن دين الله، وكل هذا قد تحقق في سليمان كما ورد في النصوص.

بل قد ورد التصريح بأن اسم صاحب تلك النبوءة هو سليمان، خلافا لما فهمه بولس، فقد جاء في سفر أخبار الأيام الأول قول داود :( هو ذا يولد لك ابن، يكون صاحب راحة، وأريحه من جميع أعدائه حواليه، لأن اسمه يكون سليمان، فأجعل سلاماً وسكينة في إسرائيل في أيامه، هو يبني بيتاً لاسمي، وهو يكون لي ابناً، وأنا له أباً، وأثبت كرسي ملكه على إسرائيل إلى الأبد )(الأيام (1) 22/9)

قلت: دعنا من تلك النبوءة .. وعد بنا إلى هذه النبوءة .. أنا رجل دين.. فأي نص قاطع هذا الذي دلك على أن البشارة ليست كما ذكر بطرس؟

قال: ألم تقرأ ما ورد في متى من إبطال المسيح لليهود قولهم، وإعلامهم أن القادم لن يكون من ذرية داود، ففي متى :( كان الفريسيون مجتمعين، سألهم يسوع: ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ قالو له: ابن داود، قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيب بكلمة )(متى 22/41 - 46)

وفي مرقس :( فداود نفسه يدعوه رباً. فمن أين هو ابنه )(مرقس 12/37)

ونفس النص ورد في لوقا ، فقد ورد فيه :( كيف يُـقال للمسيح أنه ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير:( قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك )، فداود نفسه يدعو المسيح ربا، فكيف يكون المسيح ابنه؟ )( إنجيل لوقا:20 : 42)

قلت: أنت لم تفهم مراد المسيح .. إن هذا القول من الأقوال التي نستدل بها على طبيعة المسيح .. ألا ترى أن داود يطلق الربوبية على المسيح في هذا النص؟

قال: أأنت تقول هذا؟

قلت: أقول هذا كما يقوله كل مسيحي .. وهو الحقيقة التي ينطق بها كل حرف من حروف النص .. فداود يدعو المسيح ربا .. ألا تقرأ قوله :( قال الرب لربي )؟

قال: فلنبدأ بنفي ما تدعيه من ألوهية للمسيح في هذا النص .. ثم ننتقل إلى صدق البشارة على محمد .. سأسلم لك جدلا أن المبشر به في هذا النص هو المسيح .. فهل ترى فيه ما يدل على ألوهيته؟

قلت: أجل .. النص واضح، لقد جاء فيه :( قال الرب لربي )

قال: عبارة المزامير تقول: قال الرب، أي الله لربي ـ أي المسيح على حسب ما تعقتد، وعلى محمد على حسب ما أعتقد ـ :( اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطأً لقدميك )، وبناء على هذه الجملة لا يمكن أن يكون المقصود من كلمة ربي الثانية هو الله أيضا، وذلك لأن المعنى سيصبح عندئذ: قال الله لِلَّه اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك .. وكيف يجلس الله عن يمين نفسه؟

قلت: هذا الكلام مبني على طبيعة المسيح.

قال: لا بأس .. إذا كان ربي الثانية إلهاً فإنه لا يحتاج لأحد حتى يجعل أعداءه موطئا لقدميه، بل هو نفسه يسخر أعداءه بنفسه، ولا يحتاج إلى من يسخرهم له.

صمت، فقال: مخاطبة الله لإلـه آخر تعني وجود إلهين اثنين، وهذا يناقض العقيدة التي تتبنونها .. فأنتم تعتبرون الثلاثة واحدا.

قلت: لا بأس .. ولكن كيف سمى داود المسيح ربا؟

قال: إذا اعتبرنا اختلاف الترجمات تفاسير للكتاب المقدس، فإن الإشكال سيزول بسهوله .. هذه البشارة هي الفقرة الأولى من المزمور رقم 110، ولفظها ـ كما في الترجمة الكاثوليكية الحديثة ـ:( قال الرب لسيّدي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك )[2] 

فما عبر عنه المسيح بلفظة ربي، هو في الحقيقة بمعنى سيدي .. ولذلك نجد أن الترجمات العربية المختلفة للعهد الجديد، خاصة القديمة منها كانت تستخدم لفظة السيد في مكان لفظة الرب، ولفظة المعلم في مكان لفظة رابِّـي.

قلت: أنت تهرب إلى اختلاف الترجمات.

قال: لا بأس .. فلنبق على كلمة (ربي) .. ولنذهب إلى الأناجيل لنرى استخدامات كلمة (الرب) فيها[3] .. هل ترى الأناجيل تقصر هذه الكلمة على الله؟

أدركت ما يرمي إليه، فحاولت أن أتملص من الإجابة قائلا: أنت تريد أن نتشتت في بحار الكتاب المقدس .. ولن نفهم بذلك هذه البشارة، ولا غيرها.

قال: لن تفهم الكتاب المقدس إلا بالكتاب المقدس .. أجبني، فلي حق عليك في أن تجيبني عن سؤالي.

قلت: نعم .. الكتاب المقدس بعهديه يستعمل لفظة (الرب) بمعنى السيد والمعلم.

قال: بل ورد تفسيرها في الأناجيل بذلك، فقد جاء في إنجيل يوحنا [1 : 38]:( فقالا: ربي! الذي تفسيره يا معلم، أين تمكث؟) .. وجاء فيه أيضا: [ 20 : 16]:( قال لها يسوع: يا مريم! فالتفتت تلك و قالت له: ربوني! الذي تفسيره يا معلم )

قلت: ذلك صحيح.

قال: ليست الأناجيل فقط هي التي استخدمت هذه الكلمة بهذا المعنى .. بل إن القرآن الكريم ـ مع تشدده في نفي ذرائع الشرك ـ استخدم هذه اللفظة بهذا المعنى، فقد جاء فيه :) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ( (يوسف: من الآية41)، وجاء فيه :) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ( (يوسف:42)

قلت: فما المراد من تلك العبارة إذن؟

قال: إن ما يريده المسيح من عبارته تلك ـ إن سلمت لك من أن المراد منها هو المسيح ـ هو تذكير اليهود بمقامه العظيم قائلا لهم: كيف تعتبرون المسيح مجرد ابنٍ لداود، مع أن داود نفسه اعتبر المسيح الآتي المبشر به، والذي سيجعله الله دائنا لبني إسرائيل يوم الدينونة : ربَّاً له: أي سيدا له ومعلما؟!

قلت: فالنبوءة بهذا لا تنطبق على محمد.

قال: لا .. لقد كنت أوضح لك فقط سوء ما فهمته وفهمه قومك من اعتبار المسيح إلها .. أما انطباق البشارة على محمد .. فذلك مما لا شك فيه، بل إن النص يكون أكثر وضوحا بتطبيقه على محمد.

قلت: ولكن المسيح صرح باسم المسيح في البشارة، كما في لوقا ، فقد ورد فيه :( كيف يُقال للمسيح أنه ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير:( قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك )، فداود نفسه يدعو المسيح ربا، فكيف يكون المسيح ابنه؟ )( إنجيل لوقا:20 : 42)

قال: أنت تعلم أن اسم (المسيح) لم يختص به المسيح بن مريم وحده، وإنما هو وصف أطلق في الكتاب المقدس على هارون وداود وإشعياء وغيرهم ..

وذلك لأن كلمة (مسيح )أصلها عبري (مشيح)، وتعني  (من مسحه الله) أي جعله مسيحا، وكلفه بإبلاغ رسالة إلى الناس، و جعله رسولا .. أي أن معنى كلمة المسيح بالعبرية الرسول.

ألم تقرأ ما ورد في (المزمور 89 :21 ) من قول الله  :( وجدت داود عبدي بدهن قدسي مسحته)؟ .. فداود ـ حسب هذا النص ـ مسيح مسحه الله، ومثل ذلك ما في (المزمور 18/50):( والصانع رحمة لمسيحه لداود)

ومثل ذلك ما ورد في (سفر إشعياء 45:1) :( يقول الرب لمسيحه إشعياء لكورش الذي امسكت بيمينه لادوس امامه امما )، فإشعياء، نبي الله إلى بني اسرائيل ـ حسب هذا النص ـ مسيح أيضا.

