المؤلف:
نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: معجزات حسية |
الناشر:
دار الكتاب الحديث |
الفهرس
|
في اليوم الخامس
.. جاءني بولس ـ كعادته ـ ممتلئا نشاطا، وكأن ما حصل له أمس، وفي الأيام السابقة
لم يزده إلا إصرارا على استكمال التداريب الفاشلة التي راح يدربني عليها.
قلت: أراك عظيم
النشاط هذا اليوم.. كعهدي بك.. ألم يؤثر فيك ما حصل أمس؟
قال: الرجل القوي
لا يؤثر فيه شيء.. والنصر لمن صبر، وثبت، لا لمن استعجل وانتكس.
قلت: فأنت لا
تزال تصمم على التحدي إذن؟
قال: ما دامت
لي أسلحة فتاكة لا يمكنني أن أرفع الراية البيضاء.
قلت: فما بقي
لديك من الأسلحة.
قال: لدي اليوم
سلاح لا يغلب.. وصواريخ لا تصد.. وقنابل لا تقهر.
قلت:
والدبابة.. هل لديك دبابة تتحصن فيها؟
قال: لا أحتاج
إلى دبابة.. فليس عند خصمي أي سلاح يمكن أن يواجهني به.
قلت: لا ينبغي
أن تغتر لهذه الدرجة، وتستهين بقدرات خصمك.. لقد ذهبنا أمس بسلاحنا النووي، فلم
يفعل شيئا..
قال: ذاك سلاح
يعتمد الكلام.. أما هذا السلاح، فهو سلاح أفعال.
قلت: ما هذا
السلاح الفعال؟
قال: التحدي.
قلت: تحدي عبد
القادر وعبد الحكيم.
قال: لا.. هما
أضعف شأنا.. بل هو سلاح التحدي الذي شهره المسيح في وجه من شكوا فيه، أو أنكروا
ألوهيته.
قلت: فعلمني
كيف أشحن هذا السلاح؟
قال: أنسيت
طريقتي في التعليم.. أنا لا أعلم إلا في وسط الجماهير.. فذلك التعليم هو الأجدى
والأعظم أثرا.
قلت: فأين نذهب
اليوم؟
قال: إلى مدرسة
من مدراس الخوارق.. نحن في الهند.. وفي الهند يهتمون بالخوارق.. ولا ينبغي أن ندفن
ما لدينا من أسلحة الخوارق.
سرت معه إلى
المدرسة التي حدثني عنها، وهناك رأينا جماهير من الناس تجتمع حول رجال يمارسون
أساليب مختلفة من العجائب.
كان مستأجر
بولس معهم، وكان يحفظ بكل دقة ما كلف بأن يقوله ذلك اليوم.. وربما يكون قد كلف من
رفاقه من يعينه على التمثيلية التي يريد إخراجها، لإقناع من يريد بولس إقناعهم.
ولذلك ما إن
رأى بولس حتى صاح في الجمع: من منكم أيها المتلاعبون بقوانين الأسباب يستطيع أن
يحيي ميتا؟
ضحك الجميع،
وقال أحدهم: ما هذا الجنون الذي تتحدث عنه؟.. نحن نمارس ما يسمى في منطق الناس
بالخوارق.. ولكن ليس من الخوارق إعادة الحياة للموتى.. إن هذا مستحيل.
قال المستأجر:
ألكونك عاجزا عنه رميته بالاستحالة؟
قال الرجل: بل
لكونه مستحيلا رميته بالاستحالة.
قال المستأجر:
فإذا حصل، وأحيا شخص ميتا؟
قال الرجل:
سيكون بذلك إلها أو أقنوما من إله.. الإله وحده هو الذي يستطيع أن يحيي الموتى.
هنا انتهز بولس
الفرصة، فاخترق الجمع، وقال: أنا أعرف من أحيا الموتى.. وما دمتم ترون أن من أحيا
الموت إله أو أقنوم من إله، فإني أدعوكم لهذا الإله العظيم.
قالوا: فمن هو؟
قال: إنه النور
الذي نزل إلى الأرض ليحييها، ويكفر خطايا أهلها.
قالوا: ما
اسمه؟
قال: المسيح.
قالوا: فهل حصل
وأن أحيا الموتى؟
قال: أجل.. لقد
روي ذلك في كتابنا المقدس.. وهو لم يحيي ميتا واحدا، بل أحيا موتى كثيرين.. وهو لم
يحيي الموتى فقط، بل أتى بعجائب كثيرة لا تملكون معها إلا الإقرار بطبيعته
الإلهية.
سأذكر لكم بعض
ما نص عليه الكتاب المقدس من ذلك.
فتح الكتاب المقدس،
وراح يقرأ من (لوقا 7: 19-23):( فَدَعَا يُوحَنَّا اٰثْنَيْنِ مِنْ
تَلامِيذِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَسُوعَ قَائِلاً: (أَنْتَ هُوَ اٰلآتِي أَمْ
نَنْتَظِرُ آخَرَ؟) فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ اٰلرَّجُلانِ قَالا: (يُوحَنَّا
اٰلْمَعْمَدَانُ قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ قَائِلاً: أَنْتَ هُوَ اٰلآتِي
أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟) وَفِي تِلْكَ اٰلسَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ
أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ، وَوَهَبَ اٰلْبَصَرَ
لِعُمْيَانٍ كَثِيرِينَ. فَأَجَابَ يَسُوعُ: (اٰذْهَبَا وَأَخْبِرَا
يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ اٰلْعُمْيَ يُبْصِرُونَ،
وَاٰلْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَاٰلْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَاٰلصُّمَّ
يَسْمَعُونَ، وَاٰلْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَاٰلْمَسَاكِينَ
يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لا يَعْثُرُ فِيَّ)
أنتم ترون كيف
فضَّل المسيح أن يجيب على سؤال المعمدان بالأفعال قبل الأقوال (ففي تلك الساعة شفى
كثيرين من أمراض وأدواء وأرواح شريرة، ووهب البصر لعميان كثيرين )
وبعد هذا
البرهان النظري الوافي بأنه المسيح، أفهم الرسولين أن يبلغا مرسِلهَما الكريم خبر
ما رأيا وسمعا من معجزاته وتعاليمه، وخصَّ بالذكر علامة روحية، هي أن شخصاً قد
أحرز شهرة وأظهر سلطاناً بهذا المقدار، ثم يعتني بتبشير المساكين، لا يمكن إلا أن
يكون المسيح.
ليس ذلك فقط..
لقد أحيا
المسيح ابنة يايرس، والتي وردت قصتها في (مرقس 5:
21-43)، فقد ذهب المسيح إلى كفر ناحوم، بعد أن طرده أهل جدرة التي شفى فيها
المجنون، وأهلك خنازيرهم، وكان في كفر ناحوم رجل اسمه يايرس، وهو رئيس المجمع
هناك، وكانت له ابنة توشك على الموت، لم تنجح معها معالجات الأطباء، ولا خدمة
الأقرباء ولا تضرعات الأحباء، ولم يبق رجاءً إلا في الالتجاء إلى الناصري الشهير.
لا بد أن يايرس
قرر الذهاب إلى المسيح ليطلب مجيئه إلى بيته، لكنه استصعب مفارقة وحيدته في حالتها
هذه. كما أنه لم يكن ينتظر أن يأتي المسيح إلى بيته لو أرسل له آخر، ولا يمكن أن
يأخذ ابنته إلى المسيح وهي في هذه الدرجة من الخطر، فأسرع يايرس بنفسه إلى الشاطئ،
ووقع عند قدمي المسيح وسجد له.
وكم كانت دهشة
الحاضرين عند رؤيتهم رئيسهم متذلّلاً بهذا المقدار أمام النجار الناصري الفقير،
الذي هو رفيق للعشارين والخطاة، غير أن ما عرفه يايرس وأهل كفر ناحوم عن فضائل
المسيح وفضله، يفسّر شيئاً من هذا الاحترام غير المنتظر. لقد ذللت المصيبة الشديدة
يايرس، وساقته إلى المسيح، فانفتح له باب الفرج، وتحولت مصيبته إلى بركة أعظم.
صبر المسيح على
يايرس إلى أن (طلب إليه كثيراً) ووصف حالة ابنته، وأظهر كامل الإيمان بالمسيح،
لأنه قال: (ابنتي الصغيرة على آخر نسمة. ليتك تأتي وتضع يدك عليها لتُشفى. تعال
وضَعْ يدك عليها فتحيا). يستحيل أن يتغاضى المسيح عن طلب كهذا مقرون بإيمان، لأن
الإيمان هو الدلو الوحيد الذي يسحب به الإنسان ماء الحياة من آبار الخلاص. وهو
العين الوحيدة التي بها يرى الإنسان طريق السماء ليسير فيه، وهو اليد الوحيدة التي
بها يتناول الإنسان خبز الحياة ليحيا به.
ربما تتساءلون:
لماذا لم يأمر المسيح بالشفاء عن بُعد كما فعل مرتين قبلاً؟ ألا يكون في ذلك معجزة
أبهج، وموجباً أقوى لإيمان الجمهور وأهل المدينة به؟
ربما كان ذلك
لأن المسيح علم ما لم يعرفه يايرس أو غيره من الحاضرين، وذلك أن الابنة قد ماتت
فعلاً بعد خروج أبيها من البيت. وبما أن رئيس المجمع عدو للمسيح، ففي ذهاب المسيح
معه يظهر له محبة تكون لنا مثالاً في محبة العدو. وبما أن يايرس أتمّ الشروط
الأربعة اللازمة لنوال بركات المخلّص، فقد نال طلبه، وذهب المسيح معه إلى بيته.
قال مستأجر
بولس: ما هذه الشروط الأربعة التي ننال بها بركات المسيح؟
قال بولس: تبدأ
بالإتيان إلى المسيح.. ثم الإتضاع أمامه.. ثم الحرارة في الطلب منه.. ثم الإيمان
الحي به.
هذه هي
الشروط.. يمكن لأي شخص أن يفعلها في أي لحظة لينال بركات المسيح.
قال الجمع:
واصل حديثك.. ماذا فعل المسيح؟
قال بولس: فيما
كان المسيح منطلقاً زحمته الجموع، وبما أنه لا يمكن للمُحاط بازدحام كهذا أن يسرع
في السير، فلا ريب أن يايرس استاء من هذا البطء، لأن الدقائق كانت عنده كالساعات،
لا بل كالأيام.
وزاده استياءً
وقوف المسيح في الطريق، ووقوف الجمهور معه بسبب امرأة مسكينة، كانت مريضة بنزف دم،
غير أن هذا التأخير عاد على يايرس بالبركة في تقوية إيمانه وإحياء رجائه.
فقد اقتربت من
المسيح امرأة مريضة بنزف دم منذ اثنتي عشرة سنة، هدَّ قُواها، وضيَّع مالها على
الأدوية بغير فائدة، كما أنه كان يُعتبر نجاسة بحسب طقوس شريعة موسى، لم تكن نازفة
الدم تقدر أن تلتقي بالمسيح منفردة لتحكي له عن مرضها، ولم تكن تقدر أن تحكي عن
مرضها جهاراً، فماذا تعمل؟
اجتمعت قوة
إيمانها بالمسيح، مع شدة حاجتها إليه، فقالت في نفسها: (يكفيني لمْسَ ثيابه فقط،
ولي ملء اليقين أن ذلك يُنيلني الشفاء، دون إزعاج المعلِّم والتعرُّض لملاحظة
الجمهور). ولأنها لم تتوقف كالكثيرين عند الفكر الحسن والقول الصائب، نالت
أمنيتها. ولم يكن الازدحام مانعاً لها، بل اقتربت إلى وراء هذا الشافي ولمست هدب
ثوبه، وللحال علمت بشفائها الفجائي على صورة لم تكن تتوقعها.
جاءت هذه المرأة
وراء المسيح، فلم يرها ولم تلمس جسمه. فتوهمت أنه لا يحس بما فعلته. لكن لأنه عالم
الخفايا، أوقف السير وسأل: (من لمس ثيابي؟) فظن الجميع حتى رسله أنه سأل
استعلاماً. وناب بطرس المتسرع في الكلام عن زملائه في تلويم المسيح، وقال إن
الازدحام جعل الكثيرين يلمسون ثيابك. لكن المسيح لم يسأل عن اللمس البسيط، بل عن
لمس الإيمان، إذْ لا شيء كالإِيمان، فإيمان هذه المريضة هو الذي ميَّزها عن
الكثيرين غيرها، الذين كانوا مثلها يطلبون الشفاء. ومجرد لمس هُدْب ثوب المسيح
مقروناً بالإِيمان، كان باب الخلاص لها، بينما معاشرة المسيح ومساكنته ثلاث سنين
دون إيمان لم تأت بهذه النتيجة الجوهرية للإِسخريوطي، بل زادته دينونة.
قصد المسيح
بهذه المعجزة شفاءً جسدياً وروحياً، كما قصد تقوية إيمان تلاميذه ويايرس.
نظر المسيح إلى
الوراء وتطلع في نازفة الدم مبيّناً أنه عرفها، فارتعبت لأنها لا تعرف لطفه وحبه
للناس، وخافت من القصاص على عمل لا حقَّ لها فيه، أو على الأقل من توبيخ صارم أمام
الجمهور، وإذْ لم يعد يمكنها إلا الاعتراف العلني، تقدمت وسجدت له واعترفت بعلتها
المخجلة أولاً: ثم بما فعلته خُفية، وبالشفاء العجيب الذي نالته.
فكلمها حالاً
بكلام كله عطف ورحمة قائلاً: (ثقي يا ابنة، إيمانك قد شفاك. اذهبي بسلام وكوني
صحيحة من دائك).
ثم تابع المسيح
مسيرته نحو بيت يايرس، وإذا برسولٍ من بيت يايرس يقول له: (ابنتك ماتت. لماذا
تتعِب المعلم بعد؟).
تُرى هل أسف
يايرس على تذلله للمسيح، أو هل ندم على خروجه من بيته وغيابه ساعة احتضار وحيدته؟
أوَلا يتوقع شماتة زملائه الفريسيين الذين يكرهون هذا الناصري الذي لا يخضع لهم؟
ولكن المسيح استدرك هذا التأثير السييء، وطيّب خاطره بقوله: (لا تخف. آمن فقط، فهي
تُشفَى)
فلما وصل
المسيح والأب والجمع إلى البيت، أمر أن يبقى تلاميذه مع الجمهور خارجاً، ما عدا
بطرس ويعقوب ويوحنا، الذين ابتدأ يميّزهم فوق رفقائهم، فأدخلهم معه ليكونوا شهوداً
للمعجزة العظيمة، وترك التسعة خارجاً إيناساً للجمْع الذي لم يسمح له بالدخول،
وعند دخوله الدار تكدر من الضجيج والبكاء والنوح، ووبّخ القائمين بها، وسعى ليزيل
أوهامهم في أمر الموت الجسدي، بإرجاعه روحاً إلى جسدها بعد الموت. وشبَّه الموت
بالنوم بالنظر إلى القيامة الآتية، فقال للمجتمعين: (لماذا تضجون وتبكون؟ تنحّوا.
لا تبكوا. فإن الصبية لم تمت لكنها نائمة). فاستهزأ الجميع به ولا سيما النائحون
المأجورون، وضحكوا عليه لعدم معرفته الفرق بين النائم والمائت.
فأخرجهم من
الغرفة - ولم يشهد هذه المعركة التي فيها يقهر المسيح الموت - إلا الوالد والوالدة
والرسل الثلاثة. قيل عنه في الأنبياء إنه (يَبْلَعُ اٰلْمَوْتَ إِلَى اٰلأَبَدِ،
وَيَمْسَحُ اٰلسَّيِّدُ اٰلرَّبُّ اٰلدُّمُوعَ عَنْ كُلِّ اٰلْوُجُوهِ)
(إشعيا: 25: 8). (مِنْ يَدِ اٰلْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ اٰلْمَوْتِ
أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟)
(هوشع 13: 14) ووصف الرسول عمله أنه (أَبْطَلَ اٰلْمَوْتَ وَأَنَارَ اٰلْحَيَاةَ
وَاٰلْخُلُودَ)(2 تيموثاوس 1: 10)
نرى الذي قال
عن حياته: (لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً) يدخل مع هؤلاء الخمسة
غرفة الموت، وبهذا السلطان يمسك يد الجثة، ويكلم الروح التي فارقت الجسد،
ويُرجِعها إليه بقوله: (يا صبية قومي). وللوقت قامت الصبية ومشت، ثم أمر أبويها أن
يقدّما لها طعاماً، فأحدثت هذه المعجزة دهشة عظيمة.
امتلأ الجميع
بالدهشة، فقال بولس: هل يمكن لمن يفعل هذا أن يكون بشرا عاديا؟
فجأة سمعنا صوت
عبد القادر، وهو يقول: لا.. لا يمكن أن يكون هذا بشرا عاديا، بل هو بشر فوق
العادة، وإن شئت قلت: هو بشر مؤيد بمدد رباني يثبت رسالته إلى البشر.
انتفض بولس،
الذي دهش للمفاجأة، وقال: لا.. بل هذا إله، أو أقنوم من إله، فالإله وحده هو الذي
يتصرف في الطبيعة كما يشاء.
الإله وحده هو
الذي يحيي الموتى، ألم تقرأ ما ورد في قرآنكم عن هذا، لقد جاء فيه في محاجة
إبراهيم للنمروذ:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي
رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ
اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
(البقرة:258)
قال عبد
القادر: صدقت.. الإله هو الذي يحيي، ولكنه قد يهب لمن يشاء هذه القدرة، فيحيي بإذن
الله.
لقد نص القرآن
الكريم على هذا عند ذكره لمعجزات المسيح، يقول الله تعالى:﴿ وَيُعَلِّمُهُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي
أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ
طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي
الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا
تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (49)﴾(آل عمران)
وفي آية أخرى
قال الله تعالى:﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ
نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ
تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي
وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى
بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ
مُبِينٌ﴾ (المائدة:110)
فأنت ترى
القرآن الكريم يذكر كل المعجزات التي وردت عن المسيح مجتمعة في محل واحد، بل يضيف
إليها ما لم تذكروه [1]،
ولكنه في نفس الوقت ينسب كل ذلك لله، فالله هو المتصرف في ملكه كما يشاء، وهو يهب
بعض ذلك التصرف من يشاء من خلقه كبرهان له على أنه مرسل من عنده.
قال بولس:
للقرآن أن يقول ما يشاء.. فنحن لا نفهم الحقائق من القرآن، بل نفهمها من كتابنا
المقدس.. وكتابنا المقدس هو الذي علمنا أن ألوهية المسيح هي التي جعلته يأتي
بالمعجزات..
ثم التفت للجمع
الملتف حوله، وقال ـ وكأنه يتجاهل ما قال له عبد القادر ـ: اسمعو.. ليس ذلك فقط ما
يدل على لاهوت المسيح.. إن معجزات السيد المسيح له المجد لا تعد من الكثرة، بل
كانت حياته كلها معجزات.
فقد بدأ حياته
بولادته من عذراء (أشعيا:7: 14)، وهو الأمر الفريد فى تاريخ العالم كله، فلا هو
حدث قبله ولا بعده، وكذلك بشر بميلاده نجم غير عادى (متى:2: 2-10)، وسجد له المجوس
وفى طفولته، وأذهل شيوخ اليهود (لوقا:2: 47)، كذلك كان المسيح معجزة فى عماده
(متى:3) وفى التجلي على جبل طابور (مرقس:9: 1-8)، وفى قيامته والقبر مغلق، دون أن
يشعر به أحد (متى:28)، وفى ظهوره لكثيرين بعد القيامة (مرقس:16) ودخوله على
تلاميذه والأبواب مغلقة (يوحنا:20: 19)،
وكان معجزة في صعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب (مرقس:16: 19)
لقد كانت حياته
كلها سلسلة من المعجزات تدل على لاهوته، الذي كان متحداً بناسوته، طوال الفترة
التي ظهر فيها في الجسد، وإلى الأبد أيضاً.
ويكفى أن
تسمعوا قول القديس يوحنا في خاتمة إنجيله:( وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه
لم تكتب في هذا الكتاب )(يوحنا:20: 30 )، وقوله:( أشياء أخر كثيرة صنعها يسوع، إن
كتبت واحدة واحدة، فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة )(يوحنا:21: 25)
وكمثال على ذلك
يقول القديس لوقا الإنجيلي:( وعند غروب الشمس، جميع الذين كان عندهم سقماء بأمراض
مختلفة قدموهم إليه، فوضع يديه على كل واحد منهم وشفاهم )(لوقا:4: 40)، فهنا ذكر
معجزات بالجملة لا تحصى.
وورد عن ذلك فى
إنجيل مرقس:( ولما صار المساء إذ غربت الشمس، قدموا إليه جميع السقماء والمجانين،
وكانت المدينة كلها مجتمعة على الباب، فشفى كثيرين كانوا مرضى بأمراض مختلفة،
وأخرج شياطين كثيرة )( مرقس:1: 32-34)
وقال القديس
متى الإنجيلى:( كان يسوع يطوف كل الجليل، يعلم فى مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفى كل مرض وكل ضعف فى
الشعب )(متى:4: 23)، ويواصل بقوله:( فأحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض
وأوجاع مختلفة، والمجانين والمصروعين والمفلوجين، فشفاهم )(متى:4: 24).
هل يستطيع أحد
منكم ـ أيها الجمع المبارك ـ أن تحصوا ما تنطوى تحت هذه العبارات (كل مرض)، و(جميع
السقماء) وغيرها..
انطلاقا من
هذا.. نحن هنا نقتصرعلى إثبات لاهوت المسيح من المعجزات القليلة التي دونت فى الأناجيل..
أما الحقيقة، ففوق ذلك كله.. الحقيقة فوق كل تصور.
