الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: ثمار من شجرة النبوة

الناشر: دار الكتاب الحديث

من القرآن الكريم

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25)﴾  (إبراهيم)

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾(البقرة: 143)

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران: 110)

من الكتاب المقدس

(احترزوا من الأنبياء الكذبة يأتونكم بثياب الحملان الوديعة، ولكنهم من الداخل ذئاب خاطفة.. من ثمارهم تعرفونهم، هل تجتنون من الشوك عنبا، أو من الحسك تينا.. هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارا  جيدة، وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارا ردية) إنجيل متى (15:7-17)

المقدمة

في اليوم الخامس من زيارة البابا لي، نهضت نشيطا لأستمع إلى رحلته الخامسة للإسلام، والتي أخبرني بأنها كانت لبقعة من العالم تمتلئ بالحضارة والثقافة والعلوم، وأنه في تلك الرحلة اكتشف ثمارا يانعة من شجرة النبوة[1].

ولهذا كنت نشيطا غاية النشاط، يمتلئ قلبي بأشواق لم أكن أعرف سرها ذلك الحين، ولكني بعد أن حكى لي البابا حكاية تلك الشجرة الطيبة التي سقيت بجهود محمد r عرفت سر ذلك النشاط.

لقد كنت ـ مع إيماني وإسلامي الذي ورثته من قديم ـ أحمل مستنقعا من العقد التي نشرتها في نفسي أوهام النقص التي كنت أحملها، والتي لم يستطع ذلك الإيمان الوراثي أن ينزعها مني.

لقد كنت أنظر بأسف إلى الأمة الإسلامية التي تمثل أعظم رسول في الدنيا، وأكمل رسالة نزلت إلى الأرض، نظرة ممتلئة بالازدراء والاحتقار.

فهي أمة متخلفة في جميع الميادين.. بينما غيرها يتقدم في جميع الميادين:

هي متخلفة في السياسة، تحاول أن تقلد حرية الغرب وديمقراطيته، ولكنها لا تستطيع أن تتخلى عن مواريث الاستبداد التي تملكتها، فلذلك تنشئ ديمقراطيات مشوهة تحفظ لها استبدادها وقمعها وتسلطها وقوانين الطوارئ التي ظلت تفرضها منذ ولد الملك العضوض.

وهي متخلفة اقتصاديا.. بل ليس هناك في العالم من هو متخلف مثلها في هذا الميدان.. لقد من الله عليها بثروات يسيل لها لعاب العالم، وبمواقع استراتيجية تحسد عليها، ولكنها تأبى إلا أن تسلم جميع ثرواتها ـ مقابل متاع زهيد ـ لمن يكيلونها أصناف العذاب، بل هي تقيم المسابقات بينهم، فمن كان أكثر عداوة لها، كان أكثر تنعما بخيراتها.

وهي متخلفة اجتماعيا، لا تزال تنخر فيها العنصريات التي جاء الإسلام ليقمعها، ومعها الأعراف البائدة التي وجدت من فتاوى الفقهاء من يبررها، بل يجد لها من الأسانيد الواهية ما يحولها أصلا من الأصول، وشريعة من الشرائع.

وهي متخلفة فوق ذلك دينيا.. لا تزال الفرقة تشتت شملها.. ولا يزال التعصب للرجال يشغلها عن نبيها.. ولا يزال الاهتمام بالجزئيات والحرفيات والطقوس يشغلها عن كليات هذا الدين ومقاصده وحقائقه.

والخطر الأكبر من ذلك كله هو جهلها بتخلفها، أو حبها لتخلفها:

فساستها يناوئون كل إبداع، ويفرضون عليه من قوانين الطوارئ، ما يجعل من بلادنا جميعا معتقلا كبيرا، أو سجنا عريضا، أو زنزانة ضخمة لا يتنعم بعذابها إلا المبدعون الصادقون.

والكثير من فقهائها أو المشهور منهم يقف مع ساستها ليبرر تصرفاتهم، فهم ظل الله في أرضه، والله يؤتي ملكه من يشاء، ومن لم يطع سلطان الأرض لم ينل سلطان السماء.

أما عامتهم، فهمهم أن تملأ بطونهم، فهم لا يهتمون بشيء كما يهتمون بأصناف الغذاء، وكتب الطبخ، وموائد الولائم.. فإن انصرف اهتمامهم للدين لم يجدوا إلا الرقاة، ومفسري الأحلام، والمتشبثين بالخرافة والشعوذة.

هذه هي النظرة التي كنت أنظر بها إلى الأمة.. وكنت أتألم بسببها، وأحيانا أصيح مع ذلك الشاعر الذي كان يردد بألم قائلا: ( هذه الأمة ماتت والسلام )[2]

كانت تراودني ذلك الصباح ـ كما كانت تراودني كل حين ـ هذه الخواطر..

وكيف لا تراودني، وأنا أتغذى عليها في اليوم عشر مرات.. ففي كل نشرة أخبار لا أسمع إلا أخبار قومي الذين ينتشرون من المشرق إلى المغرب.. وفي كل نشرة أخبار لا يقتل إلا قومي، ولا يقهر إلا قومي، ولا يموت من الجوع إلا قومي.

ولست الوحيد في تلك الآلام.. بل كل من أراه كان يتألم ألمي.. ومنهم من كان يود أن ينسلخ من جلده، ليتحول فرنسيا أو إنجليزيا أو ألمانيا.. فإذا لم يطق ذلك حاول أن يلوي لسانه لينطق بما حفظه من الأفلام الأجنبية، ثم يلبس ما رآه من ألبستها، ويسير في الشوراع كما يسيرون، ويصفر ويصفق كما يصفرون، وكما يصفقون.

في ذلك الصباح.. وبذلك العقل المتألم، وبتلك النفس المملوءة خجلا، حملت طعام الإفطار إلى البابا، وكان طعاما بسيطا متناسبا مع البيئة البدوية التي كنت أعيشها: كان حبات تمر، مع كوب لبن، مع كسرة خبز..

استأذنت للدخول على البابا، كما تعودت، ثم سلمت عليه، وقدمت الفطور له، وجبيني يتقطر حياء من ذلك الطعام البسيط الذي قدمته له، والذي لا يوازي تلك الأبهة التي يعيشها قومه.

قلت له: اعذرني حضرة الولي الصالح.. فقد قدمت لك ما تعودنا على أكله، فأرجو أن تتحمل حياتنا البسيطة، فنحن لا نداني قومك في حضارتهم وتقدمهم.. نحن لا نزال نعيش الحياة البدائية.

