المؤلف: نور الدين أبو
لحية |
العودة للكتاب: معجزات
حسية |
الناشر: دار الكتاب الحديث |
الفهرس
|
|
في اليوم
الرابع..
أصبح بولس
نشيطا غاية النشاط، فقد جاءني، وهو يحمل محفظته، وقبل أن يحييني تحية الصباح
كعادته، قال لي: اليوم سترى العجب العجاب.. سنستدرك كل ما فاتنا في الأيام
السابقة.
قلت: هل أعددت
شيئا جديدا لهؤلاء؟
قال: أجل..
أتيتهم بشيء يكاد يشبه القنبلة النووية.. ولن يقف في وجهه أحد.
قلت: أين سنذهب
اليوم؟
قال: إلى حي راق..
ليس كالأحياء التي ذهبنا إليها في الأيام السابقة.. في هذا الحي رجال مثقفون،
وسنخاطبهم بالحقائق التاريخية والعلمية التي تجعلهم يسلمون لنا.
قلت: أنت تريد
أن تلقي عليهم محاضرة إذن؟
قال: يمكنك أن
تقول ذلك.. ولكني سأسمع منهم أيضا.. لقد شرطوا علينا هذا الشرط، ولا مناص لنا من
قبوله.
قلت: ألا تخشى
أن يظهر من بينهم مثل ذينك الرجلين؟
قال: عبد
القادر وعبد الحكيم!؟
قلت: أجل..
أخاف أن يفعلا بنا ما فعلاه في الأيام السابقة.
قال بكل ثقة:
بل أتمنى أن يحضرا.. ولو كان لدي عنوانهما لدعوتهما للحضور.
قلت: فأنت واثق
إذن مما ستقوله؟
قال: كل
الثقة.. ولذلك سترى من العجائب اليوم ما فاتك أن تراه في الأيام السابقة.
نظر إلى عيني،
فرأى فيهما بعض الشك، فقال: أنت محتار في هذه الثقة العجيبة التي أبديها لك.
قلت: أجل..
أخاف أن تكون نوعا من الغرور.
قال: لا تخف..
لقد جربت هذا النوع من الأسلحة سابقا.. وقد كان له مفعوله السحري.
قلت: أنا لا
أحب تعابيرك هذه.. فنحن مبشرون لا محاربون.
قال: أحيانا
يختلط التبشير بالحرب.. عندما تجد من يقف في وجه تبشيرك تضطر إلى أن تستعمل معه
أساليب المحاربين.
قلت: ولكن
المسيح جاء بالسلام.
قال: السلام في
عرفنا ليس كالسلام المتعارف عليه.. إنه سلام قد يستخدم الحرب، وقد يتسلح
بالعداوة.. حتى لو كانت العداوة بين الولد ووالده، والأخ وأخيه.. لاشك أنك تحفظ ما
قال المسيح في هذا.. لقد قال:(:( لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُرْسِيَ سَلاماً
عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُرْسِيَ سَلاَماً، بَلْ سَيْفاً فَإِنِّي جِئْتُ
لأَجْعَلَ الإِنْسَانَ عَلَى خِلاَفٍ مَعَ أَبِيهِ، وَالْبِنْتَ مَعَ أُمِّهَا،
وَالْكَنَّةَ مَعَ حَمَاتِهَا، وهَكَذَا يَصِيرُ أَعْدَاءَ الإِنْسَانِ أَهْلُ
بَيْتِهِ )(إنجيل متى:10)
قال ذلك، ثم
أخذ بيدي، وقال: هيا بنا.. فالحضور ينتظرون قدومنا على أحر من الجمر.
امتطينا
سيارتنا الفخمة، وسرنا نحو ذلك الحي الراقي..
كان الجمع
جالسا ينتظر القس بلهفة وشوق.. فما إن دخل، ودخلت معه حتى امتلأت القاعة بالتصفيق
الحار.
جلسنا على
المنصة، وراح صاحبي بولس يلقي قنبلته الموعودة، والتي بدأها بقوله: أنا لا أحب
المحاضرة الجافة التي تلقن العقول دون أن تدع لها فرصة للحوار.. كما يفعله الأئمة
في المساجد حين يستأثرون بالمنابر ليلقوا ما شاءت لهم عقولهم أو أهواؤهم أن يلقوه.
لذلك سيكون
حديثي مفتوحا.. وإن شئتم فاعتبروا جلستنا هذه جلسة مذاكرة لا جلسة محاضرة..
سر الحضور
لقوله هذا.. وسر أكثر لما رآه من سرورهم.
بدأ حديثه
بقوله: لا شك أنكم تعلمون بأن الغيب لا يعلمه إلا الله.. القرآن يقول هذا.. فهو
يصرح كل مرة بقوله:﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا
هُوَ ﴾ (الأنعام: من الآية59)، وبقوله:﴿ قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ
يُبْعَثُونَ﴾ (النمل:65)، وبقوله:﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ
عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً﴾ (الجـن:26)
حتى محمد..
القرآن يأمره بأن يقول:﴿ قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ
وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا
مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا
تَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأنعام:50)
بل إنه يأمره
بأن يردد بكل تواضع قوله:﴿ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ
الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ﴾ (لأعراف:188)
ويأمره أن يرد
على المخالفين المكذبين له بقوله:﴿ وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي
مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ (يونس:20)
ثم أفاض يتحدث
عن هذا بإطناب طويل، وقد تعجبت كثيرا من طرح بولس هذه الطروحات في هذا المقام..
إنها طروحات عقلانية صحيحة..وقد سرت الجمع الحاضر، ولم أر من يرفع يده ليخالفها.
لكني لم أع ما يريد من خلالها إلا بعد أن قال:
فالتنبؤ بالغيب إذن معجزة.. ومحمد ـ كما ينص القرآن ـ ينفيها عن نفسه، بل ينفيها
عنه قرآنه.
هذا هو الشق
الأول من المعادلة التي نريد طرحها عليكم.. احفظوها، فسنعود إليها.
ألقى بولس نظرة
إلى الحضور، ثم ابتسم ابتسامة عريضة، وقال: لاشك أنكم تتساءلون عن الشق الثاني..
الشق الثاني
يعتمد على الكتاب المقدس.. نحن قوم نحب العدل.. لقد رجعنا إلى القرآن.. ولكنا لا
ينبغي أن ننسى الكتاب المقدس، فهو أيضا كلمة الله.
لنسمع ما يقول
الكتاب المقدس، وقبل ذلك نتساءل: كيف عرف أهل القرن المسيحي الأول في فلسطين
المسيح؟.. وهل تحققت في المسيح نبوات سابقة لمجيئه لعالمنا؟.. وهل تنبأ نبوات تمَّ
تحقيقها؟
سأل هذه
الأسئلة، ثم راح بمنهجه الذي تعودت عليه، والذي تقترن فيه لغة الكتاب المقدس بلغة
العصر يقول: لاشك أنكم تعرفون الرياضيات.. بمبادئها البسيطة والعقلية.
قال بعض
الحضور: أجل.. ونحب أن يقترن حديثك بها، فهي منطق عقلي لا شك في قبوله.
قال بولس:
سأستعمل الرياضيات إذن لأحلل بعض النبوءات التي وردت في الكتاب المقدس بخصوص
المسيح بطريقة حسابية.
لنتأمل هذه
النبوءات، ثم ندرس إمكانية تحقيق هذه النبوات بالصدفة.
توجه إلى
الحضور بكل ثقة، وقال: سأضرب لكم مثالا لنرى فيه علاقة لغة الرياضيات بما نريد
إثباته.
فلنفرض أن
أحدكم يملك عشرة قمصان من ألوان مختلفة، أعرفها أنا وأصدقائي، ولنفترض أني سأقول
للأصحاب: إنك غداً سترتدي القميص الأحمر.. في اليوم التالي تجيء وقد لبست قميصاً
أحمر، فأهتف بفرح:( انظروا! إني نبي! )، لاشك أنكم ستقولون:( كان هذا صدفة، فلديك
فرصة نجاح واحدة من عشرة، وقد أفلحتَ هذه المرة)
ولأفترض أن
لديك خمس قبعات مختلفة، وأنك تمتلك ثلاثة أزواج من الأحذية من ألوان مختلفة.
إن لغة
الرياضيات تعطيني فرصة من عشر فرص، لأتنبأ بصواب لون قميصك، وعندي فرصة من خمس
لأتنبأ بصواب لون قبعتك، وعندي فرصة من ثلاث لأتنبأ بصواب لون حذائك، ولكن فرص
صوابي في التنبؤ بهذه كلها معاً يكون واحداً من عشرة في واحد من خمسة في واحد من
ثلاثة بمعني فرصة بين 150 فرصة.
قال ذلك، ثم
توجه إلى الحضور قائلا: لاشك أنكم تستوعبون ما أقول.. فهذا ما تنص عليه الرياضيات.
قال أحدهم:
أجل.. فأنت بين جمهور مثقف يعي كل ما تذكره.. إنك تشير إلى فرع من الرياضيات يسمى
(الاحتمالات)، وله قوانينه التي نصصت أنت هنا على بعضها.
قال بولس: سأنطلق من هذه المقدمة لأبرهن لكم عن
مدى الصدق الذي تحمله النبوءات التي وردت في الكتاب المقدس.. وسأستبق الأحداث
لأقول: إن فرصة انطباق تلك النبوءات كان فرصة واحدة في 78ر2 في 10 أس 28.. أو
بتعبير مبسط فرصة واحدة في 10 آلاف مليون مليون مليون مليون فرصة.
ألا ترون هذا
العدد كافيا لإثبات معجزة نبوءات الكتاب المقدس!؟
قال رجل من
الحاضرين: لا شك في ذلك.. ولكن كيف ذلك؟
قال بولس:
سأبرهن لكم على ذلك.. نحن نؤمن بالعقل، ولا نستعمل غير العقل.
أنتم تعلمون أن
نسخ الكتاب المقدس وجدت قبل المسيح.
قالوا:أجل..
قال بولس:
وكلها تتحدث عن المسيح.. اصبروا.. وسأبرهن لكم على ذلك.
أول نبوءة
سأقرأها عليكم يعود تاريخها إلى عام 750 ق م، تتحدث هذه النبوءة عن عذراء ستلد وليداً
يكون عجيباً حتى أنه يُدعَى (عمانوئيل) ومعناه (الله معنا).. اسمعوا ما تقول نبوة
إشعياء (7:14)
فتح الكتاب
المقدس، وراح يقرأ:( وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا
الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ )
وتخبر نبوءة
ثانية أن المسيح سيكون من نسل داود، تقول نبوة إرميا (23:5 و6):( هَا أَيَّامٌ
تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأُقِيمُ لِدَاوُدَ غُصْنَ بِرٍّ، فَيَمْلِكُ مَلِكٌ
وَيَنْجَحُ، وَيُجْرِي حَقّاً وَعَدْلاً فِي الْأَرْضِ فِي أَيَّامِهِ يُخَلَّصُ
يَهُوذَا وَيَسْكُنُ إِسْرَائِيلُ آمِناً، وَهذَا هُوَ اسْمُهُ الَّذِي
يَدْعُونَهُ بِهِ: الرَّبُّ بِرُّنَا )
أتدرون ما
تاريخ هذه النبوءة؟
قال ذلك، ثم
أجاب نفسه بنفسه: إن تاريخها يعود إلى عام 600 ق.م.
ثم توجه إلى
الحضور قائلا: لا شك أنكم تتساءلون عن مدى تحقق هذه النبوءة.. إنه مائة بالمائة.
اسمعوا لما ورد
في تحقيق النبوتين من لوقا (1:26-38 ):( وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ
جِبْرَائِيلُ الْمَلَاكُ مِنَ اللّهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا
نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ
يُوسُفُ وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ فَقَالَ لَهَا الْمَلَاكُ: (لَا تَخَافِي
يَا مَرْيَمُ، لِأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللّهِ وَهَا أَنْتِ
سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ هذَا يَكُونُ عَظِيماً،
وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الْإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ
أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الْأَبَدِ، وَلَا يَكُونُ
لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ)
فَقَالَتْ
مَرْيَمُ لِلْمَلَاكِ: (كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟)
فَأَجَابَ الْمَلَاكُ: (اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ
الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ
يُدْعَى ابْنَ اللّهِ) فَقَالَتْ مَرْيَمُ: (هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ
لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ) فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا الْمَلَاكُ.
لتدركوا قيمة
هذه النبوءة يجب أن نعرف كم عدد اليهود الذين ينتمون لعائلة الملك داود وقتها..
والجواب بسيط:
لقد كانت عائلة داود واحدة من مئات عائلات سبط يهوذا، ولكن لا بد أن العائلة.. و
هي عائلة مَلَكيَّة.. قد صاهرت بقية عائلات سائر الأسباط، واختلطت بها، وافتخر
هؤلاء أنهم من نسل داود، لأسباب سياسية.
لا بأس نحن هنا
سنقتصر على 200.. سنفرض أن فرصة تحقيق هذه النبوة هي واحد في 200 فقط.. أي 2 في 10
أُسّ 2.
هذه نبوءة
واحدة استنتجنا منها هذا العدد الضخم ..
اصبروا.. فهناك
نبوءات أخرى.. ولكن احفظوا هذا الرقم، أو سجلوه، سنحتاج إليه..
سكت قليلا، ثم
قال: هناك نبوءة أخرى تخبر أنه يولد في بيت لحم حاكمٌ أبدي، لقد جاء هذا في نبوءة
ميخا (5:2)
فتح الكتاب
المقدس، وراح يقرأ:( أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ
صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي
يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ
أَيَّامِ الْأَزَلِ )
ثم توجه إلى
الحضور قائلا: أتدرون ما تاريخ هذه النبوءة.. إن تاريخها يعود إلى عام 750 ق م.
لا شك أنكم
تتساءلون عن نسبة تحققها..
لقد تحققت هذه
النبوة بالرغم من أن يوسف ومريم كانا يسكنان في الناصرة في شمال البلاد، لأن أغسطس
قيصر أمر بإحصاء السكان، كل واحد في مدينته الأصلية، فكان لا بد أن يسافر يوسف
ومريم خطيبته إلى بيت لحم في جنوب البلاد.
لقد جاء في
(لوقا 2:1-7):( وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ
بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا،
كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضاً مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ
مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي
تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ وَبَيْنَمَا
هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ )
أغلق الكتاب
المقدس، ثم قال: إن هذه النبوءة تذكر أن المسيح سيولد في بيت لحم، وهذا يجعلنا
نتساءل: كم طفلاً، من بين كل أطفال العالم، وُلد في بيت لحم؟ في وقت إعلان النبي
ميخا لهذه النبوة.
لقد كان عدد
سكان العالم حينها بليونين، ومتوسط عدد سكان بيت لحم 7 آلاف فتكون فرصة تحقيق
النبوة واحداً من 280 ألف فرصة.. أو بعبارة أخرى: واحد في 8ر2 في 10 أُسّ 5.
هذا عدد ضخم..
ولكنا مع ذلك لا نكتفي به..
هناك نبوءة
أخرى تخبر عن رسول يهيئ طريق المسيح..
فتح الكتاب
المقدس وراح يقرأ من (ملاخي 3:1):( هَا أَنَذَا أُرْسِلُ مَلَاكِي فَيُهَيِّئُ
الطَّرِيقَ أَمَامِي وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي
تَطْلُبُونَهُ وَمَلَاكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ هُوَذَا يَأْتِي قَالَ
رَبُّ الْجُنُودِ )
ثم توجه إلى
الحضور قائلا: أتدرون ما تاريخ هذه النبوءة؟
ثم أجاب نفسه
بنفسه: إن تاريخها يعود إلى عام 400 ق م.
وفي نبوءة أخرى
تؤكد هذه النبوءة يقول إشعياء (40:3):( صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ:
أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلاً لِإِلَهِنَا )
لقد تحققت هذه
النبوءة مائة في المائة ..
اسمعوا ما ورد
في (يوحنا 1:19-30):( وَهذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا، حِينَ أَرْسَلَ
الْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلَاوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: (مَنْ
أَنْتَ؟) فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ، وَأَقَرَّ أَنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ
فَقَالُوا لَهُ: (مَنْ أَنْتَ، لِنُعْطِيَ جَوَاباً لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟
مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟) قَالَ: (أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ:
قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ) وَفِي الْغَدِ
نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ: (هُوَذَا حَمَلُ اللّهِ
الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ هذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي
بَعْدِي، رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي، لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي)
طبعا.. أنتم
تتساءلون عن مدى تحقق هذه النبوءة.
يحق لكم ذلك..
فنحن لا نتعامل إلا بالمنطق الرياضي..
ولنعرف ذلك
نسأل: بين المولودين في العالم، كم شخصاً كان مسبوقاً بآخَر يهيئ له الطريق؟..
يمكننا أن نقترح ـ من باب التواضع ـ أن واحداً بين ألف كان قائداً مسبوقاً بمن
يهيئ له الطريق، فتكون فرصة تحقيق هذه النبوة واحداً في 10 أُسّ 3.
ثم تساءل بينه
وبين نفسه.. أليس هذا عجيبا؟
ثم يجيب نفسه
بنفسه: بلى.. إنه عجيب غاية العجب.
ثم توجه إلى
الحضور قائلا: ولكن مع ذلك هناك نبوءات أخرى..
فتح الكتاب
المقدس، وقال: هناك نبوءة أخرى تخبر أن المسيح سيجري معجزات كثيرة.. لقد جاء في
نبوة إشعياء (35:4-6) أن المسيح سيُجري معجزات كثيرة.. اسمعوا..
راح يقرأ:(
قُولُوا لِخَائِفِي الْقُلُوبِ: (تَشَدَّدُوا لَا تَخَافُوا هُوَذَا إِلَهُكُمُ
الانْتِقَامُ يَأْتِي جِزَاءُ اللّهِ هُوَ يَأْتِي وَيُخَلِّصُكُمْ) حِينَئِذٍ
تَتَفَتَّحُ عُيُونُ الْعُمْيِ، وَآذَانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّحُ حِينَئِذٍ يَقْفِزُ
الْأَعْرَجُ كَالْإِيَّلِ وَيَتَرَنَّمُ لِسَانُ الْأَخْرَسِ )
أنتم تتساءلون
عن مدى تحقق هذه النبوءة.. يحق لكم ذلك.
طبعا من الصعب
معرفة الرقم بدقة.. ففي الكتاب المقدس الحديث عن أربعة أنبياء أجروا الكثير من
المعجزات، هم موسى وإيليا وأليشع والمسيح، ولو أن المسيح أجرى معجزات أكثر من
الثلاثة الآخرين مجتمعين معاً.. فمعجزات المسيح بأكثر من ألف معجزة..
ولكن مع ذلك
سنرجع إلى الإسلام لنعرف الرقم بدقة.. فالمسلمون يعتقدون بوجود 124 ألف نبي، ولهذا
سنستخدم هذا الرقم، ونقول: إن المسيح كان واحداً من 124 ألفاً.. إذا ففرصة تحقيق
هذه النبوة هي 24ر1 في 10 أُسّ 5.
هذا عدد ضخم..
ولكن مع ذلك.. هناك نبوءات أخرى.
اسمعوا هذه
النبوءة التي تتحدث عن وقوف إخوته ضده بالرغم من المعجزات الكثيرة التي جرت على
يده.
فتح الكتاب
المقدس، وراح يقرأ من (مزمور 69:8):(
صِرْتُ أَجْنَبِيّاً عِنْدَ إِخْوَتِي وَغَرِيباً عِنْدَ بَنِي أُمِّي )
إن تاريخ هذا المزمور
يعود إلى عام 1000 ق م.
توجه إلى
الحضور قائلا: لا شك أنكم تتساءلون عن صحة تحقق هذه النبوءة في المسيح..
ثم أجاب نفسه:
بلى.. لقد تحققت.. اسمعوا ما جاء في (يوحنا 7:3-5):( قَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ:
(انْتَقِلْ مِنْ هُنَا وَاذْهَبْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ
هذِهِ الْأَشْيَاءَ فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلْعَالَمِ) لِأَنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضاً
لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ )
ثم توجه إلى الحضور قائلا: لا شك أنكم تتساءلون
عن نسبة تحقق هذه النبوءة.
وذلك يجعلنا
نتساءل: كم رئيس يجد عائلته تقف ضده؟ رؤساء كثيرون يضعون أعضاء عائلتهم في أماكن
القيادة، ورؤساء كثيرون قتلهم أفراد عائلاتهم، ولذلك سنكتفي بأن نقول إن فرصة
تحقيق هذه النبوة هو 2 في 10 أُسّ 1.
فتح الكتاب
المقدس، وقال: هناك نبوءة تخبر أن المسيح الملك يدخل عاصمته راكباً حماراً.. لقد
جاء في نبوة زكريا (9:9):( اِبْتَهِجِي جِدّاً يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي
يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ هُوَ عَادِلٌ
وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ )
ثم توجه إلى
الحضور قائلا: أتدرون ما تاريخ هذه النبوءة؟
ثم أجاب نفسه
بنفسه: إن تاريخها يعود إلى عام 520 ق م.
لا شك أنكم
تتساءلون عن صحة تحقق هذه النبوءة في المسيح..
يحق لكم ذلك..
والجواب العلمي يحملنا إلى سفر يوحنا (12:12-14)
فتح الكتاب المقدس،
وراح يقرأ:( وَفِي الْغَدِ سَمِعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى
الْعِيدِ أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ، فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ
وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: (أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الْآتِي
بِاسْمِ الرَّبِّ، مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!) وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً فَجَلَسَ
عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ )
انظروا مدى
انطباق هذه النبوءة العظيمة على المسيح..
لقد اختار
المسيح أن يركب حماراً، وتحققت الجموع من النبوءة بأن هتفوا له وعاملوه كملك يدخل
عاصمته زمن السلام.
ولتعرفوا مدى
عمق النبوءة وخطرها يجب أن تعلموا أن الملك داود كان يركب البغال كما في (1 ملوك
1:33)
وهذا يجعلنا
نتساءل: كم شخصاً دخل أورشليم كملكٍ راكباً جحشاً.
سنفترض بكل
تواضع: أن نسبة تحقيق النبوة واحد في 10 أُسّ 2.
ليس ذلك فقط..
هناك نبوءة أخرى تخبر أن الرؤساء والملوك سيدبّرون مكيدة للمسيح.. لقد جاء في
مزمور (2:1 و2):( لِمَاذَا ارْتَجَّتِ الْأُمَمُ وَتَفَكَّرَ الشُّعُوبُ فِي
الْبَاطِلِ؟ قَامَ مُلُوكُ الْأَرْضِ وَتَآمَرَ الرُّؤَسَاءُ مَعاً عَلَى الرَّبِّ
وَعَلَى مَسِيحِهِ )
لا شك أنكم
تتساءلون عن مدى تحقق هذه النبوءة في المسيح.. يحق لكم ذلك.
والجوب بسيط:
لقد تحققت هذه النبوة مائة بالمائة.. لقد قام ملوك ضد المسيح، كما نقرأ في (لوقا
23: 7 و11):( وَحِينَ عَلِمَ (بيلاطس) أَنَّهُ (المسيح) مِنْ سَلْطَنَةِ
هِيرُودُسَ (الملك)، أَرْسَلَهُ إِلَى هِيرُودُسَ فَاحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ
عَسْكَرِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَلْبَسَهُ لِبَاساً لَامِعاً، وَرَدَّهُ إِلَى
بِيلَاطُسَ﴾ (والي القيصر))
وجاء في (يوحنا
11:47 و53):( فَجَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ مَجْمَعاً
وَقَالُوا: (مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هذَا الْإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ
كَثِيرَةً فَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ))
أغلق الكتاب
المقدس، وتوجه للحضور قائلا: لاشك أنكم تتساءلون عن مدى دقة هذه النبوءة وعمقها..
ولمعرفة ذلك نتساءل: كم شخصاً أقام موتى، ثم حُكم عليه بالموت؟
والجواب بسيط:
ثلاثة فقط يذكرهم الكتاب المقدس هم من أقاموا موتى.
إن هذا يجعلنا
نتساءل من جديد: كم شخصاً لم يعملوا إلا خيراً، ومع ذلك قام كل الحكام ضدهم؟
سنكتفي بكل
تواضع بتقدير هذه النسبة البسيطة.. 2 في 10 أُسّ 1.
ابتسمت لقوله
هذا.. فقد كانت الأرقام تجري في فمه بسهولة ويسر.. وكان يلقيها كما يشاء.. يختار
منها ما يشاء، ويدع ما يشاء.
نظرت إليه،
فقال: طبعا أنتم تتعجبون من هذه الدقة العجيبة.. ومع ذلك فهناك نبوءات أخرى..
اسمعوا هذه
النبوءة التي تخبر أن المسيح سيُصلب.. لقد جاء في (مزمور 22:16):( جَمَاعَةٌ مِنَ
الْأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ )
أتدرون ما
تاريخ هذه النبوءة؟ .. إن هذا المزمور كتبه داود نحو عام 1000 ق.م.
توجه إلى
الحضور قائلا: طبعا.. أنتم تتساءلون عن مدى تحقق هذه النبوءة في المسيح.. والجواب
العلمي بسيط.. اسمعوا ما جاء في (لوقا 23:33):( وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى
الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى (جُمْجُمَةَ) صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ
الْمُذْنِبَيْنِ، وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ )
هذه نبوءة
خطيرة.. وهي تجعلنا نتساءل: كم شخصاً صُلب منذ أيام داود إلى يومنا هذا؟
طبعا أنتم
تتعجبون من استمرار العد إلى يومنا هذا.. والجواب ببساطة هو أن اليهود لا زالوا
إلى اليوم يتطلعون إلى مجيء المسيح.
بالإضافة إلى
هذا، فقد كان هناك وسائل إعدام كثيرة.. منها السيف والمقصلة والشنق والرجم، ولم
يكن اليهود يستخدمون الصَّلب، بل الرجم، مما يجعل للنبوة مغزاها الخاص.
ولهذا يمكن أن
نقول بكل تواضع كذلك: إن فرصة تحقيق هذه النبوءة هي واحد من 10 آلاف (أو 1 في 10
أُسّ 4)
طبعا.. إن هذا
عجيب.. ولكن مع ذلك، فإن العجب لا ينتهي..
لقد جاء في
نبوءة أخرى أنهم يقتسمون ثيابه، ويلقون قُرعةً على قميصه، كما جاء في (مزمور
22:18):( يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ )
لقد تحققت هذه
النبوة مائة في المائة.. لقد جاء في (يوحنا19:23 و24):( ثُمَّ إِنَّ الْعَسْكَرَ
لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ، أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا
أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْماً، وَأَخَذُوا الْقَمِيصَ
أَيْضاً، وَكَانَ الْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: (لَا نَشُقُّهُ، بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ
يَكُونُ))
توجه إلى
الحضور قائلا: لاشك أنكم تتساءلون عن مدى دقة هذه النبوءة.
يحق لكم ذلك..
ولمعرفة ذلك يجب أن نقر بأن قسمة ثياب المصلوب كانت عادةً متَّبعة عند العسكر،
ولكن وجود قميص منسوج بغير خياطة ليلقوا عليه قرعة لم يكن أمراً معتاداً.. فلهذا
نحسب فرصة تحقيق هذه النبوة واحداً في مائة أو 1 في 10 أُسّ 2.
لا تتعجبوا..
فهناك نبوءة أخرى تذكر أن المسيح كان باراً إلا أنه حُسِب مع الأشرار، وجُعل مع
غني عند موته، كما جاء نبوة إشعياء (53:9 و12):( وَجُعِلَ مَعَ الْأَشْرَارِ
قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْماً،
وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ )
لاشك أنكم
تتساءلون عن مدى انطباق هذه النبوءة على المسيح.. يحق لكم ذلك.
فتح الكتاب
المقدس، وراح يقرأ من (مرقس 15:27):( وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ، وَاحِداً عَنْ
يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ )
ثم ألقى نظرة على
الحضور، ثم راح يقرأ من (متى 27:57-60):( فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضاً بِصَوْتٍ
عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ، جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ
مِنَ الرَّامَةِ اسْمُهُ يُوسُفُ - وَكَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْمِيذاً لِيَسُوعَ
فَهذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلَاطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ فَأَمَرَ بِيلَاطُسُ
حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى الْجَسَدُ فَأَخَذَ يُوسُفُ الْجَسَدَ وَلَفَّهُ
بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ الْجَدِيدِ الَّذِي كَانَ قَدْ
نَحَتَهُ فِي الصَّخْرَةِ )
ثم توجه إلى
الحضور قائلا: إن هذه النبوءة تجعلنا نتساءل: كم نسبة من يُصلبون وهم أبرياء؟..
أتمنى أن تكون نسبة قليلة، واحداً من كل 10.
والسؤال
الثاني: كم نسبة من يُصلبون ويُدفنون مع الأغنياء؟
ثم أجاب نفسه:
لا شك أن نسبة اللصوص الأغنياء الذين يصلبون قليلة، فلهم أصدقاء ومحامون يدافعون
عنهم.. ولهذا سنفترض أن النسبة واحد من ألف (أو 1 في 10 أُسّ 3)
لا تتعجبوا..
فهناك نبوءة أخرى تخبر أن المسيح بعد موته يقوم.. لقد جاء في إشعياء (53:8-10):(
قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الْأَحْيَاءِ أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ
بِالْحُزْنِ إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ
أَيَّامُهُ )
ثم توجه إلى
الحضور قائلا: طبعا أنتم تتساءلون عن مدى تحقق هذه النبوءة في المسيح.. يحق لكم
ذلك.. اسمعوا.
فتح الكتاب
المقدس وراح يقرأ من (لوقا 24:36-43):( وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهذَا
وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسَطِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: (سَلَامٌ لَكُمْ!)
اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ جُسُّونِي وَانْظُرُوا،
فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي) فَنَاوَلُوهُ
جُزْءاً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ، وَشَيْئاً مِنْ شَهْدِ عَسَلٍ فَأَخَذَ وَأَكَلَ
قُدَّامَهُمْ )
نظر إلى
الحضور.. والابتسامة تملأ فمه، وهو يقول: لنكتفي بهذه النبوءات.. ولنعد الآن إلى
الحساب.. لاشك أن الكثير منكم سجل حساب الاحتمالات..
نهض واحد من
الجمع، وقال: لقد سجلت أنا جميع الاحتمالات، وهي: واحد من 2 في 10 أس 2 في 8ر2 في
10 أس 5 في 10 أس 3 في 24ر1 في 10 أس 5 في 2 في 10 أس 1 في 10 أس 2 في 2 في 10 أس
1 في 10 أس 4 في10 أس 1 في10 أس 3.
نهض آخر، وقال
إن مجموع هذا الرقم يعطينا فرصة واحدة في 78ر2 في 10 أس 28.. أو بعبارة أخرى: إنها
فرصة واحدة في 10 آلاف مليون مليون مليون مليون فرصة.
سكت قليلا، ثم
نظر إلى الحضور بخشوع، وقال: هل رأيتم؟.. هل يمكن أن تتحقق هذه النبوءات بالصدفة
وحدها؟.. كيف يتفق لرجل، أي رجل، يكون قد عاش منذ كُتبت هذه النبوات إلى عصرنا
الحاضر أن يحقق هذه النبوءات العشر بالصدفة وحدها؟
سنحصل على
الإجابة لو أننا قسمنا 10 أس 28 على عدد البشر الذين عاشوا منذ كُتبت تلك النبوات
والعدد الذي نعرفه هو 88 بليون إنسان (أو 8ر8 في 10 أُسّ 10 الذي سنبسّطه بقولنا 1
في 10 أُسّ 11) وبقسمة هذين العددين يتضح لنا أن الفرصة هي واحد في عشرة أُسّ 17!
طبعا.. هذه
أرقام ضخمة قد يصعب على الخيال تصورها.. ولهذا سأقربها لكم..
لنفترض أننا
نأخذ 10 أُسّ 17 قطعة عملة من فئة العشرة قروش ونضعها متجاورة على مساحة 700 ألف
كيلومتر مربع (وهي مساحة الأردن وسوريا والعراق مجتمعة) إنها ستغطي كل هذه المساحة
بعمق متر واحد.
ولندرك قيمة
تلك النبوءات، ومدى الإعجاز الذي تحمله نضع علامة على إحدى هذه العملات، ثم نخلطها
بالبقية، ثم نطلب من شخص أن يُخرِج العملة ذات العلامة من أول مرة.
تخيَّلوا حجم
المشكلة التي يعانيها من يكلف بهذا..
إنه لاشك
سيحتار من أين يبدأ بالبحث؟.. وما هو احتمال استخراجه قطعة العملة المطلوبة؟ هذه
بالضبط مشكلة من يريد تحقيق هذه النبوات العشر بضربة حظ واحدة! إذاً لا يمكن أن
يكون هؤلاء الأنبياء قد تكلموا بحكمتهم الذاتية.
هدأ بولس قليلا
من انفعالاته، ثم جلس، وهو يقول بخشوع: لن أذكر لكم أي استنتاج.. ولكني أقول: إن
تحقيق هذه النبوات دليل على أن الله ألهم هؤلاء الأنبياء في ما كتبوا، ففرصة
الصدفة عندهم هي فرصة واحدة في 10 أُسّ 17 فرصة.
هذا مع أننا لم
نورد كل النبوات.. فنحن لم نذكر مثلاً النبوات عن ميلاد المسيح العذراوي وقد جاءت
16 نبوة عن صلب المسيح اخترنا منها أربعاً فقط.
لقد ألهم الله
أنبياء التوراة في ما كتبوا، ثم حقق ما كتبوه لنتأكد أن موت المسيح وقيامته
ليفدينا من خطايانا أمرٌ صحيح.
بعد هذا كله
نفهم قول المسيح:( صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الْآبِ وَالْآبَ فِيَّ )(يوحنا 14:11)
وقوله:( لِهذَا يُحِبُّنِي الْآبُ، لِأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لِآخُذَهَا
أَيْضاً)(يوحنا 10:17)
قال ذلك، ثم
توجه إلى الحضور قائلا: هذا ما لدي.. وسأترك لكم المجال للتعقيب والمناقشة.. فنحن
هنا لسنا أئمة مساجد.. بل نحن نعتمد روح العلم.. ونعتمد المنطق الرياضي.. ونعتمد
فوق ذلك كله الموضوعية العلمية التي تجعلنا نسلم للمحق مهما كنا نخالفه.
نهض الرجل
المستأجر كعادته، وقال: حيوا أبانا القس.. لقد لبس اليوم لباس فيثاغورس والخوارزمي
ليقربنا من المسيح.. ثم صفق ما شاءت له يداه أن تصفقا، وصفق الحضور لتصفيقه.
وفجأة ارتفعت
يد تريد التعقيب التفت إلى صاحبها، فإذا به عبد الحكيم.
رآه بولس، فكست
وجهه حمرة لست أدري ما سرها، لكنه أذن له..
صعد عبد الحكيم
إلى المنصة، وقال: بورك في أبينا القس.. ونحن نشكره على هذا الجهد الذي بذله في
هذه المحاضرة القيمة.. وبما أن صدره اتسع ليسمع أسئلتنا وتعقيباتنا، فيسرنا أن
نطرح عليه بعض التساؤلات..
وقبل أن أقدم
هذه التساؤلات أحب أن أذكر بأن القرآن نفسه يخبر بأن الأبيناء تنبأوا بظهور
المسيح u، فالله تعالى يخبر عن يحي u أنه مصدق للمسيح، قال تعالى:﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ
وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى
مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ
الصَّالِحِينَ﴾ (آل عمران:39)
انتفض بولس
فرحا، وقال: انظروا.. حتى القرآن يسجل نبوءة أخرى، فيخبر أن يحيى (المعمدان) سيهيئ
الطريق للمسيح.. أليس هذا عجيبا!؟
قال عبد
الحكيم: نحن لا نختلف في إيماننا بالمسيح.. بل إن من كفر بالمسيح ـ عندنا ـ كفر
بمحمد..
ولكن مع ذلك..
ووفقا للمنهج الذي ارتضيته.. المنهج العلمي الموضوعي.. بل المنطق الرياضي.. أريد
أن أناقش بعض ما ذكرته لا لأنفي كون الأنبياء بشروا بالمسيح، ولكن لأنفي بعض
التعسف في تحميل النصوص ما لا تحتمل [1].
تغير وجه بولس،
لكنه تمالك نفسه، وقال: اذكر ما بدا لك.. فلن تجد عندي غير الحق.. ولا شيء غير
الحق.
قال عبد
الحكيم: أولا.. أرى أنك وقومك ترجعون كثيرا إلى متى في ذكر انطباق النبوءات على المسيح..
ويحق لك ذلك، لأنه دائما يقول:( و هذا كله لكى يتم ما قيل.. ) ثم يذكر نص العهد
القديم.
التفت إلى
بولس، وقال: ألا ترى أن هذه العبارة مقحمة في إنجيل متى؟
لم يجد بولس
إلا أن يقول: نعم.. ربما تكون هذه الصيغ إسهاما خاصا من كاتب انجيل متى[2].. ولكنها مع ذلك تعبر عن الحقيقة.
قال عبد
الحكيم: ولهذا، فأنتم تذكرون أن متى يكتب لليهود، ولوقا لليونانيين، ومرقص
للرومان، ويوحنا للكنيسة.
قال بولس:
أجل.. نحن نقول ذلك.
قال عبد
الحكيم: فهذا اعتراف ضمنى منكم بأن كل واحد يكتب على هوى الفئة التى يكتب لها
لمحاولة إقناعها حسب معتقداتها.
ولهذا، فإن متى
أو من كتب إنجيل متى[3] يحاول بأى طريقة أن يربط بين القصص التى يكتبها، وبين العهد
القديم لإقناع اليهود.
قال بولس: لا
جناح عليه في أن يفعل ذلك ما دام يتحرى الحق.
قال عبد
الحكيم: نعم.. لا حرج عليه في ذلك.. ولكن العجيب أن يكون متى هو الوحيد الذى اكتشف
هذه النبوءات، مع أنكم تكادون تجمعون على
أن إنجيل متى كتب بعد سنة 80 ميلادية، و ليس قبل ذلك.
إن هذا يستدعي
تساؤلات كثيرة، لعل أهمها يرجع إلى عدم ذكر المسيح لها، فما الفائدة أن يذكر كاتب
إنجيل متى هذا التشابة بعد رفع المسيح.. أليس من الأفضل إذا كانت هذه نبوءة صحيحة
أن تذكر فى وقتها ويؤمن بها الجميع أو البعض بسهولة؟
لا بأس.. فلندع
هذا التساؤل..
ولنبحث في
النبوءات نفسها، ومدى انطباقها على المسيح..
لنبدأ بالنبوءة
الأولى.. وهي نبوءة إشعيا المشهورة عن العذراء التي تحبل و تلد ابنا يدعى عمانويل.
فهذه النبوءة
لا تنطبق على المسيح من وجوه كثيرة، منها أن المسيح لم يدع بهذا الاسم طول حياته..
ومنها أن كلمة (عذراء) مترجمة بصورة خاطئة، وكاتب انجيل متى وجد كلمة عذراء
المترجمة خطأ، فربطها بميلاد المسيح [4].
ثم إن قصة
بشارة الملاك فى (لوقا:1 / 31: 31):( وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع )
تتعارض مع قصة متى، ولا ندرى هل نسميه يسوع أم عمانويل، وبما أن يسوع هو الاسم
المنتشر فى الإنجيل عكس عمانويل الذى لم يذكر مطلقا، فهذا يرجح صيغة لوقا.
ثم إن قصة
النبوءة ـ باختصار ـ هي أن أرام وفاقاح ملك إسرائيل جاءا إلى أورشليم لمحاربة آحاز
بن يوثان ملك يهوذا , فخاف خوفاً شديداً من إتفاقهما , فأوحى الله إلى إشعياء أن
تقول للتخفيف عن آحاز وتسليته:( لا تخف فإنهما لا يقدران عليك وستزول مملكتهما),
ثم بين علامة خراب ملكهما، وهي أن امرأة شابة تحبل وتلد إبناً، وتصير أرض هذين الملكين
خراباً قبل أن يعرف ويميز هذا الصبي المولود الخير من الشر.
وقد ثبت أن أرض
فاقاح قد خربت في مدة إحدى وعشرين عاماً من هذه النبوءة , فلا بد أن يولد ابن قبل
هذه المدة، وتخرب الأرض قبل أن يميز, والمسيح u ولد بعد هذه النبوءة بمدة 721سنة من خرابها.
احمر وجه بولس
فقال عبد الحكيم: لا عليكم.. لا تثقوا في.. ها هو الكتاب المقدس أمامكم.. اقرأوه،
فسترون مدى صدق ما ذكرته لكم.. وسأبادر، فأقرأ لكم بعض ما ورد فيه.
فتح كتابا
مقدسا كان يحمله، وراح يقرأ من (إشعياء: 8 /3-4):( فاقتربت الى النبية فحبلت وولدت
ابنا.فقال لي الرب ادعو اسمه مهير شلال حاش بز لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يدعو يا
أبي ويا أمي تحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور)
التفت إلى
بولس، وقال: أجبني ما معنى (مهير شلال حاش بز) والتي سمي بها المولود الذي سيولد
من المرأة الصغيرة؟
احمر وجه بولس،
ولكنه تمالك نفسه، وقال: هي ( أسرع إلى السلب.. أسرع إلى النهب)
امتلأت القاعة
بالضحك، فقال عبد الحكيم: لهذا هم لم يترجموا هذه العبارة في النسخة العربية.. إن
هذه النبوءة لا يمكن أن تنطبق على المسيح.
هذا نموذج عن
تحميل النصوص ما لا تحتمل..
هناك نموذج آخر
لهذا التكلف.. إنه ما ذكره سعادة القس من قصة قتل هيرودس للأطفال، وهروب السيدة
مريم بالمسيح إلى مصر.
إن هذه نبوءة
مخترعة اخترعها كاتب الإنجيل.. ليقول فى النهاية:( فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا
وانصرف إلى مصر وكان هناك الى وفاة هيرودس.لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل
من مصر دعوت ابني )
وسر ذلك أنه
قرأ المكتوب فى سفر (هوشع: 11 /1):( لَمَّا كَانَ إِسْرَائِيلُ غُلاَماً
أَحْبَبْتُهُ وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي ) مع أن النص فى هوشع لا علاقة له
بالمسيح على الإطلاق، بل هو ليس نبوءة أصلا حتى نبحث تحقيقها، بل هو يتحدث عن خروج
بنى اسرائيل من مصر و ما فعلوه بعد ذلك.