إضافة إلى هذا،
فقد كانت معجزات المسيح تشمل أنواعاً عديدة، كلها مما لا يمكن لبشر أن يفعلها:
فمنها معجزات
الخلق، وإقامة الموتى، والمشى على الماء، وانتهار الرياح والأمواج والبحر والصعود
إلى السماء والنزول منها، والدخول من الأبواب المغلقة، والولادة من عذراء، واخراج الشياطين، وتفتيح أعين
العميان، وشفـاء الأمراض المستعصـيـة كالبرص والفلج (الشلل)، وشفاء العرج والصم
والبـكم والخرس، والأمراض التي مرت عليها 38 سنة أو 18 سنة وفشل فيها الطب..
وباختصار كما قال متى الإنجيلي:( كل مرض وكل
ضعف، في جميع السقماء والمجانين )
أجيبوني أيها
الجمع المبارك.. من ذا الذي يقدر أن يشفى كل مرض، ويكون له سلطان على الطبيعة
والشياطين بهذا التنوع، وبهذا القدر إلا الإله الذى خلق هذه الطبيعة!؟
إن نصوص
الأناجيل تدل على أن معجزات المسيح كانت تنم عن تصرفات إله، لقد كانت معجزات
المسيح بمجرد الأمر، أو الانتهار للمرض، ففي شفاء حماة بطرس من الحمى الشديدة نص
لوقا على ذلك بقوله:( انتهر الحمى فتركتها، وفى الحال قامت وصارت تخدمهم) (لوقا:
4: 39)، فأنتم ترون هنا المرض ينتهي بمجرد أمره أو انتهاره.
وفى شفاء
المفلوج، قال له:(قم احمل سريرك واذهب إلى بيتك )(مرقس:2: 11)، وبمجرد الأمر، عادت
إلي الرجل صحته كاملة، حتى أنه قام، وحمل سريره أيضاً.
وفى شفاء صاحب
اليد اليابسة، قال للرجل:( مد يدك ففعل هكذا، فعادت يده صحيحة )(لوقا: 6: 10)،
فبمجرد الأمر تمت معجزة يعجز الطب كله أمامها.
وفى إخراج
الأرواح النجسة، كان يستخدم أيضاً الأمر والانتهار فيخرجون، ولذلك قيل عنه انه:(
بسلطان يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه )( مرقس:1: 27)
وكذلك في إسكات
الأمواج وتهدئة البحر، استخدم الأمر أيضاً:( انتهر الريح وقال للبحر: اسكت أبكم، فسكنت الريح وصار هدوء
عظيم )(مرقس:4: 39)
والأمر بالنسبة
إلى الطبيعة والأمراض والعاهات، لا يمكن أن يصدر من إنسان، فهذا سلطان إلهى،
كثيراً ما كان يجعل المشاهدين يعترفون بلاهوته.
وأحياناً كانت
المعجزة تتم بمجرد اللمس أو وضع يده، كما قيل:( فكان يضع يده على أحد فيشفيهم
)(لوقا:4: 40)
وملخس عبد رئيس
الكهنة لما قطعت أذنه ( لمس أذنه وأبرأها )(لوقا:22: 51)
وفى شفاء
الأعميين( لمس أعينهما، فللوقت أبصرت أعينها فتبعاه)(متى:20: 34)
ولما وضع يديه
على أعمى بيت صيدا أبصر (مرقس:8: 25).
ونازفة الدم
التى أنفقت كل أموالها على الأطباء بلا فائدة، مجرد أن لمست هدب ثوبه ( جف ينبوع دمها وبرئت )(مرقس:5: 29)
حتى فى إقامة
الموتى، نجد عنصر الأمر أيضاً.. ففى إقامة إبنة يايرس ـ كما سمعتم ـ قال لها:(
طليثا قومى الذى تفسيره ياصبية قومى، وللوقت قامت الصبية ومشت) (مرقس:5: 41،42)
فأبطل الموت بأمره، وأعاد الحياة بأمره.
وكذلك فى إقامة
ابن أرملة نايين، قال:( أيها الشاب لك أقول قم، فجلس الميت وابتدأ يتكلم )(لوقا:
7: 14،15)
وفى إقامة
لعازر، قال له بصوت عظيم:( لعازر هلم خارجاً، فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات
بأقمطة )(يوحنا:11: 43،44)
التفت إلى عبد
القادر، وقال: ملاحظة مهمة أوجهها لك، ولكل معترض على سلطان المسيح.
إن الملاحظة
التي نستشفها من جميع معجزات المسيح أنها كانت تتم دون صلاة، فقد كان يعملها بقوته
الذاتية، بقوة لاهوته.
والمعجزة
الوحيدة التى سبقتها مخاطبة الآب، كانت إقامة لعازر من الموت، ولعل السبب فى ذلك،
أنه أراد إخفاء لاهوته عن الشيطان، وكان بينه وبين الصليب أيام قلائل، كما أنه إن
وجدت فى كل معجزاته العديد جداً معجزة وحيدة فيها صلاة، فلعلها لتعليمنا أن نصلى،
ولعل فيها رداً على أعدائه الذين كانوا
يتهمونه باستخدام قوة الشياطين فى معجزاته. ومع ذلك فإنه فى إقامة لعازر إستخدم
الأمر أيضاً، فقال لعازر:( هلم خارجاً )
(يوحنا:11: 43)
فى معجزة إشباع
الجموع قيل أنه نظر إلى فوق، وأنه شكر وبارك، كما في (مرقس:6: 41)، و(متى:15: 36)،
ولم يذكر فى إحدى هاتين المعجزتين أنه صلى، أما النظر إلى فوق ومباركة الطعام قبل
الأكل منه، حتى يعلمنا الصلاة.
ابتسم ـ وكأنه
يريد أن يلقي بالقنبلة الأخيرة التي في جعبته ـ وقال: مما يؤكد لك ـ أيها المعترض
ـ على أن معجزات المسيح تدل على إله أن كل المعجزات التي كانت تحدث، ولا زالت تحدث
لا تحدث إلا باسمه فى العهد الجديد، كما حدث فى شفاء الأعرج الذى يستعطى على باب
الجميل، إذ قال له القديس بطرس:( ليس لى فضة ولا ذهب، ولكن الذى لى فإياه أعطيك،
باسم يسوع المسيح الناصرى قم وامشى.. ) (أعمال الرسل:3: 6).
بل إن المسيح
نفسه ذكر ذلك، فقد قال المسيح:( وهذه الآيات تتبع المؤمنين: يخرجون الشياطين باسمى
)(مرقس:16: 17)
سكت قليلا، ثم
قال، وقد أعجب بذلك الجو الهادئ الذي وفر له: نعم أيها الجمع المبارك.. هذا هو الفارق
بين معجزات السيد المسيح ومعجزات رسله وقديسيه.. هو يجرى المعجزة بقوته الذاتية،
أما التلاميذ فكانت معجزاتهم باسم المسيح، أو بالقوة التى أخذوها منه، بسلطانه هو،
فالقوة ترجع إليه.
لقد قال بولس
الرسول معبرا عن هذا:( أستطيع كل شئ فى المسيح الذى يقوينى) (فى4: 13)
وهذا السلطان ـ
أيها الأحباب الطيبون ـ هو الذي منحه الرب لتلاميذه إذ ( أعطاهم سلطاناً على أرواح
نجسة حتى يخرجوها، ويشفوا كل مرض وكل ضعف) (متى:10: 1)، وقال للإثنى عشر:( اشفوا
مرضى، طهروا برصاً، أقيموا موتى، أخرجوا شياطين )(متى:10: 8)، وقال للسبعين أيضاً:(
ها أنا أعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ) (لوقا:10: 19)
انتهز عبد
القادر فرصة استجماع بولس لأنفاسه، ليتدخل قائلا: إن قولك هذا ـ حضرة القس الفاضل
ـ يستدعي أن نؤمن بآلهة كثيرة غير المسيح يمتلئ بتمجيدها الكتاب المقدس.
قال بولس: ليس في
الكتاب المقدس إله غير المسيح.. وغير الآب.. وغير روح القدس.
قال عبد
القادر: بمنطقك ـ حضرة القس ـ هناك آلهة أخرى كثيرة يعج بها الكتاب المقدس.
هناك إله اسمه
حزقيال..
ألم يحيي
حزقيال جيشا كاملاً، كما هو وراد في سفر حزقيال (37/1-14 ):( وَكَانَتْ يَدُ
الرَّبِّ عَلَيَّ فَأَحْضَرَنِي بِالرُّوحِ إِلَى وَسَطِ وَادٍ مَلِيءٍ بِعِظَامٍ،
وَجَعَلَنِي أَجْتَازُ بَيْنَهَا وَحَوْلَهَا، وَإِذَا بِهَا كَثِيرَةٌ جِدّاً،
تُغَطِّي سَطْحَ أَرْضِ الْوَادِي، كَمَا كَانَتْ شَدِيدَةَ الْيُبُوسَةِ. فَقَالَ
لِي ( يَاابْنَ آدَمَ، أَيُمْكِنُ أَنْ تَحْيَا هَذِهِ الْعِظَامُ؟) فَأَجَبْتُ: (
يَاسَيِّدُ الرَّبُّ، أَنْتَ أَعْلَمُ). فَقَالَ لِي: ( تَنَبَّأْ عَلَى هَذِهِ الْعِظَامِ وَقُلْ
لَهَا: اسْمَعِي أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْيَابِسَةُ كَلِمَةَ الرَّبِّ: هَا أَنَا
أَجْعَلُ رُوحاً يَدْخُلُ فِيكِ فَتَحْيَيْنِ. وَأَكْسُوكِ بِالْعَصَبِ
وَاللَّحْمِ، وَأَبْسُطُ عَلَيْكِ جِلْداً وَأَجْعَلُ فِيكِ رُوحاً فَتَحْيَيْنِ
وَتُدْرِكِينَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ).
وَفِيمَا
كُنْتُ أَتَنَبَّأُ كَمَا أُمِرْتُ، حَدَثَ صَوْتُ جَلَبَةٍ وَزَلْزَلَةٍ،
فَتَقَارَبَتِ الْعِظَامُ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى عَظْمِهِ، وَاكْتَسَتْ بِالْعَصَبِ
وَاللَّحْمِ وَبُسِطَ عَلَيْهَا الْجِلْدُ. إِنَّمَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا رُوحٌ
فَقَالَ لِي: ( تَنَبَّأْ لِلرُّوحِ
يَاابْنَ آدَمَ، وَقُلْ: هَذَا مَا يَأْمُرُ بِهِ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَيَّا
يَارُوحُ أَقْبِلْ مِنَ الرِّيَاحِ الأَرْبَعِ وَهُبَّ عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَتْلَى
لِيَحْيَوْا). فَتَنَبَّأْتُ كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ، فَدَخَلَ فِيهِمِ الرُّوحُ
فَدَبَّتْ فِيهِمِ الْحَيَاةُ، وَانْتَصَبُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ جَيْشاً
عَظِيماً جِدّاً جِدّاً.
ثُمَّ قَالَ
لِي: ( يَاابْنَ آدَمَ، هَذِهِ الْعِظَامُ
هِيَ جُمْلَةُ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ. هَا هُمْ يَقُولُونَ قَدْ يَبِسَتْ عِظَامُنَا
وَمَاتَ رَجَاؤُنَا وَانْقَطَعْنَا. لِذَلِكَ تَنَبَّأْ وَقْلُ لَهُمْ هَذَا مَا
يُعْلِنُهُ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَا أَنَا أَفْتَحُ قُبُورَكُمْ وَأُخْرِجُكُمْ
مِنْهَا يَاشَعْبِي وَأُحْضِرُكُمْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، فَتُدْرِكُونَ
أَنِّي أَنَا الرَّبُّ حِينَ أَفْتَحُ قُبُورَكُمْ وَأُخْرِجُكُمْ مِنْهَا
يَاشَعْبِي. وَأَضَعُ رُوحِي فِيكُمْ فَتَحْيَوْنَ، وَأَرُدُّكُمْ إِلَى أَرْضِكُمْ
فَتُدْرِكُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ قَدْ تَكَلَّمْتُ وَأَنْجَزْتُ مَا وَعَدْتُ
بِهِ، يَقُولُ الرَّبُّ )
قرأ هذا النص،
ثم توجه للحاضرين قائلا: ألا ترون ـ حضرة الفضلاء ـ أن حزقيال قد فعل في هذه
المعجزة ما لم يفعل المسيح طيلة حياته.
إن كل من
أحياهم المسيح حسب الكتاب المقدس هم ثلاثة[2]، ولعل أعظم معجزة فعلها المسيح بينها وهي إحياء صديقه ليعاز من
الموت بعد أربعة أيام.
سأنقل لكم
القصة كما هي واردة في إنجيل يوحنا لتحكموا بأنفسكم.
أخذ يقرأ من
(يوحنا: 11/41-43):( فرفعوا الحجر حيث كان الميت موضوعا ورفع يسوع عينيه الى فوق
وقال ايها الآب اشكرك لانك سمعت لي. وانا علمت انك في كل حين تسمع لي.ولكن لاجل
هذا الجمع الواقف قلت: ليؤمنوا انك ارسلتني. ولما قال هذا صرخ بصوت عظيم لعازر هلم
خارجا )
هل سمعتم ـ
أيها الجمع المبارك ـ هذه الكلمات؟
هل ترون المسيح
يدعي فيها الألوهية؟
إن المسيح رفع
عينيه إلى السماء ودعا إلهه , تضرع لرب العالمين الذي بأمره كن فيكون، وتوسل إلى
الله في أدب ومناجاة أن يستجيب إلى دعائه بإحياء هذا الميت, غير طالب المجد لنفسه
ولا تخليص نفسه، ولكن فقط ليؤمن الناس أن الله قادر على كل شئ، وأن الله هو من
أرسله إلى الناس، يقول يسوع (ليؤمنوا أنك أرسلتني)
فبالله عليكم ـ
أيها الجمع المبارك ـ لو أن المسيح هو الله، هل سيقول (ليؤمنوا أنك أرسلتني)؟.. هل
هناك إله يرسل نفسه؟
سكت قليلا، ثم
قال: ليس حزقيال فقط من أحيا الموتى في الكتاب المقدس.
هناك إيليا
الذي أحيا طفلا بإذن الله كما في (الملوك الأول: 17/17-24)، فقد جاء فيه:( وبعد
هذه الأمور مرض ابن المرأة صاحبة البيت واشتدّ مرضه جدا حتى لم تبق فيه نسمة.
فقالت لايليا ما لي ولك يا رجل الله. هل جئت اليّ لتذكير اثمي واماتة ابني. فقال
لها اعطيني ابنك.واخذه من حضنها وصعد به الى العلية التي كان مقيما بها واضجعه على
سريره وصرخ الى الرب وقال ايها الرب الهي أايضا الى الارملة التي انا نازل عندها
قد اسأت باماتتك ابنها. فتمدد على الولد ثلاث مرات وصرخ الى الرب وقال يا رب الهي
لترجع نفس هذا الولد الى جوفه. فسمع الرب لصوت ايليا فرجعت نفس الولد الى جوفه
فعاش. فاخذ ايليا الولد ونزل به من العلية الى البيت ودفعه لامه.وقال ايليا
انظري.ابنك حيّ. فقالت المرأة لايليا هذا الوقت علمت انك رجل الله وان كلام الرب
في فمك حق )
انظروا دقة فهم
هذه المرأة.. إنها أذكى من كل الأحبار والرهبان الذين يستدلون بمعجزات المسيح على
ألوهية المسيح.. إنها لم تفهم من إحياء إيليا لابنها أكثر من الحقيقة، لقد قالت:(
هذا الوقت علمت انك رجل الله وان كلام الرب في فمك حق )
سكت قليلا، ثم
قال: إيليا لم يفعل ذلك فقط.. لقد ذكر الكتاب المقدس أنه شق البحر بردائه.. وهي
معجزة عظيمة لم يفعلها المسيح نفسه، اسمعوا ما جاء في (الملوك الثاني: 2/8 ):(
وأخذ ايليا رداءه ولفه وضرب الماء فانفلق الى هنا وهناك فعبرا كلاهما في اليبس )
توجه إلى بولس
قائلا: هل في كل معجزات المسيح معجزة مثل هذه؟
ثم قال: ليس
حزقيال وإيليا وحدهما ممن يمكن أن تعتبروهم آلهة..
يمكنكم أن
تتخذوا اليشع إلهاً هو الآخر، فقد ذكر الكتاب المقدس في سفر الملوك الثاني (4: 32
) أن ( اليشع ) قد أحيا طفلاً ميتاً.. بل قد جاء فيه ما هو أعظم من ذلك، فقد ورد
عنه في سفر الملوك الثاني ( 13: 20 ) أنه أحيا ميتاً بعد موته، فقد ورد فيه:(
وَمَاتَ أَلِيشَعُ فَدَفَنُوهُ. وَحَدَثَ أَنَّ غُزَاةَ الْمُوآبِيِّينَ أَغَارُوا
عَلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ عِنْدَ مَطْلَعِ السَّنَةِ الْجَدِيدَةِ، فِيمَا كَانَ
قَوْمٌ يَقُومُونَ بِدَفْنِ رَجُلٍ مَيْتٍ. فَمَا إِنْ رَأَوْا الْغُزَاةَ
قَادِمِينَ حَتَّى طَرَحُوا الْجُثْمَانَ فِي قَبْرِ أَلِيشَعَ، وَمَا كَادَ
جُثْمَانُ الْمَيْتِ يَمَسُّ عِظَامَ أَلِيشَعَ حَتَّى ارْتَدَّتْ إِلَيْهِ
الْحَيَاةُ، فَعَاشَ وَنَهَضَ عَلَى رِجْلَيْهِ )
هل سمعتم هذه
المعجزة العجيبة بعد أن مات إليشع، ودفن في قبره، وتحللت جثته، وبقت العظام ألقى
الناس ميتا في قبره، فعادت الحياة للميت الذي ألقوه في قبره بمجرد أن مست جثة
الميت عظام إليشع.
إن هذه المعجزة
العجيبة انفرد بها إليشع دون غيره من البشر، فهل ترون أحدا من الناس يعبده من
أجلها؟
أما خضوع عناصر
الطبيعة.. فإن الطبيعة ـ حسب الكتاب المقدس ـ قد خضعت لكثيرين، وكان منهم أليشع
وإيليا ويشوع، فالذي يقرأ ماجاء في سفر الملوك الثاني (1: 7، 14 ) سيجد أن إيليا
أمر عنصر النار التي هي سيدة العناصر، فأخضعها وأطاعته بمجرد أمره فنزلت من
السماء، فلم يكن من ايليا إلا انه أمر فكان.
وجاء في سفر
الملوك الثاني ( 2: 7، 8 ) عن إيليا واليشع:( ووقف كلاهما بجانب الأردن، وأخذ
إيليا رداءه ولفه وضرب الماء، فانفلق إلي هنا وهناك فعبر كلاهما في اليبس)
أليس انفلاق
الماء الذي وقع معجزة لإيليا واليشع أعظم من هدوئه الذي وقع معجزة للمسيح.. ومع
ذلك لم تقولوا أنتم.. ولم يقل أحد إن في إيليا طبيعة لاهوتية.
أما شفاء العمي
والبرصى.. فقد نص الكتاب المقدس على أن هذه المعجزة قد حدثت على يد اليشع، كما في
سفر الملوك الثاني ( 6: 14 _ 20 ):( فأرسل الى هناك خيلا ومركبات وجيشا ثقيلا
وجاءوا ليلا واحاطوا بالمدينة. فبكر خادم رجل الله وقام وخرج واذا جيش محيط بالمدينة
وخيل ومركبات.فقال غلامه له آه يا سيدي كيف نعمل. فقال لا تخف لان الذين معنا اكثر
من الذين معهم. وصلى اليشع وقال يا رب افتح عينيه فيبصر.ففتح الرب عيني الغلام
فابصر واذ الجبل مملوء خيلا ومركبات نار حول اليشع. ولما نزلوا اليه صلى اليشع الى
الرب وقال اضرب هؤلاء الامم بالعمى.فضربهم بالعمى كقول اليشع. فقال لهم اليشع ليست
هذه هي الطريق ولا هذه هي المدينة.اتبعوني فاسير بكم الى الرجل الذي تفتشون
عليه.فسار بهم الى السامرة. فلما دخلوا السامرة قال اليشع يا رب افتح اعين هؤلاء
فيبصروا.ففتح الرب اعينهم فابصروا واذا هم في وسط السامرة )
هل سمعتم.. إن
ما فعله أليشع لم يكن بفرد واحد أو باثنين أو بثلاثة، بل كان بجيش كبير .. ومع ذلك
لم تقولوا أنتم.. ولم يقل أحد إن في اليشع طبيعة لاهوتية.
أما التنبؤ
بأحداث المستقبل.. فاليشع قد تم له ذلك.. وذلك عندما وعد المرأة الشونمية التي لم
يكن لها ابن ورجلها قد شاخ ( فَقَالَ لَهَا أَلِيشَعُ: ( فِي مِثْلِ هَذَا
الْوَقْتِ مِنَ السَّنَةِ الْقَادِمَةِ سَتَحْضُنِينَ ابْناً بَيْنَ ذِرَاعَيْكِ.
فَقَالَتْ:( لاَ يَاسَيِّدِي رَجُلَ اللهِ. لاَ تَخْدَعْ أَمَتَكَ) لَكِنَّهَا
حَمَلَتْ وَأَنْجَبَتِ ابْناً فِي الزَّمَنِ الَّذِي أَنْبَأَ بِهِ أَلِيشَعُ )
(سفر الملوك الثاني:4: 16)
بالإضافة إلى
هذا.. فإن الكثير من الأنبياء تنبؤو بالغيب والأحداث المستقبلية ممن وردت أسماؤهم
في الكتاب المقدس.. بل قاموا بصنع الآيات والمعجزات كالمسيح تماماً.. ومع هذا لم
يقل أحد منكم ولا من غيركم أن فيهم طبيعة لاهوتية.
