الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: ثمار من شجرة النبوة

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

أولا ـ خلاص

1 ـ أمراض الجاهلية

1 ـ حضارات

الحضارة الرومانية:

الحضارة الفارسية:

الهند:

الصين:

أوروبا:

آسيا الوسطى:

العرب:

2 ـ ديانات:

المسيحية:

اليهودية:

ديانات أخرى:

2 ـ إكسير الإسلام

1 ـ التحرير:

2 ـ الدعوة:

3 ـ التنوير:

الدين:

الحياة:

 

أولا ـ خلاص

في اليوم الأول من تلك الأيام العشرة المباركة، التقيت المستشرق الذي قطفت على يده أول ثمرة من شجرة النبوة، وهي (ثمرة الخلاص)

وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى:﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (المائدة:19)

وعرفت بها سر قوله r:« إن ربي أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم مما عَلَّمني في يومي هذا: كل مال نَحَلْته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حُنَفَاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضَلَّتْهُم عن دينهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، ثم إن الله، عز وجل، نظر إلى أهل الأرض فَمَقَتَهُمْ، عجَمَهم وعَرَبَهُم، إلا بقايا من أهل الكتاب»[1]

فهذه النصوص المقدسة تخبر عن الحالة التي كان عليها العالم حين جاءه الإسلام.. وتشير ـ في نفس الوقت ـ إلى الدور العظيم الذي قام به الإسلام في إنقاذ البشرية وتخليصها من الهلاك الذي كاد يقضي عليها.

***

سمعت بتوماس وولكر آرنولد[2]، وهو مستشرق بريطاني كان من النوع الذي حدثني عنه مدير جامعة السربون، واسمه من الأسماء التي وضعت في الدفتر الذي سلمني إياه المرشد، وقد كنت أتحين الفرص للقائه والاستماع إليه، ولكني لم أظفر بذلك إلا في ذلك اليوم الجميل...

فقد كنت سائرا أمام حديقة بيته، فوجدته يسقي شجرة ذابلة تكاد تموت.

رفعت كل كلفة، واقتربت منه، وحييته باللغة العربية التي كان يتقنها غاية الإتقان، ويحب أن يجد من يحدثه بها.

نظر إلي، وابتسم، وقال: هل أنت من الشام، أم من مصر؟

قلت: لا هذا ولا ذاك..

قال: فأنت من المغرب إذن؟

قلت: أنا من ألمانيا..

قال: نسبا، أم جنسية مكتسبة؟

قلت: بل نسبا.. أنا ألماني أبا وأما.. ولم أعش في أي دولة عربية.

قال: أنت تتقن العربية جيدا، وكأنك عربي..

قلت: أنا مهتم بها كثيرا، ومهتم بكل ما يرتبط بها من ألوان الثقافة.

قال: هذا شيء جيد.. أنت مثلي في هذا.. أنا أيضا أحب هذه اللغة، وكل ما يرتبط بها من ثقافة، ولست أدري سر ذلك..

نظر إلى الشجرة الذابلة التي كان يسقيها، ثم قال: لعل سر ذلك يعود إلى الإكسير الذي أعاد لهذه الشجرة حياتها.

قلت: ما علاقة هذه الشجرة باهتمامك باللغة العربية، والثقافة العربية؟

قال: لقد كان مصير هذه الشجرة هو الفناء والذبول والموت.. لقد أحاط بها الموت من كل جانب، ولم يعد لي أمل في حياتها.. ولكن بعضهم أهداني إكسيرا عجيبا، ما إن وضعته في الماء، وسقيته بها حتى عادت إليها الحياة، وأنت تراها الآن مقبلة على حياة جميلة تنتظرها.

قلت: لا أزال عاجزا عن فهم علاقة الشجرة والإكسير الذي أعاد إليها الحياة باللغة العربية والثقافة العربية.

قال: يمكن أن تشبه العالم الذي نعيش فيه بهذه الشجرة..

قلت: من أي جهة؟

قال: من جهة الحياة والموت.. والمرض والصحة.. والذبول والنشاط.

قلت: ذلك صحيح.. فالشجرة كائن حي لا يختلف عن الإنسان.. يعتريه ما يعتري الإنسان من أسباب العافية والبلاء.

قال: لعل هذا هو سر اهتمامي بالعربية والثقافة العربية.

قلت: هذا ما لم أفهمه.

قال: أنا مهتم كثيرا بتاريخ العالم.. وبأسباب عافيته وأسباب بلائه.. وأوقات انحداره وأوقات ارتفاعه.. ولحظات إنسانيته ولحظات بهيميته..

في بيتي سجلت منحنيات كثيرة للسقوط وللنهوض، وللصعود وللهبوط.

لم أشأ أن أقاطعه لأستفهم عن سر هذا الكلام الغامض، فأخذ يقول: لقد وجدت العالم في جميع فتراته يشبه هذه الشجرة التي اعتراها الذبول وكاد يميتها.. ولكنها عادت للحياة من جديد لما سقيتها بإكسير الحياة.

قلت: فهل وجدت البشرية في فترات سقوطها من يسقيها إكسير الحياة؟

قال: لقد سجلت أعظم انحدار لمنحنى سقوط البشرية.. ورأيت بأم عيني الإكسير الذي حمى البشرية من الفناء الذي كان يترصد بها.. وذلك الإكسير هو الذي حملني على أن أتعلم اللغة العربية، وأسافر إلى البلاد العربية، وأتعلم الثقافة العربية.

قلت: فما ذاك الإكسير؟

قال: هو أعظم رجل على الإطلاق.. لعله هو المخلص الذي عناه المسيح عندما قال لتلاميذه:« إن كنتم تحبونني، فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر، ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم.. إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منـزلاً.

الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني، بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم.. قلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون، لا أتكلم أيضاً معكم كثيراً، لأن رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيّ شيء » (يوحنا 14/15 – 30)[3]

نعم.. بل هو..

لقد كانت البشرية تنتظر الخلاص.. لقد كانت كالظمآن الذي كاد يهلكه العطش، ولولا محمد، ولولا المياه العذبة التي جاء بها لماتت البشرية من الظمأ.

قلت: كيف تقول ذلك؟.. لقد كان محمد في بيئة صحراوية بدوية.. وكان مع ذلك أميا.. كيف كان هو المخلص؟

قال: أحيانا كثيرة يجعل الله فيما نحتقره من أشياء سر خلاصنا..

هذه الشجرة مثلا.. يئست منها، وتألمت ليأسي، كنت أراها تذبل أمامي، وأنا لا أطيق معها أي حراك.. ولكن ذلك الرجل الفاضل، بل العبقري الفذ وصف لي إكسيرها.

في البداية عندما وصفه ضحكت بيني وبين نفسي.. بل ظننته يسخر مني، وعندما جربته لم أجربه إلا كما يجرب الغريق تعلقه بقشة لا تغني عنه شيئا.. ولكني بعد أن طبقت ذلك الإكسير العجيب فعل فعله، وأعاد لهذه الشجرة حياتها.

وبالمناسبة.. فالرجل الذي وصف لي هذا الإكسير رجل أمي.. هو يشبه تماما محمد الذي كان أميا، ولكنه كان يحمل الإكسير الذي أعاد به الحياة لشجرة البشرية.

قلت: لقد كانت في عهد محمد حضارات عريقة وديانات قديمة.. ألم يكن في أحدها سر الخلاص؟

قال: لقد كان من سر الخلاص الذي جاء به محمد أنه لم يكن في بقعة من بقاع الأرض غير تلك البقعة البسيطة القريبة جدا من الفطرة.

قلت: لم؟.. هل تعادي الحضارات؟

قال: لا أعاديها، ولكن محمدا لو ولد في بيئة غير تلك البيئة لتلطخت تعاليمه كما تلخطت تعاليمنا نحن المسيحيين.

لقد ذكر القرآن شيئا قريبا من هذا عندما قال:﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(الأنعام: من الآية124)

لقد طلب هؤلاء القوم أشياء مماثلة لما جاءت بها الرسالات السابقة، والتي امتلأت تحريفا، فرد عليهم القرآن بأن الله أعلم بالمحل الذي يجعل فيه رسالته.

قلت: أراك تتحامل على تلك الحضارات العريقة.. والتي لا زلنا نشم عطر ما أنتجته.

قال: كلامك يحتاج بحثا موضوعيا بعيدا عن لغة الخطاب التي تعودنا أن نسمعها.

قلت: وما الكلام الموضوعي في هذا؟

قال: الموضوعية العلمية تتطلب استقراء واقع البشرية في عصر محمد، لنرى بموضوعية تامة الحالة التي كانت تعيشها، والدواء الذي كانت تبحث عنه.

قلت: فهل تسمح لي بالحديث عن ذلك؟

قال: لا يسرني إلا ذلك.. تعال معي إلى البيت.. فمثل تلك التفاصيل لا يمكن أن نتحدث عنها ونحن واقفون.

1 ـ أمراض الجاهلية

دخلت إلى بيته الذي لا يختلف في تصميمه الداخلي عن البيوت العربية، وقد فرش على أرضه زرابي عربية رأيتها في رحلتي إلى بلاد الشام.

أحضر لي (توماس) الشاي، وأحضر لي معه مجموعة خرائط، وقال: في هذه الخرائط، سنتعرف على العالم القديم.. وكيف كان حاله وقت بعثة محمد.

ولتكون دراستنا موضوعية.. فسنبحث عن جانبين لا مناص لمن يريد أن يعرف الخلاص الذي جاء به محمد من أن يبحث فيهما.

قلت: ما هما؟

قال: الحضارات.. والديانات.

قلت: ما وجه الحصر في ذلك؟

قال: الحضارات تنبئ عما وصل إليه الفكر البشري من البحث عن خلاص البشر.

قلت: والديانات؟

قال: هي الوحي الإلهي المنزل لإنقاذ البشر.

قلت: أفلم يكن في كل الحضارات والديانات المنتشرة في ذلك الوقت ما يحمل سر الخلاص؟

قال: لنرى ذلك.. تعال بنا نطبق ما ذكرناه من القواعد في هذا المجال.

1 ـ حضارات

قلت: أجل.. ولنبدأ بالحضارات[4].

الحضارة الرومانية: 

أشار إلى بقعة كبيرة من الأرض، وقال: هذه هي حدود الدولة الرومانية.. وفي هذه البقعة الواسعة نشأ ما يسمى بالحضارة الرومانية.

التفت إلي، وقال: لاشك أن اسمها يقرع الأذن بهيبة عظيمة.

قلت: ذلك صحيح.. فالدولة الرومانية دولة ترمز إلى القوة والشباب والحياة.

قال: وترمز إلى الاستبداد والانحلال والتجبر.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد بلغ الاستبداد غايته في الدولة الرومانية، فعلى كثرة مصائب الرعية ازدادت الإتاوات، وتضاعفت الضرائب، حتى أصبح أهل البلاد يتذمرون من الحكومات، ويبغضونها بغضا شديداً، بل ويفضلون عليها كل حكومة أجنبية، وقد حدثت لذلك اضطرابات عظيمة وثورات.

لقد هلك عام 532 في الاضطراب ثلاثون ألف شخص في العاصمة، وعلى شدة الحاجة إلى الاقتصاد في الحياة أسرف الناس فيه، ووصلوا في التبذل إلى أحط الدركات.. بل أصبح الهم الوحيد اكتساب المال من أي وجه، ثم إنفاقه في الترف وإرضاء الشهوات.

لقد ذابت أسس الفضيلة، وانهارت دعائم الأخلاق، حتى صار الناس يفضلون العزوبة على الحياة الزوجية ليقضوا مآربهم في حرية.

وكان العدل كما يقول (سيل) يباع ويساوم مثل السلع، وكانت الرشوة والخيانة تنالان من الأمة التشجيع.

لقد قال (جيبون) يصف كل ذلك:« وفي آخر القرن السادس وصلت الدولة في ترديها وهبوطها إلى آخر نقطة، وكان مثلها كمثل دوحة عظيمة كانت أمم العالم في حين من الأحيان تستظل بظلها الوارف، ولم يبق منها إلا الجذع الذي لا يزداد كل يوم إلا ذبولاً »[5] 

ويقول مؤلفو (تاريخ العالم للمؤرخين﴾ (Historian’s History of the World):« إن المدن العظيمة التي أسرع إليها الخراب ولم تسترد مجدها وزهرتها أبداً، تشهد بما أصيبت به الدولة البيزنطية في هذا العهد من الانحطاط الهائل الذي كانت نتيجته المغالاة في المكوس والضرائب والانحطاط في التجارة، وإهمال الزراعة، وتناقص العمران في البلدان»[6]

أما المجتمع الروماني، فقد كان مليئا بالتناقض والاضطرابات، وقد صور حاله صاحب كتاب (الحضارة ماضيها وحاضرها) بقوله:« كان هناك تناقض هائل في الحياة الاجتماعية للبيزنطيين، فقد رسخت النزعة الدينية في أذهانهم، وعمت الرهبانية، وشاعت في طول البلاد وعرضها، وأصبح الرجل العادي في البلاد يتدخل في الأبحاث الدينية العميقة، والجدل البيزنطي، ويتشاغل بها، كما طبعت الحياة العادية العامة بطابع المذهب الباطني، ولكن نرى هؤلاء ـ في جانب آخر ـ حريصين أشد الحرص على كل نوع من أنواع اللهو واللعب، والطرب والترف، فقد كانت هناك ميادين رياضية واسعة تتسع لجلوس ثمانين ألف شخص، يتفرجون فيها على مصارعات بين الرجال والرجال أحيانًا، وبين الرجال والسباع أحيانًا أخرى، وكانوا يقسمون الجماهير في لونين: لون أزرق ولون أخضر، لقد كانوا يحبون الجمال، ويعشقون العنف والهمجية، وكانت ألعابهم دموية ضارية أكثر الأحيان، وكانت عقوبتهم فظيعة تقشعر منها الجلود، وكانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف، والمؤامرات والمجاملات الزائدة، والقبائح والعادات السيئة »

بالإضافة إلى هذا، فقد كان الرومان متجبرين غاية التجبر، عنصريين غاية العنصرية، لقد كان المبدأ الأساسي الذي يجتمعون عليه، ويجمعون عليه هو تقديس الوطن الرومي، والشعب الرومي.

ولم تكن الأمم والبلاد التي كانت تسيطر عليها الدولة الرومانية[7] إلا خادمة لمصلحتها، وعروقاً يجري منها الدم إلى مركزها.. فلهذا كانت الدولة الرومانية تستهين بكل حق ومبدأ، وتدوس كل شرف وكرامة، وتستحل كل ظلم وشنيعة، لا يمنعها من ذلك  الحيف والظلم اشتراك في دين وعقيدة، ولا إخلاص ووفاء للملكة.

يقول الدكتور الفرد. ج. بتلر عن الحكم الروماني في مصر:« إن حكومة مصر (الرومية) لم يكن لها إلا غرض واحد، وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين، ولم يساورها أن تجعل قصد الحكم توفير الرفاهية للرعية أو ترقية حال الناس والعلو بهم في الحياة أو تهذيب نفوسهم أو إصلاح أمور أرزاقهم، فكان الحكم على ذلك حكم الغرباء لا يعتمد إلا على القوة ولا يحس بشيء من العطف على الشعب المحكوم»[8]

ويقول مؤرخ عربي شامي عن الحكم الروماني في الشام:« كانت معاملة الروماني للشاميين بادئ ذي بدء عادلة حسنة مع ما كانت عليه مملكتهم في داخليتها من المشاغب والمتاعب، ولما شاخت دولتهم انقلبت إلى أتعس ما كانت عليه من الرق والعبودية، ولم تضف رُومية بلاد الشام مباشرة ولم يصبح سكانها وطنيين رومانيين، ولا أرضهم أرضاً رومانية، بل ظلوا غرباء ورعايا، وكثيراً ما كانوا يبيعون أبنائهم ليوفوا ما عليهم من الأموال، وقد كثرت المظالم والسخرات والرقيق، وبهذه الأيدي عمر الرومان ما عمروا من المعاهد والمصانع في الشام »[9]

ويقول:« حكم الرومان الشام سبعمائة سنة بدأ معهم في البلاد النزاع والشقاق والاستبداد والأنانية وقتل الأنفس، وحكم اليونان الشام 369 سنة سادت في عهدهم الحروب الطاحنة والمظالم وظهرت المطامع اليونانية بأعظم مظاهرها وكان حكمهم من أشد الويلات وأشأم النكبات على الأمة الشامية »[10] 

وقد كان ذلك السلوك العنصري المتجبر هو سبب سقوط الدولة الرومانية، يقول (Robert Briffault ) عند ذكره لسبب سقوط الدولة الرومانية:« لم يكن سبب انقراض الدولة الرومية وسقوطها الأساسي الفساد الزائد (كالرشوة وغيرها) بل كان الفساد والشر وعدم المطابقة بالواقع مما صحب نشوء هذه الدولة من أول يومها وتغلغل في أحشائها، إن كل مؤسسة بشرية تقوم على أساس زائف منها ولا تستطيع أن تنقذ نفسها بذكاء أو نشاط، ولما كان الفساد مما قامت عليه هذه الدولة فكان لا بد أن تبيد يوماً وتنهار، لقد رأينا أن الدولة الرومية إنما كانت وسيلة لرفاهية طبقة صغيرة على حساب الجماهير الذين كانت هذه الطبقة تستغلهم وتمتص دمائهم، لقد كانت التجارة تسير في رومة بأمانة وعدل، وقد كان ذلك مما طبعت عليه هذه الدولة، وقد كانت فائقة في قوة الحكم والقضاء، وفي الكفاءة، ولكن هذه المحاسن كلها لم تكن لتحفظ الدولة من عواقب الزيف الأساسي والخطأ»[11]

أما المجتمع الروماني، فقد كان مجتمعا طبقيا كسائر المجتمعات في ذلك الزمان، يقول (Robert Briffault  ) عن النظام الطبقي في الدولة الرومية:« مما جرت العادة أنه إذا أصيبت مؤسسة اجتماعية بالزوال والانحطاط لا يرى القائمون عليها حيلة إلا أن يمنعوها من الحركة والتطور، لذلك كان المجتمع الرومي (في عهد الانحطاط) خاضعاً لنظام طبقي جائر يرزح تحته، وما كان لأحد في هذا المجتمع أن يغير حرفته، وكان لا بد للابن أن يتخذ حرفة أبيه »[12]

الحضارة الفارسية:

أشار (توماس) إلى بقعة أخرى في خارطة العالم القديم، وقال: هذه هي إيران، أو بلاد فارس، وهي الدولة التي شاطرت الروم حكم العالم المتمدن.

قلت: إنها ترمز للفنون الراقية، وللكثير من الآداب والفلسفات.

قال: وهي كذلك ترمز للانحلال الخلقي والفساد الفكري والاستبداد السياسي:

لقد كان أساس الأخلاق متزعزعاً مضطرباً في تلك البلاد منذ عهد عريق في القدم، ولم تزل المحرمات النسبية التي تواضعت على حرمتها ومقتها طبائع أهل الأقاليم المعتدلة موضع خلاف ونقاش، حتى إن يزدجرد الثاني الذي حكم في أواخر القرن الخامس الميلادي تزوج  بنته ثم قتلها، وأن بهرام جوبين الذي تملك في القرن السادس كان متزوجاً بأخته[13].

يقول البروفسور (أرتهر كرستن سين) أستاذ الألسنة الشرقية في جامعة كوبنهاجن بالدنمارك المتخصص في تاريخ إيران في كتابه (إيران في عهد الساسانيين):« إن المؤرخين المعاصرين للعهد الساساني مثل (جاتهياس) وغيره، يصدقون بوجود عادة زواج الإيرانيين بالمحرمات، ويوجد في تاريخ العهد الساساني أمثلة لهذا الزواج، فقد تزوج بهرام جوبين وتزوج جشتسب قبل أن يتنصر بالمحرمات، ولم يكن يعد هذا الزواج معصية عند الإيرانيين، بل كان عملاً صالحاً يتقربون به إلى الله، ولعل الرحالة الصيني (هوئن سوئنج) أشار إلى هذا الزواج بقوله: إن الإيرانيين يتزوجون من غير استثناء »[14]

قلت: ولكني أعلم أن بلاد فارس هي التي أنجبت ماني في القرن الثالث المسيحي، وقد كان داعية إلى الزهد في النساء، فكيف تذكر هذا الانحلال؟

قال: لقد كان ظهور ماني رد فعل عنيف ضد النزعة الشهوية السائدة في البلاد، ولكنه كان يحمل مع ذلك أفكارا لا تتناسب مع الطبيعة البشرية، لقد دعا إلى حياة العزوبة لحسم مادة الفساد والشر من العالم، وأعلن أن امتزاج النور بالظلمة شر يجب الخلاص منه، فحرَّم الزواج استعجالاً للفناء وانتصاراً للنور على الظلمة بقطع النسل.

ولكنه لم يدم طويلا، لقد قتله بهرام سنة 276م قائلاً:« إن هذا خرج داعياً إلى تخريب العالم، فالواجب أن يبدأ بتخريب نفسه قبل أن يتهيأ له شيء من مراده »[15] 

في مقابل هذه الدعوة المتطرفة ظهرت دعوة مزدك الذي ولد عام 487 م، وأعلن أن الناس ولدوا سواء لا فرق بينهم، فلذلك ينبغي أن يعيشوا سواء لا فرق بينهم، ولما كان المال والنساء مما حرصت النفوس على حفظه وحراسته كان ذلك عند مزدك أهم ما تجب فيه المساواة والاشتراك [16].

وقد حظيت هذه الدعوة بموافقة الشبان والأغنياء والمترفين.. بل، وفوق ذلك سعدت بحماية البلاط، فأخذ قباذ بناصرها، ونشط في نشرها وتأييدها حتى انغمست إيران بتأثيرها في الفوضى الخلقية وطغيان الشهوات.

يقول الطبري عن ذلك:« افترض السّفلة ذلك، واغتنموا وكاتفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم، فابتلى الناس بهم وقوي أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله لا يستطيع الامتناع منهم، وحملوا قباذ على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه، فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى صاروا لا يعرف الرجل ولده ولا المولود أباه ولا يملك شيئاً مما يتسع به »[17] إلى أن قال:« ولم يزل قباذ من خيار ملوكهم حتى حملة مزدك على ما حمله عليه، فانتشرت الأطراف وفسدت الثغور»

بالإضافة إلى هذا الانحلال الخلقي كان هناك انحلال آخر لا يقل خطرا.. كان هو سبب ذلك الاستبداد الذي عانى منه الفرس، ومن حكمهم الفرس.

كان الأكاسرة هم ملوك فارس، وكانوا يدَّعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي، وكان الشعب يعتقد بأن في طبيعتهم شيئاً علوياً مقدساً، فلذلك كانوا يقدمون لهم القرابين، وينشدون الأناشيد بألوهيتهم، ويرونهم فوق القانون، وفوق الانتقاد، وفوق البشر، ولا يجري اسمهم على لسانهم، ولا يجلس أحد في مجلسهم، ويعتقدون أن لهم حقاً على كل إنسان، وليس لإنسان حق عليهم، وأن ما يرضخون لأحد من فضول أموالهم وفتات نعيمهم إنما هو صدقة وتكرم من غير استحقاق، وليس للناس قِبلهم إلا السمع والطاعة.

ثم زادوا الطين بلة حين خصصوا بيتاً معيناً، وهو البيت الكياني، فكانوا يعتقدون أن لأفراده وحدهم الحق أن يلبسوا التاج ويجبوا الخراج، وهذا الحق ينتقل فيهم كابراً عن كابر وأباً عن جد لا ينازعهم ذلك إلا ظالم، ولا ينافسهم إلا دعي، فكانوا يدينون بالملك والوراثة في البيت المالك لا يبغون به بدلاً، ولا يريدون عنه محيصاً، فإذا لم يجدوا من هذه الأسرة كبيراً ملكوا عليهم طفلاً، وإذا لم يجدوا رجلاً ملكوا عليهم امرأة، فقد ملكوا بعد شيرويه ولده أزدشير وهو ابن سبع سنين، وملك فرُّخ زاد خسروا ابن كسرى أبرويز وهو طفل، وملكوا بوران بنت كسرى، وملكت كذلك ابنة كسرى ثانية يقال لها أزرمي دخت[18].

وقد جرهم هذا إلى عنصرية اجتماعية خطيرة.. يقول البروفسور أرتهرسين:« كان المجتمع الإيراني مؤسساً على اعتبار النسب والحِرف، وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة لا يقوم عليها جسر ولا تصل بينها صلة، وكانت الحكومة تحظر على العامة أن يشتري أحد منهم عقاراً لأمير أو كبير، وكان من قواعد السياسة الساسانية أن يقنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه، ولا يستشرف لما فوقه، ولم يكن لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقه الله لها، وكان ملوك إيران لا يولون وضيعاً وظيفة من وظائفهم، وكان العامة كذلك طبقات متميزة بعضها عن بعض تميزاً واضحاً، وكان لكل واحد مركز محدد في المجتمع »[19] 

ولكنهم كانوا مع كل هذا، مثل الرومان يغالون في تمجيد القومية الفارسية، ويرون أن لها فضلاً على سائر الأجناس والأمم، وأن الله قد خصها بمواهب ومنح لم يشرك فيها أحداً، وكانوا ينظرون إلى الأمم حولهم نظرة ازدراء وامتهان، ويلقبونها بألقاب فيها الاحتقار والسخرية.

هذا عن النظام الاجتماعي أما النظام المالي، فقد كان لا يختلف جوره عن كل أنظمة الدنيا في ذلك الوقت، يقول (أرتهر كرستن سين):« كان الجباة لا يتحرزون من الخيانة واغتصاب الأموال في تقدير الضرائب وجباية الأموال، ولما كانت الضرائب تختلف كل سنة وتزيد وتنقص لم يكن دخل الدولة وخرجها مقدرين مضبوطين، وقد كانت الحرب تنشب في بعض الأحيان وليست عند الدولة أموال تنفقها على الحرب، فكان يلجئها ذلك إلى ضرائب جديدة، وكانت المقاطعات الغربية الغنية ـ وخاصة بابل ـ هدف هذه الضرائب دائماً »[20] 

ولهذا، فقد كان التفاوت عظيما بين مختلف الطبقات في هذه الناحية:

فبينما كان ملوك إيران يكتنزون النقود، ويدخرون الطرف الغالية[21]، كان الفقراء يعيشون حياة الفقر المدقع، يقول (أرتهر كرستن سين) عن أخصب عهد من عهود إيران، وعن أعدل ملك من ملوكها، وهو كسرى أنوشروان:« إن ما قام به كسرى من إصلاح النظام المالي كان في مصلحة مالية المملكة أكبر منه في مصلحة الرعية، فلم تزل العامة يعيشون في الجهل والضنك كما كانوا في السابق، وما شاهد الفلاسفة البيزنطيون من فوارق نسبية بين طبقات المجتمع والفصل الشاسع بينها والبؤس الذي كان يعش فيه رجال الطبقات المنحطة أقلق خاطرهم وانتقدوا المجتمع الفارسي بقولهم: إن الأقوياء فيه يقهرون الضعفاء ويعاملونهم بظلم وبقسوة شديدة »[22] 

أما الفلاحون، فقد أثقلت الضرائب المتنوعة المتجددة كاهلهم حتى ترك كثير من المزارعين أعمالهم، أو دخلوا الأديرة فراراً من الضرائب والخدمة العسكرية لأمة لا يحبونها أو لغرض لا يتحمسون له وفشت في الناس البطالة والجنايات وطرق غير شرعية للكسب.

يقول (أرتهر كرستن سين):« كان الفلاحون في شقاء وبؤس عظيم، وكانوا مرتبطين بأراضيهم، وكانوا يُستخدمون مجاناً ويكلفون كل عمل »[23] 

ويقول المؤرخ (اميان مارسيلينوس ):« إن هؤلاء الفلاحين البؤساء كانوا يسيرون خلف الجيوش مشاة كأنه قد كتب عليهم الرق الدائم، ولم يكونوا ينالون إعانة أو تشجيعاً من راتب أو أجرة »

الهند: 

أشار (توماس) إلى بقعة أخرى في خارطة العالم القديم، وقال: هذه هي الهند.

قلت: إنها معدن الحكمة، وينبوع العدل والسياسة، وأهل الأحلام الراجحة، والآراء الفاضلة.. هكذا وصفها صاعد الأندلسي في طبقات الأمم.

قال: ولكنها كانت في العهد الذي جاء فيه محمد على حافة الهاوية، كانت كتلك الشجرة الذابلة التي رزقها الله إكسير الحياة.

لقد اتفقت كلمة المؤرخين على أن أحط أدواره الهند ديانة وخلقاً واجتماعاً ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي، أي في العهد الذي تزامن مع مجيء محمد[24].

لقد اشتركت الهند مع جاراتها وشقيقاتها في التدهور الخلقي والاجتماعي، الذي شمل الأرض جميعا في ذلك الزمن.. وأخذت نصيباً غير منقوص من هذا الظلام الذي مد رواقه على المعمورة.

لقد كان النظام الاجتماعي السائد هو نظام الطبقات الجائر المبالغ في جوره.. بل لم يعرف في تاريخ أمة من الأمم نظام طبقي أشد قسوة، وأعظم فصلاً بين طبقة وطبقة، وأشد استهانة بشرف الإنسان من النظام الذي اعترفت به الهند دينياً ومدنياً، وخضعت له آلافاً من السنين.