هناك نموذج آخر
يدل على ذلك التكلف.. منها ـ مثلا ـ قصة المجوس، فهي كلها ملفقة، فلا يوجد أى سند
تاريخي لها باعترافهم هم، ولم تسجل فى أى كتاب تاريخ..
وطبعا ـ حضرة
القس ـ يعلم أن متى انفرد بها دون الإنجيليين جميعا ليربطها بعد ذلك بما في
(أرميا: 31 / 15):( هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: (صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ نَوْحٌ
بُكَاءٌ مُرٌّ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَتَأْبَى أَنْ تَتَعَزَّى
عَنْ أَوْلاَدِهَا لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ )
النص فى أرميا،
والذى انتزعه كاتب متى من سياقه، ليس نبوءة أصلا، بل هو وصف لما حدث فى إحدى غارات
نبوخذنصر، ولا علاقة لها بالمسيح، ولم تخطر على بال أحد حتى لفق الكاتب هذه القصص.
قال عبد
الحكيم: سأكتفي بهذه النماذج فقط.. لأطلب من حضرة القس أن يجيبني عن بعض
التساؤلات.
لم يجد بولس إلا
أن يجيب بالإيجاب، فقد كان يحب أن يظهر بمظهر الودود واسع الصدر، فقال عبد الحكيم:
لقد جاء في (مرقص: 16 / 17-18):( وهذه الآيات تتبع المؤمنين يخرجون الشياطين باسمي
ويتكلمون بألسنة جديدة يحملون حيّات وإن شربوا شيئا مميتا لا يضرهم ويضعون أيديهم
على المرضى فيبرأون )
لقد ذكر المسيح
هنا خمسة أمور تحصل للمؤمنين به.. ونحن واثقون من كونك تابعا مخلصا للمسيح، فهل
تستطيع أن تجرب أحدها.. نريد واحدا فقط.. نريد أن تشرب شيئا مميتا، ثم تقوم بيننا
صحيحا معافى لا يضرك شيء؟
احمر وجه بولس،
وارتفعت ضحكات في القاعة.
قال عبد الحكيم:
لا بأس.. هذا اختبار خطير.. لننتقل إلى نبوءة أخرى من نبوءات المسيح، ونرى مدى
انطباقها.. لقد جاء في (متى: 10/ 23):( وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هَذِهِ
الْمَدِينَةِ فَاهْرُبُوا إِلَى الأُخْرَى، فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لاَ
تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَانِ )
توجه إلى بولس،
وقال: لقد حدد لهم المسيح أجلا.. فقال:( حتى ياتي ابن الإنسان ).. فهل أتى؟
سكت بولس، فقال
عبد الحكيم: لقد ورد في (متى 16 / 28):( فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَعُودُ
فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ
أَعْمَالِهِ.الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ
يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ )
التفت إلى
بولس، وقال: لقد ذكر المسيح أنهم لا يذوقون الموت حتى يروا المسيح.. ولكنهم ماتوا
وشبعوا موتا، ومع ذلك لم يأت.
سكت بولس، فقال
عبد الحكيم: لقد ورد في (متى 19 / 28 ):( فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:( الْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي فِي التَّجْدِيدِ
مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ
أَيْضاً عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيّاً تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ
الاِثْنَيْ عَشَرَ )
إن هذا النص
يشرف اثني عشر من حواريي المسيح بالجلوس لدينونة بني إسرائيل، وذلك شرف عظيم.. وهي
نبوءة عظيمة.. أجبني: ألم يكن يهوذا من هؤلاء؟
أجاب بولس
بالإيجاب، فقال عبد الحكيم: فلم يكن المسيح يعلم إذن بأن يهوذا سيخونه.. وبذلك لا
يمكن أن تكون هذه النبوءة صحيحة.. فالخائن لا يستحق هذا الشرف الرفيع.
سكت بولس، فقال
عبد الحكيم: لقد ورد في (متى:24 /28-33):( لأنه حيثما تكون الجثّة فهناك تجتمع
النسور، وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضؤءه، والنجوم تسقط
من السماء، وقوات السموات تتزعزع، وحينئذ تظهر علامة ابن الانسان في السماء،
وحينئذ تنوح جميع قبائل الارض ويبصرون ابن الانسان آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد
كثير، فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه من الاربع الرياح من اقصاء
السموات إلى أقصائها، فمن شجرة التين تعلّموا المثل متى صار غصنها رخصا وأخرجت
أوراقها تعلمون أن الصيف قريب، هكذا أنتم أيضا متى رأيتم هذا كله فاعلموا انه قريب
على الأبواب )
لقد ذكر المسيح
هذا كله، ثم قال لهم مبينا موعده:( الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا
كله السماء والارض تزولان ولكن كلامي لا يزول)(متى:24 /34-35)
التفت عبد
الحكيم إلى بولس، وقال: كل هذه الأعداد نبوءات، فهل حدث كل ما تحدث عنه!؟.. هل
أظلمت الشمس، وهل القمر لم يعط ضوءه، وهل تساقطت نجوم السماء على الأرض قبل أن
يمضي هذا الجيل الذي يقصد به جيل تلاميذ المسيح!؟
سكت بولس، فقال
عبد الحكيم: لقد وعد المسيح أتباعه بأنهم سيقومون بمعجزات كمعجزات المسيح، أو ما
هو أعظم منها، فقال كما في (يوحنا: 14 /12):( الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي،
فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضا، ويعمل أعظم منها لأني ماض إلى أبي )
هذا ما وعدكم
به المسيح.. فليحيى أحدكم ميتا.. أو يعمل أى من أعمال المسيح التى ذكرت فى
الأناجيل.
لم يدر بولس
بما يجيب به اعتراضات عبد الحكيم، ولكنه مع ذلك، لم يرد أن يظهر بمظهر الضعف،
فقال: نعم.. ربما تكون بعض النبوءات لم تكتمل لها عوامل الصدق، ولعل ذلك يرجع لبعض
ما مس النسخ على أيدي الكتبة من تغييرات..
أو لعل ذلك
يرجع إلى أن المراد الظاهر من تلك النصوص غير مقصود؟
أو لعل ذلك
يرجع إلى أسباب أخرى نجهلها.
ولكن يكفينا
النصوص الأخرى التي ذكرنا قيمتها، والتي لا تنطبق إلا على المسيح.
جلس عبد
الحكيم، واستأذن عبد القادر للقيام، فتظاهر بولس بأنه لا يراه، ولكن الجمهور
المحيط بعبد القادر أخذ يصيح لينبه بولس إلى عبد القادر الذي يرفع يده، مما اضطر
بولس للإذن له.
صعد عبد القادر
إلى المنصة، وأخذ مكبر الصوت، وقال: أولا.. نشكر حضرة القس المحترم الذي أتاح لنا
هذه الفرصة، نحن نشكره من كل قلوبنا.. ونحن مثله نبحث عن الحق، ولا شيء غير الحق.
وأول ما أبدأ
به حديثي هو ما بدأ به حديثه.. وهو القرآن الكريم.
لست أدري هل
يصح في العرف أن ننتقي من الكلام ما نريده أم لا يصح؟
فإذا صح، فإن
هذا يعني أنه إذا قال لك أخوك مثلا: لن أعطيك.. تعتبرها أنت وعدا بأن يعطيك.. ثم
تلح عليه في أن ينفذ وعده.
تظاهر الجمهور
بالاستغراب، فقال: لن تحتاج لتحقيق ذلك إلا للأسلوب الذي استعمله حضرة القس، ويستعمله
الكثير من إخوانه، وهو أسلوب القص.. قص ما لا ترغب فيه.. ولن تحتاج في تلك الجملة
إلا أن تقص كلمة (لن) لتصبح الجملة (أعطيك)
هذا ما فعله
حضرة القس مع القرآن الكريم، ليبرهن أنه ليس في القرآن الكريم، ولا في السنة
المطهرة أي نبوءات غيبية، بل فوق ذلك ليبرهن على موقف القرآن السلبي من هذا النوع
من المعجزات.
سأضرب لكم
مثالا على ما قرأه حضرة القس.
لقد قرأ قوله
تعالى:﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً﴾
(الجـن:26) وسكت، مع أن الآية التي بعدها تقول:﴿ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ
رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾
(الجـن:27)
فالله ـ حسب
هاتين الآيتين ـ استأثر بعلم الغيب، ولكنه يعلمه لمن شاء من خلقه.
أما سائر
الآيات التي تتحدث عن استئثار الله بعلم الغيب، فهذا من مقررات التوحيد وأصوله،
فنحن لا نقول في نبينا إلا أنه بشر شرف بوحي الله، وأنه لذلك لا يعلم إلا ما علمه
الله سواء كان من علم الغيب أو من علم الشهادة.
هل ترون في ذلك
ـ حضرة الجمهور ـ أي حرج؟
هل هذا هو
المنطق العلمي.. أم أن المنطق العلمي هو أن يزعم محمد r أنه يعلم الغيب.. ليبرهن لهؤلاء أنه مرسل من الله؟
أو أن المنطق
العلمي هو أن لا يذكر الله بأنه العالم الوحيد بالغيب ليدع الفرصة لكل الكهنة
والمشعوذين والخرافيين ليملأوا الدنيا بتكهناتهم.
لقد قاوم
الإسلام الدجل والخرافة.. ولذلك ابتدأ تلك المقاومة ببيان استئثار الله بالضر
والنفع والعلم بالغيب.. وهذه هي الأدوات التي يلعب بها المشعوذون.
قاطعه الرجل
المستأجر، وقال: هذا كلام نظري بحت.. ونحن هنا نريد أفعالا لا أقوالا.. نريد ما
يبين المعجزة.. نريد بيانا يكشف الغيب قبل حصوله.
ابتسم عبد
القادر، وقال: ذلك يطول.. ولا أظن حضرة القس يسمح لي.. فإن وقته من العزة بحيث لا
يمنحه لمثلي..
صاح رجل من
الحاضرين، عرفت بعد ذلك أنه مكلف من طرف عبد الحكيم بأن يقول هذا القول ـ: أنت لا
تعرف أبانا القس.. إنه رجل واسع الصدر.. يسمع لك، ولو ظللت تحدثه ليل نهار.. إنه
جم الأدب.. عظيم الخلق.. لا يبحث إلا عن الحق.
تسمر بولس في
مكانه، ولم يدر ما يقول، وتسمرت مثله في مكاني، وقد سرني ما سمعت، لأن ذلك سيمنحني
فرصة لأسمع ما ورد في النصوص المقدسة من أنباء الغيب المعجزة.
قال عبد
القادر: ما دام حضرة القس قد أذن لي في الحديث، فسأذكر لكم بعض ما ورد في النصوص
من أنباء الغيب.. ولا شك أن فيكم المؤرخين والعلماء الذين يعون ما أقول، ويصححون
ما قد أخطئ فيه.
أخرج عبد
القادر مصحفا من جيبه، وقال: فلنبدأ بالقرآن الكريم.. وحتى يكون كلامنا علميا،
فسنقسم أنباء القرآن الكريم الغيبية إلى ثلاثة أقسام تحيط بالزمان من جميع جوانبه:
الماضي، والحاضر، والمستقبل.
ولنبدأ بالحديث
عن الماضي.. فلا شك أن الماضي غيب كالمستقبل تماما إلا لمن أوتي من الأدوات ما
يعرف به ذلك الماضي..
وقد كان محمد r
أميا.. ومع ذلك ورد في القرآن الكريم أنباء كثيرة عن الغيب الماضي..
ولذلك، فإن
الله تعالى يقول لنبيه r بعد أن قص عليه قصة مريم ـ عليها السلام ـ:﴿
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يَخْتَصِمُونَ﴾ (آل عمران:44)
ويقول له بعد
أن قص عليه قصة يوسف u:﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ
وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾
(يوسف:102)
ويقول له بعد
أن قص عليه قصة موسى u:﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا
إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا
أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي
أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(45)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ
لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ(46) ﴾(القصص)
سأضرب لكم
مثالا على ما ورد في القرآن الكريم من أخبار الماضي..
لقد ذكر الله
تعالى هلاك كثير من القرى، ومن بينها قوم لوطu[5].. لقد ذكر ذلك
في مواضع من القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى:﴿ كَذَّبَتْ قَومُ لُوطٍ بالنُّذُرِ إِنَّا
أَرْسَلْناَ عَلَيْهِمْ حَاصِباً إلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ
نِّعْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِيْ مَنْ شَكَرَ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا
فَتَمَارَوْا بالنُّذُر﴾ (القمر: 33-36).
لقد عاش لوط u
في نفس زمن إبراهيم عليه السلام مرسلاً إلى بعض الأقوام المجاورة لإبراهيم، كان
هؤلاء القوم كما يخبرنا القرآن الكريم يمارسون نوعاً من الشذوذ لم تعرفه البشرية
قبلهم، وهو اللواط، وعندما نصحهم لوط بأن يقلعوا عن ممارسة هذا الشذوذ وأنذرهم بطش
الله وعقابه، كذبوه وأنكروا نبوته ورسالته، وتمادوا في شذوذهم وغيهم، وفي النهاية
هلك القوم بما وقع عليهم من كارثة مريعة.
لقد أشار العهد
القديم إلى هذا، وذكر أن المنطقة التي أقام فيها لوط هي منطقة سدوم، وحيث أن هذه
المنطقة تقع إلى الشمال من البحر الأحمر، فقد كشفت الأبحاث أن الدمار قد لحق بها
تماماً، وتدل الدراسات الأثرية تدل على أن تلك المدينة كانت في منطقة البحر الميت
التي تمتد على طول الحدود الأردنية الفلسطينية.
لقد وصف القرآن
الكريم العذاب الذي حاق بها، فقال:﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا
عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارةً مِّنْ سِجِّيْلٍ
مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِنْد رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِيْنَ بِبَعِيْدٍ
﴾ (هود: 82-83).
وفي آية أخر
قال تعالى:﴿ ثُمَّ دَمَّرْنَا
الآخَرِيْنَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ المُنْذَرِيْنَ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِيْنَ وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ العَزِيْزُ الرَّحِيْمُ ﴾ (الشعراء: 172-175).
إن هذه الآيات
تشير إلى نوع العذاب الذي نزل بتلك القرية..
إن جملة ﴿جَعَلْنَا
عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ تشير إلى أن المنطقة قد أصابتها هزة أرضية قوية،
ولهذا نجد أن بحيرة لوط، المكان الذي وقع فيه العذاب، تحمل دلائل واضحة عن كارثة
كهذه.
يقول عالم
الآثار الألماني وورنر كيلر:( غاص وادي سديم الذي يتضمن سدوم وغوموراه مع الشق العظيم،
الذي يمر تماماً في هذه المنطقة، في يوم واحد إلى أعماق سحيقة، حدث هذا الدمار
بفعل هزة أرضية عنيفة صاحبتها عدة انفجارات، وأضواء نتج عنها غاز طبيعي وحريق
شامل)[6]
أما الجملة
الأخيرة من الآية:﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّنْ سِجِّيلٍ
مَّنْضُودٍ ﴾ فربما تعني حدوث انفجار بركاني على ضفتي بحيرة لوط، وعن ذلك
يقول وورنر كيلر:( تحررت القوى البركانية التي كانت هامدة في الأعماق على طول
الصدع من ذلك الغور، ولا تزال فوهات البراكين الخامدة تبدو ظاهرة في الوادي العلوي
من الضفة الغربية، بينما تترسب هنا الحمم البركانية وتتوضع طبقات عميقة من البازلت
على مساحة واسعة من السطح الكلسي )
وتدل هذه الحمم
المتحجرة وطبقات البازلت على تعرض هذه المنطقة إلى هزة عنيفة وبركان ثائر في زمن
من الأزمنة، وتبدو هذه الكارثة بالسياق القرآني ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا
حِجَارَةً مِّنْ سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ ﴾
قال بولس: إن
ما ذكرته صحيح.. ولكن الإعجاز في هذا يرجع للكتاب المقدس، لا للقرآن.. فالكتاب
المقدس هو الذي نص على هلاك قوم لوط قبل أن ينص عليه القرآن.. ولا يستبعد أن يكون
القرآن قد تأثر في هذا بما ورد في الكتاب المقدس.
قال عبد القادر:
لا بأس.. لن أجادلك في هذا.. ولكن سأذكر لك شيئا بسيطا اختلف فيه القرآن الكريم مع
الكتاب المقدس، ومع ذلك كان الحق مع القرآن الكريم، فلو كان القرآن يسير تبعا
للكتاب المقدس لوقع في نفس الخطأ.
لقد لقب القرآن
الكريم حكام مصر القدامى بلقب (فرعون) في حوالي ستين آية كريمة.. ولكنه في سورة
واحدة ذكر حاكم مصر بلقب (ملك)، وذلك في قوله تعالى:﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ
إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ
سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ
إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ ﴾ (يوسف:43)، وقال تعالى:﴿
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ﴾
(يوسف: من الآية50)، وقال تعالى:﴿
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ (يوسف:
من الآية54)، وقال تعالى:﴿ قَالُوا
نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ
زَعِيمٌ﴾ (يوسف:72)، وقال تعالى:﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ
وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا
لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾
(يوسف:76)
ففي هذه السورة
كما سمعت لم يذكر لقب فرعون مع أن يوسف u عـاش في مصر.
وهذا بخلاف
التوراة التي تسمي ملك مصر في وقت يوسف u بفرعون[7].
والتاريخ يدل
على صحة ما ورد في القرآن الكريم، وهذا ما يدل على دقته العلمية[8].. فمن خلال حجر رشيد وتعرفنا على الكتابة الهيروغلوفية في أواخر
القرن التاسع عشر، وتعرفنا على تاريخ مصر في مطلع القرن الحالي بشكل دقيق عرفنا أن
حياة يوسف في مصر كانت أيام الملوك الرعاة (الهكسوس) الذين تغلبوا على جيوش
الفراعنة، وظلوا في مصر من 1730 ق.م إلى 1580 ق.م حتى أخرجهم أحمس الأول، وشكل
الدولة الحديثة (الإمبراطورية)
لذلك كان
القرآن دقيقاً جداً في اختيار كلماته، فلم يقع في الخطأ الذي وقعت فيه التوراة[9].
قال عبد القادر: ومن النبوءات الغيبية المرتبطة
بالزمن الماضي، والتي وردت في القرآن الكريم، والتي دل التاريخ على صدقها ما نص
عليه قوله تعالى:﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِم آيةٌ جَنَّتاَنِ
عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُم واشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ
طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ
وَبَدَّلْناَهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ
وَشَيءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾
(سبأ: 15-16)
فالله تعالى
يحكي في هذه الآيات خبرا من الزمن الماضي بدقة عالية[10]:
فهو يذكر ـ من
باب العبرة، لا من باب التأريخ ـ مجتمع سبأ الذي كان واحداً من أكبر أربع حضارات
عاشت في جنوبي الجزيرة العربية، فقد أسس السبأيون مجتمعهم ما بين 1000-750 قبل
الميلاد، وانهارت حضارتهم حوالي 550 بعد الميلاد، بسبب الهجمات التي دامت قرنين
والتي كانوا يتعرضون لها من جانب الفرس والعرب.
وقد عرف
السبئيون خلال التاريخ كقوم متحضرين، ويعتبر سد مأرب الذي كان أحد أهم معالم هذه
الحضارة، دليلاً واضحاً على المستوى الفني المتقدم الذي وصل إليه هؤلاء القوم.
وقد كان الجيش
السبئي من أقوى جيوش ذلك الزمان، وقد ضمن لحكامه امتداداً توسعياً جيداً، فقد
اجتاحت سبأ منطقة القتبيين، وتمكنت من السيطرة على عدة مناطق في القارة الإفريقية،
وفي عام 24 قبل الميلاد وأثناء إحدى الحملات على المغرب، هزم الجيش السبئي جيش
ماركوس إيليوس غالوس الروماني الذي كان يحكم مصر كجزء من الإمبراطورية الرومانية التي
كانت أعظم قوة في ذلك الزمن دون منازع.
وبذلك كانت سبأ
بجيشها وحضارتها المتقدمة من القوى العظيمة في ذلك الزمان.
لقد أشار
القرآن الكريم إلى القوة التي يتمتع بها جيش سبأ من خلال كلام قواد الجيش السبئي
مع ملكتهم في قولهتعالى:﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ
شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ (النمل: 33)
وقد كانت مأرب
هي عاصمة سبأ، وكانت غنية جداً، والفضل يعود إلى موقعها الجغرافي، كانت العاصمة
قريبة جداً من نهر الدهنا الذي كانت نقطة التقائه مع جبل بلق مناسبة جداً لبناء سد،
واستغل السبئيون هذه الميزة وبنوا سداً في تلك المنطقة حيث نشأت حضارتهم، وبدأوا
يمارسون الري والزراعة، وهكذا وصلوا إلى مستوى عال جداً من الازدهار.
وقد بلغ ارتفاع
سد مأرب 16 متراً وعرضه60 متراً وطوله 620 متراً، وهذا يعني حسابياً أنه يمكن أن يروي
9600 هكتاراً من الأراضي، منها 5300 في السهل الجنوبي، والباقي للسهل الشمالي، وقد
كان يشار إلى هذين السهلين في النقوش السبئية (مأرب والسهلان)، وهذا ما يشير إليه
التعبير القرآني بكل دقة ﴿ جَنَّتاَنِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾، فهي
تشير إلى وجود حدائق وكروم في هذين الواديين أو السهلين.
لقد تم إصلاح
هذا السد خلال القرنين الخامس والسادس للميلاد، إلا أن هذه الإصلاحات لم تمنع السد
من الانهيار عام 542 للميلاد.. وقد انهار السد بسبب سَيل العَرِمِ الذي ذكره
القرآن الكريم، والذي سَبَّبَ أضراراً بالغة، فقد هلكت كل البساتين والكروم
والحدائق ـ التي بقي السبئيون يرعونها لعدة قرون ـ على بَكْرَةِ أبيها، وبعد
انهيار السد عانى السبئيون من فترة ركود طويلة لم تقم لهم قائمة بعدها.
وهذه كانت
نهاية القوم التي بدأت مع انهيار السد.
وقد ذكر القرآن
الكريم أن العقاب الإلهي كان بإرسال (سَيْلَ العَرِمِ). وهذا التعبير القرآني
يخبرنا كيف وقعت الواقعة، فكلمة (عَرِم) تعني الحاجز أو السد.
وقد أقر الكاتب
وعالم الآثار المسيحي وورنر كيلر Werner Keller صاحب كتاب (الكتاب المقدس كان صحيحاً) أن سيل العرم قد حدث كما
ورد وصفه في القرآن الكريم، وأنه وقع في تلك المنطقة، وأن هلاك المنطقة بكاملها
بسبب انهياره، إنما يبرهن على أن المثال الذي ورد في القرآن الكريم عن قوم الجنتين
قد وقع فعلاً.
بعد وقوع كارثة
السد، بدأت أراضي المنطقة بالتصحر، وفقد قوم سبأ أهم مصادر الدخل لديهم مع اختفاء
أراضيهم الزراعية، وبدأ السبئيون يهجرون أراضيهم مهاجرين إلى شمالي الجزيرة، مكة
وسوريا.
لقد ذكر القرآن
الكريم كل هذه التفاصيل التاريخية بدقة معجزة..
التفت إلى
بولس، وقال: أليس ذلك ـ حضرة القس ـ نبوءة غيبية؟
سكت بولس، فقال
عبد القادر: ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بالزمن الماضي، والتي وردت في القرآن
الكريم، ولم ترد في الكتاب المقدس، والتي دل التاريخ على صدقها ما نص عليه قوله
تعالى:﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنُّذُرِ فَقَالُوآ أَبَشَرَاً مِّنَّا
وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ
عَلَيْهِ مِن بَيْنِناً بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ
الكَذَّابُ الأَشِرُ ﴾ (القمر: 23-26)
ففي هذه الآيات
القرآنية حديث عن قوم كذبوا واستهتروا بالنذر التي أرسلها الله إليهم، وقد سماهم
(ثمود)[11]
وهم لم يذكروا في
الكتاب المقدس، ولذلك جاء من يشكك في وجودهم، ويعتبر ذكر القرآن الكريم لهم ذكرا
للأساطير.
ولكن الأبحاث
والدراسات التاريخية والجيولوجية أظهرت أشياء كثيرة لم تكن معروفة قبل، مثل
المنطقة التي أقام بها قوم ثمود، والبيوت التي بنوها، ونمط الحياة التي كانوا يعيشونها،
بحيث أصبح التأريخ المرتبط بهم حقيقة تاريخية مؤيدة بالعديد من الكشوف الأثرية.
وقد كان أقدم
المصادر القديمة التي تشير إلى ثمود هي سجلات النصر التاريخية للملك البابلي
(سيرجيون الثاني) في القرن الثامن قبل الميلاد، والذي هزم هؤلاء القوم في إحدى
حملاته على شمالي الجزيرة العربية.
كما يشير
الإغريق إليهم على أنهم (تامودي) أي ثمود في كتابات أرسطو وبتولمي وبليني، وقد
اختفى هؤلاء القوم قبل محمد r بشكل كامل حوالي 400 -600 ميلادي.
وكثيرا ما يذكر
القرآن الكريم عاداً وثَمُوداً مقترنتين، بل إنه يُذَكِّر ثَمُوداً بعادٍ ويأمرهم
أن يتعظوا منهم، وهذا يعني أن ثَمُوداً كان لديها الكثير من المعلومات عن عاد، كما
قال تعالى:﴿ واذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُم خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ
مِن سُهُولِها قُصُوراً وتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوآ آلاءَ اللهِ
وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف: 74)
وقد كشفت
المصادر التاريخية أنه على الرغم من أن المسافة الجغرافية بين القومين مسافة هائلة
إلا أن هناك اتصالا وثيقا بينهما.
وتحت عنوان
(ثمود) كتبت الموسوعة البريطانية المصغرة:( قبيلة أو قبائل في الجزيرة العربية
القديمة يبدو أنها كانت من القبائل المشهورة، وبالرغم من أن منشأ ثمود هو جنوب
الجزيرة العربية، إلا أن مجموعة كبيرة منها انتقلت إلى الشمال في تاريخ مبكر
واستقرت على منحدرات جبل أثلب أن قوم ثمود الذين عاشوا بين الشام والحجاز يعرفون تحت
اسم (أصحاب الحجر)، لقد كشفت الحفريات الأثرية عن كتابات حجرية وصور ثمودية ضخمة
ليس عند جبل أثلب فحسب، بل عبر وسط الجزيرة العربية أيضاً)[12]
قال عبد
القادر: ومن النبوءات الغيبية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم نبوءات الحاضر..
استغربت كثيرا
لبولس عندما ارتفع صوته بالضحك، وأراد أن يضحك الحضور، فقال، والقهقهة ملء فمه:
غيب الحاضر!؟.. إن هذا لعجيب.. متى كان الحاضر غيبا، ونحن نراه ونلمسه ونعيشه..
وقد يكون رائحة طيبة، فنشمها!؟
أبدى الحضور
استغرابا لضحكات بولس، ولم يبادلوه ما طلبه منهم غير مستأجره الذي راح يضحك في
هستيرية متكلفة.
قال عبد
القادر: ما دام الأمر كذلك، فأخبرني ما الذي أخبئه في جيبي هذا.
سكت بولس، ولم
يحر جوابا، وامتلأت أفواه الحاضرين بالضحك.
قال عبد
القادر: لقد ذكر القرآن الكريم هذا النوع من الغيب عن المسيح u،
فقال تعالى:﴿ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ
بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ
بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران:49)، فقد أخبر المسيح u
أن من دلائل نبوته إخبارهم بما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم.
وقبل ذلك ذكر الله
تعالى هذا النوع من الإعجاز عن يوسف u، فقد ذكر على لسانه قوله:﴿ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ
تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا
ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ (يوسف: من الآية37)
وعلى مثال هذين
النبيين الكريمين وردت نبوءات قرآنية عن الحاضر.. سأقتصر عن ذكر بعض النماذج عنها
هنا:
منها أن النبي r
أسر إلى بعض أزواجه أنه قد حرم على نفسه شرب العسل الذي عند بعض نسائه لما ظن أن
فيه رائحة غير مستحسنة، وأمرها أن لا تخبر بذلك أحداً، فأخبرت بعض نسائه بذلك،
فأطلعه الله على ذلك وأخبرها به، فسألته عمن أخبره بذلك الغيب فأخبرها أنه الله
سبحانه. قال تعالى:﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ
حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ
وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا
قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ (التحريم:3)
ومنها ما كان
يخفيه المنافقون من بغضهم للإسلام وطعنهم فيه، فيطلع الله عليه نبيه، وكان
المنافقون يعلمون ذلك، ويخشون أن ينزل القرآن ببيان ما أسروا في قلوبهم، كما قال
تعالى:﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ
تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ
مَا تَحْذَرُونَ ﴾ (التوبة:64)
ومما حكاه الله
تعالى عن كذب المنافقين في اعتذارهم في التخلف عن الجهاد:﴿ يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ
لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ (التوبة:94)
وقد روي أن
أحدهم قال في النبي r كلمةً كفر بها، حيث كان النبي يخطب، فقال المنافق:( إن كان هذا
صادقاً لنحن شر من الحمير )، فقال زيد بن أرقم: هو والله صادق وأنت شر من الحمار،
ولما نقلت كلمته إلى النبي r جحدها، فنزل القرآن الكريم بإثبات تلك الكلمة عليه، قال تعالى:﴿
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ
وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ..﴾ (التوبة:74)
بل كان الوحي
يكشف للرسول r ما يدور بعيداً عنه مما يحاك حوله وما يدور في خفايا النفوس.
قال عبد القادر:
نكتفي بهذه الأمثلة.. ولننتقل إلى غيب المستقبل، فهو المقصود عند الإطلاق، وسأذكر
بعض الأمثلة عنه من باب الاختصار.
ولنبدأ
بالروم.. وقبل أن أقرأ عليكم الآيات الواردة في هذه النبوءة، أطلب من مؤرخ جالس
معنا هنا أن يقوم إلى المنصة، ويحدثنا عن الفرس والرومان في عهد محمد r..
لاشك أنكم تعرفونه جميعا، فلا ينبغي أن نتحدث عن التاريخ، والمؤرخ معنا.
قام رجل من
القاعة، وقال: أنا لا علاقة لي بأي دين من الأديان.. ولكني سأجيبك على ضوء
التاريخ.. والتاريخ وحده [13].
كانت
الامبراطورية الفارسية تقع شرقي الجزيرة العربية، علي الساحل الآخر للخليج العربي،
علي حين كانت الامبراطورية الرومانية تمتد من غربي الجزيرة علي ساحل البحر الأحمر
إلي ما فوق البحر الأسود.
وقد سميت
الأولى ـ أيضا ـ بالإمبراطورية الساسانية، والأخرى بالبيزنطية، وكانت
الإمبراطوريتان تصلان إلي الفرات ودجلة، في شمال الجزيرة العربية، وكانتا أقوى
حكومتين شهدهما ذلك العصر.
ويبدأ تاريخ
الامبراطورية الرومانية في القرن الثاني بعد الميلاد، وكانت تتمتع حينئذ بمكانتها
كأرقي دولة حضارية في العالم.
وقد شغل
المؤرخين تاريخ زوال الروم، كما لم يشغلهم زوال أية حضارة أخرى، وليس يغني كتاب من
الكتب التي ألفت حول هذا الموضوع عن الكتب الأخرى، ولكن يمكن اعتبار كتاب المؤرخ
(إدوارد جبن﴾ (تاريخ سقوط واندحار الامبراطورية الرومانية) أكثرها تفصيلا
وثقة، وقد ذكر المؤرخ في الجزء الخامس من كتابه الوقائع المتعلقة بهذا الموضوع،
فذكر أن الملك (قسطنطين) اعتنق الدين المسيحي عام325م، وجعله ديانة البلاد
الرسمية، فآمنت بها أكثرية رعايا الروم، وعلي الجانب الآخر، رفض الفرس هذه الدعوة.
وكان الملك
الذي تولى الامبراطورية الرومانية في أواخر القرن السادس الميلادي هو (موريس)،
وكان ملكا غافلا عن شئون البلاد والسياسة، ولذلك قاد جيشه ثورة ضده، بقيادة (فوكاسPhocas ) وأصبح فوكاس ملك الروم، بعد نجاح الثورة والقضاء علي العائلة
الملكية بطريقة وحشية؛ وأرسل سفيرا له إلى إمبراطور إيران (كسري أبرويز الثاني)،
وهو ابن (أنو شيروان) العادل.
وكان (كسري)
هذا مخلصا للملك (موريس) إذ كان قد لجأ إليه عام590-591م، بسبب مؤامرة داخلية في
الامبراطورية الفارسية، وقد عاونه (موريس) بجنوده لاستعادة العرش.
ومما يروي أيضا
أن (كسري) تزوج بنت (موريس)، أثناء إقامته بلاد الروم، ولذلك كان يدعوه (بالأب).
ولما عرف
بأخبار انقلاب الروم، غضب غضبا شديدا، وأمر بسجن السفير الرومي وأعلن عدم اعترافه
بشرعية حكومة الروم الجديدة.
وأغار (كسري
أبرويز) علي بلاد الروم وزحفت جحافله عابرة نهر الفرات إلي الشام، ولم يتمكن
(فوكاس) من مقاومة جيوش الفرس التي استولت علي مدينتي (أنطاكية والقدس) فاتسعت
حدود الامبراطورية الفارسية فجأة إلي وادي النيل، وكانت بعض الفرق المسيحية
كالنسطورية واليعقوبية حاقدة علي النظام الجديد في روما فناصرت الفاتحين الجد
وتبعها اليهود مما سهل غلبة الفرس.
وأرسل بعض
أعيان الروم رسالة سرية إلي الحاكم الرومي في المستعمرات الإفريقية، يناشدونه إنقاذ
الامبراطورية، فأرسل الحاكم جيشا كبيرا بقيادة ابنه الشاب (هرقل)، فسار بجيشه في
الطريق البحرية، بسرية تامة حتي أن (فوكاس) لم يدر بمجيئهم إلا عندما شاهد
الأساطيل، وهي تقترب من السواحل الرومانية، واستطاع هرقل ـ دون مقاومة تذكر ـ أن
يستولي علي الامبراطورية، وقتل (فوكاس) الخائن.
بيد أن هرقل لم
يتمكن ـ برغم استيلائه علي الامبراطورية وقتله (فوكاس) ـ من إيقاف طوفان الفرس،
فضاع من الروم كل ما ملكوا من البلاد في شرقي العاصمة وجنوبيها، ولم يعد العلم
الصليبي يرفرف علي العراق والشام وفلسطين ومصر وآسيا الصغرى، بل علتها راية الفرس.
وتقلصت
الامبراطورية الرومانية في عاصمتها، وسدت جميع الطرق في حصار اقتصادي قاس ؛ وعم
القحط ؛ وفشت الأمراض الوبائية ؛ ولم يبق من الإمبراطورية غير جذور شجرها العملاق.
وكان الشعب في
العاصمة خائفا يترقب ضرب الفرس للعاصمة، ودخولهم فيها؛ وترتب علي ذلك أن أغلقت
جميع الأسواق، وكسدت التجارة، وتحولت معاهد العلم والثقافة إلي مقابر موحشة
مهجورة.
وبدأ الفرس
يستبدون بالرعايا الروم للقضاء علي المسيحية، بل بدأوا يسخرون علانية من الشعائر الدينية
المقدسة، ودمروا الكنائس، وأراقوا دماء ما يقرب من100,000من المسبحين، وأقاموا
بيوت عبادة النار في كل مكان، وأرغموا الناس علي عبادة الشمس والنار واغتصبوا
الصليب، وأرسلوه إلى (المدائن)
يتحدث المؤرخ
(جبن) عن كل هذا، ثم يقول:( ولو كانت نوايا (كسرى) طيبة في حقيقة الأمر لكان اصطلح
مع الروم بعد قتلهم (فوكاس) ولاستقبل (هرقل) كخير صديق أخذ بثأر حليفه وصاحب نعمته
(موريس)، بأحسن طريقة ؛ ولكنه أبان عن نواياه الحقيقية عندما قرر مواصلة الحرب )
ويمكن قياس
الهوة الكبرى التي حدثت بين الروم والفرس من خطاب وجهه (كسرى) إلي (هرقل) من بيت
المقدس قائلا:( من لدن الإله كسري الذي هو أكبر الآلهة وملك الأرض كلها، إلي عبده
اللئيم الغافل: هرقل: إنك تقول: إنك تثق في إلهك! فلماذا لا ينقذ إلهك القدس من
يدي!؟ )
واستبد اليأس
والقنوط بهرقل من هذه الأحوال السيئة وقرر العودة إلي قصره الواقع في (قرطاجنة)
علي الساحل الإفريقي، فلم يعد يهمه أن يدافع عن الامبراطورية، بل كان شغله الشاغل
إنقاذ نفسه، وأرسلت السفن الملكية إلي البحر، وخرج (هرقل) في طريقه ليستقل إحدي
هذه السفن إلي منفاه الاختياري.
وفي هذه الساعة
الحرجة تحايل كبير أساقفة الروم باسم الدين والمسيح، ونجح في إقناع (هرقل) بالبقاء
وذهب (هرقل) مع الأسقف إلي قربان (سانت صوفيا) يعاهد الله تعالى علي أنه لن يعيش
أو يموت إلا مع الشعب الذي اختاره الله له.
وبإشارة من
الجنرال الإيراني سين(Sain) أرسل (هرقل)
سفيرا إلي كسري) طالبا منه الصلح ؛ ولكن لم يكد القاصد الرومي يصل إلي القصر، حني
صاح (كسري) في غضب شديد:( لا أريد هذا القاصد.. وإنما أريد (هرقل) مكبلا بالأغلال
تحت عرشي ؛ ولن أصالح (الرومي) حني يهجر إلهه الصليبي ويعبد الشمس إلهتنا1 )
وبعد مضي ستة
أعوام علي الحرب، رضي الإمبراطور الإيراني أن يصالح (هرقل)علي شروط معينة هي أن
يدفع ملك الروم ألف تالنت من الذهب، وألف تالنت من الفضة، وألف ثوب من الحرير،
وألف جواد، وألف فتاة عذراء.
ويصف (جبن) هذه
الشروط بأنها (مخزية) دون شك، وكان من الممكن أن يقبلها (هرقل)، لولا المدة
القصيرة التي أتيحت له لدفعها من المملكة المنهوبة، والمحدودة الأرجاء، ولذلك آثر
أن يستعمل هذه الثروة كمحاولة أخيرة ضد أعدائه.
قاطع عبد
القادر المؤرخ قائلا: اسمح لي بأن أقاطعك بكلمة موجزة، ثم أدعك تواصل حديثك..
في ذلك الوقت
الذي سيطرت فيه علي العاصمتين الفارسية والرومية هذه الأحداث سيطرت علي شعب العاصمة
المركزية في شبه الجزيرة العربية، وهي مكة المكرمة مشكلة مماثلة، فقد كان الفرس
مجوسا من عباد الشمس والنار، وكان الروم من المؤمنين بالمسيح، وبالوحي، وبالرسالة،
وبالله تعالي.
وكان المسلمون
ـ نفسيا ـ مع الروم يرجون غلبتهم علي الكفار والمشركين كما كان كفار مكة مع الفرس،
لكونهم من عباد المظاهر المادية، وأصبح الصراع بين الفرس والروم رمزا خارجيا
للصراع الذي كان يدور بين أهل الإسلام وأهل الشرك في (مكة).
وبطريقة نفسية كانت كل من الجماعتين تشعر بأن
نتيجة هذا الصراع الخارجي هي نفس مآل صراعهما الداخلي، فلما انتصر الفرس علي الروم
عام616م، واستولوا علي جميع المناطق الشرقية من دولة الروم انتهزها المشركون فرصة
للسخرية من المسلمين، قائلين: لقد غلب إخواننا علي إخوانكم، وكذلك سوف نقضي عليكم،
إذا لم تصطلحوا معنا تاركين دينكم الجديد، وكان المسلمون بمكة في أضعف وأسوأ أحوالهم
المادية، وفى تلك الحالة البائسة نزل القرآن الكريم بتلك النبوءة العجيبة ليقول:﴿
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ
وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ
يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)﴾(الروم)
التفت عبد
القادر إلى المؤرخ، وقال: اسمح لي حضرة المؤرخ على هذه المقاطعة، واسمح لي ـ كذلك
ـ أن أسألك هذا السؤال: لوكنت في عهد محمد، وفي ذلك الوقت.. هل كنت تستطيع أن
تتنبأ كما تنبأ القرآن بهذه النبوءة، مع أنك لست مضطرا إليها.
قال المؤرخ:
لا.. فلم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعا، لأن السنين الاثنتي عشرة الأولى من حكومة
(هرقل) كانت تؤذن بانتهاء الإمبراطورية الرومانية.
إن التنبأ بها
كالتنبؤ بقيام الدولة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية في سنوات محدودة
لتتغلب على جميع أعدائها.
قال عبد
القادر: فكيف قامت الإمبراطورية الرومانية بعد ذلك السقوط؟
قال المؤرخ:
لقد حدث (جبن) عن ذلك، فقال:( إنها من أبرز البطولات التاريخية، تلك التي نراها في
(هرقل)، فقد ظهر هذا الإمبراطور غاية في الكسل والتمتع بالملذات وعبادة الأوهام في
السنين الأولى والأخيرة من حكومته، كان يبدو كما لو كان متفرجا أبله، استسلم
لمصائب شعبه، ولكن الضباب الذي يسود السماء ساعتي الصباح والمساء، يغيب حينا من
الوقت لشدة شمس الظهيرة، هذا هو ما حدث بالنسبة إلي هرقل، فقد تحول (أرقاديوس
القصور) إلى (قيصر ميدان الحرب) فجأة، واستطاع أن يستعيد مجد الروم خلال ست حروب
شجاعة شنها ضد الفرس.
وكان من واجب
المؤرخين الروم أن يزيحوا الستار عن الحقيقة، تبيانا لأسرار هذه اليقظة والنوم،
وبعد هذه القرون التي مضت يمكننا الحكم بأنه لم تكن هناك دوافع سياسية وراء هذه
البطولة، بل كانت نتيجة غريزة هرقل الذاتية، فقد انقطع عن كافة الملذات، حني إنه
هجر ابنة أخته (مارتينا) التي تزوجها لشدة هيامه بها، رغم أنها كانت محرمة عليه.
إن هرقل ـ ذلك
الملك الغافل الفاقد العزيمة ـ وضع خطة عظيمة لقهر الفرس، وبدأ في تجهيز العدة
والعتاد، ولكن رغم ذلك كله، عندما خرج هرقل مع جنوده بدا لكثيرين من سكان
(القسطنطينية) أنهم يرون آخر جيش في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية.