التفت إلى
بولس، فرآه مستغرقا مثل الجميع في السماع، فقال: أأنتم أعلم بالمسيح من تلاميذ
المسيح؟
قال بولس: لا..
هم أعلم بالمسيح منا.
قال عبد
القادر: فقد حصلت كل هذه المعجزات أمام أعينهم، ومع ذلك كان أقصى ما قالوا:( قد
قام فينا نبي عظيم ) كما جاء في (لوقا: 7: 16)، ولم يكن من المسيح إلا أن أقرهم
ولم ينكر عليهم وصفهم له بالنبوة.
بل إن المسيح
نفسه لم يقصد من المعجزة إلا إقناعهم بنبوته كما جاء في إنجيل يوحنا(11: 41 ):(
وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ:( أَيُّهَا الآبُ،
أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ دَوْماً تَسْمَعُ لِي.
وَلكِنِّي قُلْتُ هَذَا لأَجْلِ الْجَمْعِ الْوَاقِفِ حَوْلِي لِيُؤْمِنُوا
أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي )
فهل يمكن لمخلص
للمسيح بعد هذا أن يتخذ من قيام المسيح بإحياء الموتى دليلاً على ألوهيته؟
سكت قليلا، ثم
قال: ليس رجال الله وحدهم هم الذين حصلت على أيديهم الخوارق.. الشيطان أيضا يصنع
المعجزات.. وبمنطقكم الذي تفكرون به، فإن الشيطان أيضا يستحق أن يعبد.
لقد ورد في
(تسالونيكي2:2/9):( الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة )
ليس الشيطان
وحده يستحق أن يعبد.. بل كل الناس.. فكل الناس يمكن أن يتنبأوا، وتحصل على أيديهم
الخوارق، لقد قال بطرس في أعمال الرسل (2/13-24):( وكان آخرون يستهزئون قائلين
انهم قد امتلأوا سلافة فوقف بطرس مع الاحد عشر ورفع صوته وقال لهم ايها الرجال
اليهود والساكنون في اورشليم اجمعون ليكن هذا معلوما عندكم واصغوا الى كلامي. لان
هؤلاء ليسوا سكارى كما انتم تظنون.لانها الساعة الثالثة من النهار. بل هذا ما قيل
بيوئيل النبي. يقول الله ويكون في الايام الاخيرة اني اسكب من روحي على كل بشر
فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم احلاما. وعلى عبيدي ايضا
واماءي اسكب من روحي في تلك الايام فيتنبأون. واعطي عجائب في السماء من فوق وآيات
على الارض من اسفل دما ونارا وبخار دخان. تتحول الشمس الى ظلمة والقمر الى دم قبل
ان يجيء يوم الرب العظيم الشهير. ويكون كل من يدعو باسم الرب يخلص ايها الرجال
الاسرائيليون اسمعوا هذه الاقوال. يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله
بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما انتم ايضا تعلمون. هذا اخذتموه
مسلّما بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبايدي اثمة صلبتموه وقتلتموه. الذي
اقامه الله ناقضا اوجاع الموت )
إن هذه الكلمات
التي أطلقها بطرس تدل قطعا علي أن المعجزات ليست بشئ، وأنهم مهما حاولوا أن يثبتوا
ألوهية يسوع عن طريق المعجزات، فهو طريق مسدود لا محالة , فذلك بطرس يعترف أن كل
الناس سيتنبأون وسيفعلون المعجزات بل معجزات أعظم من التي فعلها المسيح.
سكت قليلا، ثم
قال: إن ما اعتقدتموه في المسيح بسبب معجزاته، هو نفس ما اعتقده الناس في بولس لما
جرت منه من معجزات..
لقد حدث الكتاب
المقدس عن بولس حينما كان يبشر هو وبرنابا، فشفى رجلا مريضا كان مقعداً، فاعتقد
الناس فيه أنه إله, ليس هذا فقط، ولكن اعتقدوا فيه أنه إله تجسد، ونزل في جسد
بشري.
اسمعوا ما جاء
في (أعمال الرسل: 14/8- 12):( وكان يجلس في لسترة رجل عاجز الرجلين مقعد من بطن
امه ولم يمش قط. هذا كان يسمع بولس يتكلم. فشخص اليه واذ رأى ان له ايمانا ليشفى
قال بصوت عظيم قم على رجليك منتصبا.فوثب وصار يمشي. فالجموع لما رأوا ما فعل بولس
رفعوا صوتهم بلغة ليكأونية قائلين ان الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا الينا. فكانوا
يدعون برنابا زفس وبولس هرمس اذ كان هو المتقدم في الكلام )
توجه لبولس
قائلا: هذا هو نفس ما حدث لكم عندما اعتقدتم في المسيح أنه إله، حينما رأيتم منه
المعجزات.
قال بولس: ولكن
هناك فرق عظيم بينهما، فبولس أنكر كونه إلها وأعلن أنه بشر، ولكن هل المسيح لم
يفعل ذلك؟
قال عبد
القادر: كلا .. لقد فعل ذلك.. لقد نطق بكل جوارحه على أنه بشر، وعلى أن الآيات
التي حصلت منه آيات على نبوته، لا على ألوهيته.
لقد قال في
إنجيل متى (11: 27 ):( كل شيء قد دفع إلي من أبي ) فالرب هو الدافع والمسيح هو
المدفوع له.. ولا شك أن هناك فرقا عظيم بين الدافع والمدفوع له.
ليس هذا فقط.. بل قد ورد التصريح
بهذه الحقيقة العظيمة في مواضع كثيرة من الأناجيل:
فقد جاء في إنجيل
يوحنا( 5: 19):( فأجاب يسوع، وقال لهم: الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل
من نفسه شيئا إلا ما ينظر الآب يعمل )
وفيه أيضا، وفي
نفس الإصحاح ( 5: 30 ):( أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا. كما أسمع أدين و
دينونتي عادلة لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني )
وفي نفس
الإنجيل ( 5: 36 ):( وأما أنا فلي شهادة أعظم من يوحنَّا. لأن الأعمال التي أعطاني
الآب لأعملها، هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لي أن الآب قد أرسلني )
وفي نفس
الإنجيل ( 4: 35 ):( الآبُ يحبُّ الابن وقد دفع كل شيء في يده )
وفي إنجيل متى
( 28: 18 ):( فتقدَّم يسوع وتمهَّل قائلاً: دُفِعَ إليَّ كل سلطان في السماء وعلى
الأرض )
وفي إنجيل لوقا
( 10: 21 ـ 22 ):( والتفت (أي المسيح) إلى تلاميذه و قال: كل شيء قد دُفِـعَ إليَّ
من أبي )
وفي نفس
الإنجيل( 11: 20) يقول المسيح:( ولكن إن كنت أنا بإصبع الله أخرج الشياطين فقد
أقبل عليكم ملكوت الله )
وقد كان
الحاضرون يعلمون ذلك.. يدل لذلك ما ورد في إنجيل يوحنا(11: 21 _ 22):( فَقَالَتْ
مَرْثَا لِيَسُوعَ: (يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي. لَكِنِّي
الآنَ أَيْضاً أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ يُعْطِيكَ اللَّهُ
إِيَّاهُ )
ولهذا كان
المسيح قبل أن يقوم بالمعجزه يتوجه ببصره نحو السماء ويطلب الله ويشكره كما جاء في
إنجيل يوحنا(11: 41 ):( وَرَفَعَ يَسُوع عَيْنَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ:
(أَيُّهَا الآبُ، أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ
دَوْماً تَسْمَعُ لِي. وَلكِنِّي قُلْتُ هَذَا لأَجْلِ الْجَمْعِ الْوَاقِفِ
حَوْلِي لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي )
وقد تكرر منه
هذا الفعل كما في إنجيل متى ( 14: 15 _21 ):( وَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَجْلِسُوا
عَلَى الْعُشْبِ. ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ،
وَرَفَعَ نَظَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ الأَرْغِفَةَ،
وَأَعْطَاهَا لِلتَّلاَمِيذِ، فَوَزَّعُوهَا عَلَى الْجُمُوعِ. فَأَكَلَ
الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا )
لقد قام المسيح
برفع نظره نحو السماء قبل أن يقوم بالمعجزة وقبل أن يبارك، وكأنه يدعو خالق
السموات والأرض ليمنحه ما يطلبه من معجزات.
لم يجد بولس ـ بعد كل تلك الأدلة
التي ساقها له عبد القادر ـ سبيلا للخروج من ذلك المأزق إلا أن يغير الموضوع، فقال:
فلنقر بأن الخوارق لا تدل على الألوهية، بل تدل على النبوة.
قال عبد القادر: وقد تدل على غيرها.
قال بولس: لا بأس.. ولكنها مع ذلك لا
بد أن تدل على شيء.. فيستحيل أن يكون هناك نبي غير مؤيد بأدلة تدل على نبوته.
الكتاب المقدس ينص على هذا..
فابتداء من التوراة، جعل الله
المعجزة دليل النبوة، ولما تجلى الله لموسى فى سيناء ليرسله إلى بنى إسرائيل و إلى
فرعون و ملئه، ثبت له و للناس رسالته بمعجزة العصا ومعجزة اليد البرصاء كما في ( الخروج
3 – 4: 2 )، ثم أرسله و المعجزة بيده:( خذ بيدك العصا تصنع بها المعجزات.. و صنع
موسى المعجزات على عيون الشعب فآمن الشعب )( الخروج 4: 18 - 31 )
والقرآن نفسه يشهد بأن المعجزات كانت
عند موسى دلائل النبوة، لقد جاء في القرآن:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا
وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ (هود:96)، وفيه:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ
فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً﴾ (الاسراء:101)
لقد ذكر القرآن كل هذه الآيات، وفصل في
ذكرها حتى عجز سحرة مصر عن المعارضة، وسلم فرعون وآمن عند غرقه، فالمعجزة بذلك هى
السلطان المبين الذى به يشهد الله لنبيه أنه أرسله ليبلغ كلام الله، فلا نبوة بدون
معجزة.
ليست التوراة وحدها هي من تقول هذا..
قرآنكم يقول هذا.. فالقرآن يرى ضرورة المعجزة لصحة النبوة.. فالمعجزة، على
أنواعها، دليل النبوة الأوحد، فلا تصح النبوة بدون معجزة.
هذا مبدأ إلهى مقرر، متواتر بالاجماع
عند الأنبياء و المرسلين، حتى سماه القرآن (سنة الأولين) لقد جاء فيه:﴿ لا
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾ (الحجر:13)، وفيه
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا
رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذَابُ قُبُلاً﴾ (الكهف:55)
وسنة الله ـ كما يذكر القرآن ـ لا
تبديل لها ولا تحويل، لقد ورد في القرآن:﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾
(الأحزاب:62)، وورد فيه:﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ (الفتح:23)
وبدون معجزة لا يوجب الله على الناس
الإيمان.. لقد جاء في القرآن:﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ
جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ
الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً﴾ (الكهف:55)
ولهذا امتنع مشركو مكة عن الإيمان بالدعوة
القرآنية التي استعملت أساليب الحكمة والموعظة الحسنة، كما جاء في القرآن:﴿
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ
عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (النحل:125)، لأنها لم
تقترن بالمعجزة المطلوبة.. هذا كان في مكة.
أما في المدينة، فقد رضحوا لها
بالجهاد، أو بالحديد، كما يذكر القرآن:﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحديد:25)
فأنتم تلاحظون في فلسفة القرآن، وفى
عرف الناس جميعا، أن المعجزة سنة النبوة:﴿
لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾(الأنعام:
من الآية124)
لذلك، فإن من يقول من المسلمين بأن (
حكمة الله أقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة محمد، و برهانا على صحة رسالته و
صدق دعوته ) إنما يتتقدون حكمة القرآن فى ضرورة المعجزة للنبوة، و سنة الله فى
أنبيائه.
قال عبد القادر: إن كل ما ذكرته
صحيح.. ونحن نتفق فيه جميعا.
قال بولس: فأنت معي في أن المعجزة
شرط للنبوة؟
قال عبد القادر: أجل.. لقد صرح
القرآن بذلك، ولذلك أمد الله أنبياءه بالبراهين الدالة على نبوتهم.
بل اعتبر بعض المتكلمين أن المعجزة
هي الدليل الأوحد على صدق النبوة، وقد عبر عن ذلك أحدهم، فقال:( لا دليل على صدق
النبى غير المعجزة، فإن قيل: هل فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة؟
قلنا: ذلك غير ممكن! فإن ما يقدر دليلاعلى الصدق لا يخلو إما أن يكون معتادا، و إما
أن يكون خارقا للعادة: فإن كان معتادا يستوى فيه البر و الفاجر، فيستحيل كونه
دليلا، و إن كان خارقا للعادة يجوز تقدير وجوده ابتداء من فعل الله تعالى، فإذا لم
يكن بد من تعلقه بالدعوى، فهو المعجزة بعينها )[3]
قال بولس: لقد اتفقنا إذن.. فأنا
وأنت كلانا نتفق على أن المعجزة هي دليل النبوة.. وما دام الأمر كذلك، فمحمد ليس
نبيا.
قال عبد القادر: لم؟
قال بولس: لهذا الدليل الذي نتفق نحن
جميعا على القول به.
وهو بتعبير بسيط يتكون من مقدمتين:
الأولى: هي أن كل نبي لا بد له من
معجزة تدل عليه، وقد اتفقنا جميعا على هذا.
وأما الثانية، فهي أن محمدا ليس له
أي دليل حسي على نبوته.. وهذا ما ذكره القرآن والعلماء.. ولا يكابر في إنكاره أحد.
فهذا السيوطي يقسم المعجزة الى
نوعين، فيقول:( المعجزة إما حسية، وإما عقلية،
وكثرة معجزات بنى إسرائيل كانت حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم، وكثر معجزات هذه الأة عقلية لفرط ذكائهم وكمال
أهامهم، ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت
بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذوو البصائر )[4]
والعلماء يجمعون من قديم على أن
القرآن وحده معجزة محمد، لذلك، فى باب معجزة النبى العربى اقتصروا على كتب
الاعجاز.. وهذا إقرار منهم بأنه ليس لمحمد معجزة حسية تشهد له، كما سنرى ذلك من
القرآن نفسه.
قال عبد القادر: ولكن العلماء الذين
ترجع لهم كلهم يثبت معجزات حسية لمحمد r
ابتداء من السيوطي الذي خصص كتابا لذلك.
قال بولس: دعنا من ذلك.. إن شئت التحقيق
في هذا، فقد افترق المسلمون ثلاث فرق فى تقدير معجزة محمد: فئة التقليديين الذين
لم يزالوا غائصين فى رواسب الماضى، و فئة العلماء الذين يجعلون القرآن وحده معجزة
محمد، و فئة المتحررين الذين ينادون بأنه لا ضرورة للمعجزة لصحة النبوة.
أما فئة التقليديين البسطاء.. فلا
ينبغي لعالم أن يلتفت لما يذكرون من خرافات.
أما العلماء.. فهذا العالم العلامة
الذي لم يوجد له نظير في التحقيق العلمي[5]
الدكتور محمد حسين هيكل ينص ـ بعد تحقيق طويل وجهد جهيد فى كتابه العظيم (حياة
محمد) ـ على هذا، فيقول:( لم يرد فى كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن
الناس كافة على اختلاف عصورهم برسالة محمد إلا القرآن )
وقال بعد بحث طويل:( لقد كان r
حريصا على أن يقدر المسلمون أنه بشر مثلهم يوحى إليه، حتى كان لا يرضى أن تنسب إليه
معجزة غير القرآن، ويصارح أصحابه بذلك.. ولم يرد فى كتاب الله ذكر لمعجزة أراد
الله بها أن يؤمن الناس كافة، على اختلاف عصورهم، برسالة محمد، إلا القرآن.. هذا
مع أنه ذكر المعجزات التى جرت بإذن الله على أيدى من سبق محمدا من الرسل )[6]
ومثله الأستاذ عبد الله السمان الذي قال:( لقد
أغرم كثير من المسلمين بأن يحوطوا شخصية الرسول بهالة كبرى من الخوارق، منذ أن
حملت به أمه الى أن لقى ربه، وبلغ الغلو بهم درجة لا تطاق، ومن المتأكد أنه ليس
لهم سند من قرآن صريح أو حديث صحيح )[7]
وقال:( إن الكثيرين ـ حين يحاولون
دراسة شخصية الرسول ـ يعمدون الى كتب السيرة ليأخذوا جزافا بكل ما ورد فيها، وهذه
الكتب على كثرتها لا يجوز أن تكون مرجعا أصيلا فى هذا الصدد، لأنها كتبت فى عصور
لم يكن النقد مباحا تماما فيها، ومعظمها كان يدون لغاية تعبدية، والخلافات الكثيرة
فى رواياتها يحتم على الباحث أن يقف منها موقف الحذر والحيطة )
وقال:( وقد استوعبت كتب السيرة سيلا
من أنباء الخوارق و المعجزات، التى تزيد و تنقص تبعا لاختلاف الأزمان التى دزنت
فيها، فبينما نجد سيرة ابن هشام لا تعنى كثيرا بأنباء الخوارق و المعجزات، نجد أن
سيرة ابن أبى الفداء، و( الشفاء ) للقاضى عياض، وغيرهما، قد عنيت العناية الكبرى
بها، وكتب السيرة مزدحمة بالرواة القصاصين الذين عرفوا بالصناعة القصصية فى ما
يروون، وهؤلاء لا يتحرون الدقة فى سند الرواية أو متنها، لأنهم يعنيهم ـ فحسب ـ
صياغة الأسلوب و عنصر التشويق )
ثم قال:( وإذا تركنا السيرة إلى كتب
الحديث ألفينا أنفسنا إزاء مشكلة معقدة تجعل الباحث فى حيرة لا تنتهى ولا تقف عند
حد.. وظهر وضع آلاف الأحاديث ونسبتها إلى النبى لتكون مؤيدا لحزب سياسى، أو ناقضا
لحزب آخر، وانتهز اليهود والزنادقة فرصة هذه الخلافات التى تدثرت بالدماء فى معظم
الأحايين، وراحوا يختلقون الأحاديث ليهدموا بها الاسلام، ويشغلوا العامة عن أصوله
لتنصرف إلى شكلياته، كما تطوع كثير من السذج والبسطاء فوضعوا أحاديث فى الترغيب
والترهيب، ظنا منهم أن فى هذا خدمة للدين، و لو عقلوا لأدركوا أنهم إنما أساؤوا
إلى الدين أكبر إساءة )
ثم قال:( وبعض تفاسير القرآن نفسها
محشو بآلاف الأحاديث المنسوبة الى الرسول، دون أن يكلف أصحاب التفاسير أنفسهم مشقة
توضيح درجتها من الصحة والضعف.. والذين يتشدقون بأحاديث دخيلة، ويصرون على نسبتها
إلى رسول الله، ولو قبلناها، لكان معنى هذا أن محمدا نطق بما يفسد ذوق الحياة،
ويتنكر لسنتها، ويهدم بمعول هذه الشريعة التى قامت أصولها على المنطق القوى السليم
)
وختم بقوله:( ولسائل أن يتساءل: ألم
تحدث للرسول معجزات؟.. ونحن نقول له: إن كتب الأحاديث، وكتب السيرة، قد استوعبت
آلاف المعجزات، ومنها ما بلغ الى درجة التطرف الذى يفرض علينا الضحك، وحسبك أن
تقرأ (دلائل النبوة) للبيهقى، و أبى نعيم، و(الشفاء) للقاضى عياض، وشرح الزرقانى
على (المواهب)، والأحاديث المعتمدة معدودة على الأصابع، وكلها أحادية لا تقطع بخبر
)[8]
وهكذا، فالأستاذ السمان ينقض كل
معجزات الحديث والسيرة والشمائل والمغازى
وينقض معها كل ما يتوهمونه من معجزات فى بعض آيات القرآن.
ومثلهما قال الأستاذ دروزة الذي كان
أصرح منه فى قوله:( إن حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد
عليه السلام، و برهانا على صحة رسالته، و صدق دعوته )[9]
فالواقع التاريخى والقرآنى يدل على
أن محمدا غير مؤيد بالخوارق فى نبوته
ورسالته.
قال عبد القادر: لقد ذكرت كلاما
كثيرا، والمنهج العلمي الذي تعرضه علي يحتم أن نناقش كل ذلك نقطة نقطة.. فإن أذنت
لي، وكنت حريصا على معرفة الحق، ناقشتك، وإلا فأنت حر فيما اخترت.
هنا تدخل مستأجر عبد القادر بطريقته
اللبقة، وقال: إن حضرة القس عالم جليل، وهو لا تهمه إلا الحقيقة، وما عرض هنا ما
عرضه إلا لتناقشه فيه.. فتحدث كما شاء، فلن تجد منه، ولن تجد منا إلا آذانا صاغية.
كتم بولس بعض الضيق في نفسه، وأخرج
ابتسامة مصطنعة دفعت عبد القادر ليقول: ما دام الأمر كذلك، وما دام حضرة القس
الفاضل قد أذن لي.. فسأبين لكم وجه الحق فيما استدل به واحدا واحدا.
أما الأول، وهو استدلاله بالقرآن،
وأن القرآن نفى أن تكون لمحمد r
أي خارقة للعادة.. فإن المنهج العلمي يستدعي أن أطرح على حضرة القس هذا السؤال:
اقرأ لي الآيات التي نفى القرآن فيها أي معجزة لمحمد r.
قال بولس: لقد جاء في القرآن في سورة
الأنعام:﴿ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا
عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ
وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ (الأنعام:57)، ومعنى ذلك أن محمدا لم تكن
عنده المعجزات التي طلبها منه الكفار.