وقد بدت طلائع التفاوت الطبقي في آخر العهد الويدي بتأثير الحرف والصنائع وثوراتها، وبحكم المحافظة عل خصائص السلالة الآرية المحتلة ونجابتها.

وقبل ميلاد المسيح بثلاثة قرون ازدهرت في الهند الحضارة البرهمية، ووضع فيها مرسوم جديد للمجتمع الهندي، وألف فيه قانون مدني وسياسي اتفق عليه البلاد وأصبح قانوناً رسمياً ومرجعاً دينياً في حياة البلاد ومدنيتها وهو المعروف الآن بـ (منوشاستر)

يقسم هذا القانون أهل البلاد إلى أربع طبقات ممتازة وهي البراهمة، وهي طبقة الكهنة ورجال الدين.. وشتري رجال الحرب.. وويش رجال الزراعة والتجارة.. وشودر رجال الخدمة.

يقول (منو) مؤلف هذا القانون:« إن القادر المطلق قد خلق لمصلحة العالم البراهمة من فمه، وشتري من سواعده، وويش من أفخاذه، والشودر من أرجله، ووزع لهم فرائض وواجبات لصلاح العالم، فعلى البراهمة تعليم ويد، أو تقديم النذور للآلهة، وتعاطي الصدقات، وعلى الشتري حاسة الناس والتصدق وتقديم النذور ودراسة (ويد) والعزوف عن الشهوات، وعلى ويش رعي السائمة والقيام بخدمتها وتلاوة ويد والتجارة والزراعة، وليس لشودر إلا خدمة هذه الطبقات الثلاث »[25] 

وقد منح هذا القانون طبقة البراهمة امتيازات وحقوقاً ألحقتهم بالآلهة، فقد ذكر أن البراهمة هم صفوة الله، وهم ملوك الخلق، وإن ما في العالم هو ملك لهم، فإنهم أفضل الخلائق وسادة الأرض، ولهم أن يأخذوا من مال عبيدهم شودر من غير جريرة ما شاءوا، لأن العبد لا يملك شيئاً وكل ماله لسيده.

ونص هذا القانون على أن البرهمي الذي يحفظ رك ويد (الكتاب المقدس) هو رجل مغفور له، ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله، ولا يجوز للملك حتى في أشد ساعات الاضطرار والفاقة أن يجبي من البراهمة جباية أو يأخذ منهم إتاوة، ولا يصح لبرهمي في بلاده أن يموت جوعاً، وإن استحق برهمي القتل لم يجز للحاكم إلا أن يحلق رأسه، أما غيره فيقتل.

أما الشتري، فإن كانوا فوق الطبقتين (ويش وشودر)، ولكنهم دون البراهمة بكثير.. يقول  (منو):« إن البرهمي الذي هو في العاشرة من عمره يفوق الشتري الذي ناهز مائة كما يفوق الوالد ولده »[26]

أما شودر (المنبوذون)، فكانوا في المجتمع الهندي ـ بنص هذا القانون المدني الديني ـ  أحط من البهائم وأذل من الكلاب، فيصرح القانون بأن من سعادة شودر أن يقوموا بخدمة البراهمة وليس لهم أجر وثواب بغير ذلك، وليس لهم أن يقتنوا مالاً أو يدخروا كنزاً فإن ذلك يؤذي البراهمة، وإذا مد أحد من المنبوذين إلى برهمي يداً أو عصاً ليبطش به قطعت يده، وإذا رفسه في غضب فدعت رجله، وإذا هم أحد من المنبوذين أن يجالس برهمياً، فعلى الملك أن يكوي إسته وينفيه من البلاد، وأما إذا مسه بيد أو سبه فيقتلع لسانه، وإذا ادعى أنه يعلمه سقي زيتاً فائراً، وكفارة قتل الكلب والقطة والضفدعة والوزغ والغراب والبومة ورجل من الطبقة المنبوذة سواء.

أما المرأة.. فقد نزلت في هذا المجتمع منزلة الإماء، وكان الرجل قد يخسر امرأته في القمار، وكان في بعض الأحيان للمرأة عدة أزواج، فإذا مات زوجها صارت كالموءودة لا تتزوج، وتكون هدف الإهانات والتجريح، وكانت أمة بيت زوجها المتوفى وخادم الأحماء وقد تحرق نفسها على إثر وفاة زوجها تفادياً من عذاب الحياة وشقاء الدنيا.

الصين:

أشار (توماس) إلى بقعة أخرى في خارطة العالم القديم، وقال: هذه هي الصين.

قلت: إنها بلد كونفوشيوس أبو الحكمة ومعلمها.

قال: لقد كانت في ذلك الوقت ميدانا للرعية الذليلة والحاكم المستبد كسائر أمم الدنيا.

لقد كانت الرعية تسمي ملكها الإمبراطور ابن السماء، وتعتقد أن السماء ذكر، والأرض أنثى.

وكان الإمبراطور ختا الأول هو بكر هذين الزوجين، وكان يعتبر كالأب الوحيد للأمة، له أن يفعل ما يشاء، وكانوا يقولون له:« أنت أبو الأمة وأمها »

ولما مات الإمبراطور (لي يان) أو (تاي تسونغ) لبست الصين ثوب الحداد، وحزنت عليه حزناً شديداً، فمنها من أثخن وجهه بالإبر، ومن قطع شعره، ومن ضرب أذنيه بجانب النعش.

مصر:

أشار (توماس) إلى بقعة أخرى في خارطة العالم القديم، وقال: هذه هي مصر.

قلت: إنها بلد النيل السعيد، والخير الكثير، والحضارة العظيمة.

قال: ولكنها كانت تعيش في ذلك العهد أسوأ أيام حياتها[27].. لقد كانت في القرن السابع من أشقى بلاد الله بالمسيحية، وبالدولة الرومية معاً، أما الأولى فلم تستفد منها إلا خلافات ومناظرات في طبيعة المسيح، وفي فلسفة ما وراء الطبيعة والفلسفة الألهية، وقد ظهرت في القرن السابع في شر مظاهرها، وأنهكت قوى الأمة العقلية، وأضعفت قواها العملية.

وأما الأخرى فلم تلق منها إلا اضطهاداً دينياً فظيعاً واستبداداً سياسياً شنيعاً تجرعت في سبيلهما من المرائر في عشر سنين ما ذاقته أوربا في عهد التفتيش الديني في عقود من السنين، فألهاها ذلك عن كل وطر من أوطار الحياة، وعن كل مهمة شريفة من مهمات الدين والروح، فلا هي تتمتع بالحرية السياسية رغم كونها مستعمرة رومية، ولا هي تتمتع بالحرية الدينية والعقلية، رغم كونها مسيحية.

يقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه المعروف (حضارة العرب):« ولقد أكرهت مصر على انتحال المسيحية، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي، وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحاً للاختلافات الدينية الكثيرة في ذلك الزمن، وكان أهل مصر يقتتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات، وكانت مصر التي أكلتها الانقسامات الدينية، وأنهكها استبداد الحكام تحقد أشد الحقد على سادتها الروم، وتنتظر ساعة تحريرها من براثن قياصرة القسطنطينية الظالمين »[28]

ويقول الدكتور الفرد.ج. بتلر في كتابه (فتح العرب لمصر):« فالحق أن أمور الدين في القرن السابع كانت في مصر أكبر خطراً عند الناس من أمور السياسة، فلم تكن أمور الحكم هي التي قامت عليها الأحزاب، واختلف بعضها عن بعض فيها، بل كان كل الخلاف على أمور العقائد والديانات، ولم يكن نظر الناس إلى الدين أنه المعين يستمد منه الناس ما يعينهم على العمل الصالح، بل كان الدين في نظرهم هو الاعتقاد المجرد في أصول معينة، فكان اختلاف الناس ومناظراتهم العنيفة كلها على خيالات صورية من فروق دقيقة بين المعتقدات، وكانوا يخاطرون بحياتهم في سبيل أمور لا قيمة لها، وفي سبيل فروق في أصول الدين وفي فلسفة ما وراء الطبيعة يدق فهمها، ويشق إدراكها »[29]

وفوق هذا، فقد اتخذها الروم مصر شاة حلوباً يستنزفون مواردها، ويمتصون دماءها، يقول ألفرد:« إن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس وضرائب أخرى كثيرة العدد.. مما لاشك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير عدل »[30] 

ويقول مؤلفو (تاريخ العالم للمؤرخين):« إن مصر كانت تضيف إلى مالية الدولة البيزنطية مجموعاً كبيراً من حاصلها ومنتجاتها، وكانت طبقات الفلاحة المصرية – مع حرمانها من كل قوة سياسية ومن كل نفوذ – مرغمة على أداء الخرج للدولة الرومية ككراء الأرض فضلاً عن الضرائب، وكانت ثروة مصر في هذا العهد إلى الانتقاص والانحطاط »[31] 

وهكذا اجتمع لمصر من الاضطهاد الديني، والاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي ما شغلها بنفسها، وكدر عليها صفو حياتها، وألهاها عن كل مكرمة.

أوروبا:

أشار (توماس) إلى بقعة أخرى في خارطة العالم القديم، وقال: هذه هي أوروبا، وهذه بالتحديد أقاليمها الشمالية الغربية.

قلت: أوروبا بلد الحضارة الراقية والطبيعة الفاتنة.. إنها بلادنا التي غذونا من لبانها.

قال: لقد كانت ـ في ذلك الحين ـ تتسكع في ظلام الجهل المطبق، والأمية الفاشية، والحروب الدامية، لم ينبثق فيها فجر الحضارة والعلم بعد، ولم تظهر على مسرحها الأندلس لتؤدي رسالتها في العلم والمدنية، ولم تصهرها الحوادث، وكانت بمعزل عن جادة قافلة الحضارة الإنسانية بعيدة عنها، لا تعرف عن العالم ولا يعرف العالم المتمدن عنها إلا قليلاً، ولم تكن ـ مما يجري في الشرق والغرب مما يغير وجه التاريخ ـ في عير ولا نفير، وكانت بين مسيحية وليدة، ووثنية شائبة، ولم تكن بذات رسالة في الدين، ولا بذات راية في السياسة.

يقول هـ. ج. ويلز:« ولم تكن في أوربا الغربية في ذلك العهد أمارات الوحدة والنظام »[32] 

ويقول (Robert Briffault  ):« لقد أطبق على أوربا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر، وكان هذا الليل يزداد ظلاماً وسواداً، قد كانت همجية ذلك العهد أشد هولاً وأفظع من همجية العهد القديم، لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت، وقد انطمست معالم هذه الحضارة وقضي عليها بالزوال، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي، كإيطاليا وفرنسا، فريسة الدمار والفوضى والخراب »[33] 

آسيا الوسطى: 

أشار (توماس) إلى بقعة أخرى في خارطة العالم القديم، وقال: هذه آسيا الوسطى وهذا بالتحديد شرقها.

قلت: إنها بلد المغول والترك واليابانيين.

قال: لقد كانت هذه الشعوب ـ في ذلك الوقت ـ بين بوذية فاسدة، ووثنية همجية، لا تملك ثروة علمية، ولا نظاماً سياسياً راقياً، إنما كانت في طور الانتقال من عهد الهمجية إلى عهد الحضارة، ومنها شعوب لا تزال في طور البداوة والطفولة العقلية.

العرب:

أشار (توماس) إلى بقعة أخرى في خارطة العالم القديم، وقال: هذه هي بلاد العرب، وهذه هي جزيرتهم.

قلت: إنها بلاد محمد، وقد امتازوا ـ في ذلك الحين ـ بأخلاق كادوا يتفردون بها، كالفصاحة وقوة البيان وحب الحرية والأنفة والفروسية والشجاعة والحماسة في سبيل العقيدة والصراحة في القول وجودة الحفظ وحب المساواة وقوة الإرادة والوفاء والأمانة.

قال: لكنهم ـ في ذلك الحين أيضا ـ ولشدة تمسكهم بدين آبائهم وتقاليد أمتهم أصيبوا بانحطاط ديني شديد، ووثنية سخيفة، قلما يوجد لها نظير في الأمم المعاصرة لهم.

بالإضافة إلى ذلك، فقد كان فيهم أدواء كثيرة متأصلة:

لقد كان شرب الخمر واسع الشيوع، شديد الرسوخ فيهم، يتحدث عن معاقرتها والاجتماع على شربها الشعراء، وقد شغلت جانباً كبيراً من شعرهم وتاريخهم وأدبهم، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم، وكثر فيها التدقيق والتفصيل كثرة تدعو إلى العجب، وكانت حوانيت الخمارين مفتوحة دائماً.

قال قتادة: كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقعد حزيناً سلبياً ينظر إلى ماله في يد غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضاً.

وكان أهل الحجاز، العرب واليهود، يتعاطون الربا، وكان فاشياً فيهم، وكانوا يجحفون فيه ويبلغون إلى حد الغلو والقسوة، قال الطبري: كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السنين، يكن للرجل فضل دين فيأتيه إذا حلّ الأجل فيقول له: تقضيني أو تزيدني؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم حُقَّة ثم جَذَعة ثم رباعياً هكذا إلى فوق، وفي العين يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل وإن لم يكن عنده أضعفه أيضاً فتكون مائة فيجعلها إلى القابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة يضعفها له كل سنة أو يقضيه »

ولم يكن الزنى نادراً، بل كان غير مستنكر استنكاراً شديداً، فكان من العادات أن يتخذ الرجل خليلات، ويتخذ النساء أخلاء بدون عقد، وكانوا قد يُكرهون بعض النساء على الزنى، قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنى يأخذون أجورهن.

وقد وصفت عائشة زوج محمد أنواع الزواج في ذلك الوقت، فقالت:« إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته فيصدقها ثم ينكحها، والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان، فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومرَّ عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطيع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع ممن جاءها، وهن البغايا  كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك »[34] 

أما المرأة، فقد كانت في ذلك المجتمع عرضة غبن وحيف، تؤكل حقوقها وتُبْتز أموالها، وتُحرم إرثها، وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه، وتورث كما يورث المتاع أو الدابة.

لقد ذكر القرآن كل ذلك مصححا له، ففي القرآن:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ (النساء:19)

قال ابن عباس في تفسيرها:« كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضُهم تزوجها، وإن شاءوا زَوَّجُوها، وإن شاؤوا لم يُزَوِّجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك »[35]

وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد، وقد ذكره القرآن، ففيه:﴿ وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)﴾ (التكوير)، وفيه:﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً﴾ (الاسراء:31)

وقد ذكر هيثم بن عدي أن الوأد كان مستعملا في قبائل العرب قاطبة، فكان يستعمله واحد، ويتركه عشرة، فجاء الإسلام، وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد، فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن، ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء أو شيماء (سوداء) أو برشاء (برصاء) أو كسحاء (عرجاء) تشاؤماً منهم بهذه الصفات، ومنهم من كان يقتل أولاده خشية الإنفاق وخوف الفقر، وهم الفقراء من بعض قبائل العرب فكان يشتريهم من بعض سراة العرب وأشرافهم.

وكانت العصبية القبلية والدموية شديدة جامحة، وكان شعارهم في ذلك قولهم (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فكانوا يتناصرون ظالمين أو مظلومين.

قلت: لقد ورد في حديث محمد هذا الشعار!؟

قال: لقد قاله محمد مصححا له، فقد ورد في الحديث:« انصر أخاك ظالما أو مظلوما »، قيل: كيف أنصره ظالما؟ قال:« تحجزه عن الظلم، فان ذلك نصره »[36] 

استأنف توماس حديثه عن طبيعة العرب قائلا: وفوق ذلك كان الحرب والغزو مما طبعت عليه طبيعتهم العربية، وألهمتهم إياه معيشتهم البدوية، حتى صارت الحرب مسلاة لهم، قال قائلهم:

وأحياناً على بكر أخينا      إذا ما لم نجد إلا أخانا

لقد هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر، فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة، وما ذاك إلا لأن كليباً، وهو رئيس معدّ رمى ضلع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها، وقتل جساس بن مرة كليباً،واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب، وكان كما قال المهلهل أخو كليب:« قد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد دموع لا ترقأ وأجساد لا تدفن »

ومثل ذلك حرب داحس والغبراء، فما كان لها من سبب سوى أن داحساً فرس قيس بن زهير كان سابقاً في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر، فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة، فلطم وجهه وشغله ففاتته الخيل، وتلا ذلك قتل، ثم أخذ بالثأر ونصر القبائل لأبنائها، وأسر ونزح للقبائل، وقتل في ذلك ألوف من الناس.

2 ـ ديانات:

التفت إلي توماس، وقال: هذه هي دول العالم.. وتلك هي حضارتها وانحطاطها.. لقد كانت أشبه شيء بتلك الشجرة قبل أن أعالجها بذلك الإكسير.

قلت: والأديان.. أين ذهبت الأديان؟.. وأين ذهب رجالها من الأحبار والرهبان؟

قال: لقد تحول الدين إلى تجارة لا تختلف عن سائر أنواع التجارة..

لقد ذكر القرآن هذا، ففيه:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ (التوبة:34)

وقد دفعهم حبهم للمال وتعظيمهم له إلى تحريف الدين من أجله، كما في القرآن:﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ (البقرة:79)

المسيحية:

قلت: هذا النقد القرآني قد يصح مع اليهود.. ولكنه لا يصح أبدا عن المسيحية التي هي دين الزهاد والرهبان والعباد.

قال: اسمح لي أن أصارحك بموقفي من المسيحية..

قلت: لا بأس.. تحدث كما تشاء.

قال: لم تكن المسيحية في يوم من الأيام أهلا لخلاص الإنسان.

قلت: ما تقول؟.. والمسيحية هي الدين الوحيد في العالم الذي يصيح بالخلاص، ويستعمل مصطلح الخلاص.

قال: الخلاص الذي يصيحون به أقرب إلى الأسطورة منه إلى الحقيقة..

سكت قليلا، ثم قال بأسف[37]: لقد كان في المسيحية أثارة من تعليم المسيح كان يمكنها أن تخلص البشرية، لكن بولس جاء، فطمس نورها، وطعّمها بخرافات الجاهلية التي انتقل منها والوثنية التي نشأ عليها، وقضى قسطنطين على البقية الباقية، حتى أصبحت المسيحية مزيجاً من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية والأفلاطونية المصرية والرهبانية، اضمحلت في جنبها تعليم المسيح البسيطة كما تتلاشى القطرة من اليم، وعادت نسيجاً خشبياً من معتقدات وتقاليد لا تغذي الروح، ولا تمد العقل ولا تشعل العاطفة، ولا تحل معضلات الحياة، ولا تنير السبيل، بل أصبحت بزيادات المحرفين، وتأويل الجاهلين، تحول بين الإنسان والعلم والفكر، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية.

يقول (Sale) مترجم القرآن إلى الانكليزية عن مسيحيي القرن السادس الميلادي:« وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية حتى فاقوا في ذلك الكاثوليك في هذا العصر»[38]

ثم ثارت حول الديانة، وفي صميمها مجادلات كلامية، وسفسطة من الجدل العقيم شغلت فكر الشعوب، واستهلكت ذكاءها، وابتلعت فدرتها العملية، وتحولت في كثير من الأحيان حروباً دامية وقتلاً وتدميراً وتعذيباً، وإغارة وانتهاباً واغتيالاً، وحولت المدارس والكنائس والبيوت معسكرات دينية متنافسة، وأقحمت البلاد في حرب أهلية.

وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين مسيحيي الشام والدولة الرومية، وبين مسيحيي مصر، أو بين (الملكانية) و (المنوفيسية)

لقد كان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح، وكان المنوفيسيون يعتقدون أن للسيد المسيح طبيعة واحدة، وهي الإلهية التي تلاشت فيها طبيعة المسح البشرية، كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له.

وقد اشتد الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع، حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين، أو كأنه خلاف بين اليهود والمسيحيين، كل طائفة تقول للأخرى:« إنها ليست على شيء »

لقد ذكر القرآن هذا، ففيه:﴿ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (مريم:37)

يقول الدكتور ألفرد. ج. بتلر:« إن ذينك القرنين كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين، نضال يذكيه اختلاف في الجنس واختلاف في الدين، وكان اختلاف الدين أشد من اختلاف الجنس، إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت تلك بين الملكانية والمنوفيسية، وكانت الطائفة الأولى ـ كما يدل عليها اسمها ـ حزب مذهب الدولة الإمبراطورية وحزب الملك والبلاد، وكانت تعتقد العقيدة السنية الموروثة، وهي ازدواج طبيعة المسيح، على حين أن الطائفة الأخرى وهي حزب القبط المنوفيسيين ـ أهل مصر ـ كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها، وتحاربها حرباً عنيفة في حماسة هوجاء يصعب علينا أن نتصورها أو نعرف كنهها في قوم يعقلون، بلة يؤمنون بالإنجيل»[39]

لقد حاول الإمبراطور هرقل (610-641) بعد انتصاره على الفرس سنة 638 جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها، وأراد التوفيق بينها، وتقررت صورة التوفيق، وهي أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة المسيح، وعما إذا كانت له صفة واحدة، أم صفتان، ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن الله له إرادة واحدة أو قضاء واحد.

وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك وصار المذهب المنوثيلي مذهباً رسمياً للدولة، ومن تضمهم من أتباع الكنيسة المسيحية، وصمم هرقل على إظهار المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المختلفة له متوسلاً إلى ذلك بكل الوسائل، ولكن القبط نابذوه العداء، وتبرأوا من هذه البدعة والتحريف، وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة.

وحاول الإمبراطور مرة أخرى توحيد المذاهب وحسم الخلاف، فاقتنع بأن يقر الناس بأن الله له إرادة واحدة، وأما المسألة الأخرى، وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل، فأرجأ القول فيه، ومنع الناس أن يخوضوا في مناظراتها، وجعل ذلك في رسالة رسمية، وبعث بها إلى جميع جهات العالم الشرقي، ولكن الرسالة لم تهدئ العاصفة في مصر ووقع اضطهاد فظيع على يد قيرس في مصر واستمر عشر سنين، وقع خلالها ما تقشعر منه الجلود، فقد كان الرجال يعذبون ثم يقتلون إغراقاً، وتوقد المشاعل وتسلط نارها عليهم حتى يسيل الدهن على الأرض، ويوضع السجين في كيس مملوء من الرمل ويرمى به في البحر.. إلى غير ذلك من الفظائع.

اليهودية:

قلت: واليهود؟

ابتسم، وقال: ألا تعرف اليهود!؟.. إنهم وباء العالم وسرطانه القاتل، وقد كانوا في ذلك الوقت أضعب الأمم، فقد كانوا عرضة للاضطهاد والاستبداد، والنفي والجلاء، والعذاب والبلاء.

وقد أورثهم تاريخهم الخاص وما تفردوا به بين أمم الأرض من العبودية الطويلة والاضطهاد الفظيع والكبرياء القومية، والإدلال بالنسب، والجشع وشهوة المال وتعاطي الربا، أورثهم كل ذلك نفسية غريبة لم توجد في أمة وانفردوا بخصائص خلقية كانت لهم شعاراً على تعاقب الإعصار والأجيال، منها الخنوع عند الضعف، والبطش وسوء السيرة عند الغلبة، والختل والنفاق في عامة الأحوال، والقسوة والأثرة وأكل أموال الناس بالباطل.

وقد وصفهم القرآن في آيات كثيرة وصفاً دقيقاً عميقاً يصور ما كانوا عليه في القرنين السادس والسابع من تدهور خلقي، وانحطاط نفسي، وفساد اجتماعي، عزلوا بسببه عن قيادة العالم.

وقد تجدد في أوائل القرن السابع من الحوادث ما بغضهم إلى المسيحيين، وبغض المسيحيين إليهم وشوه سمعتهم، ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس (610 م ) أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية، فأرسل الإمبراطور قائده (أبنوسوس) ليقضي على ثورتهم، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة، فقتل الناس جميعاً، قتلاً بالسيف، وشنقاً وإغراقاً وتعذيباً، ورمياً للوحوش الكاسرة.

وكان ذلك يحصل بين اليهود والمسيحيين مرة بعد مرة، قال المقريزي في كتاب الخطط:« وفي أيام فوقا ملك الروم، بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر، فخربوا كنائس القدس وفلسطين وعامة بلاد الشام، وقتلوا المسيحيين بأجمعهم وأتوا إلى مصر في طلبهم، وقتلوا منهم أمة كبيرة، وسبوا منهم سبياً لا يدخل تحت حصر، وساعدهم اليهود في محاربة المسيحيين وتخريب كنائسهم. وأقبلوا نحو الفرس من طبرية وجبل الجليل، وقرية الناصرية صور، وبلاد القدس، فنالوا من المسيحيين كل منال، وأعظموا النكاية فيهم، وخربوا لهم كنيستين وأحرقوا أماكنهم، وأخذوا قطعة من عود الصليب، وأسروا بطرك القدس وكثيراً من أصحابه»[40]

إلى أن قال بعد أن ذكر فتح الفرس لمصر:« فثارت اليهود في أثناء ذلك بمدينة صور، وأرسلوا بقيتهم في بلادهم، وتواعدوا على الإيقاع بالمسيحيين وقتلهم، فكانت بينهم حرب اجتمع فيها من اليهود نحو عشرين ألفا، وهدموا كنائس المسيحيين خارج صور، فقوي المسيحيون عليهم وكاثروهم، فانهزم اليهود هزيمة قبيحة وقتل منهم كثير، وكان هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية، وغلب الفرس بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنهم، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر، ويجدد ما خربها الفرس، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها، وقدموا له الهدايا الجليلة طلبوا منهم أن يؤمنهم ويحلف لهم على ذلك، فأمنهم، وحلف لهم، ثم دخل القدس، وقد تلقاه المسيحيون بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة، فوجد المدينة وكنائسها وقمامتها خراباً، فساءه ذلك  وتوجع له، وأعلمه المسيحيون بما كان من ثورة اليهود مع الفرس وإيقاعهم بالمسيحيين وتخريبهم الكنائس، وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس وقاموا قياماً كبيراً في قتلهم من آخرهم، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم، وحسنوا له ذلك، فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه، فأفتاه رهبانهم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم، فإنهم عملوا حيلة حتى أمنهم من غير أن يعلم بما كان منهم، وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا المسيحيين بصوم جمعة في كل سنة عنه على ممر الزمان والدهور، فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من  فر واختفى »

وبهذه الروايات يعلم ما وصل إليه الفريقان، اليهود والمسيحيون، من القسوة والضراوة بالدم الإنساني وتحين الفرص للنكاية في العدو، وعدم مراعاة الحدود في ذلك، وبهذه الأخلاق المنحطة والاستهانة بحياة الإنسان لا يمكن لطائفة أو أمة أن تؤدي رسالة الحق والعدل والسلام وتسعد البشرية في ظلها وتحت حكمها.

ديانات أخرى:

قلت: والديانات الأخرى.. ورجالها.. ألم يكن فيهم من يصلح لإنقاذ البشرية؟

أشار توماس إلى بقعة من الأرض، وقال: هنا كانت تنتشر المجوسية.

قلت: ألم يكن في المجوسية ما يصلح لإنقاذ البشرية؟

قال: لقد جاء زرادشت، ودعا إلى التوحيد، وأبطل الأصنام[41]،  وقال:« إن نور الله يسطع في كل ما يشرق ويلتهب في الكون »، وأمر بالاتجاه إلى جهة الشمس والنار وساعة الصلاة، لأن النور رمز إلى الإله وأمر بعدم تدنيس العناصر الأربعة وهي: النار والهواء والتراب والماء.

وجاء بعده علماء سنوا للزرادشتيين شرائع مختلفة، فحرموا عليهم الاشتغال بالأشياء التي تستلزم النار، فاقتصروا في أعمالهم على الفلاحة والتجارة.

ومن هذا التمجيد للنار واتخاذها قبلة في العبادات تدرج الناس إلى عبادتها حتى صاروا يعبدونها عيناً ويبنون لها هياكل ومعابد، وانقرضت كل عقيدة وديانة غير عبادة النار وجُهلت الحقيقة ونسي التاريخ[42].

ولما كانت النار لا توحي إلى عبّادها بشريعة ولا ترسل رسولاً، ولا تتدخل في شئون حياتهم ولا تعاقب العصاة والمجرمين أصبحت الديانة عند المجوس عبارة عن طقوس وتقاليد يؤدونها في أمكنة خاصة في ساعات خاصة، أما في خارج المعابد، وفي دورهم ودوائر حكمهم وتصرفهم، وفي السياسة والاجتماع، فكانوا أحراراً يسيرون على هواهم، وما تملي عليهم نفوسهم، أو ما يؤدي إليه تفكيرهم، أو ما توحي به مصالحهم ومنافعهم، شأن المشركين في كل عصر.

وهكذا حُرِم الفرس في حياتهم ديناً عميقاً جامعاً يكون تربية للنفس، وتهذيباً للخلق، وقامعاً للشهوات، وحافزاً على التقوى وفعل الخيرات، ويكون نظاماً للأسرة وتدبيراً للمنزل وسياسة للدولة، ودستوراً للأمة، ويحول بين الناس وطغيان الملوك، وعسف الحكام، ويأخذ على يد الظالم، وينتصف للمظلوم، وأصبح المجوس لا فرق بينهم وبين اللادينيين والإباحيين في الأخلاق والأعمال.