ابتسم، وقال: أليست هذه هي الحياة التي كان يعيشها رسول الله r؟.. ألم يكن رسول الله r يأكل التمر، ويشرب اللبن، ويأكل مثل هذه الكسر التي تأكلونها؟

قلت: بلى.. ولكن الحياة تطورت الآن، وللأسف، فقد تخلف قومي عنها.. تخلفوا بأميال كثيرة، وسنوات طويلة، وقد استبد بهم اليأس، فتوقفوا عن السير، واكتفوا بالتفرج على السائرين.

قال: ومن هم السائرون الذين وقف قومك يتفرجون عليهم؟

قلت: قومك.. أليسوا هم رواد الحضارة وأساتذتها؟

أليسوا هم الذي اخترعوا جميع قيم الحياة الجميلة، وما تحتاجه الحياة الجميلة؟

فهم الذين اخترعوا التلفزيون والحواسيب والشبكات العنكبوتية.. وهم الذين اخترعوا الطائرات والسيارات والقطارات وجميع وسائل النقل.. وهم الذين صمموا الأنبية الضخمة وناطحات السحاب.. وهم الذين اكتشفوا أعماق البحار، وقمم الجبال، بل راحوا إلى الأفلاك من حولهم يزورونها ويقيمون العلاقات معها.

قال: نعم.. ولكن الحياة ليست ذلك فقط.. الحياة أعمق من ذلك بكثير.. ولو تأملت حياة كثير من الحيوانات لوجدت لديها من الاختراعات ما يوازي بالنسبة لها جميع ما صنعه قومي، وراحوا يفخرون على العالم بصنعه.

قلت: وحق لهم أن يفخروا.

قال: بم يفخر المساكين؟

قلت: بما نراه من اختراعات واكتشافات..

تنفس الصعداء، ثم قال: نعم هم الذين اخترعوا التلفزيون.. لكنهم لم يجدوا ما يملأونه به، فراحوا ـ بعقولهم المملوءة بالشهوات ـ يجعلونه ماخورا من مواخير الرذيلة، وحانة من حانات الفساد.

وهم الذين أنشأوا الشبكات العنكبوتية التي تحول العالم قرية صغيرة تربط بين أطراف الأرض.. ولكن المساكين لم يجدوا إلا أن يعمقوا بهذه الشبكات ما سبق للتلفزيون والفيديو البدء به.

وهم الذين اخترعوا جميع وسائل النقل.. ولكنهم ملأوا الأرض بسببها تلوثا، وملأو الطرقات جثثا.

وهم الذين اخترعوا الأشياء الكثيرة.. ولكنهم لم يأخذوا من الأشياء إلا ذلك الجانب المظلم منها..

شرد ذهنه قليلا، كأنه ينظر إلى شيء مجهول لا أراه، ثم قال: ولم لا تذكر ما فعله قومي بالعباد والبلاد من أنواع الفساد؟

هل يستطيع أحد في الدنيا أن يعد من قتله قومي في قرن واحد؟

وهل يستطيع أحد في الدنيا أن يعرف مقدار الدمار الذي تختزنه أنواع الأسلحة المخبأة في سراديب الأرض، وأعماق المحيطات؟

وهل يستطيع أحد في الدنيا أن يسأل ذرات الجو، وقطرات المياه، وحبيبات التربة، وأنواع الحيوانات عن الجرائم التي ارتكبها قومي في حقها، والتي لم يسمع بها أحد، ولم يرها أحد؟

نعم.. ربما يكون قومي هم الذي أنشأوا هذه الأشياء الكثيرة التي تراها جميلة.. ولكنهم هم.. هم أنفسهم.. الذين أنشأوا بسببها من الدمار أضعاف ما يوازي منافعها.

قلت: أنت تريد أن تجرد قومك من كل مكرمة.

قاطعني بحزن قائلا: لأنه ليس لديهم أي مكرمة.. لقد بحثت في بطون التواريخ، فلم أجد في تواريخهم غير سفك الدماء، واللعب بالأعراض، والتجارة بالإنسان.

قلت: فقومي مثل قومك إذن.. وأنت تختزن من عقد النقص ما أختزنه!؟

قال: وضعكم مختلف تماما.. لقد أتيح لكم أن تعيشوا تحت ظلال شجرة النبوة، وقد أمدتكم تلك الشجرة المباركة بثمارها اليانعة، فلذلك لم تجوعوا جوعنا، ولم تظمأوا ظمأنا، ولم تحرقكم أشعة الشمس التي أحرقتنا، ولم تلهب شهواتكم شياطين الشهوات التي ابتلعتنا.

قلت: ولكننا متخلفون.

قال: ولولا تلك الشجرة لكنتم معدومون..

ثم استأنف قائلا: نعم أنت متخلفون.. ولكن ليس عن قومي، وإنما عن نبيكم، وعن الصالحين الذين تربوا على يديه، وشربوا من منبعه..

أما قومي، فلا حرج عليكم أن تتخلفوا عنهم، لأنكم إن لحقتموهم لم تجدوا إلا السراب الذي يحسبه الظمآن ماء، فإذا جاءه لم يجده شيئا.

هكذا قومي.. يلهثون وراء السراب.. ويظلون يلهثون، ثم لا يجدون الماء العذب الذي يسقيهم، ويبل السغب الذي يحرق أجوافهم.. لأن الماء لديكم أنتم.. أنتم وحدكم في هذه الأرض الذين تملكون الماء العذب الذي يروي كل عطش.

قلت: ولكننا عطشى مثلكم.. ونحن الذين ننحني أمام قومك ليسقونا.

قال: تلك غفلة دبت إليكم.. وهي من الجرائم التي ارتكبها قومي نحوكم.

قلت: وما علاقة قومك بذلك؟.. أراك تنسب إليهم كل فساد.

قال: منذ اليوم الأول الذي نبتت فيه شجرة النبوة، وقومي يحاولون استئصالها، فلما لم يطيقوا حاولوا شنق الثمار التي تنتجها.

قلت: لست أفهم سر شجرة النبوة التي تتحدث عنها، وعلاقة قومي وقومك بها.

قال: كنت مثلك أجهل هذه الشجرة.. ولا أعرف قيمتها إلى أن هداني الله إليها، فعرفتها، وعرفت المعاول التي توجهت لتقطعها، والنيران التي توجهت لتحرقها.

قلت: فهل ستحدثني حديثها؟

قال: أجل.. فقد نلت أشعتها في رحلتي الخامسة إلى شمس محمد r.