و في (سفر اللاويين 6:20 ) :( هذا قربان هارون وبنيه الذي يقرّبونه للرب يوم مسحته ) فهارون ـ حسب هذا النص ـ مسيح أيضا.

بل إن هذا الاسم لم يطلق على الأنبياء وحدهم في الكتاب المقدس .. بل نراه يطلق على الملوك:

فقد سمي كورش ملك فارس مسيحاً، كما في إشعيا :( يقول الرب لمسيحه لكورش ) (إشعيا 1/45)

وشاول الملك سمي مسيحاً، إذ لما أراد أبيشاي قتل شاول، وهو نائم نهاه داود ( فقال داود لأبيشاي: لا تهلكه فمن الذي يمد يده إلى مسيح الرب ويتبرّأ) (صموئيل (1) 26/7-9)

بل سمي الكهنة مسحاء، ففي سفر المزامير :( لا تمسوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي)(المزمور 105/15)، واقرأ حديث سفر الملوك عن الكهنة المسحاء كما في (الملوك (2) 1/10)

فهذا اللقب الشريف ليس خاصاً بالمسيح، بل هو لقب يستحقه النبي القادم لما يؤتيه الله من الملك والظفر والبركة التي فاقت بركة الممسوحين بالزيت من ملوك بني إسرائيل.

أم أنك ترى أن الملوك الظمة، والكهنة الخونة ، أحق بهذا الاسم من محمد؟

التفت إلي، فرآني صامتا، فقال: اسمع إلي .. وأجبني .. ولا تفر من الحقيقة.. لقد كنت مثلك أفر من الحقائق بالجدل إلى أن عرفت أن الحق لا مهرب منه.

أجبني: هل كان المسيح يدعى ابن داود أم لا؟

قلت: أجل .. فالمسيح ـ حسب متى ولوقا هو من ذرية داود  ـ ولهذا كثيراً ما نودي ( يا ابن داود )، كما في متى(1/1، 9/27)، ولوقا (19/38)

قال: بورك فيك .. فهذا النص يفهم من هذا المنطلق.

قلت: لم أفهم.

قال: أجبني .. كيف يسمي الرجل ابنه، هل يسميه ابنا، فيقول له :( ابني )، أم يقول له :( سيدي )؟

قلت: في حال العادية يدعوه :( ابني ) إلا إذا كا سيدا رفيع الجاه، فقد يدعوه: (سيدي)

قال: أنت تجادل .. إن الابن يظل ابنا حتى لو صار سيدا ..

استحييت من نفسي، فقلت: أجل .. ولكن ما الذي ترمي إليه؟

قال: لقد قلت لك: إن النص يفهم من هذا .. فالمسيح أراد أن يصحح للفريسيين خطأهم في تصورهم أن المسيح من ذرية داود، فاستخدم معهم هذا الأسلوب، حيث بدأهم، فقال :( ماذا تظنون في المسيح، ابن من هو؟)، فقالوا له: ابن داود، فقال لهم :( فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ )(متى 22/41-45)

لقد كان جواب المسيح مسكتاً، فقد اعتبر أن القادم ليس من ذرية داود بدليل أن داود جعله سيده، والأب لا يقول ذلك عن ابنه.

صمت، فقال: لا بأس .. سنترك هذا لنرى وجها آخر من وجوه دلالة هذه النبوءة.. ولنعد إلى حديث المسيح.

أجبني: هل ادعى المسيح أنه المسيح المنتظر؟

قلت: لقد عرف الجميع أن يسوع هو المسيح المنتظر.

قال: لم أسألك عن موقف الجميع .. سألتك عن موقف المسيح ، فهل ادعى المسيح أو قال لتلاميذه: إنه المنتظر.. فقد يظن الناس جميعا شيئا في شخص هو منه براء.

قلت: الظاهر من النصوص عدم ادعاء المسيح لذلك .. أنت لا تعرف المسيح .. لقد كان عظيم التواضع إلى حد بعيد .. حتى أنه كان يطلق على نفسه (ابن الإنسان)

قال: التواضع لا يلغي البيان .. أنا أعلم أنك تريد أن تفر بقولك هذا .. لكني سأورد لك من النصوص ما ينص على هذا .. لقد سأل المسيح تلاميذه ذات يوم عما يقوله الناس عنه، ثم سألهم :( فقال لهم: وأنتم من تقولون إني أنا؟)،  فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيح، فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه، وابتدأ يعلّمهم أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً، ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل )(مرقس 8/29-31)

إن هذا النص يدل دلالة قاطعة على أن الذي ينتظره اليهود لم يكن هو المسيح الذي كان بين أيديهم.

قلت: كيف فهمت ذلك من النص؟

قال: النص واضح .. لقد نهر المسيح تلاميذه، ونهاهم أن يقولوا ذلك عنه، وأخبرهم بأنه سيتعرض للمؤامرة والقتل، وهو عكس ما يتوقع من المسيح الظافر المنتصر الذي تنتظرون، والذي يوقنون أن من صفاته الغلبة والظفر والديمومة، لا الألم والموت، لذا ( أجابه الجمع: نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد، فكيف تقول أنت: إنه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان، من هو هذا ابن الإنسان )(يوحنا 12/34)

وفي رواية لوقا تأكيد ذلك، فقد جاء فيها :( فأجاب بطرس، وقال: مسيح الله، فانتهرهم، وأوصى أن لا يقولوا ذلك لأحد، قائلاً: إنه ينبغي أن ابن الإنسان يتألم )(لوقا 9/20-21)

قلت: ولماذا لا تفهم من ذلك أنه قصد الحذر من نشر ذلك بين اليهود؟

قال: لا .. لم يقصد المسيح ذلك .. بل كيف تقول ذلك، وقد أخبر المسيح تلاميذه عن تحقق وقوع المؤامرة والألم، وعليه فلا فائدة من إنكار حقيقته لو كان هو المسيح المنتظر، لكنه منعهم لأن ما يقولونه ليس هو الحقيقة.

ومع ذلك .. فليس هذا هو النص الوحيد الذي يفيد ذلك ، لقد حرص المسيح على نفي هذه الفكرة مرة بعد مرة، فقد جاء في يوحنا :( فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم، وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده )(يوحنا 6/14-15)

أجبني لماذا هرب المسيح؟ .. إن كان هو المنتظر، فلماذا هرب؟

صمت، فقال: هرب، لأنه ليس الملك المنتظر، وهم مصرون على تمليكه لما يرونه من معجزاته، ولما يجدونه من شوق وأمل بالخلاص من ظلم الرومان.

ليس ذلك فقط، بل إن النصوص الدالة على هذا كثيرة:

فذات مرة قال فيلبس لصديقه نثنائيل:( وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة )، فجاء نثنائيل إلى المسيح وسأله، وقال له: يا معلّم أنت ابن الله؟ أنت ملك إسرائيل؟ أجاب يسوع وقال له :( هل آمنت لأني قلت لك: إني رأيتك تحت التينة، سوف ترى أعظم من هذا)(يوحنا 1/45-50)، فقد أجابه بسؤال، وأعلمه أنه سيرى المزيد من المعجزات، ولم يصرح له أنه الملك المنتظر.

وفي بلاط بيلاطس نفى أن يكون الملك المنتظر لليهود، كما زعموا وأشاعوا:( أجاب يسوع: مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا )(يوحنا 18/36)، فمملكته روحانية، في الجنة، وليست مملكة اليهود المنتظرة، المملكة الزمانية المادية، التي يخشاها الرومان.

لذلك ثبتت براءته من هذه التهمة في بلاط بيلاطس الذي سأله قائلاً :( أنت ملك اليهود؟ فأجابه وقال: أنت تقول، فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع: إني لا أجد علّة في هذا الإنسان )(لوقا 23/2-4)، فجوابه لا يمكن اعتباره بحال من الأحوال، فهو يقول له: أنت الذي تقول ذلك، ولست أنا.

ليس هذ فقط .. بل إن هناك علامة أخرى للمنتظر لا تتحقق في المسيح وردت بها الأناجيل، أرجو أن تجيبني عنها ..

قلت: لقد وعدتك بأن أجيبك على كل ما تسألني عنه.