وكان هرقل يعرف
أن قوة الفرس البحرية ضعيفة، ولذلك أعد بحريته للإغارة علي الفرس من الخلف، وسار
بجيوشه عن طريق البحر الأسود إلي (أرمينيا)، وشن علي الفرس هجوما مفاجئا في نفس
الميدان الذي هزم فيه الأسكندر جيوش الفرس، لما زحف علي أراضي مصر والشام. ولم
يستطع الفرس مقاومة هذه الغارة المفاجئة فلاذوا بالفرار.
وكان الفرس
يملكون جيشا كبيرا في (آسيا الصغرى)، ولكن (هرقل) فاجأهم بأساطيله مرة أخري، وأنزل
بهم هزيمة فادحة، وبعد إحراز هذا النصر الكبير عاد (هرقل) إلي عاصمته
(القسطنطينية) عن طريق البحر، وعقد معاهدة مع الأفاريين(Avars) واستطاع
بنصرتهم أن يسد سيل الفرس عند عاصمتهم.
وبعد تينك
الحربين قامت ثلاثة حروب أخرى ضد الفرس في سنوات 623،624، 625 م، واستطاع أن ينفذ إلي أراضي العراق القديم (ميسو
بوتانيا) عن طريق البحر الأسود، واضطر الفرس إلي الانسحاب من جميع الأراضي
الرومية، نتيجة هذه الحروب، وأصبح (هرقل) في مركز يسمح له بالتوغل في قلب
الإمبراطورية الفارسية، وكانت آخر هذه الحروب المصيرية، تلك الحرب التي خاضها
الفريقان في (نينوى علي ضفاف (دجلة) في ديسمبر عام627م.
ولما لم يستطع
(كسري أبرويز) مقاومة سيل الروم، حاول الفرار من قصره الحبيب (دستكرد)، ولكن ثورة
داخلية نشبت في الإمبراطورية، واعتقله ابنه (شيرويه)، وزج به في سجن داخل القصر
الملكي حيث لقي حتفه لسوء الأحوال في اليوم الخامس من اعتقاله، وقد قتل ابنه
(شيرويه) ثماني عشرة من أبناء أبيه (كسري) أمام عينيه.
ولكن (شيرويه)
هو الآخر لم يستطع ان يجلس علي العرش أكثر من ثمانية أشهر، حيث قتله أحد أشقائه،
وهكذا بدأ القتال داخل البيت الملكي، وتولى تسعة ملوك زمام الحكم في غضون أربعة
أعوام.
ولم يكن من
الممكن أو المعقول في هذه الأحوال السيئة، أن يواصل الفرس حربهم ضد الروم، فأرسل
(قباد الثاني) ابن كسري أبرويز الثاني يرجو الصلح، وأعلن تنازله عن الأراضي
الرومية، كما أعاد الصليب، ورجع (هرقل) إلي عاصمته (القسطنطينية) في مارس عام 628م
في احتفال رائع، حيث كان يجر مركبته أربعة أفيال، واستقبله آلاف مؤلفة من الجماهير
خارج العاصمة وفي أيديهم المشاعل وأغصان الزيتون.
قال عبد
القادر: وهكذا صدق القرآن الكريم عن غلبة الروم في مدته المقررة، أي في أقل من عشر
سنين، كما هو المراد في لغة العرب من كلمة: (بضع)
قال المؤرخ:
لقد ذكر جين هذا، وقد أبدى حيرته وإعجابه بهذه النبوءة ولكنه كي يقلل من أهميتها
ربطها برسالة النبي r إلى (كسرى).. لقد قال:( وعندما أتم الإمبراطور الفارسي نصره علي
الروم وصلته رسالة من مواطن خامل الذكر، من (مكة) دعاه إلي الإيمان بمحمد، رسول
الله، ولكنه رفض هذه الدعوة ومزق الرسالة وعندما بلغ هذا الخبر رسول العرب، قال:
سوف يمزق الله دولته تمزيقا وسوف يقضي علي قوته[14])
ويقول:( ومحمد الذي
جلس في الشرق علي حاشية الإمبراطورتين العظيمتين طار فرحا مما سمع عن تصارع
الإمبراطوريتين وقتالهما، وجرؤ في إبان الفتوحات الفارسية وبلوغها القمة أن يتنبأ
بأن الغلبة تكون لراية الروم بعد بضع سنين، وفي ذلك الوقت، حين ساق الرجل هذه
النبوءة، لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعا لأن الأعوام الاثني عشر الأولى من
حكومة هرقل كانت تشي بنهاية الإمبراطورية الرومانية )
لكن مع ذلك،
فإن جميع مؤرخي الإسلام يعرفون معرفة تامة أن هذه النبوءة لا علاقة لها بالرسالة
التي وجهها محمد إلى (كسرى أبرويز)، لأن تلك الرسالة إنما أرسلت في العام السابع
من الهجرة، بعد صلح الحديبية، أي عام 628م، في حين أن آية النبوءة المذكورة نزلت
بمكة عام616م، أي قبل الهجرة بوقت طويل، فبين الحدثين فاصل يبلغ اثني عشر عاما.
قال عبد
القادر: وفوق هذا، فقد ورد في الآيات التي تحدثت عن هذه النبوءة نبوءة علمية أخرى
لا تقل شأنا، وهي الإشارة إلى أن أدنى بقعة في الأرض هو تلك المنطقة التي حصلت
فيها تلك الحرب.
فقد أكدت
الدراسات الحديثة أن منطقة حوض البحر الميت، بالإضافة إلى كونها أقرب الأراضي
التي كان الروم يحتلونها إلى الجزيرة العربية هي أيضا أكثر أجزاء اليابسة انخفاضاً،
حيث يصل منسوب سطح الأرض فيها إلى حوالي أربعمائة متر تحت متوسط مستوى سطح البحر.
فقد ثبت علمياً
بقياساتٍ عديدةٍ أن أكثر أجزاء اليابسة انخفاضاً هو غور البحر الميت، ويقع البحر
الميت في أكثر أجزاء الغور انخفاضاً، حيث يصل مستوى منسوب سطحه إلى حوالي أربعمائة
متر تحت مستوى سطح البحر، ويصل منسوب قاعه في أعمق أجزة الثمانمائة متر تحت مستوى
سطح البحر.
قال عبد
القادر: لو توقف الأمر عند هذه النبوءة لاعتبرنا الأمر مجرد صدفة.. ولكن النبوءات
تتوالى لتحيل هذا الاحتمال..
وقد ذكر لكم
حضرة القس الفاضل الحسابات المرتبطة بذلك.. ولن أعيدها هنا، فأنا مثله أقر بالمنطق
الرياضي الذي يقر به.
سأذكر لكم الآن
شيئا يعتبر في حد ذاته نوعا خطيرا من الإعجاز يتمثل في نبوءة خطيرة من النبوءات
القرآنية.
أنتم تعلمون أن
النبي r مكث عشر سنوات من عمر دعوته ـ هو وأصحابه الذين آمنوا معه ـ في
اضطهاد وتعذيب، وتنفير للناس عنه، ومقاطعته هو وعشيرته، ثم محاصرتـهم لعدة سنوات
الحصار المعروف في السيرة بحصار الشعب، بل ومحاولة قتله…
لقد ذكر القرآن
الكريم كل تلك المعاناة التي كان يعانيها النبي r وأصحابه، فالله تعالى يقول:﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً
أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ
الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ
الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ (يونس:2)، ويقول:﴿
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ
يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا
أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (هود:12)، ويقول:﴿
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ (الرعد:43)،
ويقول:﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ
إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ (الحجر:6)، ويقول:﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ
إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ (القلم:51)
في هذه الأوضاع، ومع كل التضييق والمعاناة التي
كان يجدها النبي r وأصحابه، كانت تنزل الآيات الكريمة على النبي r
بأن هذا الدين سيظهر على سائر الأديان وسيمكن لأتباعه، وسيبقى هذا القرآن محفوظاً
من العاديات أبد الدهر، فقد كتب الله لهذا الدين البقاء والخلود، ولهذا الكتاب
الحفظ والصيانة رغم كيد الأعداء ومكرهم.
اسمعوا هذه
النبوءات العظيمة التي لم تزدها الأيام إلا تأكيدا:
يقول الله
تعالى:﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا
فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي
النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا
مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ
الْأَمْثَالَ﴾ (الرعد:17)، ويقول:﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر:9)
ويقول هذه
الآية العظيمة التي تندك لهولها الجبال:﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة:33)
بل إنه في ذلك
الواقع الخطير يتنزل القرآن يعد تلك الطائفة المؤمنة بالتمكين في الأرض، فالله
تعالى يقول:﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا.. ﴾ (النور:55)
لتعرف قيمة هذه
النبوءة، اقرأ كتب التاريخ لترى كيف كان محمد r، وكيف كانت الثلة المؤمنة التي معه، وما هي الظروف التي كانوا
يعانونها، وهل يمكن لشخص في ظل تلك الظروف أن يجازف بمثل هذه الوعود، ثم يذكر لها
آجالا قريبة لا تتعدى الجيل الأول الذي تنزلت عليه تلك الآيات.
قال عبد القادر:
ليس ذلك فقط.. بل إن الله تعالى يتحدى كل تلك الأساطيل المعدة لرسول الله r
من اليهود والمشركين والمنافقين من أن تقوم بشيء يقضي على حياته، أو يسد أبواب
دعوته.
لقد أنزل الله
تعالى على نبيه r يطمئنه في ذلك الوقت من أنه سيعصمه من الناس، قال تعالى:﴿
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ
اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة:67)
وقد أخبرت
عائشة - رضي الله عنها – عن مدى التأثير الذي أحدثته هذه الآية، فقالت: كان النبي r
يُحرس حتى نزلت ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾، فأخرج رسول
الله r رأسه من القبة، فقال:( يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله )
وقد ذكرت كتب
السيرة الشواهد الكثيرة على عصمة الله لنبيه r في مواطن كثيرة كان خطر الموت فيها أقرب إليه من شراك نعله، ولم
يكن له فيها عاصم إلا الله وحده.
ومن ذلك ما
رواه جابر t قال: كنا إذا أتينا في سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله r،
فلما كنا بذات الرقاع نزل نبي الله تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل من
المشركين، فأخذ السيف فاخترطه، وقال للنبي r: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك، ضع
السيف، فوضعه.
قال عبد
القادر: ليس ذلك فقط، بل إن القرآن الكريم، وفي ظل الظروف الشديدة التي كان يعيشها
المسلمون في مكة المكرمة يتنزل على رسول الله r ليخبر بهزيمة المشركين المناوئين لرسول الله r،
وأنهم سيولون الدبر، قال تعالى:﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ﴾ (القمر:45)
فهذه الآية من
سورة القمر، وهي سورة مكية، وقد نزلت في وقت كان أذى المشركين يزداد يوماً بعد يوم
على النبي r وأصحابه.
يقول عمر بن
الخطاب t:كنت أقرأ قوله تعالى:﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ﴾ (القمر:45)، فأقول: أي جمع هذا وأية هزيمة إلى أن كان يوم بدر،
رأيت رسول الله r يثب في الدرع وهو يقول ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)، فعرفت تأويلها يومئذ )[15]
فقد تحققت تلك
النبوءة القرآنية بعد سنوات من نزول الآية، يوم بدر أي في السنة الثانية من
الهجرة.
قال عبد
القادر: ليس ذلك فقط.. بل إن القرآن الكريم يعد المسلمين بفتح مكة ـ وهي المدينة
العاصمة التي أخرجت رسول الله r والثلة التي معه ـ على إثر صلح الحديبية، فقد كان ظاهر الصلح
إجحافا بحق المسلمين، حتى تساءل المسلمون: أليس رسول الله حقاً!؟.. علام نعطي
الدنية في ديننا إذن!؟
وفي طريق
رجوعهم من مكة نزلت عليه سورة الفتح تبشره بهذا الفتح:﴿ إِنَّا فَتَحْنَا
لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾ (الفتح:1)، وفيها قوله تعالى:﴿ لَقَدْ
صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ
لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً
قَرِيباً﴾ (الفتح:27)
قال عبد
القادر: ليس ذلك فقط.. بل إن القرآن الكريم يخبر المسلمين بما سيلاقونه من حروب،
وبما سيتنزل عليهم من فتوحات، فقال تعالى:﴿ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ
الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ
أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾
(الفتح:16)
فهذه الآية
الكريمة تخاطب الأعراب من حول المدينة الذين تخلف كثير منهم، ولما رجع رسول الله r
جاءوا يعتذرون إليه، فنزلت الآية تخبرهم بما ينتظرهم من حروب تتطلب أن يفوا بما
يعدون به من عدم الخلف.
وقد حصل ذلك
مباشرة بعد وفاة النبي r، حيث انطلقت جيوش الإسلام في عهد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -
ففتحت الشام ومصر والعراق، وغيرها من بلاد الإسلام.
قال عبد
القادر: ليس ذلك فقط.. بل إن القرآن الكريم يقرر أن أشخاصاً معينين بأسمائهم لن
يسلموا، وأنهم سيموتون على الكفر، وكان بإمكانهم أن يكذبوا القرآن، ولو تظاهروا
بالإسلام تظاهراً، ولكنهم لم يخرجوا عما قرره القرآن في حقهم، بالرغم من إسلام
الأعداد الكثيرة ممن كانوا أشد الناس عداوةً له.
ومن ذلك ما
ذكره القرآن الكريم عن أبي لهب من أنه من أهل النار، قال تعالى:﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)مَا
أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2)سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(3)﴾
(المسد)
ومثل ذلك
إخباره عن الوليد بن المغيرة أنه سيصلى النار، قال تعالى:﴿ ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ
شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ
وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا
إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ
(27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا
تِسْعَةَ عَشَرَ (30)﴾ (المدثر)
فقد نزلت هذه
الآيات في الوليد بن المغيرة، فقد روي أنه جاء إلى النبي r، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام، فأتاه
فقال: أي عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟ قال: يعطونكه، فإنك أتيت
محمدًا تَتَعَرض لما قبله. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا
يعلم قومك أنك منكر لما قال، وأنك كاره له. قال: فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم
رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه
الذي يقوله شيئًا من ذلك. والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته،
وإنه ليعلو وما يعلى. وقال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر
فيه. فلما فكر قال: إن هذا سحر يأثره عن غيره. فنزلت ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴾ حتى بلغ ﴿تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [16]
وغيرهم من رؤوس
الكفر والنفاق، ولكن أحدا منهم لم يفطن لأن يخالف ما ورد في القرآن الكريم من
الوعيد المرتبط به.
والقرآن الكريم
يذكر سر ذلك، فيقول:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
(لأنفال:24)، ويقول:﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾
(القصص:56)
قال عبد
القادر: ليس ذلك فقط.. بل إن القرآن الكريم يقرر سننا ترتبط بالتاريخ جميعا، كان
يمكن لمن أراد أن يكذب القرآن الكريم أن يتحداها، ولكنه لا يملك إلا أن ينصاع لها،
ومن ذلك ما ورد في شأن اليهود، فقد قال تعالى في تحد معجز:﴿ وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ
يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (لأعراف:167)
فقد تعرض
اليهود ـ نتيجة لفسادهم وكفرهم وصدهم عن سبيل الله ـ إلى نكبات وقتل وتشريد في
جميع الفترات التاريخية إلى عصرنا الحاضر.
فمن يطالع
تاريخ اليهود يجد أنهم قد جرت عليهم أكثر من مقتلة في على يد الرومان، والإنجليز
والألمان.
هنا وجد بولس
الفرصة، وقال: لقد كذب القرآن في هذه النبوءة، فأنتم ترون اليهود اليوم، وما
يتمتعون به من سلطان وعزة في العالم أجمع.
ابتسم عبد
القادر، وقال: لقد ذكر القرآن الكريم ذلك أيضا، وبين سره، فقال تعالى:﴿
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ
وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ﴾ (آل عمران:112)
فقد ذكر الله
تعالى في هذه الآية أن اليهود لا يخرجون عن بعض الذلة التي طبعوا عليها بسبب
ذنوبهم إلا بسند يحميهم.
قام رجل من
الجمع، وقال: صدق القرآن في هذا.. وقد تتبعت تاريخ اليهود، فلم أر الذلة رفعت عنهم
إلا بسند يستندون إليه.. فهم قوم انتهازيون وصوليون، يتملقون الأقوياء ويتحالفون
معهم من أجل خدمة أهدافهم.
وسأذكر لكم
خلاصة ما ذكرته التواريخ [17]:
عندما ظهر قورش
الفارسي في بلاد فارس، وأصبح قوة جبارة،
ساعده اليهود واعتبروه مخلصاً ربانياً لهم، بل وصفوه بالمسيح المنتظر، كما جاء في سفر
أشعيا:( هكذا يقول الرب لمسيحه، لقورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمماً، وأحل
أحزمة ملوك، لأفتح أمامه المصراعين، فلا تغلق الأبواب، إنني أمشي أمامك، وأمهد
الهضاب، وأحطم مصراعي النحاس، وأكسر مزاليج الحديد، وأعطيك مكنونات الكنوز وذخائر
المخابئ، حتى تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك، لقبتك وأنت لا تعرفني )
وقد قدم قورش
هذا وعداً لليهود بالعودة إلى فلسطين، على نفس الطريقة التي صدر بها وعد بلفور.
وعندما كانت
العلاقات بين الكلدانيين والمصريين متوترة، ومرشحة للاصطدام، قدر اليهود أن النصر
سيكون حليف المصريين، لذلك سارعوا للتحالف معهم، وخالفهم في ذلك النبي (أرميا)،
فقد كان اعتقاده أن النصر سيكون من نصيب بختنصر وجيشه.
ولما انتصر جيش
بختنصر، اقتحم بختنصر القدس وساق اليهود أسرى إلى بابل، وقَدَر للنبي (أرميا)
موقفه فترك له الحرية في البقاء أو الهجرة.
وحين برز المسلمون
كقوة عالمية سارع اليهود للتحالف معهم وكسب ودهم،
بل راحوا يتجسسون لهم على الروم وغيرهم.
وفي الأندلس
استقبلوا المسلمين، فلما خرجوا منها كانوا معهم، واستقروا في أقطار المغرب وتركيا،
فلما أفل نجم المسلمين، راحوا يتجسسون عليهم لمصلحة الاستعمار الغربي، بل راحوا
يغرونه بالغزو.
وحين سطع نجم
هولاكو في المشرق كاتبه يهود بغداد وحالفوه وقدموا له المال والمشورة، قبل أن يصل إلى بغداد، فلما دخلها وقتل الخليفة ومليوناً من المسلمين
سلم اليهود، فلم يقتل منهم أحد، كما سلمت أموالهم من النهب والسلب.
وفي العصر
الحديث ابتدأ رهانهم على فرنسا فحالفوها، وراحوا يتعلمون الفرنسية، ويعملون في
خدمة النفوذ الفرنسي، فلما برزت إنكلترا
قوة جديدة، تحولوا إليها وربطوا مصيرهم بها، وراحوا يغرون الإنكليز باستعمار
فلسطين وغيرها، واتخذوا من لندن مقراً لحركتهم ونشاطهم، فلما توحدت ألمانيا وبرزت
قوة سياسية، تركوا لندن، توجهوا إلى برلين، وقام بعضهم بترجمة التوراة للألمانية،
كما راحوا يتعلمون الألمانية، ويعقدون المؤتمرات هناك، ويكتبون بالألمانية كافة
القرارات، وبقي الحال هكذا حتى بعد ظهور هتلر، حيث ظلوا على صلة به، يحاولون
استثمار كرهه للمساعدة في الهجرة إلى فلسطين.
وقد كشف مؤلف
كتاب (الصهيونية في زمن الدكتاتورية) ـ وهو اليهودي ليني برينر ـ عن وثيقة باسم
(أنقرة)، وفيها أدلة على اتصال الإرهابي (شتيرن) صاحب العصابة التي حملت اسمه، وقد
قام بالاتصال أولاً بالفاشيين الإيطاليين ثم جانبهم، بشرط المساعدة على قيام دولة
إسرائيل، وكان هذا عام 1940 حين كان نجم (المحور) في صعود وانتصاراتهم تدوي في
العالم، وخسارتهم للحرب تبدوا بعيدة جداً.
ويوم أن قام
هتلر بإغلاق النوادي اليهودية، ومصادرة صحفها، استثنى الصحف الصهيونية، حيث استمرت
على الكتابة والنشر، وهذه الصلة صار البحث فيها، من المحرمات، ومن يبحث فلن يجد
داراً تنشر له، لأن سيف الإرهاب الصهيوني مسلط فوق الرؤوس في الغرب.
ثم تحولوا بعد
ذلك إلى لندن وحالفوا الإنكليز.
وبعد الحرب
العالمية الثانية أدركوا أن مركز القوة قد تحول إلى أمريكا، فتوجهوا إلى هناك،
رامين بثقلهم المالي والإعلامي والتنظيمي.
قال عبد
القادر: وزيادة على ذلك، فقد ذكر القرآن الكريم هذا العلو الذي يتنعم اليهود به
اليوم، وأخبر أنه علو مؤقت، فقال:﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي
الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً
كَبِيراً﴾ (الاسراء:4)
فهذه الآية ذات
نبوءات عظيمة..
فكثير من
الأقوام والحضارات والأديان اندثرت وذهب سلطانها، ولكن اليهود لا يزال هم هم.. بل
صار لهم من السلطان ما يحركون به سياسة العالم أجمع.
بل إن القرآن
الكريم فوق ذلك أخبر أن اليهود سيجتمعون بعد فرقة، قال تعالى:﴿ وَقُلْنَا
مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ﴾ (الاسراء:104)
فهذه الآية تدل
على اجتماع اليهود في مكان واحد[18]، ولم يجتمع اليهود في التاريخ في مكان واحد عبر التاريخ إلا
مؤخراً في فلسطين [19].
قال عبد
القادر: ومن ذلك ما أخبر به القرآن الكريم عن ألوان العداوة التي تقع كل حين بين
الطوائف المسيحية [20]،
قال تعالى:﴿ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيـمٍ﴾ (مريـم:37)، وقال تعالى:﴿
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً
مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ﴾ (المائدة:14)
فالآية الأولى
تبين أن المسيحيين انقسموا أحزاباً، بعض هذه الأحزاب أقرب إلى الحق من البعض
الآخر.
والآية الثانية
تبين أن فريقاً من المسيحيين قد نسوا كثيراً من تعاليم دينهم مما كان سبباً في أن
أصبح بعضهم لبعض عدواً.
وأن هذه العداوة
لن تزول، ولكنها ستستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولكي نرى مدى
صدق هذه النبوءة في مجال حقائق التاريخ يجب علينا أن نتتبع سيرة المسيحية من بدء ظهورها حتى الآن وسنجد
حينئذ أن هذا التاريخ لم يحِد يوماً عن منطوق هاتين الآيتين، بل سار على نهجهما
وتَرَسَم خطاهما.
فقد بدأت النصرانية في فلسطين واحتكت أول الأمر
باليهودية التي اضطهدت دعاتها، فرحل بعضهم إلى الإسكندرية ورحل آخرون إلى روما.
وقد أخذت
المسيحية تنتشر في الإمبراطورية الرومانية انتشاراً سريعاً وأخذ الأباطرة في بادئ
الأمر يضطهدون معتنقيها، ولكن الاضطهاد لم يزد المسيحية إلا انتشاراً وقوة حتى
أصبح عدد المسيحيين أكثر من الوثنيين فجعلها ( قسطنطين ) دين الدولة الرسمي، ولما
تولى( ثيودوسيوس ) أخذ يحارب الوثنية، فأغلق معابدها وجعل الناس يُعَمَدّون قسراً.
ومع ذلك، فلم
يلبث المسيحيون أن انقسموا فرقاً اشتد الخلاف بينها اشتداداً صحبه اضطراب في الأمن
مما اضطر الأباطرة إلى التدخل بينها ومناصرة بعضها عل البعض الآخر، وانقسموا إلى
ثلاثة فرق: الملكانية والنسطورية واليعاقبة.
والملكانيون هم
اتباع أريوس الذي قال بأن المسيح مخلوق، وليس مولوداً من الأب، ولذا لا يساويه في
الجوهر.
أما
النسطوريون، وهم أتباع نسطور، فقد قالوا إن للمسيح طبيعتين إحدهما إلهية والثانية
بشرية، فهو بالأولى ابن الله وبالثانية ابن مريم، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ
وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ
بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ
اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (التوبة:30)، ويعني القرآن الكريم بهذا أنهم
قلدوا الديانات الوثنية القديمة في هذه العقيدة مثل( الزردشتية والبراهمية
والهندستانية والبوذية والرومانية والمصرية ).
فقد كان
المصريون يعتقدون أن ( حوريس ) ولد من الإله الأعظم ( أوزوريس ) والعذراء(ايزس)..
كما أن الرومان كانوا يعتقدون أن الإله ( جوبيتر) أنجب (بريسيوس) من العذراء (
داناي ) وأنجب ( ديونيسيس ) من العذراء ( سيميل ) وأنجب (هرقل ) من العذراء (
ألكمين ).. أما في الهند فقد ولد كرشنا في كهف بينما كانت أمه العذراء وخطيبها
هاربين من غضب الملك [21].
أما الحزب
الثالث، وهو حزب اليعاقبة فيعتقدون أن المسيح هو الله نزل إلى الأرض، وإلى ذلك
يشير القرآن الكريم في قوله تعالى:﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ
اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ
مِنْ أَنْصَارٍ﴾ (المائدة:72).
ولم يكتفوا
بهذا الانقسام الذي نص عليه القرآن الكريم، بل إن الخلاف بينهم أخذ يزداد اتساعا
ًوتعدداً كلما تقدمت الأيام، كما ذكر القرآن الكريم.
ففي القرن
الحادي عشر انقسمت الكنيسة إلى فرعين: الكنيسة الغربية والكنيسة الشرقية، ثم أخذ
الخلاف يتسع ويتشعب، وأخذت الفرق تتوالد فتنشأ منها فرق جديدة وأحزاب جديدة رغماً
من الجهود العديدة التي بذلت لتوحيد الكنيسة.
ولم يقتصر
الخلاف بينها على خلاف في النظريات والعقائد والطقوس، بل تعداه إلى فتن دموية قامت
بين تلك الطوائف، امتلأت بها كتب التاريخ.
ومن أمثلتها ما
ارتكبه الرومان مع أقباط مصر، فقد كان الرومان على المذهب الملكاني، والمصريون
معظمهم من اليعاقبة.. وعقب استرداد هرقل لمصر حاول أن يوفق بين المذهبين، فأبى
القبط ذلك، فلجأ الرومان إلى القوة، وكان جزاء من يرفض تغيير عقيدته أن يجلد أو
يضرب أو يلقى في السجن حتى يلقى حتفه، وكان القساوسة من القبط يقتلون أو يشردون.
أما بطرقهم
بنيامين، فقد اختفى وطلبه الرومان، فلم يعثرا له على أثر.. وقد استمر هذا الإرهاب
عشر سنين فتن فيها الناس عن عقيدتهم، وأخذ الباقون يظهرون غير ما يبطنون تفادياً
للعقاب.
ونستطيع أن
نتصور ما كان في قلوب الفريقين من حقد إذا تأملنا قليلاً هذه الحادثة التي يرويها
التاريخ، فقد ذكر المؤرخون أن الروم حينما اتفقوا مع المسلمين على تسليم حصن
بابليون أعطاهم المسلمون مهلة ثلاثة أيام لإخلاء الحصن، وكان آخر أيامهم في ذلك
اليوم هو يوم عيد الفصح، ولكن نكبتهم هذه وحرمة ذلك اليوم لم تمنعهم من إرواء
غليلهم والتنكيل بأسرى الأقباط الذين سجنوهم من قبل في الحصن، فسحبوهم من سجونهم،
وضربوهم بالسياط، وقطَّع الجند أيدهم.
ولم يقتصر
الأمر على مصر، بل إن أباطرة الدولة الرومانية الشرقية اضطهدوا النسطوريين أيضاً
في آسيا الصغرى والشام وفلسطين مما كان سبباً في التجاء علمائهم إلى العراق وفارس.
وتظهر البغضاء
الكامنة في قلوب المسيحيين بعضهم لبعض بوضوح في أيام الحروب الصليبية، فعلى الرغم
من وحدة غرضهم، وهو القضاء على المسلمين، وعلى الرغم من موجة الحماس الديني التي
سادت أوروبا في ذلك الوقت، فإن سيرتها من أولها إلى آجرها تدل على انعدام الإخلاص.
وأول مظهر يدل
على ذلك هو تغرير إمبراطور القسطنطينية بحملة بطرس الناسك، وعمله على التخلص منها
لما كانت تتطلبه من تموينات، وما كان سيلازم بقاء ثلاثمائة ألف محارب من اختلال في
الأمن في عاصمة ملكه، فسهل لهم العبور إلى الضفة الأخرى من البسفور، فكانوا لقمة
سائغة ابتلعها السلجوقيون بدون مشقة، إذ أبادوا الحملة عن آخرها، فكيف تفسرون عمل
الإمبراطور الذي أخذ يستغيث بمسيحيي أوربا لإنقاذه من السلاجقة حتى إذا هبوا
لنجدته عمل إلى التخلص منهم.
ومن أظهر
الأمثلة على انعدام الإخلاص بين المسيحيين بعضهم مع بعض قصة الحروب الصليبية
الثالثة، فقد أدى الخلاف بين ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، وبين فيليب أغسطس ملك
فرنسا إلى عودة ملك فرنسا إلى بلاده وترك ريتشارد وحيداً ليحارب صلاح الدين، وزاد
الطين بلة أن فيليب أخذ يدس الدسائس لريتشارد بالاستعانة ببعض ملوك أوربا، كما أخذ
أخوا ريتشارد في إنجلترا يعمل على اغتصاب العرش منه، وكان من جراء ذلك أن حرم
ريتشارد ثمن انتصاراته، واضطر إلى العودة وإلى عقد صلح مع صلاح الدين.
بالإضافة إلى
هذا كله، فقد كانت حركة الإصلاح الديني فيما بين القرن الخامس عشر والسابع عشر
أعنف حركة دينية شهدها التاريخ، فقد أدت الخلافات الدينية إلى مشاحنات ومطاحنات
واضطهادات كانت أشد ما عرف تاريخ الأديان.
فقد كان منها
حرب الثلاثين عاماً، والتي استمرت من 1618 على 1648، وكان تأثيرها على ألمانيا تأثيراً
سيئاً، إذ ظلت ميداناً للحرب فريسة للنهب مدة ثلاثين سنة هلك فيها نصف سكانها
تقريباً، واندثرت فيها معالم الصناعة والتجارة والفنون.
وكان منها ما
حصل من اضطهادات لبروتستانت فرنسا، والذين يدعون (الهيجونوت)، وقد كانوا أقلية
ضئيلة في وسط أغلبية كاثوليكية عظيمة، ولذلك كان تاريخهم فيها حافلاً بالاضطهادات
والحروب والمذابح التي من أشهرها (سان برثلميوا) في 24 أغسطس سنة 1572.
إذ بينما كان
(كوليني ) زعيم الهيحونوت وأحد وزراء الملك شارل التاسع في ذلك الوقت ماراً أطلق
عليه رجل الرصاص، فأصابه إصابة غير قاتلة، فعزم الملك على الانتقام فخاف الكاثوليك
عاقبة التحقيق وانفضاح أمرهم فبيتوا يوم (عيد القديس _ ثلميو) مذبحة هائلة، ووضعوا
علامات على بيوت الهيجونوت، وانتقل الخبر من باريس إلى الأقاليم، فقلدوها وكانت
النتيجة أن قتل من الهيجونوت ألفا نفس في باريس وثمانية آلاف في الأقاليم، وحينما
تولى رشيليو مقاليد الأمور في فرنسا عمل على إخضاع الهيجونوت، وكانوا إذ ذاك
يقيمون في مدن محصنة فاستلزم إخضاعهم حروباً طويلة الأمد.
والأخطر من ذلك
كله محاكم التفتيش.. وهي محاكم لم ير التاريخ لها مثيلاً، فقد كان شعارها القسوة
التي لا رحمة فيها، والاضطهاد الذي لا هوادة فيه لأعداء الكاثوليك، وكانت تستمد
سلطتها من البابا مباشرة، ولا دخل للحكومات في تصرفاتها، اللهم إلا القيام بتنفيذ
أحكامها.
وقد كانت
تستعمل كل الطرق، وتقبض على من تشاء، وتعذب المقبوض عليهم بما تراه حتى تكرهم على
الاعتراف بإلحاد وحينئذ توقع عليهم عقوبة الإحراق أو السجن المؤبد ومصادرة الأملاك
حتى التائبون منهم يسجنون طول حياتهم تطهيراً لهم من جريمة الإلحاد، وكانت هذه
المحاكم تراقب المطبوعات وتحرق ما لا يتفق منها مع المذهب الكاثوليكي.
هذا قليل من
كثير.. ولو أنك أردت أن تتخذ القرن التاسع مقياساً نقيس به مقدار ما يكنه
المسيحيون بعضهم لبعض من عداوة، كما دل عليه القرآن الكريم لوجدت فيه من الحروب
والثورات ما يصعب تتبعه وحصره.
فأبرز حروب هذا
القرن الحروب النابليونية التي شملت أوربا كلها من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال
إلى الجنوب.
قال عبد
القادر: ليس ذلك فقط.. بل إن القرآن الكريم يخبر عن كشف الله لآياته في الآفاق،
وفي الأنفس، وهو ما يشير إلى الكشوف العلمية الكثيرة، والتي لم تزد المؤمنين إلا
إيمانا، قال تعالى:﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت:53)
فقد أخبر
القرآن الكريم أن الله تعالى سيُري الناس جميعاً على اختلاف أجناسهم وألوانـهم
ومذاهبهم آياته في هذا الكون، وفي أنفسهم.
وقد استعمل
القرآن الكريم حرف (السين) للدلالة على المستقبل، وعلى أن عطاء القرآن متجدد مستمر
في كل زمن دون انقطاع ولا توقف عند حد، أو مع جيل بعينه.
قال عبد
القادر: وفوق ذلك لا يزال القرآن الكريم مصدرا للنبوءات، فقد أخبر بأشياء كثيرة لا
تزال في طي الغيب:
ومن ذلك ذكره لخروج
دابة الأرض، فقد قال تعالى:﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ
أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا
بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ﴾ (النمل:82)
ومن ذلك حديثه
عن يأجوج ومأجوج، قال تعالى:﴿ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ
وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ(96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا
هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ(97)﴾ (الانبياء)
ومن ذلك حديثه
عن نزول المسيح u، قال تعالى:﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا
إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ
مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ
إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
(59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ
(60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)﴾(الزخرف)، وقال تعالى:﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ
وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا
قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ
عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ
قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)﴾(النساء)
ومن ذلك حديثه
عن الآيات التي تدل على قيام الساعة، واختلال النظام الكوني، وغيرها من الآيات
التي لم يأذن الله في حدوثها بعد.
بعد هذه
النماذج التي ذكرها عبد القادر عن نبوءات القرآن الكريم هم بالجلوس، لكن ذلك
المستأجر الناصح قام بأدب، وقال: لو أذنت ـ يا حضرة القس ـ لهذا الرجل أن يحدثنا
عن النبوءات التي ذكرها محمد، فلا أراه ترك الحديث عنها إلا لخشيته من أخطائها
وتلفيقها وكذبها.
خشي بولس من أن
يكون في كلام رسول الله r من النبوءات المعجزة ما كان للقرآن الكريم، فلذلك قال: لا بأس..
نكتفي بما سمعناه.. ولا يهمنا أأخطأ محمد أم أصاب.. فلم نأت لدينونة أحد هنا.
قام مستأجر
بولس بكل غباء، وقد تصور أن بولس يتظاهر بما يقول من غير أن يقصد، فقال: لا.. لابد
أن نسمع.. لا يجوز أن يسمع القاضي بعض الأدلة، ويتغافل عن غيرها.. إنه إن لم
يسمعنا ما قال محمد، فإنا نعتبر ذلك هروبا.
تغير وجه بولس،
لكنه لم يجد إلا أن يأذن له، فقام عبد القادر.. وقلبه يكاد يطير فرحا للفرصة
العظيمة التي واتته، فراح يقول: ما دام ـ حضرة القس ـ قد أذن لي في الحديث،
فسأحدثكم عن نبوءات محمد r.. وهي نبوءات لا تختلف في دقتها عن نبواءت القرآن الكريم، وإن
شئتم الحقيقة، فهي تفصيلات لما ورد في القرآن الكريم من النبوءات.
وقبل أن أحدثكم
عن ذلك أحب أن أنبهكم إلى أن محمدا r لم يكن ملزما بذكر تلك النبوءات، فلم يلزمه أحد بذلك، ولا الشريعة
تستلزم ذلك.
ولكن النبي r
قال هذه النبوءات بإلهام إلهي ليترك لكل زمان آية تعرفهم بالمصدر الإلهي للإسلام..
بالإضافة إلى أن بعض هذه النبوءات تحتوي نصائح قيمة وجه بها النبي r
أمته في تلك الأوقات التي ستمر بها.
وقبل أن أبدأ
في عرض بعض هذه النبوءات، أخبركم بأن عددا كبيرا من أذكياء الناس ومن العباقرة
جرؤوا في فترة من فترات حماستهم علي أن يتنبأوا عن أنفسهم أو عن غيرهم، لكن الزمن
لم يصدق هذه النبوءات مطلقا، بل جاء يكذبها بكل قسوة.
لقد كان
نابليون بونابرت من أعظم قواد الجيوش في عصره، وقد دلت فتوحاته الأولى علي أنه سوف
يكون ندا لقيصر، والإسكندر المقدوني. وترتب علي ذلك أن وجد الغرور منفذه إلي رأس
نابليون، فأصبح يتوهم أنه هو مالك القدر.. وازداد هذا الشعور لديه، حتي إنه ترك
مستشاريه، وادعي أنه لم يكتب في قدره غير الغلبة الكاملة علي من في الأرض، ولكنا
جميعا نعرف النهاية التي كتبت له في لوح القدر.
لقد سار
نابليون من باريس يوم 12 من يونية سنة1815، مع جحفله العظيم ليقضي علي أعدائه وهم
في الطريق، ولم تمض غير ستة أيام حتي ألحق (دوق ولنجتون) شر هزيمة بجيش نابليون
الجبار، في (ووترلو) بأراضي بلجيكا. وكان (الدوق) يقود جنود انجلترا وألمانيا
وهولندا. ولما يئس نابليون وأيقن من مصيره المحتوم فر هاربا من القيادة الفرنسية
متوجها إلي أمريكا، ولم يكد يصل إلي الشاطىء، حتي ألقت شرطة السواحل القبض عليه
وأرغمته علي ركوب سفينة تابعة للبحرية البريطانية، وانتهي به القدر إلي أن أرسل
إلي جزيرة غير معمورة بجنوب الأطلنطي، هي جزيرة (سانت هيلينا)، ومات القائد
العسكري في هذه الجزيرة بعد سنوات طويلة من البؤس والشقاء والوحدة، في 5 مايو
سنة1821.
والبيان
الشيوعي المعروف الذي صدر سنة 1848، تنبأ بأن أول البلاد التي ستقود الثورة
الشيوعية هي (ألمانيا)، ولكن ألمانيا علي الرغم من مضي مائة وعشرين عاما من هذه
النبوءة، لا تزال صفحات تاريخها خالية من مثل هذه الثورة..
وقد كتب كارل
ماركس في مايو سنة 1849 قائلا:( إن الجمهورية الحمراء تبزغ في سماء باريس )، ورغم
أنه قد مر علي هذه النبوءة أكثر من قرن، فإن شمس الجمهورية الحمراء البازغة لم
تشرق علي أهالي باريس.
وقد قال أدولف
هتلر في خطابه الشهير الذي ألقاه بميونيخ في 14 مارس 1931:( إنني سائر في طريقي،
واثقا تمام الثقة بأن الغلبة والنصر قد كتبا لي)، والعالم بأجمعه يعرف ـ اليوم ـ
أن الذي كتب في قدر الجنرال الألماني العظيم كان هو الهزيمة والانتحار.
وقد شاهدنا
وقائع عديدة من هذه النبوءات المضحكة في (الهند)، فقد أعلن زعيم الشيوعيين: س.ب. جوشي،
في المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي الهندي، الذي انعقد في (مدوراي) بجنوب الهند، في
يناير سنة1954، بأن الحزب الشيوعي سوف يحكم، مستقلا بنفسه، في الانتخابات العامة
القادمة، في ولايات: تراونكو-كوتشين (كيرالا)، ومدارس، وآندهرا، والبنغال الغربية،
وآسام.
وقد أجريت
ثلاثة انتخابات عامة، وانتخابات تكميلية أخرى، في هذه المدة الطويلة، ولم يستطع
الحزب الشيوعي تأليف وزارة مستقلة في أية ولاية من ولايات الهند.
وهكذا..
هذه نبوءاتهم،
وذلك موقف التاريخ منها، فتعالوا بنا نسمع نبوءات محمد r لنعرضها على الواقع.
أحداث
معاصرة
أصاخ الجمهور
بآذانه ينتظر حديث عبد القادر عن نبوءات محمد r الغيبية، وكنت من أشد الحضور شوقا لسماعها، ولو أني كنت أحاول
إخفاء ذلك أمام بولس، وأمام الجمهور.
بعد برهة
وجيزة، قال عبد القادر: أول مظهر يتجلى فيه هذا النوع من الخوارق إخباره r بكثير من الأحداث المعاصرة له من خير وشر، بل إخباره r لمن حوله بما في نفوسهم مما يضمرونه من الخير والشر.
وقد كثرت
الروايات المخبرة بذلك حتى بلغت مبلغ التواتر، وسأنتقي لكم منها ما تقر به أعينكم،
وتعلمون أن من يخبر بمثل هذا يستحيل أن يكون كاذبا أو مدعيا:
فمن ذلك إخباره
r يما تستبطنه النفوس من نوازع الشر الآثمة:
ومما
روي في ذلك إخباره r
من حدث نفسه بالفتك به r، فعن سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ أنه كان مع رسول الله r إذ جاءه رجل فقال: من أنت؟ قال:( أنا نبي )، قال: وما نبي؟ قال:(
رسول الله )، قال: متى تقوم الساعة؟ قال:( غيب ولا يعلم الغيب الا الله )، قال:
أرني سيفك، فأعطاه النبي r سيفه، فهزه الرجل، ثم رده عليه، فقال رسول الله r:(أما انك لم تكن تستطيع ذلك الذي أردت)، قال: وقد كان[22].