 

***

بعد أن أكمل البابا فطوره، وحمد الله، وصلى على نبيه r مستغرقا في كل ذلك، ممتلئا خشوعا، رمى ببصره إلى الأفق البعيد، ثم قال:

في ذلك اليوم من أيام الشتاء الباردة سرت إلى مدينة تمتلئ بالحضارة والثقافة والعلوم، لأذهب إلى جامعة من جامعاتها التي اشتهرت بتخريج المستشرقين.

قلت: لا شك أنك تقصد باريس، وتقصد جامعة السربون.

قال: أجل.. عندما رحلت من الهند إلى باريس، أو من تلك القرية الفقيرة في الهند إلى باريس خيل إلى نفسي أني قد رحلت من أرض إلى أرض، أو من كون إلى كون.

لقد كنت حينها ممتلئا إعجابا بما أنشأه قومي من حضارة، كانت روحي تسجد أمام كل عمارة، وتتمسح بكل جسر، وتصافح كل تمثال، وتقبل كل لوحة.

لقد كنت أنظر إلى الأشياء الكثيرة التي أمامي، فلا أرى فيها غير الجمال.. الجمال الذي يصيح بكل ألوان العذوبة.

لست أدري كيف خطر على بالي أن أذهب إلى برج إيفل، وفي الحديقة التي تحيط به جلست على كرسي أتأمل ذلك الجمال الذي ينطق به هذا البرج.

خطر على بالي حينها صاحبك معلم السلام.. وتساءلت بيني وبين نفسي: هل رأى هذا البرج؟.. وهل رأى قبله ثمار الحضارة التي تنعمنا ـ معشر أهل الغرب ـ بها؟

ما استتم هذا الخاطر في ذهني حتى التفت إلى جانبي، فإذا به يجلس بجانبي يحدق إليه كما أحدق، ولكني لم أر في وجهه من الانبهار ما رأيت في وجهي.

صافحته بحرارة قائلا: ها نحن نلتقي أخيرا في باريس.. كيف خطر على بالك أن تأتي إلى هذا الموضع؟

قال: لقد أردت أن أرى بعض ثمار الشجرة التي أسست هذه الحضارة؟

قلت: إنها ثمار يانعة ممتلئة طيبة.. أم أنك تخالفني في ذلك؟

قال: لا أخالفك.. ولا أوافقك.. أحيانا قد تكون الثمار يانعة، طيبة المذاق، حلوة الرائحة، جميلة المنظر، ولكنها تختزن السم الزعاف.

قلت: ما الذي تقوله؟

قال: ألست ترى القتلة المجرمين إذا دسوا سما دسوه في أطيب الأطعمة وألذها؟

قلت: أجل.. حتى تغري الآكلين بأكلها.

قال: فإذا أكلوها سقتهم الموت؟

قلت: ذلك عندما يكون الطعام سما.

قال: كل طعام قد يكون سما، وقد يختزن سما.

قلت: لا يزال الشك الذي اعتراك في الكتاب المقدس يعتريك في الطعام أيضا.

قال: لقد ذكرت لك أني لا أتيقن حتى أشك، ولا أطمئن حتى أضطرب.

قلت: لقد ذكرت لي أسوار الكلمات المقدسة التي تضع في قلبك اليقين بمصدرها الإلهي.. فهل هناك أسوار للثمار الطيبة تفرق بينها وبين الثمار الخبيثة.

قال: أجل.. وسأضرب لك مثالا يوضح لك هذه الأسوار، ويقربها لعقلك:

أرأيت لو أن بك مرضا يمنع جسدك من ثمار معينة، فراح بعض الناس يغريك بكل صنوف الإغراء لتأكلها، ويتفنن في تزيينها لك بكل ما أتيح له من قدرات التزيين.. هل ترى هذا ناصحا لك؟

قلت: هذا لا يريد إلا قتلي.. ولكنه لم يرد أن يلطخ يداه بقتلي، فراح يقتلني بيدي، وببطني، ويستعمل ما ملئت به نفسي من شهوات ليسقيها السم الزعاف.. إن هذا مجرم لا ناصح.

قال: ولكن الناس عندما يرونه لا يرونه إلا ناصحا متملقا في نصحه.

قلت: هم لا يرون ما أرى.. ولا يعيشون ما أعيش.

قال: فهذا هو الحصن الأول للثمار الطيبة.

قلت: لم أفهم..

قال: الثمار الطيبة ثمار تناسب الإنسان، وكأنها صنعت خصيصا من أجل الإنسان، وأول ما تبحث عنه هذه الثمار هو مصلحة الإنسان.

قلت: فما الحصن الثاني؟

قال: أرأيت لو جلست في قاعة امتحان يرتبط بها مصيرك.. مصيرك العلمي، ومصيرك الوظيفي.. فجاء بعض الناس، وشغلك بثمار كثيرة بهيجة المنظر حلوة المذاق، تصيح بكل لسان، وتدعوك بكل أسلوب، فانشغلت بها عن امتحانك.. أترى من قدمها لك ناصحا؟

قلت: كلا.. فهذا لا يختلف عن ذاك.. كلاهما لا يريد إلا هلاكي.

قال: ولكنك لن تموت بأكل هذه الثمرة الأخيرة.

قلت: ولكني سأحيا حياة أشبه بالموت.

قال: فهذا هو الحصن الثاني.

قلت: لم أفهم ما ترمي إليه.

قال: كل ثمرة تبعدك عن الوظائف التي أنيطت بها حياتك، أو الرسائل التي كلفت بتبليغها ثمرة سامة، وإن بدت لك حلوة، هي كالشيطان الذي يتزين بكل صنوف الزينة ليجذبك إليه.

قلت: فهل هناك حصون أخرى؟

قال: لا.. هناك حصنان فقط.. بهما تعرف طيبة الثمار من خبثها.

قلت: فهل طبقت هذا على ما أنتجته حضارتنا؟

قال: أجل.. ولكني للأسف.. لم أجد بعد جهد مضن إلا الثمار الخبيثة، وقلما أظفر بثمرة طيبة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: انظر إلى كل من حولك بعين الحقائق لا بعين الشهوات، وسترى ما لم تكن ترى، وتسمع ما لم تكن تسمع.

التفت لأرى ما لم أكن أرى، وأسمع ما لم أكن أسمع.. فإذا به يبتعد عني من غير أن أشعر، ومن غير أن أكمل حديثي معه، كعادته كل مرة.

أسرعت إليه، وقلت: إلى أين تذهب، وتدعني!؟

قال: أنا أبحث عن الثمار الطيبة لأكتشف من خلالها الشجرة الطيبة.