أشار إلى بقعة أخرى من العالم، وقال: هذه هي الصين القديمة، وهنا ـ وفي ذلك الزمان ـ كانت تنتشر ثلاث ديانات: ديانة (لا وتسو)، وديانة (كونفوشيوس)، والبوذية:

أما ديانة (لا وتسو)، فقد تحولت إلى ديانة وثنية في عهد قريب، فهي تُعني بالنظريات أكثر منها بالعمليات، وكان أتباعها متقشفين زاهدين، لا يتزوجون ولا ينظرون إلى المرأة، ولا يتصلون بها، فلم يكن لها أن تكون أُسّاً لحياة سديدة أو حكومة رشيدة، حتى التجأ الذين جاءوا بعد مؤسسها إلى مخالفته والعدول عنه إلى غيره.

أما (كونفوشيوس) فقد كان يعني بالعمليات أكثر من النظريات، ولكن انحصرت تعاليمه في شؤون هذه الدنيا وتدبير الأمور المادية والسياسية والإدارية، وقد كان أتباعه لا يعتقدون ـ في بعض الأزمنة ـ بعبادة إله معين، فيعبدون ما يشاءون من الأشجار والأنهار، وليس فيها نور من يقين ولا باعث من إيمان ولا شرع سماوي، وإنما هي حكمة حكيم وتجارب خبير، يستفيد بها الإنسان إذا شاء ويرفضها إذا شاء.

أما البوذية، فقد فقدت بساطتها وحماستها، وابتلعتها البرهمية الثائرة الموتورة، فتحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت، وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل بوذا  حيث حلت ونزلت.

وقد غمرت هذه التماثيل الحياة الدينية والمدنية التي ظهرت في عهد ازدهار البوذية.

يقول الأستاذ (إيشوراتوبا):« لقد قامت في ظل البوذية دولة تعني بمظاهر الآلهة وعبادة التماثيل وتغير محيط الرابطات الأخوية البوذية، وظهرت فيها البدع »[43]

ولا حظ ذلك أيضاً أحد الكتاب العصريين وكبار السياسيين في الهند فقال:« جعلت البرهمية بوذا مظهراً للآلهة، وقلدتها في ذلك البوذية نفسها، وأصبحت الرابطة الأخوية البوذية تملك ثورة هائلة، وأصبحت مركزاً لمصالح جماعات خاصة، وفقدت النظام وتسرب إلى مناهج العبادة السحر والأوهام، وبدأت الديانة تتقهقر وتنحط بعدما سادت في الهند وازدهرت ألف سنة، وقد ذكرت (Mrs Rhys DaVids) ما أصيبت به الديانة البوذية في هذا العهد من الوهن والاعتلال فقالت كما نقل عنها (سير رادها كرشنن) في كتابه (الفلسفة الهندية):« لقد أظلت الأفكار العليلة تعليم بوذا الخلقي حتى توارى وراء هذه التخيلات السقيمة، لقد نشأ مذهب جديد في الديانة وازدهر، وملك على الناس القلوب، ثم اضمحل وخلفه مذهب آخر، وهلم جرا، حتى تراكمت هذه الأوهام الخلابة، وحجبت الجو وساد الظلام، وقد اضمحلت دروس مؤسس الديانة الغالية البسيطة بسبب التدقيقات الكلامية والتنطعات.. لقد أصيبت البرهمية والبوذية بالانحطاط، ودخلت فيها العادات الساقطة، وأصبح من العسير التمييز بينهما، لقد اندمجت البوذية في البرهمية وذابت فيها »[44]

ولم يزل وجود الإله الإيمان به في البوذية موضع خلاف وشك عند مؤرخي هذه الديانة ومترجمي مؤسسها، حتى يحار بعضهم ويتساءل: كيف قامت هذه الديانة العظيمة على أساس رقيق من الآداب التي ليس فيها الإيمان بالله، فلم تكن البوذية إلا طرقاً لرياضة النفس وقمع الشهوات، والتحلي بالفضائل، والنجاة من الألم، والحصول على العلم.

أشار إلى جزيرة العرب، وقال: في هذه المنطقة التي ولد فيها محمد لم يكن يعبد إلا التماثيل التي يصنعها الناس بأيديهم.

لقد كان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص، بل كان لكل بيت صنم خصوصي.

قال الكلبي: كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به، وإذا قدم من سفر كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضا[45].

وقد استهترت العرب عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتاً، ومنهم من اتخذ صنماً، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجراً أمام الحرم، وأمام غيره، مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت وسموها الأنصاب، وكان في جوف الكعبة وفي فنائها ثلاث مائة وستون صنماً، وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة.

عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً، جمعنا حثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة، فحلبنا عليه، ثم طفنا به[46].

وقال الكلبي: كان الرجل إذا سافر، فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها، فاتخذه رباً، وجعل الثلاث أثافي لقدره، وإذا ارتحل تركه.

وكان للعرب آلهة شتى غير هذه الأصنام من الملائكة والجن والكواكب، فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله ويعبدونهم ويتوسلون بهم عند الله، واتخذوا كذلك من الجن شركاء لله وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم[47].

وقال الكلبي: كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن.

وقال صاعد: كانت حِمْيَر تعبد الشمس، وكنانة القمر، وتميم الدبران، ولخم وجذام المشتري، وطيء سهيلاً، وقيس الشِّعري العبور، وأسد عطارداً[48].

أشار إلى مناطق أخرى، وقال: لم تكن الوثنية سائدة في بلاد العرب وحدها، بل كل هذه المناطق كانت لا تعرف دينا غير الوثنية المتطرفة.

لقد بلغت الوثنية أوجها في القرن السادس، فقد كان عدد الآلهة في (ويد) ثلاثة وثلاثين، وقد أصبحت في هذا القرن 330 مليون.

وقد أصبح كل شيء رائع، أو كل شيء جذاب، بل كل مرفق من مرافق الحياة إلهاً يعبد.

ولهذا جاوزت التماثيل والآلهة والإلاهات الحصر، وأربت على العد، فمنها أشخاص تاريخية، وأبطال تمثل فيهم الله في عهود وحوادث معروفة، ومنها جبال تجلى عليها بعض آلهتهم، ومنها معادن كالذهب والفضة تجلى فيها إله، ومنها نهر الكنج الذي خرج من رأس (مهاديو) الإله، ومنها آلات الحرب وآلات الكتابة وآلات التناسل وحيوانات أعظمها البقرة والأجرام الفلكية وغير ذلك، وأصبحت الديانة نسيجاً من خرافات وأساطير وأناشيد وعقائد وعبادات لم يستسغها العقل السليم في زمن من الأزمان.

وقد ارتقت صناعة نحت التماثيل في هذا العهد، وبلغت أوجها في القرن السادس والسابع، حتى فاق هذا العصر في ذلك العصور الماضية.

وقد عكفت الطبقات كلها، وعكف أهل البلاد من الملك إلى الصعلوك على عبادة الأصنام، حتى لم تجد الديانة البوذية والجينية منها بدا، وتذرعت هاتان الديانتان بهذه الوسيلة للاحتفاظ بحياتهما وانتشارهما في البلاد.

ويدل على ما وصلت إليه الوثنية والتماثيل في هذا العصر ما حكاه الرحالة الصيني الشهير (هوئن سوئنج) الذي قام برحلته بين عام 630 وعام 644 عن الاحتفال العظيم الذي أقامه الملك هرش الذي حكم الهند من عام 606 إلى 647  قال:« وأقام الملك احتفالاً عظيماً في قنوج، اشترك فيه عدد كبير جداً من علماء الديانات السائدة في الهند، وقد نصب الملك تمثالاً ذهبياً لبوذا على منارة تعلو خمسين ذراعاً، وقد خرج بتمثال آخر لبوذا أصغر من التمثال الأول في موكب حافل قام بجنبه الملك (هرش) بمظلة وقام الملك الحليف (كامروب) يذب عنه الذباب »

ويقول هذا الرحالة عن أسرة الملك ورجال بلاطه:« إن بعضهم كان من عباد (شو)، وبعضهم من أتباع الديانة البوذية، وكان بعضهم يعبد الشمس وبعضهم يعبد (وشنو)، وكان لكل واحد أن يخص من الآلهة أحداً بعبادته أو يعبدهم جميعاً»

بل إن الوثنية وصلت بهم حدا مقززا، فلم تكتف بارتباطها بالحجارة وغيره، بل ارتبطت فوق ذلك بالشهوة الجنسية الجامحة.

ولعل أشهر ديانة ارتبطت بذلك ديانات الهند منذ العهد القديم، فقد تناقلت الكتب الهندية، وتحدثت الأوساط الدينية عن ظهور صفات الإله، وعن وقوع الحوادث العظيمة وعن تعليل الأكوان روايات وأقاصيص عن اختلاط الجنسين من الآلهة وغارة بعضها على البيوت الشريفة تستك منها المسامع ويتندى لها الجبين حياء.

وتأثير هذه الحكايات في عقول المتدينين المخلصين المرددين لهذه الحكايات في إيمان وحماسة دينية وفعلها في عواطفهم وأعصابهم واضح، زاد إلى ذلك عبادتهم لآلة التناسل لإلههم الأكبر (مهاديو)، وتصويرها في صورة بشعة، واجتماع أهل البلاد عليها من رجال ونساء وأطفال وبنات.

أضف إلى ذلك ما يحدث به بعض المؤرخين من أن رجال بعض الفرق الدينية كانوا يعبدون النساء العاريات، والنساء يعبدن الرجال العراة.

وقد أصبح كثير من المعابد مواخير فساد، يترصد فيها الفاسق طلبته، وينال فيها الفاجر بغيته، وإذا كان هذا شأن البيوت التي رفعت للعبادة والدين، فما ظنك ببلاط الملوك وقصور الأغنياء!؟

2 ـ إكسير الإسلام

بعد أن استعرض توماس من ذاكرته التاريخية ما كان عليه أهل العصر الذي ولد فيه محمد r من انحطاط وارتداد وسقوط، قال لي: في هذا الوضع الذي ذبلت فيه شجرة البشرية جاء الإكسير الذي أعاد لها الحياة.

قلت: تقصد الإسلام.

قال: أجل.. لقد جاء الإسلام بتلك القيم النبيلة.. ولم يكتف بأن يبشر بها في جزيرة العرب، بل راح ينشرها على العالم.

فقد كان من مزايا الإسلام الكبرى التي خولت له هذا الدور كونه دينا عالميا.. لا يدبن به قومية من القوميات.. ولا شعب من الشعوب.

قلت: لقد تم ذلك بحد السيف؟

قال: هناك أمور اضطر فيها الإسلام إلى استعمال السيف.. ولكنه ليس من تلك الأمور إقناع الناس بالسيف.. ذلك أنه يستحيل أن تحصل أي قناعة بالسيف.

دعنا نكون واقعيين.. ولننظر ماذا فعل الإسلام لينقذ البشرية التي كانت تقف على حافة الهاوية.

1 ـ التحرير:

قلت: لقد بدأ الإسلام بنشر جيوشه التي ساحت في الأرض لتنشر الإسلام.

قال: أخطأ من قال ذلك.. الجيوش التي خرجت.. لم تخرج لتنشر الإسلام.. ولم تخرج لتقهر الناس على اعتناقه..

قلت: فقد خرجت لغايات اقتصادية إذن كما يقول الماركسيون الذين يفسرون حركة التاريخ بحركة الاقتصاد؟

قال: ولم تخرج لذلك أيضا.. ولو خرجت لذلك لاستولى المسلمون على أملاك من دخلوا أراضيهم.

قلت: فقد خرجوا لأنهم الجنس الأفضل كما قال الرومان، وكما قال النازيون، وكما يقول اليهود والأمريكان.

قال: لم يخرجوا لذلك أيضا.. فقد كانوا أعظم الناس تواضعا.. وأسرعهم انصهارا في الشعوب التي دخلوا إليها.

قلت: فلم انتشروا إذن؟

قال: لتحرير أولئك الذين استعبدهم القياصرة أو الأكاسرة، وحالوا بينهم وبين الحياة الحرة التي تكفل لهم اختيار ما يشاءون من دين، واختيار ما يشاءون حياة[49].

لقد خرجوا تنفيذا لما ورد في القرآن من نصرة المستضعفين.. خرجوا تنفيذا لما تأمره هذه الآية:﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)﴾(النساء: 75)

لقد أراد المسلمون من تلك الفتوح كسر شوكة السلطات الطاغية والمتجبرة التي كانت تحكم تلك البلاد، وتحول بين شعوبها وبين الاستماع إلى هدي الإسلام.

لقد كانت تلك السلطات ترى أن لها الحرية في هذا الجانب، فلذلك لا تريد إلا أن يبقى الناس على دينها ومذهبها، ولا يفكر أحد في اعتناق دين آخر، ما لم يأذن له كسرى أو قيصر، أو الملك أو الأمير.

لقد عبر القرآن على لسان فرعون قديما حينما أسلم سحرته، وآمنوا برب موسى وهارون، فقال لهم:﴿ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)﴾(الأعراف)

لقد كان حكم الأكاسرة والقياصرة والملوك في ذلك الزمن حاجزا حصينا دون وصول الدعوة العالمية إليهم، ولهذا حينما بعث محمد برسائله إلى هؤلاء الأباطرة والملوك، يدعوهم إلى الإسلام حملهم ـ في حال عدم استجابتهم ـ إثم رعيتهم:

فقال لكسرى فإن لم تسلم، فعليك إثم المجوس »

وقال لقيصر:« فإن لم تسلم، فعليك إثم الإريسيين »

وقال للمقوقس في مصر:« فإن لم تسلم، فعليك إثم القبط »

وهذا يؤكد المثل السائر في تلك الأيام.. ولا تزال له بعض الآثار.. (الناس على دين ملوكهم)

لقد أراد الإسلام أن يرد الأمور إلى نصابها، ويعيد للشعوب اعتبارها واختيارها، ولا سيما في هذه القضية الأساسية المصيرية، التي هي أعظم قضايا الوجود على الإطلاق: قضية دين الإنسان، الذي يحدد هويته، ويحدد غايته، ويحدد مصيره.

ومن هنا كانت الحرب الموجهة إلى هؤلاء الملوك والأباطرة، لهدف واضح، هو إزالة الحواجز أمام الدعوة الجديدة، حتى تصل إلى الشعوب وصولا مباشرة، وتتعامل معها بحرية واختيار، لمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيا عن بينة، دون خوف من جبار يقتلهم أو يصلبهم في جذوع النخل.

بالإضافة إلى ذلك.. فقد علمنا أن تلك الشعوب التي استولى عليها الأكاسرة والقياصرة كانت شعوبا مستعمرة، فقد كان العالم في الجاهلية تتنازعه دولتان عظيمتان: دولة الفرس في الشرق، ودولة الروم في الغرب، وذلك أشبه بما عرفناه وعايشناه في عصرنا من دولة الروس، ودولة الأمريكان، أيام الحرب الباردة بين الطرفين.

فقد سيطرت كل منهما على بعض البلاد، واتسعت رقعة تلك الدولة حينا على حساب الآخر، وانحسرت حينا آخر، كما نص القرآن على ذلك في قوله:﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)﴾(الروم)

لقد كانت دولة الفرس تملك بعض ديار العرب في العراق، وكانت الروم تملك بلادا أخرى في الشام، كما تملك مصر وغيرها في شمال أفريقيا.. وكان ذلك لونا من ألوان الاستعمار المتسلط المستكبر في الأرض بغير الحق.

وكان على الإسلام مهمة ـ باعتباره رسالة تحرير للعالم من عبودية البشر للبشر ـ أن يقوم بدور في إنقاذ هذه الشعوب.. ولهذا رأينا في رسالة محمد إلى قيصر والمقوقس وغيرهما تختم بهذه الآية من سورة آل عمران:﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)﴾(آل عمران)

اسمع هذه الآية جيدا.. ألا ترى فيها دعوة عامة إلى التحرير؟

لقد كان من الضروري مساعدة هذه الشعوب على التحرر من هذا المستعمر الغريب عنها، وهذا ما جعل هرقل يقول بعد دخول جيوش المسلمين إلى الشام:« سلام عليك يا سوريا، سلام لا لقاء بعده »

وقد كان الروم يعتبرون مصر بقرة حلوبا لهم، يحلبون ضرعها، وإن لم ترضع أولادها، ولهذا رحب الشعب المصري بالفاتحين الجدد، وفتح لهم صدره، وذراعيه، واستطاع المسلمون بثمانية آلاف جندي فقط أن يفتحوا مصر، ويحرروها من سلطان الروم إلى الأبد.

قلت: هكذا يبدأ المستعمر دائما.. فهو يتخذ من استبداد غيره مبررا لاستبداده، وهو لا يدخل عادة إلا بوصفه المنقذ والمخلص.

قال: ذلك صحيح مع جميع المستعمرين ما عدا الإسلام..

قلت: أنت تقول هذا.

قال: بل الحقائق تقول هذا.. والحقائق الكثيرة التي لا يمكن حصرها تقول هذا:

وأول الحقائق.. وهي لا تزال ماثلة أمامنا.. أن الناس الذي فتحت أراضيهم لم يدخلوا الإسلام دفعة واحدة، بل ظلوا على دينهم عشرات السنين، لا يدخل فيه إلا الواحد بعد الواحد.. حتى إن الرجل القبطي الذي أنصفه عمر، واقتص لابنه من ابن والي مصر، لم يدخل في الإسلام، رغم ما شاهد من عدالة بهرت الأبصار والألباب.

ألست ترى بلاد المسلمين هي البلاد الوحيدة في العالم التي تعج بجميع ألوان الطوائف.. ومع ذلك يعيش بعضهم مع بعض في غاية الاحترام؟

سكت، فقال: لو أن السيوف أرادت نشر الإسلام بالقوة لفعلت.. فقد كان في المسلمين من القوة ما لا يقف في وجهه أحد.. ولكنهم لم يفعلوا لسبب واحد هو أن القرآن يحرم عليهم أن يفعلوا.. ذلك أن السيف يمكنه أن يفتح أرضا، أويحتل بلدا، ولكن لا يمكنه أن يفتح قلبا.. ففتح القلوب وإزالة أقفالها تحتاج إلى عمل آخر، من إقناع العقل، واستمالة العواطف، والتأثير النفسي.

إن القرآن يخاطب المؤمنين بهذه الحقيقة ليقول لهم:﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(البقرة:256)

أنت ترى الآية صريحة بأنه لا إكراه ولا قهر في اعتناق الدين، وإنما ذلك متروك لعقل الإنسان وتفكيره غير المأسور لتعصب أو هوى أو تقليد أو حظ نفس.

فمن شرح الله صدره للإسلام دخله، ومن ختم على سمعه وبصره، ترك وشأنه دون قسر على الدين.

ولهذا اعتبر الإكراه على الإسلام من الذنوب.. واعتبر المكره على الإسلام غير مسلم.. لأن الإسلام لا يكون إلا عن قناعة.

لقد روي في سبب نزول الآية السابقة أن المرأة التي كانت لا يعيش لها ولد تجعل على نفسها إن عاش أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا ( أي لا ندعهم يعتنقون اليهودية)، فنزلت الآية تنهاهم عن ذلك[50].

انظر.. 

رغم أن محاولات الإكراه كانت من آباء يريدون حماية أبنائهم من التبعية لأعدائهم المحاربين الذين يخالفونهم في دينهم وقوميتهم، ورغم الظروف الخاصة التي دخل بها الأبناء دين اليهودية وهم صغار، ورغم ما كان يسود العالم كله حينذاك من موجات الاضطهاد للمخالفين في المذهب، فضلاً عن الدين، كما كان في مذهب الدولة الرومانية التي خيَّرت رعاياها حينًا بين التنصر والقتل، فلما تبنت المذهب الملكاني أقامت المذابح لكل مَن لا يدين به من المسيحيين من اليعاقبة وغيرهم.

رغم كل هذا، رفض القرآن الإكراه [51]..

لقد قال القرآن في آية أخرى:﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)﴾(يونس)

ويذكر القرآن عن نوح، وهو نبي من الأنبياء العظام.. وقد أمر القرآن بالاقتداء بالأنبياء:﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ (هود:28)

وقال:﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ (الزمر:41)

وقال:﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ (الشورى:6)

وقال:﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (قّ:45)

وقال:﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية:22)

وقال:﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ (الأنعام:107)

وقد قصرت الآيات دعوة الرسول والذين معه على البلاغ:﴿ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ (المائدة:99).. ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ﴾ (الشورى: من الآية48)

ففي هذه الآيات تصريح بأن دور محمد والذين معه مقصور على التبليغ لا أزيد من ذلك، وأنه أُرسل مبلغاً، ولم يُرسل حفيظاً عليهم، مسؤولاً عن إيمانهم وطاعتهم، حتى يمنعهم عن الإعراض، ويتعب نفسه لإقبالهم عليه.

قلت: هذا ما حصل في عهد محمد.. ولم يكن له من القوة ما يستطيع به أن يفرض دينه على الناس.. أما بعده.. وبعد غرور القوة.. فقد حصل ما لم يكن في الحسبان.

قال: لا.. ليس ذلك صحيحا.. هذا ما نقوله نحن.. وربما كنت قلت مثله في يوم من الأيام.. ولكن الحقائق تقول غير ذلك..

لقد نعم المسيحيون واليهود وغيرهم من أهل الأديان بسماحة لم يروها في حياتهم قط..

فهذا عمر ـ الذي كان مهابا من جميع ملوك العالم ـ  يأمر بصرف معاش دائم ليهودي، وعياله من بيت مال المسلمين، ثم يقول:« قال الله تعالى:﴿  إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)﴾(التوبة)، وهذا من مساكين أهل الكتاب »[52]  

ويمر في رحلته إلى الشام بقوم مجذومين من المسيحيين، فيأمر بمساعدة اجتماعية لهم من بيت مال المسلمين، من غير أن يفرض عليهم اعتناق الإسلام.

ولما أصيب بضربة رجل من أهل الذمة ـ وهو أبو لؤلؤة المجوسي ـ لم يمنعه ذلك أن يوصى الخليفة من بعده وهو على فراش الموت فيقول:« أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، أن يوفي بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفهم فوق طاقتهم»[53]  

وهذا عبد الله بن عمرو يوصي غلامه أن يعطي جاره اليهودي من الأضحية، ويكرر الوصية مرة بعد مرة، حتى دهش الغلام، وسأله عن سر هذه العناية بجار يهودي؟ فقال ابن عمرو:« إن النبي r قال:« ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه »[54]  

وماتت أم الحارث بن أبي ربيعه وهي نصرانية، فشيعها أصحاب محمد.

وكان بعض أجلاء التابعين يعطون نصيبًا من صدقة الفطر لرهبان المسيحيين، ولا يرون في ذلك حرجًا، بل ذهب بعضهم ـ كعكرمة وابن سيرين والزهري ـ إلى جواز إعطائهم من الزكاة نفسها.

وعن جابر بن زيد: أنه سُئل عن الصدقة فيمن توضع؟ فقال:« في أهل ملتكم من المسلمين، وأهل ذمتهم.. »[55]  

التفت إلي، وقال: هل سمعت بجيش منتصر يخرج من البلد الذى فتحه، لأن القائد المسلم لم يعطهم مهلة ثلاثة أيام؟

قلت: لم أسمع بذلك.. متى وقع ذلك.. أو بالأحرى هل وقع ذلك؟

قال: أجل.. لقد كان ذلك أغرب حادثة فى تاريخ البشرية..  

لما ولى الخلافة عمر بن عبد العزيز، وفدَ إليه قوم من أهل سمرقند، فرفعوا إليه أن قتيبة قائد الجيش الإسلامى فيها دخل مدينتهم، وأسكنها المسلمين غدراً بغير حق.

فكتب عمر إلى عامله هناك أن ينصب لهم قاضياً ينظر فيما ذكروا، فإن حكم بإخراج المسلمين من سمرقند خرجوا.

فنصب لهم الوالى (جميع بن حاضر الباجى) قاضياً ينظر شكواهم، فحكم القاضى وهو مسلم بإخراج المسلمين، على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامى بعد ذلك، وينابذهم وفقاً لمبادىء الحرب الإسلامية، حتى يكون أهل سمرقند على استعداد لقتال المسلمين، فلا يؤخذوا بغتة.

فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له فى التاريخ من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها، قالوا: هذه أمة لا تحارب، وإنما حكمها رحمة ونعمة، فرضوا ببقاء الجيش الإسلامى، وأقروا المسلمين أن يقيموا بين أظهرهم.

هل رأيت فى تاريخ الدنيا كلها جيشاً يفتح مدينة، فيشتكى المغلوبون للدولة المنتصرة، فيحكم قضاؤها على الجيش الظافر، ويأمر بإخراجه، ولا يدخلها بعد ذلك إلا بإقرار أهلها!؟ 

أرأيت فى التاريخ القديم والحديث حرباً يتقيد أصحابها بمبادىء الأخلاق والحق كما تقيد به جيش المسلمين!؟

قلت: ربما يكون هذا قد تحقق في بداية الإسلام.. ولكن بعد ذلك.. وفي العصور التي ضعف فيها الوازع الديني عاد الاستبداد ليفرض الدين بالقوة.

قال: لا.. ليس ذلك صحيحا.. لقد قرأت التاريخ.. فلم أر فيه إلا احترام أهل الذمة وعدم التعرض لهم.. لأن محمدا أوصى بهم[56].

لست الوحيد الذي اكتشف ذلك.. لقد اكتشفه كثير من أصدقائي من المستشرقين وغيرهم.. وسأسوق لك ما قاله صديقي (ول ديورانت ) في (قصة الحضارة) عن العهد الأموي مع ما كان فيه من استبداد بالمسلمين، لقد قال فيه:« لقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزرادشتيون، واليهود، والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرًا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص وأداء ضريبة عن كل شخص تختلف باختلاف دخله، وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير، ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان، والنساء، والذكور الذين هم دون البلوغ، والأَرِقَّاء، والشيوخ، والعَجَزة، والعُمي، والشديدو الفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية، أو إن شئت فقل لا يُقبلون فيها، ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها 2.5  بالمائة من الدخل السنوي [57].. وكان لهم على الحكومة أن تحميهم، ولم تكن تُقبل شهادتهم في المحاكم الإسلامية، ولكنهم كانوا يتمعتون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم، وقضاتهم وقوانينهم »[58]  

أما العصر العباسي، وهو العصر الذي ازدهرت فيه الحضارة الإسلامي، فقد احتل فيه الذميون مكانة محترمة [59]:

لقد اشتهر من بين أهل الذمة في العصر العباسي كثير من العظماء، مثل جرجيس بن بختيشوع طبيب الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وقد وثق الخليفة فيه وأكرمه.

ومن هؤلاء جبرائيل بن بختيشوع طبيب هارون الرشيد، الذي قال الرشيد عنه: كل من كانت له حاجة إلى فليخاطب بها جبريل؛ لأني أفعل كل ما يسألني فيه، ويطلبه مني. وكان مرتب الطبيب عشرة آلاف درهم شهريًا.

ومن هؤلاء ماسويه الذي كان الرشيد يجري عليه ألف درهم سنويًا، ويصله كل سنة بعشرين آلفًا.

وقد أشاد ترتون بتسامح المسلمين فقال:« والكُتّاب المسلمون كريمون في تقدير فضائل هؤلاء ممن على غير ملتهم، حتى ليسمون حنين بن إسحق برأس أطباء عصره، وهبة الله بن تلميذ بأبوقراط عصره، وجالينوس دهره »

وكان بختيشوع بن جبرائيل ينعم بعطف الخليفة المتوكل، حتى إنه كاد يضاهيه في ملابسه وفي حسن الحال، وكثرة المال، وكمال المروءة.. ولما مرض سلمويه بعث المعتصم ابنه لزيارته، ولما مات أمر بأن تحضر جنازته إلى القصر، وأن يصلى عليه بالشموع والبخور جريًا على عادتنا، وامتنع المعتصم يوم موته عن أكل الطعام.

أما يوحنا بن ماسويه فقد خدم الخلفاء العباسيين منذ الرشيد إلى المتوكل، وكان لا يغيب قط عن طعامهم، فكانوا لا يتناولون شيئًا من أطعمتهم إلا بحضرته، ومن ثم لم يكن هناك أدنى كُلفة بينه وبين الخليفة المتوكل، فكان الخليفة يداعبه في رفق ولين.

واشتهر من بين أهل الذمة كثير في ميدان الآداب والفنون، فيقول ترتون:« ظلت علاقات العرب برعاياهم في ميدان الآداب والفنون علاقات طيبة قائمة على المودة خلال القرنين الأول والثاني للهجرة، بل إن كثير من هذه المودة استمر بعد هذه الفترة، وقد اصطنعت الحكومة مهندسين وعمالاً من غير المسلمين »

بل درس كثير من الذميين على أيدي مدرسين وفقهاء مسلمين، من ذلك أن حنين بن إسحق درس على أيدي الخليل بن أحمد وسيبويه حتى أصبح حجة في العربية.

وتتلمذ يحيى بن عدي بن حميد ـ أفقه رجال عصره في المنطق ـ على يد الفارابي.

ودرس ثابت بن قرة على يد عليّ بن الوليد من رجال المعتزلة، وكان حسن الخط، متمكنًا من الأدب، وتدل مؤلفاته وكتبه على عمق تفكيره، وقوة معرفته. وما لبث أن اعتنق الإسلام بمحض رغبته[60].