وقال في نفس السورة:﴿
وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ
لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ
أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(الأنعام:109)، ومعنى ذلك أنه لو
أعطاهم آية واحدة لآمنوا، ولكن يبدوا أنه لم يحقق طلبهم ولو في آية واحدة.
وفي سورة الإسراء قال هكذا:﴿
وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً(90)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ
خِلالَهَا تَفْجِيراً(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا
كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ
بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ
حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ
كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً(93)﴾(الإسراء)
وفي نفس السورة وردت هذه الآية:﴿
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ
وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ
بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ (الإسراء:59)
وفي سورة الأنعام:﴿ وَقَالُوا
لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى
أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾(الأنعام:37)
قال عبد القادر: فلنبدأ بالآية
الأولى.. والتي يأمر الله تعالى فيها نبيه r
بأن يقول ﴿ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا
عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ
وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴾(الأنعام:57)
إن فهم هذه الآية يستدعي معرفة
المراد من جملة (مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ فهي الجملة المحورية في الآية.
إن حضرة القس الفاضل فهمها على أن
المراد منها هو الآيات ودلائل النبوة، وهو ما لا يستقيم مع اللفظ، فالاستعجال هو
طلب تقدم شيء وعدوا به أو هددوا.
وبالرجوع إلى القرآن الكريم الذي
يرجع له حضرة القس ومن معه، فإنا نجد الكفار الذي قاموا بفعل الاستعجال، استعجلوا
النبي r
في أمرين:
أما الأول، فهو القيامة، فقد كانوا
يكذبون بها أشد تكذيب، ولذلك كانوا يستعجلون حضورها، كما قال تعالى:﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي
تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)﴾(النمل)، وقال تعالى:﴿ قتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ
عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)﴾(الذاريات)
وأما
الثاني، فهو نزول العذاب بهم في الدنيا قبل القيامة، وهو ما تشير إليه هذه الآية
بدليل قوله:﴿ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ
الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ أي: لو كان مرجع ما تستعجلون به إلي،
لأوقعت بكم ما تستحقونه من ذلك.
وقد أشار
إلى هذا المعنى آيات كثيرة من القرآن الكريم، فقد كان المشركون لعتوهم يطلبون من
محمد r أن ينزل بهم العذاب الذي يتوعد الله به الكافرين:
فالله تعالى
يقول:﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا
مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ
آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)﴾(يونس)
ويحكي الله
تعالى عنهم استعجالهم العذاب، فيقول:﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ
كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ
السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾(الأنفال)
وهذا من
كثرة جهلهم وعُتُوِّهم وعنادهم وشدة تكذيبهم، لقد كان الأولى لهم أن يقولوا:(
اللهم، إن كان هذا هو الحق من عندك، فاهدنا له، ووفقنا لاتباعه )، ولكن الكبر الذي
امتلأت به نفوسهم منعهم من ذلك.
وقال تعالى:﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا
أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ﴾(العنكبوت:53)
وقال تعالى:﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا
قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾(ص:16)
وقال تعالى:﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ﴾(المعارج:
1-3﴾
والله تعالى
يحكي هذا عن الأمم السالفة، كما قال قوم شعيب له:﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا
كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾(الشعراء: 187)،
وقال هؤلاء:﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾
هنا انتهز
بولس الفرصة، وقال: ولكن قوم شعيب نزل بهم العذاب، وكان ذلك آية لشعيب، أما محمد،
فلم يحصل له ذلك.. وبذلك لم تكن له آية.
قال عبد
القادر: وما فائدة الآية بعد نزول العذاب بهم وهلاكهم.. لقد كان لمحمد من الرحمة
ما منعه أن يسأل الله عذابهم.. بل كان حريصا عليهم حزينا على كفرهم، ولذلك لما عرض
عليه تعذيبهم أبى ذلك.
فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها
قالت لرسول الله r:(
يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟)، فقال:( لقد لقيتُ من قومك،
وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كُلال،
فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن
الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني، فنظرت فإذا فيها جبريل، عليه
السلام، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك
مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني مَلَك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا
محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت؟
إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين[10])،
فقال رسول الله r:(
بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئا )[11]
فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم،
فاستأنى بهم، وسأل لهم التأخير، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا[12].
أجيبوني ـ حضرة الجمع المبارك ـ:
أيهما أكرم خلقا، وأقوم رأيا: أن يستجيب محمد r
لطلبهم فينزل بهم العذاب.. أم يكل ذلك لله، فالله هو الذي يعلم ما ستأول إليه
قلوبهم من الهداية والضلال.
ثم أجيبوني: لو أن مريضا طلب من
طبيبه أن يقتله حتى يريحه من العذاب.. هل يستجيب طبيبه له.. أم أنه يستعمل كل
الوسائل الطيبة ليملأه بالصحة والعافية.
قالوا: بل الثاني هو الأقوم رأيا.
قال عبد القادر: وهذا الثاني هو محمد
r..
التفت إلى بولس، وقال: فلننتقل لنفهم
الآية الثانية، وهي قوله تعالى:﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ
وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(الأنعام: 109)
فالآية الكريمة تنص على أن الكفار ﴿
أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ ﴾ من
مقترحاتهم أو الآية التي يختارونها ﴿ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾
وقد أمر الله تعالى نبيه r
بأن يرد عليهم بقوله ﴿ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ ﴾، فهو وحده
القادر عليها، والذي يظهر منها ما يشاء.
ثم خاطبهم بقوله ﴿وَمَا
يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي الآية المقترحة
إذا جاءت لا يؤمنون بها.
وهذا لا يعني عدم وجود الآيات، ولكنه يعني أن
هؤلاء اقترحوا معجزات معينة من باب السخرية والاستهزاء لا من باب الاسترشاد
والتحقق، والله تعالى لا يجيب المستهزئين أو المنكرين لما يطلبون، فإن أجابهم، ثم
لم يؤمنوا أنزل بهم العذاب.
وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن
قريشا كلموا رسول الله r،
فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، فانفجرت منه اثنتا
عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كان لهم ناقة فآتنا
من الايات حتى نصدقك، فقال رسول الله r:(
أي شيء تحبون أن آتيكم به )، قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا، فقال لهم:( فإن فعلت
تصدقوني؟)، قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون، فقام رسول الله r
يدعو، فجاءه جبريل u
فقال له:( ما شئت إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك
ليعذبنهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم)، فقال رسول الله r:(
بل أتركهم حتى يتوب تائبهم )
فهذا النص يدل على أن رحمة الله
ورحمة رسوله بقومه وبالناس كافة جعلته يمتنع من تلك الآية التي اقترحوها في ذلك
المحل، وهو لا يعني عدم الآيات، وإنما يعني ما اقترحوه، لأنهم لم يقترحوه بدوافع
الصدق والاسترشاد والتحقق.
فلو نزلت تلك الآية ولم يؤمن هؤلاء
وجب هلاكهم لأنها سنته تعالى فيما مضى من القرون والأمم السابقة، فالله تعالى
يُنزل الآية، فإن لم يؤمنوا بها يهلكهم لكفرهم وعنادهم، كما حدث مع قوم ثمود لما
جاءتهم الناقة, كما قال تعالى في الآية التي هي من الأدلة التي استدللت بها:﴿
وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ
بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً﴾( الإسراء:59)
قال بولس: إن عدم إجابة محمد
لمقترحاتهم دليل على أنه لم يكن له من السلطان ما يفعل به تلك المقترحات، وهو ما
ينفي نبوته.
قال عبد القادر: بهذا المنطق الذي
تطبقه على محمد، فإن المسيح نفسه لم يستجب لكل ما اقترح عليه من الآيات:
ففي إنجيل (مرقس:8/11-12):( فخرج الفريسيون
وابتدأوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكي يجربوه. فتنهد بروحه وقال لماذا
يطلب هذا الجيل آية. الحق اقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية )
فقد طلب الفريسيون منه معجزة على
سبيل الإمتحان، فما أعطاهم معجزة، وما أشار إلى معجزة سابقة، ولا قال: إنه سيعطيهم
معجزة فيما بعد، بل إن قوله:( لن يعطى هذا الجيل آية ) يدل على أنه لن يفعل أي
معجزة فيما بعد.
وفي إنجيل (لوقا:23/8-12):( واما
هيرودس فلما رأى يسوع فرح جدا لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه
أشياء كثيرة وترجى أن يرى آية تصنع منه. وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء. ووقف
رؤساء الكهنة والكتبة يشتكون عليه باشتداد. فاحتقره هيرودس مع عسكره واستهزأ به
وألبسه لباسا لامعا ورده الى بيلاطس)
وهذا النص يظهر هنا للعيان أن المسيح
ما أظهر ولو معجزة واحدة مع أنه كان أنسب وقت لظهور معجزة, وقد كان هيرودس يترجى
أن يرى منه معجزة واحدة, ولو رأى هيرودس معجزة واحدة لوبخ اليهود، وما احتقر
المسيح حينذاك، فهل هذا ينفي ظهور المعجزات من المسيح؟
وقد ورد في نفس الإنجيل (لوقا:
22/63-65):( والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه.
وغطوه وكانوا يضربون وجهه ويسألونه قائلين: تنبأ من هو الذي ضربك. وأشياء أخر
كثيرة كانوا يقولون عليه مجدفين )
ومثله في إنجيل (متى: 26/67-68) وفي
إنجيل (مرقس: 14/65) لم يجبهم المسيح لأن سؤالهم كان مجرد استهزاء.
فهل هذا ينفي وقوع المعجزات منه؟
وفي إنجيل (متى:27/39-44):( وكان
المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة
ايام خلّص نفسك. إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب وكذلك رؤساء الكهنة أيضا وهم
يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: خلّص آخرين وأما نفسه فما يقدر ان يخلّصها. ان
كان هو ملك اسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به. قد اتكل على الله فلينقذه
الآن ان اراده. لانه قال انا ابن الله. وبذلك ايضا كان اللصّان اللذان صلبا معه
يعيّرانه )
فما خلص يسوع نفسه، وما نزل من على
الصليب حتى بعد أن عيره اللصوص والجنود والكتبة كما رأيتم.
بل إن رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ
كانوا يقولون: لو أنه نزل من على الصليب نؤمن به , فكان عليه لدفع العار وإقامة
الحجة عليهم أن ينزل ولو مرة واحدة من على الصليب، ثم يصعد مرة أخرى إن كان
مُصِّراً على أن ينتحر أو يقتل نفسه كما يدعون على الصليب , فهل هذا ينفي وقوع
المعجزات على يده؟
وفي إنجيل (متى: 12/38-40):( حينئذ
أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين يا معلّم نريد ان نرى منك آية. فأجاب وقال
لهم جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية الا آية يونان النبي. لانه كما كان
يونان في بطن الحوت ثلاثة ايام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الانسان في قلب الارض ثلاثة
ايام وثلاث ليال )
فها هم الكتبة والفريسيون قد طلبوا
منه أن يعطيهم معجزة وما أظهر لهم معجزة، بل شتمهم وسبهم، وأخبر أنهم جيل شرير
وفاسق، ولم يشير إلى معجزة سابقة، ولا وعد بلاحقة، فهل هذا ينفي وقوع أي معجزة
أخرى على يده؟
وغير هذا كثير..
بل إن عدم تلبية المسيح لطلب
المعجزات في الأوقات المطلوبه تسبب في ارتداد الكثر من تلاميذه، بل تركوه، ولم
يمشوا وراءه فيما بعد، كما جاء في إنجيل (يوحنا: 6/66):( هكذا: من هذا الوقت رجع
كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه )[13]
التفت عبد القادر إلى بولس، فوجده لا
ينبس ببنت شفة، فقال: أكتفي بهذه الأمثلة من الإنجيل.. وهي تؤكد ما ورد في
القرآن.. وهي تفسر كذلك الآيات التي أسأت فهمها، وحملتها ما لا تحتمل.
أما الموضع الثالث التي استدللت به،
فهو قوله تعالى:﴿ :﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ
لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً(90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ
وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً(91) أَوْ تُسْقِطَ
السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ
وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ
تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا
كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً
رَّسُولاً(93)﴾(الإسراء)
فالمشركون ـ كما تدل هذه الآيات
الكريمة ـ علقوا إيمانهم بالرسول r
بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً، أو بأن تكون له جنة من نخيل وعنب يفجر الأنهار
خلالها تفجيراً، أو أن يأخذهم بعذاب من السماء، فيسقطها عليهم قطعاً كما أنذرهم أن
يكون ذلك يوم القيامة! أو أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً يناصره ويدفع عنه كما
يفعلون هم في قبائلهم! أو أن يكون له بيت من المعادن الثمينة، أو أن يرقى في
السماء، ولا يكفي أن يعرج إليها وهم ينظرونه، بل لا بد أن يعود إليهم ومعه كتاب
محبر يقرأونه.
إنك ترى
طفولة الإدراك والتصور في هؤلاء، كما يبدو التعنت في هذه المقترحات الساذجة، وهم
يسوون بين البيت المزخرف والعروج إلى السماء.. أو بين تفجير الينبوع من الأرض،
ومجيء الله سبحانه والملائكة قبيلاً.
والذي يجمع
في تصورهم بين هذه المقترحات كلها هو أنها خوارق، فإذا جاءهم بها نظروا في الإيمان
له والتصديق به!
والقرآن
ينبه إلى أن الخارقة ليست من صنع الرسول، ولا هي من شأنه، إنما هي من أمر الله
سبحانه وفق تقديره وحكمته.
فليس من شأن
الرسول أن يطلبها إذا لم يعطه الله إياها، فأدب الرسالة وإدراك حكمة الله في
تدبيره يمنعان الرسول أن يقترح على ربه ما لم يصرح له به[14].
والقرآن ينص على أن مقصود الكفار
بهذه الإقتراحات العناد والتعنت واللجاج, ولو جاءتهم كل آية لقالوا هذا سحر، كما
قال تعالى:﴿ َلَوْ نَزَّلْنَا
عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (الأنعام:7)
هذا هو معنى الآية الثالثة التي
استدللت بها ـ حضرة القس ـ
أما الآية الرابعة، وهي قوله تعالى:﴿
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا
نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾(الإسراء:59)
فمعناها:( وما منعنا يا مـحمد أن
نرسل بـالاَيات التـي سألها قومك، إلا أن كان من قبلهم من الأمـم الـمكذّبة، سألوا
ذلك مثل سؤالهم فلـما أتاهم ما سألوا منه كذّبوا رسلهم، فلـم يصدّقوا مع مـجيء
الاَيات، فعوجلوا فلـم نرسل إلـى قومك بـالاَيات، لأنّا لو أرسلنا بها إلـيها،
فكذّبوا بها، سلكنا فـي تعجيـل العذاب لهم مسلك الأمـم قبلها )
فالحديث في هذا عن بعض مقترحات
المشركين، كما ذكرنا سابقا، وقد ورد في سبب نزول الاية ما يوضح ذلك، فعن ابن
عبـاس، قال: سأل أهل مكة النبـيّ r
أن يجعل لهم الصفـا ذهبـا، وأن ينـحي عنهم الـجبـال، فـيزرعوا، فقـيـل له: إن شئت
أن نستأنـي بهم لعلنا نـجتنـي منهم، وإن شئت أن نؤتـيهم الذي سألوا، فإن كفروا
أهلكوا كما أهلك من قبلهم، قال: (بل تستأنـي بهم)، فأنزل الله هذه الآية.
هذا هو معنى الآية الرابعة، أما
الآية الخامسة، وهي قوله تعالى:﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ
آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(الأنعام:37)
فلها نفس معاني الآيات السابقة، فهي
تخبر عن أولئك المستهزئين الساخرين، وهي لا تعني أبدا أن الله لم يجعل لنبيه من الآيات
ما يدل على نبوته.
التفت إلى بولس، وقال: إن هذه الآيات
جميعا تشير إلى هذه الحقيقة العظيمة.. حقيقة أن الأنبياء كان لهم من العقل والحكمة
بحيث لا يجعلون أنفسهم لعبة بيد الساخرين والمستهزئين يطلبون منهم كل ما تمليه
أهواؤهم.. ثم إن الله أعظم وأجل من أن يكون تحت رغبة كل فاسق مستهزئ من الكافرين
المنكرين لنبوة الأنبياء.
ومع ذلك.. فلنرجع للقرآن الذي تستدل
به ـ حضرة القس ـ على عدم ورود المعجزات من محمد r
.. لتقرأه بعمق، وترى إثباته لمعجزات محمد r
كإثباته لمعجزات الأنبياء من قبله.
فالله تعالى يقول:﴿ وَإِذَا
رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ(14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ
مُّبِينٌ(15)﴾
فهاتان الآيتان، تشيران إلى وقوع
الآيات منه r،
وأنهم كانوا يقابلونها بدعوى أنها من السحر، كما حصل للأنبياء السابقين، كما قال
تعالى عن موسى u:﴿
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ﴾ (طـه: من الآية71)
والله تعالى يقول في سورة القمر بعد
ذكره لمعجزة انشقاق القمر:﴿ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا
سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ(2) وكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ
مُّسْتَقِرٌّ(3) وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ(4)
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ(5)﴾(القمر)
والله تعالى يخبر أنهم رأوا الآيات
الكثيرة الدالة على صدق رسول الله r،
فهو يقول:﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(آل عمران:86)
وهو يقول:﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾(الأنعام:21)
وهو يقول:﴿ وَإِذَا
جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ
رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾
(الأنعام:124)
التفت إلى القس، وقال: ألم يقرأ قومك
هذه الآيات.. أم أنهم ينتقون من القرآن ما يشاءون.. ثم لا يفهمونه إلا كما تملي
عليهم أهواؤهم.
إنهم يشبهون ذلك السكير الذي لم يقرأ
من القرآن إلى آية واحدة، هي قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾
(الماعون:4)، بترها عما قبلها، وعما بعدها، ثم راح يقول:
دَعِ المساجد لِلْعُبَّاد
تَسْكُنْـها ومِلْ بــِنا إِلى
خَـمَّارٍ لِيَسقْينا
مَاقَالَ رَبُّكَ وِيلُ للألى
سَكروا بَل قَالَ وَيـلٌ
لِلْمُصلــــينَ
التفت عبد القادر إلى بولس، وقال:
أظن أن الشبهة الأولى التي أوردتها قد ردها القرآن نفسه، فلننتقل إلى الشبهة
الثانية، لاشك أنكم تذكرونها.
قال مستأجر عبد القادر: أجل.. فقد
شكك في الأسانيد التي رويت بها معجزات محمد، مستندا لذلك لأقوال هيكل وغيره.
ابتسم عبد القادر، وقال: إنك ـ يا
حضرة القس ـ بهذا التشكيك، لا تشكك في معجزات محمد r
فقط، بل تشكك في معجزات المسيح نفسه، بل في كل الكتاب المقدس.
أنت تعلم أن كل ما نقل من معجزات
المسيح لم ينقله تلاميذ المسيح.. بل نقله ناس لا علاقة لهم بالمسيح من قريب أو من
بعيد[15].
لن أتحدث معك في هذا، فأنت تعلم منه
أكثر مما أعلم.. ولو شئت لاكتفيت به.. ولكني سأذكر لك دقة التوثيق الذي اعتمده
علماء المسلمين في نقل كل ما يتصل برسول الله r.
أولا.. لقد كان أصحاب محمد r
هم الذين نقلوا لنا معجزات محمد r
كما رأوها، كما أنهم هم الذين نقلوا كل ما يتصل بمحمد r
من صغير وكبير [16]..
لقد كانت أعين هؤلاء الصحب الكرام
كعدسات الكاميرا، وآذانهم كأجهزة التسجيل الدقيقة التي تلتقط كل شئ، لأنهم يعلمون
أنَّ دخولهم الجنة متوقف على تأسيهم بأفعاله وأحواله، وطاعتهم لأقواله، فكانت
أعينهم شديدة المراقبة لحركات الرسول r
وسكناته، وكانت آذانهم مرهفة السمع لأقواله، وكانت قلوبهم متلهفة ومتعطشةً لسماع
الحق والنور والهدى ومعرفته وقبوله.
فلذلك نقلوا لنا فيما نقلوا بينات
رسالته، وأحوال عبادته، وحديثه وهديه وسنته، ودقائق أحواله الشخصية وتصرفاته r،
مع أصحابه وأهله وأعدائه، وتفاصيل عادته في يقظته ونومه وطعامه وشرابه وسائر
شؤونه، وتصرفه في أحرج اللحظات التي مرت به وكذا في أوج انتصاراته، وحين المكاره،
وتفاصيل محاولات الكفار والمنافقين لخداعه ومساوماتهم له، فكانت سيرته العطرة r
نوراً مشاهداً لمن حوله.
ثم نقل لنا هؤلاء الأصحاب ما رأوه
وشاهدوه وسمعوه من معجزات نبيهم r
وأقواله وأفعاله، يحدوهم الشوق للأجر في تبليغ العلم والدين، كقوله r:(
نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ منا شيئاً فبلّغه كما سمعه)[17]، وتحثهم طاعتهم لرسولهم r
إلى المسارعة في نشر العلم، فهو القائل:( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً )[18]
وقد دفعهم ـ قبل ذلك كله ـ القرآن
الكريم الذي حذر من كتمان العلم:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ
فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ
اللَّاعِنُونَ(159)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا
فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(160)﴾
(البقرة:159-160).
وحذرهم منه r،
فقال:( من سئل عن علمٍ فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)[19]
وقد نقلوا ما نقلوه بدقة بالغة
وأمانة عالية، لأنهم يعلمون حرمة الكذب في الإسلام عامة، وحرمته بشكل أشد على
الرسول r،
وقد رووا عنه قوله r:(
من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )[20]، حتى كان بعضهم يتحرج من الرواية
عنه r
خشية أن يخطئ فينقل ما لم يسمع، مما يدلنا على مدى التوثيق البالغ لسنة النبي r.