وفي رواية: ثم
قال رسول الله r:( إن هذا أقبل، فقال: آتيه، فاسأله ثم آخذ السيف، فاقتله ثم أغمد
السيف )[23]
ومن
ذلك إخباره r
من حدث نفسه بأنه ليس في القوم أحد خير منه، فعن أنس ـ رضي
الله عنه ـ قال: ذكروا رجلا عند النبي r فذكروا قوته في الجهاد واجتهاده في العبادة، فإذا هم بالرجل مقبل،
فقال له رسول الله r:( إني أرى على وجهه سفعة من الشيطان)، فلما دنا سلم فقال له رسول
الله r:( هل حدثت نفسك بأنه ليس في القوم أحد خير منك؟) قال: نعم.
ثم ذهب فاختط
مسجدا، ووقف يصلي فقال رسول الله r:(
من يقوم إليه فيقتله؟)، فقام أبو بكر، فانطلق فوجده يصلي، فرجع، فقال: وجدته يصلي
فهبت أن أقتله، فقال رسول الله r:(
أيكم يقوم إليه فيقتله؟)
فقام عمر، فصنع
كما صنع أبو بكر، فقال رسول الله r:(
أيكم يقوم إليه فيقتله؟) فقال علي: أنا، قال:(أنت إن أدركته)، فذهب فوجده قد
انصرف، فرجع، فقال رسول الله r:(
هذا أول قرن خرج من أمتي لو قتلته ما اختلف اثنان بعده من أمتي )[24]
ومن
ذلك إخباره r
من قاتل الكفار قتالا شديدا أنه من أهل النار، فقتل نفسه، فعن سهل بن سعد الساعدي
ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r التقى هو والمشركون، فاقتتلوا، فلما مال رسول الله r الى عسكره، ومال الآخرون الى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله r رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة الا تبعها يضربها بالسيف، فقالوا:
ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان.
فقال رسول الله
r:( أما انه من أهل النار)، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، قال:
فخرج معه فكلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحا شديدا،
فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه، فقتل
نفسه فخرج الرجل الى رسول الله r
قال: أشهد أنك رسول الله، قال:(وما ذاك؟) قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل
النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جرح جرحا شديدا،
فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الارض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه،
فقال رسول الله r عند ذلك:( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من
أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة)[25]
وفي رواية أخرى
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: شهدنا
مع رسول الله r خيبر، فقال لرجل ممن يدعي الاسلام:( هذا من أهل النار ) فلما حضر
القتال، قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، ان الذي قلت
إنه من أهل النار، فانه قد قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات، فقال النبي r:( إلى النار)
وفي رواية
أخرى: فكاد بعض الناس أن يرتاب، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح، فأهوى
بيده الى كنانته، فانتزع منها سهما فانتحر بها، فاشتد رجال من المسلمين الى رسول
الله r فقالوا: يا رسول الله، صدق الله حديثك، قد انتحر فلان فقتل نفسه
فقال رسول الله r:( يا بلال، قم فأذن: لا يدخل الجنة الا مؤمن، وان الله ليؤيد هذا
الدين بالرجل الفاجر)
ومن
ذلك إخباره r
عيينة بن حصن بما قاله لأهل الطائف، فعن عروة قال: استأذن عيينة بن حصين رسول الله
r أن يأتي أهل الطائف يكلمهم، لعل الله تعالى أن يهديهم فأذن له،
فأتاهم، فقال: تمسكوا بمكانكم، فوالله لنحن أذل من العبيد، وأقسم بالله لو حدث به
حدث لتمسن العرب عز ومنعة، فتمسكوا بحصنكم، وإياكم أن تعطوا بأيديكم، ولا يتكاثرن
عليكم قطع هذا الشجر، ثم رجع فقال له رسول الله r:( ماذا قلت لهم؟) قال: قلت لهم، وأمرتهم بالاسلام ودعوتهم إليه،
وحذرتهم من النار، ودللتهم الى الجنة، قال:(كذبت، بل قلت لهم: كذا وكذا )، فقال:
صدقت، يا رسول الله، أتوب الى الله تعالى وإليك من ذلك )[26]
ومن
ذلك إخباره r
بكتاب حاطب إلى أهل مكة، فقد روي عن عروة ـ رضي الله عنه ـ قال: لما أجمع رسول
الله r على المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بالذي
أجمع رسول الله r عليه من المسير إليهم، ثم أعطاه امرأة من مزينة، وجعل لها جعلا
على أن تبلغه قريشا، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، وخرجت به، فأتى رسول
الله r الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي
طالب والزبير بن العوام، فقال:( أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتابا الى قريش
يحذرهم )[27]
وعن علي ـ رضي
الله عنه ـ قال: بعثني رسول الله r أنا والزبير والمقداد، فقال:( انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها
ظعينة معها كتاب، فخذوه منها )، قال: فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة،
فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن
الكتاب أو لنلقين الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله r فإذا فيه ( من حاطب بن أبي بلتعة الى أناس بمكة من المشركين
يخبرهم ببعض أمر رسول الله r )، فقال رسول الله r:(
يا حاطب، ما هذا!؟) قال: يا رسول الله، لا تجعل علي، إني كنت امرؤا ملصقا في قريش،
وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم؟ فأحببت أن تكون إذ
فاتني ذاك من النسب فيهم أن اتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن
ديني، ولا رضى بالكفر بعد الاسلام، فقال رسول الله r:( أما انه قد صدقكم)، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا
المنافق، فقال:( إنه شهد بدرا، وما يدريك، لعل الله اطلع على من شهد بدرا، فقال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم!) فأنزل الله تعالى هذه الآية:﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا
أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾
(الممتحنة:1)
ومن النبوءات
الغيبية التي وردت بها الأسانيد الكثيرة ما أخبر عنه r من الأحاديث الخفية التي تختزنها النفس في نفسها، أو تسر بها
لأقرب الناس إليها:
ومما
روي في ذلك إخباره r
من قال في نفسه شعرا به، فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء رجل الى
رسول الله r فقال: يا رسول الله ان أبي يريد أن يأخذ مالي، فدعا أباه فهبط
جبريل، فقال: إن الشيخ قد قال في نفسه شيئا لم تسمعه أذناه! فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:(قلت في نفسك شيئا لم تسمعه أذناك؟) قال: لا يزال يزيدنا الله
تعالى بك بصيرة ويقينا، نعم، قال: هات، فأنشأ يقول:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت لسقمك الا ساهرا أتململ
تخاف الردى نفسي عليك وانها لتعلم أن الموت حتم موكل
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي اليك مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلطة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق مودتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
فبكى رسول الله
r وأخذ بتأنيب ابنه وقال:(أنت ومالك لابيك )[28]
ومن
ذلك إخباره r
وابصة بن معبد بأنه جاء يسأل عن البر والاثم، فعن
وابصة بن معبد ـ رضي الله عنه ـ قال: جئت
رسول الله r وأنا لا أريد أن أدع من البر والاثم شيئا الا سألته عنه، فأتيته،
وهو في عصابة من المسلمين حوله، فجعلت أتخطاهم لأدنو منه، فانتهرني بعضهم، فقال:
اليك يا وابصة عن رسول الله r؟
فقلت: إني أحب أن أدنو منه، فقال رسول الله r:( دعوا وابصة، ادن مني وابصة )، فأدناني حتى كنت بين يديه، فقال:(
أتسألني أم أخبرك؟) فقلت: لا، بل تخبرني، قال:( جئت تسأل عن البر والاثم؟) قلت:
نعم، فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري وقال:( البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن
إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)
ومن
ذلك إخباره r
الثقفي والانصاري بما جاءا يسألان عنه، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت جالسا مع رسول الله r في مسجد الخيف، فأتاه رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف فلما سلما،
قالا: جئناك، يا رسول الله، لنسألك، قال:( إن شئتما أخبرتكما بما تسألاني عنه
فعلت، وان شئتما أن أسكت وتسألاني فعلت )، قالا: لا، أخبرنا يا رسول الله، نزدد
ايمانا أو نزدد يقينا، فقال الأنصاري للثقفي: سل رسول الله r قال: بل أنت فسله، فاني أعرف حقك، فسأله، فقال: أخبرنا يا رسول
الله، قال:(جئت تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام ومالك فيه، وعن طوافك
بالبيت، ومالك فيه، وركعتيك بعد الطواف، ومالك فيهما، وعن طوافك بالصفا والمروة،
وعن وقوفك بعرفة، ومالك فيه، وعن رميك الجمار ومالك فيه، وعن نحرك ومالك فيه، وعن
حلاقك رأسك، ومالك فيه، وعن طوافك، ومالك فيه) - يعني الافاضة –
فقال الرجل:
والذي بعثك بالحق عن هذا جئت أسألك! قال:( فانك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت
الحرام، لم تضع ناقتك خفا ولن ترفعه الا كتب الله لك به حسنة ومحا به عنك خطيئة،
ويرفع لك بها ردجة، وأما ركعتاك بعد الطواف فانهما كعتق رقبة من ولد اسماعيل، وأما
طوافك بالصفا والمروة فكعتقك سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة، فان الله تعالى
يهبط الى السماء الدنيا، فيباهي بكم الملائكة يقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثا غبرا
من كل فج عميق، يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانت ذنوبكم عدد الرمل وكزبد البحر
لغفرتها، أفيضوا مغفورا لكم، ولمن شفعتم له، وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها
تكفير كبيرة من الكبائر الموبقات الموجبات، وأما نحرك فمدخور لك عند ربك، واما
حلاق رأسك فبكل شعرة حلقتها حسنة يمحى عنك بها خطيئة)
قال: يا رسول
الله، فإن كانت الذنوب أقل من ذلك؟ قال:( يدخر لك في حسناتك، وأما طوافك بالبيت
بعد ذلك، فانك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يده بين كتفيك، ثم يقول: اعمل لما
تستقبل فقد غفر لك ما مضى)
قال الثقفي:
أخبرني يا رسول الله، قال: جئت تسألني عن الصلاة!) قال:( إذا غسلت وجهك انتثرت
الذنوب من أشفار عينيك، وإذا غسلت يديك انتثرت الذنوب من أظفار يديك، وإذا مسحت
برأسك انتثرت الذنوب عن رأسك، وإذا غسلت رجليك انتثرت الذنوب من أظفار قدميك ) إلى
آخر الحديث[29].
ومن
ذلك أمره r أبا سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ بالاستعفاف لما أراد أن يسأله شيئا
من الدنيا، فعن أبي سعيد الخدري قال: أصابنا جوع ما أصابنا مثله قط فقالت لي أختي:
اذهب الى رسول الله r فاسأله فجئت، فإذا هو يخطب، فقال:( من يستعفف، يعفه الله، ومن
يستغن يغنه الله )، فقلت في نفسي: والله لكأنما أردت بهذا.. لا جرم لا أسأله شيئا،
فرجعت الى أختي فأخبرتها، فقالت: أحسنت، فلما كان من الغد، فاني والله لأتعب نفسي
تحت الأجم، إذ وجدت من دارهم يهود فابتعنا به، وأكلنا منه وجاءت الدنيا، فما من
أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا منا[30].
ومن
ذلك إخباره r
الانصار بما قالوه في غزوة الفتح، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قالت الانصار يوم فتح مكة: أما الرجل فقد
أدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، وكان الوحي إذا جاء لم يخف علينا، فإذا جاء
فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله r
حتى ينقضي الوحي، فلما رفع الوحي قال:( يا معشر الانصار، قلتم: أما الرجل فأدركته
رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته، كلا فما أسمي اذن كلا، اني عبد الله ورسوله المحيا
محياكم، والممات مماتكم )، فأقبلوا يبكون، وقالوا والله، ما قلنا الا للضن بالله
ورسوله، فقال:( إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم )[31]
ومن
ذلك إخباره r
نوفل بن الحارث بماله الذي خبأه بجدة، فعن العباس بن عبد المطلب انه قال: يا رسول
الله، اني قد كنت مسلما فقال رسول الله r:(
أعلم باسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك بذلك، فأما ظاهر منك فكان علينا، فافد
نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب
وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر)، قال: ما أخال ذاك عندي يا رسول الله،
فقال r:( فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، فقلت لها: ان أصبت في
سفري فهذا المال لبني الفضل بن العباس وعبد الله بن العباس وقثم بن العباس؟ )،
فقال لرسول الله r: والله يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي،
فقال رسول الله r:( لا ذاك شي أعطاناه الله تعالى منك ) ففدى نفسه وابني أخويه
وحليفه، وأنزل الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي
أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً
يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ﴾ (لأنفال:70)[32]
ومن
ذلك إخباره r
شيبة بن عثمان بما حدث به نفسه من قتله r،
فعنه قال: لما فتح رسول الله r
مكة عنو،ة قلت: أسير مع قريش إلى هوازن، بحنين فعسى أن اختلطوا أن أصيب غرة من
محمد فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها، وأقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد
إلا أتبع محمدا ما أتبعه أبدا، فكنت مرصدا لما خرجت له لا يزداد الأمر في نفسي إلا
قوة.
فلما اختلط
الناس، اقتحم رسول الله r عن بغلته، فدنوت منه، ورفعت سيفي حتى كدت أسوره، فرفع لي شواط من
نار كالبرق كاد يمحشني فوضعت يدي على بصري خوفا عليه فالتفت الي رسول الله r وقال:(ادن مني)، فدنوت فمسح صدري، وقال:( اللهم اعذه من الشيطان )
فوالله لهو من حينئذ أحب الي من سمعي وبصري ونفسي، وأذهب الله ما كان بي، فقال:(يا
شيبة، الذي أراد الله بك خيرا مما أردت بنفسك؟) ثم حدثني بما اضمرت في نفسي! فقلت:
بأبي أشهد أن لا اله الا الله، وأنك رسول الله، استغفر لي يا رسول الله، قال:(غفر
الله لك)[33]
ومن النبواءت
الغيبية المرتبطة بهذا، إخباره r عن الكثيرة من الأحداث المعاصرة وقت حدوثها مع كونه كان غائبا عن محل
الحدث:
ومما
يروى في ذلك ما ورد من إخباره r
من أرسله الى ابنته بما حبسه، فقد روي أن رسول الله r بعث الى عثمان بهدية، فاحتبس الرسول، ثم جاء، فقال له رسول الله r:( ما حبسك؟) ثم قال: ان شئت أخبرتك بما حبسك، كنت تنظر الى عثمان
مرة، وإلى رقية مرة، أيهما أحسن؟ قال: أي والذي بعثك بالحق، انه الذي حبسني[34].
ومن
ذلك إخباره r
بالشاة التي أخذت بغير اذن أهلها، فعن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r مر وأصحابه بامرأة، فذبحت لهم شاة واتخذت لهم طعاما فلما رجع،
قالت: يا رسول الله إنا ذبحنا لكم شاة، واتخذنا لكم طعاما، فادخلوا فكلوا.
فدخل رسول الله
r وأصحابه، وكانوا لا يبدأون حتى يبدأ النبي r فأخذ النبي r
لقمة، فلم يستطع أن يسيغها، فقال النبي r:(
هذه ذبحت بغير اذن أهلها)، فقالت المرأة: يا رسول الله، إنا لا نحتشم من آل معاذ،
نأخذ منهم، ويأخذون منا[35].
ومن
ذلك ما روي عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r زار قوما من الأنصار في دارهم فذبحوا له شاة، فأخذ رسول الله r من اللحم شيئا ليأكله، فمضغه ساعة لا يسيغه فقال:( ما شأن هذا
اللحم؟) قالوا: شاة لفلان ذبحناها حتى يجئ نرضيه من ثمنها، فقال:( اعطوها الأسارى
)[36]
ومن
ذلك ما أخبر به r
من نزول قوم بالجابية، وأخذ الطاعون إياهم، فعن معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( تنزلون منزلا يقال له الجابية أو الجويبية فيصيبكم فيه داء مثل
غدتي الجمل يستشهد الله تعالى به أنفسكم وزراريكم، ويزكي به أعمالكم )[37]
ومن
ذلك إخباره r
معاذا بأن ناقته تبرك بالجند، فعن معاذ - ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r يوم بعثه الى اليمن، حمل على ناقته وقال:( يا معاذ، انطلق، حتى
تأتي الجند، فحينما بركت بك هذه الناقة، فأذن وصل وابتن مسجدا )، فانطلق معاذ ـ
رضي الله عنه ـ حتى انتهى الى الجند، دارت
به الناقة وأبت أن تبرك، فقال: هل من جند غير هذا؟ قالوا: نعم، جند ركامة، فلما
أتاه دارت، وبركت، فنزل معاذ بها، فنادى بالصلاة، ثم قام يصلي الجند[38].
ومن
ذلك إخباره r
بقتل مجذر بن زياد، فقد روي أن جبريل أتى النبي r فأخبره أن الحارث بن سويد قتل المجذر بن زياد غيلة وأمره أن يقتله
به فقتل رسول الله r الحارث بن سويد بالمجذر بن زياد وكان الذي ضرب عنقه بأمر رسول
الله r عويم بن ساعدة على باب مسجد قباء). [39]
ومن
ذلك إخباره r
بسبب اللحم الذي صار حجرا، فعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: أهدي الي بضعة من
لحم، فقلت للخادم: ارفعها الى رسول الله r،
وجاء سائل فقام على الباب، فقال: تصدقوا بارك الله فيكم، وذهب السائل، وجاء النبي r فقلت للخادم: أقربي إليه اللحم، فجاءت بها فإذا هي قد صارت مروة
حجر، فقال النبي r:( أتاكم اليوم سائل فرددتموه؟ ) قلت: نعم، قال:( فإن ذاك لذاك )،
فما زالت حجرا في ناحية بيتها تدق حتى ماتت[40].
ومن
ذلك إخباره r
بقتل كسرى يوم قتل، فعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال لرسول الله r صاحب صنعاء:( اذهبوا الى صاحبكم، فقولوا: إن ربي قد قتل ربكم الليلة )[41]
وفي رواية:(
انطلقا إلى باذان فأعلماه أن ربي قد قتل كسرى في هذه الليلة )
وفي رواية:(
أبلغا صاحبكما أن ربي قد قتل ربه كسرى في هذه الليلة، لسبع ساعات مضت منها وان
الله سلط عليه ابنه شيرويه قتله)، فرجعا إلى باذان بذلك، فأسلم هو والأبناء الذين
باليمن.
وفي رواية:
فأخبرهما رسول الله r بأن الله قد قتل كسرى وسلط عليه ابنه شيرويه في ليلة كذا من شهر
كذا بعد ما مضى من الليل، وقولا له:( إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى،
وقولا له: ان أسلمت أعطيتك ما تحت يدك )، فقدما على باذان فأخبراه، فقال دحية: ثم
جاء الخبر بأن كسرى قد قتل تلك الليلة.
وفي رواية:
فقال باذان: فوالله، ما هذا بكلام ملك، ولننظر ما قال، فلم يلبث أن قدم عليه كتاب
شيرويه، أما بعد، فاني قتلت كسرى، فلا كسرى بعد اليوم، وقد قتل قيصر، فلا قيصر بعد
اليوم، فكتب قوله في الساعة التي تحدث بها واليوم والشهر، فإذا كسرى قد قتل وإذا
قيصر قد مات.
ومن النبوءات
الغيبية المرتبطة بهذا ما حصل منه r
في بعض مواقف الشدة من تحدي المشركين بمثل هذه النبوءات الغيبية، مع كونها في
مواقف حرجة غاية الحرج، ولا يقدم على التحدي حينها إلا من يثق في صدقه:
ومما
يروى في ذلك إخباره r
بأن الأرضة أكلت الصحيفة الظالمة التي كتبتها قريش، فقد روي أن المشركين اشتدوا
على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، حين هاجر
المسلمون الى النجاشي وبلغهم كرمه اياهم، وأجمعت قريش أن يقتلوا رسول الله r علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب، وأمرهم
أن يدخلوا رسول الله r شعبهم ويمنعوه ممن أرادوا قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم،
فلما عرفت قريش أن القوم منعوا رسول الله r
فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا رسول
الله r للقتل وكتبوا صحيفة وعهودا ومواثيق، لا يقبلوا من بني هاشم أبدا
صلحا حتى يسلموه للقتل.
فلبث بنو هاشم
في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد ـ وفي لفظ: فحصروا بني هاشم في شعب
ابي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من نبوة رسول الله r ـ، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن بني
قصي ورجال سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم،
وأجمعوا أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه.
وبعث الله
تعالى على صحيفهم الأرضة، فأكلت كل ما كان فيها من عهد وميثاق، وكانت معلقة في سقف
البيت، فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق، فلم تترك فيها اسما لله الا لحسته،
وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم.
ثم أطلع الله
تعالى رسوله على أمر صحيفتهم، وأن الارضة قد أكلت ما فيها من جور وظلم وبغي، وبقي
ما كان فيها من ذكر الله تعالى، فذكر ذلك رسول الله r لأبي طالب، فقال أبو طالب: لا والثواقب، ما كذبني، فانطلق يمشي
بعصابة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد، وهو حافل من قريش، فلما رأوهم عامرين
بجماعتهم انكروا ذلك، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء، فأتوا ليعطوهم رسول الله r فتكلم أبو طالب، فقال: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فأتوا
بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح، وانما قال ذلك خشية
أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن
رسول الله r مدفوعا إليهم، فوضعوها بينهم قال أبو طالب: انما أتيتكم لأعطيكم
أمرا لكم فيه نصف، أن ابن أخي قد أخبرني ان الله تعالى برئ من هذه الصحيفة التي في
أيديكم، ومحا منها كل اسم هو له فيها وترك فيها غدركم، وقطيعتكم إيانا، وتظاهركم علينا
بالظلم، فان كان ما قال ابن أخي كما قال فأفيقوا فوالله، لا يسلم ابدا حتى نموت من
عند آخرنا، وإن كان باطلا رفعناه إليكم، فقتلتم أو استحييتم، قالوا: قد رضينا با
لذي تقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق r قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال: قالوا: والله ان كان
هذا قط الا سحر من صاحبكم! فقال: اولئك النفر: إن الأولى بالكذب والسحر غيرنا فإنا
نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب الى الجبت والسحر، ولولا أنكم اجتمعتم
على السحر لم تفسد صحيفتكم، وهي بأيديكم طمس الله تعالى ما كان فيها من اسم له وما
كان من بغي تركه، أفنحن السحرة أم أنتم؟ فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف ومن
قصي: نحن براء من هذه الصحيفة.
وخرج النبي r وأصحابه فعاشوا، وخالطوا الناس، وقال أبو طالب في الصحيفة:
ألم يأتكم أن الصحيفة مزقت وأن كل ما لم يرضه الله يفسد[42]
ومن
ذلك إخباره r
قريشا ليلة الاسراء بصفة بيت المقدس ولم يكن رآه قبل ليلة الاسراء، فقد روي أن
النبي r بعد أن أسري به مر عليه أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له
كالمستهزئ: هل كان من شئ؟ قال: نعم، قال: ما هو؟ قال: أسري بي الليلة، قال: إلى
أين؟ قال: إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم.
فلم ير أنه
يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما
حدثتني؟ قال: نعم، قال: يا معشر بني كعب بن لؤي.
فانفضت إليه
المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما.
فقال: حدث قومك
بما حدثتني فقال النبي r:( إني أسري الليلة بي )، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس،
قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه
متعجبا، وضجوا وأعظموا ذلك.
فقال المطعم بن
عدي: كل أمرك قبل اليوم كان أمما غير قولك اليوم، أنا أشهد أنك كاذب، نحن نضرب
أكباد الإبل إلى البيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا، أتدعي أنت أتيته في ليلة؟
واللات والعزى لا أصدقك.
فقال أبو بكر
لمطعم: بئس ما قلت لابن أخيك، جبهته وكذبته، أما أنا فأشهد أنه صديق صادق.
فقالوا: يا
محمد صف لنا بيت المقدس، كيف بناؤه وكيف هيئته؟ وكيف قربه من الجبل؟ وفي القوم من
سافر إليه.
فذهب ينعت لهم
بناءه كذا وهيئته كذا، وقربه من الجبل كذا، فما زال ينعته لهم حتى التبس عليه
النعت، فكرب كربا ما كرب مثله، فجئ بالمسجد وهو ينظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو
عقال، فقالوا: كم للمسجد من باب؟ ولم يكن عدها، فجعل ينظر إليه ويعدها بابا بابا،
ويعلمهم، وأبو بكر يقول: صدقت صدقت، أشهد أنك رسول الله.
فقال القوم:
أما النعت فوالله لقد أصاب.
ثم قالوا لأبي
بكر: أفتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني
لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فبذلك سمي أبو
بكر الصديق.
ثم قالوا: يا
محمد أخبرنا عن عيرنا.
فقال:( أتيت
على عير بني فلان بالروحاء قد ضلوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى
رحالهم، فليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه، ثم انتهيت إلى عير بني فلان
في التنعيم يقدمها جمل أورق عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان وها هي ذه تطلع عليكم
من الثنية )
وقد حصل كل ما
أخبر عنه r، لكن ذلك لم يزدهم إلا جحودا وعتوا.
ومن النبوءات
الغيبية المرتبطة بهذا ما أخبر عنه r من قتل بعض أصحابه وموتهم شهداء، أو من انتصاراتهم وفتح الله عليهم:
ومما
يروى في ذلك إخباره r
بقتل أصحابه يوم الرجيع أن خبيبا لما قال: اللهم اني لا أجد من يبلغ رسولك عني
السلام، فقال النبي r حينئذ:(وعليك السلام) قال أصحابه: يا رسول الله، من قال؟
قال:(خبيب يقتل)، وفي لفظ قال رسول الله r
وهو جالس في ذلك اليوم الذي قتل فيه خبيب:(عليك السلام خبيب قتلته قريش). [43]
ومن
ذلك إخباره r
بقتل أصحابه يوم بئر معونة عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن أناسا جاؤوا الى النبي r فقالوا: ابعث معنا رجالا يعلموننا القرآن والسنة، فبعث إليهم
سبعين رجلا من الانصار يقال لهم: القراء، فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا
المكان فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا انا قد لقيناك، فرضينا عنك ورضيت عنا، فقال
رسول الله r لاصحابه:(ان اخوانكم قتلوا، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أن قد
لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا) [44]
ومن
ذلك ما رواه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: بعث رسول الله r سرية، فلم نلبث الا قليلا، حتى قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم
قال:(ان اخوانكم قد لقوا المشركين واقتطعوهم فلم يبق منهم أحد، وانهم قالوا: ربنا
بلغ قومنا انا قد رضينا ورضي عنا ربنا، فأنا رسولهم اليكم، انهم قد رضوا ورضي عنهم
)[45]
ومن
ذلك إخباره r
بقتل من قتل في غزوة مؤتة يوم أصيبوا، فقد روي أن يعلى بن منيه قدم على رسول الله r يخبر أهل مؤنة، فقال له رسول الله r:( إن شئت فأخبرني، وان شئت أخبرتك )، قال: أخبرني يا رسول الله
به، فأخبره رسول الله r خبرهم كلهم ووصفه لهم، فقال: والذي بعثك بالحق، ما تركت من حديثه
حرفا لم تذكره، وان أمرهم لكما ذكرت، فقال:( إن الله رفع لي الارض حتى رأيت
معتركهم)[46]
وعن أنس ـ رضي
الله عنه ـ أن رسول الله r بعث زيدا وجعفرا وعبد الله بن رواحة ودفع الراية الى زيد فأصيبوا
جميعا، فنعاهم رسول الله r قبل أن يجئ الخبر، فقال:( أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر
فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب)، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير أمره
ففتح عليه [47].
ومن
ذلك إخباره r
بأن خيبر تفتح على يد علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فعن سهل بن سعد أن رسول
الله r قال يوم فتح خيبر:( لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على
يديه )، فلما أصبح قال:(أين علي بن أبي طالب؟) قالوا: يشتكي عينيه، قال:(فأرسلوا
إليه)، فأتي به، فبصق رسول الله r
في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع. [48]
وفي رواية أخرى
عن سلمة بن الاكوع ـ رضي الله عنه ـ قال:
كان علي ـ رضي الله عنه ـ تخلف عن النبي r في خيبر وكان رمدا، فقال: أنا أتخلف عن رسول الله r، فخرج فلحق به، فلما كان مساء الليلة التي فتح الله في صباحها،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله، يفتح
الله عليه)، فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه الراية ففتح الله
عليه.
ومن
ذلك إخباره r
شداد بن أوس ـ رضي الله عنه ـ بأنه يعافى
من مرضه، وأنه يسكن الشام، فكان كذلك، فعنه أنه كان عند رسول الله r وهو يجود بنفسه، فقال:( مالك يا شداد؟) قال:
ضاقت بي الدنيا، قال:( عليك، الشام تفتح ويفتح بيت المقدس، فتكون أنت وولدك أئمة
فيهم )[49]
ومن
ذلك إخباره r
عثمان بن طلحة بأنه سيصير إليه مفتاح البيت يضعه حيث شاء، فعنه قال: لقيني رسول
الله r بمكة قبل الهجرة، فدعاني إلى الاسلام، فقلت: يا
محمد، العجب لك حيث تطمع أن أتبعك، وقد خالفت دين قومك، وجئت بدين محدث.
وكنا نفتح
الكعبة في الجاهلية يوم الإثنين والخميس، فأقبل يوما يريد الكعبة أن يدخلها مع
الناس، فغلظت عليه، ونلت منه وحلم عني، ثم قال:( يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح
بيدي، أضعه حيث شئت)، فقلت: لقد هلكت قريش، وذلت، فقال:( بل عمرت يومئذ وعزت).
فدخل الكعبة،
فوقعت كلمته مني موقعا، ظننت أن الامر سيصير إلى ما قال، فأردت الإسلام، فإذا قومي
يزبرونني زبرا شديدا، فلما كان يوم فتح مكة، قال لي:( يا عثمان، ائت بالمفتاح )
فأتيته به فأخذه مني ثم دفعه الي، وقال:(خذها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم
)، فلما وليت ناداني، فرجعت إليه، فقال:( ألم تكن الذي قلت لك؟) فذكرت قوله لي
بمكة قبل الهجرة، لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت، فقلت: بل أشهد
أنك رسول الله حقا[50].
قام رجل من الجمع بأدب، وقال: قد يعتبر البعض كل ما ذكرته من
نبوءات غيبية معاصرة لمحمد نوعا من الفراسة الصادقة، فالمتوسم الذكي قد يقرأ في
عيون الناس، وفي وجوههم، وفي الأحداث المختلفة ما يجعله لا يصيب إلا الحق.
أنا لا أقول هذا.. ولكني أدعوك من خلال هذه الشبهة إلى أن تذكر
لنا ما ذكر محمد من النبوءات الغيبية المرتبطة بغير زمانه.
نظر عبد القادر إلى الرجل، وقال: إن ذكر هذه النبوءات يستدعي
بعض الصبر، فإن كتب الحديث تمتلئ بها.. وهي من الكثرة والشمول بحيث لا يملك العقل
الناصح إلا التسليم لها.
وقد حدث الصحابة y عن اهتمام رسول الله r بذكر ما يحصل بعده إلى قيام الساعة، فعن أبي زيد
الأنصاري قال: صلى بنا رسول الله r صلاة الصبح، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى
حضرت الظهر، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غابت الشمس، فحدثنا بما
كان وما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا )[51]
وفي حديث آخر عن عمر بن الخطاب t قال: قام فينا رسول الله r مقاماً فأَخْبَرَنَا عَنْ بدء الْخَلْق حَتَّى دَخَلَ
أهْلُ الجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ وأهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُم، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ
حَفَظَهُ ونَسِيَهُ مَنْ نَسِيَه[52].
وفي حديث آخر عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله r قائماً، فما تَرَكَ شيئاً يكونُ في مقَامِهِ ذلك إلى
قيام الساعة إلا حدثه حَفِظَه من حفظه ونسيَه من نَسِيه، قد عَلمَه أصحابي هؤلاء
وإِنَّهُ ليكون الشيءُ فأذكُره كما يذكر الرجلُ وجهَ الرجل إذا غَابَ عَنْهُ ثم
إذا رَآهُ عَرَفَه )[53]
قام رجل من الجمع، وقال: ما سر حرص رسول الله r على ذلك؟
قال عبد القادر: أسباب كثيرة.. لعل أهمها ما يرجع إلى نصحه
لأمته، فرسول الله r رسول للبشر جميعا، وفي جميع الأوقات إلى
قيام الساعة.
لهذا، فإنه لم يترك شيئا تحتاج إليه الأمة في الظروف المختلفة التي
تمر بها إلا دل عليه.
وسأذكر لكم بعض ما يدل على هذا المقصد الشريف في كل مناسبة
تستدعي ذلك.
قالوا: فاذكرنا لنا من هذه النبوءات ما نتيقن به صدق ما تقول.
قال عبد القادر: أول ذلك إخباره r صحابته الذين كانوا معه، والذين تربوا
علي يديه بما يحصل لهم من بعده.
ومن ذلك إخباره
r
عن أعمار
الجيل الذي عاصره r،
وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة لم تزدها الأيام إلا تصديقا:
ومما يروى في ذلك قوله r:(
لا تأتي مائة سنة وعلى وجه الارض نفس منفوسة اليوم )[54]
وحدث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن ذلك، فقال: صلى بنا رسول الله r العشاء ليلة في آخر حياته، فلما قام فقال:( أرأيتكم
ليلتكم هذه؟) قال:( فإن رأس مائة سنة منها
لا يبقى اليوم ممن هو على ظهر الارض أحد )، يريد بذلك انخرام القرن[55].
وحدث جابر بن عبد ـ الله رضي الله عنهما ـ عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله r يقول قبل موته بشهر:( تسألون عن الساعة وانما علمها
عند الله، فأقسم بالله ما على ظهر الارض من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة
)[56]
وحدث أبو الطفيل ـ رضي الله عنه ـ عن تصديق ذلك، فقال:( لم يبق أحد ممن لقي
رسول الله r غيري )[57]، وقد مات أبو الطفيل على رأس المائة.
وفوق هذا، فقد أخبر r عن أعمار بعض الناس الذين عاصروه:
ومن ذلك ما حدث به عبد الله بن بسر ـ رضي
الله عنه ـ حين ذكر أن النبي r
وضع يده على رأسه وقال:( يعيش هذا الغلام قرنا ) فعاش مائة سنة، وكان في وجهه ثؤلول،
فقال:( لا يموت حتى يذهب الثؤلول من وجهه)، فلم يمت حتى ذهب[58].
ومن ذلك ما حدث به حبيب بن مسلمة الفهري أنه
أتى إلى النبي r
وهو بالمدينة ليراه، فأدركه أبوه، فقال: يا رسول الله يدي ورجلي، فقال:( ارجع معه،
فإنه يوشك أن يهلك )، فهلك في تلك السنة[59].
وفي رواية أخرى أن حبيب بن مسلمة ـ رضي الله عنه ـ قدم على النبي r المدينة غازيا، وأن أباه أدركه بالمدينة، فقال مسلمة:
يا رسول الله، إنه ليس لي ولد غيره، فيقوم في مالي، وضيعتي، وعلى أهل بيتي وأن
النبي r رده معه، وقال:( لعلك أن يخلو لك وجهك في
عامك، فارجع يا حبيب مع أبيك )، فرجع فمات مسلمة في ذلك العام، وغزا حبيب فيه [60]
ومن ذلك إخباره r
عن موت الكثير من أتباعه على الإسلام، والإخبار بأنهم من أهل الجنة،
فماتوا كما ذكر رسول الله r
لم يغيروا، ولم يبدلوا، مع أن الردة حصلت بعد وفاة رسول الله r،
بل حصلت فتن كثيرة كان يمكنها أن تؤثر فيهم.
فقد شهد للعشرة بالجنة، فعن أبي هريرة t، أن رسول الله r كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة
والزبير وسعد بن أبي وقاص، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله r:( اهدأ، فما عليك إلا نبيٌ، أو صِديقٌ، أو شهيدٌ )[61]
وشهد r لجميع من شهد بيعة الرضوان عام
الحديبية، وكانوا ألفا وأربعمائة[62]، وكلهم استمر
على السداد والاستقامة حتى مات.
وأخبر r عكاشة بأنه من أهل الجنة، فقتل
شهيدا يوم اليمامة، ففي الحديث عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله r يقول: يدخل الجنة من أمتي سبعون
ألفا بغير حساب، تضئ وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر، فقام عكاشة بن محصن الاسدي
يجر نمرة عليه، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال النبي r: اللهم أجعله منهم، ثم قام رجل من
الانصار فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة)[63]
وقد حصل ما أخبر عنه النبي r حيث قتل طلحة الأسدي عكاشة بن
محصن شهيدا.
ومنهم النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ، فقد حدث قتادة قال: جاءت عمرة بنت
رواحة تحمل ولدها النعمان بن بشير في ليفة إلى رسول الله r فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يكثر ماله وولده، فقال:(
أما ترضين أن يعيش كما عاش خاله، عاش حميدا، وقتل شهيدا، ودخل الجنة)[64]
وفي حديث آخر أن بشير بن سعد جاء بالنعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ إلى
النبي r فقال: يا رسول الله، ادع الله لابني هذا،
قال:( أما ترضى أن يبلغ ما بلغت؟ ثم يأتي الشام، فيقتله منافق من أهل الشام )[65]
وقد حدث مسلمة بن محارب وغيره عن تحقيق هذه النبوءة، فقال: لما قتل الضحاك بن
قيس بمرج راهط في خلافة مروان، أراد النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ أن يهرب من حمص، وكان عاملا عليها، فخالف، ودعا
لابن الزبير فطلبه أمير حمص، فقتلوه، واحتزوا رأسه.
ومن ذلك إخباره r
عن زمن موت
بعض أهله:
وأولهم سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء بنت رسول الله r، فقد أخبر r بأنها أول أهل بيته لحوقا به، فعن
عائشة ـ رضي الله عنها ـ في قصة مسارة النبي r ابنته فاطمة، وإخباره إياها بأن جبريل
كان يعارضه بالقرآن في كل عام مرة، وأنه عارضني العام مرتين، وما أرى ذلك إلا
لاقتراب أجلي، فبكت، ثم سارها فأخبرها بأنها سيدة نساء أهل الجنة، وأنها أول أهله
لحوقا به[66].
وقد حصل ما أخبر عنه النبي r، فلم تمكث فاطمة بعد رسول الله r إلا فترة قصيرة، فعن عائشة قالت:
مكثت فاطمة بعد وفاة رسول الله r ستة أشهر[67].
ومنهم زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن نساء النبي r اجتمعن عنده، فقلن يوما: يا رسول
الله أيتنا أسرع بك لحوقا؟ فقال: أطولكن يدا، وكانت سودة أطولنا ذراعا، فكانت
أسرعنا به لحوقا[68].
وقد حصل ما أخبر عنه النبي r
فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها ذكرت الحديث وفيه: فكانت زينب أطولنا
يدا، لانها كانت تعمل بيدها وتصدق.
ومن ذلك اخباره r
بموت أبي
الدرداء قبل الفتنة
ومنهم أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ فقد أخبر r
أنه يموت قبل الفتنة، فعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت
يا رسول الله بلغني أنك تقول:( ليرتدن أقوام بعد ايمانهم )، قال:( أجل ولست منهم
)، فتوفي أبو الدرداء قبل أن يقتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ [69].
ومن ذلك إخباره r
عن مكان
موت بعض أصحابه:
ومنهم الأقرع
بن شفي ـ رضي الله عنه ـ فقد أخبر r بأنه يدفن بالربوة من أرض فلسطين، فعنه قال: دخل علي رسول الله r في مرضي، فقلت: يا رسول الله، لا أحب إلا أني ميت من مرضي، قال:(
كلا لتبقين ولتهاجرن الى أرض الشام وتموت، وتدفن بالربوة من أرض فلسطين )، فمات في
خلافة عمر، ودفن بالرملة[70].
ومن ذلك إشارته r
إلى طاعون
عمواس من بلاد
الشام، وقد عبر r عن ذلك بحصول الموت الكثير، فعن عوف بن مالك ـ رضي الله عنه ـ
قال: أتيتُ النبي r في غزوة تبوك، وهو في قبةٍ من أدمٍ، فقال:( أعدد ستاً بين يدي
الساعة، موتي، ثم فتحُ بيت المقدس، ثم مُوتان يأخذ فيكم كقُعاص الغنم )
ويلاحظ قول النبي r (فيكم)، ففيه إشارة إلى أن هذا الموت سيكون في جيل الصحابة، وقد حصل ذلك
فعلاً، وقد حصل ذلك في بلاد الشام، والذي عُرف بطاعون (عمواس)[71]
نسبة إلى البلد الذي بدأ فيه، ثم انتشر منه.
وقد كان الطاعون قد ابتدأ بها، في زمن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ثم فشا
في بلاد الشام.
وقد وقع هذا الطاعون في سنة (17)[72] في العام الذي ذهب عمر رضي الله عنه إلى
الشام، وسمع به قد وقع، فلما أخبره عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ بالحديث
رجع.
وقد مات في هذا الطاعون خمسة وعشرون ألفاً من الصحابة وغيرهم.
وممن مات من كبار الصحابة فيه: أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وشرحبيل
ابن حسنة، والحارث بن هشام، والفضل بن العباس ابن عم النبي r وأبو مالك الأشعري، وسهيل بن عمرو، وابنه أبو جندل،
وعتبة بن سهيل، وعامر بن غيلان الثقفي، وغيرهم.
بالإضافة إلى
كل ذلك، فقد أخبر r الكثير من الصحابة عن البلاء الذين ينتظرهم:
ومن ذلك إخباره
عن قتل عمر ـ رضي الله
عنه ـ وعن فتح أبواب الفتن بموته، فعن حذيفة t قال: كنا جلوساً عند عمر، فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله r في الفتنة؟ قلت: أنا، قال: هات إنك لجريء، فقلت: ذكر فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه
وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: ليس
هذا أعني، إنما أعني التي تموج موج البحر، فقلت: يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها
باباً مغلقاً فقال:( وَيْحَك أيفتح الباب أمْ يكسر؟ فقلت: بل يكسر، قال: إذا لا
يغلقُ أبداً، قلت: أجَلْ، فقلنا لحذيفة: فَكَانَّ عمرَ يعلم مِنَ الباب، قال: نعم
إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، فقال: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب، فقلنا
المسروق، فسأله، فقال: عمر[73].
وقد وقع ما أخبر به r، حيث أنه بعد مقتل عمر t في سنة ثلاث وعشرين وقعت الفتن بين الناس، وكان قتله
سبب انتشارها بينهم.