ويضرب المؤرخ ترتون لتسامح العباسيين مع أهل الذمة مثلاً، فيقول:« يمكن اتخاذ إبراهيم بن هلال مثالاً لما قد يصير إليه الذمي من بلوغ أرفع المناصب في الدولة، فقد تقلد إبراهيم الأعمال الجليلة، فامتدحه الشعراء، وعرض عليه عز الدولة باختيار بن معز الدولة البويهي أن يوليه الوزارة إن أسلم فامتنع، وكان إبراهيم بن هلال حسن العشرة مع المسلمين عفيفًا في مذهبه، وكان بينه وبين الصاحب إسماعيل بن عباد، والشريف الرضي، مراسلات ومواصلات رغم اختلاف الملل، وكان إبراهيم حافظًا للقرآن »[61]  

وقد اعترف ترتون بتسامح الحكام المسلمين فقال:« كان سلوك الحكام المسلمين في الغالب أحسن من القانون المفروض عليهم تنفيذه على الذميين وليس أدل على ذلك من كثرة استحداث الكنائس وبيوت العبادة في المدن العربية الخالصة، ولم تخل دواوين الدولة قط من العمال النصارى واليهود: بل إنهم كانوا يتولون في بعض الأحيان أرفع المناصب وأخطرها، فاكتنـزوا الثروات الضخمة، وتكاثرت لديهم الأموال الطائلة، كما اعتاد المسلمون المساهمة في الأعياد المسيحية »[62]  

هذا عن الساسة أما العلماء، فقد ذكر القاضي عياض في (ترتيب المدارك) قال: حدث الدارقطني أن القاضي إسماعيل بن إسحاق [63]، وهو من أعلام المالكية، وقاضى بغداد (ت 282هـ)أن الوزير عبدون بن صاعد النصراني وزير الخليفة المعتضد بالله العباسي، دخل عليه، فقام له القاضي ورحب به، فرأى إنكار الشهود لذلك، فلما خرج الوزير قال القاضي إسماعيل: قد علمت إنكاركم، وقد قال الله تعالى:﴿  لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)﴾(الممتحنة)، وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين وهو سفير بيننا وبين المعتضد.. وهذا من البر »

بل إن الكثير من الأئمة والفقهاء الذين تتلمذوا على مدرسة محمد وقفوا مواقف مشرفة في الدفاع عن أهل الذمة، واعتبار أعراضهم وحرماتهم كحرمات المسلمين:

فهذا الفقيه الأصولي المحقق شهاب الدين القرافي يشرح معنى البر المذكور في القرآن، فذكر منه:« الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم ـ على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة ـ واحتمال إذايتهم في الجوار ـ مع القدرة على إزالته ـ لطفًا منا بهم، لا خوفًا ولا طمعًا، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم، إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم إلى جميع حقوقهم.. »[64]

قلت: ولكن أهل الذمة مع ما ذكرته من احترام المسلمين لهم لم يكن لهم وجود في السلطة ولا في الوظائف.. لأن الإسلام لا يقر أن يوظف مسلم غير مسلم..وذلك قد يكون نوعا من الإكراه.

قال: ومن قال ذلك.. لقد ذكر التاريخ الذي لا تجرح شواهده، ولا يجرح شهوده أن المسلمين الأوائل لما فتحوا أقطار الدنيا المعروفة يومئذ أبقوا الموظفين فى أعمالهم الأولى , فلم يكرهوا أحدا منهم على الإسلام , ولم يفصلوا رجلا عن عمله لكونه كافرا.

يقول الدكتور (ترتون):« كانت عادة الحكومة قد جرت على استعمال النصارى الذين قلما خلا منهم ديوان من دواوين الدولة، ونلاحظ فى سنة 253 هـ وجود إيصال ضريبة باللغتين العربية واليونانية. وقد استعملت اللغة العربية لأول مرة فى أعمال الحكومة بأصفهـان زمن أبى مسلم، كما أننا نرى رجلا مسيحيا يتولى إدارة السجن قريبا من الكوفة سنة 26 هـ وقت أن كان الوليد بن عقبة عاملا عليها، ولما تم للعرب فتح مصر أبقوا من فيها من العمال البيزنطيين » 

ويذكر هذا الدكتور الشواهد المثبتة لذلك، ومنها أن ابن الفرات رموه بالكفر لسوقه إمارة الجيش إلى أحد المسيحيين , فدافع عن نفسه بأنه اقتدى بالخلفاء السابقين الذين ولوا النصارى وظائف الدولة , وكان هؤلاء العمال النصارى يلقون كل مظاهر الاحترام إلا أن المسلمين رفضوا تقبيل أياديهم بعد أن فرض ذلك عليهم.

ويذكر أنه حدث فى بغداد أن دخل أحد الوزراء النصارى , واسمه عبدون بن صاعد على القاضى , إسماعيل بن إسحاق , فوقف له مرحبا، ولاحظ القاضى أن الشهود وبقية الحاضرين أنكروا عليه هذا العمل،. فلما خرج الوزير قال لهم القاضى: قد علمت إنكاركم , وان الله تعالى يقول:﴿ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة:8)، وهذا الرجل يقضى حوائج المسلمين , وهو سفير بيننا وبين خليفتنا , وهذا من البر , فأمن السامعون على قوله ورضوا به »

بل إن يؤخد على الحكام المسلمين إسرافهم  فى استخدام أبناء الديانات الأخرى الذين استغل بعضهم سماحة الإسلام فى معاملته لأهل الذمة استغلالا جعل أحد الشعراء يقول ـ منددا بعلو المنزلة التى وصل إليها اليهود ـ:

يهود هذا الزمان قد بلغوا غايــة آمالهم وقد ملكـوا

العز فيهم , والمال عندهمـو ومنهمو المستشار والملـك

يا أهل مصر إنى قد نصحت لكم تهودوا قد تهود الفلك

بل إنني أكاد أجزم بأن الكثير من الموظفين من اليهود والمسيحيين خانوا الأعمال التى وكلت إليهم , وانتهزوا فرصة توليهم المناصب الهامة , لخدمة الطوائف التى انحدروا منها, وإهانة جمهور المسلمين.. وقد استقرأت أحوال كثير من أولئك الموظفين , فوجدتهم يكيدون للدولة التى ائتمنتهم , والأمة التى احترمتهم.

 لقد حدث فى سنة سنة 977 م أن آلت الرياسة فى بلدة دقوقا إلى اثنين من النصارى وتمكنا بها وتصرفا فيها تصرف الحاكم , واستعبدا المسلمين.. فقدم بعض هؤلاء المسلمين على (جبرائيل بن محمد), وقالوا له: إنك تريد الغزو ولست تدرى أتبلغ غرضا أم لا؟ ونحن عندنا من هذين النصرانيين من قد تعبدنا وحكم علينا، فلو أقمت عندنا وكفيتنا أمرهما ساعدناك على ذلك..فقبض جبرائيل عليهما وصادر أملاكهما.

واستوزر المعز لدين الله عيسى بن نسطور النصرانى، واستناب بالشام منشة اليهودى، , فمال الوزير عيسى إلى النصارى , وشجع منشة اليهود، فضج الناس بالشكوى، فألقى الخليفة القبض عليهما , وأخذ من عيسى ثلاثمائة ألف دينار , وغرم منشة مبلغا ضخما.

وفى سنة 529 هـ استوزر الحافظ لدين الله مسيحيا أرمنيا يدعى بهرام، ويلقب تاج الدولة، وقد عمد بهرام هذا إلى فصل المسلمين من وظائفهم وتعيين المسيحيين بدلهم.. وقد كان مسلك هذا الوزير المتعصب سببا فى إثارة المسلمين ضده، وخصوصا لأنه أوعز إلى النصارى بالإسراف فى بناء الكنائس والأديرة حتى ظن أن الإسلام سينقرض من مصر..فلما هاج الجمهور ضده عزل عن الوزارة.

أنا أسألك.. ولا شك أنك تعرف تاريخ قومك: هل وجدت فى أى عهد من تاريخنا المسيحى من الملوك المسيحيين من استوزر يهودا أو مسلمين؟ بل فى أى عهد استوزر الكاثوليك بروتستانتيا أو بالعكس؟

سكت قليلا، ثم قال: لا شك أنك ترى استعمال غير المسلمين فى الوظائف الكبيرة والصغيرة أمرا شائع فى بلاد الإسلام إلى هذا العصر.

أما التعصب المسيحى فهو لم يتجه إلى اضطهاد أهل الأديان الأخرى فحسب، وإلى تحريم الوظائف الجليلة والتافهة عليهم، بل إن أتباع المذهب المسيحى الواحد يحرمون أن يلى عملا بينهم صاحب مذهب مسيحى آخر.

وقد حدث فى القرن الثامن عشر أن قتل محام بروتستانتى لأن القانون الفرنسي يومئذ يحظر مهنة المحاماة على البروتستانت، وقد حار هذا الحقوقى البائس بين التعطل والارتداد عن مذهبه إلى الكاثوليكية ليستطيع العمل فى مهنته. ماذا يصنع؟ أيترك عقيدته ابتغاء الرزق. ولكن ارتداده يثير عليه أسرته المتعصبة، ثم انتهت هذه الحيرة بمقتله، واتهم أبوه باغتياله فأعدم، وقيل: إنه انتحر يأسا، وأن أباه لم يقتله تعصبا وتعرف هذه القصة بمأساة  (كالاو)

وقد وقعت فى العصر نفسه قصة مشابهة تسمى مأساة (سيرفين) خلاصتها أن امرأة كاثوليكية كانت تخدم أسرة بروتستانتية، فأغرت ابنتها بالفرار إلى دير كاثوليكى حيث سيمت سوء العذاب لتغير عقيدتها، غير أن الفتاة تخلصت من عذابها بالانتحار غرقا فى بئر، فاتهمت السلطات الكاثوليك أباها بإغراقها ليحول دون ارتدادها عن دينها.. ثم صدر حكم قضائى بقتل الرجل وامرأته ومصادرة أملاكهما.

قلت: ربما يكون كل ما تذكره صحيحا في هذا.. وأنا لا أناقشك فيه.. ولكني أتحدث عن الحرية الدينية على وجه الخصوص.. أي حرية غير المسلم في إقامة شعائره الدينية، وبناء معابده التي يمارس فيها شعائره.

قال: لقد صان الإسلام هذا.. بل اعتبره من الميادين التي تشرع الحرب لأجلها، قد قال القرآن:﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾(الحج)

التفت إلي، وقال: أتدري  المقصود بالصوامع والبيع والصلوات؟

قلت: ما المقصود منها؟

قال: هذه كلها معابد لغير المسلمين [65].. وقد ذكرها القرآن في محل واحد مع المساجد، واعتبر القتال مأذونا به في حال تهديمها.

لم يذكر القرآن ذلك نظريا فقط..

بل قد تحقق ذلك عمليا.. فقد اشتمل عهد محمد إلى أهل نجران، أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم.

وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نص على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم، ففيه:« هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.. »[66]  

وفي عهد خالد بن الوليد لأهل عانات:« ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم »[67]  

لم يكتف الإسلام بهذا فقط.. بل إن من الفقهاء مَن أجاز لأهل الذمة إنشاء الكنائس والبِيَع وغيرها من المعابد في الأمصار الإسلامية، وفي البلاد التي فتحها المسلمون عنوة، أي أن أهلها حاربوا المسلمين ولم يسلموا لهم إلا بحد السيف إذا أذن لهم إمام المسلمين بذلك، بناء على مصلحة رآها، ما دام الإسلام يقرهم على عقائدهم.

وقد ذهب إلى ذلك الزيدية والإمام ابن القاسم من أصحاب مالك[68].

بل إن العمل قد جرى على هذا في تاريخ المسلمين، ومنذ عهد مبكر، فقد بُنِيت في مصر عدة كنائس في القرن الأول الهجري، مثل كنيسة (مار مرقص) بالإسكندرية ما بين (39 - 56 هـ)

كما بُنِيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم، في ولاية مسلمة بن مخلد على مصر بين عامي (47 - 68 هـ )

كما سمح عبد العزيز بن مروان حين أنشأ مدينة (حلوان) ببناء كنيسة فيها، وسمح كذلك لبعض الأساقفة ببناء ديرين.

وهناك أمثلة أخرى كثيرة على ذلك..

اذهب إلى كتاب (الخطط) للمؤرخ المقريزي، فسترى الأمثلة الكثيرة المثبتة لذلك.. لقد قال في نهاية سرده لها:« وجميع كنائس القاهرة المذكورة محدَثة في الإسلام بلا خلاف»[69]  

لقد استمر هذا السلوك الإسلامي المتسامح في جميع فترات التاريخ.. ففي العهد العثماني رأى بعض الخلفاء حينذاك أن الشعوب البلقانية المسيحية الخاضعة له لا تنفك عن الثورة والتمرد وإحداث الفتن والقلاقل، فرأى أن يجبرهم على دخول الإسلام، واستفتى شيخ الإسلام في عهده، وعلماء المسلمين، فأبوا فكرته محتجين بما ذكرنا سابقا من قول القرآن:﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)﴾(البقرة)

تصور.. لو أن الدولة العثمانية أرادت إكراه شعوب البلقان على الإسلام لتم لها ذلك في في جيل أو جيلين.. ولكن سماحة الإسلام أبت عليهم ذلك.

سكت قليلا، ثم قال: وهذا التسامح مع المخالفين في الدين من قوم قامت حياتهم كلها على الدين، وتم لهم به النصر والغلبة، أمر لم يُعهد في تاريخ الديانات.

التفت إلي، وقال: لقد وصلت إلى هذه النتيجة.. وقد وصل إليها قبلي الكثير من المستشرقين.. فهذا صديقي العلامة الفرنسي جوستاف لوبون يقول:« رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفًا أن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته »

وكمثل هذه الشهادة اعترف بعض علماء أوروبا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أمعنوا النظر في تاريخ المسلمين..

لقد قال روبرتسن في كتابه (تاريخ شارلكن) إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرًا لدينهم، تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحرارًا في التمسك بتعاليمهم الدينية »[70]

وقال كيرك:« إن غالبية أهل الشام ومصر السفلى في القرن التاسع كانت لا تزال مسيحية على الرغم من أن الإسلام قد مضى عليه في هذه البقاع أكثر من قرنين »

ليس الأمر خاصا بالشام أو مصر أو المغرب.. لقد كان عاما بكل البلاد:

لقد فتح المسلمون الأندلس، وظلوا هنالك ثمانية قرون.. فلم يفرضوا عقيدة الإسلام على مسيحيي الأندلس، بل دخل منهم من دخل الإسلام حبا فيه وإيمانا بصدقه، وبقى المسيحيون مسيحيين حتى ردوا للمسلمين الجميل بطردهم من الأندلس مع التعذيب والتنكيل والتشريد على أبشع صورة وعاها التاريخ.

لقد كانت الأندلس ـ إبان حكم المسلمين ـ هى الملاذ الآمن لليهود والمسيحيين على السواء، كلهم يشعرون فيها بالأمن الكامل فى ظل الحكم الإسلامى، بينما أوروبا كلها تضطهد اليهود وتنكل بهم، وبينما المسيحيون المخالفون لمذهب الكنيسة يعيشون فى رعب دائم من الإرهاب.

وفتح المسلمون الهند، وحكموها ثمانية قرون.. فلم يفرضوا العقيدة الإسلامية على الوثنيين الهنود، بل تركوهم لعقائدهم مع أن فيها مالا يعقله عاقل، من عبادة للبقر، وغيرها، وإنما فرضوا عليهم فقط أن يكفوا عن بعض عاداتهم الوحشية التى كانوا يمارسونها من دفن الأرملة حية مع زوجها المتوفى، أو حرقها حية.

وقد ظل الهندوس محافظين على عقائدهم وتقاليدهم فى ظل الحكم الإسلامى حتى تسلموا حكم الهند بمساعدة الصليبيين الإنجليز، فردوا الجميل للمسلمين بالعدوان المستمر عليهم وتحريق قراهم وتعمد الإثارة الدائمة لهم، والتهييج الدائم لخواطرهم.

سكت قليلا، ثم قال: أنا أتعجب من هؤلاء الذين يكيلون بمكاييل مختلفة.. فهم يمارسون على مخالفيهم كل أنواع الاستبداد، ثم يبررون ذلك بما تشاء لهم شياطينهم من مبررات.. فإذا جاء الإسلام لينشر على المجتمعات رايات العدل والعبودية والسماحة والوفاء وجميع الأخلاق الطيبة قامت الدنيا عليه ولم تقعد.

إن هؤلاء لا يكاودن ينكرون.. بل لا يكادون يلتفتون إلى أصحاب العقائد اللادينية الحديثة، ودعاة (الأيديولوجيات) الانقلابية في القرن العشرين.

لا يلتفتون إلى ما عاملوا به مخالفيهم في المذهب والاتجاه.. بل ماذا صنعوا ويصنعون بزملائهم في الفكرة، ورفقائهم في الكفاح، إذا خالفوا رأيهم، أو فكروا غير تفكيرهم.

إن هؤلاء لم يلتفتوا إلى المسلمين في الحبشة ـ مثلاً ـ وما يقاسونه من عنت واضطهاد وإهدار للحقوق الإنسانية، مع أنهم يكونون أغلبية السكان، ولهم أقاليم إسلامية خالصة لا يشاركهم فيها غيرهم[71].

ولم يلتفتوا إلى المسلمين في روسيا أو يوغسلافيا أو الصين أو غيرها من البلاد في فترة الحكم الاشتراكي[72].

لقد كان المسلمون في بعض الجمهوريات في روسيا وبعض الأقاليم في يوغوسلافيا والصين أكثرية ساحقة في عدد السكان.. ومع هذا يمنعون من أداء ما يعتقدون وجوبه كالصلوات الخمس والحج والتفقه في الدين وإنشاء المساجد التي تقام فيها شعائر الإسلام والمعاهد التي تمد هذه المساجد بالأئمة والمعلمين والخطباء..

ففلسفة الثوريين من الشيوعييين وأمثالهم تعتبر العنف في ذاته ضروري للتثقيف الانقلابي، ولرعاية (الديناميك) الثوري، وحفظ نقاء وصفاء هذا الديناميك.

فالحركة ـ كما يزعمون ـ تعتمد العنف كي تهز أو تحرك الشعب من سباته، وكي تحرضه دائمًا على الحركة، وكي تشحذ وجدانه الثوري.

والعنف يعني وضع الثورة أمام الشعب بشكل مستمر، كي لا يغفو الشعب أو تغيب الثورة عن وعيه وضميره، إنه ـ بعبارة أخرى ـ وسيلة في منع الشعب من اجترار الثروة كجزء من تقليد، وبطريقة غير واعية، إذ يعني ذلك موت الثورة [73].

ومما قاله أحد الدارسين للأيديولوجية اللادينية الحديثة:« يتخذ العنف عادة قبل الاستيلاء على الدولة شكلاً فرديًا يكون هدفه ـ كما حدده الفوضويون، وفي طليعتهم الفوضوية الروسية ـ التهويل وتفكيك السلطة، عن طريق الخوف، وإعداد الطريق بذلك للخطوة التالية، ألا وهي الاستيلاء على الدولة.

ولكن بعد الاستيلاء على الدولة يتحول هذا العنف إلى عنف جماعي هدفه ترسيخ السلطة وتثبيتها بدلاً من تفكيكها، فبينما يتجه العنف الفردي إلى أفراد في مراكز رئيسية حساسة، يتجه العنف الجماعي الانقلابي الجديد صوب الشعب ككل، أو صوب جماعة معينة. إن الهدف من العنف الثاني ليس اعتماد الخوف فقط، بل إزالة العدو من الوجود، كي ينسجم المجتمع مع المذهب الجديد »[74]  

وقد ارتكب الشيوعيون ـ بسبب هذه الفلسفة ـ في روسيا من الفظائع والمذابح، عند القيام بثورتهم وبعدها ما لا يخطر ببال، وما يفوق كل خيال، حتى إن بعض معاوني (لينين) ـ مؤسس الجولة الشيوعية الأولى في هذا العصر ـ أخذوا يتذمرون من التضحيات الكبرى بالدماء والأرواح التي نتجت عن الحرب الأهلية، فلما كلَّموه في ذلك كان جوابه بكل بساطة:« ليس للأمر أهمية أبدًا إن مات ثلاثة أرباع الشعب، إن ما يهمنا هو أن يصبح الربع الباقي شيوعيًا »[75]  

أما ما وقع في عهد (ستالين) من مجازر وفظائع، وما شهده الشعب من حمامات الدم، وحملات التطهير المتلاحقة، فحدِّث ولا حرج، وقد جرت به أنهار الصحف، وتناقلته أنباء العالم في عهد (خروشوف)، ولا يتسع المجال لذكر نماذج منه هنا[76].

قلت: ذلك المعسكر الشرقي.. وقد أثبتت الأيام فشله.. ونحن الآن في واقع آخر أكثر احتراما للرأي.

قال: تقصد المعسكر الغربي..

قلت: أجل.. فقد زال كابوس الاتحاد السوفيتي..

قال: ولكن كابوس الولايات المتحدة الأمريكية لا يزال يملأ أحلام الصبيان بالرعب..

إن ما تفعله أمريكا.. وما يفعله إخواننا وأهل بلادنا.. لا يقل عما فعله الروس وغيرهم من أهل المعسكر الشرقي..

أخرج ورقة (دولار) من فئة الدولار الواحد، وأشار إلى بعض أطرافها، وقال: أتدري ما كتب في هذا الطرف؟

قلت: لا طاقة لي بفهمه، ولا بقراءته.

قال: لقد كتب باللاتينية  (النظام العالمي الجديد)

قلت: إن هذا هو الشعار الذي أطلقه الرئيس السابق للولايات المتحدة جورج بوش الأب في سياق حملته المسعورة ضد العراق في حرب الخليج الثانية[77].

قال: إن هذه العبارة الموجزة تمثل حقيقة وجود الولايات المتحدة الأمريكية، هذا الوجود الذي قام منذ بدايته على أنقاض شعب بأكمله ذبحتهم آلة الاستيطان الأمريكية لتمحو من على وجه قارة بأكملها شعباً كان يسمى بالهنود الحمر، فإذا ببقايا بقاياهم اليوم أعداد تافهة في مستعمرات أقرب إلى حظائر البهائم منها إلى ديار البشر.

وبعد جريمة الإبادة هذه التي كانت حصيلتها بالملايين ظهرت نزعة استعلاء أخرى تمثلت في استعباد واسترقاق ملايين الأفارقة السود ـ وكثير منهم من المسلمين ـ ليكونوا آلة الحرث التي تسوى بها البلاد، وكير الحدادة الذي تؤسس به صتاعاتها.

ثم لم تلبث أن مدت الولايات المتحدة الأمريكية أذرع الاستكبار الأخطبوطي عبر العالم لاستنزاف ثروات الشعوب، ونهب خيراتها والعبث بمصيرها، فما من منطقة في العالم قد سلمت من حرب أو آثار حرب أمريكية.

خذ على سبيل المثال لا الحصر بعضاً من الحروب الدامية التي لوثت بها أمريكا يديها في القرن العشرين: الحرب الأمريكية الإسبانية (1898)، والحرب الأمريكية الفليبينية ( 1899)، والحرب الأمريكية الصينية (1900)، والحرب العالمية الأولى (1917-1918)، والحرب العالمية الثانية (1941-1945)، والحرب الكورية (1950-1953)، والحرب الأمريكية الفيتنامية (1961- 1973)، وحرب الخليج الثانية ( 1991)، والحرب العدوانية على أفغانستان، والتي لم تنته بعد.. وأخيرا الحرب العدوانية الهمجية على العراق سنة  2003، والتي لم تنته بعد.. والتي زعم أن سببها هو نشر الديمقراطية.. فهل يباح للديمقراطية ـ والتي لا تعني إلا مصالحهم الضيقة ـ أن تنشر بالسيف، ولا يباح للإسلام ـ دين المبادئ العظيمة ـ أن يستعمله ليزيح عن المستضعفين أغلال الطواغيت.

سكت قليلا، ثم قال: هذا قليل من كثير.. ولو أني مضيت في ذكر الأمثلة الكثيرة المثبتة لطبيعة المد التوسعي الذي تمارسه الولايات المتحدة لانتهى النهار دون أن ننتهي من ذكر ذلك.

وحسبنا الواقع المشاهد من تصريحات القيادة الأمريكية الحالية لنقف على خطورة الأمر، فقد سمع العالم أجمع تصريحاته في سياق حملته المسعورة على ما سماه (الحرب ضد الإرهاب)، والتي هي في حقيقتها (حرب ضد الإسلام) حيث صرح بأنه سيعلنها حرباً صليبية، ولا يدع للناس خياراً سوى الانضواء تحت راية الولايات المتحدة، أو اعتباره عدواً لها.

قلت: ذلك رجل لا دين له.. وهو لا يحظى باحترام أحد من الناس.. وهو إن مثل طائفة من الطوائف فهو لا يمثل المسيحية.. بل هو لا يمثل إلا تلك الطبقات التي لا تعبد إلا الدولار، ولا تسبح إلا بحمد البترول.

قال: وإخواننا من المسيحيين المسالمين في ظواهرهم لا يقلون شأنا[78]..

قارن ما سجله التاريخ للمسلمين حينما فتحوا الأندلس، بما سجل لخصومهم المسيحيين، حينما قُدِّر لهم أن ينتصروا عليهم، بعد ثمانية قرون عَمَّروا فيها بلاد الأندلس بالعلم والنور، وأقاموا فيها حضارة باهى بها التاريخ[79]:

لقد ذكر التاريخ أن الكنيسة الأسبانية غضبت لانتشار فلسفة ابن رشد وأفكاره، وخصوصًا بين اليهود، فصبت جام غضبها على اليهود والمسلمين معًا، فحكمت بطرد كل يهودي لا يقبل المعمودية، وأباحت له أن يبيع من العقار والمنقول ما يشاء بشرط ألا يأخذ معه ذهبًا ولا فضة، وإنما يأخذ الأثمان عروضًا وحوالات.

وهكذا خرج اليهود من إسبانيا تاركين أملاكهم لينجوا بأرواحهم، وربما اغتالهم الجوع ومشقة السفر، مع العدم والفقر.

وحكمت الكنيسة كذلك سنة 1052م على المسلمين الذين كانت تسميهم (أعداء الله) بطردهم من إشبيلية وما حولها إذا لم يقبلوا المعمودية، بشرط ألا يذهبوا في طريق يؤدي إلى بلاد إسلامية، ومن خالف ذلك فجزاؤه القتل.

سكت قليلا، ثم قال: لم يكن اضطهاد الكنيسة لمخالفيها قاصرا على اليهود أو المسلمين، بل كان شاملا لكل مخالف حتى المسيحيين أنفسهم الذين لهم رأي أو مذهب يخالف مذهب الحكام، أو مذهب الكنيسة المعتمدة لديهم.

لاشك أنك قرأت ما جرى للعالم المصري (آريوس) وأتباعه الذين عارضوا القول بألوهية المسيح، في مجمع نيقية المشهور (325م)، وكيف قرر هذا المجمع ـ بعد أن طرد من أعضائه كل المعارضين ـ وهم الأكثرية ـ إدانة (آريوس) وإحراق كتاباته، وتحريم اقتنائها، وعزل أنصاره من كل الوظائف، ونفيهم، والحكم بالإعدام على كل من أخفى شيئًا من كتابات (آريوس) ومن أيَّد مذهبه.

وباستمرار الاضطهاد للداعين إلى التوحيد اختفوا تمامًا من المجتمعات المسيحية، ولم يبق لدعوتهم أثر.

لقد كان هذا محل سخرية من بعض الباحثين، فقال:« إن الاختلافات اللاهوتية بين المسيحية في تفسير بعض أقوال أو مبادئ التوراة، كانت تؤدي إلى قتال يحصدهم حصدًا: أن يشتق الروح القدس من الأب والابن، أومن الابن وحده.. أو أن يكون الخبز والنبيذ جسدًا ودمًا أو لا يكونا.. أو أن يكون المسيح ذا طبيعتين أو لا يكون: طبيعة إنسانية وطبيعة إلهية… كانت كلها مماحكات مات الناس في الدفاع عنها والخصام حولها بعشرات الألوف، وعذب المؤمنون بعضهم بعضًا في سبيلها بأشد أنواع التعذيب »[80]  

ولما ظهر مذهب البروتستانت في أوروبا ـ على يد (لوثر) وغيره ـ قاومت الكنيسة الكاثوليكية أتباع هذا المذهب بكل ما أوتيت من قوة، وعرف تاريخ الاضطهاد مذابح بشرية رهيبة، من أهمها مذبحة باريس في 24 أغسطس عام 1572م التي دعا فيها الكاثوليك البروتستانت ضيوفًا عليهم في باريس للبحث في تسوية تقرب بين وجهات النظر، فما كان من المضيفين إلا أن سطوا على ضيوفهم تحت جنح الليل، فقتلوهم خيانة وهم نيام.. فلما طلع الصباح على باريس كانت شوارعها تجري بدماء هؤلاء الضحايا، وانهالت التهاني على (تشارلس التاسع) بغير حساب من البابا، ومن ملوك الكاثوليك وعظمائهم.

والعجيب أن البروتستانت لما قويت شوكتهم، قاموا بدور القسوة نفسه مع الكاثوليك، ولم يكونوا أقل وحشية منهم[81].