ولما ظهر بعد جيل الصحابة بعض من لا
يوثق بروايته، قيض الله أئمة الحديث والجرح والتعديل الذين شيدوا علم الرجال
والتاريخ والجرح والتعديل، الذي ضم آلاف الرواة مبيناً حال كل راوٍ من حيث أنه
معروف أو مجهول، ومن حيث مدى حفظه وضبطه وإتقانه وشيوخه وتلاميذه وسنة ولادته وسنة
موته، وهل بقي حفظه كما هو أم تغير في آخر عمره لِكِبَر سنِّه، أو لحادثٍ أصابه،
وما أشبه ذلك من مقاييس الجرح والتعديل، بل وصل الأمر إلى جمع روايات الثقات
العدول ومقارنتها لمعرفة إن كان أحدهم قد وهم في لفظة أو جملة.
وقد استقر الأمر عند علماء الحديث والسنة
فوضعوا شروطاً للحديث الصحيح المقبول عن رسول الله r،
وهي شروط في منتهى الدقة والموضوعية.
فقد اشترطوا في الحديث أن يكون
منقولاً بنقل العدول الضابطين.. متصل الإسناد بأن يكون كل راوٍ قد سمع الحديث من
شيخه، فلا يكون منقطعاً.. وأن يكون سالماً من الشذوذ ومن العلة القادحة.
فاستبعد علماء الحديث في الحديث
الصحيح من كان مجروحاً من الرواة بأي سببٍ من أسباب الجرحَ.
ومما يبين صحة منهج المحدثين
ومنهجيتهم العلمية الدقيقة: عدم قبولهم الخبر المكذوب الذي زعم واضعه أنه قصد
بوضعه نصرة الدين الإسلامي أو الحث على بعض فضائل الأعمال، بل اعتبروا ذلك ضلالاً
من فاعله وابتداعاً في الدين[21].
وبهذا يظهر لنا تميز منهج النقد
والتوثيق في الحديث النبوي، الذي يشترط الشروط الدقيقة في الرواية، حتى يطمئن
المحدث بأن كل من في سند الرواية عدل أمين في روايته، ضابط دقيق في نقله، كأن عينه
آلة تصوير، وأذنه آلة تسجيل، وذاكرته وكتابه شريط صافٍ سُجلت عليه الكلمات.
وبهذه الطريقة الأمينة الدقيقة نُقلت
إلينا السنة النبوية، وأخبار المعجزات، ووجدنا المعجزة تُروى من عدة طرق لرواتها
عن الذين حضروها وشاهدوها، فتتكامل تلك الروايات ويُصدِّق بعضها بعضاً، وتلتقي مع
ما ذكره القرآن أو أشار إليه.
وليس هناك شخص في التاريخ توفرت
لأمته تلك الدوافع والحوافز وقواعد الضبط والتحري لنقل أقواله وأفعاله غير محمدٍ r
؛ لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين الذي جعله الله حجة على العالمين وتكفل بحفظ
بيناته ومعجزاته في سجلات صادقة موثوقة لتقوم بها الحجة على من يأتي بعده إلى قيام
الساعة.
قال ذلك، ثم التفت للقس، وقال: إن
كتب الحديث ومخطوطاتها لا تزال موجودة محسوسة، فإن شئت فلنذهب إليها، ولنذهب إلى
كتبكم المقدسة لنرى مدى دقة أسانيدنا، ومدى دقة أسانيدكم.
ثم قال: أنتم أنفسكم تعترفون بدقة
أسانيدنا؟
قال بولس: كيف ذلك؟
قال عبد القادر: ألستم ترجعون إلى
كتب الحديث لتتهموا محمدا r
بما شاء لكم أن تتهموه، فكيف تقبلونها في التهمة، ثم لا تقبلونها في البراءة؟
لما سمع الجمع هذا صاحوا في عبد
القادر: لقد اقتنعنا بكل ما ذكرته من مقدمات، فحدثنا الآن عن معجزات محمد.
قال عبد القادر: إن ذلك يطول.. ولهذا
سأقتصر لكم على بعض الخوارق التي وقعت من باب التحدي، وأولها القرآن الكريم.
هنا انتفض بولس فرحا، وقال: ها.. لقد
قلت لكم: إنهم لا يملكون معجزة غير القرآن.. هذا ما كنت أناضل عنه منذ الصباح..
وهذا ما كان يرده علي، وهاهو يبدأ به.
ابتسم عبد القادر، وقال: نعم..
القرآن الكريم هو أول معجزة، وأكبر معجزة، وأخلد معجزة، وهو شاهد محمد r
لكل الأجيال.. وهو أمامكم.. ابحثوا فيه عن أسرار الإعجاز.
ثم نظر إلى بولس، وقال: نحن لدينا
معجزة خالدة، يمكننا إشهارها في كل زمان، فأرني معجزتكم، ولا تذكر لي إحياء
الموتى، ولا إبراء الأكمه والأبرص، ولا إخضاع الطبيعة، فإن كل ذلك أتلقاه منك
أخبارا أحسن بها وبك الظن، فأقبلها، ولكنها قد تجد من يردها، وقد وجدت.
قال بولس: والقرآن ماذا فعل.. لقد
تحدى مجموعة من البدو.. وطلب منهم أشعارا تضاهي بلاغته.. فلم يقدروا.
قال عبد القادر: لا.. إن هذا كلام من
لا يعرف القرآن.. القرآن أعظم من ذلك، وتحدي القرآن أعظم من أن ينحصر في البلاغة
والنظم.. إن كل ما فيه يشير إلى أنه كلام الله.
واسمح لي ـ قبل أن أذكر لك بعض أنواع
التحدي التي في القرآن الكريم ـ أن أقص عليك قصة شاعر مسيحي معاصر قرأ القرآن،
فأذهله، فأعلن إيمانه بالقرآن وبالرسول r،
فقال:( قرأت القرآن فأذهلني، وتعمقتُ به ففتنني، ثم أعدت القراءة فآمنت.. آمنت
بالقرآن الإلهي العظيم، وبالرسول مَنْ حَمَله، النبي العربي الكريم )
وقال:( وكيف لا أومن ومعجزة القرآن بين
يديّ انظرها وأحسها كل حين؟! هي معجزة لا كبقية المعجزات.. معجزة إلهية خالدة تدل
بنفسها عن نفسها، وليست بحاجة لمن يحدث عنها أو يبشر بها )
وقال:( وكم احتاجت وتحتاج الأديان
السابقة إلى علماء ومبشرين وشواهد وحجج وبراهين لحض الخلق على اعتناقها، إذ ليس
لديها ما هو منظور محسوس يثبت أصولها في القلوب.. أما الإسلام فقد غني عن كل ذلك
بالقرآن فهو أعلم مُعلِّم وأهدى مبشر، وهو أصدق شاهداً وأبلغ حجة وأدمغ برهاناً..
هو المعجزة الخالدة خلود الواحد الأزلي المنظورة المحسوسة في كل زمان )[22]
وقد نظم قصيدة يبين فيها إعجاز القرآن
وعظمته، قال فيها:
يقولون: ما آياته؟ ضلَّ سعيهم وآياته – ليست تُعَدُّ – عِظَامُ
كفى معجزُ الفرقان للناس آيـةً علا وسما كالنجم ليس يُرام
فكُلُّ بليـغٍ عنـده ظل صامتـاً كأنَّ على الأفواه صُرَّ كِمَـامُ
وشاء إله العرش بالناس رحمةً وأن يتلاشى حقدهم وخصامُ
ففرّق ما بين الضلالة والهـدى بفرقان نـور لم يَشُبْه قَتَـامُ
قال بولس: لقد طلب منك الجمع أن
تحدثهم عن خوارق محمد الحسية، لا عن الخوارق التي تسمونها معنوية.. فحدثنا عن غير
القرآن.
قال عبد القادر: ومن ذكر لك أن
القرآن معجز ةمعنوية.. إنه معجزة حسية.. يمكنكم أن تسمعوها، وأن تقرؤوها كل حين
لتروا ما فيها من العجائب التي لا تفنى مع الأيام.
لقد تنوعت البينات والمعجزات بتنوع
الأقوام والأمم، فجعل الله لكل قوم بينة تناسب مستواهم الثقافي والفكري ليكون ذلك
أبلغ في إقامة الحجة على الناس، ولما كان محمد r
مرسلاً إلى الناس كافة، وإلى كل الأزمان فقد أيده الله سبحانه ببينات متنوعة تتناسب مع جميع من أرسل إليهم من الأقوام، ومع
جميع الأجيال إلى قيام الساعة على اختلاف ثقافاتهم ومداركهم:
فكانت الفصاحة والبلاغة من بيناته
المناسبة للعرب الفصحاء البلغاء.
ومن بيناته ما يتناسب مع أهل الأديان
كالبشارات به في الكتب السابقة.
ومن بيناته ما عجز أهل الأنظمة
والقوانين عن المجيء بمثله من تشريعات حكيمة تناسب جميع البيئات والعصور.
ومن بيناته الخوارق المشاهدة كخارقة
انشقاق القمر التي سجلت عند بعض الأمم ولاتزال آثارها ظاهرة إلى اليوم.
ومنها معجزة الإخبار بالغيب الماضي
والحاضر والمستقبل، والتي لا تزال تنكشف إلى يومنا هذا.
ومنها ما يتناسب مع أهل الكشوف
العلمية في عصرنا.
ومنها نواح كثيرة ستظهر، ولاشك أنها
ستظهر، في مستقبل الأيام[23].
قال بولس: إن كل هذا تمجيد لكتابك،
ويمكنني أن أقول أضعافه عن كتابي..
قال عبد القادر: لا يمكنك أن تقول
مثل هذا عن كتابك.. إن هذا الكلام لا ينطبق إلا على كتاب واحد في الدنيا هو القرآن
الكريم.
فهو الكتاب الذي جاء يتحدى الكل عن
الإتيان بمثله، بل الإتيان بجزء قليل من مثله.
لقد جعل الله سبحانه القرآن المتضمن لكثير
من أنواع هذه المعجزات أكبر بينة لمحمد r،
قال تعالى:﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ
أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام:19).
وأخبر r
عن هذه المعجزة الخالدة، فقال:( مَا مِنْ الأنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ من
الآيات مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُه
وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ )[24]
قال بولس: فهذا الحديث يشير إلى أن
معجزة محمد الوحيدة هي القرآن.
قال عبد القادر: لا.. هذا الحديث
يشير إلى المعجزة الخالدة.. لا إلى سائر المعجزات، وهو ما تميز به الإسلام عن سائر
الأديان، باعتباره الدين الخالد.
فالحديث يشير إلى طبيعة المعجزة في
الوحي الذي أنزله الله على محمد r،
حيث يبقى بعد موته، ويتجدد إعجازه على مرّ العصور.
قال بولس: حدثنا عن شيء ملموس في هذه
المعجزة، فإن كل ما ذكرته مجرد مديح تكيله لكتابه من غير حساب.
قال عبد القادر: أجيبوني قبل أن
أسألكم: لو أن رجلا قبل أربعة عشر قرنا في صحراء قاحلة بعيدة عن كل حضارة وعلم،
أخبر عن عشرات النظريات العلمية التي لم يكتشفها العلماء إلا في عصرنا، وبأجهزة
متطورة، وبأبحاث مجهدة.. وكان كل ما ذكره موافقا لما ذكروه.. أليس ذلك معجزة؟
قالوا: بل هو قمة الإعجاز.. بل يكفي
هذا أن لا يقع فيما وقع فيه أهل تلك القرون من خرافات وأخطاء.
قال عبد القادر: وهكذا القرآن.. لقد جاء بآخر الحقائق، ووصفها
وصفا دقيقا.. ولم يقتصر على مجال واحد، بل تحدث عن المجالات المختلفة، المرتبطة
بالحاجات المختلفة للبشرية.
قالوا: إن هذا لعجيب.. ولكن هل حدث
هذا حقا؟
قال عبد القادر: أجل..
قال ذلك، ثم حدثهم عن بعض معجزات
القرآن العلمية، والتي قد تعرفت على الكثير منها في رحلتي السابقة[25].
سكت عبد القادر قليلا، ثم قال: ربما
لم يفهم بعضكم ما ذكرنا من هذه النواحي المعجزة في القرآن الكريم.. ولذلك سأذكر
لكم دليلا آخر، نطبقه في حياتنا كثيرا، وقبل أن أورده عليكم.. أجيبوني: كيف نعرف
أن رجلا ما مصارع لا ينافس، ولا تناظر قوته؟
قالوا: عندما يتحدى المصارعين، فإذا
برزوا إليه صرعهم.
قال عبد القادر: فهل ترون في الواقع
مصارعا يصرع كل من يتحداه في كل حين، وفي كل مكان، بل يتحدى جموع المصارعين.. فلا
يستطيعون تحديه؟
قالوا: هذا مستحيل.. فكل مصارع من
هذا القبيل يكون بطلا للمصارعين في زمان محدود، محدود جدا، ثم لا يلبث أن يقهر هذا
المصارع، لينال الغلبة غيره، وهكذا.
قال عبد القادر: ولكن القرآن الكريم
تحدى الكل، وفي كل الأزمنة، ولكنه لم يجد من يقف في وجهه إلى الآن..
فالله تعالى يقول ـ مبيناً عجز الإنس
والجن مجتمعين أن يأتوا بمثل القرآن الكريم ـ: ﴿قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ
الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء:88).
بل إن القرآن الكريم تحداهم بأن
يأتوا بعشر سور مثله، فقال تعالى:﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (هود:13).
ثم تحداهم الله أن يأتوا بسورة من
مثله، فلم يقدروا، وأخبرهم أنهم لن يفعلوا، فقال تعالى:﴿ وَإِنْ كُنتُمْ
فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(23)فَإِنْ
لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(24)﴾ (البقرة)
ولو كان القرآن من كلام الرسول r
لما جزم بعدم استطاعة أحد أن يأتي بمثله، وتحقق هذا الجزم بعد ذلك دليلُُ على أن
القرآن كلام الله المعجز.
لقد كان بإمكان الكفار أن يكذبوا
القرآن لو استجابوا للتحدي، وأتوا بسورة مثل القرآن، ولماّ رأينا أنهم تركوا
الاستجابة للتحدي مع أنه أمر لا يكلفهم كثيراً من التبعات، واختاروا الطريق الوعر
لمواجهة الرسول وهو الحرب وإزهاق الأنفس وإهدار الأموال علمنا علماً يقينياً عجزهم
عن الإتيان بمثله مع كونهم أساطين الفصاحة والبلاغة.
ولو قَدَّرنا أن رجلاً ألف كتاباً،
أو قال شعراً ثم تحدى الكتاب والشعراء، فقال: عارضوني، وإن لم تعارضوني، فأنتم
كفار مأواكم النار، فمن المستحيل أن يحجم الجميع عن معارضته لدفع وعيده لهم بدخول
النار، فإذا لم يعارضوه رغم توافر الدواعي لمعارضته كان ذلك من أبلغ العجائب
الخارقة للعادة الدالة على صدقه في تحديه.
قالوا: فكيف نعرف حصول العجز لمن
حاول تحدي القرآن؟
قال عبد القادر: لقد ذكرت لكم أن
القرآن الكريم لا يزال يتحدى، فهو معجزة حسية لا تزال قائمة، وتحديه لا زال قائما،
ومع أن هناك منظمات كثيرة تحارب القرآن وتحارب المسلمين، ولديهم من القدرات
المادية ما يمكنهم من أن يغروا من شاءوا من الأدباء والعلماء على أن يأتوا بمثل
القرآن … ولكنهم لم يفعلوا، ولن يستطيعوا أن يفعلوا[26].
هذا في الحاضر المشاهد … أما في
الماضي، فقد اعترف العرب الذين بدأ بهم التحدي بعظيم نظم القرآن وبلاغته وأسلوبه
من خلال تأثرهم به، حتى كانوا يحذِّرون من قدم إلى مكة من سماع القرآن خشية أن
يتأثر به فيُسلم، بل تواصوا فيما بينهم باللغو عند سماع القرآن حتى لا يتأثر به
السامع. قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا
الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ (فصلت:26).
ولما جاء الطُفَيل بن عمرو إلى مكة
لم يزل به الكفار يحذرونه من سماع القرآن حتى وضع في أذنيه قُطناً خشية أن يسمع
شيئاً من القرآن، وأبى الله سبحانه إلا أن يسمعه شيئاً منه مع وجود ذلك القطن،
فهدى الله قلبه لسماع القرآن ومن ثَمَّ شرح الله صدره للإسلام[27].
ولما سمع الوليد بن المغيرة القرآن
فكأنّه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك
مالاً ليعطوه لك، فإنك أتيت محمداً لِتَعرَّض لما قِبَله، قال: قد علمت قريش أني
من أكثرها مالاً! قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، قال: وماذا أقول؟!
فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برَجَزِه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار
الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة وإن عليه
لطلاوة، وإنه لمُثمر أعلاه مُغْدِق أسفله، وإنه ليَعْلو وما يعلى، وإنه ليَحْطِمُ
ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
قال: فدعني حتى أفكر فيه، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يؤثره عن غيره، فنزلت
الآيات في الوليد قال تعالى:﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
وَحِيدًا(11)وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا(12)وَبَنِينَ
شُهُودًا(13)وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا(14)ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15)كَلَّا
إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا(16)سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا(17)إِنَّهُ فَكَّرَ
وَقَدَّرَ(18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20)ثُمَّ
نَظَرَ(21)ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22)ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23)فَقَالَ إِنْ
هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24)إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ
الْبَشَرِ(25)سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26)﴾ (المدثر)[28]
(13)
فقول الوليد: إن القرآن سحر، يبين
عميق التأثير الذي أحدثه القرآن في نفسه.
وقال الزهري: حُدِّثْتُ أن أبا جهل
وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله r،
وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلساً ليستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان
صاحبه، فلما طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا
تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل
رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق
فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة
أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم
الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألاّ نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم
تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته
فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: يا أبا ثعلبة، والله
لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما
يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به كذلك.
قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل
فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال ماذا سمعت!
تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا،
حتى إذا تجاذينا[29]
على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك
مثل هذه! والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه[30].
فحرصهم على الحضور ليلاً لسماعه مما
يدُّلُّ على تأثرهم به وتعجبهم منه لكونه ليس ككلام البشر، ولكن العناد والمكابرة
حملهم على تركه.
ومما يدل على تميز القرآن الذاتي عن
كلام العرب ما شهد به أُنَيْس بن جنادة الغفاري قبل إسلامه، حيث سأله أخوه أبو ذرّ
عما يقول الناس في النبي r،
فقال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر ـ وكان أنيس أحد الشعراء ـ قال أنيس: لقد سمعت قول
الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر[31]
فما يلتئم على لسان أحدٍ أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون )[32]
وقدم جُبير بن مُطْعِم إلى المدينة
قبل إسلامه في فداء أُسارى بدر فسمع النبي r
يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور، قال:( فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن )[33]، وفي رواية:( وذلك أول ما وقر
الإيمان في قلبي )
فهؤلاء من قريش أفصح العرب يشهدون
ببلاغة القرآن وفصاحته من خلال تأثرهم به.
ولم يقتصر الأمر على قريش أو غيرهم
من العرب، بل إن كل من تعرف على العربية، أو تذوق أدبها يحكم للقرآن الكريم
بالإعجاز في هذا الجانب، ولهذا لم يؤلف في إعجاز القرآني النظمي أو البلاغي إلا
الأدباء الفحول.
بالإضافة إلى هذا، فهناك آلاف من
الشهادات لهذا القرآن من ناس لم يعرفوا العربية، ولم يدخلوا الإسلام، لكنهم يشعرون
أن القرآن أعظم من أن يكون كلام بشر:
يقول المستشرق
آرثر آدبري:( عندما أستمع إلى القرآن يتلى بالعربية، فكأنما أستمع إلى نبضات قلبي
)[34]
ويقول غوته:(
إن أسلوب القرآن محكم سام مثير للدهشة … فالقرآن كتاب الكتب، وإني أعتقد هذا كما
يعتقده كل مسلم … وأنا كلما قرأت القرآن شعرت أن روحي تهتز داخل جسمي )
ولما بلغ غوته
السبعين من عمره أعلن على الملأ أنه يعتزم أن يحتفل في خشوع بليلة القدر التي أنزل
فيها القرآن على النبي محمد، ولما أبصر غوته ريشة طاووس بين صفحات القرآن هتف :(
مرحباً بك في هذا المكان المقدس، أغلى كنز في الأرض )[35]
وفي كتابه
(الديوان الشرقي للشاعر الغربي ) يقول غوته:( هاجر إلى الشرق في طهره وصفائه، حيث
الطهر والصدق والنقاء، ولتتلقى كلمة الحق منزلة من الله بلسان أهل الأرض )،
ويقول:( القرآن ليس كلام البشر، فإذا أنكرنا كونه من الله، فمعناه أننا اعتبرنا
محمداً هو الإله )[36]
وتقول
المستشرقة الألمانية أنا ماريا شميل، في مقدمتها لكتاب (الإسلام كبديل) لمراد
هوفمان:( القرآن هو كلمة الله، موحاة بلسان عربي مبين، وترجمته لن تتجاوز المستوى
السطحي، فمن ذا الذي يستطيع تصوير جمال كلمة الله بأي لغة )
ويقول الباحث
الأمريكي مايكل هارت في كتابه المعروف (المائة الأوائل):( لا يوجد في تاريخ
الرسالات كتاب بقي بحروفه كاملاً دون تحوير سوى القرآن )
ويقول المستشرق
بودلي:( بين أيدينا كتاب فريد في أصالته وفي سلامته، لم يُشكّ في صحته كما أُنزل،
وهذا الكتاب هو القرآن)[37]
ويقول بارتلمي
هيلر:( لما وعد الله رسوله بالحفظ بقوله:﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ﴾ (المائدة: من الآية67)، صرف النبي حراسه، والمرء لا يكذب على
نفسه، فلو كان لهذا القرآن مصدر غير السماء لأبقى محمد على حراسته )
ويقول المستشرق
(فون هامر) في مقدمة ترجمته للقرآن:( القرآن ليس دستور الإسلام فحسب، وإنما هو
ذروة البيان العربي، وأسلوب القرآن المدهش يشهد على أن القرآن هو وحي من الله، وأن
محمداً قد نشر سلطانه بإعجاز الخطاب، فالكلمة لم يكن من الممكن أن تكون ثمرة قريحة
بشرية )
ويقول د. بول
شفارتسنا في كتابه (القرآن دليل المسيحيين):( القرآن وحي من الله، لا يحده زمان،
ومتضمن للحقيقة المركزة )[38]
ويقول
البروفسور يوشيودي كوزان مدير مرصد طوكيو:( إن هذا القرآن يصف الكون من أعلى نقطة
في الوجود … إن الذي قال هذا القرآن يرى كل شيء في هذا الكون، وكل شيء مكشوف أمامه
)
وغير ذلك كثير..