قلت: فإذا عرفت الشجرة الطيبة، فما يغنيك معرفتك لها؟

قال: أبحث عمن زرعها.

قلت: فإذا عرفته؟

قال: إذا عرفته جعلته إمامي الذي به أأتم، وقدوتي التي بها أقتدي، ولم أتناول ثمرا إلا من يديه.

***

بعد أن تركني وسار، حاولت أن أقترب أكثر من تلك الجموع لأرى ما لم أكن أرى، وأسمع ما لم أكن أسمع، فرأيت، وسمعت ما ملأ نفسي بالغثاء..

لقد تخيلت نفسي في حضيرة حيوانات لا هم لها إلا العلف الذي تعلفه، والحياة البهيمية التي لا تعيش إلا من أجلها..

***

عند باب جامعة السربون، رأيت رجلا لاح لي من مظهره أنه رجل دين، بل يظهر من مظهره أن له مكانة في الكنيسة، ولكني تعجبت منه إذ رأيته يرمي صليبه الذي كان يطوق رقبته، ويرتمي على الأرض ساجدا، يبلل الأرض بدموعه.

اقتربت منه لأسمع ما يقول، واقترب جمع من الناس نحوه كما اقتربت.

كانت الدموع تحول دون فهم الجمع لما يقول، فلذا تصوروه مجنونا، فانصرفوا عنه، أما أنا، فقد وعيت كل كلمة نطق بها.

لقد كان يردد ما قاله المسيح في إنجيل متى (15:7-17) احترزوا من الأنبياء الكذبة يأتونكم بثياب الحملان الوديعة، ولكنهم من الداخل ذئاب خاطفة.. من ثمارهم تعرفونهم، هل تجتنون من الشوك عنبا، أو من الحسك تينا.. هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارا  جيدة، وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارا ردية »

عندما قام من سجوده، اقتربت منه، وحييته، وقلت: لقد رأيتك تفعل عجبا حيرني.. أنت تسجد سجود المسلمين، ثم تقرأ في سجودك إنجيلنا نحن المسيحيين، فهل أنت مسلم أم مسيحي؟

قال: أنا مسلم مسيحي.. أو مسيحي مسلم..

قلت: لا يمكن أن تخلط بين الأديان، فالمسلمون لا يقبلون مسيحيا يظل على مسيحيته، والمسيحيون لا يقبلون مسلما يظل على إسلامه.

قال: لقد كنت مسيحيا خالصا، بل مسيحيا متعصبا.. ولكني الآن تحولت إلى المسيحية الحقيقية التي جاء المسيح يبشر بها.

قلت: فما هي هذه المسيحية؟.. وكيف وصلت إليها؟

قال: لقد ظللت سنة في هذه الجامعة.. أستمع من علمائها: الصديق منهم والعدو.. ورحت أقارن كل ما أسمعه عن الإسلام بما في سائر الأديان والمذاهب والأفكار.. وقد كانت خلاصتي تفكيري ما رأيته الآن..

ثم التفت إلي، وقال: لقد كنت سائرا الآن لألقي موعظة في حفل من الناس دعوني لأذكر لهم ثمرات المسيحية في الدين والحياة.. وكنت أحمل الكتاب المقدس.. وأقلب طرفي في ذلك السور المنيع الذي وصفه المسيح للنبوة الصادقة.

قلت: تقصد سور الثمرات.

قال: أجل.. من أراد أن يعرف النبي الصادق من الكاذب، فلينظر إلى تعاليمه، وإلى ثمار تعاليمه؟

قلت: فهل وجدت في ثمار محمد ما دلك على صدق نبوته؟

قال: أجل..

قلت: فما وجدت؟

قال: لا يمكنني أن أعبر لك عن كل ما وجدت.. لقد طبقت قول المسيح:« لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارا ردية، ولا شجرة ردية أن تصنع أثمارا جيدة، كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع  وتلقى في النار، فإذن من ثمارهم تعرفونهم » (متى: 18:7-20) على جميع ما أعرفه من المذاهب والأديان، فلم أجد شجرة طيبة إلا شجرة محمد..

فما عرفت ذلك حتى سجدت.. ورحت أترنم بالنص المقدس الذي سمعته من المسيح.. والذي جعله الله سبب هدايتي.

قال ذلك، ثم استمر سائرا من غير أن يسألني عني، قلت له: إلى أين؟

قال: لقد تأخرت.. والجماعة تنتظرني.

قلت: لكنك قد غيرت رأيك.

قال: بل صححت رأيي.. إن أعظم ثمرة للمسيح هي دلالتنا على محمد.. ولذلك.. فإن كل ثمرات محمد ثمرات للمسيح.

هؤلاء كلهم أنبياء.. ولا أحد منهم ينازع الآخر، أو يصارعه.. الصراع لا تجده إلا عندنا..

قال ذلك ثم انصرف.. والبسمة تملأ محياه.

***

بعد هذه المواقف التي كانت توجهني وجهة واحدة.. وكأنها تحثني على الاستعداد العقلي والنفسي لتلقي هذا النوع من الأشعة.. ذهبت إلى جامعة السربون، وهناك طلبت مقابلة مدير الجامعة، الذي رحب بي غاية الترحيب.. ثم دار بيننا هذا الحوار الذي حاول من خلاله أن يبين لي الوظيفة التي تنتظرني في هذه الجامعة.

قال: لقد تعودت أن أستقبل كل من ترسله الكنيسة بنفسي..

قلت: لم تكلف نفسك هذا مع كثرة أشغالك؟

قال: بالإضافة إلى احترامي العظيم للكنيسة ورجال الكنيسة، هناك سببان يدعواني لهذا الاهتمام:

أما أولهما، فلأن ما أقوله لرجال الدين الذين يشرفون مكتبي هذا يكاد يكون سرا لا ينبغي أن يسمع به أحد.

وأما الثاني، فلأني لا أجد فيمن أراهم معي من يحملون العزيمة التي أحملها، والتي تجعلهم يبلغون الرسالة كما ينبغي.

قلت: فكلي آذان صاغية، فحدثني عن الرسالة التي تريد أن تبلغني إياها.

قال: قبل أن أحدثك عن تلك الرسالة.. والتي جعلتنا نطلبك، أو نطلب بالأحرى من له من القدرات العلمية واللغوية ما لك.. أريد أن أحدثك عن علاقة هذه الجامعة بالدين.. أو بالأحرى علاقة التبشير بالاستشراق.