قال: هل كان المسيح معروفا لتلاميذه، ولليهود أم لا؟

قلت: بلى .. لقد كان معروفا بينهم، وقد ورد في يوحنا :( فنادى يسوع وهو يعلّم في الهيكل قائلاً: تعرفونني، وتعرفون من أين أنا، ومن نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم لستم تعرفونه، أنا أعرفه لأني منه وهو أرسلني .. فآمن به كثيرون من الجمع )(يوحنا: 7/25-30)

قال: أكمل النص .. ما بالك تقطعه، ما بالك تقرأ :) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ( (الماعون:4)، وتنسى الصفة التي استحقوا به الويل.

أكملت قائلا :( .. وقالوا: ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا؟ )

قال: لقد قطعت أهم جزء في النص .. لقد ذكر المسيح أنه رسول من عند الله، وأنه ليس الذي ينتظرونه، فذاك لا يعرفونه.

وقد آمن به الذين كلمهم، وفهموا أنه ليس المسيح المنتظر، كما ورد في يوحنا :( فآمن به كثيرون من الجمع وقالوا: ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا؟)(يوحنا 7/30-31)

بل ثمة من عرف أنه ليس المنتظر مستدلين بمعرفتهم بأصل المسيح ونسبه وقومه، بينما المنتظر القادم غريب لا يعرفه اليهود ، كما جاء في يوحنا :( قال قوم من أهل أورشليم: أليس هذا هو الذي يطلبون أن يقتلوه، وها هو يتكلم جهاراً، ولا يقولون له شيئاً، ألعل الرؤساء عرفوا يقيناً أن هذا هو المسيح حقاً؟ ولكن هذا نعلم من أين هو، وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو) (يوحنا 7/25-27)، ذلك أن المسيح غريب عن بني إسرائيل.

قلت: عد بنا إلى بشارة داود .. أرانا تهنا عنها.

قال: لا  .. لم نته .. لقد ورد في البشارة الإشارة إلى الملك العظيم القادم الذي يأتي مع هذا النبي المبشر به، وقد عرفت أن المسيح لا يمكن أن يصبح ملكاً على كرسي داود وغيره.

قلت: لم؟

قال: لأن الكتاب المقدس صرح بذلك .. فالمسيح يذكر أن مملكته ليست في هذا العالم، فقد قال لبيلاطس :( مملكتي ليست في هذا العالم )(يوحنا 18/36)، وهو يشير بهذا إلى مملكته الروحية، أو إلى مملكته الدنيوية بعد نزوله إلى الأرض كما أخبرنا بذلك نبينا، وهو في ذلك الحين لا ينزل إلا ليقضي على الخرافات التي ارتبطت باسمه.

بالإضافة إلى هذا .. فإن المسيح من من ذرية الملك الفاسق يهوياقيم بن يوشيا .. أليس هو أحد أجداد المسيح؟

أدركت ما يرمي إليه، فطأطأت رأسي خجلا، وقلت: أجل.

قال: لا يمكنك أن تنكر ذلك، فقد ورد في سفر الأيام الأول:( بنو يوشيا: البكر يوحانان، الثاني يهوياقيم، الثالث صدقيا، الرابع شلّوم، وابنا يهوياقيم: يكنيا ابنه، وصدقيا ابنه )(الأيام (1) 3/14-15)، فيهوياقيم جد للمسيح حسب روايات الكتاب المقدس.. ولا يضر إسقاط متى له، فقد ذكر يكنيا حفيده ، ثم تلاه بأبيه يوشيا.

قلت: أعلم هذا .. ولعل هذا غفلة من النساخ لا خطأ من متى.

قال: هو تحريف .. سواء كان من متى أو من غيره .. وهو تحريف له خطره، فليس الأمر متعلقا بجد من الأجداد .. بل متعلق بجد له علاقة بنبوءة من النبوءات .. أتركها لك لتذكرها.

أدركت ما يرمي إليه، لكني لم أجد بدا من ذكرها، فقلت: نعم .. لقد جاء في إرميا :( قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا: لا يكون له جالس على كرسي داود، وتكون جثته مطروحة للحر نهاراً وللبرد ليلاً.. )(إرميا 36/30)

قال: فقد نص هذا النص على أن الله حرم الملك على ذرية يهوياقيم، فكيف تزعمون أن المسيح من ذرية يكينيا ابن الفاسق يهوياقيم .. وكيف تزعمون أن الذي سيملك، ويحقق النبوءات هو المسيح؟!

سكت قليلا، ثم قال: دعنا من يهوياقيم .. ولنذهب إلى سيرة المسيح .. فهي أدل على حقيقة المسيح، وحقيقة دوره الذي أنيط به.

ألا ترى أن سيرة المسيح تصيح بملء فيها لتقول لكم: لست الملك المخلص الذي تنتظرونه ؟

ألا ترى أن المسيح لم يملك على بني إسرائيل يوماً واحداً، وما حملت رسالته أي خلاص دنيوي لبني إسرائيل، كذلك النبي الذي ينتظرونه، بل كثيراً ما هرب خوفاً من بطش اليهود .. فكيف يكون هو مخلصهم؟

ألم تعلم أن المسيح كان يدفع الجزية للرومان ، وقد ورد في متى قوله:( ولما جاءوا إلى كفر ناحوم تقدم الذين يأخذون الدرهمين إلى بطرس، وقالوا: أما يوفي معلمكم الدرهمين؟ قال: بلى، فلما دخل البيت سبقه يسوع قائلاً: ماذا تظن يا سمعان، ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس: من الأجانب، قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار، ولكن لئلا نعثرهم اذهب إلى البحر، وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولاً خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستاراً، فخذه وأعطهم عني وعنك )(متى 17/24-27) .. فكيف تخضع الشعوب لمن هذا حاله؟

إن المسيح رفض أن يكون قاضياً بين اثنين يختصمان، فكيف تزعمون له الملك والسلطان؟ .. ألم يرد في الإنجيل المقدس :( قال له واحد من الجمع: يا معلّم، قل لأخي أن يقاسمني الميراث، فقال له: يا إنسان من أقامني عليكما قاضياً أو مقسّماً!؟)(لوقا 12/13-14)؟

قلت: إن كل هذا يصب في كمالات المسيح.

قال: وأنا لم أقل غير ذلك .. لقد انتدب المسيح لوظيفة أداها أحسن أداء، لقد كان خاتمة أنبياء بني إسرائيل الممهد لنبي الإسلام.. فلذلك ارتبطت رسالته بهذا الجانب ..

أما النبي المبشر به في بشارة داود، فهو نبي ملك، تدين له الشعوب وتخضع.. فهو الذي نطقت به نبوءة داود القائلة :( تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار، جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم .. اركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف، نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوب تحتك يسقطون، كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك) (المزمور 45/1 - 6)

وهو نفس النبي الذي أخبر عنه يعقوب، فقال:( يأتي شيلوه، وله يكون خضوع شعوب )(التكوين 49/10)

التفت إلي، فرآني حائرا فيما أجيبه، فقال: لا تحسبني ـ يا أخي ـ أنقص قدر المسيح بقولي هذا.. ولكني أذكر الحقيقة الجميلة التي امتلأ بها المسيح.

لست أدري كيف خطر على بالي أن أقول له: ولكن .. ألم تسمع النبوءة التي ذكرها الملاك لمريم، فقد قال لها :( ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية )(لوقا 1/33)؟

ضحك، وقال: بلى .. وبورك فيك فقد ذكرتني ما كنت ناسيا .. ولكنك في تذكيري كما قيل: يبحث عن حتفه بظلفه.

قلت: ما تقصد .. لقد أخبر الملاك مريم بأنه يعطيه ملك أبيه داود.

قال: وذكرت البشارة أنه يملك على بيت يعقوب إلى الأبد.

قلت: فأنت تسلم لي إذن.

قال: بل أنت الذي تسلم لي.

قلت: لم أفهم.

قال: قارن بين البشارتين: بشارة الملاك، وبشارة داود ويعقوب وغيرهما.

قلت: من أي ناحية؟

قال: لن أدعك في ارتباكك .. لقد أخبر الملاك مريم أن المسيح سيملك على بيت يعقوب فحسب، فقد قال:( ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد )، فغاية ما يمكن أن يملك عليه هو شعب إسرائيل.