4 ـ المعجزة
الكونية
قال رجل من الجمع: لقد سمعنا هذا، وأيقنا بما في القرآن من نواحي الإعجاز
الحسي.. فهل هناك غيره؟
قال عبد القادر: لقد كانت حياة رسول الله r مملوءة بالمعجزات والخوارق التي
تبرهن على صدق نبوته.
ولكن هناك معجزة خاصة، ربما تقابل ما أتى به الأنبياء ـ عليهم السلام ـ من
معجزات، باعتبارها جاءت لمقصد إثبات النبوة، فهي تقابل ناقة صالح u، وعصا موسى u، وغيرها من الآيات التي قصد بها إثبات النبوات.
قال رجل من الجمع: وغيرها من الخوارق؟
هنا نطق مستأجر بولس بحماقته المعهودة، وقال: إن صح أن هناك خوارق.
لم يعره عبد القادر أي اهتمام، بل التفت إلى السائل، وقال: أما غيرها من
الخوارق، والتي كانت تجري على يد النبي r كما تجري العادات، فهي من إكرامات الله لنبيه r، أو من بركاته التي جعلها الله
له، أو من الطاقات التي وهبها الله إياها لأجل الوظيفة التي كلف بها.
قال الرجل: فما هذه الآية العظيمة التي هي آية التحدي العظمى؟
قال عبد القادر: انشقاق القمر..
قاطعه بولس، وهو يضحك بقوة: ألا تعجبون ـ أيها الأفاضل ـ من قوله بأن من
معجزات محمد انشقاق القمر؟ فكيف يحصل هذا، والقمر في السماء، لا في الأرض؟
قال عبد القادر: والله رب السماء والأرض، فكما يقيم الخوارق لأنبيائه في
الأرض، يقيمها لمن شاء منهم في السماء.
قال بولس: فهل تراك تأتينا بالأسانيد الضعاف لإثباتها؟
قال عبد القادر: إن هذه المعجزة ثابتة بأدلة لا تكاد تحصى، فقد تواترت
الأخبار بأن كفار مكة سألوا النبي r أن يريهم علامة تدل على صدق نبوته، فَأَرَاهُمْ
الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ، حَتَّى رَأَوْا غار حِرَاء بَيْنَهُمَا، وكان ذلك قبل
الهجرة بخمس سنوات، فلما رأى الكفار ذلك قالوا: سحرنا محمد، ثم قالوا انظروا ما
يأتيكم به السفار، فجاء السفار من كل وجه فأخبروهم بذلك..
ففي الحديث عن ابن عباس ـ رضي الله
عنهما ـ وغيره: اجتمع المشركون على عهد رسول الله r منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل هشام والعاصي بن وائل والاسود بن
حبر يغوث والاسود بن عبد المطلب والنضر بن الحرث ونظراؤهم فسألوا رسول الله r
أن يريهم آية، وقالوا: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا
على قعيقعان ـ وفي لفظ: حتى راوحوا من بينهما قدر ما بين العصر إلى الليل ـ فقال
رسول الله r:( اشهدوا )، فنظر الكفار ثم مالوا بأبصارهم فمحوها، ثم أعادوا
النظر، فنظروا، ثم مسحوا أعينهم، ثم نظروا فقالوا: سحر محمد أعيننا، فقال بعضهم
لبعض: لئن كان سحرنا، فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فانظروا إلى السفار، فإن
أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم، فقد صدق، فكانوا يلتقون الركب، فيخبرونهم، أنهم
رأوا مثل ما رأوا، فيكذبونهم[39].
بل إن القرآن
الكريم ذكر هذه الحادثة العظيمة، فقال: ﴿ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ(1)وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ
مُسْتَمِرٌّ(2)وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ
مُسْتَقِرٌّ(3)﴾ (القمر)
قال ابن عبد
البر: قد روى هذا الحديث جماعة كبيرة من الصحابة [40]، وروى ذلك عنهم
أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجَمُّ الغفير إلى أن انتهى إلينا، ويؤيد ذلك
بالآية الكريمة، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر.
ثم إن ذلك لو
لم يحصل لتشكك المسلمون في دينهم وخرجوا منه، ولقال الكفار: إن محمداً يكذب علينا،
فما انشق القمر، ولا رأينا شيئاً من ذلك، ولكن الذي حدث زاد المؤمنين إيماناً،
وتحير الكافرون أمام هذه المعجزة التي لم يملكوا سوى أن يفسروها بأنها سحر مستمر.
بل إن التاريخ
سجل هذه الحادثة، ففي الهند، وفي عهد ملك من ملوكهم، وهو (جاكرواني فرماس) ورد أنه
شاهد حادثة انشقاق القمر، فسجلت إحدى المخطوطات التاريخية الهندية ما يلي:( شاهد
ملك ما جبار (مالابار) بالهند (جاكرواني فرماس) انشقاق القمر ؛ الذي وقع لمحمد،
وعلم عند استفساره عن انشقاق القمر بان هناك نبوة عن مجيء رسول من جزيرة العرب،
وحينها عين ابنه خليفة له، وانطلق لملاقاته. وقد أعتنق الإسلام على يد النبي،
وعندما عاد إلى وطنه – بناءً على توجيهات النبي – وتوفي في ميناء ظفار ) وهذه
المعلومات في مخطوطة هندية محفوظة في مكتبة دائرة الهند تحتوي على عدة تفصيلات
أخرى عن (جاكرواني فرماس)[41] .
وقد جاء في كتب
الحديث ذكر الملك الهندي الذي وصل إلى النبي r، فعن أبي سعيد الخدري t قال: ثم أهدى ملك الهند إلى رسول الله r جرة فيها زنجبيل، فأطعم أصحابه قطعة قطعة، وأطعمني منها قطعة )،
قال الحاكم: ولم أحفظ في أكل رسول الله r الزنجبيل سواه[42].
وقد ذكرت الجرائد
الأجنبية مقالة عربتها جريدة الإنسان العربية التي كانت تطبع بالأستانة حاصلها أنه
في ممالك الصين على بناء قديم مكتوب عليه: إنه بني عام كذا الذي وقع فيه حادث
سماوي عظيم، وهو انشقاق القمر نصفين، فحرر الحساب، فوافق سنة انشقاقه لرسول الله r.
ابتسم بولس ابتسامة
سخرية، وقال: هل سمعتم ـ أيها الجمع المبارك ـ بهذه الأعجوبة.. إن هذا لو حصل
لأطبق أهل الأرض جميعا على ذكره، أم أن أعين أهل الأرض كانت مسدودة ذلك الحين؟
قال عبد
القادر: سأرد عليك هذه الشبهة بوجوه من النقل والعقل [43].. من النقل
الذي تأخذ به، ومن العقل الذي نتفق جميعا في العمل بمقتضاه.
ولنبدأ
بالنقل.. وأنا لن أنقل إلا من كتابك المقدس الذي تؤمن به، وتسلم له، بل تعتبر
مرتدا إن كفرت بشيء ورد فيه.
فأول ما
يستوقفك في هذا حادثة طوفان نوح u، فقد امتد ـ بحسب الكتاب المقدس ـ إلى سنة[44]، وفنى فيه كل ذي حياة من الطيور والبهائم والحشرات والإنسان غير
أهل السفينة، وما نجا من الإنسان غير ثمانية أشخاص على ما هو مصرح به في الإصحاح
السابع والثامن من سفر التكوين.
وقد ذكر بطرس
في رسالته الأولى (3/20)الطوفان فقال:( في أيام نوح إذ كان الفلك يبني الذي فيه
خلص قليلون أي ثمانية أنفس بالماء )
وفي (الرسالة
الثانية:2/5):( ولم يشفق على العالم القديم بل إنما حفظ نوحاً ثامناً كارزا للبر
إذ جلب طوفاناً على عالم الفجار )
وما مضت على
هذه الحادثة مدة إلى هذا اليوم ـ على زعمكم [45] ـ إلا أربعة
آلاف وبعض مئات من السنين، ولا يوجد هذا الحال في تواريخ الهند وكتبهم، وهم ينكرون
هذا الأمر إنكاراً بليغاً، ويستهزئ به علماؤهم كافة، ويقولون: لو قطع النظر عن
الزمان السالف، ونظر إلى زمان كرشن الأوتار، الذي كان قبل هذا اليوم بمقدار أربعة
آلاف وتسعمائة وستين سنة على شهادة كتبهم، لا مجال لصحة هذه الحادثة العامة لأن
الأمصار العظيمة الكثيرة من ذلك العهد إلى هذا الحين مغمورة، وثبت بشهادة تواريخهم
أنه يوجد من ذلك العهد إلى هذا الحين في إقليم الهند ملايين كثيرة في كل زمان من
الأزمنة، ويدعون أن حال زمان كرشن لوجود كثرة التواريخ كحال أمس.
وقد ذكر ابن
خلدون ذلك، فقال:( واعلم أن الفرس والهند لا يعرفون الطوفان وبعض الفرس يقولون كان
ببابل فقط )
وقال المقريزي
في كتابه (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار):( الفرس وسائر المجوس
والكلدانيون أهل بابل والهند وأهل الصين وأصناف الأمم المشرقية ينكرون الطوفان،
وأقر به بعض الفرس لكنهم قالوا لم يكن الطوفان بسوى الشام والمغرب، ولم يعم
العمران كله ولا غرق إلا بعض الناس، ولم يجاوز عقبة حلوان، ولا بلغ إلى ممالك
المشرق )
هذا حادث من
الحوداث الكبرى التي وردت في الكتاب المقدس، ولكن التاريخ يكذبها، والواقع يكذبها.
هناك حادث آخر،
عظيم الأهمية، ومع ذلك لم يذكر في التاريخ..
إنه ما ورد في
(يوشع:10/12-13):( حينئذ كلم يشوع الرب يوم أسلم الرب الاموريين أمام بني إسرائيل
وقال أمام عيون إسرائيل: يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي ايلون فدامت
الشمس، ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه. أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر. فوقفت
الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل )
وهذه الحادثة
عظيمة، وقد كانت ـ على زعمكم ـ قبل ميلاد المسيح بألف وأربعمائة وخمسين سنة.. فلو
وقعت لظهرت على الكل، ولا يمنع السحاب علمه أيضاً، وهو ظاهر، ولا اختلاف في
الآفاق، لأنا لو فرضنا أن بعض الأمكنة كان فيها الليل في هذا الوقت لأجل الاختلاف،
فلا بد أن تظهر لامتداد ليلهم بقدر أربع وعشرين ساعة.
وهذه الحادثة
العظيمة ليست مكتوبة في كتب تواريخ أهل الهند ولا أهل الصين ولا الفرس، بل إن علماء
الهند يجمعون على تكذيبها، وهم يجزمون بأنها غلط يقيناً.
بالإضافة إلى
هذا، فإن هناك اعتراضات كثيرة عليها:
أما الاعتراض
الأول، فقول يوشع: أيتها الشمس لا تتحركي، وقوله: فوقفت الشمس، يدلان على أن الشمس
متحركة والأرض ساكنة، وإلا كان عليه أن يقول أيتها الأرض لا تتحركي، فوقفت الأرض،
وهذا الأمر باطل بحكم علم الفلك[46].
أما الاعتراض
الثاني، فإن قوله (فوقفت الشمس في كبد السماء) يدل على أن هذا الوقت كان نصف
النهار، وهو غير صحيح لوجوه:
أولها أن بني
إسرائيل ـ على حسب الكتاب المقدس ـ كانوا قد قتلوا من المخالفين ألوفاً وهزموهم،
ولما هربوا أمطر الرب عليهم حجارة كباراً من السماء، وكان الذين ماتوا بالحجارة
أكثرمن الذين قتلهم بنو إسرائيل، وهذه الأمور حصلت قبل نصف النهار على ما هو مصرح
به في الباب، فلا وجه لاضطراب يوشع في هذا الوقت، لأن المظفرين من بني إسرائيل
كانوا كثيرين جداً، والباقون من المخالفين قليلين جداً، وكان الباقي من النهار
مقدار النصف، فقتلهم قبل الغروب كان في غاية السهولة.
وثانيها أن
الوقت لما كان نصف النهار، فكيف رأوا القمر في هذا الوقت بالإضافة إلى أن توقيفه
لا معنى له.
ثالثها أن
الوقت لما كان نصف النهار، وكان بنو إسرائيل مشتغلين بالمحاربة والاضطراب، وما كان
لهم شك في المقدار الباقي من النهار، وما كانت الساعات عندهم في ذلك الزمان، فكيف
علموا أن الشمس قامت على دائرة نصف النهار بمقدار اثنتي عشرة ساعة، وما مالت إلى
هذه المدة إلى جانب المغرب!؟
سكت قليلا، ثم
قال: هناك حادث آخر لا يقل عن هذين أهمية، ومع ذلك لم يذكره أهل التاريخ.
لقد جاء في سفر
أشعيا ذكر لرجوع الشمس بمعجزة أشعيا، فقد جاء في (أشعيا:38/8):( فرجعت الشمس عشر
درجات في المراقي التي كانت قد انحدرت )
وهذه الحادثة
عظيمة، ولما كانت في النهار فلا بد أن تظهر لأكثر أهل العالم، وكانت قبل ميلاد
المسيح بسبعمائة وثلاث عشرة سنة شمسية، ومع ذلك، فلا نراها مكتوبة في تواريخ أهل
الهند والصين والفرس.
بالإضافة إلى
أنه يفهم منها حركة الشمس وسكون الأرض، وهو باطل بحسب الحقائق الفلكية.
ومع ذلك، فلو
قطعنا النظر عن هذا، فإن ههنا ثلاثة احتمالات: إما أن النهار رجع فقط بمقدار عشر
درجات، أو الشمس رجعت في السماء بهذا المقدار كما هو الظاهر، أو رجعت حركة الأرض
من المشرق إلى المغرب بهذا المقدار، وهذه الاحتمالات الثلاثة باطلة بحسب علم
الفلك.
سكت قليلا، ثم قال:
لقد كتب متى ومرقس ولوقا في بيان صلب المسيح، أن الظلمة كانت على الأرض كلها من
الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة، وهذه الحادثة لما كانت في النهار على الأرض
كلها وممتدة إلى أربع ساعات، فلا بد أن لا تخفى على أكثر أهل العالم، ولكن مع ذلك
لا يوجد ذكرها في تواريخ أهل الهند والصين والفرس.
بالإضافة إلى
هذا، فإن متى كتب في الإصحاح الثاني قصة قتل الأطفال، ولم يكتبها غيره من
الإنجيليين والمؤرخين.
بالإضافة إلى
هذا كله، فقد ذكر متى ولوقا ومرقس انشقاق السموات، ففي مرقس:( فساعة طلع من الماء
رأى السماوات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلاً عليه، وكان صوت من السماوات (أنت
ابني الحبيب الذي به سررت) )
وهذه الحادثة
العظيمة لما كانت في النهار، فلا بد أن لا تخفى على أكثر أهل العالم، ومثلها رؤية
الحمامة وسماع الصوت لا يختص بواحد دون واحد من الحاضرين، ولم يكتب أحد هذه الأمور
غير الإنجيليين.
وقد قال (جان
كلارك) مستهزئاً بهذه الحادثة:( إن متى أبقانا محرومين من الاطلاع العظيم، وهو أنه
لم يصرح أن السماوات لما انفتحت هل انفتحت أبوابها الكبيرة؟ أم المتوسطة؟ أم
الصغيرة؟ وهل كانت هذه الأبواب في هذا الجانب من الشمس أو في ذلك الجانب؟ ولأجل هذا
السهو الذي صدر عن متى قسوسنا يضربون الرؤوس متحيرين في تعيين الجانب )
ثم قال:( وما
أخبرنا أيضاً أن هذه الحمامة هل أخذها أحد وحبسها في القفص، أم رأوها راجعة إلى
جانب السماء. ولو رأوها راجعة ففي هذه الصورة لا بد أن تبقى أبواب السماوات مفتوحة
إلى هذه المدة، فلا بد أنهم رأوا باطن السماء بوجه حسن لأنه لا يعلم أن بواباً كان
عليها قبل وصول بطرس هناك، لعل هذه الحمامة كانت جنية )
التفت إلى
بولس، وقال: لا ينبغي لمن كان كتابه المقدس يحمل كل هذه النصوص أن يعترض على شيء،
أم أنك تحمل عقلا إسرائيليا متعصبا يرى أن الله يغير قوانين الفلك جميعا لأجل
أنبياء بني إسرائيل، ولا يفعل شيئا كهذا لنبي المسلمين!؟
ثم التفت إلى
الجمع، وقال: ذلك ما ذكرته نصوصهم، أما العقل السليم، فلا يعترض على هذه الحادثة
بعدم تسجيلها لوجوه:
أولها أن انشقاق القمر كان في الليل، وهو
وقت الغفلة والنوم والسكون عن المشي والتردد في الطرق سيما في موسم البرد، فإن
الناس يكونون مستريحين في داخل البيوت وزواياها مغلقين أبوابها، فلا يكادون يعرفون
من أمور السماء شيئاً إلا من انتظره واعتنى به، ألا ترون إلى خسوف القمر فإنه يكون
كثيراً، وأكثر الناس لا يحصل لهم العلم به حتى يخبرهم أحد به.
وثانيها أن هذه
الحادثة ما كانت ممتدة إلى زمان كثير، فما كان للناظر أن يذهب إلى الغير الذي هو
بعيد عنه وينبهه، أو يوقظ النائم ويريه.
وثالثها أنها لم تكن
متوقع الحصول لأهل العلم لينظروها في وقتها ويروها كما أنهم يرون هلال رمضان
والعيدين والكسوف والخسوف في أوقاتها غالباً لأجل كونها متوقعة الحصول، ولا يكون
نظر كل واحد إلى السماء في كل جزء من أجزاء النهار أيضاً فضلاً عن الليل. فلذلك
رأى الذين كانوا طالبين لهذه المعجزة، وكذلك من وقع نظره في هذا الوقت إلى السماء،
كما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الكفار لما رأوها قالوا: سحركم ابن أبي كبشة فقال
أبو جهل: هذا سحر فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى تنظروا رأوا ذلك أم لا؟ فأخبر أهل
آفاق مكة أنهم رأوه منشقاً، وذلك لأن العرب يسافرون في الليل غالباً، ويقيمون
بالنهار فقالوا: هذا سحر مستمر.
ورابعها أنه قد يحول
في بعض الأمكنة وفي بعض الأوقات بين الرائي والقمر، سحاب غليظ أو جبل، حتى أن أهل
البلاد الشمالية في موسم نزول الثلج والمطر لا يرون الشمس إلى أيام، فضلاً عن
القمر.
وخامسها أن القمر
لاختلاف مطالعه ليس في حد واحد لجميع أهل الأرض، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على
آخرين، فيظهر في بعض الآفاق وبعض المنازل على أهل بعض البلاد دون بعض، ولذلك نجد
الخسوف في بعض البلاد دون بعض، ونجده في بعض البلاد باعتبار بعض أجزاء القمر، وفي
بعضها مستوفياً أطرافه كلها، وفي بعضها لا يعرفها إلا الحادقون في علم الفلك،
وكثيراً ما يحدث الثقات من العلماء بعجائب يشاهدونها من أنوار ظاهرة ونجوم طالعة
عظام تظهر في بعض الأوقات أو الساعات من الليل، ولا علم لأحد بها من غيرهم.
وسادسها أنه قلما يقع
أن يبلغ عدد ناظري أمثال هذه الحوادث النادرة الوقوع إلى حد يفيد اليقين، وأخبار
بعض العوام لا يكون معتبراً عند المؤرخين في الوقائع العظيمة، نعم يعتبر أخبارهم
في الحوادث التي يبقى أثرها بعد وقوعها، كالريح الشديد، ونزول الثلج الكثير،
والبرد، فيجوز أن مؤرخي بعض الديار لم يعتبروا أخبار بعض العوام في هذه الحادثة،
وحملوه على تخطئة أبصار المخبرين العوام، وظنوا أنها تكون نحواً من الخسوف.
وسابعها أن المؤرخين
كثيراً ما يكتبون الحوادث الأرضية ولا يتعرضون للحوادث السماوية إلا قليلاً سيما
المؤرخين الأوائل، بالإضافة إلى انتشار الجهل في زمن النبي r في أكثر مناطق العالم، وخاصة أوروبا.
وثامنها أن المنكر إذا
علم أن الأمر الفلاني معجزة أو كرامة للشخص الذي ينكره تصدى لإخفائها، ولا يرضى
بذكرها وكتابتها غالباً.