هذه الجامعة ـ كما تعلم ـ جامعة تهتم بالدراسات الشرقية، أو بالخصوص الدراسات المهتمة بالإسلام.. وهي تحمل في الظاهر لواء العلمية والموضوعية، ولكنها في نفس الوقت تحمل نفس اللواء الذي يحمله المبشرون..

التفت إلي مبتسما، وقال: أنتم تبشرون بالمسيح، ونحن نقرب المسلمين لكم لتبشروهم بالمسيح.. فنحن نقوم بعمل متكامل.

قام من مجلسه، وقال: ربما لم تفهمني جيدا، وربما فهمتني فهما خاطئا، ولذلك سأوضح لك أكثر.

في البداية.. لم يكن هناك استشراق..

ابتسمت، وقلت: في البداية لم يكن أي شيء.. ليس الاستشراق وحده.

نظر إلي، وقال: لم تفهمني.. لم أقصد ما فهمته.. حاول أن تركز معي.

ركزت معه كما طلب مني.

كان يحاول أن يقول أشياء كثيرة، وكنت أشعر أنه كان يستحي من ذكرها، ولكنه كان مضطرا لقولها، فلذلك كان يبدوا مضطربا ينحرف ذات اليمين وذات الشمال ليعبر عما يريد أن يوصله لي، وهو مع كل ذلك ينظر إلى وجهي بدقة ليحدد مدى استيعابي لما يقوله.

قال: أقصد أن الاستشراق لم يبدأ من هذه الجامعة.. ولا من أي جامعة من جامعات الدنيا.

قلت: فمن أين بدأ؟

قال: من  الكنيسة.. لقد كانت البداية الرسمية للاستشراق من الكنيسة.

نظرت إليه متعجبا، فقال: لا تتعجب.. لقد بدأ الاستشراق من مجمع فينا الكنسي سنة 1312 من ميلاد المسيح، فقد أوصى هذا المجمع بإنشاء عدة كراسي للغات، ومنها اللغة العربية، ولا سيما التشريع الحادي عشر الذي قضى فيه البابا (إكليمنس الخامس) بتأسيس كراسي لتدريس العبرية واليونانية والعربية والسريانية والآرامية في الجامعات الرئيسية[3].

وكانت هذه التوصية قائمة على دعوة (ريموند لول)[4] لإنشاء كراسي للغة العربية في أماكن مختلفة، لقد كان هدفه واضحا من تلك الدعوة..

لقد كان الهدف تبشيريا محضا، ولم يكن له علاقة بالدراسات العلمية المجردة.

نظر إلي ليرى تأثير ما يقوله على وجهي، فلما رآني منصتا مستغرقا في الإنصات أتاح له ذلك حرية الكلام، فقال: منذ ذلك الحين نال الاستشراق رعاية الكنيسة ومباركتها.. وخاصة عندما فشلت الحروب العسكرية من خلال انحسار المد الصليبي بعد جهود قرنين من الزمان.

ولهذا اتجهت الكنيسة الغربية إلى التبشير من خلال الفكر والثقافة والعلم.. فكان التوجه إلى الحرب الفكرية، لتحقق ما فشل فيه سلاح الغزو الحربي.

لقد كان الهدف من هذه الدعوة هو أن تؤتي محاولات التبشير ثمارها بنجاح من خلال تعلم لغات المسلمين، وقد عبر عن هذه الثمار في دعوة (لول) بارتداد العرب إلى المسيحية من الإسلام، كما كان (غريغوري العاشر) يأمل في ارتداد المغول إلى المسيحية، وقبله كان (الإخوة الفرنسيسكان) قد توغلوا في أعماق آسيا يدفعهم حماسهم التبشيري، ومع أن آمالهم لم تتحقق في وقتها إلا أن الروح التبشيرية قد تنامت منذئذ.

وهذا يعني بتعبير أوضح (إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين المسيحي)[5]

سكت قليلا، ثم استأنف قائلا: لقد انتظم الاستشراق في الفاتيكان، وانتشر واستمر على أيدي البابوات والأساقفة والرهبان، فكان رجال الدين، ومجمعهم الفاتيكان يومئذ، يؤلفون الطبقة المتعلمة في أوربا، ولا سبيل إلى إرساء نهضتها إلا على أساس من التراث الإنساني الذي تمثلته الثقافة العربية، فتعلموا العربية، ثم اليونانية، ثم اللغات الشرقية للنفوذ منها إليه.

نظر إلي وتمعن في تأثير كلماته علي، ثم قال: مما يدلك على الصلة العظيمة بين الاستشراق والتبشير أنه كان هناك فئة مهمة من المستشرقين لم تتورع عن قبول اللقب الديني، أو الرتبة الدينية.. فمنهم (الأب).. ومنهم (الأسقف).. ومنهم (البطريرك).. ومنهم (المطران)

سأضرب لك بعض النماذج عن هؤلاء:

لاشك أنك تعرف الأب آسين بلاثيوس ( 1871 - 1944 م ) الإسباني، ذلك الرجل الذي اشتهر بدراسة حركة التفاعل الثقافي بين الإسلام والمسيحية، والذي كتب عن (مذهب ابن رشد، ولاهوت توما الإكويني)، وعني بـ (محيي الدين بن عربي)، وأجرى (مقارنة بين ابن عباد الرندي ويوحنا الصليبي)، وصنف في (الغزالي والمسيحية)، وكتب في (الآثار الإنجيلية في الأدب الديني الإسلامي)[6]

لقد حاول كل جهده أن يلبس الإسلام ثوب المسيحية، وقد نجح في ذلك، ولا تزال آثاره تتداول.. أتدري من كان؟.. لقد كان أبا مسيحيا.. كان رجل دين قبل أن يكون رجل استشراق.

ومثله الأب أبوجي( 1819 - 1895 م ) الفرنسي، لقد كان من الرهبان اليسوعيين[7]، وقد صنف كتبا دينية ومدرسية، لقد جمع هذا الرجل الفاضل بين الوظيفتين: وظيفته الدينية ووظيفته العلمية، بل استخدم الوظيفة العلمية في خدمة وظيفته الدينية.

ومثلهما نعمة الله أبو كرم ( 1851 - 1931 م )، لقد كان من مستشرقي المدرسة المارونية بلبنان، نصب مطرانا، وكان قد تخرج من جامعة القديس يوسف ببيروت، وعاون في تحرير مجلة البشير، ثم عين رئيسا للمدرسة المارونية في رومة، ومستشارا في المجمع الشرقي، ومن آثاره: قسطاس الأحكام في القانون مع مقارنته بما يقابله في الشرع الإسلامي.