بينما نصت النبوءات الأخرى على أن  النبي الموعود ( له يكون خضوع شعوب ) (التكوين 49/10)، و( شعوب تحتك يسقطون )(المزمور 45/5)، والشعوب تدل على كل الشعوب، لا على شعب إسرائيل وحده.

قلت: ولكن ألا يمكن أن تكون جميع هذه البشارات مرتبطة بالمسيح في عودته الثانية؟

قال: لعلك لم تقرأ الكتاب المقدس .. أو لعلك لم تظفر بمعلم يحل لك ألغازه؟

قلت: لا .. لقد قرأته، ومن رجال لا أرى لهم أمثالا في هذه البلاد.

تنفس الصعداء، ثم قال: نعم .. أعرفهم .. لكل منهم توأم يتحكم فيه .. ويلغي عقله بسببه.

اسمعني جيدا لأذكرك بما غفلت عنه .. إن وعد الله لبني إسرائيل بالملك القادم على كرسي داود ـ كما ينص الكتاب المقدس ـ وعد مشروط بطاعتهم لله وعملهم وفق مشيئته، كما أخبرهم الله بقوله :( إن نقضتم عهدي .. فإن عهدي مع داود عبدي يُنقض، فلا يكون له ابن مالكاً على كرسيه )( إرميا 33/20 - 21 )، فهل تراهم نقضوا عهودهم .. أم تراهم حافظوا عليها؟

لم أدر بما أجيب، فقال: لا مناص لك من الإقرار بنقضهم لعهود الله .. ألستم تذكرون أنهم أرادوا صلب المسيح، بل ترون أنه صلب على أيديهم .. فهل يمكن أن يحافظ مثل هؤلاء على عهود الله.

بل إن الكتاب المقدس .. والمزامير بالذات .. تنص على ذلك، ألم تقرأ فيها :( لماذا رفضتنا يا الله إلى الأبد! لماذا يدخن غضبك على غنم مرعاك! اذكر جماعتك التي اقتنيتها منذ القدم وفديتها )(المزمور 74/1-2)؟

قلت: أسلم لك هذا .. ولكن ما تقول فيما جاء في قصة المرأة السامرية التي أتت المسيح ورأت أعاجيبه وآياته، فأخبرته بإيمانها بمجيء المسيا، فكان جوابه لها أنه هو المسيا، ألم تقرأ ما ورد في يوحنا؟

قال: بلى ..  ما أ أHقالت له المرأة :( أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي، فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء، قال لها يسوع: أنا الذي أكلمك هو )(يوحنا 4/25-26)

قلت: ها أنت تحفظ النص .. فكيف تفر من مدلوله؟ .. لقد اعترف المسيح بصراحه بأنه هو المسيا.

قال: لا شك في وقوع التحريف في هذه العبارة .. فهذا النص يخالف ما عهدناه من المسيح، بدليل أن أحداً من التلاميذ لم يكن يسمع حديثه، وهو يتحدث مع المرأة، فكيف عرفوا موضوع الحديث بينهما؟ .. ألم تقرأ ما جاء في يوحنا :( قال لها يسوع: أنا الذي أكلمك هو، وعند ذلك جاء تلاميذه وكانوا يتعجبون أنه يتكلم مع امرأة، ولكن لم يقل أحد: ماذا تطلب؟ أو لماذا تتكلم معها)(يوحنا 4/26-27)، فهم لم يسمعوا حديثهما، ولم يسألوه عما جرى بينهما.

سكت قليلا، كأنه يسترجع شيئا يحفظه، ثم ابتسمت أسارير وجهه، وقال: لقد قرأت لك أول القصة، فاقرأ لي آخرها.

بدون شعور أخذت أردد :( فتركت المرأة جرتها، ومضت إلى المدينة وقالت للناس: هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح؟)(يوحنا 4/28-29)

ابتسم، وقال: أرأيت لو أن المسيح أخبرها بأنه المنتظر؟ ألم تكن لتذهب لتقول لقومها :( إنه يزعم أنه المسيح )

قلت: ذلك ما قالت المرأة.

قال: لا .. لقد ذكرت المرأة شكها في كونه المسيح بعد أن رأت أعاجيبه، وهذا يحيل أن يكون قد أخبرها بذلك.

بل إن الظاهر من خلال إعجابها به أنه لو ذكر لها أنه المسيح لاتبعته من غير أن تتردد في ذلك، فهي قد ذهبت تبشر باحتمال كونه المسيح.

التفت إلي، فرآني غارقا في البحث عن مخرج لما أوقعني فيه، وأنا أقول في نفسي: ما أعظم قدرة هذا الحداد على التماس المخارج ..

 فقال: لا تتعب نفسك في البحث عن أي مخرج .. لأني ما آمنت حين آمنت إلا بعد أن اعتراني من الشكوك ما لو نزل على الجبال لأذابها، ولكن الله بمنته خلصني منها ببعض الصالحين من العلماء أعطاهم الله من علم الكتاب ما كشف لي الشبه، ورفع كل حجاب بيني وبين أشعة شمس محمد.

قلت ساخرا: ألم يكن لك أخ توأم ينهرك عن هذا، ويرد على هذا العالم شبهه.

قال: بلى .. كان لي أخ .. وهو لا يزال حيا.

قلت: فكيف تركك؟

قال: لقد سلم هو الآخر .. ونحن الآن نعيش في طمأنينة يحسدنا عليها الملوك .. إننا في عالم النفس المطمئنة التي قال فيها ربنا :) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً( (الفجر:27 ـ 28)

قلت: أتظن أني أسلم لك كما سلم أخوك؟

قال: أنا لا أطلب منك أن تسلم لي .. الحق أعظم من أن يسلم لأحد من الناس .. ثم أنا لا أقبل أن تسلم لي .. سلم للحق .. الحق أعظم مني ومنك.. ألم تسمع المسيح، وهو يقول ألم يكن المسيح يقول :( إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلِمَتِي، كُنْتُمْ حَقّاً تَلاَمِيذِي، وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ)(يوحنا:8/31 ـ 32)؟

لم أجد ما أقول، فقال: قد يحجبك عن الحق الذي أذكره ما تراه من حالي.. تقول: هذا حداد لا علاقة له إلا بالمطرقة التي يطرق بها حديده، فكيف يتطفل على موائد الكتاب المقدس؟

لا بأس .. أنا أعذرك في هذا .. فأكثر البشر يعبدون المظاهر، ويسلمون للمظاهر.. ولكني سأخاطبك بما قد يخطر على نفسك .. اسمع ما يقول شارل جنيبر ، وهو من هو علماء الكتاب المقدس.. لقد قال :( والنتيجة الأكيدة لدراسات الباحثين، هي أن المسيح لم يدع قط أنه هو المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه إنه ابن الله.. فتلك لغة لم يبدأ في استخدامها سوى المسيحيين الذين تأثروا بالثقافة اليونانية )

ويقول عوض سمعان :( إن المتفحصين لعلاقة الرسل والحواريين بالمسيح يجد أنهم لم ينظروا إليه إلا على أنه إنسان …كانوا ينتظرون المسيّا، لكن المسيّا بالنسبة إلى أفكارهم التي توارثوها عن أجدادهم لم يكن سوى رسول ممتاز يأتي من عند الله )

 وسأضيف إلى هذه الأقوال شيئا لم أقصد به إيذاءك .. فإن آذاك فاغفر لي.

قلت: وما ذاك؟

قال: لقد كنت قسا محترما ذا جاه عريض، وقد أرسلت إلى التبشير في بعض البلاد.. وكان لي من الدنيا ما يحسدني عليه الأغنياء والكبراء .. لكني بعت ذلك كله، وآثرت الله، واكتفيت بما تراه من بسيط الرزق.