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا
أن رسول الله r
أخبر عن عثمان بن عفان t
أنه من أهل الجنة على بلوى تصيبه، فعن أبي موسى قال: دخل رسول الله r حائطا فدلى رجليه في القف، فقلت: لأكونن اليوم بواب رسول الله r،
فجلست خلف الباب فجاء رجل فقال: افتح، فقلت: من أنت؟ قال: أبو بكر، فأخبرت رسول
الله r،
فقال: افتح له وبشره بالجنة، ثم جاء عمر فقال كذلك، ثم جاء عثمان فقال: ائذن له
وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فدخل وهو يقول: الله المستعان)[74]
وعن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله r:( والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم،
وتجتلدوا بأسيافكم، ويرث دنياكم شراركم )[75]
وقد بين رسول الله r أن عثمان رضي الله عنه يقتل ـ حين يقتل ـ وهو مظلوم، فعن
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أي أن رسول الله r ذكر فتنة، فمر رجلٌ، فقال:( يقتل فيها هذا المقنع
يومئذٍ مظلوماً )، قال: فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان[76].
وقد كان النبي r قد عهد إلى عثمان رضي الله عنه، بأن الله تعالى
سيقمِّصه قميصاً ـ يعني: الخلافة ـ فلا ينزعه، ولا يتنازل عنه، إذا ما نوزع من قبل
الظلمة، فعن عثمان ـ رضي الله عنه ـ قال:(
إن رسول الله r عهد إليّ عهداً، وأنا صابرٌ عليه)[77]
وقد وقع كل ذلك كما ذكر رسول الله r، حيث حصر في داره، وقتل صابراً محتسباً
شهيداً.
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا ما
أخبر به r
عن شهادة علي
بن أبي طالب t،
بعد توليه إمرة المؤمنين، وقد تحقق ذلك، فلم يقتل، ولم يمت حتى ولي إمرة المؤمنين،
ثم قتل، على حسب الوصف الذي أخبر عنه رسول الله r،
وهو أن تخضب لحيته من جبهته ـ رضي الله عنه ـ
فعن أبي الأسود الدؤلي،
عن علي t قال: قال لي عبد الله بن سلام ـ وقد وضعت رجلي في
الغرز، وأنا أريد العراق ـ: أين تريد؟ قلت: العراق قال: لا تأت أهل العراق، فإنك
إن أتيتهم، أصابك ذباب السيف، قال عليٌ: وأيم الله، لقد قالها لي رسول الله r.
قال أبو الأسود: فقلت في نفسي: ما رأيت كاليوم، رجلاً محارباً
يحدث الناس بمثل هذا[78].
ولما مرض t وهو في ينبع عاده بعض الصحابة والتابعين،
وطلبوا منه أن ينتقل إلى المدينة، حتى إذا حضر أجله وليه الصحابة ـ رضي الله عنهم
ـ وصلّوا عليه، أما إذا مات في مكانه فلا يحضره إلا أعراب جهينة، فأجابهم t بهذا الحديث.
فعن أبي سنان الدؤلي، أنه عاد علياً t في شكوى له شكاها، قال: فقلت له: لقد
تخوّفنا عليك يا أمير المؤمنين في شكواك هذه، فقال: لكني ـ والله ـ ما تخوّفت على
نفسي منه، لأني سمعت رسول الله r الصادق المصدوق يقول:( إنك ستُضرب ضربةً ههنا، ويكون صاحبها
أشقاها، كما كان عاقرُ الناقة أشقى ثمود )[79]
وفي حديث آخر قال علي t:( إن رسول الله r عهد إليَّ أني لا أموت حتى أؤمّر، تخضب هذه ـ يعني:
لحيته ـ من هذه ـ يعني: هامته )[80]
وقد ورد هذا عن عدد من الصحابة،رضي الله عنهم، كأنس وصهيب وجابر
بن سمرة وعمار، ففي رواية عمار t قال: كنت أنا وعليٌّ رفيقين في غزوة ذي
العُشيرة، فلما نزلها رسول الله r، وأقام بها، رأينا ناساً من بني مدلج، يعملون في عين
لهم في نخل، فقال لي عليٌّ: يا أبا اليقظان، هل لك أن نأتي هؤلاء، فننظر كيف
يعملون؟ فجئناهم، فنظرنا إلى عملهم ساعة، ثم غشينا النوم، فانطلقت أنا وعليٌّ
فاضطجعنا في صورٍ من النخل، في دقعاء من التراب، فنمنا، فوالله ما أهبَّنا إلا
رسول الله r يحرِّكنا برجله، وقد تترّبنا من تلك
الدَّقعاء، فيومئذ قال رسول الله r لعليٍّ:( يا أبا تراب ) لما يرى عليه من التراب، قال:(
ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين؟) قلنا: بلى يا رسول الله، قال:( أحيمرُ ثمود الذي
عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه ـ يعني: قرنه ـ حتى تُبلَّ منه هذه ـ
يعني: لحيته ـ )[81]
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا
إخباره r عائشة ـ رضي الله
عنها ـ بأنها ستقع في فتنة خروجها في معركة الجمل، فعن أبي رافع، أن رسول الله r
قال لعلي بن أبي طالب t:( إنه سيكون
بينك وبين عائشة أمرٌ )، قال: أنا يا رسول الله؟ قال: نعم قال: أنا؟ قال نعم قال:
فأنا أشقاهم يا رسول الله؟ قال: لا ولكن إذا كان ذلك، فارددها إلى مأمنها[82].
بل إنه r ذكر العلامة التي ستكون
عند ظهور هذا الخلاف، كما أشار إلى الظرف الذي ستكون عليه الأحوال، فعن عائشة ـ
رضي الله عنها ـ أنها لما أتت على الحوأب، وسمعت نباح الكلاب، قالت: سمعت رسول
الله r يقول لنا:( أيتكن تبنح عليها كلاب الحوأب[83])[84]
وأخبر r عما يحصل في تلك المعركة، فعن ابن عباس t، عن النبي r أنه قال لنسائه:(
ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج فينبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها وعن
يسارها قتلى كثير، ثم تنجو بعدها كادت )[85]
وقد حصل ما أخبر عنه رسول الله r، فعن قيس بن أبي حازم قال: لما أقبلت
عائشة فنزلت بعض مياه بني عامر نبحت عليها الكلاب فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا:
الحَوأب، قالت ما أظنني إلا راجعة, فقال لها بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك
المسلمون، فيصلح الله ذات بينهم , فقالت: إن النبي r قال لنا ذات يوم: كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب[86].
وقد حدث حذيفة ـ رضي الله عنه ـ عن هذا مع أنه مات قبل مسير
عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقد روي أنه قيل
له: حدثنا ما سمعت من رسول الله r قال:( لو فعلت لرجمتموني )، قلنا: سبحان
الله! قال:( لو حدثتكم أن بعض أمهاتكم تغزوكم في كتيبة تضربكم بالسيف ما صدقتموني
)، قالوا: سبحان الله، ومن يصدقك بهذا قال:( أتتكم الحمراء في كتيبة تسوق بها
أعلاجها )[87]، قال البيهقي، أخبر بهذا حذيفة ومات قبل مسير عائشة.
بل إنه r أخبر بعض من سار مع عائشة ـ رضي الله
عنها ـ على أنه سيقاتل عليا ـ رضي الله عنه ـ ظالما له، فعن أبي الاسود قال: شهدت الزبير
خرج يريد عليا، فقال له علي: أنشدك الله هل سمعت رسول الله r يقول:( تقاتله وأنت له ظالم )، فقال: لم
أذكر، ثم مضى الزبير منصرفا[88].
وفي حديث آخر عن أبي جروة المازني قال: سمعت عليا يقول للزبير
نشدتك بالله أما سمعت رسول الله r يقول: إنك تقاتلني وأنت ظالم لي؟ قال:
بلى، ولكن نسيت[89].
وفي حديث آخر عن قيس قال: قال علي للزبير: أما تذكر يوم كنت أنا
وأنت، فقال لك رسول الله r:( أتحبه )، فقلت: وما يمنعني، فقال:( أما
إنك ستخرج عليه وتقاتله وأنت ظالم )، قال: فرجع الزبير[90].
وفي حديث آخر أن عليا قال للزبير يوم الجمل: أنشدك الله هل سمعت
رسول الله r يقول:( لتقاتلنه وأنت ظالم له ثم لينصرن عليك )، قال:
قد سمعته لا جرم لا أقاتلك[91].
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا
إخباره r بمقتل عمار t شهيدا تقتله
الفئة الباغية، فعن ابن مسعود t قال: سمعت
رسول الله r
يقول: إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق[92].
وعن حنظلة بن خويلد العنزي قال: بينا
أنا عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار، يقول كل واحد منهما: أنا
قتلته، فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما لصاحبه نفسا، فإني سمعت النبي r يقول: تقتله الفئة الباغية، فقال معاوية:
ألا نح عنا مجنونك يا عمرو، فما بالك معنا، قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله r فقال: أطع أباك ما دام حيا ولا
تعصه، فأنا معكم ولست أقاتل[93].
بل إن النبي r أخبر عمارا عن آخر
طعام يتناوله، فعن أبي البختري، أن عمار بن ياسر أتي بشربة لبن فضحك، وقال: إن
رسول الله r قال لي: آخر شراب أشربه لبن حين أموت[94].
وقد حصل ما أخبر عنه النبي r
فقد كان عمارا ـ رضي الله عنه ـ في جيش علي ـ رضي الله عنه ـ يوم صفين، وقتله
معاوية وجيشه من أهل الشام الذين خرجوا بغاة على الخليفة الراشد.
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا
إخباره r أبا ذر الغفاري بالبلاء الذين
ينتظره، فعن إبراهيم بن الأشتر، أن لما حضره الموت، وهو بالربذة فبكت امرأته،
فقال: ما يبكيك؟ فقالت: أبكي أنه لا يد لي بنفسك، وليس عندي ثوب يسع لك كفناً،
قال: لا تبكي، فإني سمعت رسول الله r
يقول:( ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين)، قال: فكل من كان
مع في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، ولم يبق منهم غيري، وقد أصبحت بالفلاة أموت،
فراقبي الطريق فإنك سوف ترين ما أقول، فإني والله ما كَذبت ولا كُذبت، قالت: وأنى
ذلك وقد انقطع الحاج، قال: راقبي الطريق، قال: فبينا هي كذلك إذا هي بالقوم تخب
بهم رواحلهم كأنهم الرخم، فأقبل القوم حتى وقفوا عليها فقالوا: ما لك؟ فقالت: امرؤ
من المسلمين تكفنوه وتؤجرون فيه، قالوا: ومن هو؟ قالت: أبو ذر، ففدوه بآبائهم
وأمهاتهم ووضعوا سياطهم في محورها يبتدرونه، فقال: أبشروا، فأنتم النفر الذي قال رسول
الله r
فيكم ما قال، ثم أصبحت اليوم حيث ترون، ولو أن لي ثوباً من أثوابي يسع لأكفن فيه،
فأنشدكم بالله لا يكفني رجل منكم كان عريفاً أو أميراً أو بريداً، فكل القوم قد
نال من ذلك شيئاً إلا فتى من الأنصار كان مع القوم، قال: أنا صاحبك، ثوبان في
عيبتي من غزل أمي وأحد ثوبي هذين الذين علي، قال: أنت صاحبي، فكفنه الأنصاري في
النفر الذين شهدوه منهم حجر بن الأدبر ومالك الأشتر في نفر كلهم يمان[95].
فقد حصل ما أخبر عنه رسول الله r بدقة كما أخبر.
وفي حديث آخر عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال له:( يا أبا ذر،
كيف تصنع، ان أخرجت من المدينة؟)، قال: للسعة والدعة الى مكة فأكون حمامة من حمام
مكة، قال:( فكيف تصنع إذا أخرجت من مكة؟)، قال: للسعة والدعة، إلى الشام والأرض
المقدسة، قال:( فكيف تصنع إذا أخرجت من الشام؟)،
قال: قلت: والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي، وأقاتل حتى أموت قال:( أو
خير من ذلك؟ تسمع وتطيع وإن كان عبدا حبشيا )[96]
وعن القرظي، قال: خرج أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ إلى الربذة
فأصابه قدره، فأوصاهم أن غسلوني وكفنوني، ثم ضعوني على قارعة الطريق، فأول ركب
يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله r فأعينونا على غسله ودفنه ففعلوا.
فأقبل عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في ركب من العراق، وقد وضعت الجنازة على قارعة
الطريق، فقام عليه غلام، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله r قال: فبكى عبد الله بن مسعود ـ رضي الله
عنه ـ قال: سمعت رسول الله r يقول:( تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك )[97]
وفي حديث آخر عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( يا أبا ذر، أنيى أراك منفيا، وإني احب
لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم )[98]
ومن النبوءات الغيبية القريبة من هذا
ما روي عن أنيسة بنت زيد بن أرقم عن أبيها، أن رسول الله r
دخل على زيد يعوده في مرض كان به، فقال: ليس عليك من مرضك بأس، ولكن كيف بك إذا
عمرت بعدي فعميت؟ قال: إذا أحتسب وأصبر، قال: إذا تدخل الجنة بغير حساب، قال: فعمي
بعد ما مات رسول الله، ثم رد الله عليه بصره، ثم مات[99].
ومن النبوءات الغيبية القريبة من هذا ما أخبر به r عن حال عبد الله بن عباس من بعده، فقد روي أن العباس بن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله إلى رسول
الله r في حاجة، فوجده عنده رجلا فرجع
ولم يكلمه من أجل مكان الرجل، فلقي العباس رسول الله r، فأخبره بذلك، فقال: ورآه؟ قال: نعم، قال: أتدري من
ذلك الرجل؟ ذاك جبريل، ولن يموت حتى يذهب بصره ويؤتي علما[100].
وقد حصل ما أخبر عنه النبي r، فقد مات ابن عباس سنة ثمان وستين
بعد ما عمي.
بالإضافة إلى ذلك كله، فقد أخبر r عن الفتوح المادية الكثيرة التي ستفتح
على الصحابة، وخطورتها على بعضهم، وخشيته r من ذلك، وقد حصل كل ما أخبر عنه r:
فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: جلس رسول الله r على المنبر ذات يوم، فقال:( إن مما
أتخوف عليكم ما يفتح الله عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)، فقال رجل: يا رسول الله،
ويأتي الخير بالشر؟ فلم يرد عليه. قلنا: يافلان، ما شأنك سألت رسول الله r، فلم يرد عليك، فرأيت أنه ينزل
عليه الوحي، قال: فمسح الرحضاء[101] عن ظهره، فقال:
( أين السائل؟) كأنه حمده، وقال: (إنه لا يأتي الخير بالشر، وإنه مما ينبت الربيع
ما يقتل أو يلم[102]إلا آكلة الخضر، أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتها[103]استقبلت مطلع الشمس، فثلطت[104]وبالت ورتعت[105]، وإن هذا المال
حلو خضر، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ونعم صاحب المال من أعطى منه المسكين واليتيم
وابن السبيل ـ أو كما قال رسول الله r ـ والذي يأخذ بإشراف[106] نفس كان كالذي
يأكل ولا يشبع، فيكون عليه حسرة يوم القيامة، ورب متخوض في مال الله ومال رسوله له
النار يوم القيامة)[107]
ففي هذا الحديث نبوءتان، بعضهما يرتبط
ببعض:
أما الأولى، فإخباره r عن الفتوحات المادية التي سيفتح
بها على هذه الأمة، وهو ما حصل طيلة تاريخها.
وأما الثانية، فما تحدثه تلك الفتوح من
آثار خطيرة على سلوك بعض المسلمين ودينهم، مما جعل رسول الله r يتخوف عليهم من ذلك، وقد حصل ما
تخوف منه رسول الله r في كل فترات
التاريخ.. ولا نزال نشهد آثار ذلك إلى اليوم.
ومما يروى في ذلك ما حدث به عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله r يقول:( ستفتح عليكم الأرضون، ويكفيكم
الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه )[108]
وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r قال:( إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله متسخلفكم فيها،
لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في
النساء )[109]
وفي حديث آخر عن عمرو بن عوف ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r قال:( والله، ما أخشى عليكم الفقر، ولكن
أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوا كما
تنافسوا وتلهيكم كما أهلكتهم )[110]
وفي حديث آخر عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( هل لكم من أنماط[111]؟) قلنا: يا رسول الله، وأنى لنا أنماط؟ قال:( إنها ستكون لكم أنماط، فأنا
أقول اليوم لامرأتي نحي عني أنماطك، فتقول: ألم يقل رسول الله r انها ستكون لكم انماط بعدي )[112]
وفي حديث آخر عن طلحة النضري أن رسول الله r قال:( عسى أن تدركوا زمانا حتى يغدى على أحدكم بجفنة،
ويراح عليه بأخرى، وتلبسون أمثال أستار الكعبة)، قالوا: يا رسول الله، أنحن اليوم
خير أم ذاك اليوم؟ قال:( بل أنتم اليوم خير، أنتم اليوم متحابون، وأنتم يومئذ
متباغضون، يضرب بعضكم رقاب بعض )[113]
وفي حديث آخر أن رسول الله r قال:( ستفتح مشارق الارض ومغاربها على
أمتي، ألا وعمالها في النار، إلا من اتقى الله، وأدى الامانة )[114]
وفي حديث آخر عن وحشي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( لعلكم ستفتحون بعدي مدائن عظاما،
وتتخذون في أسواقها مجالس، فإذا كان ذلك فردوا السلام، وغضوا من أبصاركم، وأهدوا
الاعمى، وأعينوا المظلوم )[115]
وفي حديث آخر عن طلحة بن عبد الله البصري، قال: قال رسول الله r:( إنكم ستدركون زمانا من أدركه منكم يلبسون فيه مثل
أستار الكعبة، ويغدي ويراح عليه بالجفان )[116]
وفي حديث آخر عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله
r:( إذا مشت أمتي بالمطيطاء وخدمها ابناء فارس والروم،
رد الله بأسهم بينهم، وسلط شرارهم على خيارهم )[117]
قال عبد القادر: أجل، وقد وردت
بذلك نصوص كثيرة، وهي ـ بكل المقاييس ـ معجزة لا يمكن لأي شخص أن يتنبأ بمثلها إلا
إذا كان له من العلم الإلهي ما يدله على ذلك:
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا
ما ورد من ذكره r لأويس القرني، مع كونه لم يره، ولم يره أحد في
ذلك الحين، فقد قال r:( إن خير
التابعين رجل يقال له أويس القرني، وله والدة، وكان به بياض، فدعا ربه، فأذهبه عنه
إلا موضع الدرهم في سرته)[118]
وقد كان عمر t منذ سمع هذا من رسول الله r حريصا على أن يلقاه، فكان إذا أتت
عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أنت
أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: كان بك برص،
فبرئت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: ألك والدة؟ قال: نعم، فقال عمر: سمعت
رسول الله r يقول: ( يأتي
عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه
إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر
لك فافعل)، فاستغفر لي، فاستغفر له.
ثم قال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة،
قال: ألا أكتب لك إلى عاملها، فيستوصوا بك خيرا؟ فقال: لأن أكون في غمار الناس أحب
إلي.
فلما كان في العام المقبل حج رجل من
أشرافهم فسأل عمر عن أويس، كيف تركته قال: تركته رث البيت قليل المتاع، فذكر له
عمر الحديث الذي سمعه من رسول الله r، فلما قدم الرجل أتى أويسا فقال:
استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح، فاستغفر لي وقال: لقيت عمر بن الخطاب؟
فقال: نعم، قال: فاستغفر له، قال: ففطن له الناس فانطلق على وجهه[119].
فقد حصل ما أخبر عنه النبي r، وكان سلوك أويس دليلا على ذلك
الفضل الذي أخبر عنه r.
ومن ذلك إخباره r
عن صلة بن أشيم ـ رضي الله
عنه ـ مع أنه لم يكن في عصره، فعن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: بلغنا أن
النبي r
قال:( يكون في أمتي رجل يقال له: صلة بن أشيم يدخل الجنة بشفاعته كذا وكذا )[120] .
ومن ذلك إشارته
r إلى محمد بن كعب القرظي ـ رضي الله عنه ـ مع أنه
لم يكن في عصره، فعن أبي بردة الظفري ـ رضي الله عنه ـ، قال: سمعت رسول الله r
يقول:( يخرج في أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون من بعده )
قال نافع بن يزيد: فكنا نقول هو محمد بن كعب القرظي والكاهنان قريظة والنضير[121].
وقد قال عون بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ يبين صدق هذه النبوءة في محمد بن كعب:( ما رأيت
أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي )[122]
ومن ذلك إخباره r
عن زيد بن صوحان ـ رضي الله عنه ـ مع أنه لم يكن في
عصره، فعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال
رسول الله r:(
من سره أن ينظر الى رجل يسبقه بعض أعضائه الى الجنة فلينظر الى زيد بن صوحان )[123]
وفي حديث آخر عن الحارث الاعور، قال: كان مما ذكره رسول الله r زيد الخير وهو زيد بن صوحان، قال: قال رسول الله r:( سيكون بعدي رجل من التابعين وهو زيد الخير يسبقه بعض
أعضائه الى الجنة بعشرين سنة )، فقطعت يده اليسرى بنهاوند وعاش بعد ذلك عشرين سنة،
ثم قتل يوم الجمل بين يدي علي ـ رضي الله عنه ـ
وقال قبل أن يقتل: إني رأيت يدي خرجت من السماء تشير الي أن تعال، وأنا
لاحق بها[124].
ومن ذلك إخباره r
عن جندب بن كعب ـ رضي الله عنه ـ مع أنه لم يكن في
عصره، فعن بريدة قال: ساق رسول الله r
بأصحابه، فجعل يقول:( جندب وما جندب والاقطع الخير زيد )، فسئل عن ذلك فقال:( أما
جندب فيضرب ضربة يكون فيها أمة وحده، واما زيد فرجل من أمتي تدخل الجنة يده قبل
بدنه ببرهة )
فلما ولي الوليد بن عقبة الكوفة في زمن عثمان أجلس رجل يسحر،
يريهم أنه يحيى ويميت، فأتى جندب بسيف فضرب به عنق الساحر، وقال: أحي نفسك الآن،
وأما زيد بن صوحان، فقطعت يده يوم القادسية وقتل يوم الجمل[125].
ومن ذلك إخباره r بكلام الميت بعده، فعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت النبي r
يقول:( يكون في أمتي رجل يتكلم بعد الموت )[126]
وقد حدث ربعي بن حراش عن صدق نبوءة النبي r، فقال: مات أخي الربيع، وكان أصومنا في
اليوم الحار، وأقومنا في الليلة الباردة، فسجيته، فضحك، فقلت: يا أخي، أحياة بعد
الموت؟ قال: لا، ولكني لقيت ربي، فلقيني بروح وريحان، ووجه غير غضبان، فقلت: كيف
رأيت الأمر؟ قال: أيسر مما تظنون.
فذكر لعائشة ـ رضي الله عنها ـ فقالت: صدق ربعي، سمعت رسول الله
r يقول:( يتكلم رجل من أمتي بعد الموت من خير التابعين )[127]
ومن ذلك إشارته
r إلى العلماء والربانيين الكثيرين الذين ظهروا من بلاد فارس، مع أن
أهل فارس في ذلك الحين كانوا مجوسا، فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال:( لو كان الايمان عند الثريا ـ وفي لفظ: لو كان العلم معلقا
بالثريا ـ لناله رجال من فارس )[128]
ومن ذلك إخباره r بعالم المدينة، والذي تواطأ
الكثيرون على أن المراد به الإمام مالك بن أنس ـ رضي الله عنه ـ فعن أبي هريرة ـ
رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:(
يوشك الناس أن يضربوا أكباد الابل، فلا يجدوا عالما أعلم من عالم المدينة )، قال
سفيان بن عيينة ـ رضي الله عنه ـ نرى هذا
العالم مالك بن أنس، ولم يعرف بهذا الاسم غيره، ولا ضربت أكباد الابل الى أحد مثل
ما ضربت إليه [129].
وقال أبو مصعب: كان الناس يزدحمون على باب مالك ويقتتلون عليه
من الزحام، يعني لطلب العلم.
ومن ذلك إخباره r بعالم قريش، والذي تواطأ
الكثيرون على أن المراد به الإمام الشافعي، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال:
قال رسول الله r:(
اللهم اهد قريشا، فإن علم العالم يسع طباق الأرض )[130]
وفي رواية:( فإن عالمها يملأ طباق الارض علما )[131]
وفوق ذلك كله، فقد أخبر r عن المحبين المخلصين الذين امتلأت قلوبهم
أشواقا لنبيهم r، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( إن أناسا من أمتي يأتون بعدي يود أحدهم
لو اشترى رؤيتي بأهله وماله )[132]
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا
إخباره r
عن نار تخرج بالمدينة، فعن أبي ذر، قال: أقبلنا مع رسول
الله r
فرأينا ذا الحُليقة، فتعجل رجالٌ إلى المدينة، وبات رسول الله r
وبتنا معه، فلما أصبح سأل عنهم، فقالوا إلى المدينة، فقال:( تعجلوا إلى المدينة
والنساء، أما إنهم سيدعونها أحسن ما كانت )[133]
وفي حديث آخر قال r:( لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ من رومان
أو ركوبة (وهي ثنية بين مكة والمدينة ) تضيء منها أعناق الإبل ببصرى )[134]
وقد سماها r نار الحجاز، فقال:( لا
تقوم الساعة حتى تظهر نار بالحجاز )[135]، وفي رواية:( تخرج نار من أرض الحجاز
تضيء أعناق الإبل ببصرى )[136]
وقد حصل ما أخبر عنه رسول الله r، فظهور هذه النار بالمدينة المنورة اشتهر
اشتهاراً بلغ حدَّ التواتر عند أهل الأخبار.
وكان ابتداء الزلزلة بالمدينة الشريفة مستهل جمادى الآخرة، أو
آخر جمادى الآخر، أو آخر جمادى الأول سنة أربعة وخمسين وست مئة، لكنها كانت خفيفة
لم يدركها بعضهم مع تكررها بعد ذلك، واشتدت في يوم الثلاثاء ـ على ما حكاه القطب
القسطلاني ـ وظهرت ظهوراً عظيماً، اشترك في إدراكه العام والخاص، ثم لما كان ليلة
الأربع ثالث الشهر أو رابعه، في الثلث الأخير من الليل حدث بالمدينة زلزلة عظيمة
أشفق الناس منها، وانزعجت القلوب لهيبتها، واستمرت تزلزل بقية الليل، واستمرت إلى
يوم الجمعة، ولها دوي أعظم من الرعد، فتموج الأرض وتتحرك الجدران، حتى وقع في يوم
واحد دون ليلة ثماني عشرة حركة، على ما حكاه القسطلاني.
وقال القرطبي: قد خرجت نار الحجاز بالمدينة، وكان بدؤها زلزلة
عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة، الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وست
مئة، واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت، وظهرت بقريظة، بطرف الحرة ترى في
صفة البلد العظيم.
وقال النووي: تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام.
ونقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب الشريف سنان قاضي المدينة الشريفة
وغيره أنَّه في ليلة الأربعاء ثالثة جمادى الآخرة حدث بالمدينة في الثلث الأخير من
الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها، وباتت في تلك الليلة تزلزل، ثم استمرت تزلزل كل
يوم وليلة مقدار عشر مرات.
قال: والله لقد زلزلت مرة ونحن حول الحجرة فاضطرب لها المنبر
إلى أن سمعنا منه صوتاً للحديد الذي فيه واضطربت قناديل الحرم الشريف.
وقال القطب القسطلاني: فما كان يوم الجمعة نصف النهار ظهرت تلك
النار، فثار من محل ظهورها في الجو دخان متراكم غشى الأفق سواده، فلما تراكمت
الظلمات وأقبل الليل سطع شعاع النار، وظهرت مثل المدينة العظيمة في جهة الشرق.
قال القاضي سنان: وطلعت إلى الأمير ـ وكان عز الدين منيف بن
شيحة ـ وقلت له: قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله، فأعتق كل مماليكه، وردَّ على
الناس مظالمهم، وأبطل المكس.
ثم هبط الأمير إلى مسجد النبي r وبات في المسجد ليلة الجمعة وليلة السبت، ومعه جميع
أهل المدينة حتى النساء والصغار، ولم يبق أحد في النخل إلا جاء إلى الحرم الشريف
وبات الناس يتضرعون ويبكون، وأحاطوا بالحجرة الشريفة كاشفين رؤوسهم مُقرين بذنوبهم
مبتهلين مستجيرين بنبهم r.
وقال القطب: ولما عاين أمير المدينة ذلك أقلع عن المخالفة
واعتبر، ورجع عما كان عليه من المظالم وانزجر، وأظهر التوبة والإنابة، وأعتق جميع
مماليكه، وشرع في ردِّ المظالم وعزم أهل المدينة على الإقلاع عن الإصرار وارتكاب
الأوزار، وفزعوا إلى التضرع والاستغفار، وهبط أميرهم من القلعة مع قاضيهم الشريف
سنان وأعيان البلد، والتجأوا إلى الحجرة الشريفة، وباتوا بالمسجد الشريف بأجمعهم
حتى النساء والأطفال، فصرف الله تعالى تلك النار العظيمة ذات الشمال، ونجوا من
الأهوال، فسارت تلك النار من مخرجها وسالت ببحر عظيم من النار، وأخذت في وادي
أُحيليين وأهل المدينة يشاهدونها من دورهم كأنها عندهم ومالت من مخرجها إلى جهة
الشمال، واستمرت مدة ثلاثة أشهر على ما ذكره المؤرخون.
وقد ذكر القطب القسطلاني في كتاب أفرده لهذه النار، وهو ممن
أدركها لكنه كان بمكة فلم يشاهدها: إن ابتداءها يوم الجمعة السادس من شهر جمادى
الآخرة، وأنها دامت إلى يوم الأحد السابع والعشرين من رجب، ثم خمدت ـ فجملة ما
أقدمت اثنين وخمسين يوماً، لكنه ذكر بعد ذلك أنها أقامت منطفئة أياماً ثم ظهرت،
قال: وهي كذلك تسكن مرة وتظهر أخرى، فهي لا يؤمن عودها وإن طفيء وقودها.
وقد ذكر ابن كثير أنه أضاءت من هذه النار أعناق الإبل ببصرى،
فقال: أخبرني قاضي القضاة صدر الدين الحنفي قال: أخبرني والدي الشيخ صفي الدين
مدرس مدرسة بصرى أنه أخبره غير واحد من الأعراب صبيحة الليلة التي ظهرت فيها هذه
النار ممن كان بحاضرة بلد بصرى أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء تلك النار، فقد
تحقق بذلك أنها الموعودة بها، والحكمة في إنارتها بالأماكن البعيدة من هذا المظهر
الشريف حصول الإنذار، ليتم به الإنزجار.
قام بعض القوم، فقال: لقد حصلت فتن كثيرة بعد مدة وجيزة من وفاة محمد، كان
لها تأثيرها الخطير في حركة أمته وتوجهاتها، فهل أشار إليها، أو نبه عليها؟
قال عبد القادر: أجل.. بل نبه إلى ما هو أبعد منها، وسأحدثكم من ذلك ما
تعلمون به كيف بين r وجه الحق الذي اختلفت فيه الأمة.
ولو أن الأمة راجعت ما نقل عنه من ذلك وحققت فيه، لاهتدت إلى الحق، ورفعت
الخلاف بينها.
قالوا: فاذكر لنا من ذلك ما نعلم به صدق ما ادعيته.
قال عبد القادر: لقد ذكر رسول الله r المراحل التي تمر بها الأمة من خيرها وشرها، فحدث
حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ عن ذلك، فقال: كان الناس يسألون رسول الله r عن الخير، وكنت أسأله عن الشر
مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا
الخير، فهل بعد الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: فهل بعد الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه
دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟
قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله،
فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم
جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك
الموت، وأنت كذلك. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم قوم من جلدتنا ويتكلمون
بألسنتنا)[137]
فقد اختصر r
في هذا الحديث كل الأطوار التي تمر بها أمته، ثم بين نواحي الخلل فيها، وكيفية
تداركه..
إن هذا الحديث
ـ أيها الجمع المبارك ـ يحمل في حد ذاته رسالة نصح للأمة لا ينتهي مددها.
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا ما أخبر به r عن أنواع الحكم التي ستمر بها الأمة، وكأنه r يضع منحنى بيانيا لاستقامته
وانحرافه.
فقد جاء في الحديث قوله r:( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها
إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون،
ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضّاً، فيكون ما شاء الله أن
يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون
ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة )[138]
وكل ذلك قد
تحقّق كما أخبر رسول الله r.. بل إنه r حدد بدقة بعض تلك الفترات، فذكر أن مدة الخلافة التي على منهاج
النبوية ثلاثون عاماً، فكانت كما أخبر r، فعن سفينة، قال: قال رسول الله r: ( خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الملك من يشاء )، قال سعيد:
قال لي سفينة أمسك: أبو بكر سنتين، وعمر عشرا، وعثمان اثنتي عشرة، وعلي ستا[139].
وفوق ذلك، فقد أخبر r عن سنة من سنن الاجتماع، وهو ذلك الانحدار الذي تمر
به الحضارات، فقال:( ما كان نبي إلا كان له حواريون يهدون بهديه، ويستنون بسنته،
ثم يكون من بعده خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويعملون ما تنكرون)[140]
وفي حديث آخر قال r:( يكون بعد الأنبياء خلفاء يعملون بكتاب الله، ويعدلون
في عباد الله، ثم يكون بعد الخلفاء ملوك يأخذون بالثأر، ويقتلون الرجال، ويصطفون
الأموال، فمغير بيده، ومغير بلسانه، ومغير بقلبه، ليس وراء ذلك من الإيمان شيء )
وقد أخبر r عن افتراق القرآن والسلطان، وفي ذلك إشارة إلى الحكم بغير ما أنزل
الله، وإلى الاستبداد السياسي الذي حصل بعد الخلفاء الراشدين:
فعن معاذ ـ رضي
الله عنه ـ عن رسول الله r
قال:( خذوا العطاء ما دام عطاءا، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم
بتاركيه، يمنعكم من ذلك المخافة والفقر، ألا وان رحى الايمان دائرة، وان رحى الا
سلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث يدور، ألا وان السلطان والكتاب سيفترقان ألا فلا
تفارقوا الكتاب، ألا انه سيكون عليكم أمراء ان أطعتموهم أضلوكم، وان عصيتموهم
قتلوكم )، قالوا: فكيف نصنع يا رسول الله؟ قال:( كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم
حملوا على الخشب ونشروا بالمناشير، موت في طاعة الله، خير من حياة في معصية الله )[141]
وقد أخبر في
حديث آخر ما يبين قرب ذلك، فعن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال: خطبنا رسول الله r فقال في خطبته:( ألا اني أوشك أن أدعى فأجيب، فيليكم عمال من بعدي
يعملون بما تعملون ويعملون ما تعرفون، وطاعة أولئك طاعة، فتلبثون كذلك زمانا، ثم
يليكم عمال من بعدهم يعملون بما لا تعملون، ويعملون بما لا تعرفون فمن قادهم،
وناصحهم، فأولئك قد هلكوا، وأهلكوا خالطوهم بأجسادكم، وذايلوهم بأعمالكم، واشهدوا
على المحسن أنه محسن وعلى المسئ أنه مسئ )[142]
وفي حديث آخر
قريب من هذا عن عبد الله بن بسر ـ رضي الله عنه ـ
قال: قال رسول الله r:( كيف أنتم إذا جاءت عليكم الولاة؟ )[143]
وفي حديث آخر،
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال
رسول الله r:( ستكون بعدي أئمة يعطون الحكمة على منابرهم، فإذا نزلوا نزعت
منهم، وأجسادهم شر من الجيف )[144]
وفي حديث آخر،
عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال: قال
رسول الله r:( ألا أنه سيكون عليكم أمراء يقضون لانفسهم ما لا يقضون لكم، فإذا
عصيتموهم قتلوكم، وان أطعتموهم أضلوكم)، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع؟ قال:( كما
صنع أصحاب عيسى ابن مريم نشروا بالمناشير وحملوا على الخشب، موت في طاعة، خير من
حياة في معصية الله)[145]
وفي حديث آخر،
عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال:
ذكر رسول الله r الأمراء فقال:( يكون عليكم أمراء ان أطعتموهم أدخلوكم النار، وان
عصيتموهم قتلوكم )، فقال رجل منهم: يا رسول الله، سمهم لنا، لعلنا نحثوا في وجوههم
التراب، فقال رسول الله r:( لعلهم يحثون في وجهك ويفقئون عينيك )[146]
وفي حديث آخر،
عن كعب بن عجرة ـ رضي الله عنه ـ قال: خرج
علينا رسول الله r، فقال:( إنها ستكون عليكم أمراء من بعدي يعظون بالحكمة على منابر،
فإذا نزلوا اختلست منهم، وقلوبهم أنتن من الجيف)[147]
وقد ذكر r
خوفه على ما يحصل بعده من تسلط الأئمة الظلمة، ومن يعينهم من علماء السلاطين، فعن
ثوبان ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول
الله r:( إنما أخاف على أمتي الائمة المضلون )[148]
وقد نبه r الصحابة إلى كيفية التعامل مع هؤلاء الأمراء المستبدين، فقال:(
اسمعوا، إنه سيكون عليكم أمراء، فلا تعينوهم على ظلمهم، ولا تصدقوهم بكذبهم، فإنه
من أعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم، فلن يرد علي الحوض )[149]
وفي حديث آخر،
قال رسول الله r:( اسمعوا، هل سمعتم انه سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم،
وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم
ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض)[150]
قال رجل من
القوم: لكأن هذه الأحاديث تشير إلى بني أمية، وما حصل بسببهم من انحراف خطير لأمة
محمد عن نهج نبيها.
قال عبد القادر: أجل، وليس ذلك فقط، بل هناك أحاديث تصرح بذلك،
أو تكاد تصرح به، وهي نبوءات تحمل نصحا عظيما للأمة بأن لا يعتبروا هؤلاء الذين
حرفوا منهج الحكم الإسلامي قدوة تتبع.
ومن ذلك إشارته r
إلى ما سيكون من تولي بعض الصبية لأمر المسلمين، وما سيكون في ذلك من فساد وإفساد،
فعن أبي هريرة t قال: سمعت رسول الله r
يقول:( هلكة أمتي على يدي غلمة)، فقال مروان ـ وما معنا في الحلقة أحد، قبل أن يلي شيئاً ـ: فلعنة الله عليهم غلمة.
قال: وأنا والله لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت، قال: فكنت أخرج مع أبي
إلى بني مروان بعد ما ملكوا، فإذا هم يبايعون الصبيان، ومنهم من يبايع له وهو في
حزامه، فقلت: هل عسى أصحابكم هؤلاء أن
يكونوا الذين سمعت أبا هريرة، قال لنا
عنهم إن هذه الملوك يشبه بعضها بعضاً[151].
فقد وقع في هذا الحديث ما اخبر عنه r، والذي لم يقتصر على تلك الفترة، بل
تعداها إلى فترات كثيرة من التاريخ الإسلامي أصبح الأمر فيها يسند إلى صبية يكون
على أيديهم فساد كبير.
بل إن رسول الله r لم يكتف بالإشارة إلى هؤلاء الحكام
الظلمة، بل أشار إلى معينيهم من الكذابين والهالكين:
فمن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا ما
روي عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت للحجاج بن يوسف: أما إن رسول
الله r حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا، فأما الكذاب فقد
رأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه[152].
ولما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير دخل الحجاج على أسماء بنت أبي
بكر فقال: يا أمه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك، فهل لك من حاجة؟ فقالت: لست لك
بأم، ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة، ولكن انتظر حتى أحدثك ما
سمعت من رسول الله r، يقول: يخرج من ثقيف كذاب ومبير، فأما
الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت [153].
وقد حصل ما أخبر عنه رسول الله r، فقد تواتر خبر المختار بن أبي عبيد
الكذاب الذي كان نائبا على العراق، وكان يزعم أنه نبي، وأن جبريل كان يأتيه
بالوحي، وقد قيل لابن عمر وكان زوج أخت المختار وصفيه، إن المختار يزعم أن الوحي
يأتيه.
قال: صدق، قال الله تعالى::﴿
وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام: من الآية121)
وقد روي عن رفاعة بن شداد، قال: كنت ألصق شئ بالمختار الكذاب،
قال: فدخلت عليه ذات يوم فقال: دخلت وقد قام جبريل قبل من هذا الكرسي، قال: فأهويت
إلى قائم السيف لاضربه حتى ذكرت حديثا حدثنيه عمرو بن الحمق الخزاعي، أن رسول الله
r قال: إذا أمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له لواء
الغدر يوم القيامة، فكففت عنه [154].
ومما يؤكد هذه الإشارات أن الوليد بن عقبة، قال: لما فتح رسول
الله r مكة جعل أهل مكة يأتون بصبيانهم، فيمسح على رؤوسهم
ويدعو لهم، فخرجت بي أمي إليه وأنا مطيب بالخلوق، فلم يمسح على رأسي ولم يمسني[155].
قال البيهقي:
هذا السابق علم الله تعالى في الوليد، فمنع بركة رسول الله r، وأخبار الوليد حين استعمله عثمان ـ رضي الله عنه ـ معروفة، من شربة الخمر وتأخيره الصلاة، وهو من
جملة الاسباب التي نقموا بها على عثمان حتى قتلوه.
بل إن رسول
الله r فوق هذا كله جعل علامات كثيرة لأهل الحق في تلك الفتنة، وكأنه يحض
الناس على موالاتهم ونصرتهم، لأنه لا نصر للدين الخالص إلا بنصرتهم.
ومما يروى من ذلك
عن الحارث قال: كنت مع علي بصفين، فرأيت بعيرا من إبل الشام جاء عليه راكبه ونقله،
فألقى ما عليه وجعل يتخلل الصفوف على علي، فجعل مشفره فيما بين رأس علي ومنكبه
وجعل يحركها بجرانه، فقال علي: والله إنها للعلامة التي بيني وبين رسول الله r[156].