ومثلهم الأب يوسف الأشقر ( ق 18 م )، لقد كان من مستشرقي المدرسة المارونية بلبنان، ترجم إلى الفرنسية من العربية والسريانية كتبا كثيرة أشهرها سلسلة تواريخ بطاركة الموارنة الأنطاكيين، وقد اعتمد عليه (لي كيين) في كتابه الشرق المسيحي.

كان هناك غيرهم ممن لا يحمل هذه الألقاب.. ولكنه مع ذلك لم يتتلمذ إلا في المدارس اللاهوتية المسيحية أو اليهودية:

منهم أرنست رينان Ernest Renan ( 1823 ـ 1892)، الذي تلقى تعليمه في المدارس اللاهوتية، وتعلم العربية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس، وزار المشرق وعاش بلبنان فترة من الزمن، واهتم بالعقيدة الإسلامية.

لاشك أنك تعرف موقفه المشهور من العقل السامي، وأنه لا يصلح لدراسة العلم[8].

ومنهم جورج سيل George Sale (1697-1736) الذي ولد في لندن، والتحق بالتعليم اللاهوتي.. لقد كان من أبرز أعماله ترجمته لمعاني القرآن التي قدم لها بمقدمة احتوت على كثير من الشبهات الجادة[9].

ومنهم وليام ميور   William Muir (1819 -1905).. لقد كان مستشرقا ومبشّرا وموظفا إداريا.. وهو إنجليزي، تعلم العربية في أثناء عمله في الهند واهتم بالتاريخ الإسلامي شارك في أعمال جمعية تنصيرية في الهند.

وقد ألف كتاباً يناصر الجهود التنصيرية بعنوان ( شهادة القرآن على الكتب اليهودية والمسيحية).. ومن أهم مؤلفاته كتابه في سيرة محمد في أربعة مجلدات، وكتابه حول الخلافة، كما ألف كتاباً حول القرآن بعنوان ( القرآن تأليفه وتعاليمه)[10]

وغيرهم كثير..

قلت: فأنت ترى إذن بأن التبشير هو الأصل الحقيقي للاستشراق؟

قال: أجل.. وليس العكس كما يذهب أغلب الباحثين.

قلت: ولكن الاستشراق ليس خاصا بالمسيحيين، فهناك مستشرقون يهود وعلمانيون.. بل وملحدون[11].

قال: بورك كل أولئك المستشرقين.. ولا يهمنا من يكونون ما دمنا نتفق على نفس الهدف..

قلت: أتبارك الملحدين واللادينيين؟

قال: لم أباركهم أنا.. أنتم الذين باركتموهم.. الكنيسة هي التي تبارك كل من يقف في وجه الإسلام.. ولا يهمها من يكون، ولا ما يرتدي.

قلت: سمعت كل ما ذكرته، وفهمته، ولكني لم أع الرسالة التي تريد أن تبلغني إياها من خلال هذا الكلام.

قال: اصبر علي.. فليس من عادتي أن أملي على أحد ما يفعل.. عادتي مع جميع من ينتمي لهذه الجامعة أن أقنعه، وأبعث فيه الهمة، ثم أترك له الأسلوب الذي يراه مناسبا لتحقيق القناعة التي أوصلته إليها.

ليس ذلك مع من ينتمي لهذه الجامعة فقط.. أنا أمارس هذا الأسلوب مع أولادي.. أكتفي بحوارهم وإقناعهم، ثم أترك لهم بعد ذلك اختيار القرار المناسب.

قلت: لقد ذكرت لي علاقة التبشير بالاستشراق، وحاولت أن تقنعني بأن أصل الاستشراق هو التبشير.

قال: بورك فيك.. لقد وعيت كل ما ذكرته لك.

قلت: ولكني لم أع الرسالة التي يحملها هذا الكلام.

قال: لقد كان ذلك في البدء.. في البدء ولد الاستشراق في محضنة الكنيسة، وظل وفيا لها عهودا طويلة.. ولكنه أحيانا كان ينحرف عن مساره، ويظهر بعض المستشرقين المتمردين الذين يتصورون ـ حسب أوهامهم ـ أنهم يغلبون المنهج العلمي الموضوعي على الرؤية الذاتية الدينية.

قلت: أعلم ذلك.. وأعلم كذلك أن المسلمين يتبنون هذا النوع من المستشرقين، ويفرحون بهم، وينقلون شهاداتهم في كتبهم.

قال: وهذا هو مصدر الخطورة.. إن وجود هذا النوع من المستشرقين أحدث شرخا خطيرا في المقاصد التي يرمي إليها الاستشراق.. لقد تاه أولئك المستشرقون عن الهدف..

لقد صاروا كذلك المحارب الذي لم يكتف بأن يرمي سلاحه، ويولي دبره، وإنما ذهب، وأمد العدو بسلاح كثير، وقنابل كثيرة.

قال ذلك، ثم صاح بنوع من الهستيرية: إنها خيانة.. خيانة عظمى.. لو كنت حاكما عسكريا لحكمت على أولئك بالشنق.. لا يجدي معهم غير الشنق.

التفت إلى نفسه، ورأى خطأه في إظهار ما تكنه نفسه من ألوان الحقد، ثم ابتسم، وقال: اعذرني.. كنت أمزح فقط.. لست أدري لم طغت لغة الحرب هذه الأيام.. صرنا لا نتكلم إلا بالمدافع والأسلحة والقنابل.. لعل ذلك من تأثير وسائل الإعلام.

ثم قال: على العموم، فقد كان هذا النوع الخطير من المستشرقين أفرادا محدودين، ومع ذلك كان لهم ذلك التأثير الخطير.. ولكنهم ـ الآن ـ أمة من الناس.. هم الآن يتكاثرون كما تتكاثر الطفيليات.. لهذا صار خطرهم أعظم.. ولهذا صرنا نفضل المستغربين على المستشرقين.

المستغربون جاءونا أصلا لينسلخوا من هويتهم.. فلذلك نراهم يتزلفون كما لا يتزلف أحد.. أما أولئك المستشرقين الأغبياء.. فهم لا يزالون يلقون أسلحتهم ليمدوا بها عدوهم.

قلت: وهل يوجد أمثال هذا النوع من المستشرقين في هذه الجامعة؟

قاطعني، وقال: أجل.. وهم يتكاثرون كما يتكاثر النمل.. وقد عرفنا السر في ذلك التكاثر.

قلت: وما هو؟

قال: العلمانية.