قلت: فكيف تغير حالك؟

قال: هذا شيء ستكتشفه في المستقبل .. ولعلك ترى كيف ينتقل المرتدون من المسيحية من رجال الدين من الحياة الهنية الرغدة إلى شظف العيش .. فكل ما وهب لهم في ظل الكنيسة يسلب منهم .. ولا يبقى لهم شيء .. نعم .. الكنيسة معذورة في ذلك.. ولكن اعلم أن هذا من أعظم الحجب التي تحول بين الكثير من رجال الدين واعتناق الإسلام مع أنهم يعرفون محمدا أكثر مما يعرفون أبناءهم، كما قال تعالى:) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( (البقرة:146).. واعتبرهم في آية أخرى من الذين خسروا أنفسهم، فقال :) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ( (الأنعام:20)

التفت إلي، فرآني لا أزال على صمتي، فقال: فلنعد إلى البشارة .. لقد ذكرنا النصوص الكثيرة المخبرة عن عدم تحقق النبوءة في المسيح ، وهي ربما تكفي الكثير، ولكنها قد تتطلب تعليلات معينة تزيد في عمقها.

ولا يمكن إجراء التعليلات إلا بعد معرفة الواقع الذي جاء فيه المسيح .. فأجبني .. هل كان اليهود في عهد المسيح أمة لها قوتها وعزتها، أم كانت مجرد مستعمرة يستضعفها غيرها؟

قلت: لقد كانوا مستضعفين.

قال: بل طال استضعافهم، فمنذ عام 63 ق. م وقعت القدس وفلسطين بيد الرومان الوثنيين، ليبدأ الاضطهاد الذي عانى منه بنو إسرائيل.

وفي ذلك الحين حنت قلوبهم ـ كما تحن جميع قلوب المستضعفين ـ إلى مخلص يرد إليهم الملك الضائع والسؤدد الذي ضاع منهم.

وفي ذلك الحين بدأوا يرددون ما ورد في بشارات الأنبياء من أخبار النبي الموعود الذي تستسلم له الشعوب .. لقد كانوا ينتظرون تحقق بشارة يعقوب وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء بالقادم المنتظر.

التفت إلي، وقال: هل ما أقوله صحيح .. أم أنك تراه مجرد رجم بالغيب؟

قلت: بل هو صحيح ..

قال: ولا تملك إلا أن تقول ذلك .. فالكتاب المقدس يدل على هذا، ومن أمثلة الذين كانوا يترقبون الملك المظفر المنتظر سمعان، الذي وصفه لوقا، فقال :( كان رجل في أورشليم اسمه سمعان، وهذا الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس كان عليه )(لوقا 2/25)، فسمعان هذا أحد منتظري الخلاص.

ومنهم نثنائيل الذي صارح المسيح بشعوره وظنه ، كما في يوحنا :( أجاب نثنائيل وقال له: يا معلّم أنت ابن الله؟ أنت ملك إسرائيل؟ أجاب يسوع، وقال له: هل آمنت لأني قلت لك.. )(يوحنا 1/49-50)

والمرأة السامرية لما رأته أعاجيبه أخبرته عن هذا النبي الموعود، فقالت :( أنا أعلم أن مسيّا ـ الذي يقال له المسيح ـ يأتي، فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء) (يوحنا 4/25-30)

وأندرواس قال لأخيه سمعان مبشراً :( قد وجدنا مسِيّا، الذي تفسيره المسيح) (يوحنا 1/41)

ولما شاع هذا الخبر في بني إسرائيل خشي رؤساء الكهنة من بطش الرومان إن عرفوا أن الموعود المنتظر العظيم المظفر قد ظهر في شخص المسيح، فسارعوا إلى الإيقاع به، متهمين إياه بإفساد الأمة وادعاء أنه المخلص المنتظر، كما في يوحنا:( فجمع رؤساء الكهنة والفريسيون مجمعاً، وقالوا: ماذا نصنع، فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة، إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به، فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمّتنا؟ فقال لهم واحد منهم، وهو قيافا، كان رئيساً للكهنة في تلك السنة: أنتم لستم تعرفون شيئاً، ولا تفكرون، إنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلها) (يوحنا 11/47-50)

وقد ورد في لوقا :( فقالوا لبيلاطس: إننا وجدنا هذا يفسد الأمة، ويمنع أن تعطى جزية لقيصر قائلاً: إنه هو مسيح ملك، فسأله بيلاطس قائلاً: أنت ملك اليهود؟ فأجابه وقال: أنت تقول، فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع: إني لا أجد علّة في هذا الإنسان )(لوقا 23/2-4)، فقد ثبت لبيلاطس براءته مما اتهموه، إذ هو لم يدع أنه ملك اليهود المنتظر.

بل إن هذا الشعور بالحاجة إلى النبي المحرر لم يكن خاصا بالمسيح .. بل سبق أن ظن شعب إسرائيل المتلهف لظهور النبي العظيم المظفر أن يوحنا المعمدان هو المسيح المنتظر ، كما في لوقا :( إذ كان الشعب ينتظر، والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا، لعله المسيح )(لوقا 3/15)

ولهذا فإن الجموع المتربصة للخلاص لما رأت المسيح قالوا فيه ما قالوه من قبل عن يوحنا المعمدان ( قالوا للمرأة: إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن، لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلّص العالم )(يوحنا 4/42)

التفت إلي، فرآني غارقا فيما أسمع، فطرق بمطرقته قليلا، ثم قال بعد أن تنفس الصعداء: كان هذا هو الشعور العام .. فرحة بالمخلص .. ولهفة للخلاص .. فلهذا راحوا يؤولون جميع بشارات الأنبياء لتنطبق عليه، ولو من باب التكلف.

حاول أن تضع نفسك بدلهم .. إن كل من يكون في تلك الحال قد يقع في نفس الشعور .. فمرارة الاستضعاف تجعلهم يتعلقون ولو بقشة.

لقد حصلت الصدمة للشعب المستضعف، ولأولئك المنتظرين المتلهفين، عندما سمعوا بصلب المسيح.

لقد حزنوا حزنا لم يمكنهم مقاومته لتخلف الخلاص المنشود في شخص المسيح، وقد ورد في الأسفار المقدسة ما يدل على هذا، فقد ذكرت أن المسيح بعد القيامة تعرض لتلميذين، وهو متنكر ( فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به، وأنتما ماشيان عابسين، فأجاب أحدهما ـ الذي اسمه كليوباس ـ وقال له: هل أنت متغرب وحدك في أورشليم، ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام، فقال لهما: وما هي؟ فقالا: المختصة بيسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب، كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت، وصلبوه، ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل، ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك ) (لوقا 24/17-21)

وزادت الحسرة عندما سأل التلاميذ المسيح بعد القيامة ، فقالوا:( يا رب هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل؟ فقال لهم: ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه )(أعمال 1/6-7)، أي أن هذا ليس هو وقت الملك المنتظر، وهو يدل على أن الخلاص الذي كان يتنظره الإسرائيليون والذي وعدت به الأنبياء ليس كما تفهمون، لأنه لو كان كذلك، لقال لهم: لقد تحقق الخلاص بصلبي، وقد طهرتم من خطاياكم.

إن هذا النص يثبت انتظار بني إسرائيل للخلاص، ويثبت أن هذا الخلاص لم يتحقق كما أرادوا.

قلت: لقد تحقق الخلاص على يد المسيح .. لقد طهرنا بصلبه من الخطيئة.

قال: ذلك موضوع آخر .. أو قل تلك حيلة أوهمكم بها بولس ومن نحا نحوه .. لقد تلاعبوا بالنصوص الواضحة الصريحة ليربطوكم بأوهام كثيرة لا حقيقة لها.

أردت أن أتكلم، فقال: لا بأس .. لن نتناقش في هذا الآن .. أو لن أتناقش معك في هذه المسألة أبدا .. ولكن سأدع ذلك لإخلاصك .. فلو صدقت، فإن الله سيدلك على من يرفع هذه الغشاوة عن عينيك[4] .

قلت: لقد حاولت بكل الطرق أن تبرهن لي أن المسيح لم يدع أنه الملك المنتظر، وأن كل الدلائل لا تدل عليه .. فهل ادعى محمد أنه هو المنتظر، وهل كانت الدلائل بجانبه؟

قال: أجل .. لقد صرحت النصوص الكثيرة بأنه هو النبي الموعود المنتظر، واسمح لي أن أرتل لك بعض كلام ربي الذي يدل على ذلك.