***
ما وصل بعبد القادر الحديث إلى هذا الموضع حتى
قام رجل من الجمع، وقال ـ مشيرا إلى عبد القادرـ: لقد تتبعت حديث هذا الرجل من
بدايته، وقد سرني المنطق العلمي الذي يتحدث به، وأريد أن أضيف إلى ما قال شيئا لست
متأكدا تمام التأكد منه، ولكني أحسبه بداية لحقيقة سوف تبرزها الأيام وتؤكدها..
أقول ذلك
جازما، بل متحديا، مع أني لم أكن في يوم من الأيام من أهل هذا الدين، بل لم يكن لي
اعتناء بالدين أصلا.. بل كنت من المناهضين للدين.. ولكني مع ذلك أشعر أني خائن إن
لم أقل هذا.
نظر إلى بولس،
وقال: لا تتسرع بالرد علي، ولا على هذا الرجل.. أنا من المهتمين بعلم الفلك،
وبأخبار الفضاء، وقد كان لي شغف بتتبع صعود الإنسان إلى القمر.
وقد سمعت ـ
فيما سمعت ـ من أن رواد الفضاء رأوا بأعينهم شقا عظيما في القمر، لا يزال العلم
عاجزا عن تفسيره، بل قد حصلت على صورة من ذلك الشق، لو شئتكم لأريتها لكم[47].
قال الجمع ـ
بصوت واحد ـ: وكيف لا نشاء؟
فأخرج من
محفظته صورة كبيرة تمثل شقا عظيما في القمر..
رآها الجمع، وعلى
أعينهم الدهشة، فقال: هذه البداية.. ولو أن البشر صدقوا في البحث عن الحقيقة،
فسيجدونها أقرب إليهم من أنفسهم.. ولكني لا أحسبهم إلا سيكتمون الحقائق، بل
سيحاولون السخرية منها، كما ذكر هذا الرجل الفاضل.
في ذلك الموقف الحرج
الذي وقع فيه بولس، والذي جعله يصمت صمتا مطبقا، بل يكاد يهم بالانصراف تدخل أجيره
الأحمق كعادته، وقال: ما لنا وللقمر.. نحن على الأرض.. ونريد معجزات أرضية، وأنت
إلى الآن تحلق بنا إما فيما لا نفهمه من معجزات القرآن، أو فيما لا نستطيع الوصول
إليه من الفضاء.
قال عبد
القادر: فعم تريد أن أحدثك؟
قال الأجير:
لقد أحيا المسيح موتى، ولكن محمدا لم يحيي ميتا واحدا.
قال عبد
القادر: ألا يكفي إحيائه لأجيال من الناس كانوا غارقين في الجاهلية والجهل.
قال الأجير:
نحن نريد الخوارق.. ولا نريد غير الخوارق.. فهذه مدرسة الخوارق.
قال عبد
القادر: أما إن صممت على ذلك، فسأذكر لك ما روي عن نبينا في هذا، وهو إن لم يرق في
قوة ثبوته إلى ما رقى إليه انشقاق القمر، فهو لا يقل عما ورد عن المسيح u من معجزات.
فمما يروى في ذلك عن أنس ـ رضي الله عنه ـ
قال: كنا في الصفة عند رسول الله r فأتته عجوز عمياء مهاجرة ومعها ابن لها
قد بلغ، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة، فمرض أياما، ثم قبض فغمضه النبي r وأمر بجهازه، فلما أردنا أن نغسله، قال:( يا أنس، ائت
أمه فأعلمها )، قال: فأعلمتها فجاءت حتى جلست عند قدميه، فأخذت بهما، ثم قالت:(
اللهم اني أسلمت لك طوعا، وخلعت الاوثان زهدا، وهاجرت اليك رغبة، اللهم لا تشمت بي
عبدة الاوثان، ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها، قال: فوالله، ما
انقضى كلامها حتى حرك قدميه، وألقى الثوب عن وجهه، وطعم وطعمنا معه، وعاش حتى قبض
النبي r وحتى هلكت أمه[48].
وفي رواية قال: عدنا شابا من الانصار وعنده أم له عجوز، فما برحنا أن
فاض يعني مات ومددنا على وجهه الثوب، وقلنا لأمه: يا هذه، احتسبي مصابك عند الله،
قالت: أمات ابني؟ قلنا: نعم، قالت: اللهم ان كنت تعلم أني هاجرت اليك، والى نبيك
رجاء أن تعينني عند كل شدة، فلا تحمل علي هذه المصيبة اليوم، قال أنس: فوالله، ما
برحت حتى كشف الثوب عن وجهه وطعم وطعمنا معه[49].
وفي حديث آخر عن كعب بن مالك قال: أتى جابر بن عبد الله رسول الله r فرأى وجهه متغيرا فرجع الى امرأته، فقال: قد رأيت وجه
رسول الله r متغيرا، وما أحسبه الا متغيرا من الجوع..
فذكر حديثا طويلا في تكثيره r الأطعمة، ثم زاد فقال: فكان رسول الله r يقول:( كلوا ولا تكسروا عظما )، ثم جمع العظام في وسط
الجفنة، فوضع يده عليها، ثم تكلم بكلام لم أسمعه، فإذا الشاة قد قامت تنفض أذنيها،
فقال:( خذ شاتك يا جابر بارك الله لك )، قال: فأخذتها ومضيت، وانها لتنازعني أذنها
حتى أتيت المنزل، فقالت المرأة: ما هذا يا جابر، فقلت: والله، هذه شاتنا التي
ذبحناها لرسول الله r دعا الله تعالى فأحياها لنا، فقالت: أشهد
انه رسول الله r[50].
وفي حديث آخر عن ضمرة قال: كان لرجل غنم، وكان له ابن يأتي النبي r بقدح من لبن إذا حلب، ثم إن النبي r افتقده فجاء أبوه، فأخبره أن ابنه هلك، فقال النبي r:( أتريد أن أدعوا الله تعالى أن ينشره لك أو تصبر،
فيؤخره لك الى يوم القيامة، فيأتيك فيأخذ بيدك فينطلق بك الى الجنة، فتدخل من أي
أبواب الجنة شئت؟)، فقال الرجل: من لي بذلك يا رسول الله؟ قال:( هو لك ولكل مؤمن )[51]
وفي حديث آخر عن أبي سبرة النخعي قال: أقبل رجل من اليمن، فلما كان ببعض
الطريق نفق حماره فقام وتوضأ وصلى ركعتين، ثم قال: اللهم اني جئت مجاهدا في سبيلك،
وابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور لا تجعل لأحد علي
اليوم منة، أطلب اليك أن تبعث حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه[52].
زاد الشعبي: أنا رأيت الحمار يباع في الكناسة، فقال رجل من رهطه أبياتا منها:
ومنا الذي أحيا
الاله حماره وقد مات منه كل عضو ومفصل
قال الأجير: فأين ذكر محمد هنا؟
التفت عبد القادر إلى بولس، وقال: ألستم تعتبرون كل ما حصل بأيدي تلاميذ
المسيح من خوارق تبعا للمسيح؟
قال بولس: بلى.
قال عبد القادر: فكذلك نحن، نعتبر كل كرامة لولي إثبات جديد لمعجزات محمد r.
ثم التفت إلى أجير بولس، وقال: ومع ذلك، فسأذكر لك ما هو أعظم من إحياء
الميت، وبأسانيد لا شك في صحتها.
فقد روي عن جمع من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أن خيبر لما فتحت أهدت يهودية
للنبي r شاة مصلية، فأخذ النبي r الذراع، فلما بسط القوم أيديهم، قال:(
كفوا أيديكم، فإن عضوها يخبرني أنها مسمومة )
ودعا اليهودية، فقال:( أسممت هذه الشاة؟)، قالت: من أخبرك؟ قال:( هذا العظم
لساقها وهو في يده )، قالت: نعم، قال:( فما حملك على هذا؟) قالت: قلت: إن كان
نبيا، فلا يضره، وأن الله سيطلعه عليه، وإن لم يكن نبيا استرحنا منه، فقال رسول
الله r:( ما كان الله ليسلطك علي )، فعفا عنها، ولم يعاقبها[53].
وفي حديث آخر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: أقبلت يوم بدر من قتال
المشركين وأنا جائع، ثم استقبلتني امرأة يهودية على رأسها جفنة فيها جدي مشوي،
فقالت: الحمد لله يا محمد، الذي سلمك، كنت نذرت لله إن سلمك الله وقدمت المدينة
سالما لأذبحن هذا الجدي فلأشوينه ولأحملنه اليك لتأكل منه، فاستنطق الله تعالى
الجدي، فقال: يا محمد لا تأكلني فاني مسموم[54].
ففي هذه النصوص
معجزات أعظم من معجزة إحياء الموتى من وجوه:
أولها: أنه
إحياء جزء من الحيوان دون بقيته، وهذا معجز لو كان متصلا بالبدن.
وثانيها: أنه
إحياء وحدة منفصلة عن بقية أجزاء ذلك الحيوان مع موت البقية.
وثالثها: أنه
أعاد عليه الحياة مع الادراك والعقل، ولم يكن هذا الحيوان يعقل في حياته فصار جزؤه
حيا يعقل.
ورابعها: أنه
أقدره الله تعالى على النطق والكلام، ولم يكن الحيوان الذي هو جزؤه مما يتكلم.
وقد قال
العلماء: وفي حلول الحياة والادراك والعقل في الحجر الذي كان يخاطب النبي r بالسلام ما هو أبلغ من حياة الحيوان في الجملة، لانه كان محلا
للحياة في وقت بخلاف هذا حيث لا حياة له بالكلية قبل ذلك، وكذلك تسليم الاحجار
والمدر والشجر، وحنين الجذع.
بالإضافة إلى
هذا، فقد وردت نصوص كثيرة في سماع رسول الله r للموتى، ففي حديث من مرسل عبيد بن مرزوق قال: كانت امرأة بالمدينة
تقم المسجد، فماتت، فلم يعلم بها النبي r
فمر على قبرها فقال:( ما هذا القبر؟)، قالوا له: أم محجن قال النبي r:( كانت تقم المسجد؟)، قالوا: نعم، فصف الناس، فصلى عليها، ثم
قال:( أي العمل وجدت أفضل؟) قالوا: يا رسول الله، أتسمع ما تقول؟ قال:( ما أنتم
بأسمع منها )، فذكر انها أجابته: قم [55] المسجد[56].
وفي غزوة بدر خاطب النبي r جثث المشركين أهل القليب، وأخبر عن
سماعهم، ففي الحديث عن أبي طلحة وغيره من الصحابة: فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر
رسول الله r براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى وتبعه أصحابه،
وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفا البئر، وكان ذلك ليلا، فجعل
يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، ويا فلان بن
فلان، وفي رواية:( يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة
بن ربيعة، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقا، فإني
قد وجدت ما وعدني ربي حقا، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس،
وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فجزاكم الله عني من عصابة شرا،
خونتموني أمينا، وكذبتموني صادقا )
فقال عمر: يا رسول الله، أتناديهم بعد ثلاث، كيف تكلم أجسادا لا أرواح
فيها؟ ـ وفي لفظ: كيف يسمعون أو أنى يجيبون وقد جيفوا؟ ـ فقال r:( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، إنهم الآن يسمعون ما
أقول لهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علينا شيئا)[57]
قال قتادة: أحياهم الله تعالى حتى أسمعهم قوله، توبيخا لهم، وتصغيرا ونقمة
وحسرة وندامة.
وفي حديث آخر عن أبي حميد الساعدي ـ
رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال يوم تبوك:( لا يخرجن أحد منكم الا ومعه صاحب له )، ففعل الناس ما
أمرهم رسول الله r به إلا رجلين
من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي خرج لحاجته
فانه خنق على مذهبه - أي موضعه - ثم دعا له r
فشفي[58].
قال مستأجر بولس: فالمسيح تكلم في المهد، ومحمد لم يتكلم حتى كبر.
ابتسم عبد القادر، وقال: إن المسيح u
لم يتكلم في المهد إلا ليبرئ أمه من اتهام اليهود، ويبرئ نفسه من عبوديتكم له، لقد
ذكر القرآن الكريم قول المسيح في مهده، والذي لخص حياته وووظيفته، فقال تعالى على
لسانه:﴿ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً
وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ
يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ (مريم:30-33)
ومع ذلك، فقد وردت الأسانيد المخبرة بنطق صبي في المهد يشهد لمحمد r بالرسالة، فعن معرض بن عبد الله بن معيقيب اليمامي، عن
أبيه عن جده ـ رضي الله عنه ـ قال: حججت حجة الوداع، فدخلت دارا بمكة فرأيت فيها
رسول الله r ووجهه مثل دارة القمر، ورأيت منه عجبا، جاءه رجل بغلام
يوم ولد فقال له رسول الله r: يا غلام من أنا؟ فقال: أنت رسول الله
قال: صدقت بارك الله فيك.
قال: ثم إن الغلام لم يتكلم بعد حتى شب فكنا نسميه (مبارك اليمامة)[59]
بل إنه r أنطق لها البكم ليشهد له بالرسالة، فعن شمر بن عطية عن
بعض أشياخه قال: جاءت امرأة بابن لها قد شب إلى رسول الله r فقالت: يا رسول الله إن
ابني هذا لم يتكلم منذ ولد، فقال لها رسول الله r:( أدنيه مني )، فأدنته منه، فقال:( من
أنا؟)، فقال: أنت رسول الله.
قال مستأجر بولس: لقد روي عن المسيح شيء عظيم لم يفعله نبيكم.
قال عبد القادر: نحن لا نقيم هنا مسابقة بينهما، فكلاهما نبي لله.
قال مستأجر بولس: أنت تتهرب.
قال عبد القادر: فما الذي فعله المسيح، ولم يفعله نبينا؟
قال مستأجر بولس: لقد كان أول معجزة للمسيح تحويله الماء إلى خمر.. ألا
تسمعون ـ يا جماعة ـ الماء يتحول بيد المسيح إلى خمر، بل خمر عتيقة.
ابتسم عبد
القادر، ثم التفت إلى بولس، وقال: هل ما يقوله هذا الرجل صحيح؟
قال بولس:
أجل.. فقد ورد في (يوحنا:2/1-10):( وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي
قَانَا بِمِنْطَقَةِ الْجَلِيلِ، وَكَانَتْ هُنَاكَ أُمُّ يَسُوعَ. وَدُعِيَ إِلَى
الْعُرْسِ أَيْضاً يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ. فَلَمَّا نَفِدَتِ الْخَمْرُ، قَالَتْ
أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: (لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ خَمْرٌ!) فَأَجَابَهَا: (مَا
شَأْنُكِ بِي يَاامْرَأَةُ؟ سَاعَتِي لَمْ تَأْتِ بَعْدُ!) فَقَالَتْ أُمُّهُ
لِلْخَدَمِ: ( افْعَلُوا كُلَّ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ) وَكَانَتْ هُنَاكَ سِتَّةُ
أَجْرَانٍ حَجَرِيَّةٍ، يَسْتَعْمِلُ الْيَهُودُ مَاءَهَا لِلتَّطَهُّرِ، يَسَعُ
الْوَاحِدُ مِنْهَا مَا بَيْنَ مِكْيَالَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ (أَيْ مَا بَيْنَ
ثَمَانِينَ إِلَى مِئَةٍ وَعِشْرِينَ لِتْراً). فَقَالَ يَسُوعُ لِلْخَدَمِ:
(امْلَأُوا الأَجْرَانَ مَاءً ). فَمَلَأُوهَا حَتَّى كَادَتْ تَفِيضُ. ثُمَّ
قَالَ لَهُمْ: (وَالآنَ اغْرِفُوا مِنْهَا وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ
الْوَلِيمَةِ!) فَفَعَلُوا. وَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْوَلِيمَةِ الْمَاءَ الَّذِي
كَانَ قَدْ تَحَوَّلَ إِلَى خَمْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَصْدَرَهُ، أَمَّا
الْخَدَمُ الَّذِينَ قَدَّمُوهُ فَكَانُوا يَعْرِفُونَ، اسْتَدْعَى الْعَرِيسَ،
وَقَالَ لَهُ: (النَّاسُ جَمِيعاً يُقَدِّمُونَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً،
وَبَعْدَ أَنْ يَسْكَرَ الضُّيُوفُ يُقَدِّمُونَ لَهُمْ مَا كَانَ دُونَهَا
جُودَةً. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ حَتَّى الآنَ!)
هذه هي المعجزة
الأولى التي أجراها المسيح، وقد عقب عليها يوحنا بقوله:( هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ
هِيَ الآيَةُ الأُولَى الَّتِي أَجْرَاهَا يَسُوعُ فِي قَانَا بِالْجَلِيلِ،
وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ )(يوحنا:2/11)
ابتسم عبد
القادر، وقال لبولس: هل كان المسيح يقرأ الكتاب المقدس؟
قال بولس:
أجل.. وهل في ذلك الشك؟
قال عبد
القادر: ألم يقرأ هذا النص من الكتاب المقدس:( وَقَالَ الرَّبُّ لِهَارُونَ:
(خَمْراً وَمُسْكِراً لاَ تَشْرَبْ أَنْتَ وَبَنُوكَ مَعَكَ عِنْدَ دُخُولِكُمْ
إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ لِكَيْ لاَ تَمُوتُوا. فَرْضاً دَهْرِيّاً فِي
أَجْيَالِكُمْ وَلِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُقَدَّسِ وَالْمُحَلَّلِ وَبَيْنَ
النَّجِسِ وَالطَّاهِرِ وَلِتَعْلِيمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعَ الْفَرَائِضِ
الَّتِي كَلَّمَهُمُ الرَّبُّ بِهَا بِيَدِ مُوسَى )(لاويين 10: 8-11 )
سكت بولس، فقال
عبد القادر: ألم يقرأ المسيح هذا النص:( مِنْ كُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ جَفْنَةِ
الْخَمْرِ لاَ تَأْكُلْ, وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَ تَشْرَبْ, وَكُلَّ نَجِسٍ لاَ
تَأْكُلْ. لِتَحْذَرْ مِنْ كُلِّ مَا أَوْصَيْتُهَا)( قضاة 13: 14)
وهذا النص:(
لَيْسَ لِلْمُلُوكِ يَا لَمُوئِيلُ لَيْسَ لِلْمُلُوكِ أَنْ يَشْرَبُوا خَمْراً
وَلاَ لِلْعُظَمَاءِ الْمُسْكِرُ. لِئَلاَّ يَشْرَبُوا وَيَنْسُوُا الْمَفْرُوضَ
وَيُغَيِّرُوا حُجَّةَ كُلِّ بَنِي الْمَذَلَّةِ. أَعْطُوا مُسْكِراً لِهَالِكٍ
وَخَمْراً لِمُرِّي النَّفْسِ. يَشْرَبُ وَيَنْسَى فَقْرَهُ وَلاَ يَذْكُرُ
تَعَبَهُ بَعْدُ ) (الأمثال31: 4-7 )
سكت بولس، فقال
عبد القادر: نحن نبرئ المسيح من هذه المعجزة.. لأن المعجزات لا تقدم المحرمات،
وإنما تقدم الآيات البينات.
قال مستأجر بولس بحمقه المعهود: أنت تقول هذا لتفر من ذكر معجزات نبيك.
قال عبد القادر: لا بأس.. ما دمت تطلب هذا، فقد روي عن نبينا ـ
بأسانيد لا تقل وثوقا من أسانيدكم ـ تحويل الماء إلى لبن وزبد لا إلى خمر، فعن
سالم بن أبي الجعد، قال: بعث رسول الله r رجلين في بعض أمره، فقالا: يا رسول الله،
ما معنا ما نتزوده، فقال:( ابتغيا لي سقاء )، فجاءاه بسقاء، قالا: فأمرنا فملأناه
ماء، ثم أوكأه وقال:( اذهبا حتى تبلغا مكان كذا وكذا فان الله عز وجل سيرزقكما )،
فانطلقا حتى أتيا ذلك المكان الذي أمرهما به رسول الله r فانحل سقاؤهما فإذا لبن وزبد فأكلا حتى
شبعا[60].
ومن هذا الباب ما وري من انقلاب العصا سيفا ببركته r،
فعن عكاشة بن محصن
أنه انقطع سيفه يوم بدر، فأعطاه رسول الله r
جذلا من شجرة، فصار في يده سيفا صارما صافي الحديد شديد المتن، فقاتل بها حتى فتح الله
عز وجل على رسول الله r، ثم لم يزل
عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله r
حتى قتل في الردة، وهو عنده وكان ذلك يسمى القوي[61].
ومن هذا الباب ما وري من انقلاب العرجون سيفا ببركته r، فعن معمر عن عبد الرحمن الجرشي قال:
أخبرنا أشياخنا أن عبد الله بن جحش جاء الى النبي r
وقد ذهب سيفه، فأعطاه النبي r عسيبا من نخل
فرجع في يد عبد الله سيفا[62].
وفي حديث آخر عن عبد الله بن جحش أن سيفه انقطع، فأعطاه رسول الله r عرجونا، فصار في يده سيفا فكان يسمى العرجون، ولم يزل
بعد يتوارث حتى بيع من التركي بمائتي دينار[63].
وفي حديث آخر عن داود بن الحصين عن رجال من بني عبد الاشهل عدة،
قالوا: انكسر سيف سلمة بن حريش يوم بدر، فبقي أعزل لا سلاح معه فأعطاه رسول الله r قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب فقال:( اضرب به )،
فإذا هو سيف جيد، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد[64].