وفي حديث آخر عن أبي سعيد قال: كنا مع رسول الله r فانقطعت نعله، فتخلف علي يخصفها، فمشى قليلا ثم قال:(
إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله )، فقال أبو بكر: أنا،
قال:( لا )، قال عمر: أنا، قال:( لا ولكن خاصف النعل )[157]
وفي حديث آخر عن أبي أيوب قال:( أمر رسول الله r عليا بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين )[158]
وفي حديث آخر عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال:( إن مما عهد إلي
النبي r أن الأمة ستغدر بي بعده )[159]
وفي حديث آخر عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r قال لعلي:( أما إنك ستلقى بعدي جهدا ) قال: في سلامة
من ديني؟ قال:( نعم )[160]
ومن الإشارات الجلية التي تركها r لتبين أهل الحق إخباره r بقتل عمار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ وأن الذي يتولى
قتله الفئة الباغية، فعن مولاة لعمار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: اشتكى عمار
بن ياسر شكوى ثقل منها، فغشي عليه، فأفاق، ونحن نبكي حوله قال: ما يبكيكم؟ أتحسبون
أني أموت على فراشي، أخبرني حبيبي رسول الله r أنه تقتلني الفئة الباغية، وأنا آخر زادي
مذقة من لبن[161].
وفي حديث آخر، قال:( إن رسول الله r أخبرني أني أقتل يوم صفين )[162]
وفي حديث آخر أن رسول الله r قال، وهو يبني المسجد، لعمار بن ياسر ـ
رضي الله عنه ـ:( تقتلك الفئة الباغية )، وقد روي هذا الحديث بروايات كثيرة تبلغ
حد التواتر[163].
وفي حديث آخر عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( ويح عمار، تقتله الفئة الباغية،
ويدعوهم الى الله ويدعونه الى النار )[164]
بل إن الرسول r بين عظم البشارة التي
يحملها هذا النوع من القتل الذي أصاب عمارا، فقد قال r لعمار:( أبشر عمار، تقتلك الفئة الباغية
)[165]
وفي ذلك تنبيه للقاعدين الذين قعدوا عن نصرة علي ـ رضي الله عنه
ـ ونصرة الخلافة الراشدة بحجة الهرب من الفتنة، مع أن الفتنة في تحريف الدين، وتمكين
المستبدين.
قام رجل من
الجمع، فقال: فهل أشار محمد إلى مظاهر هذه الفتنة التي تولى كبرها بنو أمية، ومن
شايعهم؟
قال عبد
القادر: أجل، وأول ذلك ما أخبر عنه r
من المظالم العظيمة التي قام بها أهل البيت الأموي تجاه آل بيت رسول الله r بغيا وحسدا ورثوه من جاهليتهم، ومن آبائهم الذين
كانوا أول من حارب الإسلام.
فعن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ
قال: قال رسول الله r:( ان أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي
قتلا وتشريدا، وان أشد قومنا لنا بغضا بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم )[166]
وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: بينا نحن عند رسول الله r إذا أقبل فئة من بني هاشم، فلما رآهم رسول الله r اغرورقت عينه[167].
ومن ضمن ذلك إخباره r عن قتل الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما
ـ، فعن عائشة وأم سلمة ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله r قال:( إن جبريل أخبرني أن ابني الحسين
يقتل، وهذه تربة تلك الارض )[168]
وعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله r:( إن جبريل كان معنا في البيت، فقال: اتحبه؟، فقلت:
أما في الدنيا فنعم؟ قال: إن أمتك ستقتل هذا بأرض، يقال لها: كربلاء، فتناول جبريل
من تربتها، فأرانيه )[169]
وعنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله r:( إن جبريل أخبر ني أن ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يقتل،
وأنه اشتد غضب الله على من يقتله )[170]
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله r:( إن جبريل أراني التربة التي يقتل عليها الحسين، فاشتد
غضب الله على من يسفك دمه، فيا عائشة، والذي نفسي بيده، انه ليحزنني فمن هذا من
أمتي يقتل حسينا بعدي )[171]
وعن زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله r:( إن جبريل أتاني فأخبرني أن ابني تقتله أمتي قلت:
فأرني تربته، فأتاني بتربة حمراء )[172]
وعن أم الفضل بنت الحارث ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله r قال:( (أتاني جبريل فأخبرني أن امتي ستقتل ابني هذا
يعني الحسين، وأتاني بتراب من تربته حمراء )[173]
وعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله r قال:( أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بأرض العراق،
فقلت لجبريل: أرني تربة الأرض التي يقتل بها، فجاء بها فهذه تربتها )[174]
وعن علي ـ رضي الله عنه ـ
أن رسول الله r قال:( أخبرني جبريل أن حسينا يقتل بشاطئ
الفرات )[175]
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ
قال: استأذن ملك المطر ربه أن يزور النبي r فأذن له، وكان في يوم أم سلمة فقال النبي
r:( يا أم سلمة، احفظي علينا الباب، لا يدخل علينا أحد
)، فبينا هي على الباب إذ دخل الحسين، فاقتحم فوثب على رسول الله r فجعل يقع على منكب رسول الله r، فقال الملك: أتحبه؟ قال:( نعم )، قال:
فإن أمتك ستقتله، وان شئت أريتك المكان الذي يقتل به، فأراه فجاءه بشهلة [176] أو بتراب أحمر
فأخذته أم سلمة، فجعلته في ثوبها، قال ثابت: كنا نقول: إنه كربلاء )[177]
وفي رواية: قالت: ثم ناولني كفا من تراب أحمر، وقال: إن هذه من
تربة الأرض التي يقتل بها، فمتى صار دما، فاعلمي انه قد قتل، قالت أم سلمة: فوضعته
في قارورة عندي، وكنت أقول إن يوما يتحول فيه دما ليوم عظيم.
وقد أخبر r عن سبب هذه الفتن جميعا، وهذه المظالم
التي تعرضت لها الأمة، وأولهم آل بيته r الكرام، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه
ـ قال: قال رسول الله r: ( هلاك أمتي على يدي أغيلمة [178] من قريش )[179]
وفي حديث آخر عنه ـ رضي الله عنه ـ قال:( يجري هلاك أمتي على
يدي أغيلمة سفهاء من قريش )، قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ:( لو شئت سميتهم بنو
فلان وبنو فلان )[180]
قال رجل من القوم: فمن الذي منعه من تسميتهم؟
قال عبد القادر: ذلك الحكم المتجبر الذي قاوم الخلافة الراشدة
قمع الناس، ومنع أحاديث رسول الله r المرتبطة بهذا الباب من أن تنشر خشية على
ملكهم.
ولكن مع ذلك وردت نصوص كثيرة تشير إلى ذلك، بل تكاد تصرح به،
فعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ وغيره من الصحابة أن رسول الله r قال:( إن هذا الحي من مضر لا يدع عبدا
لله صالحا في الارض إلا فتنته وأهلكته حتى يدركها الله عز وجل بجنود من عنده أو من
السماء، فيذلها حتى لا تمنع ذنب تلعة[181])[182]
ومن المظالم
التي أخبر r عن ارتكاب أهل الملك العضوض لها قتلهم للكثير من الصالحين من
الصحابة والتابعين وآل البيت الكرام.
ومن
ذلك إخباره r عن المقتولين ظلما بعذراء من أرض دمشق، فعن أبي الاسود، قال: دخل
معاوية على عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقالت: ما حملك على قتل أهل عذراء حجر
وأصحابه؟ فقال: يا أم المؤمنين، إني رأيت قتلهم صلاحا للأمة، وبقاءهم فسادا للأمة،
فقالت: سمعت رسول الله r
يقول:( سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم، وأهل السماء )[183]
وعن سعيد بن أبي هلال أن معاوية حج فدخل على عائشة ـ رضي الله
عنها ـ فقالت: يا معاوية قتلت حجر بن الادبر وأصحابه؟ أما والله، لقد بلغني أنه
سيقتل بعذراء سبعة نفر يغضب الله لهم وأهل السماء[184].
وقد أخبر الحسن
البصري ـ رضي الله عنه ـ عن الظلم العظيم الذي ارتكبه معاوية بقتله حجرا وأصحابه،
فقال:( أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة: إنتزاؤه على
هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الامر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة،
واستخلافه بعده ابنه سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا، وقد
قال رسول الله r:( الولد للفراش وللعاهر الحجر
)، وقتله حجرا وأصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر! ويا ويلا له من حجر وأصحاب
حجر! )
ومن ذلك إخباره r
عن قتل عمرو بن الحمق ـ رضي الله عنه ـ على أيدي هؤلاء الطغاة، فعن رفاعة بن شداد
البجلي أنه خرج مع عمرو بن الحمق حين طلبه معاوية قال: فقال لي يا فارعة أن القوم
قاتلي، إن رسول الله r أخبرني أن
الجن والانس تشترك في دمي، قال رفاعة: فما تم حديثه حتى رأيت أعنة الخيل فودعته وواثبته
حية، فلسعته وأدركوه فاحتزوا رأسه، وكان أول رأس أهدي في الاسلام[185].
وفي حديث آخر عنه ـ رضي الله عنه ـ قال: بعث رسول الله r سرية، فقالوا: يا رسول الله، إنك تبعثنا،
ولا لنا زاد ولا طعام، ولا علم لنا بالطريق، فقال:( إنكم ستمرون برجل صبيح الوجه
يطعمكم من الطعام ويسقيكم من الشراب، ويدلكم على الطريق، وهو من أهل الجنة )
فلم يزل القوم على جعل يشير بعضهم الى بعض، وينظرون الي فقلت:
مالكم يشير بعضكم الى بعض وتنظرون إلي، فقالوا: أبشر ببشرى الله ورسوله r فإنا نعرف فيك نعت رسول الله r، فأخبروني بما قال لهم، فأطعمتهم وسقيتهم
وزودتهم وخرجت معهم حتى دللتهم على الطريق.
ثم رجعت الى أهلي وأوصيتهم بإبلي ثم خرجت إلى رسول الله r فقلت: ما الذي تدعو إليه؟ قال:( أدعو الى شهادة أن لا
اله الا الله، وأني رسول الله واقام الصلاة، وايتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان
)، فقلت: إذا أجبناك الى هذا فنحن آمنون على أهلنا ودمائنا وأموالنا؟ قال:( نعم )
فأسلمت، ثم رجعت الى أهلي، فأعلمتهم باسلامي، فأسلم على يدي بشر
كثير منهم، ثم هاجرت الى رسول الله r فبينا أنا عنده ذات يوم فقال:( يا عمرو،
هل لك أن أريك آية الجنة، تأكل الطعام، وتشرب الشراب وتمشي في الاسواق؟)، قلت:
بلى، بأبي أنت وأمي، قال:( هذا وقومه)، وأشار الى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه
ـ
وقال لي:( يا عمرو، هل لك أن أريك آية النار تأكل الطعام، وتشرب
الشراب، وتمشي في الاسواق؟)، قلت: بلى، بأبي أنت وأمي، قال: (هذا) وأشار الى رجل.
فلما وقعت الفتنة ذكرت قول رسول الله r ففررت من آية النار الى آية الجنة، ويرى
بني أمية قاتلي بعد هذا، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: والله، لو كنت حجرا في جوف
حجر لا ستخرجني بنو أمية حتى يقتلوني، حدثني به حبيبي رسول الله r أن رأسي أول رأس تجز، ويحتز في الاسلام، وينقل من بلد
الى بلد.
ومن ذلك إخباره r
عما يكون من أمر قيس بن خرشة ـ رضي الله عنه ـ ومحاولة هؤلاء المجرمين التعرض له،
وحماية الله له منهم، فعن محمد بن يزيد بن أبي زياد الثقفي قال: إن قيس بن خرشة
قدم على النبي r،
قال: أبايعك على ما جاء من الله تعالى وعلى أن أقول بالحق، فقال النبي r:(
يا قيس، عسى أن يمدك الدهر، أن يلقاك بعدي من لا تستطيع أن تقول بالحق معهم)، قال
قيس: والله لا أبايعك على شئ إلا وفيت لك به، فقال النبي r:(
إذا لا يضرك بشر)
وكان قيس يعيب زياد بن أبي سفيان، وابنه عبيد الله، فبلغ ذلك
عبيد الله، فأرسل إليه فقال: أنت الذي تفتري على الله تعالى وعلى رسوله؟ قال: لا،
ولكن إن شئت أخبرتك بمن يفتري على الله وعلى رسوله؟ قال: من ذاك؟ قال: أنت وأبوك
الذي أمركما، قال قيس: وما الذي افتريت على الله ورسوله؟ فقال:( تزعم انه لا يضرك
بشر! ) قال: نعم، قال:( لتعلمن اليوم أنك قد كذبت، ائتوني بصاحب العذاب وبالعذاب
)، قال: فمال قيس عند ذلك، فمات[186].
ومن
ذلك إخباره r
عن قتل هؤلاء الطواغيت لأهل الحرة، فعن أيوب بن بشير المعاوي أن رسول الله r خرج في سفر، فلما مر بحرة زهرة وقف، فاسترجع، فسألوه فقال:( يقتل
بهذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي )[187]
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال:
جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة:﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ
أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا
إِلَّا يَسِيراً﴾ (الأحزاب:14) قال: لأعطوها، يعني
ادخال بني حارثة أهل الشام على المدينة[188].
وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ قال: لما كان يوم الحرة قتل أهل
المدينة حتى كاد لا ينفلت منهم أحد[189].
وعن مالك بن أنس قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن
منهم ثلاثمائة من الصحابة، وذلك في ملك يزيد.
وقد أخبر r عن هذه الحادثة، وعن بعض الأحداث التي
ستحدث في المدينة المنورة بعده، فعن أبي ذرٍّ الغفاريٍّ t قال: ركب رسول الله r حماراً، وأردفني خلفه، وقال:( يا أبا ذر، أرأيت إن
أصاب الناس جوعٌ شديد، لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟) قال: الله
ورسوله أعلم، قال:( تعفّف )، قال:( يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس موتٌ شديدٌ،
يكون البيت فيه بالعبد، (يعني: القبر) ـ كيف تصنع؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال:(
اصبر )، قال:( يا أبا ذر، أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً حتى تغرق حجارة الزيت من
الدماء كيف تصنع؟)، قلت: الله ورسوله أعلم، قال:( اقعد في بيتك، وأغلق عليك بابك
)، قال: فإن لم أترك؟ قال:( فأت من أنت منهم فكن فيهم )، قال: فآخذ سلاحي؟ قال:(
إذاً تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على
وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك )[190]
ففي هذا الحديث أخبر r عن أمور كثيرة حصلت في المدينة المنورة،
وكلها حصل كما أخبر r بكل دقة[191].
فأولها إخباره r عن الجوع الشديد في المدينة، وقد وقع ذلك في عام
الرمادة، سنة ثماني عشرة من الهجرة، في زمن عمر ـ رضي الله عنه ـ واستمر تسعة
أشهر، ومات فيه خلق كثير، حتى استسقى عمر ـ رضي الله عنه ـ بالناس.
وثانيها إخباره r عن الموت الشديد، وقد حصل هذا في طاعون عمواس.
وقد أدرك أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ هذين الأمرين، لأنه توفي سنة
اثنتين وثلاثين، في خلافة عثمان.
وثالثها إخباره r عن القتال الذي يقع في المدينة، حتى تغرق حجارة الزيت
من الدماء التي ستراق فيها، وقد حصل هذا كما أخبر r في كلا الموضعين اللذين بهما أحجار الزيت
في المدينة.
فالموضع الأول الذي هو عند الزوراء[192]، وقد حصل فيه استشهاد محمد بن عبد الله
بن الحسن بن الحسن بن علي ـ رضي الله عنهم ـ المعروف بالنفس الزكية، وقد قال
الإمام الذهبي عن ذلك:( كان مصرع محمد عند أحجار الزيت، في رابع عشر رمضان، سنة
خمس. قلت: يعني وأربعين ومائة، زمن المنصور، وقد قتل خلق كثير )[193]
وأما الموضع الثاني، فهو في الحرة الشرقية من المدينة، عند
منازل بني عبد الأشهل، وقد كان عندها معركة الحرة المشؤومة المشهورة، وكان ذلك
لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة، في زمن يزيد بن معاوية، وبقيادة
مسلم بن عقبة المري، وقد قتل فيها عدد كبير من الصحابة والتابعين ـ رضي الله عنهم
ـ وقد كتب عنها الكثير.
ومن المظالم
التي أخبر r عن ارتكاب أهل الملك العضوض لها عزلهم للأنصار
الذين نصروا الدين، واحتقارهم لهم، واستئثارهم بالسلطة دونهم.
ومن
ذلك ما وري عن أسيد بن حضير وأنس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله r قال للأنصار حين أفاء الله عليه أموال هوازن:( إنكم ستلقون بعدي
أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)[194]
وحدث أنس ـ رضي الله عنه ـ عن ذلك، فذكر أن رسول الله r قال للأنصار:( ستلقون بعدي أثرة في القسم، والامر،
فاصبروا حتى تلقوني على الحوض )[195]
وقد حدث مقسم يذكر وقوع ما أخبر عنه رسول الله r، فذكر أن أبا أيوب أتى معاوية فذكر حاجة له، فجفاه ولم
يرفع به رأسا، فقال أبو أيوب: أما ان رسول الله r قد خبرنا أنه ستصيبنا بعده أثرة قال: فبم
أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتى نرد عليه الحوض، قال: فاصبروا إذا، فغضب أبو أيوب،
وحلف أن لا يكلمه أبدا[196].
بل إن هذا الأثرة شملت سائر الصحابة الذين تربوا على يدي رسول
الله r واستقوا من هديه، فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها )،
قالوا: يا رسول الله، ما تأمرنا؟ قال:( تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي
لكم )[197]
ومن أعظم
المظالم التي ارتكبها اهل الملك العضوض ما أخبر عنه r من تفريقهم شأن الأمة بما ينشرونه من مكايد:
ففي الحديث عن
عن أبي بصرة الغفاري ـ رضي الله عنه ـ
قال: قال رسول الله r:( سألت ربي أربعا، فأعطاني ثلاثا، ومنعني واحدة، سألته ألا يجمع
أمتي على ضلالة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلكت الامم قبلهم
فأعطانيها، وسألته أن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها )[198]
وفي حديث آخر قال رسول الله r:( سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني
واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق
فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها )[199]
وقد أشار r إلى مكيدة التحكيم التي حصلت في صفين،
وهي تشير إلى غيرها من المكايد التي يمارسها المستبدون ليفرقوا صفوف الأمة، فعن
علي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( إن بني اسرائيل اختلفوا فلم يزل اختلافهم
بينهم حتى بعثوا حكمين فضلا وأضلا، وإن هذه الأمة ستختلف، فلا يزال اختلافهم بينهم
حتى يبعثوا حكمين ضلا وضل من اتبعهما )[200]
وفي حديث آخر عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ وهو أحد
الحكمين، قال: قال رسول الله r:( يكون في هذه الأمة حكمان ضالان، ضال من
تبعهما)، قال سويد بن غفلة، فقلت: يا أبا موسى أنشدك الله أليس انما عناك رسول
الله r، فقال:( إنها ستكون فتنة في أمتي أنت فيها يا أبا موسى
نائما خير منك قاعدا وقاعدا خير منك قائما وقائما خير منك ماشيا )، فخصك رسول الله
r ولم يعم الناس[201].
قام رجل من الجمع، وقال: لقد عرفنا الفتنة الأولى، وعلمنا
صدق ما أخبر عنه محمد من جرائم أهل الملك العضوض، فحدثنا عن الفتنة الآخرة، فتنة
الملك الجبري.
قال عبد القادر: تلك فتنة أخطر وأعظم، وهي ليست فتنة
واحدة، بل فتن كثيرة جدا، وردت النصوص الكثيرة بتفاصيلها، وسأذكر لكم منها ما
تعلمون به أن نبوة محمد r لم تقتصر على فترة رسالته، بل هي
ممتدة لكل الأجيال، فكل جيل يجد من التوجيهات الخاصة ما يقيم عليه الحجة.
فقد أخبر r عن كثرة الفتن في زمن الفتنة
الآخرة، فقال:( إن بين يدي الساعة
فتناً كقطع الليل المظلم، فتن كقطع الدخان، يموت فيها قلب الرجل كما يموت
بدنه، يمسي الرجل مؤمناً ويصبح
كافراً، يبيع أقوام أخلاقهم ودينهم بعرض
من الدنيا)[202]
وفي حديث آخر، قال r:( ستكون فتن يفارق الرجل فيها أخاه وأباه
تطير الفتنة في قلوب الرجال منهم إلى يوم القيامة، حتى يعير الرجل فيها بصلاته كما
تعير الزانية بزناها)[203]
وفي حديث آخر قال r:( إن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً،
وسيخرجون منه أفواجاً )[204]
وفي حديث آخر قال r:(:( إنها ستكون فتنة المُضْطَجعْ فيها
خير من الجالس والجالسُ خير من القائم، والقائم خير من الماشي والماشي خير من
الساعِي. قال يا رسول الله مَا تَأمُرُني؟ قَال: من كانت له إِبلٌ فلْيَلْحَقْ
بإِبِلِهِ، ومن كانت لَه غَنَمٌ
فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ
لَه أرض فلْيَلْحَقْ بِأرْضِهِ. قال: فمن لَم يَكُن له شيءُ من ذلك فلْيَعْمَدْ
إِلى سَيْفِهِ فيدُقَّ عَلَى حَدِّهَ بِحَجَرٍ ثم ليَنْجُ ما اسْتَطَاعَ
النَّجَاءَ )[205]
وقد ذكر r بعض هذه الفتن، ومنها فتنة الأحلاس، فعن
عبد الله بن عمر t قال: كنا قعوداً عند رسول الله r، فذكر الفتن، فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس.
فقال قائل: يا رسول الله وما فتنة الأحلاس؟ قال:( هي حرب وهرب، ثم فتنة السراء دخلها أو دخنها من تحت قدمي رجل
من أهل بيتي يزعم أنه ابني وليس مني إنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع، ثمٍ فتنة الدهيماء لا تدع أحداً من هذه الأمة
إلا لطمته حتى إذا قيل انقضت عادت يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً حتى يصير
الناس إلى فسطاطين فسطاط إيمان لا نفاق فيه وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو من
غده )[206]
قال رجل من الحاضرين: لقد سمعنا من بعض الخطباء من يتحدث عن تحديد نزول الفتن
بما بعد المائتين، فقد رووا أن الآيات تبدأ بعد المائتين، وأن خير المسلمين بعد المائتين من لا أهل له
ولا ولد[207].
قال عبد القادر: كل ذلك لا يصح..
والخير في الأمة إلى يوم القيامة.. والفتن لا تزيد الصالحين إلا صلاحا، بل إنه
لولا الفتن ما ظهر المفسد من المصلح، وقد قال تعالى:﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران:142)، وقال تعالى:﴿
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا
مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا
الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة:16)
قال الرجل: فهل ذكر محمد مظاهر الفتنة الآخرة كما ذكر مظاهر الفتنة الأولى؟
قال عبد القادر: أجل.. وسأذكر لكم منها ما تقر به أعينكم، وتعلمون صدق
نبوءاته r.
أول مظهر من مظاهر هذه الفتنة ظهور الدجالين، لأن الفتنة لا ينفخ نارها إلا
الدجالون، فقد أخبر r عن خروج الدجالين الكذابين، الذين يثيرون الفتنة
بأباطيلهم، وقد أخبر النبي r أن عدد هؤلاء قريب من ثلاثين فقال r:( لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من
ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله)[208]
وقد ورد في حديث آخر بعض التفاصيل المرتبطة بهذا، فقال رسول الله r:( لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين،
وحتى يعبدوا الأوثان، وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا
خاتم النبيين لا نبي بعدي )[209]
وقد حصل ما أخبر عنه النبي r، فخرج كثير من أدعياء النبوة قديما وحديثا، ولا يستبعد
أن يظهر دجالون آخرون إلى أن يظهر الدجال الأعور الكذاب، كما قال r:( إنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا
آخرهم الأعور الكذاب)[210]
وقد ابتدأ ذلك بأول مدع للنبوة في آخر حياة الرسول r، وهو الأسود العنسي، الذي تنبأ في اليمن، وقد كانت
ردته أول ردة في الإسلام، فقد تحرك بمن معه من المقاتلين، واستولى على جميع أجزاء
اليمن، ودامت فترة ملك هذا الكذاب من حين ظهوره إلى أن قتل ثلاثة أشهر [211].
ومنهم مسيلمة الكذاب، الذي وفد على رسول الله r في العام التاسع الهجري مع جماعة من بني حنيفة، وبعد
عودة الوفد إلى اليمامة، ارتد وتنبأ وقال: إني قد أشركت في الأمر معه - أي مع رسول
الله r - وكان يزعم أن الوحي يأتيه في الظلام [212].
ومنهم سجاح بنت الحارث التغلبية، وكانت من نصارى العرب، وقد ادعت النبوة بعد
موت الرسول r فالتف حولها أناس كثير من قومها ومن غيرهم وغزت بهم
القبائل المجاورة حتى وصلت إلى بني تميم، فاصطلحوا معها، وسارت حتى وصلت اليمامة
والتقت بمسيلمة وصدقته وتزوجها، ولما قتل مسيلمة رجعت إلى بلادها وأقامت في قومها
بني تغلب، ثم أسلمت وحسن إسلامها.
وقد استمر سيل
الدجالين في كل العصور.. ولا تزال الأيام تلدهم إلى أن يكتمل ما أخبر عنه r من الثلاثين دجالا.
ومن مظاهر الفتنة الثانية ما عبر عنه r بالملك الجبري، وهم الحكام المستبدون الذين ظهروا في هذه الأمة في
قرونها الأخيرة:
ومما روي في ذلك عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:(
لا تقوم الساعة حتى يبعث الله أمراء كذبة، ووزراء فجرة، وأمناء خونة، وقراء فسقة،
سمتهم سمت الرهبان وليس لهم رغبة ـ أو
قال: رعية أو قال: رعة ـ فيلبسهم الله فتنة غبراء مظلمة يتهوكون فيها تهوك اليهود
في الظلم )[213]
وفي حديث آخر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول
الله r:(
يكون عليكم أمراء هم شر من المجوس )[214]
وفي حديث آخر أن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ ذكر أن رسول
الله r
قال: يخرج رجال من هذه الأمة في آخر الزمان معهم سياط كأذناب البقر، يغدون في سخط
الله ويروحون في غضبه )[215]
وفي حديث آخر عن أبي سعيد وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ أن
رسول الله r
قال:( ليأتين على الناس زمان يكون عليهم أمراء سفهاء، يقدمون شرار الناس، ويظهرون
بخيارهم، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم، فلا يكونن عريفا ولا
شرطيا ولا جابيا ولا خازنا )[216]
وأخبر r
عن الجو الذي يهيئ لهؤلاء الحكام استبدادهم، فقال:( يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس
فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا هكذا وهكذا،
وشبك بين أصابعه)، قالوا: يا رسول الله، فكيف تأمرنا؟ قال:( تأخذون ما تعرفون
وتدعون ما تنكرون، وتقبلون على الامر خاصتكم، وتدعون أمر عامتكم )[217]
ومن مظاهر الفتنة الآخرة القتال الشديد بين المسلمين،
والذي يتسبب فيه الطغاة المستبدون بأمور المسلمين، ومن يعينهم من الدجالين الذين
ينفخون نيران الفتن.
ومما يروى في ذلك ما حدث به أبو موسى الأشعري ـ رضي الله
عنه ـ أن رسول الله r قال: ( بين يدي الساعة الهرج )، قالوا:
يا رسول الله، وما الهرج؟ قال: ( القتل )، قالوا: أكثر مما نقتل، إنا لنقتل في
العام الواحد أكثر من كذا ألفا؟ قال: ( إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتل بعضكم
بعضا )، قالوا: ومعنا يومئذ عقولنا؟ قال: ( إنه ينتزع عقول أكثر ذلك الزمان، ويخلف
له هباء[218]من الناس، يحسب أكثرهم أنه على شيء، وليسوا على شيء)، قال
أبو موسى: والذي نفسي بيده، لا أجد لي ولكم إن أدركناها - وقال يونس - إن أدركتنا
إلا أن نخرج منها كما دخلناها، لم نصب فيها دما ولا مالا[219].
وحدث كرز بن علقمة الخزاعي قال: بينا أنا جالس عند رسول
الله r جاءه رجل من أعراب نجد، فقال: يا
رسول الله، هل للإسلام من منتهى؟ قال رسول الله r:( نعم، أيما أهل بيت من العرب أو
العجم أراد الله بهم خيرا أدخل عليهم الإسلام)، قال الأعرابي: ثم ماذا يا رسول
الله؟ قال رسول الله r:( ثم تقع الفتن كأنها الظلل[220]) قال الأعرابي: كلا
يا رسول الله، قال رسول الله r:( والذي نفس محمد بيده، تعودون
فيها أساود[221] صبا[222]، يضرب بعضكم
رقاب بعض )[223]
وفي حديث آخر، قال r:( لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج )،
قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال:( القتل القتل )[224]
وفي حديث آخر، قال r:( والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى
يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل، فقيل: كيف يكون ذلك؟ فقال:( الهرج القاتل
والمقتول في النار )[225]
وقد حصل ما أخبر عنه النبي r
فلا نزال نرى القتال بين المسلمين كل حين، كل يدعي أنه على الحق.
ومن مظاهر الفتنة الآخرة ظهور المتطرفين المتشددين، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة تصل إلى حد التواتر،
تصفهم وتصف حالهم وعبادتهم وعلامتهم، ووقت ومكان خروجهم، والظرف التي يخرجون فيها،
ومآلهم، فوقع ذلك كله طبق كما أخبر به r.
ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: بينا نحن عند رسول الله
r، وهو يقسم قسماً ـ أتاه ذو الخُويصرة ـ وهو رجل من بني
تميم ـ فقال: يا رسول الله اعدل، قال رسول الله r:( ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل
)
فقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه،
فقال رسول الله r:( دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم،
وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون[226]من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّميَّة، ينظر إلى نصله[227] فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه،
فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نصيَّه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا
يوجد فيه شيء سبق الفرث والدم[228] آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي
المرأة، تدردر، يخرجون على حين فرقةٍ من الناس )
قال أبو سعيد ـ رضي الله عنه ـ: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله r وأشهد أن عليَّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قاتلهم
وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس، فوجد، فأُتي به، حتى نظرت إليه على نعت رسول
الله r الذي نعت[229].
قام رجل من الجمع، وقال: هذا مرتبط بالفتنة الأولى، لا بالفتنة الآخرة.
قال عبد القادر: لكل فتنة متطرفوها، ولا يثير الفتن إلا المتطرفون، وليس
المراد بالحديث تلك الطائفة وحدها، وإنما المراد بها كل من أخبر عنه r من التطرف في الدين.
وقد ورد في حديث آخر قريب من هذا ما يدل على هذا، فقد أتى ذو الخويصرة
التميمي رسول الله r وهو يقسم المقاسم بحنين فقال: يا محمد،
قد رأيت ما صنعت، قال:( وكيف رأيت؟ )، قال: لم أرك عدلت، فغضب رسول الله r وقال: ( إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ) فقال
عمر: يا رسول الله، ألا أقوم إليه فأضرب عنقه؟ فقال رسول الله r:( دعه عنك، فإنه سيكون لهذا شيعة يتعمقون في الدين،
حتى يمرقوا كما يمرق السهم من الرمية تنظر في النصل فلا تجد شيئا، وتنظر في القدح
فلا تجد شيئا، ثم تنظر في الفوق فلا تجد شيئا سبق الفرث والدم )[230]
وفي حديث آخر قال r:( إن بعدي من أمتي ـ أو سيكون بعدي من أمتي ـ قومٌ
يقرؤون القرآن، لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدِّين كما يخرج السهم من الرميِّة،
ثم لا يعودون فيه، هم شرُّ الخلق والخليقة )[231]
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى
آيات الله نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين[232].
بل إنه r حدّد مكان خروجهم، وهو من المشرق، فكان
كما قال r، فعن سهل بن حُنيف ـ رضي الله عنه ـ لما سئل: هل سمع
النبيّ r يذكر الخواج ـ قال: سمعته ـ وأشار بيده نحو المشرق ـ
وقال:( قوم يقرؤون القرآن بألسنتهم، لا يعدو تراقيهم، يمرقون من الدّين كما يمرق
السهم من الرمية )، وفي رواية عنه ـ رضي الله عنه ـ عن النبي r قال:( يتيه قومٌ قبل المشرق محلّقة رؤوسهم )[233]
وقد حصل كل ما أخبر عنه r من ذلك في جميع التاريخ الإسلامي، وخاصة
في عصرنا هذا.
ومن مظاهر الفتنة الآخرة ما أخبر عنه r من عودة الإِسلام غريباً كما بدأ، فقد قال رسول الله r:( إِنَّ الإِسْلاَمَ بَدأ غَرِيباً، وسَيَعُودُ
غَريباً، كما بَدَأ فَطُوبى لِلغُرَبَاءِ قِيلَ: وَمَن الغُرَبَاءُ؟ قالَ:
النزائحُ مِنَ الْقَبَائِل)[234]
وقد أخبر r عن الفتن الكثيرة التي ستتعرض لها الأمة،
وعن غربة الإسلام بسببها، حتى أنها تبلغ درجة يصبح الحل فيها هو الفرار، فقد قال r:( يُوشِكُ أن يَكُونَ خَيْر مال المسلم غنمٌ يُتَّبَعُ
بِهَا شَعَف الجبالِ ومواضِعَ الْقطْر ناجياً بدينِه من الفِتَن)[235]
بل أخبر r بجواز سؤال الموت في ذلك الوقت، فقال في
حديث المنام الطويل، وفيه:( اللَّهًمَّ اني اسألُك فعلَ الخَيْراتِ وأنْ تَغْفِرَ لي
وتَرْحَمَنِي وإذا أرَدْتَ بقوم فِتنَةً فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَمَفْتُونٍ
اللَّهُمَّ إِني أسْألُكَ حُبًكَ وحبَّ مَن يُحِبُّك وحُبَّ كُلِّ عَمَل يقربُني
إلى حُبَّك )
فهذه الأحاديث وغيرها، تدل على أنه يأتي على الناس زمان شديد لا
يكون للمسلمين جماعة قائمة بالحق إما في جميع الأرض وإما في بعضها.
ولكن البشرى تأتي بالإخبار ببقاء طائفة من الأمة على الحق حتى
تقوم الساعة، قال r:( لا تَزَال طائفةٌ مِنْ أمَّتِي ظَاهِرين على الحَقِّ
لا يَضُرهُمْ من خَذَلَهُمْ وَلا مَنْ خالفهُمْ حَتّى يأتِي أمرُ اللَّهِ وهُم
كذلك )[236]
وزيادة على ذلك، فقد أخبر r على ما من الله به على هذه الأمة من ظهور
المجددين في كل مائة سنة، فقال رسول الله r:( إن اللَّهَ يَبْعَثُ لهذه الأمةِ على رأس كُل مائَةِ
سَنَةٍ من يُجدِّدَ لَهَا أمرَ دِينَها )[237]
وقد حصل ما أخبر عنه r، فلم تزل الأمة تجد من يقوم سبيلها،
ويعيدها إلى نهج نبيها إلى اليوم.
ومن مظاهر الفتنة الآخرة كما أخبر رسول
الله r وهن الأمة
وضعفها وتكالب الأعداء عليها، وأسباب كل ذلك، وقد رويت في ذلك نصوص كثيرة لها
دلالتها القطعية:
ومن ذلك ما روي عن ثوبان ـ رضي الله عنه ـ
قال، قال رسول الله r:( يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الاكلة الى
قصعتها قيل: من قلة؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم،
وينزع الرعب من قلوب عدوكم بحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت )[238]
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا إخباره
r عن الحصار
الاقتصادي الذي يطبق على بعض بلاد الإسلام، وهو ما لم يحصل إلى في هذا الزمان[239]، فعن أبي نضرة ـ رضي الله عنه ـ قال: كنا عند جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه
ـ فقال:( يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز و لا درهم )، قلنا: من أين ذلك؟،
قال: العجم يمنعون ذلك، ثم قال: يوشك أهل الشام ألا يجبى إليهم دينار ولا مدي،
قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل الروم؟ ثم سكت هُنيهة، ثم قال: قال رسول الله r:( يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً لا يعده
عداً )، قلت لأبي نضرة: أترى أنه عمر بن العزيز؟ قال: لا [240].
قال رجل من الحاضرين: هذا حديث موقوف على الصحابي، فكيف تستدل
به هنا.
قال عبد القادر: لقد ذكر العلماء أن الصحابي إذا روى خبراً من
أخبار الغيب موقوفاً، أي لم يرفعه أو ينسبه إلى النبي r، فإنه يكون في حكم المرفوع إليه، إذ لا يحتمل أن يحدث
الصحابي بخبر من أخبار الغيب، إلا إذا كان قد سمعه من رسول الله r.
بعد هذا.. فإن هذا الحديث يتضمن ثلاثة أخبار من أنباء الغيب:
أما أولها، فينبئ عن حصار العراق.
وأما الثاني، فيتحدث عن حصار الشام.
وأما الثالث، فيتحدث عن خليفة في آخر الزمان يحثي المال حثياً،
ولا يعده عداً.
وفي هذا الحديث ـ بهذا الترتيب ـ إشارة إلى أن هذا الخليفة
الكريم سيسبق ظهوره وتأسيسه للخلافة الإسلامية حدثان هما: حصار العراق وحصار
الشام.
ويؤكد هذا فهم التابعي أبي نضرة الذي نفى أن يكون هذا الخليفة
هو عمر بن عبد العزيز، بالرغم مما عرف عن عهده من كثرة المال، و لكن عهد عمر بن
عبد العزيز لم يسبقه حصار العراق، ولا حصار للشام.
بالإضافة إلى هذا، فإن حصار العراق الوارد في الحديث تضمن منع
الطعام و المال عن العراق، وكنى عن الطعام بالقفيز الذي هو مكيال أهل العراق
للحبوب، وكذلك ذكر منع جباية المال إلى العراق مع الطعام.
وهذا مما يؤكد هذه النبوءة، إذ البلد المحاصر قديماً كان يدفع
المال في مقابل الطعام، ولم يكن يتصور منع المال عنه، لكن دلَّ منع المال عن أهل
العراق مع منع الطعام عنهم في نفس الوقت أن مصدر الأموال عندهم من التصدير، وأن
الحصار يمنع عنهم الاستيراد كما يمنع عنهم التصدير.
وقد عبر جابر ـ رضي الله عنه ـ عن الحصار بعبارة أخرى، وهي قوله
(يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم)، وهو تعبير دقيق ينطبق على ما يسمى بالحصار
العالمي للعراق الذي عاشه أهل العراق فترة طويلة من الزمن، وهو أدق وأصوب لغة
ومعنى من تعبير الحصار، لأن الحصار يقتضي حصر البلد المحاصر داخل حدود لا يستطيعون
الخروج منها كما يمنع غيرهم من دخولها، فهكذا كان حصار المدن قديماً، إذ كان يحيط
جيش العدو بأسوارها و أبوابها، أو حتى بحدودها، إذا لم يكن لها أسوار، و يمنعون
دخول البضائع إليها بهذه الكيفية القديمة.
أما الآن فالأمر مختلف تماماً، وإن استخدامنا لفظ الحصار
القديم، إذ ليس للعراق الممتدة شرقاً و غرباً و شمالاً و جنوباً، أسوار وليس لها
بوابات و ليس حول حدودها الشاسعة جيوش متراصة كما في القديم، ومع هذا فقد منع عنهم
الكيل والدواء والسلاح والدراهم حيث توقف تصدير البترول، وجاء المنع بقرارٍ من
مجلس الأمن الظالم بالمقاطعة الاقتصادية و التجارية و العسكرية، وبامتثال الدول
الخاضعة لهذا المجلس لهذه القرارات.
بالإضافة إلى هذا كله، فقد ورد في الحديث ذكر مصدر المنع وأصل
الحصار، حيث قال جابر ـ رضي الله عنه ـ:( العجم يمنعون ذاك )، وهذا ما حصل بكل دقة
في ذلك الحصار الجائر الذي أصاب العراق.
فهو منع و ليس حصارا من ناحية، ومصدره، وأساسه كل شعوب وأمم
ودول الأرض ماعدا العرب، فهم إذن العجم.
ولم يحدث منذ بدء تاريخ الإسلام ومنذ أن أسلم شعب العراق وأصبح
جزءاً من الأمة الإسلامية أن حصل حصار عدا هذا الحصار.
هذا عن الجزء الأول من الخبر.. أما الثاني.. فسيحدث كما ورد في
الحديث:( يوشك أهل الشام ألا يُجبى إليهم دينار و لا مُدي )، وكل الدلائل تشير إلى
ذلك.
وسيتلوه ما ورد في الحديث من الخلافة الصالحة، والخليفة الكريم.
وقد ذكر في الحديث مصدر حصار الشام، فلما سألوا جابراً ـ رضي
الله عنه ـ عن مصدر هذا المنع، قال:( من قبل الروم )، والمراد بالروم في التراث
الإسلامي هم أهل أوربا، ويدخل فيهم كل من هاجر منها كالأمريكيين والاستراليين
وغيرهم.
ما إن انتهى عبد القادر من حديثه عن أخبار الفتن حتى قام بعض
القوم، وقال: لقد حصل في الأمة خير كثير من فتوحات للأرض، وتمكين في البلاد، ودخول
للناس في الإسلام أفواجا، فهل أشار نبيكم إلى ذلك؟
قال عبد القادر: أنت تريد الحديث إذن عن نبوءاته r عما فتح الله لدينه من قلوب في جميع بلاد الدنيا.
قال الرجل: أجل.. هذا
ما أريده، ولا أرى الجمهور الحاضر إلا متشوفا لسماع مثل هذا.
قال عبد القادر: سأذكر لكم بعض ما ورد في ذلك بعد استئذان حضرة
القس المحترم.
أشار بولس بالإيجاب.. ولست أدري لم.. هل كان ذلك غلبة وحياء من
الجمهور الحاضر، أم كان هو نفسه، كالجمهور متشوفا لسماع ذلك.
قال عبد القادر: بناء على رغبتكم سأذكر لكم ما أخبر به r عما سيفتح الله به على أمته من بلاد، وقبل أن أخبركم
بذلك أعلمكم أنه r قال تلك النبوءات في ظروف خطيرة جدا، كان لأعدائه من
السلطان ما يقدرون به في أي لحظة على محو دينه من أساسه.