لقد قال (لوثر) يحرض أتباعه على ممارسة كل أساليب القمع مع مخالفيهم:« من استطاع منكم فليقتل، فليخنق، فليذبح، سرًا أو علانية، اقتلوا واخنقوا، واذبحوا، ما طاب لكم، هؤلاء الفلاحين الثائرين »[82]  

وقد ذكر (فيارك) أن الحرب الدينية الثلاثينية قضت حرفياً في ألمانيا وحدها على أكثرية الشعب الألماني بين قتل وجوع، وحرقت معظم مدنها المزدهرة، وحولتها إلى رماد‍‍.

سكت قليلا، ثم قال: أتدري إلى ما يرمز الصليب؟

قلت: للصليب رموز روحية كبرى.. إنه رمز الفداء.. ورمز المحبة..

قاطعني، وقال: أضف إلى هذه الرموز رمزا جديدا.

قلت: ما هو؟

قال: سفك الدماء.. وكبت الحريات.. والاستبداد.

قلت: كيف تقول هذا؟

قال: أنا أقول الحقيقة التي حفظها التاريخ.. ولكن أبناء شعبنا نسوها.. إنهم يسخرون من سيف محمد الذي حرر به المستعمرين، وأعتق به العبيد، ولا يسخرون من صلباننا التي دعانا قسطنطين لحملها.

قلت: لم يدعنا قسطنطين لذلك.

قال: سأقص عليك قصة ثبتت عندي.. ولا حرج عليك في إنكارها، فكل الدلائل تدل عليها.. بها يتبين لك أن صلباننا رمز مؤلم يذكرنا بتاريخ دموى اقترن بها منذ اتخذناها رمزا لديانتنا.

إن الصليب لم يعتمد كرمز رسمى للمسيحية، ولم يوضع على الكنائس والحوائط والصدور بهذا الشكل إلا فى عهد قسطنطين.. ذلك الامبراطور الوثنى الظالم.

سأقص عليك القصة من البداية لتعرف كيف انتشرت المسيحية..

عندما كان قسطنطين يقاتل مكسنتيوس فى صراع دنىء من أجل السيطرة على الشق الشرقى والغربى من الامبراطورية الرومانية، ادعى أنه رأى بعد غروب الشمس هالة من النور فى السماء على شكل صليب، وتحتها عبارة (بهذا تنتصر)، فلما نام نام رأى فى منامه صورة المسيح ومعه الصليب نفسه، وأمره باتخاذ الصليب شعارا له، ثم الزحف على عدوه فورا.. وصدق قومنا المساكين رؤيا قسطنطين، كما صدقوا قبلها خرافة بولس.

فكانت ولادة رمز الصليب مقترنة بالدماء..

لقد سار ناس كثيرون خلف قسطنطين بسبب هذه الرؤيا العجيبة.. وقاتلوا في المعركة قتالا مستميتا.. لا من أجل المسيح ولا من أجل المسيحية، و إنما من أجل السلطان و النفوذ.

إن الصليب ـ يا صاحبي ـ ليس رمزا للفداء والتضحية والمحبة.. إنه رمز الحرب والقتل والدماء.. فقسطنطين لم ير صليبا يأمره بالتقوى وبحقن الدماء، بل رأى صليبا يقول له (بهذا تغلب) أى بهذا تسفك دماء أعداءك وتذبحهم , وبهذا تزيد من نفوذ الدولة الرومانية الغاشمة وتحافظ على ملكك الدنيوى الحقير.

إن الصليب يرمز إلى الحقيقة العظيمة التي حاولنا أن نرمي بها الإسلام.. وهي أن المسيحية هي التي انتشرت بالسيف لا الإسلام.. لقد ظلت المسيحية قبل ذلك، ولمدة 300 عام دعوى مغمورة لا يتبعها سوى 10 بالمائة من سكان الامبراطورية الرومانية حتى عهد قسطنطين وأبنائه الذين ساموا أتباع الديانات الأخرى من الوثنيين فى الامبراطورية سوء العذاب.

واستمر الصليب رمزا للدماء..وسبيلا لنشر المسيحية.. سأذكر لك بعض النماذج عن كيفية انتشار المسيحية في العالم:

ولنبدأ بالإمبراطورية الرومانية التي كانت تسيطر على كل أوروبا، فقد كان فرضها للمسيحية بالسيف على كل أوروبا هو المتبع من قبل الأباطرة الرومان، وقد ظل شارلمان يحارب السكسونيين ثلاثة و ثلاثين سنة كلها عنف و دموية حتى أخضعهم، وحولهم قسرا إلى الديانة المسيحية، كما تطلب ثمانى رحلات متتابعة حتى هزم الأفاريين الذين قيل عن أسلاب كنوزهم المكدسة أنها رفعت شارلمان من أعالى الغنى و الثروة إلى شاهق الفيض والوفرة، وكان فرض المسيحية على السكسونيين على يد ليودجر وويليهاد.

وقد ذكر (بريفولت) أن تقدير المؤرخين للناس الذين قتلتهم المسيحية في انتشارها ـ أي في أوروبا ـ يتراوح بين سبعة ملايين كحد أدنى، وخمسة عشر مليون كحد أعلى[83].

إن فظاعة هذا العدد تتضح لنا عندما نذكر أن عدد سكان أوروبا آنذاك كان جزءًا ضئيلاً فقط مقارنة بعدد سكانها اليوم.

وقد أكرهت مصر على اعتناق المسيحية، ولكنها هبطت بذلك إلى الحضيض الذى لم ينقذها منه سوى الفتح الإسلامى.. حتى الذين ظلو على الكفر كان الفتح الإسلامى منقذا لهم من اضطهاد الروم (الكاثوليك)، فكان فتح مصر و تسامح الإسلام سببا فى خروجهم من الكهوف التى كانوا يختبئون فيها.

وفى الدنمارك، كان للملك كونت دور خطير فى نشر المسيحية فى ممتلكاته بالقوة والإرهاب، ومن ثم أخضع الأمم المغلوبة على أمرها للقانون المسيحى بعد أن اشتبك مع الممالك المتبربرة فى حروب طاحنة مدفوعا بما كان يضطرم فى نفسه من الشوق إلى نشر العقيدة.

وفى روسيا انتشرت المسيحية على يد جماعة اسمها (إخوان السيف).. وقد دخلت قبل ذلك على يد فلاديمير دوق كييف (985-1015)، وهو سليل رورك، ويضرب به المثل فى الوحشية والشهوانية، إذ جاء إلى الدوقية فوق جثة آخر إخوته، واقتنى من النسوة ثلاثة آلاف وخمسمائة.. على أن ذلك كله لم يمنع من تسجيله قديسا فى عداد قديسى الكنيسة الأرثوذوكسية، لأنه الرجل الذى جعل كييف مسيحية، وقد أمر فلاديمير بتعميد أهل دوقية روسية كلهم كرها فى مياه نهر الدنيبر.

وقد سمل باسيليوس الثانى وهو من أكبر ناشرى المسيحية في روسيا أعين 15 ألف من الأسرى البلغار إلا مئة و خمسين منهم أبقى لكل منهم عينا واحدة ليقودوا إخوانهم فى عودتهم لبلادهم.

أما فى النرويج فقد قام الملك أولاف ترايفيسون بذبح الذين أبو الدخول فى المسيحية، أو بتقطيع أيديهم وأرجلهم أو نفيهم و تشريدهم.. وبهذه الوسائل نشر المسيحية في (فيكن ) القسم الجنوبى من النرويج بأسرها.

أما فى الأمريكيتين، فقد كانت المأساة الكبرى.. لقد حصلت إبادة عشرات الملايين من الهنود الحمر.. وإبادة حضارة الأنتيل.. وإبادة حضارة المايا.. وإبادة حضارة الأزتيك.. وإبادة حضارة الأنكا فى بيرو..

وقد نشرت الصحف صورة لما رافق اكتشاف جزيرة هايتى على يد الإسبان، وكانت المادة العلمية تحتها تقول وانشغل ضباط أسبان ـ وهم خلفاء المستكشف صاحب الحملة ـ باكتشاف جزيرة هاييتى واحتلالها وكانت ما تزال أرضا مجهولة، وقد تولى هذه المهمة كل من دينغو فلاسكيز وبانفليو دونارفيز، فأبديا من ضروب الوحشية ما لم يسبق له مثيل متفنيين فى تعذيب سكان الجزيرة بقطع أناملهم وفقء عيونهم وصب الزيت المغلى والرصاص المذاب فى جراحهم، أو بإحراقهم أحياء على مرأى و مسمع من الأسرى، ليعترفوا بمخابىء الذهب و ليهتدو إلى دين المحبة »

وقد حاول أحد الرهبان إقناع الزعيم (هايتهاى) باعتناق المسيحية، وكان مربوطا إلى المحرقة، فقال له: إنه إذا تعمد يذهب إلى الجنة, فسأله الزعيم الهندى قائلا: وهل فى الجنة إسبان؟

فأجابه: نعم ماداموا يعبدون الإله الحق.

فقال الزعيم الهندى: أنا لا أريد أن أذهب إلى مكان أصادف فيه أبناء هذه الأمة المتوحشة!!

ومن أمثلة ما فعله المسيحيون فى أطفال الإنكا و المايا والأزتيك أن قابل مسيحيون هندية، وكانت تحمل بين ذراعيها طفلا تقوم بإرضاعه، وبما أن الكلب الذى كان يرافقهم كان جائعا فقد انتزعوا الطفل من بين ذراعى أمه ورموه للكلب الذى أخذ ينهشه على مرأى من أمه.

وعندما كان بين السجناء بضع نساء وضعن حديثا، فإنهم ما إن كان الاطفال الذين ولدوا حديثا يأخذون فى الصراخ يمسكونهم من سيقانهم ويصرعونهم فى الصخور.

وعند وصول الجنود إلى القرية بعد الإفطار على العشب راودت الإسبان فكرة جديدة، وهى التحقق مما إذا كانت سيوفهم قاطعة بالدرجة التى تبدو بها.. فجأة يستل الإسبانى سيفه، وسرعان ما يحذو المائة الآخرون حذوه ويشرعون فى تمزيق أحشاء وذبح هذه الشياه من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ الذين كانو جالسين مطمئنين يتفرجون فى عجب على الجياد والإسبان، وفى ثوان معدودة لا يبقى أحد من هؤلاء الأبرياء على قيد الحياة حتى سال الدم فى كل مكان، كما لو أنه قد جرى ذبح قطيع كامل من الأبقار.

ولا يجد (لاس كاساس) أى تفسير لهذه الوحشية.. لقد كان مشهد الجراح التى تغطى أجساد الموتى مشهد رعب و ذعر على حد قوله، ولم تنبس الكنيسة (صاحبة السلطة الدينية و الزمنية) ببنت شفة تجاه كل ما كان يحدث من مذابح.. بل لا تجد إلا مباركتها.

و قد وصل الحد فى أمريكا فى عهد هجرة الأيرلانديين البرتستانت أن صدر قانون يجيز إبادة الهنود الحمر فى كل مكان يتواجدون فيه، لأن أمريكا كانت هى أرض الميعاد وفق تفسير البروتستانت للكتاب المقدس وقتها.. وهذا التحريف ليس بجديد، فهم الآن يساعدون اليهود فى ذبح المسلمين فى فلسطين لأن التفسير الحديث للكتاب المقدس يستلزم ذلك حتى يمهدو الأجواء لعودة المسيح..

وفي أستراليا ما رس الإنجليز نفس الأسلوب فى حق سكان الأصليين لأستراليا.

يقول القس فرانزغريس:« إن االأمم المسيحية وأكثر من ذلك تاريخ الكنيسة بالذات مضرج بالدماء، ملطخ، ولربما أكثر تضرخا ووحشة من أى شعب وثنى آخر فى العالم القديم, إن أمما ذوات حضارات زاهية باهرة قد أزيلت وأبيدت ومحيت ببساطة وسهولة من الوجود وكل ذلك باسم النصرانية »

لم يقتصر دور السيف الذي يرمز له الصليب في نشر المسيحية فقط.. بل كان له دور آخر.. وهو نصرة طوائف المسيحية بعضها على بعض..

لقد كانت حرب الكنيسة ضد حركات الانشقاق الديني دائما، عندما كانت الكنيسة قادرة على ذلك، حرب إفناء، ثم كانت بعض هذه الطوائف المنشقة ترغب في أن تكون حربها هي الأخرى حرب إفناء لجميع أتباع الكنيسة.

وقد ذكر (رينو)فى كتابه (مختصر تاريخ الحقوق الفرنسية) أن فرنسا أصدرت عام 1685م أمرا بتحريم الديانة البروتستانتية وهدم كنائسها ونفى رؤسائها، وفى عام 1715م عدت كل زواج لا يعقد على الطريقة الكاثوليكية غير مشروع.

وفى عام 1724 حرم البروتستانت من تولى الوظائف، وأمرت فرنسا بأخذ الأطفال البروتستانت عنوة من أمهاتهم ليربوا تربية كاثوليكية[84].

أما عن محاكم التفتيش، فحدث ولا حرج.. لقد اشتدت وطأة هذه المحكمة حتى قال أهل ذلك العهد:« يقرب من المحال أن يكون الشخص مسيحيًا ويموت على فراشه»

لقد حكمت هذه المحكمة من يوم نشأتها سنة 1481م حتى سنة 1808م على 340000 نسمة، منهم 200000 أحرقوا أحياء.

وقد ذكر (لي) في دراسته الكلاسيكية حول محاكم التفتيش في القرون الوسطى أن جميع المحاكم والقضاة في الحاضر والمستقبل، كانوا ملزمين بأن يُقْسموا على إزالة كل الذين تعتبرهم الكنيسة كفرة، وإلا فإنهم يخسرون مراكزهم، إن أي حاكم زمني يهمل لعام واحد ـ بعد دعوة الكنيسة بأن ينظف الأرض التي يملكها من الكفرة ـ تصبح أرضه من حق كل من يفني الكفرة ويقضي عليهم. جنَّد (مرسوم الإيمان) ـ الذي اعتمدته محاكم التفتيش في متابعة المارقين ـ الشعب كله في خدمة المحاكم، وفُرِض على كل فرد أن يشي بالغير وأن ينبئها بأي عمل كافر أو مارق[85].

والمؤسف في الأمر.. والخطير فيه.. أن تلك الفظائع والمذابح التي قام بها المسيحيون ضد خصومهم كانت تستند إلى الكتاب المقدس الذي علمهم كيف يتعاملون مع خصومهم، فقال:« اهدموا معابدهم، واقذفوا أعمدتها إلى النار، واحرقوا جميع صورها ».. كما توصى التوراة بتحريق المدن بعد فتحها، وقتل كل من فيها من رجال ونساء وأطفال[86].

ولهذا كان الذين يقومون بتلك العمليات الوحشية يزعمون لأنفسهم أنهم يتقربون إلى الله وينفذون إرادته، ويعجلون لأعدائه بعض النقمة التي تنتظرهم في الآخرة.

وقد عبرت عن ذلك ملكة إنجلترا ـ الكاثوليكية ـ في القرن السادس عشر (ماري) حين أعلنت مرة تقول:« بما أن أرواح الكفرة سوف تحرق في جهنم أبدًا، فليس هناك أكثر شرعية من تقليد الانتقام الإلهي بإحراقهم على الأرض »[87]

2 ـ الدعوة:

قلت: وعيت هذا، فقد ذكرت لي من الحجج ما لا يمكنني أن أعارضك فيه.. ولكني أتساءل عن سر انتشار الإسلام مع كونه لم يستعمل أي شدة أو عنف في فرضه.

قال: شيئان، كلاهما يطلق عليه الإسلام (الدعوة)

قلت: ما هما؟

قال: السلوك الطيب الذي أبداه المسلمون مع أهل البلاد التي دخلوا إليها، ووسائل الإقناع بالحجة والبراهين التي مارسوها.

قلت: فحدثني عنهما.

قال: أما في عهد محمد.. فقد كانت سيرة محمد الممتلئة بالطهارة والصدق والإيمان تجذب القلوب إليه جذبا.. فلذلك دخل الكثير إلى الإسلام بسبب سلوكه وأخلاقه وإيمانه وما كان له من الدلائل الكثيرة التي أرشدتهم إلى نبوته.

وأما في عهد من بعده.. فقد كان سلوك محمد الذي ورثه أتباعه وراحوا ينشرون طيبه هو السر في دخول الناس في الإسلام أفواجا.

لقد شهد أصدقاؤنا من المستشرقين للإسلام بهذا..

لقد قال أوليفر:« إن الإسلام لم يأخذ طريقه خلف الصحراء بإفريقية، إلا بعد انحلال دولته الكبرى في المغرب، وكانت وسيلة الإسلام لهذه البقاع هي الثقافة والفكر والدعوة، فانتشر الإسلام بين شعوب البربر، وقامت خلف الصحراء دول إسلامية لعبت في التاريخ دورا كبيرا »

وقال اللورد هدلي:« لا أظن أبدا أن المسلمين اجتهدوا في حين من الأحيان أن يحشوا أفكارهم ومعتقداتهم الدينية في حلوق الناس وصدورهم بالقوة أو الفظاعة أو التعذيب، ولم يشهر محمد السلاح إلا حين الحاجة القصوى لحماية البشرية، وإن أعداء الإسلام لأعجز من أن يأتوا بدليل أومثل من الأمثلة التي أثرت فيها الحرب على هداية قبيلة واحدة أو شخصواحد »

ويقول المسيو (هنري ديو كاستري)، وهو أحد حكام الجزائر الفرنسيين في كتابه عن الإسلام:« هكذا كانت تعاليم النبي محمد بعد أن دخل العرب في الإسلام، وقد اقتفى أثره خلفاؤه من بعده، وذلك يضطرنا الى القول بما قاله (روبنسون) قبلنا: أن شيعة محمد هم وحدهم الذين جمعوا بين محاسنة الأجانب، ومحبة انتشار دينهم، هذه العاطفة هي التي أثرت دفعتهم في سبيل الفتح وهو سبب لا حرج فيه... فنشر القرآن جناحيه خلف جيوشه الظافرة، وانقضوا انقضاض الصاعقة على افريقيا الشمالية من البحر الاحمر الى المحيط الاطلسي، ولم يتركوا أثرا للعنف في طريقهم، إلا ما كان لا بد منه في كل حرب، ولكنهم لم يبيدوا أمة قط أبت الإسلام »

أنا لم أكتف بالشهادات وحدها.. وإن كان لها تأثيرها الخطير في إبراز الحقائق..

ولكني رحت أتتبع مسيرة الدعوة الإسلامية في كل مراحلها.. وقد تبين لي ـ بعد البحث الطويل ـ أن الإسلام لم يكره في أي فترة من فترات تاريخه أي أحد في الدخول للإسلام..

حتى ما أظهر المتطرفون الذين يطلق عليهم المسلمون ( الخوارج)، فقد كانوا مع شدتهم مع مخالفيهم من المسلمين متسامحين مع غيرهم من أهل الديانات الأخرى مما اضطر بعض المسلمين إلى التظاهر بالكفر حتى يحتموا منهم.

لقد كان حاديهم إلى ذلك ما ورد في القرآن من تأمين المخالفين، ففيه:﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)﴾(التوبة)

وقد روي أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فلقيهم ناس من الخوارج، فقالوا لهم: من أنتم؟ قال لهم واصل: مستجيرون حتّى نسمع كلام اللّه، فاعرضوا عليّنا. فعرضوا عليهم فقال واصل: قد قبلنا. قالوا: فامضوا راشدين، قال واصل: ما ذلك لكم حتى تبلغونا مأمننا. قال اللّه تعالى:﴿  وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾، فأبلغونا مأمننا »، فجاءوا معهم حتى بلغوا مأمنهم[88].

سكت قليلا، ثم قال: تلك الآية تمثل حقيقة الدعوة في الإسلام.. وعلاقة السيف بها.

الإسلام ـ إذا استعمل السيف ـ لا يستعمله إلا ليوفر للمخالفين الجو المناسب الذي يتيح لهم أن يسمعوا القرآن.. هذه الآية تشير إلى ذلك.

ولهذا كان محمد يعطي الأمان لمن جاءه، مسترشدًا، ولو كان من المحاربين، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش، منهم: عروة بن مسعود، ومِكْرَز بن حفص، وسهيل بن عمرو، وغيرهم واحدًا بعد واحد، يترددون في القضية بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام المسلمين لمحمد ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم فأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم.

وقد استنتج الفقهاء من هذا أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة، أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، فطلب من الإمام أو نائبه أمانًا، أعطي أمانًا ما دام مترددًا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه[89].

التفت إلي، وقال: قلب الطرف في جغرافية البلاد التي انتشر فيها الإسلام لتعلم أن الدعوة هي التي جذبت قلوب الناس للإسلام لا السيف..

فأكثر المسلمين في العالم ينتشرون في بلاد لم تطأها جيوش المسلمين..

لقد دخلت شعوب عظيمة في الإسلام دون أن تطأ أرضها جيوش المسلمين كشعوب جنوب شرقي آسيا التي انتشر فيها الإسلام على أيدي التجار والدعاة، وتفوق الإسلام في أندونيسيا، وتفوق على الديانات الكنفوشية والبوذية والمسيحية.

حتى المغول الذين اكتسحوا العالم الإسلامي فقتلوا وحرقوا ودمروا، وقضوا على الخليفة وأهله، نجدهم بعد ذلك يدخلون في الإسلام، وينضوون تحت لوائه، ويكونون من حماته.. لقد قلت في كتابي (الدعوة إلا الإسلام) أذكرهم:« لا يعرف الإسلا م بين ما ترك به خطوب وويلات خطبا أعنت قسوة من زوات المغول.. على أن الإسلام لم يلبث أن نهض من رقدته، وظهر بين الأطلال، واستطاع بواسطة دعاته أن يجذب هؤلاء الفاتحين البرابرة ويحملهم على اعتناقه »

أتدري السر في كل ذلك؟

قلت: ما سره؟

قال: تلك السماحة والسلام والنبل والترفع الذي ربى عليه محمد أتباعه.. لقد كانت البذور التي بذرها محمد في نفوس أتباعه، والتربية التي رباهم عليها هي السر في كل ذلك النجاح.

لقد أرسل البطريرك النسطورى الثالث إلى البطريرك (سمعان) زميله فى المجمع بعد ظهور الإسلام رسالة يقول فيها:« إن العرب الذين منحهم الرب سلطة العالم وقيادة الأرض أصبحوا معنا، ومع ذلك نراهم لا يعرضون النصرانية بسوء، فهم يساعدوننا ويشجعوننا على الاحتفاظ بمعتقداتنا، وإنهم ليجلون الرهبان والقسيسين، ويعاونون بالمال الكنائس والأديرة »

وقد قال المؤرخ العالمى (هـ. ج. ويلز) فى كتابه (معالم تاريخ الإنسانية):« لقد تم فى 125 عاماً أن نشر الإسلام لواءه من نهر السند إلى المحيط الأطلسى وإسبانيا، ومن حدود الصين إلى مصر العليا، ولقد ساد الإسلام لأنه كان خير نظام اجتماعى وسياسى استطاعت الأيام تقديمه، وهو قد انتشر لأنه كان يجد فى كل مكان شعوباً بليدة سياسياً: تسلب وتظلم وتخوف، ولا تعلم ولا تنظم، كذلك وجدت حكومات أنانية سقيمة لا اتصال بينها وبين أى شعب. فكان الإسلام أوسع وأحدث وأنظف فكرة سياسية اتخذت سعة النشاط الفعلى فى العالم حتى ذلك اليوم، وكان يهب بنى الإنسان نظاماً أفضل من أى نظام آخر »

لقد كان ذلك العدل الذي طالما حلمت الشعوب به هو السر الأكبر في انتشار الإسلام..

لقد فتح المسلمون مصر، وكان سكانها على دين المسيحية، فلم يكرههم المسلمون على اعتناق الإسلام، ولو كان هناك إكراه ما بقى الأقباط على دينهم حتى هذه اللحظة.

إنما أقام المسلمون العدل الذي أمرهم به دينهم، فردوا للأقباط كرامتهم الإنسانية المفقودة التى سلبهم إياها حكامهم الرومان، وهم على نفس الدين، ولكن على مذهب مخالف.

لقد كان الرومان يلهبون ظهور الأقباط بالسياط لمخالفتهم إياهم فى المذهب، فلا يتحرك الأقباط لرد العدوان، ولا يجدون ملجأ يلجئون إليه يمنحهم الحرية الاعتقادية ويمنحهم العدل والكرامة، فلما جاء المسلمون منحوهم كل ذلك.

لا شك أنك تعرف قصة القبطى الذى ذهب إلى المدينة ليشكو إلى عمر بن الخطاب ضربة العصا التى وقعت على ظهر ابنه من ابن عمرو بن العاص.

قلت: أجل.. فهي قصة شهيرة.

قال: إن تلك الحادثة وغيرها كثير هي السيوف التي انتشر بها الإسلام..

لقد كان ذلك القبطى الذى كان يتلقى سياط الرومان ولا يشكو ولا يثأر لكرامته المسلوبة، يسافر هذه الرحلة الطويلة طلبا للعدل، لأن الإسلام رد له كرامته، فصار يستنكر الظلم ويطلب العدل، ولأن الإسلام أوجد له ملجأ حقيقيا يستحقق له العدل فيه فطلبه هناك.

سكت قليلا، ثم قال: لقد بحثت في تاريخ الدعوات، فلم أجد دعوة اكتملت، واكتمل لها من أسباب النجاج ما اكتمل لمحمد، ولدين محمد.

قلت: أنت وصلت لهذا.. وغيرك ربما وصل إلى غيره.

قال: كل الصادقين من الباحثين من أصحابنا المستشرقين ومن غيرهم وصلوا إلى ما وصلت إليه.. ولكن منهم من كسر الحواجز، فأقر، ومنهم من كسرته الحواجز، فسكت، أو شهد بما لم يعلم..

سأنقل لك بعض شهادات[90]من عرفتهم من المستشرقين الذين كانوا يبحثون عن المثالب قدر ما استطاعوا.. لكنهم لم يجدوا غير المناقب، فراحوا يشهدون بما علموا[91]:

لقد قال (رودي برت)، وهو من علماء ألمانيا المعاصرين:« كان العرب يعيشون منذ قرون طويلة في بوادي وواحات شبه الجزيرة يعيثون فيها فساداً،حتى أتى محمد ودعاهم إلى الإيمان بإله واحد خالق بارئ، وجمعهم في كيان واحد متجانس » 

ويقول (مارسيل بوازار)[92]، وهو مفكر، وقانونى فرنسى لم يكن محمد على الصعيد التاريخي مبشراً بدين وحسب، بل كان كذلك مؤسس سياسة غيرت مجرى التاريخ وأثرت في تطور انتشار الإسلام فيما بعد على أوسع نطاق »

ويقول (أرنولد توينبي)، وهو المؤرخ البريطاني الشهير:« لقد كرس محمد حياته لتحقيق رسالته في كفالة هذين المظهرين في البيئة الاجتماعية العربية، وهما: الوحدانية في الفكرة الدينية، والقانون والنظام في الحكم، وتم ذلك فعلاً بفضل نظام الإسلام الشامل الذي ضم بين ظهرانيه الوحدانية والسلطة التنفيذية معاً، فغدت للإسلام بفضل ذلك قوة دافعة جبارة لم تقتصر على كفالة احتياجات العرب، ونقلهم من أمة جهالة إلى أمة متحضرة، بل تدفق الإسلام من حدود شبه الجزيرة واستولى على العالم السوري بأسره من سواحل الأطلسي إلى شواطئ الأوراس »

 ويقول الدكتور م. ج. دوراني:« وأخيراً أخذت أدرس حياة النبي محمد، فأيقنت أن من أعظم الآثام أن نتنكر لذلك الرجل الرباني الذي أقام مملكة الله بين أقوام كانوا من قبل متحاربين لا يحكمهم قانون، يعبدون الوثن، ويقترفون كل الأفعال المشينة، فغيَّر طرق تفكيرهم، لا بل بدل عاداتهم وأخلاقهم، وجمعهم تحت راية واحدة وقانون واحد ودين واحد وثقافة واحدة وحضارة واحدة وحكومة واحدة، وأصبحت تلك الأمة التي لم تنجب رجلاً عظيماً واحداً يستحق الذكر منذ قرون، أصبحت تحت تأثيره وهديه تنجب ألوفاً من النفوس الكريمة التي انطلقت إلى أقصى أرجاء المعمورة تدعو إلى مبادئ الإسلام وأخلاقه ونظام الحياة الإسلامية، وتعلم الناس أمور الدين الجديد »  

ويقول (غوستاف لوبون)، وهو المؤرخ المعروف:« إنَّ هذا الكتاب (القرآن) تشريع ديني وسياسي واجتماعي ».