لقد أخبر الله تعالى أنه أخذ المواثيق على الأنبياء ليؤمن به، قال تعالى:) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ( (آل عمران:81)

وقد قال أحد صحابة رسول الله يفسر هذه الآية، وهو علي ـ رضي الله عنه ـ:( ما بعث الله نبياً آدم فمن دونه إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد r وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه )

بل إن القرآن الكريم ذكر ما في كتبهم من الصفات التي لا تنطبق إلا عليه، قال تعالى:) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (لأعراف:157)

وأخبر عن بعض ما ورد عنه من نبوءات في التوراة والإنجيل، فقال :) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً((الفتح:29)

نعم .. لم يذكر القرآن الكريم كل ما ورد عن محمد r من نبوءات في هذه الكتب تاركا ذلك للبحث والاجتهاد، ولكنه أخبر أن هذه النبوءات من الوضوح والدقة ما تجعل العالم، بل الدارس للكتب يضطر للتسليم اضطرارا، قال تعالى:) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ( (البقرة:121)

كانت له قراءة مميزة للقرآن الكريم تجعل الجسد ينهد ويرتعش ارتعاشة لذيذة لا يمكن وصفها.

البشارة الثانية:

سكت عن القراءة، وقال: أتدري ما الذي صرف اليهود، وصرف قومك الذين سلموا لليهود عن تطبيق هذه البشارات على محمد؟

سكت، فقال: إنهم يتصورون الله كما يتصورون هتلر، أو كما يتصورون كل عنصري.

انتفضت غاضبا، وقلت: ما الذي تقول؟ .. لقد كنت مؤدبا في حوارك، فكيف تحولت إلى السخرية والاستهزاء.

قال: أنا لا أسخر ولا أستهزئ .. ولكني أنبهك، والتنبيه قد يحمل ألما .. ولكن الأمل لا يتحقق ـ أحيانا كثيرة ـ إلا ببعض الألم.

قلت: فما تقصد؟

قال: لقد تصور الإسرائيليون، وأنتم تبعا لهم أن النبوة حكر على بني إسرائيل.. وأن الله لن يخرج أطباء يداوون العالم، ولا شموسا تضيء ظلماته إلا من ذلك الشعب.

إن النبوة ـ يا أخي ـ أعظم من أن يحتكرها أي شعب من الشعوب .. وإن الله أرحم من أن يخص شعبا بمئات الأنبياء، ويترك سائر الأمم تعيش في الجهالة.

طرق بمطرقته، ثم قال: لقد كان هذا من أكبر ما دعاني إلى الإسلام، فالقرآن يحمل احتراما كبيرا لكل شعوب العالم، بل يخبر أن كل هذه الشعوب كان فيها صالحون وأنبياء، لا كما تعتقدون من انحصار فضل الله في بيت إسرائيل.

لقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:) وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ( (فاطر: من الآية24) .. فكل الأمم نالتها رحمة الله وفضله .. فلا تحجروا على الله فضله، ولا تضيقوا ما وسع الله من رحمته.

التفت إلي، وقال: لعلك تحسب أننا ابتعدنا عن بشارة داود ..

صمت، فقال: لا .. لم نبتعد .. هناك بشارة أخرى تشير إلى هذا .. وكأنها تصحح الأخطاء التي وقعت فيما فصلنا فيه من بشارة .. وستكون خاتمة جلوسي معك هذه البشارة .. ولن يشتد عليك تفسيرها وتطبيقها ..

لقد قال داود في بشارته الثانية :( الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا ) (المزمور 118/22 ـ 23)

ولأعينك على فهمها وتطبيقها، أجبني: هل ورد في الكتاب المقدس ما يدل على أن الأمر سينتقل عنهم.

قلت: لقد ورد من ذلك الكثير.

قال: سأرتل لك من ذلك قول إشعيا على لسان الوحي :( أصغيتُ إلى الذين لم يسألوا، وُجِدت من الذين لم يطلبوني، قلت: ها أنذا ها أنذا لأمةٍ لم تسمَّ باسمي .. بسطت يدي طول النهار إلى شعب متمرد سائر في طريق غير صالح وراء أفكاره، شعب يغيظني بوجهي دائماً ) (إشعيا 65/1 - 3)

فهذا النص يذكر انتقال النبوة والأمر عن الأمة القاسية العاصية إلى أمة لم تطلب الله قبل، ولم تسم باسم الله .. وهي الأمة الأمية التي لم ينزل عليها أي كتاب.

بل إن حزقيال يؤكد رفع الملك والشريعة من بني إسرائيل ودفعه لأمة مهملة، فيقول:( إني أنا الرب وضعت الشجرة الرفيعة، ورفعت الشجرة الوضيعة، وأيبست الشجرة الخضراء، وأفرخت الشجرة اليابسة، أنا الرب تكلمت وفعلت )(حزقيال 17/32)

وهو يقول :( أنت أيها النجس الشرير رئيس إسرائيل الذي قد جاء يومه في زمان إثم النهاية، هكذا قال السيد الرب: انزعِ العمامة وارفعِ التاج، هذه لا تلك، ارفعِ الوضيع، وضعِ الرفيع، منقلباً، منقلباً، منقلباً أجعله، هذا لا يكون حتى يأتي الذي له الحكم، فأعطيه إياه )(حزقيال 21/25 ـ 27)

وقد استمر الأمر بأنبياء إسرائيل يحذرون من زوال نعمة النبوة التي نعم بها بنو إسرائيل حتى جاء يوحنا المعمدان الذي  قال محذرا بني إسرائيل من الغضب الآتي الذي سيسلطه الله عليهم :( والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار، أنا أعمدكم بماء التوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار )(متى 3/10-11)

لقد كان المسيح هو الفرصة الأخيرة لبني إسرائيل ليثبتوا أهليتهم للاصطفاء لكنهم ضيعوها، فقد وضع الفأس على أصل الشجرة، فلما كفروا به وحاولوا قتله قطعت الشجرة الخضراء ويبست ودفعت للنار، نار الغضب الإلهي والضلال، وأزهرت شجرة أخرى كانت يابسة.

لقد أيبس الله شجرة بني إسرائيل وأحرقها، وأفرخ شجرة أخرى كانت يابسة لم تظهر فيها النبوات من لدن إسماعيل.

طرق بمطرقته بعض الطرقات، ثم قال: ليس داود وحده هو الذي نطق بهذه البشارة.. لقد ضرب المسيح للتلاميذ مثل الكرامين، ثم قال :( الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا، لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ينـزع منكم، ويعطى لأمة تعمل أثماره) (متى 21/42 – 43)

إن المسيح يصرح بمن يستحق هذه البشارة .. وقد قال لتلاميذه بعد أن قص عليهم مثلاً من أمثال الملكوت، وهو مثل الزرع:( فانظروا كيف تسمعون، لأن من له سيعطى، ومن ليس له فالذي يظنه له يؤخذ منه )(لوقا 8/18)

قلت: ولكن من أدراك أن هذه النبوة ترتبط بمحمد وبقوم محمد .. أليس من الممكن أن يتحقق ذلك في أمة أخرى أكثر حضارة، وأعرق مدنية؟

قال: لقد صرح الكتاب المقدس بصفات الأمة البديلة التي ستخلف بني إسرائيل، كما جاء في التثنية :( فرأى الرب ورذل من الغيظ بنيه وبناته، وقال: أحجب وجهي عنهم وانظر ماذا تكون آخرتهم، إنهم جيل متقلب، أولاد لا أمانة فيهم، هم أغاروني بما ليس إلهاً، أغاظوني بأباطيلهم، فأنا أغيرهم بما ليس شعباً، بأمة غبية أغيظهم )(التثنية 32/19-21)

فالأمة المصطفاة، هي الأمة التي كانت مرذولة، وكانت جاهلة أو غبية محتقرة .. ولا يصدق ذلك إلا على العرب، بل قد صرح القرآن الكريم بهذا، فقال تعالى:) لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ( (الفتح: من الآية29( (الفتح: 29)

وصرح بذلك أعظم تصريح، فقال :) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ( (الجمعة:2)

قال ذلك، ثم انصرف إلى مطرقته يطرقها، وعيناه تمتلئان بالدموع ..

البشارة الثالثة:

رآني صامتا، فقال: سأقول لك شيئا لم أكتشفه إلا هذا الصباح .. لقد كنت أقرأ الكتاب المقدس في هذا الموضع.

أعطاني الكتاب المقدس، وهو مفتوح في محل معين، ثم قال: خذ، واقرأ .. فسترى محمدا في هذا النص.