وسأذكر لكم ما يشير إلى هذا من زمنين مر بهما كلاهما عصيب:
أما الأول.. ففي مكة المكرمة، وفي ظل الاضطهاد الذي عاناه r مع أتباعه، فعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله r وهو يومئذٍ متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا
تستنصر لنا الله تبارك وتعالى، أو ألا تستنصر لنا؟ فقال r:( قد كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤخذ
فيحفر له في الأرض، فيجاء بالمنشار على رأسه فيجعل بنصفين فما يصده ذلك عن دينه،
ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب فما يصده ذلك، والله ليتمن الله عز
وجل هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى،
والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)[241]
وأما الثاني.. ففي المدينة.. حين اتفقت الجزيرة العربية مع
اليهود على حربه في غزوة الأحزاب التي بلغت فيها مخاوف المؤمنين غايتها حتى قال
تعالى في وصفها:﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا(10)هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ
وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً(11)﴾(الأحزاب)
في ظل تلك الظروف العصيبة بشر بهذه النبوءات الصادقة.. حدث
سلمان الفارسي قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغَلُظت عليّ صخرة، ورسول الله r قريب مني؛ فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان علي، نزل
فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة؛ قال: ثم ضرب به ضربة
أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى؛ قال: ثم ضرب به الثالث، فلمعت تحته برقة أخرى .
قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت
تضرب؟ قال: أو قد رأيت ذلك يا سلمان؟ قال: قلت : نعم. قال: أما الأولى
فإن الله فتح علي بها اليمن؛ وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب؛
وأما الثالثة فإن الله فتح على بها المشرق.
ولهذا كله كان أبو هريرة يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان
عمر وزمان عثمان وما بعده:( افتتحوا ما
بدا لكم، فو الذي نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتتحونها إلى يوم
القيامة إلا وقد أعطى الله سبحانه محمدًا r مفاتيحها قبل ذلك)[242]
وقد أخبر r عما يفتح من بلاد على سبيل الإجمال
مرتبا كل ذلك بحسب حصوله، فقال:( تفتح اليمن، فيأتي قوم فيبسون فيتحملون بأهليهم
ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم يفتح الشام فيأتي قوم فيبسون
فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم تفتح العراق
فيأتي قوم فيبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون)[243]
وقد فصل r بعض ما يحصل من ذلك، ففي حديث عبد
الله بن حوالة، قال: كنا عند رسول الله r، فشكونا إليه العري والفقر وقلة الشيء،
فقال: ( أبشروا، فوالله لأنا بكثرة الشيء أخوفني عليكم من قلته، والله لا يزال هذا
الأمر فيكم حتى يفتح الله أرض فارس وأرض الروم وأرض حمير، وحتى تكونوا أجنادا
ثلاثة: جندا بالشام، وجندا بالعراق، وجندا باليمن، وحتى يعطى الرجل المائة
فيسخطها)، قال ابن حوالة: قلت: يا رسول الله، ومن يستطيع الشام وبه الروم ذوات
القرون؟ قال:( والله ليفتحنها الله عليكم، وليستخلفنكم فيها حتى تظل العصابة البيض
منكم قمصهم الملحمة أقفاؤهم قياما على الرويجل الأسود منكم المحلوق، ما أمرهم من
شيء فعلوه ) وذكر الحديث.
وقد عبر عبد الرحمن بن جبير عن وقوع
هذا الحديث كما أخبر r، فقال: نعرف
أصحاب رسول الله r نعت هذا الحديث
في جزء ابن سهيل السلمي، وكان على الأعاجم في ذلك الزمان، فكان إذا راحوا إلى مسجد
نظروا إليه وإليهم قياما حوله فعجبوا لنعت رسول الله r فيه وفيهم[244].
قال رجل من الجمع: أخبرتنا بالجملة، فهات التفاصيل.
قال عبد القادر: أولها تبشيره r بفتح جزيرة العرب، وقد ذكرنا
الحديث الدال على ذلك .. وقد وقع هذا الأمر في حياته r فدانت الجزيرة العربية كلها بالإسلام،
وآمن الناس فيها من أقصاها إلى أقصاها..وكان تصور هذا ضرب من الخيال، فقد كان
القتل وقطع الطريق، والإغارة والنهب والسلب في كل ركن من أركانها إلا المسجد
الحرام فقط.
وليس ذلك فقط،
بل أخبر r بترتيب الفتوحات التي ستقع، فقد أخبر بفتح جزيرة العرب أولا، ثم
فارس، ثم الروم، فعن نافع بن عتبة قال: كنا مع رسول الله r في غزوة قال: فأتى النبي r
قوم من قبل المغرب عليهم ثياب الصرف، فوافقوه عند أكمة، فإنهم لقيام ورسول الله r قاعد قال: فقالت لي نفسي ائتهم فقم بينهم وبينه لا يغتالونه، قال:
ثم قلت لعله نجى معهم، فأتيتهم، فقمت بينهم وبينه، فحفظت منه أربع كلمات أعدهن في
يدي قال:( تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم
فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله )
وفوق ذلك، فقد
أخبر r بأن جزيرة العرب لا تعبد فيها الاصنام أبدا، فعن جابر بن عبد الله
ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله r:(
إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم )[245]
وفي حديث آخر
عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ، قال: خرجت مع رسول الله r من المدينة فالتفت إليها وقال:( إن الله برأ هذه الجزيرة من الشرك
)[246]
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا، ما ورد في الحديث من التبشير بفتح
مصر، بل والوصية بأهلها، فقد قال رسول الله r:( إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها
القيراط[247] فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة[248] ورحما [249]، فإذا رأيتم رجلين يقتتلان على موضع لبنة[250] فاخرج منها)[251]
وقد وقع الأمر كما أخبر رسول الله r، فقد افتتحها عمرو بن العاص في
سنة عشرين أيام عمر بن الخطاب t.. وقد مر راوي الحديث بربيعة وعبد
الرحمن بن شرحبيل بن حسنة يتنازعان في موضع لبنة فخرج منها.
وفي حديث آخر
بيان لدور المصريين في نصرة الدين، فعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله r أوصى عند وفاته فقال:( الله الله، في قبط مصر إنكم ستظهرون عليهم،
ويكونون لكم عدة، وأعوانا في سبيل الله )[252]
وفي حديث آخر
عن أبي عبد الرحمن الحبلي وعمرو بن حريث وغيرهما أن رسول الله r قال:( إنكم ستقدمون على قوم جعد رؤوسهم فاستوصوا بهم خيرا، فانهم
قوة لكم وابلاغ الى عدوكم، باذن الله ) يعني قبط مصر[253].
وفي حديث آخر
قال رسول الله r:( إذا فتح الله عليكم مصر، فاتخذوا منها جندا كثيفا فذاك الجند
خير أجناد أهل الارض )، فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: ولم يا رسول الله؟ قال:(
لأنهم في رباط إلى يوم القيامة )[254]
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا إخبار النبي r ـ وهو في المدينة ـ أن أمته ستفتح كنوز كسرى، فعن عدي بن حاتم قال: بينا أنا
عند الني r إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر
فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت
عنها، قال::( فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا
تخاف أحداً إلا الله )، قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار[255] طيء الذين قد سعروا البلاد؟
قال r:( ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى )،
قلت: كسرى بن هرمز؟ قال:( كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء
كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحداً يقبله منه، وليلقين الله
أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقولن ألم أبعث إليك رسولاً،
فيبلغك فيقول: بلى،فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى فينظر عن يمينه
فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم، قال عدي: سمعت النبي r يقول:( اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة
فبكلمة طيبة )
وقد وقع كل ما أخبر عنه r، قال عدي يذكر ذلك: فرأيت الظعينة ترتحل
من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز،
ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم r: يخرج ملء كفه[256].
وقد أخبر r بعد هذا بحسن إسلام الفرس بعد الفتح، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ
قال: كنا جلوساً عند النبي r
فأنزلت عليه سورة الجمعة:﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الجمعة:3)، قال: قلت: من هم يا رسول
الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله r
يده على سلمان، ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء[257].
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا، ما أخبر به r سراقة بن مالك من امتلاكه لسواري كسرى..
وقصة ذلك تشير إلى أن هذا لا يمكن أن يقوله إنسان بناء على
استكناه بشري للمستقبل:
وقصة ذلك هي أنه لما هاجر النبي r هو وصاحبه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في قصة الهجرة
المشهورة، وتبعتهم قريش بفرسانها، أدركهم
سراقة بن مالك المدلجي، وكاد يمسك بهم، فلما رآه أبو بكر قال: أُتينا يا
رسول الله، فقال له النبي r:( لا تحزن إن الله معنا )، فدعا النبي r على سراقة، فساخت يدا فرسه في الرمل، فقال سراقة: إني
أراكما قد دعوتما علي، فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي r، وقال له:( كيف بك إذا لبست سواري كسرى وتاجه )
فلما فتحت فارس و المدائن، وغنم المسلمون كنوز كسرى أتى أصحاب
رسول الله r بها بين يدي عمر بن الخطاب، فأمر عمر بأن يأتوا له بسراقة، وقد كان وقتها شيخاً كبيراً قد جاوز الثمانين
من العمر، وكان قد مضى على وعد رسول الله r له أكثر من خمس عشرة سنة، فألبسه سواري
كسرى وتاجه، وكان رجلاً كثير شعر الساعدين، فقال له: ارفع يديك، وقل الحمد لله
الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة الأعرابي[258].
وقد مات سراقة في خلافة
عثمان سنة أربع وعشرين وقيل بعد عثمان.
فمن أخبر محمداً r وهو هارب بدينه بهذه الغنيمة العظيمة، والتي
لن تحصل إلا بعد غلبة المسلمين على الفرس، وقد كان ذلك أبعد محال يمكن أن يفكر فيه
بشر.
ومن النبوءات الغيبية
المرتبطة بهذا ما أخبر عنه r
من هلاك كسرى وقيصر، وزوال دولة الفرس والروم في تلك
المنطقة بعد هلاك قيصر وكسرى، ففي الحديث قال r:(
هلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده، وقيصر ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده، ولتنفقن
كنوزهما في سبيل الله عز وجل )[259]
والمراد بهلاك قيصر في هذا الحديث قيصر
الذي كان ملك الشام، وتنحية ملك الأقاصرة عنها، وقد تحقق ذلك وزال عن الشام ملك
الأقاصرة، ومثل ذلك زال ملك الأكاسرة.
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا
ما أخبر به r
عن غزو المسلمين في البحر، وذلك لم يكن من عادة العرب، بل
أخبر عن قرب ذلك، واستشهاد أم حرام بنت ملحان في ذلك الغزو.
فقد روي أن رسول الله r ذكر أن غزواته في البحر تكون فرقتين، وتكون أم حرام مع
الأولين، وقد كان ذلك في سنة سبع وعشرين
في غزو قبرص، وتوفيت أم حرام في هذه الغزوة في البحر.
وأما الثانية فكانت في سنة اثنتين وخمسين، وذلك في جيش سار إلى
غزو القسطنطينية، وكان فيه سادات الصحابة، منهم أبو أيوب الأنصاري، فمات هنالك
وأوصى أن يدفن تحت سنابك الخيل وأن يوغل به إلى أقصى ما يمكن أن ينتهي به إلى جهة
نهر العدو ففعل به ذلك[260].
فعن أم حرام أنها سمعت رسول الله r يقول:( أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا )، قالت
أم حرام: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: إنك فيهم، ثم قال رسول الله r:( أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم ) قلت:
أنا منهم يا رسول الله قال:( لا )[261]
ففي هذا الحديث ثلاث نبوءات غيبية:
أولها الاخبار عن الغزوة الأولى في
البحر، وقد كانت في سنة سبع وعشرين، وكان معهم أم حرام بنت ملحان هذه صحبة زوجها
عبادة بن الصامت، فتوفيت مرجعهم من الغزو قبل بالشام.
والغزوة الثانية، غزوة قسطنطينية مع
أول جيش غزاها، وذلك سنة ثنتين وخمسين، وكان معهم أبو أيوب، خالد بن زيد الانصاري،
فمات هناك، ولم تكن هذه المرأة معهم، لانها كانت قد توفيت قبل ذلك في الغزوة
الأولى.
وأما الثالثة، فإخبار المرأة بأنها من
الأولين، وليست من الآخرين.
وكل ذلك وقع كما أخبر رسول الله r.
قال عبد القادر: ومن النبوءات الغيبية
المرتبطة بهذا ما أخبر عنه r من فتح القسطنطينية مع أنها كانت
من أعتى مدن العالم، فقد قال r:( لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش )[262]
وقد حصل ما أخبر عنه النبي r بكل دقة، أما أميرها الذي بشره رسول الله r بقوله:( نعم الأمير أميرها )، فيدل عليها سيرة السلطان
محمد الفاتح الذي شرفه الله بفتح القسطنطينية[263].
فهو السلطان محمد الثاني(431هـ- 1481م)، وهو السابع في سلسلة آل
عثمان، وقد حكم ما يقرب من ثلاثين عاماً كانت خيراً وعزة للمسلمين.
وقد امتاز بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل، كما أنه فاق
أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء، وخاصة
معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ، مما ساعده فيما بعد
على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال.
وقد برز بعد توليه السلطة في الدولة العثمانية بقيامه بإعادة
تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيراً بالأمور المالية فعمل على تحديد موارد
الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف، وركز على تطوير كتائب
الجيش وأعاد تنظيمها ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم وأمدهم بأحدث
الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر.
وعمل على تطوير إدارة الأقاليم وأقر بعض الولاة السابقين في
أقاليمهم وعزل من ظهر منه تقصيراً أو إهمالا وطور البلاط السلطاني وأمدهم بالخبرات
الإدارية والعسكرية الجيدة مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم.
وقد تأثر محمد الفاتح بالعلماء الربانيين منذ طفولته ومن أخصهم
العالم الرباني (أحمد بن إسماعيل الكوراني) الذي شهد له بالفضيلة التامة، وكان
مدرسه.
أما الجيش الذي أثنى عليه رسول الله r، فقد بذل السلطان محمد الفاتح جهوداً
كبيرة في إمداده بالقوى البشرية حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون مجاهد.. وهذا
عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة.
كما عني عناية خاصة بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهلهم للعملية
الجهادية المنتظرة، كما أعتنى الفاتح بإعدادهم إعداداً معنوياً قوياً وغرس روح
الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرسول r على الجيش الذي يفتح القسطنطينية، مما أعطاهم قوة
معنوية وشجاعة منقطعة النظير، كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في
تقوية عزائم الجنود وربطهم بالجهاد الحقيقي وفق أوامر الله.
وكان الفاتح كلما مر بجمع من جنده خطبهم وأثار فيهم الحمية
والحماس، وأبان لهم أنهم بفتح القسطنطينية سينالون الشرف العظيم والمجد الخالد،
والثواب الجزيل من الله تعالى وستسد دسائس هذه المدينة التي طالما مالأت عليهم
الأعداء والمتآمرين.
وكان علماء المسلمين وشيوخهم يتجولون بين الجنود، ويقرأون على
المجاهدين آيات الجهاد والقتال وسورة الأنفال، ويذكرونهم بفضل الشهادة في سبيل
الله وبالشهداء السابقين حول القسطنطينية، وعلى رأسهم أبو أيوب الأنصاري ويقولون
للمجاهدين: لقد نزل سيدنا محمد r عند هجرته إلى المدينة في دار أبي أيوب الأنصاري، وقد
قصد أبو أيوب إلى هذه البقعة ونزل هنا، وكان هذا القول يلهب الجند ويبعث في نفوسهم
أشد الحماس والحمية.
وبعد أن عاد الفاتح إلى خيمته ودعا إليه كبار رجال جيشه أصدر إليهم
التعليمات الأخيرة، ثم ألقى عليهم الخطبة التالية:( إذا تم لنا فتح القسطنطينية
تحقق فينا حديث من أحاديث رسول الله ومعجزة من معجزاته وسيكون من حظنا ما أشاد به
هذا الحديث من التمجيد والتقدير، فأبلغوا أبناءنا العساكر فردا فردا، أن الظفر
العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدرا وشرفا، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم
شريعتنا الغراء نصب عينيه فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، وليتجنبوا
الكنائس والمعابد ولا يمسوها بأذى، ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لا
يقاتلون.. )
وقد عامل السلطان محمد الفاتح أهل القسطنطينية معاملة رحيمة
وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى والرفق بهم، وافتدى عدداً كبيراً من الأسرى من ماله
الخاص وخاصة أمراء اليونان، ورجال الدين، واجتمع مع الاساقفة وهدأ من روعهم،
وطمأنهم الى المحافظة على عقائدهم وشرائعهم وبيوت عبادتهم، وأمرهم بتنصيب بطريرك
جديد فانتخبوا أجناديوس برطيركا، وتوجه هذا بعد انتخابه في موكب حافل من الاساقفة
الى مقر السلطان، فاستقبله السلطان محمد الفاتح بحفاوة بالغة وأكرمه أيما تكريم،
وتناول معه الطعام، وخرج البطريرك من لقاء السلطان، وقد تغيرت فكرته تماماً على
السلاطين العثمانيين وعن الأتراك، بل والمسلمين عامة، وشعر انه أمام سلطان مثقف
صاحب رسالة وعقيدة دينية راسخة وانسانية رفيعة، ورجولة مكتملة، ولم يكن الروم
أنفسهم أقل تأثراً ودهشة من بطريقهم، فقد كانوا يتصورون أن القتل العام لابد
لاحقهم، فلم تمض أيام قليلة حتى كان الناس يستأنفون حياتهم المدنية العادية في
اطمئنان وسلام.
لقد كان العثمانيون حريصين على الالتزام بقواعد الاسلام، ولذلك
كان العدل بين الناس من أهم الأمور التي حرصوا عليها، وكانت معاملتهم للنصارى
خالية من أي شكل من أشكال التعصب والظلم، ولم يخطر ببال العثمانيين أن يضطهدوا النصارى
بسبب دينهم.
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا، ما أخبر عنه r من قتال اليهود والانتصار عليهم، فقد جاء في الحديث قوله r:( تقاتلكم اليهود، فتسلطون عليهم
حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي، فاقتله)[264]
وفي حديث آخر، قال r:( تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء
الحجر، فيقول: يا عبدالله هذا يهودي ورائي فاقتله )[265]
فهذه الأحاديث تشير إلى أنه سيكون لليهود دولة، وذلك ما كان
يعتبر مستحيلاً إلى أوائل هذا القرن، فجاءت الأيام مصدقة لقول رسول الله r.
ولكن هذه الدولة ما وجدت لتبقى، بل جاءت البشارة في هذه
الأحاديث بنصر المسلمين على اليهود نصراً يشارك فيه كل شيء حتى الحجارة.
ومن تلك البشائر ما أخبر عنه r
من ظهور المهدي u
وظهور الإسلام على الدين كله، وذلك في أحاديث كثيرة تبلغ مبلغ التواتر:
ومما روي في ذلك ما حدث به ثوبان ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال:( إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت
من قبل خراسان فائتوها، فان فيها خليفة الله المهدي )[266]
وفي حديث آخر عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال:( إن في أمتي المهدي يخرج يعيش خمسا
أو سبعا أو تسعا ـ شك زيد ـ فيجئ إليه الرجل، فيقول: يا مهدي أعطني أعطني، فيحثي
له في ثوبه ما استطاع أن يحمله )[267]
وفي حديث آخر عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال:( يخرج المهدي في أمتي خمسا أو سبعا
أو تسعا)، قال: قلت: أي شئ قال: سنين، ثم يرسل عليهم السماء مدرارا، ولا تدخر
الارض من نباتها شيئا، ويكون المال كدوسا، وقال:( يجئ الرجل إليه، فيقول: يا مهدي،
أعطني أعطني، فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمل )[268]
وفي حديث آخر عنه أن رسول الله r قال:( يخرج في أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث،
وتخرج الارض نباتها، ويعطى المال صحاحا، وتكثر الماشية، وتعظم الامة، يعيش سبعا أو
ثمانيا ) يعني حججا[269].
وفي حديث آخر عنه قال: قال رسول الله r:( أبشرو ا بالمهدي، رجل من قريش من عترتي
يخرج في اختلاف من الناس، فيملأ الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، ويرضى عنه
ساكن السماء وساكن الارض ويقسم المال صحاحا)، قالوا: وما صحاحا يا رسول الله؟
قال:( بالسوية، ويملأ قلوب أمة محمد غنى، ويسعهم عدله، حتى انه يأمر مناديا فينادي
فيقول، من كان له حاجة الي فليأتيني؟ فما يأتيه أحد الا رجل واحد يأتيه فيسأله،
فيقول: ائت السدان حتى نعطيك، فيأتيه، فيقول: أنا رسول المهدي اليك أرسلني لتعطيني
مالا، فيقول: احث، فيحثي ولا يستطيع أن يحمله، فيلقي حتى يكون قدر ما يستطيع أن
يحمله، فيخرج فيندم، فيقول: انا لا نأخذ شيئا أعطيناه فلبث في ذلك ستا أو سبعا أو
ثمانيا أو تسع سنين والخير في الحياة بعده)[270]
وفي حديث آخر عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي ـ رضي الله
عنه ـ أن رسول الله r قال:( يخرج قوم من قبل المشرق فيوطئون
للمهدي سلطانه )[271]
وفي حديث آخر عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الارض ظلما
وعدوانا، ثم يخرج رجل من أهل بيتي فيملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا )[272]
وفي حديث آخر عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل
بيتي يفتح القسطنطينية، وجبل الديلم، ولو لم يبق من الدنيا الا يوم لطول الله ذلك
اليوم حتى يفتحها )[273] وفي لفظ:( لطول
الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي جبل الديلم والقسطنطينية )
وفي حديث آخر عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل
بيتي أجلى أقنى، يملأ الارض عدلا كما ملئت قبله ظلما، يكون سبع سنين )[274]
وفي حديث آخر عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( لو لم يبق من الدنيا الا يوم لملك فيها
رجل من أهل بيتي )[275]، وفي رواية:( لو لم يبق من الدنيا الا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه
رجل )
وفي حديث آخر عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( لا تذهب الدنيا ولا تنقضي حتى يملك
العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي )[276] وفي لفظ:( لا تقوم
الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي )
وفي حديث آخر عن علي بن الحسين عن أبيه، قال: قال رسول الله r:( ابشري يا فاطمة، المهدي منك )[277]
وفي حديث آخر عن علي ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال:( ألا أخبرك أن الله فتح هذا الامر
بي ويختمه بولدك )[278]
بعد أن ذكر عبد القادر جميع هذه النبوءات امتلأت القاعة
بالعجب.. ولم يستطع بولس أن يخفي الكثير من تعجبه، ولكنه لم يقل شيئا..
قام رجل من القاعة، وقال: أرى أن محمدا قد ذكر الكثير من
الأنباء المرتبطة بالتواريخ، والفتن والفتوح.. فهل ذكر شيئا يرتبط بواقعنا نحن..
بظواهره المختلفة؟
قال عبد القادر: أجل.. فرسول الله r هو رسول كل الأزمان، ولذلك اقتضت رسالته
أن يحدثنا بالظواهر المختلفة التي ستحدث في المجتمعات المختلفة، لينبهنا بذلك،
ويعلمنا.
وقد كان الصحابة y يعلمون هذا الدور الرسالي المنوط به r، ولذلك كانوا يسألونه، ويدققون في السؤال حرصا على أن
لا يفوتهم تعليمه ونصحه.
لقد أشار r في أحاديث كثيرة جدا إلى ظهور أنواع من الانحراف:
الانحراف الديني والانحراف الخلقي والانحراف الاجتماعي والانحراف السياسي ..
وغيرها كثير.
وبما أني ذكرت لكم الانحراف السياسي عند حديثي عن الفتن، فسأذكر
لكم هنا الأنواع الثلاثة من الانحراف.
وأولها، وأخطرها الانحراف الديني بمظاهره المختلفة:
وأول مظهر أشارت إليه النصوص، وشددت التنبيه إليه التطرف والغلو
في الدين، وما ينتج عنه من غرور قاتل، وقد ورد ذلك في أحاديث كثيرة مستفيضة، وجدت
للأسف من ينحرف بها عن فهمها الصحيح، فيحملها على طائفة من الأمة يقصرها عليها،
وينفي اتصاف غيرها بها.
ومما يروى في ذلك قوله r:( يأتي في آخر الزمان حدثاء الاسنان
سفهاء الاحلام يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يقولون: من قول خير البرية لا
يتجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا رأيتموهم،
فاقتلوهم فان قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة)[279]
وفي حديث آخر عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله r يقول:( يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليست قراءتكم
الى قراءتهم شيئا، ولا صلاتكم الى صلاتهم شيئا ولا صيامكم الى صيامهم شيئا، يقرأون
القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الاسلام كما
يمرق السهم من الرمية )[280]
وفي حديث آخر عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( يرث هذا القرآن قوم يشربونه شرب اللبن،
لا يجاوز تراقيهم )[281]
وفي حديث آخر عن أنس أن رسول الله r قال:( يخرج في آخر الزمان قوم يقرأون
القرآن لا يجاوز تراقيهم سيماهم التحليق إذا لقيتموهم فاقتلوهم )[282]
وفي حديث آخر عن أبي برزة أن رسول الله r قال:( يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا
منهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية
سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال فإذا لقيتموهم
فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليفة )[283]
وفي حديث آخر عن أبي بكرة قال: قال رسول الله r:( يخرج قوم أحداء أشداء ذليقة ألسنتهم بالقرآن يقرأونه
ينثرونه نثر الدقل لا يجاوز تراقيهم فإذا رأيتموهم فائتوهم فاقتلوهم فالمأجور من
قتل هؤلاء )[284]
وفي حديث آخر أن رسول الله r قال:( يخرج ناس من المشرق، أقوام محلقة
رؤوسهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ـ يقرأون القرآن بألسنتهم لا يعدو
تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ـ، وفي لفظ: ثم لا يعودون فيه
حتى يعود السهم الى فوقه، سيماهم التلحيق )[285]
وفي حديث آخر عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال:( يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع
صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعلمكم مع علمهم، ويقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم،
يمرقون من الدين كما يمرق السهم الذين يصونهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى
شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في
الفوق هل علق به من الدم شئ )[286]
وفي حديث آخر عن عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال:( يأتي على الناس زمان يتعلمون
القرآن فيجمعون حروفه، ويضيعون حدوده، ويل لهم مما جمعوا وويل لهم مما صنعوا، ان
أولى الناس بهذا القرآن من جمعة لم ير عليه أثره )[287]
وفي حديث آخر أن رسول الله r قال:( سيكون بعدي من أمتي قوم يقرأون
القرآن، لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا
يعودون فيه، هم شر الخلق والخليفة سيماهم التحليق )[288]
وفي حديث آخر عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ فقال: بينا نحن نقرأ، فينا العربي والعجمي
والأسود إذ خرج علينا رسول الله r فقال:( أنتم بخير تقرؤون كتاب الله،
وفيكم رسول الله r، وسيأتي قوم يثقفونه كما يثقفون القدح يتعجلون أجورهم
ولا يتأجلونها)[289]
وفي حديث آخر أن رسول الله r قال: يظهر الدين حتى يجاوز التجار، وتخاض
البحار بالخيل في سبيل الله، حتى يرد الكفر الى موطنه، وليأتين على الناس زمان
يتعلمون فيه القرآن يتعلمونه ويقرأونه، ثم يقولون: قد قرأنا القرآن، فمن أقرأ منا؟
ومن أفقه منا، ومن أعلم منا؟)، ثم التفت إلى أصحابه، فقال:( هل في أولئك من خير؟)،
قالوا: لا، قال:( أولئك منكم من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار)[290]
وفي حديث آخر عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r رأى قوما يقرأون القرآن، فقال:( اقرأوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة
القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه )[291]
ومن مظاهر الانحراف الديني التي أشارت إليها النصوص، الاهتمام
بالجانب الشكلي من الدين، أو ببعض مظاهر الدين وطقوسه مع الغفلة عن التحقق الكامل
به:
ومن ذلك ما أخبر عنه r من المباهاة بالمساجد والتفاخر بها
والانشغال عن حقيقة دورها، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في
المساجد )[292]
وفي حديث آخر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول
الله r:( ما أمرت بتشييد المساجد)قال ابن عباس: لتزخرفنها كما
زخرفت اليهود والنصارى[293].
وفي حديث آخر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول
الله r:( أراكم ستشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها
وكما شرفت النصارى بيعها )[294]
وفي حديث آخر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله r قال:( سيكون في آخر أمتي أقوام يزخرفون مساجدهم
ويخربون قلوبهم، يتقي أحدهم على ثوبه ما لا يتقي على دينه، لا يبالي أحدهم إذا
سلمت له دنياه ما كان من أمر دينه )[295]
ومما يدخل في هذا الباب ما أخبر عنه r من الاهتمام بالقول دون العمل،
فقال:( إنه يكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القول ويسيئون العمل )[296]
وفي حديث آخر، قال r:( إذا ظهر القول وخزن العمل، واختلفت الألسن، وتباغضت القلوب وقطع كل ذي رحم رحمه، فعند ذلك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم )[297]
ومن مظاهر الانحراف الديني التي أشارت إليها النصوص، التجارة بالدين،
وخصوصا بالقرآن الكريم، وهو ما نراه اليوم من التجارة بالرقية وقراءة القرآن على
الموتى وغير ذلك من أنواع التجارة بالقرآن الكريم:
ومما يروى في ذلك ما ذكر عن عمران بن حصين ـ رضي الله عنه
ـ أنه مر على قارئ يقرأ القرآن يسأل الناس
به، فاسترجع عمران وقال: سمعت رسول الله r يقول:( من قرأ القرآن فليسأل به الله،
فانه ستجئ أقوام يقرأون القرآن، ويسألون به الناس)[298]
وفي حديث آخر عنه ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( اقرؤوا القرآن، وسلوا الله به قبل أن
يأتي قوم يقرأون القرآن فيسألون الناس به )[299]
وفي حديث آخر عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال:( اقرأوا القرآن، وابتغوا به الله من
قبل أن يأتي قوم يقيمونه اقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه)[300]
ومن هذا الباب إخباره r عن أقوام يأكلون بألسنتهم كما تأكل
البقر، فعن عمر بن سعد قال: كانت لي حاجة الى أبي، فقدمت بين يدي حاجتي كلاما، مما
يحدث الناس يتوصلون به لم يكن سعد يسمعه، فلما فرغت قال: يا بني فرغت من كلامك؟
قلت: نعم، قال: ما كنت من حاجتك أبعد ولا كنت فيك أزهد مني منذ سمعت كلامك، سمعت
رسول الله r يقول:( سيكون قوم ـ وفي لفظ: لا تقوم الساعة حتى يخرج
قوم ـ يأكلون بألسنتهم كما يأكل البقر بألسنتهم من الأرض)[301]
ومن المظاهر الكبرى التي هي أساس كل
الانحرافات السابقة، ما أخبر عنه r من رفع العلم الشرعي، واتخاذ الناس
بدلهم رؤساء جهالا يفتون بأهوائهم:
ومما يروى في ذلك، وفي صفة رفعه قوله r:( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه
من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا
جهالا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )[302]
وفي حديث آخر عن عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( يا أيها الناس خذوا من العلم قبل أن
يقبض العلم، وقبل أن يرفع العلم)، قيل: يا رسول الله، كيف يرفع العلم وهذا القرآن
بين أظهرنا؟ فقال:( ثكلتك امك، وهذه اليهود والنصارى أو ليست بين أظهرهم المصاحف
لم يصبحوا يتعلقوا بالحرف مما جاءتهم به أنبياؤهم ألا وان ذهاب العلم أن تذهب
حملته )[303]
والعلم الذي يقصده r في هذا الحديث هو العلم
بالدين، أما العلم الآخر المرتبط بمرافق الحياة، فقد أشار r إلى انتشاره والاهتمام به، وهذا ما يشير إليه قوله r:( إن من أشراط الساعة أن يظهر القلم )[304]
ومما يؤكد الإشارة إلى أنه العلم الديني قوله r:( من اقترب الساعة كثرة القراء، وقلة الفقهاء وكثرة
الأمراء وقلة الأمناء )[305]، وقوله r:( سيأتي على أمتي زمان يكثر فيه القراء
ويقل فيه الفقهاء، ويقبض العلم ويكثر الهرج )[306]
وأخبر r عن آثار قبض هذا النوع من العلم، فقال:(
من أشراط الساعة أن يتدافع أهل المسجد لا يجدون إماماً يصلي بهم )[307]
وقد ذكر r أن أول العلوم الشرعية ارتفاعا علم
الفرائض، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ
قال: قال رسول الله r:( تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإنه
نصف العلم، وإنه ينسى، وهو أول شئ ينزع من أمتي )[308]
وفي حديث آخر عن عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول
الله r:( تعلموا الفرائض، وعلموا الناس، فاني امرؤ مقبوض، وان
العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف اثنان في الفريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما )[309]
ومن المظاهر الخطيرة لرفع العلم ما أخبر عنه r من ظهور من يرد سنته، ويدعو إلى عدم العمل بها، ومما
يروى في ذلك ما حدث به المقدام بن معدي كرب، عن رسول الله r قال:( ألا اني أوتيت الكتاب ومثله معه
ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال
فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)[310]
وفي حديث آخر عن عن أبي رافع ـ رضي الله عنه ـ عن النبي r قال:( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته
يأتيه الأمر من أمري، فما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب
الله تعالى اتبعناه )[311]
ومن المظاهر الخطيرة لرفع العلم ما أخبر عنه r من ظهور من الاهتمام بالمتشابهات، والغفلة عن
المحكمات، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: تلا رسول الله r هذه الآية:﴿ هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران:7)، فقال:( إذا رأيتم الذين يتبعون
ما تشابه منه فأولئك الذين رمى الله فاحذروهم )[312]
وقد حصل ما أخبر عنه r فنحن نرى في عصرنا طوائف من هؤلاء لا هم
لها إلا البحث في النصوص المتشابهة فيما يتعلق بالله وصفاته، فيغفلون عن أسماء
الله الحسنى التي هي محل اتفاق الأمة جميعا، فلا يكادون يعرجون عليها، بينما نراهم
يتهالكون على الساق واليد والهرولة والجري يصفون الله بها، ولا يكادون يصفون
بغيرها.
ومن مظاهر الانحراف التي تحدثت عنها النصوص الانحراف الاجتماعي
الذي يتجلى في مظاهر مختلفة.
منها ما أخبر به r من فشو التقليد في هذه الأمة، وأخذها
بما أخذت سائر الأمم.
فعن أبي هريرة t أن رسول الله r قال:( لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون
قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع)، فقيل له: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال:(
ومن الناس إلا أولئك )[313]
وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله r:( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراع،
حتى لو دخلوا في جحر ضبٍ لاتبعتموهم)، قلنا: يا رسول الله، آليهود والنصارى؟ قال:(
فمن )[314]
ومن الاتباع والاقتفاء، أن يفعل أفراد من هذه الأمة ما حصل في
الأمة السابقة، حتى لو كان غاية القبح والرذيلة، كما روي عن ابن عباس t قال: قال رسول الله r:( لتركبن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً
بذراع، وباعاً بباع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضبٍّ لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع
امرأته بالطريق لفعلتموه)[315]
وأنتم تلاحظون دقة الرسول r في الإخبار عن الأمم التي سيقع المسلمون
في تقليدها، وحصرهم في اليهود والنصارى، وهو ما نلاحظه في جميع فترات التاريخ
الإسلامي، خاصة في عصرنا.
ومنها ما أخبر عنه r من تخلخل العلاقات الاجتماعية، وهو ما عبر عنه r
في حديث جبريل الطويل وسؤاله عن
الإسلام والإيمان والإحسان والساعة، ( قال له جبريل: فأخبرني عن الساعة؟ فقال رسول
الله r:( ما المسؤول
عنها بأعلم من السائل)، قال: فأخبرني عن أماراتها؟، قال:( أن تلد الأمة ربتها، وأن
ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)[316]
فولادة الأمة لربتها يشير إلى انقلاب
الموازين، وفساد العلاقات الاجتماعية، فيكثر العقوق في الأولاد، حتى يعامل الولد
أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام[317].
قال عبد الحكيم: وربما يشير هذا إلى ما
يسمى بالأرحام المستأجرة، والصورة العلمية لذلك [318] هي شفط البويضة
من مبيضها خلال منظار يخترق جدار البطن، وقد تمت هذه الخطوة، ثم تلقيح هذه البويضة
بمني من الزوج يلتحم بها ليكونا بيضة تشرع في الانقسام إلى عديد من الخلايا، وقد
تمت هذه الخطوة أيضا، ثم إيداع هذه الكتلة من الخلايا أي الجنين الباكر رحم امرأة
أخرى بعد إعداده هرمونيا لاستقبال جنين.. فيكمل الجنين نماءه في رحم هذه السيدة
المضيفة حتى تلده وتسلمه لوالديه اللذين منهما تكون.
وهذه الخطوة لم تتم بعد، ولكنها بلغت
درجة الممكن، وقد تمت بنجاح في الحيوانات بل وعلى درجتين، إذ تم استخراج أجنة نعاج
في بريطانيا وإيداعها رحم أرنبة حملت بالطائرة لجنوب أفريقيا حيث استخرجت مرة أخرى
وأودعت أرحام نعاج من فصيلة أخرى حضنتها حتى ولدتها على هيئة سلالتها الأصلية.
فهذا لو نجح في المستقبل، فسيجعل من
النساء الراقيات يبحثن عن مستأجرات يحملن أولادهن، وقد تكن خادمات عندهن، ويكون
الولد بذلك سيدا على والدته، وهو ما عبر عنه r بالولادة.
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا ما
أخبر عنه r من قطيعة الرحم وسوء الجوار وظهور الفساد
والفحش، فقد قال r:( لا تقوم
الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش وقطيعة الرحم وسوء المجاورة)[319]
وقد حصل ما أخبر عنه النبي r
فقد انحلت العلاقات الاجتماعية، فنحن نرى التقاطع وسوء الجوار حاصلا بين
الناس، حتى إن الجار لا يعرف جاره، والقريب لا يعرف عن بعض أرحامه، هل هم من
الأموات أم من الأحياء.
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا أن يكون السلام على المعرفة، يعني ألا يسلِّم الإنسان إلا على من يعرف، فلو
دخل داخل على مجلس فيه عدد من الناس يعرف بعضهم، ولا يعرف الآخرين، فإنه يتوجه إلى
من يعرف، ويدع الآخرين.
فعن عبد الله بن مسعود t قال: قال رسول الله r:( إن من أشراط الساعة أن يسلِّم الرجل على الرجل، لا
يُسلِّم عليه إلا للمعرفة )[320]
وحدث طارق بن شهاب قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً، فجاء
آذنه فقال: قد قامت الصلاةُ، فقام وقمنا معه، فدخلنا المسجد، فرأينا الناس ركوعاً
في مقدم المسجد، فكبّر وركع ومشى، وفعلنا مثل ما فعل، قال: فمر رجلٌ مسرع، فقال:
السلام عليكم يا أبا عبد الرحمن، فقال: صدق الله وبلّغ رسوله r، فلما صلينا رجع، فولج أهله، وجلسنا في مكانه ننتظره
حتى يخرج، فقال بعضنا لبعض: أيكم يسأله؟ قال طارق: أنا أسأله. فسأله طارق فقال:
سلَّم عليك الرجلُ فرددت عليه، صدق الله وبلَّغ رسوله r. فقال عبد الله: سمعت رسول الله r يقول:( إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة،
حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وظهور شهادة الزور، وكتمان
شهادة الحق، وحتى يخرج الرجل بماله إلى أطراف الأرض، فيرجع فيقول: لم أربح شيئاً،
وحتى تغلو الخيل والنساء، ثم ترخص، فلا
تغلو إلى يوم القيامة)[321]
وقد حصل ما أخبر عنه النبي r، فنحن نرى هذا في عصرنا ينتشر
انتشارا عظيما، مع أن المطلوب إفشاء السلام، كما قال r:( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى
تحابّوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم )[322]
ومما يدخل في هذا الباب ما أخبر عنه r من وقوع التناكر بين الناس، فعن حذيفة ـ
رضي الله عنه ـ قال: سئل رسول الله r عن الساعة فقال:( علمها عند ربي لا
يجليها لوقتها إلا هو، ولكن أخبركم بمشاريطها وما يكون بين يديها ـ وذكر منها ـ
ويلقى بين الناس التناكر، فلا يكاد أحد يعرف أحدا )[323]
ومن مظاهر الانحراف التي أخبر عنها رسول الله r الانحراف الخلقي، وما يجره من ويلات وخراب للنفوس
والمجتمعات:
ومنها ضياع الأمانة وارتفاعها، فعن حذيفة ـ رضي
الله عنه ـ قال: حدثنا رسول الله r
حديثين، قد رأينا أحدهما وأنا انتظر الاخر، حدثنا أن الامانة
نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم
حدثنا عن رفع الامانة، قال:( ينام الرجل النومة فتقبض الامانة من قلبه، فيظل أثرها
مثل أثر الوكت[324]، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر، دحرجته
على رجلك فنفط[325] فتراه منتبرا[326]، وليس فيه شئ فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحدهم يؤدي الامانة، حتى يقال:
إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل: ما أجلده، ما أكرمه ما أظرفه ما أعقله
وما في قلبه مثقال حبة من خردل من ايمان)[327]
ومعنى هذا الحديث أن الامانة تزول عن القلوب شيئا فشيئا، فإذا
زال أول جزء منها، زال نورها وخلفته ظلمة كالوكت وهو اعتراض لون مخالف للون الذي
قبله، فإذا زال شئ آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول الا بعد مدة، وهذه
الظلمة فوق التي قبلها.
ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره
فيه واعتقاب الظلمة اياه بجمر يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها، ثم يزول الجمر ويبقى
التنقط وأخذه الحصاة ودحرجته اياها أراد بها زيادة البيان وايضاح المذكور.
وفي حديث آخر عن شداد بن أوس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r:( أول ما تفقدون من دينكم الامانة )[328]
وفي حديث آخر عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول
الله r:( أول ما يرفع من الناس الأمانة، وآخر ما يبقى من
دينهم الصلاة، ورب مصل لا خلاق له عند الله )[329]
ومن مظاهر الانحراف الخلقي رفع الحياء الذي جمع بينه r وبين رفع الأمانة، فقال:( أول ما يرفع من هذه الامة
الحياء والامانة )[330]
ومنها التبرج الذي وصفه r
بقوله:( صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها
الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا
يجدن ريحها، وان ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )[331]
ففي هذا
الحديث وصف للتبرج الذي نراه بأعيننا في عصرنا، فقد وصف النساء بكونهن كاسيات
عاريات، وذلك لم يتحقق إلا في الألبسة المعاصرة الشفافة أو المجسمة.