ابتسمت، وقلت: وما علاقة العلمانية بهذا؟.. ثم ألسنا في دولة علمانية؟

قال: العلمانية هي فصل الدين عن الحياة وعن الدولة وعن الأخلاق..

قلت: أعلم ذلك.

قال: وهؤلاء فصلوا الدين.. أو فصلوا اهتمامهم الديني وانتماءهم الديني عن دراساتهم لتراث المسلمين وفكر المسلمين.

قلت: وما يضيرنا من ذلك.. فهم إن لم يدخلوا بعدهم المسيحي أدخلوا بعدهم الإلحادي، أو بعدهم الوجودي، أو أبعاد أخرى.

قال: ليت الأمر سار على هذا النحو.. هؤلاء أدخلوا البعد الموضوعي.. لقد صاروا يتعاملون مع التراث الإسلامي والفكر الإسلامي بموضوعية وحياد..

قلت: هذا بعد جيد..

قال: وخطير جدا..

قلت: ما خطره؟.. ما داموا يلبسون ثياب العلم، ويتبنون التحقيق العلمي.

قال: لم تفهم إذن كل ما قلت لك.

قلت: بل فهمت.. ولكني لم أفهم خوفك من البعد الموضوعي.

سار في أرجاء القاعة، وكأنه يهم أن يقول شيئا يخاف على نفسه منه، أو يخاف علي منه.

لكنه تحدى ذلك، وقال بلسان متلعثم: البحث الموضوعي في تراث المسلمين خطير.. خطير جدا..

ثم قال، وكأنه يستعيد ذكريات مر بها: سلني أنا.. لقد جربت في شبابي هذا النوع من البحث.. ولكني كدت أحترق.. لقد كانت شمس محمد شمسا محرقة كادت تصليني بنارها..

لست أدري مدى صدق قومه في إطلاق لفظ الساحر عليه.. ولكنه ـ معي ـ لا يوجد لقب أصدق منه.. لقد سحرني كما لم يسحرني أحد من الناس.. ظللت دهرا من عمري منشغلا بالتفكير فيه، وفي الشجرة التي تركها لترمي كل حين من الثمار ما يجعل وجوده حيا مستمرا.

لست أدري كيف قلت له مقاطعا: فلماذا تريد قطع هذه الشجرة؟

قال ـ وكأنه لا يدري ما يقول ـ: لست أنا الذي أريد أن أقطعها.. كلهم يريد أن يقطعها.. وما نحن إلا معاول بسيطة.

قلت: ومن يشارككم في الاهتمام بقطعها؟

قال: كثيرون.. منهم أنتم المبشرون.. ومنهم أولئك العساكر المستعمرون.. بالإضافة إلينا نحن المستشرقون.. بالإضافة إلى أولئك الذيول من المستغربين..

كلنا نشكل معاول لهدم شجرة ذلك الساحر التي تؤتي أكلها كل حين، ولا تمل من إعطاء الثمار كل حين.

قلت: فلم نهتم جميعا بقطعها؟

قال: لأنها الشجرة الوحيدة في العالم التي تقف في وجه شجرتنا، وتمنع امتدادها.

قلت: فلم لا نترك الشجرتين تتعايشان مع بعضهما، فنأكل ثمرا ناضجا من كليهما[12]؟

انتفض، وقال: يستحيل ذلك.. يستحيل ذلك..

قلت: وما وجه الاستحالة؟

قال: ألا تعلم أن شجرة محمد شجرة مسحورة!؟.. إن كل من أكل من ثمارها أصابه سحر محمد.

ابتسمت، وقلت: أراك تؤمن بالسحر، وتبالغ في الإيمان به؟

قال: لو لم أجرب تأثيره ما آمنت به.

قلت: فلنفرض أنا قطعنا شجرة محمد..

قاطعني قائلا: ذلك مستحيل.. هي شجرة ضاربة الأطناب في التربة، بل لعل لها جذورا في السماء يستحيل قطعها.

قلت: فلم نجتهد في تحقيق المستحيل؟

قال: ذلك منهج خاطئ سلكه أسلافنا، ونحن اليوم نعرف استحالته.

قلت: فهل رأيت منهجا آخر يمكن سلوكه؟

قال: أجل.. نترك للشجرة وجودها.. لكنا نترك ثمارها تتساقط من غير أن يأكلها أحد.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ذلك بسيط.. نحذر من ثمارها.. نصف حلاوة ثمارها بحلاوة العلقم، ونصف إكسيرها وترياقها بالسم الزعاف.. ثم نرمي كل من يأكل ثمارها بالتخلف والرجعية والإرهاب والخرافة..

قلت: وحينذاك لن يقترب منها أحد.

قال: وحينذاك ستذبل الشجرة وتموت من غير أن نقطعها.

قلت: فكرة جيدة.. ولكن ألسنا نسيء للبشرية إن فعلنا هذا؟

قال: بل نحسن غاية الإحسان.. لا يمكن للبشرية أن تعيش على ثمار شجرتين متناقضتين غاية التناقض.. لذلك إن أردنا السلامة لشجرتنا، فهذا ما ينبغي أن نمارسه مع شجرة محمد.

قلت: فهل تسيرون في هذا السبيل؟

قال: كنا نسير فيه.. ولكنه ظهرت فئة من المستشرقين غفلت عن مبادئها وهدفها وغلبت الموضوعية العلمية في تصورها.. ونخاف على هذه الفئة أن يصيبها سحر محمد.

قلت: فما دوري أنا في هذا؟

قال: لست وحدك.. هناك إخوان كثيرون لك في هذه الجامعة، وهم ينتشرون بين هؤلاء المستشرقين ليقدموا لهم من الرقى والتعاويذ ما يقيهم من سحر شجرة محمد.

قلت: أطلبتم حضوري لأقدم لكم رقى ضد السحر؟

قال: ليس ضد كل سحر.. ضد سحر محمد وحده.

قلت: لا أعرف هذا النوع من الرقى.. بل لا أكاد أؤمن بالسحر.

ابتسم، وقال: أنت لم تفهمني.. الرقى التي نقصدها هي الشبهات.. ليس هناك شيء يقتل شجرة محمد كالشبهات.

قلت: فهمت.. أنت تريدني أن أتصل بهذا النوع من المستشرقين لأملأ عقولهم بالشبهات التي تبعدهم عن شجرة محمد.

قال فرحا: أجل.. هذا ما أريده، وقد ذكرت لك أنك لست وحدك في هذه الجامعة.. هناك كثيرون من أمثالك.

قلت: إن هذا يحتاج وقتا..