ويقول (مونتجومري وات) عميد قسم الدراسات العربية في جامعة أدنبره سابقاً:« يعتبر القرآن قلاقل العصر نتيجة أسباب دينية بالرغم من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وأنه لا يمكن تقويمها إلا باستخدام الوسائل الدينية مثل كل شيء، وإنه لمن الجرأة الشك في حكمة القرآن نظراً لنجاح محمد في تبليغ الرسالة »

 ويقول العالم (مايكل هارت) الأمريكي الشهير:« إن محمداً كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي.. إن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معاً يخوله أن يُعْتَبَر أعظم شخصية ذات تأثير في تاريخ البشرية »

ويقول (إدوارد بروي)، وهو باحث فرنسي معاصر وأستاذ بهذه الجامعة:« عندما قبض النبي العربي عام 632م كان قد انتهى من دعوته، كما انتهى من وضع نظام اجتماعي يسمو كثيراً فوق النظام القبلي الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية وهكذا تم للجزيرة العربية وحدة دينية متماسكة لم تعرف مثلها من قبل »

ويقول (فيليب حتي) إذا نحن نظرنا إلى محمد من خلال الأعمال التي حققها فإن محمداً الرجل والمعلم والخطيب ورجل الدولة والمجاهد يبدو لنا بكل وضوح واحداً من أقوى الرجال في جميع أحقاب التاريخ، لقد نشر ديناً هو الإسلام، وأسس دولة هي الخلافة، ووضع أساس حضارة هي الحضارة العربية الإسلامية، وأقام أمة هي الأمة العربية، وهو لا يزال إلى اليوم قوة حية فعالة في حياة الملايين من البشر » 

ويقول (السير لنتجنستادير):« إن تاريخ الحكم الإسلامي يدحض ظنون بعض الغربيين من أن الإسلام لا يصلح لإقامة دولة تساس فيها الأمور على قواعد المصلحة الاجتماعية وحسن العشرة بين المسلمين وغير المسلمين، وأن مفكري الإسلام في جميع العصور بحثوا قواعد الحكم والعرف من الوجهة الفلسفية، وأخرجوا لأممهم مذاهب في السياسة والولاية تسمو إلى الطبقة العليا »

ويقول (إدوارد كيبون) إن من عبقرية النبي العربي وفي خلال أمته وفي روح دينه أسباب انحلال الدولة الرومانية الشرقية وسقوطها، وإن أبصارنا لتتجه دهشة إلى ثورة من أعظم الثورات التي طبعت أمم الأرض بطابع خالد »  

ويقول ( برناردشو) بأسلوبه الساخر:« إنَّ محمداً أصلح العالم وهو جالس يشرب قهوة في المدينة » 

ويقول (صامويل هنتغتون) المفكر الأمريكي في إحدى محاضراته:« لا آدم سميث ولا توماس جيفرسون سيفيان بالاحتياجات النفسية والعاطفية والأخلاقية للإنسان، ولا المسيح سيفي بها على المدى الطويل، محمد سينتصر »

3 ـ التنوير:

قلت: وعيت هذا.. وأحسب أن كل من قرأ كتابك (الدعوة إلى الإسلام) سيعيه مثلما وعيته.

قال: لقد كتبت ذلك الكتاب في بداية بحثي عن الحقيقة.. وقد ذكرت فيه بعض ما ندمت عليه بعد ذلك[93].. ولكن الحقيقة أعظم من أن يحتويها كتابي ذلك أو غيره.. إن الحقيقة أعظم من أن تحويها جميع كتب الدنيا.

قلت: لقد ذكرت لي ـ إلى الآن ـ إكسيرين: أما أحدهما، فاستفادت منه الشعوب التي كانت مغلولة الأيدي بنير الاحتلال، وأما الثاني، فاستفاد منه من اهتدوا بهدي الإسلام، وانضموا تحت لوائه.. وبقينا نحن.. نحن الوحيدون.. أهل أوروبا.. الذين لم يصبنا إكسير الإسلام.. ولكنا مع ذلك من أكثر شعوب العالم تحضرا.

ابتسم، وقال: لولا إكسير الإسلام ما نال قومنا من الحضارة ما نالوا.. لولا الإسلام لظلت أوروبا في ظلمات القرون الوسطى.. أو لقضى بعضها على بعض.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد بحثت في هذا كما بحثت في غيره.. وسأعطيك خلاصة موجزة لأبحاثي في هذا المجال.

لقد قدم الإسلام لقومي خدمات لا يمكن إحصاؤها، وهي تشمل الجانبين: الدين والحياة.

الدين:

قلت: الدين!؟.. وما علاقة ديننا بإكسير الإسلام؟

قال: إن له علاقة وطيدة.. ليس بالمسيحية وحدها.. بل باليهودية أيضا..

وسأبدأ بتأثيره على اليهودية التي هم أم المسيحية الأولى..

لقد كان الإسلام والتعاليم العظيمة التي جاء بها سببا من أهم أسباب حركات التنوير التي حصلت في اليهودية[94].. فقد انطلق دعاة حركة التنوير اليهودية من المنطلقات نفسها التي انطلقت منها حركة الاستنارة الغربية بكل محاسنها ومساوئها وبكل تعميماتها وتناقضاتها.

فقد أنكر دعاة التنوير ما تصوروه طفيلية اليهود وهامشيتهم، وهي سمات مرتبطة بالوظائف التقليدية لليهود ومسألة التجارة والربا، فطالبوا بضرورة تغيير ذلك حتى يمكن تحويل اليهود من عناصر هامشية منعزلة إلى عناصر منتجة مندمجة.

كما طالبوا بضرورة تشجيع اليهود على الاشتغال بالزراعة والحرف اليدوية.

ولم يكن للدعوة إلى تحديث وظائف اليهود وحرفهم ومهنهم مضمون اقتصادي وحسب، وإنما كان لها مضمون ثقافي ونفسي عميق، إذ كانت دعوة إلى أن يتحرك أعضاء الجماعة من مسام المجتمع كجماعة وظيفية وسيطة منعزلة لها ثقافتها الخاصة إلى نخاعه أو صلبه. فيصبحون مثل بقية أعضاء المجتمع، يتحدثون بلغته ويرتدون أزياءه وينتمون إليه ويدينون له وحده بالولاء.

وقد طالب هؤلاء التنويريون بأن تتم العملية التعليمية خارج الإطار الديني وأن تشمل الجماهير كلها وليس الأرستقراطية الفكرية وحدها من الحاخامات وغيرهم، كما طالبوا إخوانهم في الدين بأن يرسلوا أولادهم إلى المدارس غير اليهودية حتى يتقنوا كل الفنون العلمانية، مثل الهندسة والزراعة، وشجعوا ممارسة الأعمال اليدوية، كما دافعوا عن تعليم المرأة.

وبالفعل، بدأت المدارس اليهودية العلمانية تظهر، لأول مرة في تاريخ الجماعات اليهودية الأوربية، مع منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وافتُتحت أول مدرسة يهودية لتعليم المرأة في روسيا عام 1836. وكان دعاة التنوير يرون أن التعليم العلماني هو السـبيل إلى تحـديث اليهود ودمجهم وعلمنتهم.

وقد حاولوا أن يُدخلوا نزعة عقلانية على اليهودية، فأحيوا كتابات المفكر العربي (الإسلامي) المؤمن باليهودية موسى بن ميمون الذي كان يطالب منذ العصور الوسطى بإدخال التعليم غير الديني على الدراسات الدينية اليهودية.

ويُعَدُّ المفكر الألماني موسى مندلسون، الذي تأثر بأعمال موسى بن ميمون، أباً للتنوير اليهودي.

وقد صاغ موسى بن ميمون المبادئ الثلاثة عشر التي جعلها أساس الدين اليهودي وأركان الإيمان فيه على غرار أصول الإيمان في الإسلام، وأدرج فيها بعض أصول الإيمان الإسلامية مما لم يكن معروفًا في اليهودية من قبل أو مدرجًا في العهد القديم، كالاعتقاد بأن الله عالم، وبالثواب والعقاب في الآخرة، والاعتقاد في بعث الموتى.

وحدد مفهوم النبوة والمعجزة لأول مرة في اليهودية، وقد جاء إما متأثرًا بنظرية الفلاسفة المشائين كالفارابي وابن سينا، وإما متابعًا لجمهور علماء الإسلام في استدلالهم على هذه المعتقدات بالنصوص القرآنية.

وقد أقر ابن كمونة بعدم ذكر الثواب والعقاب الأخروي في التوراة وراح يعتذر عن ذلك ويحاول تسويغه، وهذا يؤكد اقتباس ابن ميمون هذه الأصول من الإسلام.

بالإضافة إلى هذا، فقد بدأ نقد التوراة، يقول ( واكسمان ) صاحب كتاب ( الأدب اليهودي):« في القرن الحادي عشر دخلت الفلسفة اليهودية مرحلة جديدة متأثرة بالمؤلفات الفلسفية الإسلامية والأفكار الإسلامية، وكان من أثر هذا أن بدأ الشك في التلمود، وبدأت تظهر أفكار حرة، ولم يقتصر الهجوم والنقد الذي قام به القراءون والطوائف المتصلة بهم على التلمود، بل شمل الكتاب المقدس أعظم إنتاج عقلي في الدين اليهودي »[95]  

أما التأثير الإسلامي على المسيحية، فواضح لا شك فيه.

ولعل أهم هذه الآثار هو حماية الإسلام المسيحية من السقوط في حمأة الوثنية التي كان لا يفرق بينها وبينها إلا قاب قوسين أو أدنى.

قلت: إن ما تقوله غير صحيح.. فلم تقترب المسيحية في يوم من الأيام من رجس الوثنية.

وكيف تقترب من الوثنية، وكتابها المقدس يقول لها:« لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن، ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك غيور » (سفر التثنية: 5: 8)

ويقول لها:« فَاحْذَرُوا لأَنْفُسِكُمْ جِدّاً، فَأَنْتُمْ لَمْ تَرَوْا صُورَةً مَا حِينَ خَاطَبَكُمُ الرَّبُّ فِي جَبَلِ حُورِيبَ مِنْ وَسَطِ النَّارِ. لِئَلاَّ تَفْسُدُوا فَتَنْحَتُوا لَكُمْ تِمْثَالاً لِصُورَةٍ مَا لِمِثَالِ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ »(تثنية: 4: 15)

ويقول لها:« لاَ تَصْنَعُوا لَكُمْ أَصْنَاماً، وَلاَ تُقِيمُوا لَكُمْ تَمَاثِيلَ مَنْحُوتَةً، أَوْ أَنْصَاباً مُقَدَّسَةً، وَلاَ تَرْفَعُوا حَجَراً مُصَوَّراً فِي أَرْضِكُمْ لِتَسْجُدُوا لَهُ » (اللاويين: 26: 1 )

هذه هي نصوص التوراة التي وردت في النهي عن عمل الصور والتماثيل وعن عبادتها، والسجود لها.. وأنت تعرف أن التوراة تعتبر كتابا مقدساً لدى المسيحيين، بالإضافة إلى أن العهد الجديد خال من أي دعوة لعبادة الأوثان.

قال: ولكن المسيحيين اقتبسوا هذه العبادة كما اقتبسوا غيرها.. بل كادت تصبح ديانة وثنية لولا أن حماها الله بالإسلام.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألا تسمع بالأيقونات[96]؟

قلت: بلى..

قال: ألم تسمع بأنه مر بها يوم من الأيام صارت تعبد فيه من دون الله؟

سكت، فقال: لقد جاء يوم على المسيحية عبدت فيه الصور والتماثيل، فلا تكاد تجد ديراً أو كنيسة إلا وهما ممتلئان بشتى الصور والتماثيل، للمسيح، ولمريم، والقديسين منهم، وهي موضع تقديسهم وعبادتهم.

وبالتتبع التاريخي لهذه الشعيرة نجد أنها لم تكن في أول أمرها كما هي عليه الآن، بل قد كانت نشأتها في البداية محدودة النطاق، ثم ما لبثت أن نمت تدريجيا، وانتشرت انتشارا واسعاً، ثم أصبحت من ضمن شعائر المسيحية، وذلك عن طريق مجامعهم.

هذا ليس كلامي.. بل إن الشهود من المسيحيين يثبتون هذا.. يقول المؤرخ المسيحي (ول ديورانت) كانت الكنيسة أول أمرها تكره الصور والتماثيل، وتعدها بقايا من الوثنية، وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدف إلى تمثيل الآلهة، ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين، وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر.. كل هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية.

ولما تضاعف عدد القديسين المعبودين، نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم، فظهرت لهم ولمريم العذراء كثير من الصور، ولم يعظم الناس الصور التي يزعمون أنها تمثل المسيح فحسب، بل عظموا معها خشبة الصليب، حتى لقد أصبح الصليب في نظر ذوي العقول الساذجة طلسماً ذا قوة سحرية عجيبة.

وأطلق الشعب العنان لفطرته، فحول الآثار، والصور، والتماثيل المقدسة إلى معبودات، يسجد الناس لها، ويقبلونها، ويوقدون الشموع ويحرقون البخور أمامها، ويتوجونها بالأزهار، ويطلبون المعجزات بتأثيرها الخفي.

وفي البلاد التي تتبع مذهب الكنيسة اليونانية بنوع خاص، تستطيع أن ترى الصور المقدسة، في كل مكان، في الكنائس، والأديرة، والمنازل، والحوانيت، وحتى أثاث المنزل، والحلي، والملابس نفسها لم تخل منها.

وأخذت المدن التي تتهددها أخطار الوباء، أو المجاعة، أو الحرب، تعتمد على قوة ما لديها من الآثار الدينية أو على ما فيها من الأولياء والقديسين للنجاة من هذه الكوارث»

ولكنه ما إن انتشر الإسلام، وعم أرجاء المعمورة، وخاصة في القرن الثامن الميلادي، وعرفت تعاليمه لغير أهله ـ وما فيه من النهي عن اتخاذ الصور والتماثيل فضلا عن تقديسها ـ حتى بدأ بعض المنصفين من المسيحيين وأرباب السلطان في نبذ هذه البدعة والعمل على إزالتها.

ومن هؤلاء الإمبراطور (ليو الثالث)، الذي تشبعت نفسه بفكرة سرت إليه من المسلمين وغيرهم الذين ذموا عكوف جمهرة المسيحيين على تعظيم الصور والتماثيل في الكنائس وفي خارجها، فعقد مجلسا من الأساقفة وأصدر مرسوما عام (726م) يطلب فيه إزالة جميع الصور والتماثيل الدينية من الكنائس، وحرم تصوير المسيح والعذراء، وأمر بأن يغطي بالجص ما على جدران الكنائس من صور، لكن لم يقابل هذا المرسوم بالموافقة الجماعية، فكان أن عارضته الكنيسة، وثار عليه الشعب. واتفقوا على عزل (ليو) وطرده من الحكم.

واجتمع مجلس من أساقفة الغرب دعا إليه البابا (جريجوري الثاني)، وصب اللعنة فيه على محطمي الصور والتماثيل، إلا أن أولاد (ليو الثالث) ساروا على نهجه، منهم ابنه (قسطنطين الخامس 741 – 775م ) حيث جمع هذا الإمبراطور مجلسا من أساقفة الشرق في القسطنطينية سنة (754م ) قرر فيه بصفة قاطعة: تحريم اتخاذ الصور والتماثيل في العبادة، ووصفها بأنها عمل ممقوت، وحرم طلب الشفاعة من العذراء، وأمر بأن يمحى أو يدمر كل ما في الكنائس من صور وتماثيل.

وعلى هذا سار أحفاده من بعده حتى كان عام (787م) حيث دعت الإمبراطورة (إيريني) ـ التي كانت معاصرة لهارون الرشيد ـ رجال الدين في العالم المسيحي إلى عقد مجمع عام للبحث في مسألة ( الصور والتماثيل )، واتخاذ قرار حاسم بشأنها. فاجتمع في مدينة نيقية عام (787م) حوالي (377) أسقفا، وأصدروا قرارا بتعظيم صور المسيح وأمه والقديسين، لا بعبادتها.

وجاء في قرار هذا المجمع ما يلي:« نحكم بأن توضع الصور ليس في الكنائس والأبنية المقدسة والملابس الكهنوتية فقط، بل في البيوت وعلى الجدران في الطرقات، لأننا إن أطلنا مشاهدة ربنا يسوع المسيح ووالدته القديسة والرسل، وسائر القديسين في صورهم، شعرنا بالميل الشديد إلى التفكير فيهم، والتكريم لهم، فيجب أن تؤدى التحية والإكرام لهذه الصور »

واستمر الحال هكذا، حتى قامت حركة الإصلاح الكنسي في القرن الخامس عشر الميلادي، وكان من مبادئها منع اتخاذ الصور والتماثيل في الكنائس والسجود لها متأثرين في ذلك بما رأوه من المسلمين عن طريق الحروب الصليبية.

بالإضافة إلى هذا، فقد ظهر لمقاومة هذه الظاهرة الخطيرة حركة تُسمَّى (أيكونوكلازم) (iconoclasm)، أي (تحطيم الأيقونات) أو (تحطيم الأوثان)، وقد ظهرت حول القسطنطينية في القرنين الثامن والتاسع تحت تأثير الإسلام.

لقد رأت هذه الحركة أن الأيقونات تشكل سقوطاً في الوثنية باعتبار أن كثيراً من المصلين أصبحوا يظنون أن الأيقونة هي نفسها الشخص المقدَّس المرسوم عليها.

وقد نجحت الحركة بشكل مؤقت إذ ظهر أباطرة معادون للأيقونات، وحتى بعد قمع الحركة، كان الفنانون البيزنطيون يحاولون الابتعاد عن التصوير الواقعي والميل نحو التجريد، وذلك حتى يبتعدوا عن التجسيم والتوثين.

ليس هذا فقط هو تأثير الإسلام في المسيحية..

فمن تأثيره فيها ما دعا إليه البروتستانت من حرية قراءة الكتاب المقدس، ورفض احتكار الكنيسة تفسيره، والتي فتحت الباب أمام حركة نقد الكتاب المقدس في الغرب، تلك الحركة المنهجية التي تدين بالفضل لعلماء الإسلام الذين كتبوا في الرد على هذا الاحتكار كابن حزم والغزالي والقرطبي وابن تيمية وابن القيم، وغيرهم.

لقد شهد قاموس (برتلس مان) لديانات العالم على تأثير الإسلام في المسيحية، فقال لقد أثَّر الإسلام تأثيرًا عظيمًا في العقيدة المسيحية والفلسفة، وقاد على سبيل المثال إلى نقاش جديد حول عبادة الصور وتقديسها في المسيحية »

الحياة:

قلت: وعيت كلامك في تأثير الإسلام في الإصلاح الديني.. فما تأثيره في إصلاح الحياة.. حياتنا نحن الأوروبيين؟

قال: لهذا أيضا بعض علاقة بالدين.. وبالخصوص بالكنيسة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أنت تعلم أن الكنيسة كانت ذات سطوة عنيفة على كل مرافق الحياة فى أوروبا فى قرونها الوسطى المظلمة.. وكان سبب ذلك سيطرة الفساد الكامن فى الكنيسة على كل مرافق الحياة.

لقد أخطأ بعض قومنا، أو كثير منهم، فتصوروا أن الدين هو سبب ذلك التخلف، وسبب ذلك الظلام الذي غمر قروننا الوسطى بينما الدين بريء من ذلك..

لقد كان المسلمون في تلك العصور في أزهى فترات حياتهم مع كونهم كانوا ملتزمين بدينهم.

وقد ذكر التاريخ ـ الذى تكره أوروبا الاعتراف به إلا القلة المنصفة ـ أن أوروبا بدأت تخرج من ظلمات قرونها الوسطى المظلمة حين احتكت بالمسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، سواء فى الحروب الصليبية، أو البعوث التى بعثتها للتعلم فى مدارس المسلمين فى الأندلس بصفة خاصة، وفى صقلية وغيرها من البلاد التى نورها الإسلام.

بل تذكر الروايات التاريخية أن رجال الدين المسيحى أنفسهم كانوا يتعاطون الثقافة الإسلامية فى تلك المدارس، أو فيما ينقل منها إلى اللغات الأوروبية، وأنهم كانوا يترقون فى مناصب الأكليروس بقدر ما يحصلون عليه من تلك الثقافة.

وقد قال روجر بيكون فى القرن الثالث عشر الميلادى:« من أراد أن يتعلم، فليتعلم العربية لأنها هى لغة العلم »

لقد وجدت أوروبا عندما احتكت بالمسلمين ـ في المواطن المختلفة التي أتيح لها أن تحتك بهم فيها[97] ـ عالما عجيبا بالنسبة لها، ليس فيه بابورات، ولا رجال دين.. وليست فيه أسرار عقدية يختص بعملها فريق من الناس دون فريق.. وليس فيه نبلاء يستعبدون الناس فى إقطاعياتهم.. وليس فيه حجر على العقول أن تفكر، ولا حجر على العلم أن يبحث ويجرب وينشر أبحاثه على الناس.

قال (راندال) فى كتابه (تكوين العقل الحديث) وبنوا ـ يقصد المسلمين ـ فى القرن العاشر فى أسبانيا حضارة لم يكن العلم فيها مجرد براعة فحسب، بل كان علما طبق على الفنون والصناعات الضرورية للحياة العملية، وعلى الإجمال كان العرب يمثلون فى القرون الوسطى التفكير العلمى والحياة الصناعية العلمية اللذين تمثلهما فى أذهاننا اليوم ألمانيا الحديثة »[98]  

وقال ليوبولد فايس ـ الذي بهره الإسلام، فأسلم، وتسمى محمد أسد ـ فى كتابه (الإسلام على مفترق الطرق):« إن العصور الوسطى قد أتلفت القوى المنتجة فى أوروبة.. كانت العلوم فى ركود، وكانت الخرافة سائدة، والحياة الاجتماعية فطرية خشنة إلى حد من الصعب علينا أن نتخيله اليوم، فى ذلك الحين أخذ النفوذ الإسلامى فى العالم ـ فى بادئ الأمر بمغادرة الصليبيين إلى الشرق، وبالجامعات الإسلامية الزاهرة فى أسبانيا المسلمة فى الغرب، ثم بالصلات التجارية المتزايدة التى أنشأتها جمهوريتنا جنوة والبندقية ـ أخذ هذا النفوذ يقرع الأبواب الموصدة دون المدنية العربية.

وأمام تلك الأبصار المشدوهة، أبصار العلماء والمفكرين الأوروبيين، ظهرت مدنية جديدة، مدنية مهذبة راقية خفاقة بالحياة، ذات كنوز ثقافية كانت قد ضاعت، ثم أصبحت فى أووربة من قبل نسيا منسيا، ولكن الذى صنعه العرب كان أكثر من بعث لعلوم اليونان القديمة.. لقد خلقوا لأنفسهم عالما علميا جديدا تمام الجدة.. لقد وجدوا طرائق جديدة للبحث وعملوا على تحسينها، ثم حملوا هذا كله بوسائط مختلفة إلى الغرب، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن العصر العلمى الحديث الذى نعيش فيه لم يدشن فى مدن أوروبا النصرانية، ولكن فى المراكز الإسلامية: فى دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة »[99]

قلت: فكيف تسنى لأوروبا أن تتصل بالمسلمين، وتستفيد منهم، بالرغم مما كان بينهما من شحناء وبغضاء لا تزال أثارة منها إلى يومنا هذا؟

قال: لقد كانت لذلك طرق كثيرة.. وجسور ممتدة.. وأنت تعرف المسلمين.. فهم أكثر الناس طيبة ولو مع أعدائهم.

لقد كان من تلك الجسور التي وصلت أوروبا بالإسلام جسر الأندلس[100].. أو إسبانية حالياً.. فالأندلس قطعة من أوروبة، تجاور فرنسا وهي قريبة من إيطاليا وإنكلترا وغيرها من الأقطار الأوروبية.

وقد أرسلت كثير من البلاد الأوروبية أبناءها على شكل بعثات ترعاها مستويات رسمية عالية، للدراسة في بلاد الأندلس.. وتصدى كثيرٌ منهم للقيام بعملية ترجمة لأمهات كتب التراث العربي الإسلامي إلى اللاتينية وغيرها، وعلى رأس ذلك كله القرآن، وقد بدأوا بدراسة العلوم، واستمر الانتفاع مما لدى أهل الأندلس من علوم نظرية وفلسفية وعلوم مادية وتطبيقية طيلة وجود العرب في الأندلس.

وعندما وقعت الأندلس في محنة الضعف والسقوط بادر بعض الإسبان إلى حرق ما وصلت إليه أيديهم من المكتبات العربية تنفيساً عن أحقادهم، ولكن البعض تدارك ذلك فيما بعد، وحفظ ما تركه العرب من تراث، في مستودعات الكنائس، ليحتل مركز الصدارة في مكتباتهم فيما بعد.

وبذلك تعتبر المكتبة الإسبانية العامة في مدريد من المكتبات المهمة التي تحتوي على الكثير من المخطوطات العربية والإسلامية، التي تصدى الغرب لدراستها والانتفاع منها بعد نقلها إلى لغاتهم، وهكذا كانت بذور النهضة الأوروبية.

ومن تلك الجسور الحروب الصليبية التي وضعت الأوروبيين في مواجهة مباشرة مع الشرق وحضارته وعلومه، ورغم الإساءة في البداية إلى التراث العربي الإسلامي إذ حرق الصليبيون في أنطاكية عند الاستيلاء عليها الكثير من المخطوطات العربية الإسلامية، فقد التفت الأوروبيون إلى ضرورة الانتفاع من هذا التقدم الذي يشاهدونه، فنقلوا في سفنهم كل ما استطاعوا نقله من كتب، وأدوات، ومحاصيل يمكن زراعتها في بلادهم، حتى الحِرَف المختلفة نقلوها إلى بلادهم، ونشطوا في إقامة المعاهد والجامعات وتدريس كتب العرب المسلمين في جامعاتهم.

لقد بقي كتاب (القانون) في الطب لابن سينا يُدرّس في بروكسل ـ بلجيكا ـ حتى 1909م، ومثل ذلك كتب الجبر، والرياضيات، وعلوم الطب، والصيدلة، وعلم الحيل (الميكانيك)، والكيمياء، والنبات، كل ذلك انتقل إلى جامعاتهم، واستمر تدريس تلك الكتب لعدة قرون، وبذل علماؤهم جهوداً كبيرةً في الدراسة التطبيقية والتجريبية حتى وضعوا بلادهم على عتبة الحضارة الحديثة والمعاصرة، وعجّت معاجمهم بالمفردات والمصطلحات العربية الإسلامية العلمية، على اختلاف أنواعها مع شيء من تطويع هذه المفردات لإدخالها في لغتهم.

ومن تلك الجسور جسر صقلية وجنوب إيطاليا، فقد فتح العرب المسلمون صقلية في العهد العباسي، وحيثما حلّ العرب حلّت معهم رسالتهم وعلومهم.

وحتى عندما غادر العرب جنوب إيطاليا وصقلية على يد روجر النورمندي، حرص روجر على تشجيع العرب المسلمين للبقاء في صقلية، وذلك لعلمه بغزارة علومهم وعظمة حضارتهم، ومنهم الشريف الإدريسي الذي رسم العالم المعروف لديه على لوح من الفضة وأهداه للملك، كما أهداه كتاباً في الجغرافية هو (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)[101]

كما شجع روجر ترجمة العلوم العربية الإسلامية إلى لغتهم، وسار على نهجه من بعده، أمثال فريدريك ملك صقلية، الذي بشّر بالحضارة الإسلامية في أوروبة، وبنى مدرسة للطب في سالرنو، وأسس جامعة نابولي.. وهكذا وجدت الحضارة العربية الإسلامية طريقاً ثالثاً سلكته إلى أوروبة.. فكانت ولادة الحضارة الأوروبية.

قلت: ولكن الأوروبيين اليوم ينكرون ذلك أعظم إنكار؟

قال: دعهم ينكروا.. فلا خير فيمن ينكر خير غيره..

ومع ذلك، فليس كل الأوروبيين بذلك الحقد.. لقد كان هناك علماء منصفون شهدوا بتأثير الحضارة الإسلامية العظيم في أوروبا وحياة أوروبا ونهضة أوروبا.

ومنهم المؤرخ الفرنسي المعروف (جوستاف لوبون) الذي تناول في كتابه (حضارة العرب) تأثير حضارة الإسلام في الغرب وأرجع فضل حضارة أوربا الغربية إليها وقال إن تأثير هذه الحضارة بتعاليمها العلمية والأدبية والأخلاقية عظيم، ولا يتأتى للمرء معرفة التأثير العظيم الذي أثره العرب في الغرب الا إذا تصور حالة أوربا في الزمن الذي دخلت فيه الحضارة »[102]  

وقد ذكر في كتابه هذا بأن عهد الجهالة قد طال في أوربا العصور الوسطى، وأن بعض العقول المستنيرة فيها لما شعرت بالحاجة إلى نفض الجهالة عنها، طرقت أبواب العرب يستهدونهم ما يحتاجون إليه، لأنهم كانوا وحدهم سادة العلم في ذلك العهد.

ويقرر لوبون أن العلم دخل أوربا بواسطة الأندلس وصقلية وإيطاليا، وأنه في سنة 1120م أنشئت مدرسة للترجمة في طليلة بالأندلس بعناية (ريمولة) رئيس الأساقفة، وأن هذه المدرسة أخذت تترجم إلى اللاتينية أشهر مؤلفات المسلمين، ولم يقتصر هذا النقل على كتب الرازي وابن سينا وابن رشد فحسب بل نقلت اليها كتب اليونان التي كان العرب قد نقلوها إلى لسانهم.

ويضيف لوبون أن عدد ما ترجم من كتب العرب إلى اللاتينية يزيد على ثلثمائة كتاب.