أخذت أقرأ ما طلب مني :( فاض قلبي بكلام صالح، متكلم أنا بإنشائي للملك، لساني قلم كاتب ماهر: أنت أبرع جمالاً من بني البشر انسكبت النعمة على شفتيك لذلك باركك الله إلى الأبد. تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف، نُبُلُك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوبٌ تحتك يسقطون. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم. من أجل ذلك مسحك إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك... بنات ملوك بين حظياتك جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير. اسمعي يا بنت وانظري وأميلي أذنك انسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيدك فاسجدي له.. عوضاً عن آبائك يكون بنوك، تقيمهم رؤساء في كل الأرض أذكر اسمك في كل دور فدور. من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد)( المزمور 45/1 – 17)

ما وصلت إلى هذا الموضع حتى أمرني بإغلاق الكتاب، وقال: هل رأيت البشارة بمحمد في هذا المزمور؟

قلت: لا .. ما رأيت شيئا .. وإن كان يمكن أن أرى شيئا، فلا يمكن أن أرى غير المسيح.

قال: أنتم تتصورون محمدا والمسيح يتزاحمان .. لا .. هذا خطأ .. محمد والمسيح أخوان نبيان كريمان .. وكون البشارة ترتبط بأحدهما لا تعني أي إضعاف لقدر الآخر.. لأن هدف البشارات هو الحض على اتباع المبشر به.

ومع ذلك .. فلنتصور أنه المسيح .. إن البشارة لا يمكن أن تنطبق عليه، لقد ورد فيها (شعوبٌ تحتك يسقطون).. فأي شعوب سقطت تحت المسيح، وأنتم الذين قلتم عنه إنه ( كشاة سيق إلى الذبح لم يفتح فاه )

لقد ورد فيها (أنت أبرع جمالاً من بني البشر)، وأنتم تقولون عن المسيح ( لا صورة له ولا جمال، فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه )(إشعيا 52:2)

قلت: فكيف رأيت هذه البشارة تنطبق على محمد؟

قال: لقد تزوج محمد امرأة من اليهود اسمها صفية بنت حيى بن أخطب وهي من بني اسرائيل، وقد مات أبوها وشعبها كفارا بعد أن خانوا محمدا.

قلت: وما علاقة ذلك بهذه النبوءة؟

قال: لقد رأيت داود في هذا النص، وهو يوصي صفية بمحمد، فهو يأمرها بأن تنسى شعبها (بنى إسرائيل) وبيت أبيها، وأن تخضع لزوجها.

وقد حصل ذلك .. فقد نسيت السيدة صفية شعبها وبيت أبيها، وأصبحت أما للمؤمنين، وقد قال لها محمد r:( قولي لعائشة :( بل من أعلى مني نسبا .. أبي موسى، وعمي هارون، وزوجي محمد)[5]

طرق بمطرقته قليلا، ثم قال: أنتم تقولون بأن المسيح من نسل داود .. وتقولون بأن بشارات داود لا تنطبق إلا على المسيح؟

قلت: أجل ..

قال: ولكنكم تحملون صورة مشوهة عن داود .. صورة لا يمكن لأحد أن يرضاها لنفسه، ولا لمن يحب.

سأفتح لك الكتاب المقدس لتقرأ لي بعض ما تذكرونه عن داود .. بل وتتعبدون بتلاوته.

فتح الكتاب المقدس، وأعطاني لأقرأه عليه .. قرأت :( وكان في وقت المساء ان داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحمّ وكانت المرأة جميلة المنظر جدا فأرسل داود وسأل عن المرأة فقال واحد أليست هذه بثشبع بنت اليعام امرأة اوريا الحثّي فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت اليه فاضطجع معها وهي مطهّرة من طمثها.ثم رجعت إلى بيتها وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت اني حبلى فأرسل داود إلى يوآب يقول ارسل اليّ اوريا الحثي.فأرسل يوآب اوريا إلى داود فأتى اوريا اليه فسأل داود عن سلامة يوآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب وقال داود لاوريا انزل إلى بيتك واغسل رجليك فخرج اوريا من بيت الملك وخرجت وراءه حصة من عند الملك ) (صموئيل الثاني 11 /2 )

سكت، فقال: واصل القراءة ..

واصلت، وقرأت :( فقال اوريا لداود ان التابوت واسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء وانا آتي الى بيتي لآكل واشرب واضطجع مع امرأتي وحياتك وحياة نفسك لا افعل هذا الامر )(صموئيل الثاني 11 /11 )

قال: واصل ..

واصلت :( ودعاه داود فأكل امامه وشرب وأسكره.وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده والى بيته لم ينزل وفي الصباح كتب داود مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد اوريا وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا اوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت وكان في محاصرة يوآب المدينة انه جعل اوريا في الموضع الذي علم ان رجال البأس فيه فخرج رجال المدينة وحاربوا يوآب فسقط بعض الشعب من عبيد داود ومات اوريا الحثّي أيضا)(صموئيل الثاني 11 /13 )

قال: اقرأ خطاب الله لداود بعد هذا ..

قرأت :( لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه.قد قتلت اوريا الحثّي بالسيف وأخذت امرأته لك امرأة واياه قتلت بسيف بني عمون والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الابد لأنك احتقرتني وأخذت امرأة اوريا الحثّي لتكون لك امرأة هكذا قال الرب هاأنذا اقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك امام عينيك وأعطيهن لقريبك فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس ) (صموئيل الثاني 12 /9 )

قال: حسبك .. ألا ترى أنكم تحملون صورة مشوهة عن داود ..

لقد رجعت إلى كتاب المسلمين المقدس .. الكتاب الذي تحتقرونه .. بل تزعمون أنه لم يأت بجديد .. فرأيت داود فيه شخصا آخر .. مختلف تماما عن داود الذي ترسمونه في صفحات الكتاب المقدس ..

إن داود في القرآن الكريم رجل أواب رقيق القلب عظيم الإيمان .. وسأقرأ لك من القرآن الكريم ما يترك لعقلك حرية المقارنة بين هذا النبي كما سجله أنبياؤكم وكتابكم، وكما هو في كتاب ربنا.

فتح القرآن الكريم على موضع محدد، وراح يقرأ بخشوع تهتز له الجبال قوله تعالى:) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( (البقرة: 251)

ثم قال: هذا أول موضع في المصحف ذكر فيه داوود .. وقد ذكر معه هذا الوصف الطيب الملك والحكمة والعلم .. وفوق ذلك الثبات .. فلم يثبت مع طالوت إلا القليل.

فتح موضعا آخر، وراح يقرأ :) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً) (الاسراء:55) انظر كيف ذكر الله داود عند ذكر ما فضل الله به أنبياءه.

فتح موضعا آخر، وراح يقرأ :) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (الأنبياء:78 ـ 80)

انظر الفضل العظيم الذي وهبه الله لداود وابنه سليمان.

فتح موضعا آخر، وراح يقرأ :) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ((النمل:15) انظر الشكر الذي امتلأ به قلب داود وابنه.

فتح موضعا آخر، وراح يقرأ :) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ((سبأ:11)

انظر عناية الله بعبده وتعلميه له.

فتح موضعا آخر، وراح يقرأ :) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (ص: 18 ـ 26)

انظر الإنابة والرجوع إلى الله.

كنت أعرف ما ذكر المفسرون في هذه الآيات، فقلت: إن القرآن يصرح بما في كتبنا .. ألم ترجع إلى كتب المفسرين[6]؟

قال: لا .. كتب المفسرين ليست قرآنا .. كما أن شروح الكتاب المقدس ليست كتبا مقدسة .. ثم إن الأساطير التي سربتمونا إلى كتب تفسيرنا هي التي ملأتها بذلك اللغو .. أما القرآن الكريم فهو لا يذكر إلا الكمال والجمال والطهارة.

فتلك الآيات الكريمة لم تذكر أي موقف مشين لداود، بل نرى السياق يشير إلى هذه الحادثة باعتبارها موضع قدوة ، ومن دلائل تكريم الله لداود.