قال: لقد أعددنا لك في هذه الجامعة كل ما يريحك، وكل ما يخدمك، ويخدم الهدف النبيل الذي جئت من أجله.

لقد وفرنا لك مسكنا لائقا، وسيارة فارهة، وأموالا سوف تصب كل حين في رصيدك.. وإن احتجت إلى أي نفقات زائدة، فليس عليك سوى الاتصال بي.

قال ذلك، ثم التفت إلى صليب كنت أعلقه ليشير إلى وظيفتي الدينية، فأمسكه بيده، ثم قبله، وقال: لا أطلب منك سوى طلبا واحدا.

قلت: وما هو؟

قال: انزع هذا الصليب..

قلت: لم؟

قال: لا تظهر أي علاقة لك بالدين في هذه الجامعة.. نحن في جامعة علمانية، ولذلك حاول أن تكون علمانيا في ظاهرك قدر ما استطعت، وخاصة أمام أولئك المرتدين الذين لبسوا لباس الموضوعية العلمية، وتركوا الرسالة النبيلة التي كلفتهم بها أمتنا العظيمة.

***

خرجت من مكتبه، فصحبني مرشد جال بي في أنحاء الجامعة، ثم أعطاني دفترا يعرفني بالمستشرقين الذين يطلب مني الاتصال بهم والتعامل معهم، ثم سار بي إلى المسكن الفاره المعد لي.. ومعه كل ما تهفو إليه النفوس من الحياة الرغيدة.

لقد ظللت في تلك الجامعة سنة كاملة، رأيت فيها أشياء كثيرة، واستمتعت نفسي بنعم كثيرة.. لكني لا أذكر منها إلا عشرة أيام..

لقد كانت تلك الأيام العشرة هي الأيام التي تنعمت فيها بأشعة جديدة من شمس محمد r.. ولن أحكي لك في هذه الرحلة إلا حكاية تلك الأيام العشرة.. أما ما عداها فأكثره لغو فارغ.

 



([1])  انظر نهاية الجزء السابق (معجزات حسية)

([2])  من قصيدة للشاعر أحمد مطر بعنوان (عملاء)، يقول فيها:

الملايين على الجوع تنام، وعلى الخوف تنام، وعلى الصمت تنام، والملايين التي تصرف من جيب النيام، تتهاوى فوقهم سيل بنادق، ومشانق، وقرارات اتهام، كلما نادوا بتقطيع ذراعي كل سارق، وبتوفير الطعام.

 عرضنا يهـتـك فوق الطرقات، وحماة العرض أولاد حرام، نهضوا بعد السبات، يـبـسطون البسط الحمراء من فيض دمانا، تحت أقدام السلام.

 أرضنا تصغر عاما بعد عام، وحماة الأرض أبناء السماء، عملاء، لا بهم زلزلة الأرض ولا في وجههم قطرة ماء، كلما ضاقت الأرض، أفادونا بتوسيع الكلام، حول جدوى القرفصاء، وأبادوا بعضنا من أجل تخفيف الزحام.

آه لو يجدي الكلام.. آه لو يجدي الكلام.. آه لو يجدي الكلام.. هذه الأمة ماتت والسلام.

([3])  إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، ترجمة: كمال أبو ديب، قم: دار الكتاب الإسلامي، 1984 م - ص 328.

([4])  ريموند لول( 1235 - 1316 م )، إسباني، كان دومينيكيا ثم تحول إلى الفرنسيسكانية، وهو من جزيزة ميورقة، تبنى فكرة السيطرة على الشرق بالتبشير لا بالحروب، ووضع خطة لذلك، وسعى إلى إنشاء مدرسة ميرامار للمنصرين، ثم تواصلت محاولاته لإنشاء مدارس تنصيرية أخرى، ومارس التبشير في شمال إفريقية، وبها توفي، وكان وراء قرار مجمع فينا الكنسي المشهور سنة 1311 - 1312 م، الذي قضى بإنشاء كراسي للغات، ومنها اللغة العربية، من آثاره: رواية تنصيرية، وكتاب المنطق في الحوار مع الكفرة (انظر: عبد الجليل شلبي: الإرساليات التبشيرية: ص 151 - 156)

([5])  محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري،ط 2، القاهرة: دار المنار، 1409 هـ - 1989 م - ص 35.

([6])  عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين: 121.

([7])  اليسوعيون أو الجزويت من الجماعات التبشيرية النشطة، ومؤسسها هو القديس إجناتياس لويولا (1491 - 1559 م )، وكان جنديا إسبانيا، وهي لا تتبع مذهبا معينا، لكنها تعد من المبشرين، انظر: طلال عتريسي: البعثات اليسوعية مهمة إعداد النخبة السياسية في لبنان، دراسة تاريخية وثائقية، بيروت: الوكالة العالمية للتوزيع، 1987 م، ص 28 - 34.

([8])  وقد ردّ عليه كل من جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في كتابه (الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية )

([9])  ومع ذلك يقول عبد الرحمن بدوي عن ترجمته:« ترجمة سيل واضحة ومحكمة معاً، ولهذا راجت رواجاً عظيماً طوال القرن الثامن عشر إذ عنها ترجم القرآن إلى الألمانية عام 1746 »، ويقول في موضع آخر:« وكان سيل منصفاً للإسلام برئياً رغم تدينه المسيحي من تعصب المبشرين المسيحيين وأحكامهم السابقة الزائفة » (عبد الرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين.(بيروت:دار العلم للملايين) 1984.ص 252).

([10])  وقد تولى ميور منصب مدير جامعة أدنبره في الفترة من عام 1885حتى عام 1903. انظر: عبد الرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين.(بيروت:دار العلم للملايين)

([11])  من المعلوم أنه ليس كل المستشرقين ينتمون إلى المسيحية، ففيهم المستشرقون اليهود الذين خدموا اليهودية من خلال دراساتهم الاستشراقية، كما أن فيهم الملحدين الذين خدموا الإلحاد من خلال اهتمامهم بالمنطقة العربية والإسلامية، ومحاولاتهم نشر الإلحاد في هذه البقاع بديلا عن الإسلام، ومنهم العلمانيون، فهناك انتساب واضح إلى العلمانية عند فئة من المستشرقين، كما أن هناك انتسابا صريحا للصهيونية عند فئة أخرى من المستشرقين. انظر: الاستشراق والتنصير، لعلي بن إبراهيم الحمد النملة.

([12])  أقصد (حوار الحضارات) الذي هو مطلب إسلامي بدل (صراع الحضارات) الذي يتحدث عنه الغرب.