وهو يؤكد فضل العرب على الغرب في حفظ تراث اليونان القديم بقوله:« فإلى العرب، وإلى العرب وحدهم، لا إلي رهبان القرون الوسطى ممن كانوا يجهلون حتى وجود اللغة اليونانية، يرجع الفضل في معرفة علوم الأقدمين، والعالم مدين لهم على وجه الدهر لإنقاذهم هذا الكنز الثمين، وأن جامعات الغرب لم تعرف لها، مدة خمسة قرون، موردًا علميًا سوى مؤلفاتهم وأنهم هم الذين مدنوا أوربا مادة وعقلاً، وأخلاقًا، وأن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يفوقهم قوم في الإبداع الفني  »[103]  

وأكد لوبون أثر الاسلام وأثر حضارته في كل بلد استظلت برايته قائلاً:« كان تأثير العرب في عامة الأقطار التي فتحوها عظيمًا جدًا في الحضارة، ولعل فرنسا كانت أقل حظاً في ذلك، فقد رأينا البلاد تتبدل صورتها حينما خفق علم الرسول الذي أظلها بأسرع مايمكن، ازدهرت فيها العلوم والفنون والآداب والصناعة والزراعة أي ازدهار»[104]  

وأشاد لوبون بفضل العرب في نشر العلوم وفتح الجامعات في البلاد التي استظلت برايتهم فيقول:« ولم يقتصر العرب على ترقية العلوم بما اكتشفوه، فالعرب قد نشروها، كذلك بما أقاموا من الجامعات وما ألفوا من الكتب، فكان لهم الأثر البالغ في أوربا من هذه الناحية، ولقد كان العرب أساتذة للأمم المسيحية عدة قرون، وأننا لم نطلع على علوم القدماء والرومان الابفضل العرب، وأن التعليم في جامعاتنا لم يستغن عما نقل إلى لغاتنا من مؤلفات العرب »[105]  

ومن الشهداء المنصفين الفيلسوف الفرنسي (رينيه جينو)، الذي أسلم، وتسمى (عبد الواحد يحيى)، فقد قال:« والأثر الواضح الذى يثبت لنا انتقال المؤثرات الثقافية من المسلمين إلى أوربا هو تلك الكلمات العربية الأصل التي تستعمل لنقل الأفكار وإظهار ما تكنه النفوس، فإن من السهل علينا أن نستنتج انتقال تلك الأفكار والآراء الإسلامية نفسها، وفي الحق أن تأثير الحضارة الإسلامية قد تناول إلى درجة بعيدة، وبشكل محسوس كل العلوم والفنون والفلسفة وغير ذلك، وقد كانت إسبانيا مركز الوسط إلهام الذي انتشرت منه تلك الحضارة، فالكيمياء احتفظت دائما باسمها العربي، وعلم الفلك أكثر اصطلاحاته الخاصة ماتزال محتفظة في كل اللغات الأوربية بأصلها العربي، كما أن كثيرا من النجوم مايزال علماء الفلك في كل الأمم يطلقون عليها أسماء عربية، ومن السهل جدًا أن نوضح أن كثيرًا من المعارف الجغرافية عرفت من الرحالة العرب الذين جابوا كثيرًا من  الأقطار وحملوا معهم معلومات جمة.. وإننا لنجد أثر الثقافة الإسلامية في الرياضيات أكثر وضوحًا، وهذا علم الحيوان الذي يسهل علينا من اسمه العربي أن نعرف طريق انتقاله إلى الغرب، كما أن الأرقام الحسابية التي يستعملها الأوربيون هي نفس الأرقام التي استعملها العرب، وأن كثيرًا من المعاني التي جادت بها قرائح الكتاب والشعراء المسلمين أخذت واستعملت في الأدب الغربي، كما نلاحظ أن أثر الثقافة الإسلامية واضح كل الوضوح وبصفة خاصة في فن البناء وذلك في العصور الوسطى.      

ولم تكن هناك وسيلة لتعرف أوربا الفلسفة اليونانية الا عن طريق الثقافة الإسلامية، لأن التراجم اللاتينية لأفلاطون وأرسطو لم تنقل أو تترجم من الأصل اليوناني مباشرة، وإنما أخذت من التراجم العربية، وأضيف إليها ماكتبه المعاصرون المسلمون مثل ابن رشد وابن سينا في الفلسفة الإسلامية.

ويختم رينيه جينو شهادته بقوله:« هذا جزء من كل من أثر الثقافة الإسلامية في الغرب، ولكن الغربيين لايريدون أن يقولوا به لأنهم لا يريدون الاعتراف بفضل الشرق عليهم، ولكن الزمن كفيل بإظهار الحقائق »[106]  

ليس العلماء وحدهم هم الذين شهدوا لفضل الإسلام على الغرب.. هناك ساسة منصفون شهدوا له أيضا.. ففي مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي، ظهر كتاب (توكيد الذات الأوربية: آفاق القرن الحادي والعشرين) للمستشار الألماني  هيلموت شميت، وقد وضح فيه مساهمة الثقافة الإسلامية العربية في روافد الثقافة الأوربية، وضرورة الإسلام في تطور أوروبا مستقبلاً.

وقد أفرد لهذه النقطة عشر صفحات في كتابه الذي يقع في 255صفحة، وهو يقول في ختام معالجة هذه النقطة:« خلال القرن الجديد سيصبح الجوار الجديد مع الإسلام أحد الشروط الأساسية لتأكيد الذات الأوربية والحفاظ عليها، ومن المحتمل أن يعتمد إحلال السلام والاستقرار في أوروبا على هذا الشرط »

في حفل تكريم المستشرقة الألمانية (آنا ماري شميل) وتسليمها جائزة السلام من ( رابطة الكتاب الألمان )، في 10/1/1995م، لمناصرتها الفكر الإسلامي، ودعوتها إلى فهمه وتغيير الصورة الشوهاء التي شكلها الإعلام الأوربي عن الإسلام والمسلمين، ألقى الرئيس الألماني (رومان هوتسوج) كلمة دعى فيها إلى أهمية فهم الإسلام فهماً صحيحاً، وأشاد فيها بالتنوير الإسلامي الذي حفظ للغرب ـ قبل ستة أو سبعة قرون ـ أجزاء عظيمة من التراث القديم

وقال الرئيس الألماني:« هل يجوز لنا أن نصنف المسلمين الأتقياء مع ( الأصوليين الإرهابيين) فقط لمجرد افتقادنا نحن للإحساس السليم تجاه استهزاء بالمشاعر الدينية للآخرين، أو لكوننا لم نعد قادرين على التعبير عن هذا الإحساس السليم »

وفي الختام دعا الرئيس الألماني إلى فهم الإسلام فهماً صحيحاً لتحديد موقف آخر منه غير الموقف الذي بنى على الجهل به.

بالإضافة إلى هؤلاء ألقى الأمير تشارلز (ولى عهد بريطانيا) خطاباً في قسم الدراسات الإسلامية بإحدى الجامعات البريطانية في بدايات النصف الثاني من تسعينات القرن العشرين الميلادي، تحدث فيه عن جوانب في علاقة الغرب بالإسلام ودعا إلى ضرورة التعاون بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، وأهمية التواصل فيما بينهما، ونبذ ما تركته الحروب الصليبية في العالم الإسلامي من آثار سيئة لا تزال متبقية في النفوس.

وقد أشار إلى وجود نقاط اتفاق بين الإسلام والغرب أكثر من وجود نقاط اختلاف فيما بينهما، وانتقد الصورة الشوهاء التي يروجها البعض، فيقول:« والكثيرون في الغرب يرون الإسلام على أنه حرب أهلية دامية في الشرق الأوسط، وأصولية إسلامية إن حكمنا قد شابه التشوه لاعتبار أن التطرف هو القاعدة، ويظن الكثيرون أن أحكام الشريعة غير عادلة، ولكن ينبغي أن نتدارس تطبيقاتها قبل أن نصدر أحكاماً.. إن هناك عدداً من الدول الإسلامية أعطت حق التصويت للمرأة في نفس الوقت مع أوروبا، كما أن النساء المسلمات لا يعتبرن مواطنات من الدرجة الثانية » 

ولم يتوقف إنصاف الأمير تشارلز للإسلام عند هذا الحد، بل أكد فضل الإسلام والحضارة الإسلامية على أوروبا في نهضتها الحديثة، وقال بصراحة:« كثير من السمات التى تفخر بها أوروبا الحديثة جاءت إلينا من الأندلس.. إن الإسلام جزء من ماضينا ومن حاضرنا »

وأخذ الأمير في خطابه يلح على الحوار بين الإسلام (يقصد المسلمين) والغرب ويوضح أهمية اتسام هذا الحوار بالصبر، ويقول:« لكن ذلك يتطلب جهدا ًشاقاً لكي يفهم بعضنا الآخر، ولكي نتمكن من إبعاد شبح الخوف والتشكك »

كما دعا الأمير تشارلز في كلمة ألقاها في مؤتمر سنوي للخارجية البريطانية بمـــركز (ويلتون بارك) بلندن، في عام 1997م، رجال الدين من بني جنسه، وكذلك خبراء الاقتصاد، إلى الاستعانة بالمسلمين في حماية القيم لدى الصغار، وقال:« في كل أنحاء العالم يمكننا أن نجد من يريد تعلم الإنجليزية، لكننا هنا في الغرب نحتاج إلى التعلم على أيدي مدرسين مسلمين كيف نتدبر الأمور مرة أخرى، بقلوبنا لا بعقولنا فقط »

كما أردف قائلاً:« إننا في الغرب يمكننا الاستفادة من الرسالة الإسلامية في اكتشاف جذور مفاهيمنا الحالية التي ندين فيها للقيم الإسلامية التي تحترم الطبيعية الثابتة للقوانين الطبيعية »

قلت: ذكرت لي الجسور التي كانت صلة وصل بيننا وبين المسلمين، وذكرت لي الشهادات المنصفة التي تثبت حصول ذلك التأثير، ولم يبق إلا أن تحدثني عن نماذج عن بعض ذلك التأثير.. فالنماذج هي التي تحدد المدى الذي وصل إليه التأثير.

قال: لا يمكنني في هذا المجلس أن أعدد لك إلا بعض النماذج التي يظهر فيها أثر المسلمين علينا.. وكل نموذج منها سيل من السيول تكونت بعده أنهار كثيرة لا نزال نستقي منها.

 لقد كان تأثير الثقافة الإسلامية على أوربا تأثيرًا عميقًا في شتى نواحى الحياة.. وسأختار لك منها ما يرتبط بالمعارف والعلوم والفنون:

ففي الأدب.. قامت صلة وثيقة بين طائفة من عباقرة الشعر في أوربا بأسرها، خلال القرن الرابع عشر الميلادي وما بعده، وموضوعات الأدب العربي والثقافة الإسلامية على وجه لايقبل التشكيك.

ومن هؤلاء (بوكاشيو) و(بترارك) و(دانتي) وهم من أعلام النهضة الايطالية، و(شسر) الكاتب الانجليزي الشهير، و(سرفانيتس) الإسباني، وإلى هؤلاء يرجع التأثير البارز في قيام النهضة الأدبية في أوربا.

ففي عام 1346م كتب بوكاشيو حكاياته التي سماها (الليالي العشرة)، وحذا فيها حذو ليالي ألف ليلة وليلة، التي كانت منتشرة حكاياتها في مصر والشام، وقد ضمن حكاياته مائة حكاية على غرار ألف ليلة وليلة، وأسندها إلى سبع من السيدات وثلاثة من الرجال الذين اعتزلوا في بعض ضواحي المدينة فرارا من مرض الطاعون، وفرضوا على كل منهم حكاية يقصها على أصحابه في كل صباح لقضاء وقت الفراغ، وقد ملأت هذه الحكايات أقطار أوربا، واقتبس منها الكاتب الإنجليزي (وليم شكسبير) موضوع مسرحية (العبرة بالخواتيم)، واقتبس منها (ليسينج) الألماني مسرحية (ناتان الحكيم).

وكان شوسر إِمام الشعر الحديث في اللغة الإنجليزية من أكبر المقتبسين من بوكاشيو في زمانه، لأنه التقى به حين زار إيطاليا، ونظم بعد ذلك قصصه المشهورة باسم (قصص كانتربري)

وكانت صلة دانتي[107] بالثقافة الإسلامية وثيقة، لأنه أقام في صقلية في عهد الملك فردريك الثاني، الذي درس الثقافة الإسلامية في مصادرها العربية الأصيلة، وقد لاحظ أحد المستشرقين أن الشبه قريب جدًا بين وصف الجنة في كلام الصوفي الكبير محي الدين بن عربي (1164-1240م) في مؤلفه الكبير (الفتوحات المكية) وأوصاف دانتي لها في الكوميديا الالهية.

وقد كان دانتي يعرف شيئا غير قليل من سيرة محمد، فاطلع على الأرجح من هذا الباب على قصة الإسراء والمعراج ومراتب السماء، ولعله اطلع على رسالة الغفران لأبي العلاء المعرى، واقتبس من كل هذه المصادر معلوماته عن العالم الآخر التي أوردها في الكوميدا الالهية، وأكبر القائلين بالاقتباس على هذا النحو هو عالم من أمة الأسبان انقطع للدراسات العربية، وهو الأستاذ آسين بالسيوس[108].

وقد عاش بترارك في عصر الثقافة الإسلامية بإيطاليا وفرنسا، ودرس العلم بجامعتي مونبلييه وباريس بفرنسا وكلتاهما قامتا على تلاميذ علماء المسلمين في الجامعات الأندلسية.

أما سرفانتيس فقد عاش في الجزائر بضع سنوات وألف كتابه (دون كيشوت) بأسلوب لا يشك من يقرأه في اطلاع كاتبه على العبارات العربية والأمثال التي لاتزال شائعة بين العرب حتى هذه الأيام. وقد جزم برسكوت صاحب الاطلاع الواسع على تاريخ الأسبان بأن فكاهة (دون كيشوت) كلها أندلسية في اللباب.

أما عن الشعر، فقد ذكر دانتى أِنّ الشعر الايطالي ولد في صقلية بفضل الشعر العربي وبتأثير منه، ولقد شاع نظم الشعر بالعامية في إقليم بروفانس في جنوب فرنسا، وانتشر الشعر في ذلك الإقليم على يد الشعراء الجوالين الذين عرفوا باسم (التروبادور) وواضح أن الأوربيين اشتقوا هذا الاسم من كلمة طروب العربية، وقد وجدت في أشعار الأوربيين بشمال الأندلس كلمات عربية وأشارات لعادات إسلامية.

والشعر العربي الأندلسي في الموشحات والزجل كان السبب في نشأة الشعر الأسباني نفسه، والزجل يكون عادة باللغة الدارجة، بينما يكون الموشح بالعربية الفصحى، وهذان اللونان من النظم من ابتكار أهل الأندلس، وهما اللذان أثرًا في نشأة الشعر الأوربي، وقد أثبت الباحثون انتقال بحور الشعر الأندلسي والموسيقي العربية إلى أوربا.

وامتد التأثير العربي في نشأة الشعر الأوربي إلى بعض الموضوعات كالمغامرات، وطريقة علاج هذه الموضوعات، كما يتمثل هذا في فكرة الحب العذري التي تسود الغزل في الشعر البروفنسالي، فإنه يرتد إلى الشعر الأندلسي، وأزجال ابن قزمان، وقد عرض فكرة الحب العذري، ابن حزم في كتابه (طوق الحمامة).

أما في مجال القصة الأوربية، فنجد أن هذه القصة تأثرت في نشأتها بما كان عند العرب من فنون القصص في العصور الوسطى وهي: المقامات، وأخبار الفروسية، وأمجاد الفرسان مغامراتهم لإحراز المجد أو في سبيل الحب.

وترى طائفة من النقاد الأوربيين أن رحلات (جليفر) التي ألفها سويفت، ورحلة (روبنسون كروزو) التي ألفها ديفوى، تدين لقصص ألف ليلة وليلة، ولرسالة حى بن يقضان التي ألفها الفيلسوف الأندلسي المسلم ابن الطفيل، وقد وضح أنه كان لترجمة ألف ليلة وليلة إلى اللغات الأوربية أول القرن الثاني عشر أثر عظيم وبالغ الخطورة على الأدب الأوربي.

ولم تنقطع الصلة بين الأدب الإسلامي والآداب الأوربية الحديثة حتى اليوم،  ويكفي لبيان الأثر الذي أبقاه الأدب الإسلامي في آداب الأوربيين أننا لا نجد أديبا واحدا من نوابغ الأدباء عندهم قد خلا شعره أو نثره من الإشارة إلى بطل إسلامي، أو نادرة إسلامية، ومن هؤلاء: شكسبير، أديسون، بايرون، سودى، كولردج، شيلي من أدباء الإنجليز، ومن أدباء الألمان، جيته، هرور، وليسنج، ومن أدباء فرنسا: فولتير، لافونتين.

وقد صرح لافونتين باقتدائه في أساطيره التي ألفها بكتاب (كليلة ودمنة) الذي عرفه الأوربيون عن طريق المسلمين.

وقد ذكر (ألفارو القرطبي ) اهتمام أهل الأندلس من المسيحيين بالآداب العربية، فقال:« يطرب إخواني المسيحيون بأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها، بل للحصول علي أسلوب عربي صحيح رشيق، فأين تجد اليوم علمانيا يقرأ التعليقات اللاتينية علي الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟ وأسفاه! إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب، ليسوا علي علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية، فهم يقرأون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهضة ن وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب. وإنك لتراهم من الناحية الأخري يحتجون في زراية إذا ذكرت الكتب المسيحية بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم، فواحر قلباه! لقد نسب المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف قادر علي إنشاء رسالة إلي صديق بلاتينية مستقيمة! ولكن إذا استدعي الأمر كتابة العربية ن فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة، بل لقد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم»[109]  

أما في الفلسفة، فقد كان أثر المسلمين في التفكير الفلسفي لأوربا عظيمًا، وكانت أسبانيا هي مركز تأثير الفلسفة الإسلامية على الفكر الأوربي الغربي، لأن أوربا لم تعرف فلاسفة الشرق إلا عن طريق الأندلس حيث أشرف ريموند أسقف طليطلة على ترجمة أعمال الفارابي وابن سينا والغزالي وغيرهم.

والمسلمون هم الذين حفظوا فلسفة كبار فلاسفة اليونان وعلى ما سطروه في كتبهم وبخاصة أرسطو وأوصلوا هذا التراث إلى الغرب، فاتصال العقلية الأوربية الغربية بالفكر العربي هو الذي دفعها لدراسة الفلسفية اليونانية.

وقد قرر روجر بيكون أن معظم فلسفة أرسطو ظلت عديمة الأثر في الغرب لضياع المحفوظات التي حوت هذه الفلسفة أو لندرتها وصعوبة تذوقها حتى ظهر فلاسفة المسلمين الذين قاموا بنقل فلسفة أرسطو وشرحها وعرضها على الناس عرضًا شاملاً.

ومن فلاسفة الأندلس الذين كان لهم أعمق الأثر في الفكر الأوربي، ابن باجه، وابن الطفيل، وابن رشد.

ويعد ابن رشد الشارح الأعظم لفلسفة أرسطو، وكان أول من أدخل فلسفته إلى أوربا (ميخائيل سكوت) سنة 1230م، ولم يأت منتصف القرن الثالث عشر حتى كانت جميع كتب هذا الفيلسوف قد ترجمت إلى اللاتينية، ولم ينتصف القرن الخامس عشر حتى صار ابن رشد صاحب السلطان المطلق في كلية بارو بإيطاليا والمعلم الأكبر دون منازع[110].

ويبدو أثر ابن رشد واضحًا في خروج كثير من الغربيين على تعاليم الكنيسة وتمسكهم بمبدأ الفكر الحر وتحكيم العقل على أساس المشاهدة والتجربة.

وقد ظهر أثر آراء ابن رشد واضحًا في فلسفة القديس توما الأكويني (1125-1274م) حتى أن الفصول التي كتبها توما في العقل والعقيدة وعجز العقل عن إدراك الأسرار الإلهية ليست إلا مقابلاً لما كتبه ابن رشد في باب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة ومن الاتصال)

وبلغ تأثر توما بفلسفة ابن رشد أن كتاب (الخلاصة) لتوما يحوي بعض مذاهب إسلامية الأصل، مما يثبت أن الأثر الذي تركه ابن رشد في عقلية الغرب لم يكن مجرد شروح كتابات أرسطو، وإنما كان أبعد وأعمق من ذلك بكثير[111].

ويعد الفيلسوف الألماني المعاصر كانت من أكبر تلاميذ ابن رشد، وقد قال جوستاف لوبون عن ابن رشد:« إِنه كان الحجة البالغة للفلسفة في جامعاتنا منذ أوائل القرن الثالث عشر من الميلاد، لما حاول لويس الحادي عشر تنظيم أمور التعليم في سنة 1473م أمر بتدريس مذهب هذا الفيلسوف العربي ومذهب أرسطو »[112]  

وكان للفيلسوف الصوفي المسلم محي الدين بن عربي (560هـ ـ 638هـ) أثر كبير في عقول النساك والمتصوفة من فقهاء المسيحية الذين ظهروا بعده، وقد ذكر (آسين بلاسيوس) المستشرق الأسباني أن نزعات دانتى الصوفية وأوصافه لعالم الغيب مستمدة من محي الدين بن عربي بغير تصرف كثير.

ومن المعلوم أن أول الفلاسفة الصوفيين من الغربيين هو جوهان أكهارت الألماني، فقد نشأ في القرن التالي لعصر ابن عربي ودرس في جامعة باريس، وهي الجامعة التي كانت تعتمد على الثقافة الأندلسية في الحكمة والعلوم، وأكهارت يقول كما يقول ابن عربي:« إِن الله هو الوجود الحق ولا موجود سواه[113]، وأن الحقيقة الإلهية تتجلى في جميع الأشياء، ولا سيما روح الإنسان التي مصيرها إلى الاتصال بالله من طريق الرياضة والمعرفة والتسبيح، وأن صلة الروح بالله ألزم من صلة المادة بالصورة، والأجزاء بالكل، والأعضاء بالأجسام »[114]

وقد اقتبس الفيلسوف المتصوف الأسباني ـ رايموندلول ـ من ابن عربي خاصة في كتابه (أسماء الله الحسنى) لأنه كان يحسن العربية، وعاش بعد ابن عربي بقرن واحد، وجعل أسماء الله مئة، وهي لم تعرف بهذا العدد في الديانة المسيحية قبل ذاك.

أما في الطب.. فقد عرف في طب العرب موسوعات طبية إسلامية ترجمت كلها إِلى اللاتينية، اطلع عليها أطباء أوربا، ونهلوا من معينها حتى مطلع العصور الحديثة، كان في مقدمتها كتاب (القانون) لابن سينا في القرن الثاني عشر، وقد جمع خلاصة الطب عند العرب واليونان والسريان والأقباط، وضم ملاحظات جديدة عن الالتهاب الرئوي وعدوى السل، مع وصف لسبعمائة وستين دواء، وقد ترجمه جيرار الكريموني إلى اللاتينية وطبع عشرات المرات.

كما ترجم الحاوي للرازي (ت 320هـ/ 926م) وهو أكبر من القانون وأوسع مادة وموضوعًا، وقد أكمله تلاميذ الرازي بعد موته، وترجم إلى اللاتينية في عام 1486م، وفيه آراء جديدة عن الفتق والحجامة والحميات وأعصاب منطقة الحنجرة وعضلاتها، وله كتاب (المنصوري) الذي ترجم عام 1481م ورسالة عن الجدري والحصبة بوصف وتشخيص آية في الدقة لأول مرة.

وكان الكتاب الملكي في الطب لعلي بن عباس (ت 384هـ / 994م) شائعًا عند الأوربيين لستة قرون من الزمان[115]، كما كان خلف بن قاسم الزهراوي (ت414هـ/1013م) معروفاً عند الأوربيين بكتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف) بأجزائه الثلاثة، وقد أفرد القسم الأخير منها للجراحة، وفيه أشار إلى أهمية التشريح للجراح، ووصف كثيرًا من الجراحات باسهاب، وأجرى جراحات في شق القصبة الهوائية وتفتيت الحصارة في المثانة وخاصة عند النساء عن طريق المهبل، وسبق إلى استخدام ربط الشرايين، ووصف استعداد بعض الأجسام للنزيف وعلاجه بالكى، وقد زود كتابه برسوم للآلات الجراحية، وقد ترجمه إلى اللاتينية جيرار الكريموني وطبع في أوربا عشرات المرات، وكان مرجعًا في جامعات سالرنو ومونيليه وغيرهما.

وفطن المسلمون إلى أمراض النساء والولادة، وقد كتب في هذا المجال علي بن عباس في توليد الجنين الميت، والأدوية المانعة للحمل، أو النصائح التي تتعين مراعاتها عند التوليد.

وكان الأطباء في البلاد الإسلامية في القرن العاشر، يعلمون تشريح الجثث في قاعات مدرجة خصصت لذلك في جامعة صقلية، واكتشف ابن النفيس الدمشقي المصري الدورة الدموية الصغرى، ونقلها عنه (هارفن) الإنجليزي وعزاها لنفسه ومثل ذلك فعل (سرفينوس) الإيطالي، ويدعم ذلك ما قاله المؤرخ المعاصر (مايرهوف) إن ما أذهلني حقًا، مماثلة الجمل الأساسية في أقوال هذين الطبيبين لما كتبه ابن النفيس وكأنها ترجمت ترجمة حرفية »، ويؤيد ذلك ايضًا العالم (الدوميالي) في كتابه عن علوم العرب، كما يؤيده الأستاذ الدكتور (ليون بينه) أستاذ الفسيولوجيا بباريس.

قلت: أهذه هي العلوم التي برع فيها المسلمون.. واقتبسها منهم أجدادنا؟

قال: هذه بعض العلوم فقط.. والأهم من ذلك كله هو المناهج التي كان يمارس بها المسلمون تفكيرهم، وكنا نفتقر إليها.

قلت: تقصد المنهج العقلي.

قال: لا.. أقصد المنهج التجريبي[116].

قلت: ذلك منهجنا.. به عرفنا.. وعليه قامت حضارتنا.. فقد أسسه في بلادنا (روجر بيكون) و(فرنسيس بيكون)

قال: لقد اعترف الأول بأنه اقتبس هذا المنهج من المسلمين.

يقول دوهرنج:« إن آراء روجر بيكون فى العلوم أصدق وأوضح من آراء سميه المشهور(فرنسيس بيكون).. ومن أين استقى روجر بيكون ما حصله فى العلوم؟»، ثم يجيب:« من الجامعات الإسلامية فى الأندلس »

 ويقول بريفولت فى كتابه: (بناء الإنسانية) إن روجر بيكون درس اللغة العربية، والعلم العربى، والعلوم العربية فى مدرسة أكسفورد، على خلفاء معلميه العرب فى الأندلس، وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذى جاء بعده الحق فى أن ينسب إليهما الفضل فى ابتكار المنهج التجريبى، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوروبا المسيحية، وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه للغة العربية وعلوم العرب، هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة0 والمناقشات التى دارت حول واضعى المنهج التجريبى، هى طرف من التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوروبية، وقد كان منهج العرب التجريبى فى عصر بيكون قد انتشر انتشاراً واسعاً، وانكب الناس، فى لهف، على تحصيله فى ربوع أوروبا »[117]  

ويقول:« لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج.. إن العبقرية التى ولدتها ثقافة العرب فى أسبانيا، لم تنهض فى عنفوانها إلا بعد مضى وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام، ولم يكن العلم وحده هو الذى أعاد إلى أوروبا الحياة، بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوروبية »[118]

ويقول:« إنه على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحى الازدهار الأوروبى إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون وأهم ما تكون، فى نشأة تلك الطاقة التى تكون ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة، وفى المصدر القوى لازدهاره، أى فى العلوم الطبيعية، وفى روح البحث العلمى »[119]

ويقول:« إن ما يدين به علمنا للعرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين لها بوجوده نفسه، فالعالم القديم ـ كما رأينا ـ لم يكن للعلم فيه وجود، وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علوماً أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم، وأخذوها عن سواهم، ولم تتأقلم فى يوم من الأيام، فتمتزج امتزاجاً كلياً بالثقافة اليونانية، وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث فى دأب وأناة وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها، والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبى، كل ذلك كان غريباً تماماً عن المزاج اليونانى، ولم يقارب البحث العلمى نشأته فى العالم القديم إلا فى الإسكندرية فى عهدنا الهلينى، أما ما ندعوه (العلم) فقد ظهر فى أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة، بطرق التجربة والمقاييس وتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان، وهذه الروح، وتلك المناهج أوصلها العرب إلى العالم الأوروبى »[120]

التفت إلي، وقال: هذا في الماضي.. ونحن إلى الآن لا نزال نستفيد من خبرات المسلمين وعلمائهم وباحثيهم.. بل نحن نمارس كل الوسائل لنمتص كل القدرات والكفاءات لننعم بها نحن دونهم[121].. ثم نظل على جحودنا وكبريائنا وحقدنا.

***

 ما وصل (توماس) من حديثه إلى هذا الموضع حتى انهمرت دموع حارة من عينيه، فأخرج منديلا من جيبه، وراح يمسحهما به.

قلت له: ما الذي دعاك إلى البكاء؟

قال: أمران طالما هطلت دموعي بسببهما.

قلت: ما هما؟.. فعساك تهيج من دموعي ما هيج من دموعك.

قال: أولهما.. أني ذكرت تلك النفوس الطيبة التي ربيت على أيدي محمد.. فراحت تنشر خيرها وخلاصها للأمم لا تبتغي بذلك أجرا.. فحررت العبيد.. وأنارت الدنيا.. ونشرت من القيم ما لا تستطيع الدنيا جميعا إحصاءه.