وبمناسبة ذكر العرجون، فقد ورد فيه
معجزة أخرى، حدثنا عنها قتادة بن النعمان ـ رضي الله عنه ـ فقال: خرجت ليلة من الليالي مظلمة، فقلت: لو
أتيت رسول الله r وشهدت معه الصلاة، وآنسته بنفسي ـ وفي لفظ: فقلت: لو أني اغتنمت
شهود العتمة مع رسول الله r ففعلت ـ فلما دخلت المسجد برقت السماء، فرآني رسول الله r
فقال:( يا قتادة، ما هاج عليك؟)، قلت: يا رسول الله، أردت بأبي أنت وأمي أن
أؤنسك،فلما انصرف رسول الله r ومعه عرجون، قال:( خذ هذا العرجون فتحصن به، فإنك إذا خرجت أضاء
لك عشرا أمامك، وعشرا خلفك )، ثم قال لي:( إذا دخلت بيتك مثل الحجر الاخشن في
أستار بيتك، فان ذلك الشيطان )، قال: فخرجت فأضاء لي العرجون مثل الشمعة فاستضأت
به، فأتيت البيت فوجدتهم قد رقدوا، فنظرت في الزاوية، فإذا فيها قنفذ فلم أزل
أضربه بالعرجون حتى خرج.
وفي لفظ: ثم ضربت مثل الحجر الاخشن حتى خرج من بيتي [65].
وفي حديث آخر عن أبي عبس بن جبر ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يصلي مع رسول الله r الصلوات ثم يرجع الى بني حارثة، فخرج في ليلة مظلمة،
فنور له في عصاه حتى دخل على بني حارثة[66].
وفي حديث آخر عن أنس ـ رضي الله عنه ـ
قال: كان عباد بن بشر وأسيد بن حضير عند رسول الله r في حاجة حتى ذهب من الليل ساعة، وهي ليلة
شديدة الظلمة ثم خرجا، وبيد كل واحد منهما عصا، فأضاءت لهما عصا أحدهما، فمشيا في
ضوئها، حتى إذا افترقت بهم الطريق، أضاءت للاخر عصاه حتى بلغ أهله [67].
وفي حديث آخر عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r وعمر سمرا عند أبي بكر يتحدثان عنده حتى
ذهب الليل، ثم خرجا، وخرج أبو بكر معهما جميعا في ليلة مظلمة مع أحدهما عصا، فجعلت
تضئ لهما، وعليهما نور حتى بلغوا المنزل[68].
وفي حديث آخر ما هو أعجب من ذلك كله، فعن حمزة بن عمرو الاسلمي قال: كنا مع
رسول الله r في سفر فتفرقنا في ليلة مظلمة، فأضاءت أصابعي حتى
جمعوا عليها ظهرهم، وما هلك منهم وان أصابعي لتنير [69].
وفي حديث آخر عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ
قال: كنا نصلي مع رسول الله r العشاء، فكان يصلي، فإذا سجد وثب الحسن
والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما فوضعهما وضعا رقيقا، فإذا عاد عادا، فلما صلى
جعل واحدا هاهنا وواحدا هاهنا فجئت فقلت: يا رسول الله، ألا أذهب بهما الى أمهما؟
قال:( لا )، فبرقت برقة، فقال:( الحقا بأمكما )، فما زالا يمشيان في ضوئها حتى
دخلا[70].
***
لم يجد بولس ما يقول، فانصرف، وانصرفت خلفه،
ومعي بصيص جديد من أنوار شمس محمد.
أما أولئك
الجمع، فقد التفوا حول عبد القادر وعبد الحكيم يسألونهم عن محمد، وعن دين محمد.
([1]) ما لم يذكروه من المعجزات الواردة في القرآن يوجد
نظيرها في الأناجيل الأبوكريفية التي لا تعترف بها الكنيسة، فقد جاء في كتاب (شبيه
متى: ف 27):« أخذ يسوع طبن صلصال من الأحواض التي صنعها ومنها صنع اثنى عشر
عصفورا. وكان السبت حينما فعل يسوع ذلك 000 وعندما سمع يوسف ذلك أنتهره قائلا:«
لماذا تفعل أنت في السبت، تلك الأمور التي لا يحل لنا فعلها؟» وعندما سمع يسوع
يوسف خبط يديه سويا وقال لعصافيره:« طيري! »،
وعلى صوت أمره بدأت في الطيران، وعلى مرأى ومسمع من جميع الواقفين جانبا،
قال للطيور:« اذهبي وطيري خلال الأرض وخلال كل العالم وعيشي »
وجاء في كتاب (إنجيل
الطفولة):« وصنع أشكالا من الطيور والعصافير، التي طارت حينما أخبرها أن تطير،
ووقفت ساكتة عندما أمرها أن تقف وأكلت وشربت عندما أعطاها طعاما وشرابا»
نقول هذا ردا على ما
قد يعترض به من يتصور أن سيرة المسيح هي ـ فقط ـ ما كتبته الأناجيل الأربعة التي
أرخت بعض حياة المسيح.
([2]) ومنهم فتاة التي اسمها (
طليثا) ابنة الرئيس، اعتقد الناس أنها ميتة، ولكنها لم تكن ميتة، بل كانت نائمة أو
فاقدة للوعي، كما قال لهم يسوع وكما هو وارد في ثلاثة مواضع من الأناجيل.. ففي
(متى: 9/24):« قال لهم تنحوا.فان الصبية لم تمت لكنها نائمة.فضحكوا عليه »، وفي
(مرقس:5/39):« فدخل وقال لهم لماذا تضجون وتبكون.لم تمت الصبية لكنها نائمة »، وفي
(لوقا: 8/52):« وكان الجميع يبكون عليها ويلطمون.فقال لا تبكوا.لم تمت لكنها نائمة
»
وبذلك، فإن الذين
أحياهم المسيح ـ حسب الأناجيل ـ لا يتجاوزون اثنين.
([5]) هذه هي عادة المبشرين والمستشرقين في الرفع من شأن من يريدون استغلال
أقواله لموجهة الإسلام، وهم ـ في نفس الوقت ـ قد يحولونه قزما في موضع آخر إذا ما
رأوا منه أي خطر عليهم.
وقد أنكر هيكل عددا من
المعجزات الثابتة بصريح القرآن ومتواتر السنة، كنزول الملائكة في بدر، وطير
الأبابيل، وشق الصدر والإسراء وأن (اقرأ) كانت مناما.
وذلك كله إرضاء للمنهج
العلمي الغربي الذي أعلنه وأعلن التزامه به فاعتبر الإسراء سياحة الروح في عالم
الرؤى، ووصف الملائكة الذين أمد الله بهم المسلمين في غزوة بدر بالدعم المعنوي،
ووصف طير الأبابيل بداء الجدري، واعتبر شق الصدر شيئا معنويا، واعتبر لقاء جبريل بالنبي
في حراء مناما، وبذلك عمد إلى تفريغ تاريخ النبي r من الحقائق الغيبية والمعجزات وقصر موقفه على أن للنبي معجزة
واحدة هي القرآن الكريم.
وقد علل الدكتور هيكل إنكاره جميع المعجزات
المحمدية (غير القرآن) بأنها مخالفة للسنة الإلهية، وزعم أن روايات معجزاته r موضوعة، قصد واضعها إما أن يجعل لنبينا مثل ما
لموسى وعيسى عليهما السلام، وإما أن يشكك الناس في صحة آية ﴿ وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)(الأحزاب: من الآية62)
([12]) فإن قيل: ما الجمع بين
هذا، وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالظَّالِمِينَ ﴾؟
فالجواب ـ كما ذكر ابن
كثير ـ هو أن هذه الآية دَلَّت على أنه لو كان إليه وقوعُ العذاب الذي يطلبونه
حالَ طَلبهم له، لأوقعه بهم، وأما الحديث، فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم،
بل عرض عليه مَلَك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين، فلهذا استأنى بهم وسأل
الرفق لهم.
ومجمل الآية أن العذاب
ينزل عليكم في الوقت الذي يختاره الله وأن العذاب ليس بيد رسول الله، ولكنه بيد
الله r ولا قدرة لأحد على تقديمه أو تأخيره حتى لو كان الرسول وهذا من
أدب الرسول r مع ربه , وقد نزل عليهم يوم بدر وبعده , فهذه لا دلالة فيها على
أن النبي محمد لم تصدر عنه المعجزات كما رأيت، بل هو طلبهم للعذاب وأمر العذاب
مفوض لله سبحانه.
([13]) هذا ما في طبعة سنة
1860م، وفي طبعة سنة 1825م هكذا:« ومن ثم ارتد كثير من تلاميذه على أعقابهم ولم
يماشوه بعد ذلك أبداً »، وكذلك في طبعة سنة 1826م، وإن كانت هذه الفقرة واردة في
طبعة سنة 1823م , سنة 1844م , وفي طبعة سنة 1882م , برقم ( 67 ) وليس ( 66)
([17]) هذا الحديث من الأحاديث
المتواترة، ذكر الحافظ أبو القاسم بن منده أنه رواه عن النبي r أربعة
وعشرون صحابي. ثم سرد أسماءهم. وقد جمع طرقه الشيخ عبدالمحسن العباد في جزء مفرد
مطبوع.
([19]) رواه أبو داود والترمذي
وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي ورواه الحاكم بنحوه وقال: صحيح على
شرط الشيخين ولم يخرجاه.
([20]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، قال المنذري:- هذا الحديث قد روي عن غير واحد
من الصحابة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها حتى بلغ مبلغ التواتر..
([26]) أما ما ينشر في المواقع التبشيرية من كتابات تحاول أن تضاهي القرآن الكريم،
فلاشك في كونها أضحوكة يراد بها السخرية لا حقيقة التحدي، وقد ذكرنا بعض النماذج
عنها في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.
ومن ذلك سورة حملت اسم (سورة الضّالين)، وهي:« وألبس الشيطان الباطلَ ثوب
الحقّ وأضفى على الظلم جلباب العدل، وقال لأوليائه أنا ربكم الأحد لم ألد ولم أولد ولم
يكن لي منكم كفواً أحد فأنا الملك الجبار المتكبر القهار القابض المذل
المميت المنتقم الضّار المغني فإياي تعبدون وإياي تستعينون ( 2 ) مهيمن يحطم سيف
الظلم بكف العدل ويهدي الظالمين ( 3 ) ويهدم صرح الكفر بيد الإيمان ويشيد موئلاً
للتائبين ( 4 ) وينزع غلَّ الصدر شذى المحبة ويشفي نفوس الحاقدين ( 5 ) ويطهّر نجس
الزنى بماء العفة ويبرئ المسافحين ( 6 ) ويفضح قول الإفك بصوت الحق ويكشف مكر
المفترين( 7 ) فيأيها الذين ضلّوا من عبادنا توبوا وآمنوا فأبواب الجنة مفتوحة
للتائبين »
فبهذه الآيات السبعة التي تتفق مع سورة الفاتحة في عددها تنتهي هذه السورة
العجيبة التي تصور صاحبها أنه يعارض بها القرآن.
([28]) أخرج هذه الحادثة الحاكم
في المستدرك 2/550 وقال صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي،
وعن الحاكم أخرجها البيهقي في شعب الإيمان 1/156-157.
([33]) أحمد، والبيهقي في السنن
الكبرى: 2/444، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/211-212، والطبراني في المعجم
الكبير: 2/116 والصغير 2/265 وغيرهم.
([39]) رواه أحمد
والشيخان والبيهقي وأبو نعيم من طرق عن ابن عمر، ورواه الشيخان والبيهقي عن جبير
بن مطعم ورواه أحمد والترمذي وابن جرير والحاكم والبيهقي عن حذيفة بن اليمان ورواه
ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم ببعض هذه القصة عن ابن عباس ورواه
أحمد والشيخان وابن جرير وأبو نعيم من طرق وأنس بن مالك ورواه أحمد والشيخان وأبو
نعيم من طرق متقاربة المعنى.
([40]) راجع هذه الأحاديث ( فتح
الباري 6/631 باب 27 من كتاب المناقب حديث 3636 , 3637 , 3638 , و 7/182 باب 36 من
كتاب مناقب الأنصار حديث 3868, 3869 , 3870 و 3871 و 8/ 617 باب 1 من كتاب التفسير
حديث رقم 4864 , 65, 66 , 67 , 68 وصحيح مسلم 17/143-145 في كتاب صفة القيامة
والجنة والنار , وسنن الترمذي 9/30 في أبواب الفتن , ودلائل النبوة للأصبهاني
1/367 حديث 207-212 , ودلائل النبوة للبيهقي 2/262 و وحدائق الأنوار للشيباني
والسيرة النبوية للذهبي والبداية والنهاية والشفا , والوفا. وغيره الكثير.
([41]) المخطوطة الهندية موجودة
في مكتبة مكتب دائرة الهند بلندن التي تحمل رقم المرجع: عربي 2807، 152 إلى 173
وقد اقتبسها حميد الله في كتابه محمد رسول الله.
([44]) وردت هذه القصة في الإصحاحات
من السادس إلى التاسع من سفر التكوين، وظاهرة التحريف تبدو فيها ظاهرة للعيان، فقد
جاء في (تكوين 6: 1 ـ 22):« رأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، فحزن أنه عمل
الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه، وعزم على أن يمحو الإنسان والبهائم والدواب
والطيور عن وجه الأرض، وأن يستثني من ذلك نوحاً لأنه كان رجلاً باراً كاملاً في
أجياله، وسار نوح مع الله »
وتزداد شرور الناس،
وتمتليء الأرض ظلماً، ويقرر الرب نهاية البشرية، ويحيط نوحاً علماً بما نواه،
آمراً إياه بأن يصنع فلكاً ضخماً، وأن يكون طلاؤها بالقار والقطران من داخل ومن
خارج، حتى لا يتسرب إليها الماء، وأن يدخل فيها اثنين من كل ذي جسد حي، ذكراً
وأنثى، فضلاً عن امرأته وبنهيه ونساء بيته، هذا إلى جانب طعام يكفي من في الفلك
وما فيه..
ويكرر الرب أوامره في
الإصحاح التالي فيأمره أن يدخل الفلك ومن معه ذلك لأن الرب قرر أن يغرق الأرض ومن
عليها بعد سبعة أيام ذلك عن طريق مطر يسقط على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة،
ويصدع نوح بأمر ربه فيأوي إلى السفينة ومن معه وأهله، ثم انفجرت كل ينابيع الغمر
العظيم وانفتحت طاقات السماء، واستمر الطوفان أربعين يوماً على الأرض.
وتكاثرت المياه ورفعت
الفلك عن الأرض وتغطت المياه، ومات كل جد كان يدب على الأرض، من الناس، والطيور
والبهائم والوحوش وبقي نوح والذين معه في الفلك حتى استقرت الفلك على جبل أرارات.
([45]) وعلى زعم المفسرين والكاتبين في قصص الأنبياء الناقلين عن اليهود والنصارى،
مع ان النصوص القرآنية لم تحدد تاريخا لذلك، ومع أن النبي r أخبر عن الكذب الواقع في هذا الباب، عندما ذكر كذب
النسابين.
([46]) وقد ورد في هذا حديث
يذكر أن الشمس ردت للنبي r بعد غيابها، ولا نرى صحة كل ما ورد في هذا الباب من الأحاديث، لأن
هذا من الآيات العظام التي تستدعي النقل عن طريق التواتر، ولا تكفي فيها أسانيد
الآحاد.
قال القاضي عياض: خرج
الطحاوي في مشكل الحديث، عن أسماء بنت عميس من طريقين أن النبي r كان يوحي إليه، ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس،
فقال النبي r: أصليت يا علي؟ قال:لا. فقال: اللهم إنه كأن في طاعتك وطاعة
رسولك، فاردد عليه الشمس.
قالت أسماء: فرأيتها
غربت، ثم طلعت بعد ما غربت، ووقفت على الجبال والأرض، وذلك بالصهباء في خيبر.
قال: وهذان الحديثان
ثابتان ورواتهما ثقات.
وحكى الطحاوي أن أحمد
بن صالح كأن يقول: لا ينبغي لمن يكون سبيله العلم المتخلف عن حفظ حديث أسماء، لأنه
من علامات النبوة.
وفي حديث آخر عن يونس
بن بكير في زيادة المغازي في روايته عن ابن إسحاق: لما أسري برسول الله r، وأخبر قومه بالرفقة
والعلامة التي في العير قالوا: متى تجيء؟ قال: يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم
أشرفت قريش ينظرون وقد ولى النهار ولم تجيء؟ فدعا رسول الله r، فزيد له في النهار ساعة، وحبست عليه الشمس.
وهذا الحديث ذكره ابن
الجوزي في الموضوعات وقال: إنه موضوع بلا شك، وفي سنده أحمد بن داود وهو متروك
الحديث كذاب.، كما قال الدارقطني، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث.
قال ابن الجوزي: وقد
روى هذا الحديث ابن شاهين فذكره ثم قال: حديث باطل، قال: ومن تغفل واضعه أنه نظر
إلى صورة فضيلة، ولم يلمح عدم الفائدة فيها، فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس تصير
قضاء, ورجوع الشمس لا يعيدها أداء.
وقد أفرد ابن تيمية
تصنيفًا في ذكر فيه الحديث بطرقه ورجاله وأنه موضوع، وقال أحمد: لا أصل له. وتبعه
ابن الجوزي فأورده في الموضوعات.. ولكن قد صححه الطحاوي والقاضي عياض، وأخرجه ابن
منده وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس، وابن مردويه من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه.
ومثل هذه الأحاديث ما
ورد في حديث أبي هريرة:« غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع
امرأة، وهو يريد أن يبني بها ولم يبن بها، ولا أحد بنى بيوتًا ولم يرفع سقوفها،
ولا أحد اشترى غنما أو خلفات، وهو ينتظر ولادها، فغزا، فدنا من القرية صلاة العصر،
أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبست
حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم فجاءت - يعني النار - لتأكلها فلم تطعمها، فقال:
أن فيكم غلولاً، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم
الغلول، فلتبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول،
فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها، ثم أحل الله
لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا، فأحلها لنا »
فهذا الحديث مع كونه
في الصحيح إلا أنه ـ على الصحيح ـ من روايات أبي هريرة عن كعب الأحبار وغيره من
بني إسرائيل.
ومع ذلك، فلا ينبغي
التشدد بالنكير على من رواها أو رأى صحتها، لأنه قد ذهب من علماء الحديث إلى قبول
هذه الروايات.
([47]) ذكر الدكتور زغلول النجار في مقال له عن انشقاق القمر أنه كان
يتحدث عن هذه المعجزة في محاضرة بكلية الطب جامعة كارديف ببريطانيا، وبعد انتهاء
حديثه وقف رجل بريطاني من الحضور، واستأذن في أن يضيف شيئًا إلى إجابتي فأذنت له،
ثم بدأ بتعريف نفسه على أن اسمه داود موسى بيدكوك، وأنه مسلم، ويرأس الحزب
الإسلامي البريطاني.
ثم حكي (بيدكوك) قصته
مع انشقاق القمر فقال: إن هذه الآيات في مطلع سورة القمر كانت هي السبب في إسلامه
في أواخر السبعينيات من القرن العشرين؛ لأنه ببحث مستفيض في الأديان أهداه أحد
المسلمين ترجمة لمعاني القرآن الكريم، وأنه عند فتح هذه الترجمة لأول مرة فوجئ
بسورة القمر، فقرأ الآيات في مطلعها، ولم يكد يصدق أن القمر قد انشق ثم التحم
فأغلق الترجمة وانصرف عنها، ثم شاء الله تعالى أن يشاهد على شاشة التلفاز
البريطاني (B.B.C) برنامجًا عن رحلات الفضاء استضاف فيه المذيع
البريطاني المعروف جيمس بيرك (James Burke) ثلاثة من علماء الفضاء الأمريكيين وذلك في سنة
1978 م، وفي أثناء الحوار كان المذيع ينتقد الإسراف على رحلات الفضاء بإنفاق
ملايين الدولارات والأرض يتضور فيها ملايين البشر من الجوع، والمرض، والجهل،
والتخلف، وكان جواب العلماء أنه بفضل هذه الرحلات تم تطوير عدد من التقنيات المهمة
التي تطبق في مجالات التشخيص والعلاج الطبي والصناعة، والزراعة، وغيرها، وفي أثناء
هذا الحوار جاء ذكر أول رحلة إنزال رجل على سطح القمر، وقد تكلفت أكثر من مائة
مليار دولار، وجلس المذيع يتابع عتابه على هذا الإسراف، قرر العلماء بأن هذه
الرحلة قد أثبتت لهم حقيقة لو أنفقوا أضعاف هذا المبلغ لإقناع الناس بها ما صدقهم
أحد، فسأل المذيع: ما هي هذه الحقيقة؟ فأجابوا: أن هذا القمر قد سبق له أن انشق ثم
التحم، وأن آثار محسوسة تؤيد ذلك الحدث قد وجدت على سطح القمر وامتدت إلى داخله.
ويضيف بيدكوك: حينما
سمعت ذلك قفزت من الكرسي الذي كنت أجلس عليه أمام التلفاز، وقلت: معجزة تحدث لمحمد
قبل ألف وأربعمائة سنة، ويرويها القرآن بهذا التفصيل العجيب يسخر الله من يثبتها
للمسلمين في عصر العلوم والتقنية الذي نعيه، وينفق هذا المبلغ الكبير، لابد وأن
يكون هذا الدين حقًا، وعدتُ إلى ترجمة معاني القرآن الكريم أقرؤها بشغف شديد،
وكانت آيات افتتاح سورة القمر هي السبب المباشر لقبولي الإسلام دينًا.
([53]) رواه البخاري ومسلم والبيهقي وأبو نعيم عن ابي
هريرة، والشيخان عن أنس، والامام أحمد وابن سعد وابو نعيم عن ابن عباس، والدارمي
والبيهقي عن جابر بن عبد الله، والبيهقي بسند صحيح عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك،
والطبراني عن كعب بن مالك، وابن سعد عن ابي سلمة، البزار وابو نعيم والحاكم عن أبي
سعيد الخدري.