فالآيات التي نصت على القصة سبقت بقوله تعالى:)  اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (

وهي آيات تدعو إلى ذكر داود ، وما من الله به عليه من ألطافه ، وهي ألطاف لا يستحقها إلا الطاهرون المخلصون لا من ينسب إليهم ما ذكره المفسرون ، وكأنه تفسير لمجمل القرآن الكريم ، أو هو بالأحرى تحريف لما ورد في القرآن الكريم. 

ثم نجد آيات القصة تختم بقوله تعالى :)  يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (، وهو ما يدل على أن القصة لا تعدو حكما من الأحكام التي قد يكون داود أخطأ فيها ، وهو خطأ من جنس أخطاء الصديقين ( وحسنات الأبرار سيئات المقربين )

 ولذلك فإن تفسيرها الصحيح هو قراءتها ، وهي تدل على أن داود النبي الملك ، الذي كان إذا دخل المحراب للعبادة والخلوة لم يدخل إليه أحد حتى يخرج هو إلى الناس يفاجأ بشخصين يتسوران المحراب المغلق عليه ، فيصيبه الفزع منهم، فيبادرانه بقولهما :( لا تخف،  خصمان بغى بعضنا على بعض )

وبدأ أحدهما فعرض شكواه التي عبر عنها بقوله :( إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ، فقال: اجعلها لي وفي ملكي وكفالتي وشدد علي في القول وأغلظ )

وبمجرد سماع داود لهذه الشكوى المؤثرة من الذي يبدوا مظلوما مستضعفا، اندفع للحكم قبل سماع الخصم ، فقال :( لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، وإن كثيراً من الأقوياء المخالطين بعضهم بعضا يبغي بعضهم على بعض . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ) 

وبعد انتهاء داود من عرض الحكم ، انتبه إلى خطئه في عدم سماع الخصم الثاني ، وعلم أن ما حصل له فتنة[7] ينبغي عليه تدارك خطئه فيها بالاستغفار.

وهذه القصة بهذا العرض القرآني المبسط تشبه ما حصل لمحمد r من العتاب الإلهي له في شأن عبد الله بن أم مكتوم ، أو العتاب الإلهي في شأن الأسرى وغيرهم ، وهي مواقف تدل على كمال الرسل أكثر من دلالتها على نقصهم.

طرق بمطرقته عدة طرقات، ثم قال: أتدري لم رمى اليهود نبي الله داود بهذا .. القرآن الكريم يوضح ذلك .. لقد ورد فيه :) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ((المائدة: 78 ـ 79) لقد انتقم اليهود من داود شر انتقام .. ثم تبعتموهم أنتم .. فرحتم تنتقمون من غير أن تعرفوا لم تنتقمون.

صمت داود ، ثم راح يطرق بمطرقته بقوة.. وكأنه يضرب أعناق الذين شوهوا داود، وصورة داود ..

تركته في تلك الحال .. وانصرفت بحيرة جديدة .. وببصيص من النور اهتديت به بعد ذلك إلى أشعة محمد.

 

 

 

 

 

 

 



([1]) كما قال ':) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (سـبأ:10)

 

([2]) العهد القديم، ص 1269.

([3]) سنرى تفاصيل المعاني الحقيقية لهذه الألفاظ الموهمة في رسالة (الله جل جلاله) من هذه السلسلة.

([4]) انظر الجزء المختص بهذا، وهو رسالة (الإنسان) من هذه السلسلة.

([5]) رواه ابن سعد.

([6])  ومن ذلك ما يروى عن ابن عباس t  ـ ونحن ننزهه t عن هذه الرواية ـ أن داود u حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم. فقيل له: انك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك. فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه، فبينا هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير، فجعل يدرج بين يديه. فهم أن يتناوله بيده، فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه فطار، فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل، فلما رأته غطت جسدها بشعرها.

قال السدي: فوقعت في قلبه، قال ابن عباس: وكان زوجها غازيا في سبيل الله وهو أوريا بن حنان، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا، فقدمه فيهم فقتل، فلما انقضت عدتها خطبها داود، واشترطت عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة بعده، وكتبت عليه بذلك كتابا، وأشهدت عليه خمسين رجلا من بني إسرائيل، فلم تستقر نفسه حتى ولدت سليمان وشب ، وتسور الملكان وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه.

وقد قال ابن العربي تعقيبا على هذه القصة التي يستحي القلم من تسجيلها :« وهو أمثل ما روي في ذلك »

بل رويت هذه القصة مرفوعة إلى النبي r في الأحاديث المتسربة لتحريف القرآن الكريم.

ثم علل هؤلاء ما حصل له من تمنيه ما أمرنا به من الطموح لدرجات الصالحين ، قال الثعلبي قال قوم من العلماء: إنما امتحن الله داود بالخطيئة؛ لأنه تمنى يوما على ربه منزلة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه نحو ما امتحنهم، ويعطيه نحو ما أعطاهم »

وقد حاول صاحب تنزيه الأنبياء أن ينفي التهمة على داود u في هذه القصة ، فلم يزد على أن صححها ، وطرح النص القرآني لأجل الروايات التي لا يعرف أصلها ، قال في التنزيه :«   اعلموا أحسن الله إرشادنا وإياكم أن كل من تكلم في هذه القصة بما صح في حق داوود u وبما لم يصح إنما بنوه على أس هذه الخمس كلمات التي هي « أكفلنيها » و « عزني في الخطاب » و « لقد ظلمك » و « ليبغي بعضهم على بعض وقليل ما هم » وهي بحمد الله تخرج له على مذهب أهل الحق بأجمل ما ينبغي له وأكمله »

فحمل قوله ' :)  أَكْفِلْنِيهَا)(صّ: من الآية23) على معنى « أنزل لي عنها بطلاق وأتزوجها بعدك » ، قال :« وهذا من القول المأذون في فعله وتركه، ومباح أن يقول الرجل لأخيه أو صديقه انزل لي عن زوجك بإضمار إن شئت، وهذا بمثابة من يقول لصاحبه أو أخيه بع مني أمتك إن شئت ، وهذا قول مباح ليس بمحظور في الشرع ، ولا مكروه ومن ادعى حظره أو كراهته في الشرع فعليه الدليل ولا دليل له عليه »[6]

وأما قوله :) وعزني في الخطاب ( ، والتي تعني « غلبني فنزلت له عنها » ففسرها بغلبة الحشمة لا غلبة القهر لعظم منزلة السائل في قلب المسؤول ، ولا ندري أي حشمة من سائل يطلب زوجة المسؤول ؟

ثم أورد اعتراضا ، فقال :« فإن قيل: كان داوود u خليفة وصاحب سيف والمطلوب منه رعية ومن شأن الرعية هيبة الملوك والمبادرة لقضاء حوائجهم لكونهم قاهرين لهم، فيقضون حوائجهم باللين خوفا من العنف والإكراه ، وفي سؤال داوود عليه السلام حمل على المسؤول من هذا الباب »

وقد أجاب على هذا الاعتراض بأن هذا الحمل على المسؤول لا يتصور إلا فيمن عهد منه الظلم والغصب من الأمراء ، وأما من عهد منه العدل والإحسان « فلا يتصور ذلك في حقهم إذا منعوا المباحات وإذا لم يتصور ذلك في حقهم مع عدم العصمة فما ظنك بالمعصومين المنزهين عن الخطايا تنزيه الوجوب كما تقدم فبطل اعتراض هذه القولة في حق داوود u في هذا الباب »

ولسنا ندري أي عدل هذا من حاكم يطلب من رعيته هذه الطلبات الغريبة؟

وهكذا يمضي الكاتب في التعليل والتأويل ، ليحوج كل حرف من النص القرآني الواضح البسيط إلى متكلم فحل يدافع عن كل كلمة وحرف.

وكان يمكن له أن يترك كل هذا الجهد ، ويشرح النص كما ورد بألفاظه بعيدا عن الروايات والأساطير والخرافات.

([7]) هذا ما نراه ، ولا حاجة إلى اعتبار الحكمين من الملائكة ، كما ذهب إلى ذلك أكثر المفسرين، ومنهم سيد قطب الذي قال : ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان: فقد كانا ملكين جاءا للامتحان ! امتحان النبي الملك الذي ولاه الله أمر الناس ، ليقضي بينهم بالحق والعدل ، وليتبين الحق قبل إصدار الحكم . وقد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة. (انظر: الظلال: 3018)