بل إنه r وصف تصفيفات
الشعر، والتي تشبه كثيرا التصفيفات المعاصرة.
وقد ربط r هذا بالرجال الذين معهم كأذناب
البقر يضربون الناس، وفي ذلك إشارة إلى الحكومات المستبدة، وقمعها لشعوبها.
قال عبد القادر: ومن النبوءات الغيبية التي أخبر عنها رسول الله
r ما يرتبط بهذه الحياة المادية المترفة التي توفرت لأهل
هذا الزمان، فقد أشار r إلى مجامع كل ذلك.
لقد أشار إلى الاهتمام العمراني، وووسائل الاتصال والنقل..
وغيرها بأحاديث صريحة لا مجال فيها للتأويل.
قال بعض الجمهور: هل يمكن هذا؟.. إن هذا لعجيب.
قال عبد القادر: من شك في هذا، فليذهب إلى مخطوطات كتب الحديث
القديمة ليرى هذه النصوص المعجزة التي تتنبأ بكل دقة عن كثير من المكتشفات
والمخترعات الحديثة، وسيرى فيها الشروح المتكلفة لبعض الشراح الذين لم يدركوا
المقاصد الحقيقية التي توحي بها ظواهر النصوص.
قالوا: فحدثنا عن بعض ذلك.
قال عبد القادر: من النبوءات الغيبية
المرتبطة بهذا ما أخبر عنه r من اهتمام المتأخرين بالعمران،
وبالتطاول به، فقال:( إذا رأيت الحفاة
العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان فانتظر الساعة )[332]
وفي حديث آخر قال r:( لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر
الزلازل ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن وحتى
يتطاول الناس في البنيان)[333]
وفي حديث آخر قال r:( ما أنتم إذا مرج الدين، وسفك الدماء،
وظهرت الزينة وشرف البنيان )[334]
وفي حديث آخر قال r:( لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتاً
يوشونها وشي المراجيل)[335]، والمراجيل: هي الثياب المخططة.
وفي حديث آخر قال r:( من أعلام الساعة وأشراطها أن يعمر خراب
الدنيا ويخرب عمرانها)[336]
وقد وقع كل ما أخبر به r، ولا شك أنكم ترون كل ذلك رأي العين..
حتى ما ذكره r من تخريب العمران، وعمران الخراب، والذي قد صعب على السابقين فهمه، فإنا نراه
اليوم رأي العين، حيث نجد المدن الجديدة تنشأ في الأماكن الخربة غير المعمورة،
والمدن المعمورة تهدم لإعادة تخطيطها.
والنبي r بهذا الحديث يشير إلى تغلب الاهتمام
بالعمران على حساب الاهتمام بالإنسان, وقد جاء في الحديث ما يؤكد هذا، فقد قال r:( إن من أعلام الساعة وأشراطها أن تزخرف المحاريب وتخرب القلوب )[337]
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا ما
قاله r في تقارب
الزمان، وطي الأرض، فقد قال r لاتقوم الساعة حتى
يتقارب الزمان وتزوى الأرض زياً)[338]، أي تطوى ويضم بعضها إلى بعض.
ونحن نرى هذا في الواقع، بل صار الناس يسمون العالم نتيجة
تقاربه الشديد بالقرية الصغيرة، حيث يستطيع أي شخص في أي مكان من العالم أن يتكلم
ويرى العالم أجمع، ويتحدث مع من يشاء ويراه.
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا
ما ورد من ذكر تطور وسائل النقل، وهو ما أشار إليه قوله تعالى:﴿
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا
لا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل:8)
فقد ذكر الله تعالى في هذه الآية الوسائل التي كانت مستعملة في
ذلك الزمان، ثم أخبر بأنه سيخلق ما لا يعلمه أهل ذلك العصر.
وقد أشار r إلى بعض ذلك، فقد ذكر بأن زمناً سيأتي لا
تستخدم فيه الإبل للتنقل وحمل الأمتعة، ومعلوم أن عدم استخدام الجمال مع وجودها
إنما يكون بسبب وجود وسيلة أحسن، وليس هناك من الحيوانات ما هو أقدر من الجمال على
السفر في الصحراء.
ولم يحصل ما أخبر r به إلا في هذا الزمان الذي نرى فيه تعطل
الجمال عن حمل الأمتعة، وهي ظاهرة في ازدياد كل يوم، قال r:( ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها)[339]
وفي حديث آخر، قال r:( يكون في آخر الزمان رجال يركبون على
المياثر حتى يأتون أبواب المساجد )[340]، وقد فسر عمر بن الخطاب المياثر بالسروج
العظام.
وهو ما أشار إليه الحديث الآخر الذي يقول فيه r:( سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على السروج كأشباه
الرحال ينزلون على أبواب المساجد)[341]
أتعلمون شيئا يمكن أن ينطبق عليه هذا الوصف غير السيارات ذات
المقاعد التي تشبه السروج العظيمة، والتي يركب الناس عليها إلى أبواب المساجد؟
فلم يعرف من المسلمين
أنهم شدوا البغال والجمال أو الخيول ووضعوا عليها السروج العظيمة، ليذهبوا بها إلى المساجد، فلا شك أن هذه
الوسيلة للمواصلات غير هذه، فالحديث يصف
أن الركوب على السروج لا على الخيول أو الجمال أو غيرها من الحيوانات.
ومما يؤكد هذه الإشارات أن النبي r سئل عن سرعة سير الدجال في الأرض، فقال:(
كالغيث استدبره الريح )، أي كسرعة سير السحب[342].
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا
إخباره r عن اكتشاف البشر
لمعادن جديدة لم يكونوا يعرفونها من قبل.
وقد أخبر r أن هذه المعادن سيستغلها أراذل
الناس، فقال:( ستكون معادن يحضرها
شرار الناس)[343]، بل أخبر أنها معادن كثيرة، فقال r:( لا تقوم الساعة حتى تظهر معادن كثيرة لا يسكنها إلا
أراذل الناس )[344]
فهذه نصوص صريحة تنطق بأهمية المعادن المكتشفة من البترول
وغيره.
قالوا: فكيف ذكر محمد بأن الذي الذي يحضرها أراذل الناس؟
قال: لولا أن أراذل الناس هم الذي فتحت لهم لما رأيت العالم
يتصارع من أجلها، ويقتل بعضهم بعضا لأجل السيطرة عليها، ولا يكتفون بذلك بل
يستخرجون من ها من السموم ما يهلكون به الحياة في البر والبحر.
قال مستأجر بولس: ولكن القرآن ذكر أن
بركات الله يفتحها على القرى إذا آمنت، فقال:﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (لأعراف:96)، فكيف تجمع هذا بهذا؟
قال عبد القادر: إن الذي قال هذا هو الذي قال:﴿ وَلَوْلا
أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ(33) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ(35)﴾ (الزخرف)
والجمع بينهما يسير، فالله تعالى ذكر في تلك الآية البركات، ولم
يذكر المتاع والزخارف.
قالوا: فما الفرق بينهما؟
قال: كالفرق بين الطيب والخبيث.. فالبركات هي الفتوحات الطيبة، وغيرها
من الفتوحات الخبيثة التي لا تزيد أهلها إلا ضلالا وفسادا.
قالوا: فهذه النصوص تنهانا عن التمتع بهذه الفتوح.
قال: لا.. هذه النصوص تخبرنا بالواقع.. وهي لا تأمر، ولا تنهى..
وإن شئنا أن نفهم منها أمرا.. فهو التحذير من أن نكون مثل هؤلاء الذين وردت عنهم
هذه الأخبار.
ومن النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا ما
ورد في الحديث من حديث السباع، ونطق الجماد، فقد قال r:( والذي نفسي بيده! لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع
الانس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، ويخبره فخذه بما يحدث أهله بعده )[345]
وقد بدأت أمارات
هذا الحديث بالظهور، فأنتم ترون حيوانات السيرك تأتي بالغرائب، والكلاب
(البوليسية) تدل الشرط على معلومات، فقد تكون هذه طرفاً من تفسير الحديث،
والمستقبل متسع لما هو أكبر من هذا.
أما حديث السوط
والنعلين عما أحدث الأهل في البيت، ففيه إنباء بنطق الجماد وقد نطق، وفيه إنباء
بأجهزة الاستقبال التي تمكن صاحب البيت من الاطلاع على معلومات من داخل بيته
بواسطة مراسلات معينة تستقبلها أجهزة استقبال توضع في النعلين، أو في سوط يحمل
باليد، وقد نطق الجماد اليوم، والمستقبل
يتسع لتفسير باقي الحديث.
قام رجل من الجمع، وقال: إن كل ما ذكرته من هذا يدل على أن الله
آتى محمدا من العلم ما استطاع أن يصور به صورة للعالم والمجتمعات من بعده..
قاطعه عبد الحكيم، وقال: ولم يذكر محمد r ذلك إلا من باب الشفقة على أمته من بعده،
فهو حريص عليها في حياته وبعد مماته.
قال عبد القادر: وهو كذلك برهان ودليل على نبوته، فلولا
الاقتناع بنبوته ما يتم الاندراج ضمن أمته.
قال الرجل: لقد أيقنا
ذلك.. وهذا ما دعاني لأن أسألك هذا السؤال الذي يحير البشر جميعا.
قال عبد القادر: تريد أن تسأل عن أخبار نهاية الدنيا، ونهاية
البشر على الأرض.
قال الرجل: أجل.. ما عدوت ما أقصده.. فكما أن في البشر شوقا
لمعرفة أصولهم، فإن لهم شوقا في معرفة النهاية التي ينتهون إليها.
وقد ذكرت عن محمد r أنه أخبر الكثير من الصحابة y عن الحوادث المرتبطة بوفاتهم.. فهل اقتصر حديثه على
الأفراد، ولم يتعد إلى البشر؟
قال عبد القادر: كلا.. بل إن الله تعالى أوحى لمحمد r من علوم ذلك علوما كثيرة نافعة مفصلة تمتلئ نصحا
ومودة.
قال الرجل: فأخبرنا عن ذلك.. وابدأ حديثك بالمدة التي بقيت
للبشر على الأرض، فقد سمعنا بعض الوعاظ يخبرنا من تفاصيل ذلك ما يكاد يحدد لها
تاريخا معينا[346].
انتفض عبد الحكيم، وقال بغضب: كذب أولئك الدجالون، فقد انفرد
الله بعلم الساعة، فلا يعلمه غيره، وقد قال تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا
يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا
تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
(الأعراف:187)
وقال تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ
مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا
(44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)﴾(النازعات)
ففي هذه الآيات وغيرها إخبار من الله
تعالى بأنه لا يعلم أحد متى الساعة إلى الله، وأنها ستأتي بغتة من حيث لا يشعر
الناس، وأنها في ذلك كالأجل الذي يتوفى عنده الإنسان، وقد قال r:( إن الساعة تهيج بالناس، والرجل يصلح حوضه، والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقيم
سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه )[347]
وقال r:( تقوم الساعة والرجل يحلب اللِّقْحَة،
فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة. والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه
حتى تقوم. والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم)[348]
وقال r:( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من
مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم
تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما
بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه. ولتقومَنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن
لقْحَته فلا يَطْعَمُه. ولتقومَنّ الساعة وهو يَلِيط حوضه فلا يسقي فيه. ولتقومَنّ
الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها)[349]
ولهذا لما جاء جبريل u
في صورة أعرابي، يعلم الناس أمر دينهم، فجلس من رسول الله r
مجلس السائل المسترشد، وسأله عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، ثم قال:
فمتى الساعة؟ قال له رسول الله r:(
ما المسئول عنها بأعلم من السائل )[350] أي: لست
أعلم بها منك، ولا أحد أعلم بها من أحد، ثم قرأ النبي r:﴿
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا
فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي
نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (لقمان:34)
ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت
جهوري فقال: يا محمد، قال له رسول الله r:( هاء ـ نحوا من صوته ـ قال: يا
محمد، متى الساعة؟ قال له رسول الله r:( ويحك إن الساعة آتية، فما أعددت لها؟)
قال: ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله. فقال له رسول الله r:( المرء مع من أحب )، فما فرح
المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث[351].
فها أنت ترى النبي r
يوجه السائل إلى ما ينبغي أن يفعله، وهو الإعداد للساعة، لا ما يبحث عنه الغافلون
من البحث عن مواقيتها، وقد حكاه الله تعالى عن الكفار، فقال:﴿ يَسْتَعْجِلُ
بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ
لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ (الشورى:18)
قام رجل من الحاضرين، وقال: إن عقلي
يكاد يستعصي على ما يذكره الناس من شأن الساعة، وأنا رجل لا يؤمن إلا بالعلم.. فهل
في العلم ما يدل على إمكان وجود شيء اسمه الساعة.. فهو أهم عندي من زمان وجودها؟
قال عبد الحكيم: العلم لا يدل إلا على
ذلك.. أجبني: لقد كانت هناك حيوانات تعيش
قبل (65) مليون سنة على وجه الأرض تسمى الديناصورات، فهل تعرفها؟
قال الرجل: أجل.. لقد كانت المخلوقات في ذلك الحين تختلف عما
نعرفه الآن عن الحيوانات الموجودة في زماننا هذا، لقد كانت أمة كاملة تعيش على وجه
الأرض وكان لها حشراتها وطيورها وأ سماكها الخاصة بها، وهو عالم يختلف تماما عن
عالمنا.
قال عبد الحكيم: فأين ذلك العالم الآن؟
قال الرجل: هناك نظريات كثيرة في سر اختفائه.. لعل أهمها عندي
أن جرما سماويا نزل إلى الأرض، فصعقت كل الأحياء الموجودة على وجه الأرض، ودمرت تدميراً
وانتهت بذلك فئة الديناصورات عن وجه الأرض.
قال عبد الحكيم: فقد قامت ساعة الديناصورات إذن؟
سكت الرجل، فقال عبد الحكيم: أنت
تعلم أن الكون بدأ بانفجار كبير (Big Bang) حصل منذ ملايير السنين، وما زال
يتمدد حتى الآن.. فهل ذكر العلماء نهاية لهذا الامتداد؟
قال الرجل: أجل.. هناك نظريتان علميتان: الأولى تقول بأن الكون
سوف يكون له نهاية، إما أن يستمر الكون بالتمدد حتى تنفقد الجاذبية بين الكواكب،
ويصبح كل شيء عشوائيا، وعند ذلك تخرج الأرض من مدارها حول الشمس وتنتهي الحياة
عليها.
والنظرية الثانية تقول بأن الكون سوف يرجع وينطبق على نفسه كما
كان قبل أن يبدأ الإنفجار، وبذلك سوف ينعدم الكون، وبانعدام الكون ستنعدم الأرض
وما عليها.
قال عبد الحكيم: فها هو العلم إذن
يثبت لزوم الساعة، بل إن النظرية الثانية تنطبق تماما على ما ذكره القرآن الكريم
من كيفية نهاية هذا العالم الذي نعيش فيه، فقد قال تعالى:﴿ يَوْمَ نَطْوِي
السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ (الانبياء:104)
لست أدري كيف نطقت قائلا: لقد ذكرت بأن محمدا لم يذكر موعدا
للساعة.
قال عبد الحكيم: أجل.. وقد ذكرت لك من النصوص القطعية من القرآن
الكريم والسنة المطهرة ما يدل على ذلك.
قلت: ولكنه قد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة قالت: كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله r، سألوه عن الساعة: متى الساعة؟
فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال قال:( إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم
ساعتكم )[352]
قال عبد الحكيم: صدق رسول الله r، والساعة المرادة هنا هي الموت،
ولهذا قال النبي r (ساعتكم)، فمن
مات فقد قامت قيامته.
ويشير إلى هذا ما ورد في الحديث عن
جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله r قبل أن يموت بشهر، قال:( تسألوني
عن الساعة، وإنما علمها عند الله. وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس
منفوسة، تأتي عليها مائة سنة )[353]
وقد فسر ابن عمر ذلك، فقال: وإنما أراد
رسول الله r انخرام ذلك
القرن[354].
قال الرجل: ما دام موعد الساعة مجهولا،
فما علاماتها؟.. لقد ذكرت أن للساعة علامات؟
قال عبد القادر: أجل.. وقد وردت بتلك
العلامات النصوص، وهي من النبوءات الغيبية التي لا شك في أنها ستحصل، فلم تعودنا
النصوص المقدسة إلا على الصدق.
لقد أشار القرآن الكريم إلى أن علامات
الساعة قد بدأت، فقال تعالى:﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ
جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ (محمد:
18)
وهذا المعنى ورد في آيات أخرى كثيرة،
فقد قال تعالى:﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾(
القمر: 1 )، وقال تعالى:﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (النحل:1)، وقال تعالى:﴿
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ (الانبياء:1)
بل إنه ورد في الأحاديث ما يدل على أن بعثة رسول الله r
من أشراط الساعة؛ لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله به الدين، وأقام به الحجة على
العالمين.
وقد ورد في الحديث عن سهل بن سعد قال: رأيت رسول الله r قال بأصبعيه هكذا، بالوسطى والتي تليها:( بعثت أنا
والساعة كهاتين )[355]
هنا انتفض بولس، وكأنه وجد غنيمته، فقال: اسمعوا يا قوم لما
يقول هذا الرجل.. أليست هذه نبوءة كاذبة!؟.. إن روائح الكذب المنتنة تفوح منها..
لقد مر على محمد أكثر من ألف وأربعمائة سنة، ومع ذلك لم تقم القيامة، فكيف بالمدة
القصيرة التي ذكرها؟
نهض عبد الحكيم، وقال: أتعلم كم عمر الكون؟
قال رجل من الجمع: لقد علم ذلك، فقد توصلت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا مؤخراً، وذلك باستخدام
مكوك فضائي مزود بمجسات متطورة جداً لدراسة الكون، حيث قدرت عمر الكون بـ 13،7
مليار سنة[356].
قال عبد الحكيم: فهل يمكن اعتبار 1400
سنة أمام هذه السنين الطوال؟
سكت الرجل، فقال عبد القادر: فهذا يدل
على أن كل ما يحصل الآن من علامات الساعة، ولهذا رأينا رسول الله r يعبر في الكثير من النبوءات
السابقة، والتي رأيناها بعيوننا، بأنها من علامات الساعة.
قال الرجل: لم نرد هذا.. بل أردنا
علامات الساعة القريبة.
قال عبد القادر: لقد ذكر القرآن الكريم
بعض علامات الساعة الكبرى، كيأجوج ومأجوج،
والدابة، وظهور المسيح r:
لقد قال الله تعالى يذكر يأجوج ومأجوج:﴿ حَتَّى إِذَا
فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ
يَنسِلُونَ(96)وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ
الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا
ظَالِمِينَ (97)﴾(الأنبياء)
وقال تعالى يذكر الدابة:﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ
النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾(النمل: 82)
وقال تعالى عن المسيح u:﴿
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِي هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾(الزخرف: 61)، وقال عنه: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ (النساء:159)، ومن المعلوم أن المسيح r
لم يمت بل رفعه الله إليه حياً، وقد فسر المفسرون هاتين الآيتين بنزول عيسى مرة
ثانية كما تواترت بذلك الأحاديث ولم يشذ عن هذا التفسير إلا القليل.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد ذكر بعض هذه العلامات قبل قيام
الساعة فإن السنة النبوية تفيض بذكر العلامات المختلفة الصغرى والكبرى.
وبما أنه سبق وأن ذكرنا الكثير من العلامات الصغيرة، والتي رأينا
انطباقها التام على واقعنا، فسأذكر لكم بعض الأحاديث التي تصور نهاية الدنيا، بناء
على رغبتكم في ذلك.
فقد ذكر رسول الله r عشر آيات كبرى، فقال:( لا تقوم الساعة
حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج،
وخروج عيسى ابن مريم عليه السلام، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمغرب، وخسف
بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن[357] تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا،
وتقيل معهم حيث قالوا )[358]
وقد أخبر رسول الله r أن أخطر هذه العلامات هو ظهور
الدجال، قال r:( بادروا
بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً،
أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشر غائبٍ ينتظر، أو الساعة فالساعة
أدهى وأمر)[359]
ولهذه الخطورة التي يمثلها الدجال على
الإيمان ذكر النبي r الكثير من
التفاصيل المرتبطة به، بل أعطى المؤمنين الطرق التي يتوقون بها من الدجال، فعن ابن
عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنا نتحدث عن
حجة الوداع، والنبي r بين أظهرنا، ولا
ندري ما حجة الوداع، حتى حمد الله رسول الله r، وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال
فأطنب في ذكره، وقال: ما بعث الله من نبيٍ إلا أنذره أمته: أنذره نوح والنبيون من
بعده، وإنه إن يخرج فيكم فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم، إن ربكم ليس
بأعور، وإنه أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبةٌ طافيةٌ. ألا إن الله حرم عليكم
دماءكم وأموالكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا:
نعم، قال: اللهم اشهد - ثلاثاً - ويلكم، أو: ويحكم، انظروا: لا ترجعوا بعدي كفاراً
يضرب بعضكم رقاب بعضٍ )[360]
ومن التفاصيل التي وردت في شأنه ما ورد
في الحديث من قوله r:( إن الدجال
يخرج، وإن معه ماءً وناراً؛ فأما الذي يراه الناس ماءً، فنارٌ تحرق، وأما الذي
يراه الناس ناراً، فماءٌ باردٌ عذبٌ، فمن أدركه منكم، فليقع في الذي يراه ناراً،
فإنه ماءٌ عذبٌ طيبٌ)[361]
بل إن النبي r ذكر مدة لبثه، وما يحصل بعدها،
فقال:( يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين، لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً،
أو أربعين عاماً، فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم، صلى الله عليه وسلم، فيطلبه
فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوةٌ، ثم يرسل الله، عز وجل،
ريحاً باردةً من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحدٌ في قلبه مثقال ذرةٍ من
خيرٍ أو إيمانٍ إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبلٍ، لدخلته عليه حتى
تقبضه، فيبقى شرار الناس في خفة الطير، وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً، ولا
ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان، فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟
فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌ رزقهم، حسنٌ عيشهم، ثم ينفخ في الصور،
فلا يسمعه أحدٌ إلا أصغى ليتاً[362] ورفع ليتاً،
وأول من يسمعه رجلٌ يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله - أو قال: ينزل
الله - مطراً كأنه الطل أو الظل، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم
قيامٌ ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس هلم إلى ربكم، وقفوهم إنهم مسؤولون، ثم
يقال: أخرجوا بعث النار فيقال: من كم؟ فيقال: من كل ألفٍ تسعمائةٍ وتسعةً وتسعين؛
فذلك يوم يجعل الولدان شيباً، وذلك يوم يكشف عن ساقٍ )[363]
وأخبر r عن المؤمنين الذين يقفون في وجه
الدجال، مستنيرين في ذلك بوصية رسول الله r، فقال:( يخرج الدجال فيتوجه قبله
رجلٌ من المؤمنين فيتلقاه المسالح[364]، مسالح الدجال،
فيقولون له: إلى أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج، فيقولون له: أو ما تؤمن
بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاءٌ! فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعضٍ: أليس قد نهاكم
ربكم أن تقتلوا أحداً دونه، فينطلقون به إلى الدجال، فإذا رآه المؤمن قال: يا أيها
الناس إن هذا الدجال الذي ذكر رسول الله r، فيأمر الدجال به فيشبح؛ فيقول:
خذوه وشجوه، فيوسع ظهره وبطنه ضرباً، فيقول: أو ما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح
الكذاب! فيؤمر به، فيؤشر بالمنشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه، ثم يمشي الدجال
بين القطعتين، ثم يقول له: قم، فيستوي قائماً. ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما
ازددت فيك إلا بصيرةً. ثم يقول: يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحدٍ من الناس،
فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل الله ما بين رقبته إلى ترقوته نحاساً، فلا يستطيع
إليه سبيلاً، فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار،
وإنما ألقي في الجنة فقال رسول الله r:( هذا أعظم الناس شهادةً عند رب
العالمين )[365]
وقد ذكر r في حديث طويل سير الأحداث التي
تبدأ من ظهور الدجال، وتنتهي بالقيامة، فقال ـ وقد رأى خوف الصحابة الشديد من فتنة
الدجال ـ:( غير الدجال أخوفني عليكم؛ إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم؛ وإن
يخرج ولست فيكم، فامرؤٌ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلمٍ. إنه شابٌ قططٌ عينه
طافيةٌ، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطنٍ، فمن أدركه منكم، فليقرأ عليه فواتح سورة
الكهف؛ إنه خارجٌ خلةً بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله
فاثبتوا قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً: يومٌ كسنةٍ،
ويومٌ كشهرٍ، ويومٌ كجمعةٍ، وسائر أيام كأيامكم قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم
الذي كسنةٍ أتكفينا فيه صلاة يومٍ؟ قال: لا، أقدروا له قدره قلنا: يا رسول الله
وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم، فيدعوهم،
فيؤمنون به، ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم
أطول ما كانت ذرىً، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون
عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيءٌ من أموالهم، ويمر
بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً
ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه، فيقبل، ويتهلل
وجهه ويضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله تعالى المسيح ابن مريم، صلى الله عليه
وسلم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً كفيه على أجنحة
ملكين، إذا طأطأ رأسه، قطر وإذا رفعه تحدر منه جمانٌ كاللؤلؤ، فلا يحل لكافرٍ يجد
ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي إلى حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لدٍ
فيقتله، ثم يأتي عيسى، صلى الله عليه وسلم قوماً قد عصمهم الله منه، فيمسح عن
وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى
صلى الله عليه وسلم إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحدٍ بقتالهم، فحرز عبادي إلى
الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة
طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرةً ماءٌ، ويحصر نبي
الله عيسى، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة
دينارٍ لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، رضي الله
عنهم، إلى الله تعالى، فيرسل الله تعالى عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى كموت
نفسٍ واحدةٍ ثم يهبط نبي الله عيسى، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم،
إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبرٍ إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله
عيسى، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم إلى الله تعالى، فيرسل الله
تعالى طيراً كأعناق البخت، فتحملهم، فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله عز وجل
مطراً لا يكن منه بيت مدرٍ ولا وبرٍ، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة، ثم يقال
للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذٍ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون
بقحفها، ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة
من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما
هم كذلك إذ بعث الله تعالى ريحاً طيبةً، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمنٍ
وكل مسلمٍ؛ ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة )[366]
***
ما إن وصل عبد القادر من حديثه إلى هذا الموضع حتى
صاح بعض الحاضرين: آمنت بالله ورسوله.. وصدق الله ورسوله.. فلا يقول كل ما ذكرت
إلا نبي.
قال آخر: صدقت.. فمن له القدرة على ذكر
كل هذه التفاصيل والعلوم؟
قال آخر: لو طبقنا المقاييس التي ذكرها
القس على هذه النبوءات، فإن ذرات الأرض جميعا لا تستطيع أن تتحمل دقة الصدق الذي
تحمله.
وقال آخرون كلاما كثيرا قريبا من هذا.
لم يملك بولس إلا أن يطأطئ رأسه، ثم
يتسلل خارجا دون أن يلتفت له أحد.
أما الجمهور، فقد سار نحو عبد القادر
وعبد الحكيم يصافحهما بحرارة.
وأما أنا.. فقد سرت خلف بولس مطأطئ الرأس.. ولكن
بصيصا جديدا من النور نزل علي، ملأت أشعته جوانح قلبي، اهتديت به بعد ذلك إلى شمس
محمد.
([2]) الكثير من المسيحيين
يعترفون بأن عبارات متى محشورة بطريقة مصطنعة غير مقنعة، انظر على سبيل المثال: التفسير
الحديث انجيل متى صفحة 31( طبع بموافقة الكنيسة المصرية )
([4]) فاللفظ في النسخة
الأصلية، والتي ترجم منها إلى العربية لا يعني أبداً عذراء، وإنما اللفظ وارد
بمعنى المرأة الصغيرة، وليس فيه أي إشارة لعذريتها.
وفي التراجم اليونانية
الثلاث ترجمة أيكوئلا سنة 129م , وترجمة تهيودشن سنة 175م , وترجمة سميكس سنة
([7])ففي (تكوين:41/1-10):« وحدث من بعد سنتين من الزمان ان فرعون رأى
حلما. واذا هو واقف عند النهر وهوذا سبع بقرات طالعة من النهر حسنة المنظر وسمينة
اللحم. فارتعت في روضة. ثم هوذا سبع بقرات اخرى طالعة وراءها من النهر قبيحة
المنظر ورقيقة اللحم. فوقفت بجانب البقرات الاولى على شاطئ النهر. فاكلت البقرات
القبيحة المنظر والرقيقة اللحم البقرات السبع الحسنة المنظر والسمينة. واستيقظ
فرعون ثم نام فحلم ثانية. وهوذا سبع سنابل طالعة في ساق واحد سمينة وحسنة. ثم هوذا
سبع سنابل رقيقة وملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها. فابتلعت السنابل الرقيقة
السنابل السبع السمينة الممتلئة. واستيقظ فرعون واذا هو حلم. وكان في الصباح ان
نفسه انزعجت. فارسل ودعا جميع سحرة مصر وجميع حكمائها وقصّ عليهم فرعون حلمه. فلم
يكن من يعبّره لفرعون ثم كلم رئيس السقاة فرعون قائلا انا اتذكر اليوم خطاياي.
فرعون سخط على عبديه فجعلني في حبس بيت رئيس الشرّط انا ورئيس الخبازين »
([10]) انظر: قوم سبأ وسيل
العَرِم: بقلم الكاتب التركي هارون يحيى، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
([18]) فكلمة لفيف تعني الشيء
المجتمع، والملتف من كل مكان واللفيف؛
والقوم يجتمعون من قبائل شتى ليس أصلهم واحدا، واللفيف ما اجتمع من الناس
من قبائل شتى، واللفيف الجَمْع العظيم من أخلاط شتى فيهم الشريف والدنيء والمطيع
والعاصي والقوي والضعيف.
([30]) رواه البيهقي،
وأخرجه ابن سعد بلفظ: فكان أول ما واجهني به. وبلفظ: فقلت ما قال هذا القول الا من
أجلي وبلفظ: فأتاح الله لي رزقا ما كنت أحتسبه»
([42]) رواه البيهقي
وأبو نعيم وابن سعد وابن عساكر، وكان كاتب
الصحيفة منصور بن عكرمة العبدري، فشلت يده حتى يبست فما كان ينتفع بها، فكانت قريش
تقول بينها: إن الذي صنعنا إلى بني هاشم لظلم، انظروا ما أصاب منصور بن عكرمة.
([71]) عمواس: قرية من قرى
الشام ـ في فلسطين ـ بين الرملة وبيت المقدس، على ستة أميال من الرملة على طريق
بيت المقدس.
([72]) وهذا ما صححه ابن حجر،
وقيل: (سنة 18) وهذا ما ذكره عامة المؤرخين، كخليفة والطبري وابن زبر وابن الأثير
وابن كثير..
([78]) رواه الحميدي وأبو يعلى والبزار
وأبو نعيم وصححه ابن حبان والحاكم، وقال الهيثمي: رجال أبي يعلى رجال الصحيح، غير
إسحاق بن أبي إسرائيل وهو ثقة مأمون.
([79]) رواه عبد بن حُميد
والبخاري في تاريخه وابن أبي عاصم والطبراني وأبو يعلى، والحاكم وصححه، وحسنه
الهيثمي.
([80]) رواه أحمد والبزار وابن
أبي عاصم وأبو نعيم والحاكم وابن أبي شيبة والحارث، عن فضالة بن أبي فضالة، عن
عليٍّ رضي الله عنه.
([81]) رواه أحمد والنسائي في
فضائل علي والبخاري في تاريخه والبزار والطحاوي وابن أبي عاصم وأبو نعيم
والدولابي، وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وقال الهيثمي: رجاله موثقون، فالحديث
بمجموع طرقه صحيح.
([82]) رواه أحمد الطحاوي
والبزاري والطبراني، ورجاله ثقات، كما قال الحافظ الهيثمي، وحسنه الحافظ ابن حجر.
([95]) رواه أحمد من طريقتين
أحدهما هذه، والأخرى مختصرة عن إبراهيم بن الأشتر عن أم ذر، ورجال الطريق الأولى
رجال الصحيح ورواه البزار بنحوه باختصار.
([100]) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 478، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 276 وعزاه
للطبراني، وقال: فيه من لم أعرفه.
([121]) رواه ابن سعد والبيهقي، ورواه البيهقي مرسلا بلفظ: يكون في أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا
يدرسها أحد غيره قال: فكانوا يرون أنه محمد بن كعب القرظي، والكاهنان قريظة
والنضير.
([125]) رواه ابن منده وابن عساكر، وأخرجه ابن عساكر من حديث علي ومن حديث ابن عباس وابن عمرو من طريق أبي مجلز
مرسلا.
([131]) رواه الخطيب وابن عساكر عن أبي هريرة والبيهقي في المدخل عن علي وابن
عباس وابو داود الطيالسي في مسنده وفيه الجارود مجهول.
([138]) رواه أحمد والطيالسي
والبزار، وعزاه البوصيري لابن أبي شيبة وللطبراني في الأوسط مختصراً، وقال الحافظ
الهيثمي: رجاله ثقات، وقد ورد بنحوه عن بعض الصحابة أيضاً.
([139]) رواه أحمد والطيالسي
وأبو داود والترمذي والنسائي والطحاوي وغيرهم، وصححه أحمد بن حنبل وابن حبان والحاكم.
([151]) رواه أحمد، ورواه
البخاري بنحوه عن أبي هريرة، والأحاديث في
هذا كثيرة جداً وهي موجودة في كتب دلائل النبوة.
([161])، وفي رواية:
ضياح لبن، وفي لفظ: إن آخر زادك من الدنيا ضياح من لبن، رواه الطبراني والبزار باسناد حسن.
([163]) فقد رواه مسلم وابن عساكر وابن أبي شيبة عن أم سلمة، والامام أحمد وابن عساكر
والطبراني في الكبير، وأبو يعلى، والخطيب عن عثمان، والامام أحمد وابن سعد وابن
أبي شيبة وابو يعلى والطبراني في الكبير والحاكم عن عمرو بن العاص، وابن عساكر
وابن أبي شيبة وأبو يعلى وأبو عوانة والطبراني في الكبير عن أبي رافع، وأبو يعلى وابن سعد في كتاب الموالاة والطبراني في الكبير
والدار قطني في الافراد عن عمار بن ياسر وابن عساكر عن ابن عباس وعن حذيفة وعن أبي
هريرة وعن جابر بن عبد الله وعن جابر بن سمرة وعن أنس عن أبي أمامة وعن عبد الله
بن كعب بن مالك عن أبيه وعن عمرو بن العاص، وابن أبي شيبة، والامام احمد وابن سعد
والبغوي وابو نعيم والطبراني في الكبير، والحاكم عن عمرو بن حرام، والامام احمد
وأبو يعلى والطبراني في الكبير وابن عساكر عن ابن عمرو وابو يعلى والطبراني في
الكبير عن معاوية بن عتبة، والطبراني عن أبي رافع والطبراني عن أبي أيوب،
والطبراني في الكبير، والباوردي وابن قانع، والدار قطني في الافراد عن أبي البشير
بن عمرو عن زياد بن الجرد، والبزار برجال الصحيح عن أبي سعيد الخدري، وابو يعلى
برجال الصحيح عن أبي هريرة والطبراني برجال ثقات عن عبد الله بن عمرو وأبيه عمرو
ومعاوية والبزار عن أبي مسعود، وحذيفة والطبراني باسناد حسن.
([181]) التلعة: واحدة التلاع وهي مسايل الماء من علو الى سفل، وقيل: هو من الاضداد
يقع على ما انحدر من الارض وأشرف منها.
([182]) رواه ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد والطيالسي برجال ثقات وابن أبي
شيبة وأحمد عن حذيفة، والطبراني والامام أحمد والحاكم والضياء.
([191]) انظر: كتاب مختصر أشراط
الساعة، بقلم الدكتور خليل إبراهيم ملّا خاطر العزّاوي أستاذ الحديث وعلومه بجامعة
طيبة بالمدينة المنورة.
([192]) والذي يقع بجوار مشهد
مالك بن سنان ـ رضي الله عنه ـ، وهو موضع استسقاء النبي r كما ورد في حديث عُمير مولى أبي اللحم رضي الله تعالى عنهما، الذي
رواه أحمد والثلاثة، وصححه ابن حبان والحاكم.. وقد دخل هذا الموضع في توسعة المسجد
النبوي الشريف، من الجهة الغربية.
([207]) ومن ذلك ما روي عن أبي قتادة
قال: قال رسول الله r:« الآيات بعد المائتين »، قال ابن كثير: وقد أورده ابن ماجه من
وجهين آخرين عن أنس عن النبي r بنحوه ولا يصح.. وروى رواد بن الجراح وهو منكر الرواية عن سفيان
الثوري عن ربعي عن حذيفة مرفوعاً:« خيركم بعد المائتين خفيف الحاذ »، قالوا: وما
خفيف الحاذ يا رسول الله? قال:« من لا أهل له ولا ولد » وهذا منكر.
([212]) من النبوءات الغيبية المرتبطة بهذا
أن رسول الله r قال: بينا أنا نائم رأيت كأنه وضع
في يدي سواران فقطعتهما، فأوحى إلي في المنام: أن انفخهما، فنفختهما فطارا،
فأولتهما كذابين يخرجان، صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة.
بل إنه r قال لمسيلمة حين قدم مع قومه،
وجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته، فوقف عليه رسول الله r وقال له: والله لو سألتني هذا
العسيب ما أعطيتكه، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أريت.
وقد حصل ما أخبر عنه النبي r، فقد عقره الله وأهانه وكسره
وغلبه يوم اليمامة، كما قتل الاسود العنسي بصنعاء.
وفي حديث آخر عن أنس، قال: لقي رسول الله r مسيلمة فقال له مسيلمة: أتشهد أني رسول الله؟ فقال
النبي r: آمنت بالله وبرسله، ثم قال رسول
الله r:« إن هذا رجل أخر لهلكة قومه »[212]
([218]) الهباء في الأصل: ما ارْتَفع من تَحْت سَنابِك الخَيْل، والشَّيءُ
المُنْبَثُّ الَّذي تَراه في ضَوْء الشمسِ.
([221]) الأساود: الحيات مأخوذة من الأسود وهو أخبث الحيات وقيل: الجماعات من الناس
مأخوذة من سواد الناس.
([222]) صُبًّا: من الصَّبِّ وذلك أنَّ الأسود أي الحية إذا أراد أن يَنْهش ارْتفع
ثم انْصَبَّ على الملْدُوغ.
([228]) وما ذكره من حالات
السهم، من النصل والرصافة والنضي والقذذ فكلها كناية عن سرعة اختراق السهم للجسد،
بحيث لا يعلق به دم ولا فرث، وكذلك حال هؤلاء يمرقون بسرعة من الإسلام، فلا يعلقون
منه بشيء.
([249]) وقد روى البغوي
والطبراني والحاكم وابن عبد الحكم في فتوح مصر من طريق مالك عن ابن شهاب، ما يبين
معنى الرحم المرادة في الحديث: قال الليث: قلت لابن شهاب: ما رحمهم؟ قال: ان أم
اسماعيل منهم.
([254]) رواه ابن
عبد الحكم وأبو يعلى في تاريخ مصر، ونحب أن ننبه هنا
إلى أن ما
رواه الطبراني عن رباح اللخمي أن رسول الله r قال:« ان مصر ستفتح عليكم فانتجعوا خيرها ولا تتخذوها دارا فانه
يساق إليها أقل الناس أعمارا »، موضوع مكذوب لا يصح روايته، ففي اسناده مطهر بن
الهيثم قال فيه أبو سعيد بن يونس: انه متروك الحديث، قال: والحديث منكر جدا، قد
أورده ابن الجوزي في الموضوعات.
([279]) رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وابن جرير وابو داود الطيالسي
وابن ماجه وابو عوانة وابو يعلى وابن حبان عن علي، وابن أبي شيبة والامام أحمد
والترمذي وقال: حسن صحيح وابن ماجه وابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه.
([285]) رواه احمد
والبخاري وأبو يعلى عن أبي سعيد، وابن ابي شيبة والامام أحمد والبخاري ومسلم عن
سهل بن حنيف.
([290]) رواه أبو
يعلى والبزار والطبراني عن العباس بن عبد المطلب، والبزار برجال ثقات والطبراني عن
عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ والطبراني
برجال ثقات عن أم الفضل بنت العباس رضي الله عنهم..
([296]) رواه أبو شعيب الحراني
في فوائده، وأبو داود، والحاكم في المستدرك من حديث قتادة وأنس وأبي سعيد، ورواه
أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم من حديث أنس وحده.
([301]) رواه مسدد
وابن أبي شيبة وأحمد، والضياء في المختارة والنسائي وابن حبان والخرائطي في مكارم
الاخلاق.
([319]) رواه أحمد ( 10 / 26 - 31 ) وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح،
وأخرجه الحاكم في المستدرك ( 1 / 75 ) وقال: هذا حديث صحيح.
([325]) النفط: هو التنفط الذي
يصير في اليد من العمل بفأس أو نحوها، ويصير كالقبة فيه ماء قليل، وذكره مع أن
الرجلة مؤنت لارادة العضو.
([346]) هناك شبهات كثيرة ترتبط
بهذا الباب يثيرها بعض الوعاظ الجهلة، وهي
تحدد عمر الأمة بعمر معين، وذلك مما يستنتج منه موعد الساعة بالضبط.
وكل ما ورد في ذلك من
الحديث لا يصح، ومنها ما وري من قوله r:« إني لأرجو أن تنجو أمتي عند ربها من أن يؤخرها نصف يوم، قيل
لسعد: وكم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة »، وقد تفرد به أبو داود.
ولم يصح عن الرسول r أنه لا يمكث في الأرض قبل الساعة ألف سنة، ولم يحدد الرسول مدة
معينة لقيام الساعة.
قال ابن كثير: فأما ما
يورده كثير من العامة من أن النبي r لا يؤلف تحت الأرض فليس له أصل، ولا ذكر في كتب الحديث المعتمدة
ولا سمعناه في شيء من المبسوطات ولا شيء من المختصرات، ولا ثبت في حديث عن النبي r أنه حدد وقتَ الساعة بمدة محصورة وإنما ذكر شيئاً من أشراطها وأماراتها
وعلاماتها.
([347]) رواه الطبري في تفسيره
(13/297) والثعلبي في تفسيره كما في تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (1/475) وهو
مرسل.