قلت: فما يبكيك من هذا؟

قال: لم يبكني ما فعلوا بنا.. ولا بأهل الأرض من إخواننا.. ولكن يبكيني ما فعلنا بهم..

لقد رحنا بجشعنا وحرصنا وطمعنا ننهب خيرات البلاد التي آوتنا وعلمتنا.. ورحنا نعض الأيدي التي توجهت لتحريرنا من كل القيود التي طوقت أعناقنا.. ورحنا نقتل أحفاد من سالت دماؤهم في سبيل خلاصنا.

قلت: هذا الأول.. وهو جدير بأن يجعلني أشاركك في بكائك.. فما الثاني؟

قال: أبكاني قومي الذين نهلوا من خلاص محمد القشور، وتركوا اللباب.. لقد اهتموا بالظواهر، ونسوا البواطن، واهتموا بالعلوم، ونسوا القيم، واهتموا بالدنيا، ونسوا الآخرة.

قلت: فما كنت فاعلا لو رجعت إلى ذلك الزمان؟

قال: آخذ بخلاص المسلمين روحه وجسده.. باطنه وظاهره.

قلت: أتسمح لي حضرة العلامة الجليل أن أسألك سؤالا قد يحرجك؟

قال: سل ما بدا لك.

قلت: أنا أتعجب من كل هذه الحماسة التي تبديها للإسلام، ولكني مع ذلك أراك تحتفظ بصليبك، ودينك.. هل ترى أن الذي قدم كل هذا الخلاص للبشرية كان كاذبا في دعوى النبوة؟

انتفض، وقال: يستحيل ذلك.. يستحيل ذلك..

قلت: ولكني لا أزال أراك على دينك.. كيف هذا؟

صمت قليلا، ثم قال: لن أحدثك عن نفسي.. سأذكر لك ما قال (اللورد هدلي).. وافهم أنت ما تشاء.

قلت: أعرفه.. فما قال؟

قال: لقد قال:« إنني أعتقد أن هناك آلافاً من الرجال والنساء أيضاً، مسلمون قلباً، ولكن خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ عن التغيير، تآمروا على منعهم من إظهار معتقداتهم »

قلت: لكن (اللورد هدلي)  أظهر إسلامه، وتحدى كل من وقف في طريقه.. وقد كان لإسلامه ضجة كبيرة، وذلك لمكانته بين قومه، وعلو قدره العلمي، وقد حج بيت الله الحرام، ومر في طريقه بالإسكندرية، فأقام له أهالي الثغر حفلة كبيرة برعاية الأمير عمر الطوسوني، وبرئاسة الشيخ عبد الغني محمود شيخ علماء الإسكندرية آنذاك.

قال: لقد قال في سبب اعتناقه الإسلام:« عندما كنت أقضي ـ أنا نفسي ـ الزمن الطويل من حياتي الأولى في جو الكنيسة كنت أشعر دائماً أن الدين الإسلامي به الحسن والسهولة، وأنه خلو من عقائد الرومان والبروتستانت، وثبتني في هذا الاعتقاد زيارتي للشرق التي أعقبت ذلك، ودراستي للقرآن الكريم »

ويقول:« فكرت وصليت أربعين سنة كي أصل إلى حل صحيح »

ويقول:« إذا أصبح كل فرد في الإمبراطورية الإنجليزية محمدياً حقيقياً بقلبه وروحه لأصبحت إدارة الأحكام أسهل من ذلك، لأن الناس سيقادون بدين حقيقي »

ويقول:« ليس هناك في الإسلام إلا إله واحد نعبده ونتبعه، إنه أمام الجميع وفوق الجميع، وليس هناك قدوس آخر نشركه معه، إنه لمن المدهش حقاً أن تكون المخلوقات البشرية ذوات العقول والألباب على هذا القدر من الغباوة، فيسمحون للمعتقدات والحيل الكهنوتية أن تحجب عن نظرهم رؤية السماء »

ويقول في شعوره بعد إسلامه:« إن الدين الإسلامي تملك رشدي صدقاً، وأقنعني نقاؤه، وأصبح حقيقة راسخة في عقلي وفؤادي، إذ التقيت بسعادة وطمأنينة ما رأيتها قط من قبل، كما استنشق هواء البحر الخالص النقي، وبتحققي من سلامة وضياء وعظمة الإسلام ومجده، أصبحت كرجل فر من سرداب مظلم إلى فسيح من الأرض تضيئه شمس النهار » 

كانت هذه النصوص تخرج من أعماق أعماق قلبه.. وكأنها قد ولدت تلك اللحظة، قلت: لقد سمعت بكل ما قال من هذا وغيره.. وأنا لا أسألك عنه.. وإنما أسألك عن نفسك.

قال: أحيانا تجد غيرك يوفق في التعبير عما في نفسك أكثر من قدرتك.. فتكتفي بتعبيره عن تعبيرك.. وبلسانه عن لسانك.

قلت: فأنت مقتنع بما قال؟

قال: وأنا حزين لما أفعل.

قال ذلك.. ثم صمت صمتا طويلا.. استحييت أن أقطعه عليه.. فخرجت، ومعي بصيص جديد من النور اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد.

 



([1])  رواه أحمد، ومسلم، والنسائي.

([2])  أشير بهذا الاسم إلى المستشرق Sir Thomas Walker Arnold (1864-1930) وهو من كبار المستشرقين البريطانيين، وقد بدأ حياته العلمية في جامعة كامبردج حيث أظهر حبه للغات، فتعلم العربية، وانتقل للعمل باحثاً في جامعة (عليكرا) في الهند، حيث أمضى هناك عشر سنوات ألف خلالها كتابه المشهور (الدعوة إلى الإسلام)

ثم عمل أستاذاً للفلسفة في جامعة لاهور، وفي عام 1904 عاد إلى لندن، ليصبح أميناً مساعداً لمكتبة إدارة الحكومة الهندية التابعة لوزارة الخارجية البريطانية، وعمل في الوقت نفسه أستاذً غير متفرغ في جامعة لندن، واختير عام 1909 ليكون مشرفاً عاماً على الطلاب الهنود في بريطانيا.

من المهام العلمية التي شارك فيها عضوية هيئة تحرير الموسوعة الإسلامية التي صدرت في ليدن بهولندا في طبعتها الأولى، والتحق بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن بعد تأسيسها عام 1916. وعمل أستاذاً زائراً في الجامعة المصرية عام 1930.

له عدة مؤلفات سوى كتابه (الدعوة إلى الإسلام) ومنها (الخلافة) وكتاب حول العقيدة الإسلامية.

وهو صاحب فكرة كتاب (تراث الإسلام) الذي أسهم فيه عدد من مشاهير البحث والاستشراق الغربى. وقد أشرف أرنولد على تنسيقه وإخراجه، وهو أول من جلس على كرسي الأستاذية في قسم الدراسات العربية في مدرسة اللغات الشرقية بلندن، وقد وصفه المستشرق البريطاني المعروف (جب) بأنه « عالم دقيق فيما يكتب، وأنه أقام طويلاً في الهند وتعرف إلى مسلميها، وأنه متعاطف مع الإسلام، وكل هذه أمور ترفع أقواله فوق مستوى الشهادات »(دراسات في حضارة الإسلام، ص 244) ذاع صيته بكتابيه: (الدعوة إلى الاسلام) الذي ترجم إلى أكثر من لغة، و(الخلافة). كما أنه نشر عدة كتب قيمة عن الفن الإسلامي.

([3])  انظر التفاصيل المرتبطة بهذه النبوءة في (أنبياء يبشرون بمحمد)

([4])  رجعنا في وصف الحضارات والديانات المعاصرة لبعثة رسول الله r إلى كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لأبي الحسن الندوي، فهو المرجع الذي رجع له الكثير في هذا الباب، وقد رجع  هو بدوره إلى مراجع مختلفة عربية وإنجليزية.

ونحب أن ننبه هنا إلى أن أكثر مراجعنا في هذا الكتاب هي ما يطلق عليه الكثير (الكتب الفكرية) ككتب سيد قطب ومحمد قطب وأبي الأعلى المودودي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي والشهيد الصدر، وغيرهم.. بالإضافة إلى كتب المستشرقين المتعلقة بالإسلام والحضارة الإسلامية.. بالإضافة إلى الكتب المؤرخة للأفكار والأديان والمذاهب، وخاصة (الموسوعة اليهودية) للمسيري، فهي من أوثق المراجع العلمية في هذا الباب.

([5])  The History of Decline and Fall of the Roman Empire V. Y. P. 13.

([6])  Historian's History of the World V. VII p. 175.

([7])  كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية تعرف بالإمبراطورية البيزنطية، وكانت تحكم دول اليونان والبلقان وآسيا وسوريا وفلسطين وحوض البحر المتوسط بأسره, ومصر وكل إفريقيا الشمالية، وكانت عاصمتها القسطنطينية.

([8])  فتح العرب لمصر للدكتور الفرد.ج. بتلر، تعريب محمد فريد أبو حديد.

([9])  خطط الشام للأستاذ كرد علي: 1 / 101.

([10])  خطط الشام للأستاذ كرد علي: 1 / 103.

([11])  The Making of Humanity, by Robert Briffault p 159.

([12])  The Making of Humanity p 160..

([13])  تاريخ الطبري:3 / 38.

([14])  إيران في عهد الساسانيين، ترجمة الدكتور محمد إقبال من الفرنسية إلى الأردية ص 439.

([15])  لكن تعاليمه لم تمت بموته، بل عاشت إلى ما بعد الفتح الإسلامي.

([16])  الملل والنحل للشهرستاني:1 / 86.

([17])  تاريخ الطبري:2 / 88.

([18])  انظر: تاريخ الطبري وتاريخ إيران لمكاريوس..

([19])  إيران في عهد الساسانيين: 421.

([20])  إيران في عهد الساسانيين:161.

([21])  نقل خسرو الثاني في المدائن أمواله إلى بناية أحدثها سنة 607- 608م، وكان ما نقله 460 مليون وثمانية ملايين مثقال ذهب، وذلك ما يساوي 370 مليون وخمسة ملايين فرنك ذهبي، وفي العام الثالث عشر من جلوسه على العرش كان في خزانته 800 مليون مثقال ذهب. ( انظر: إيران في عهد الساسانيين ص 611 )

وقد ذكر المؤرخون أنه كان لكسرى أبرويز 12 ألف امرأة وخمسون ألف جواد وشيء لا يحصى من أدوات الترف والقصور الباذخة  ومظاهر الثروة والنعمة، وقصره مثال في الأبهة والغنى، يقول مكاريوس:« لم يرو في التاريخ أن مليكاً بذخ وتنعم مثل الأكاسرة الذين كانت تأتيهم الهدايا والجرايات من كل البلدان الواقعة ما بين الشرق الأقصى والشرق الأدنى، ولما خرجوا من العراق في الفتح الإسلامي تركوا في الخزائن من الثياب والمتاع والآنية والفضول والألطاف والأدهان ما لا يدرى ما قيمته »

وقد وجد العرب قبابا تركية مملوءة سلالاً مختمة بالرصاص، قال العرب: فما حسبناها إلا طعاماً فإذا هي آنية الذهب والفضة (تاريخ الطبري)

وقد وصف المؤرخون العرب بهار كسرى الذي أصابه المسلمون يوم المدائن فقالوا:« هو ستون ذراعاً في ستين ذراعاً، بساط واحد مقدار جريب، أرضه بذهب ووشيه بفصوص وثمره بجوهر وورقه بحرير وماء الذهب فيه طرق كالصور وفصوص كالأنهار، وخلال ذلك كالدير، وفي حافاته كالأرض المزروعة، والأرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب، ونواره بالذهب والفضة وأشباه ذلك، وكانوا يعدونه للشتاء، إذا ذهبت الرياحين، فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه فكأنهم في رياض (تاريخ الطبري:4/178)

([22])  إيران في عهد الساسانيين ص 590.

([23])  إيران في عهد الساسانيين: 424.

([24])  انظر هذه التفاصيل في (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)

([25])  منوشاستر: الباب الأول.

([26])  منوشاستر الباب الحادي عشر.

([27])  انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين.

([28])  حضارة العرب، تعريب عادل زعيتر: 336.

([29])  فتح العرب لمصر:47.

([30])  فتح العرب لمصر:47.

([31])  Historian's History of the World , V. VII p. 173.

([32])  A Short History of the World.H. G. Wels  

([33])  The Making of Humanity, Robert Briffault P. 164.

([34])  رواه البخاري وأبو داود.

([35])  رواه البخاري وأبو داود، والنسائي، وابن مَرْدُويه، وابن أبي حاتم.

([36])  رواه أحمد والبخاري والترمذي.

([37])  انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، وانظر تفاصيل أخرى في الفصول القادمة.

([38])  Sale's Translation, p. 62 ( 1896)

([39])  فتح العرب لمصر، تعريب محمد فريد أبو حديد، ص 37 – 38.

([40])  الخطط المقريزية:4 / 392.

([41])  ذكر كثير من علماء المسلمين إلى نبوة زرادشت، ويسمونه (نبي المجوس)، وممن انتصر لذلك، وقد توفر له من العلم بالملل والنحل ما يؤهله لذلك ابن حزم، فقد قال في الفصل: « أما زرادشت فقد قال كثير من المسلمين بنبوته »[41] ثم عقب على ذلك بقوله:«  ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله r  لمن صحت عنه معجزة، قال ': ) وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ((فاطر:24)، وقال ':) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ((النساء:164) »

ثم بين أن الذي ينسب إليه المجوس من الأكذوبات باطل مفترى منهم، واستدل على ذلك بالتحريفات الواقعة في الديانات المختلفة،، ثم بين قاعدة جليلة في ذلك فقال:« وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا مقصورين على رجال من أهلها، وكانا محظورين على من سواهما فالتبديل والتحريف مضمون فيهما، وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كان طول مدة دولتهم عند المؤبذ، وعند ثلاثة وعشرين هربذا، لكل هربذ سفر قد أفرد به وحده لا يشاركه فيه غيره من الهرابذة ولا من غيرهم، ولا يباح بشيء من ذلك لأحد سواهم، ثم دخل فيه الخرم بإحراق الإسكندر لكتابهم أيام غلبته لدارا بن دارا، وهم مقرون بلا خلاف منهم أنه ذهب منه مقدار الثلث ذكر ذلك بشير الناسك وغيره من علمائهم »( الفصل في الملل والأهواء والنحل:1/90)

ونفس ما دفع به ابن حزم عن زرادشت ما نسبه إليه المجوس ذكره غيره من العلماء، قال الباقلاني:« وكذلك الجواب عن المطالبة بصحة أعلام زرادشت إما أن نقول إنها في الأصل مأخوذة عن آحاد، لأن العلم بصدقهم غير واقع لنا، أو نقول إنه نبي صادق ظهرت على يده الأعلام، ودعا إلى نبوة نوح وإبراهيم، وإنما كذبت المجوس عليه في إضافة ما أضافته إليه من القول بالتثنية وقدم النور والظلام وحدوث الشيطان من فكرة وشكة شكها بعض أشخاص النور، وهو بمنزلة كذب النصارى على المسيح u من دعائه إلى اعتقاد التثليث والاتحاد والاختلاط، وأن مريم ولدت مسيحا بلاهوته دون ناسوته وغير ذلك»( تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل:203)

وقد ذكر ابن حزم أن هذا القول ليس بدعة للمتأخرين، بل أن من السلف من قال بذلك، قال:« وممن قال أن المجوس أهل كتاب علي بن أبي طالب وحذيفة رضي الله عنهما، وسعيد بن المسيب وقتادة وأبو ثور وجمهور أصحاب أهل الظاهر، وقد بينا البراهين الموجبة لصحة هذا القول في كتابنا المسمى الإيصال في كتاب الجهاد منه وفي كتاب الذبائح منه وفي كتاب النكاح منه»[41]، ثم قال:« ويكفي من ذلك صحة أخذ رسول الله r الجزية منهم، وقد حرم الله عز وجل في نص القرآن في آخر سورة نزلت منه وهي براءة أن تؤخذ الجزية من غير كتابي»( الفصل في الملل والأهواء والنحل:1/90)

([42])  انظر تاريخ إيران تأليف شاهين مكاريوس: 221 – 224.

([43])  الهند القديمة (( بالأوردو )) للأستاذ ايشور اتويا، كل هذه المصادر منقولة من: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين.

([44])  Jawahar Dal Nehru: The Discovery of India P. 201 202.  

([45])  كتاب الأصنام:33.

([46])  رواه البخاري.

([47])  كتاب الأصنام: 44.

([48])  طبقات الأمم لصاعد:430.

([49])  بدأت الفتوحات الإسلامية بعد الجزيرة العربية ببلاد الشام في عام 8هـ/629م حيث أرسل الرسول r جيشاً لقتال الروم يتألف من ثلاثة آلاف محارب، وقد التقى الجيشان في واقعة مؤتة.

ولم يكن الرسول r مطمئناً لنوايا الروم، ففي عام 9هـ/630م وصلته أنباء عن حشود على الحدود مع الجزيرة، فجهز جيشاً قاده بنفسه r، لكنه لم تحدث معركة، ووصل الجيش الإسلامي حتى منطقة تبوك.

وبعد وفاة الرسول r بدأ الخليفة أبو بكر الصديق ستراتيجية جديدة تمثلت بالتوسع في الفتوحات شمال الجزيرة العربية، وقد بدأت الحملات العسكرية بفتح العراق عام 12هـ/633م ودحر الامبراطورية الساسانية، ثم سوريا عام 13هـ/634 م ثم عاصمتها دمشق عام 14هـ/635م التي خسرتها الامبراطورية البيزنطية.

وفي العام التالي حقق خالد بن الوليد انتصاراً ظافراً على جيش هرقل في معركة اليرموك، حيث واجه الجيش الإسلامي وتعداده 25 ألف رجل الجيش البيزنطي وهو ضعف عدده.

وخلال سبع سنوات (633 ـ 640م) أصبحت كل الشام تحت الحكم الإسلامي، من البحر الأحمر حتى جبال طوروس.

ثم فتحت مصر، وهي المقاطعة البيزنطية الشقيقة، عام 20هـ/641م. وكانت مصر تمثل مخزن قمح الامبراطورية الرومانية الشرقية، وأغنى ممتلكاتها. إذ كانت مصر نقطة انطلاق لبقية النفوذ البيزنطي في شمال أفريقيا لينتهي في صقلية وإسبانيا.

ثم تقدمت الفتوحات الاسلامية بسرعة فائقة، حتى قيل إن العرب فتحوا نصف العالم في نصف قرن، أو مقولة نابليون:« إن العرب فتحوا في 90 عاماً ما فتحه الرومان في 900 عام»

وبعد مصر وإفريقيا(تونس) اتجهت الجيوش الإسلامية غرباً لتحرر شمال أفريقيا بكامله إلى أن وصلت إلى ضفاف الأطلسي، وأصبحت القيروان، في تونس، مركز قيادة موسى بن نصير وجنوده من البربر الذين اعتنقوا الإسلام وساهموا في نشره في تلك المنطقة.

وفي عام 92هـ/711م أرسل موسى أحد قواده الأشداء، طارق بن زياد، على رأس قوة مؤلفة من 700 جندي ليعبروا البحر باتجاه الساحل الإسباني.

وكانت القوة قد عبرت مضيق جبل طارق بمراكب أرسلها الحاكم البيزنطي جوليان   Julianلمدينة سيوتا Ceuta، وكان الحاكم في صراع مع الملك القوطي رودريك، فاستنجد بالمسلمين لمساعدته، فأمده موسى بقوة عسكرية من العرب والبربر.

وقد استمرت قوات طارق بن زياد في تقدمها، لتصبح نواة دولة مسلمة تحكم إسبانيا لمدة ثمانية قرون (711 ـ 1492م)

أسس المسلمون دولة عظيمة في الأندلس، وكانت لديهم خطط للتوسع في العمق الأوربي، ولكن ذلك لم يحصل، فقد خسر المسلمون في معركة بلاط الشهداء خسارة كبيرة، واستشهد قائدهم. وفي الليل غادر الجنود المنطقة منسحبين إلى إسبانيا، ولم يعد يفكر أحد بفتح فرنسا.

ثم فتح المسلمون صقلية، في عهد بني الأغلب الذين كانوا يحكمون شمال إفريقيا في العصر العباسي، وقد كان حاكم القيروان زيادة الله (حكم 817 ـ 838 م) قد تلقى طلباً من مجموعة من الثوار على الحكم البيزنطي لصقلية وسرقوسة، فأرسل حملة بحرية تمكنت من فتح باليرمو عاصمة الجزيرة. وتقدم الجيش الإسلامي ليحكم سيطرته على بقية أنحاء الجزيرة، ولتبقى 240 عاماً بأيدي المسلمين.

وقد أصبحت صقلية أكبر قاعدة بحرية للأسطول الإسلامي في البحر المتوسط، وامتد تأثير المسلمين ليس إلى الأطراف الجنوبية لإيطاليا فحسب، بل وصل التهديد إلى نابولي وبقية المدن الشمالية، وحتى روما نفسها تعرضت للتهديد عام 846 م.

وفي عام 1071 سقطت باليرمو بأيدي الفاتحين النورمان، وعادت صقلية مرة أخرى للنفوذ المسيحي. وكان النورمان قبائل غير متحضرة، ولذلك أبقوا على الإدارة والتنظيمات القانونية التي أقامها المسلمون، وحتى الموظفين المسلمين بقوا يزاولون أعمالهم في الكتابة والترجمة والحسابات والرسائل. وقد أحاط الملوك النورمان أنفسهم بالعلماء المسلمين من فلكيين وأطباء وفلاسفة. وقد كتب الجغرافي المسلم الإدريسي (ت 1166م) كتابه المعروف (كتاب روجر) بناءً على طلب الملك روجر.

([50])  رواه أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن حيان في صحيحه، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم أنها نزلت في ذلك، انظر: ابن كثير:1/310.

([51])  غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، يوسف القرضاوي، بتصرف.

([52])  الخراج لأبى يوسف ص 26.

([53])  رواه البخاري.

([54])  القصة رواها أبو داود في كتاب الأدب من سننه، والترمذي في البر والصلة، والبخاري في الأدب المفرد رقم 128 أما الحديث المرفوع فهو من رواية البخاري ومسلم.

([55])  ذكر ذلك ابن حزم في المحلى:5 /117.

([56])  سنذكر هذه النصوص في محلها من هذه الرسالة وغيرها من الرسائل.

([57])  هكذا قال.. والصحيح أن الزكاة ليست على الدخل السنوي، بل على رأس المال النامي وما يدره من دخل مثل زكاة النقود والتجارة، وبعض أنواع الزكاة مثل دخل الاستغلال الزراعي فيه 10 بالمائة أو 5 بالمائة حسب طريقة الري كما هو مقرر في الفقه.. من تعليق يوسف القرضاوي على مقولة ديورانت في كتابه (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي).

([58])  قصة الحضارة: 13/131.

([59])  انظر: الإسلام وأهل الذمة، الدكتور الخربوطلي:ص 170، وهو يعتمد فيما يقرره على المراجع التاريخية الأساسية، بل  على كتابات المستشرقين أنفسهم.

([60])  ابن أبى أصيبعة: طبقات الأطباء جـ 1 ص 185.

([61])  ابن خلكان: وفيات الأعيان جـ 3 ص 256.

([62])  أهل الذمة في الإسلام ص 256.

([63])  انظر ترجمته في: ترتيب المدارك: 3/166 ـ 181.

([64])  الفروق: 3 /15.

([65])  الصَوَامِعُ: هي المعابد الصغار للرهبان، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والضحاك، وغيرهم.. وقال قتادة: هي معابد الصابئين، وفي رواية عنه: صوامع المجوس.. وقال مقاتل بن حَيَّان: هي البيوت التي على الطرق.

البيع: هي أوسع منها، وأكثر عابدين فيها، وهي للنصارى أيضًا. قاله أبو العالية، وقتادة، والضحاك، وابن صخر، ومقاتل بن حيان، وخُصَيف، وغيرهم.. وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره: أنها كنائس اليهود.. وحكى السدي، عمن حَدّثه، عن ابن عباس: أنها كنائس اليهود، ومجاهد إنما قال: هي الكنائس.

الَصَلَوَات: قال العوفي، عن ابن عباس: الصلوات: الكنائس. وكذا قال عكرمة، والضحاك، وقتادة: إنها كنائس اليهود. وهم يسمونها صَلُوتا.. وحكى السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس: أنها كنائس النصارى. (انظر: تفسير ابن كثير: 5/435)

([66])  تاريخ الطبري:3 / 609.

([67])  الخراج لأبي يوسف ص 146.

([68])  انظر: أحكام الذميين والمستأمنين ص 96 – 99.

([69])  انظر: الإسلام وأهل الذمة للدكتور علي حسني الخربوطلي ص 139، و(الدعوة إلى الإسلام) تأليف توماس. و. أرنولد ص 84 - 86 ط. ثالثة. ترجمة د. حسن إبراهيم وزميليه.

([70])  حاشية من صفحة 128 من كتاب (حضارة العرب) لجوستاف لوبون.

([71])  انظر: كتاب (مأساة الإسلام الجريح في الحبشة)، وكذلك التقرير الذي كتبه طالبان أزهريان من الحبشة عن وضع المسلمين هناك، ونشره الشيخ محمد الغزالي في كتاب (كفاح دين) تحت عنوان (ذئاب الحبشة تنهش الإسلام)، وانظر: كتاب (اريتريا والحبشة) في سلسلة مواطن الشعوب الإسلامية للأستاذ محمود شاكر، نشر مكتبة الأقصى ـ عمان.

([72])  انظر: فصل (أحوال المسلمين في الاتحاد السوفييتي) من كتاب (الإسلام في وجه الزحف الأحمر) للشيخ محمد الغزالي.

([73])  انظر: الأيديولوجية الانقلابية ـ فصل (العنف الانقلابي) ص701.

([74])  انظر: الأيدولوجية الانقلابية للدكتور نديم البيطار – منشورات المؤسسة الأهلية للطباعة والنشر ـ بيروت ص 706 – 707.

([75])  الأيدولوجية الانقلابية، ص688.

([76])  انظر: خطاب الرفيق خروشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي ـ ترجمة ماهر نسيم وتقديم الأستاذ عباس العقاد، نشر مكتبة الأنجلو المصرية ـ مطبعة الرسالة.

([77])  انظر: اجتماع الجيوش القرآنية على تجريم    الولايات المتحدة الصليبية، د. وسيم فتح الله.

([78])  سنتحدث في هذه الرسالة عن جرائم الحروب الصليبية في فصل (السلام)

([79])  انظر: الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، محمد عبده، ص36 - 37.

([80])  الأيديولوجية الانقلابية ص714.

([81])  انظر: المسيحية، للدكتور أحمد شلبي، ص51 - 52.

([82])  الأيديولوجية الانقلابية، ص710.

([83])  انظر: الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، للإمام محمد عبده.

([84])  ولا يزال هذا الأسلوب حيا إلى يومنا هذا، وقد حرم شاب مصرى تزوج من بولندية من الحصول على أطفاله الأربعة بعد موت أمهم ليعود بهم إلى مصر، وتمكن من اختطاف ثلاثة منهم (على حد تعبير الكنيسة) و لا تزال طفلته فى الكنيسة تهان وتجبر على عبادة المسيح من دون الله وتؤهل لتكون من (خدم) الكنيسة.. وهي قضية مشهورة تناولتها الصحف المصرية.

([85])  الأيديولوجية الانقلابية ص586 – 588.

([86])  سنذكر بعض هذه النصوص في فصل (سلام) من هذه الرسالة.

([87])  الأيدلوجية الانقلابية ص 714.

([88])  رواه المدائني.

([89])  لكن قال العلماء: لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان، عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء.( انظر: ابن كثير:4/114 )

([90])  سنحاول في هذه الرسالة جمع أكبر قدر من الشهادات المرتبطة بالثمرات المختلفة للإسلام، ولا يخفى ما لهذه الشهادات من اعتبار برهاني علمي، بالإضافة إلى اعتبارها التأثيري في المسلمين أنفسهم، وخاصة من بهرهم الغرب، والحضارة الغربية.

ويحضرني في هذا أن بنت الشيخ المراغي شيخ الأزهر، كانت مسافرة مع أبيها فصادفت في تلك الرحلة امرأة من (الخواجات) فراحت تذكر لابنة الشيخ إعجابها بالعقاد، وخصوصاً (العبقريات)، وهنا راحت ابنة الشيخ تطلب العبقريات من أبيها، فقال الشيخ بحسرة:« أنا شيخ الأزهر، وابنتي لم تسمع لي، وسبق أن كلمتها عن العقاد وكتبه، فلما حدثتها الخواجة استمعت لها وصدقتها »

ثم عقب بألم ومرارة قائلاً:« يبدو أننا لن نؤمن ولن نصدق بالإسلام إلا إذا آمن الخواجة به »

([91])  هذه النقول من كتاب (قالوا عن الإسلام)، من مواضع متفرقة منه.

([92])  سنجري حوارنا الافتراضي معه في فصل (إنسانية)

([93])  مع شهرة توماس بالاعتدال إلا أن البعض شكك في ذلك (انظر:محمود حمزة عزوني، دراسة نقدية لكتاب الدعوة إلى الإسلام تأليف توماس ولكر آرنولد، بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير في الدعوة من المعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة المنورة)

([94])  انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري.

([95])  نقلا عن إبراهيم موسى هنداوي، الأثر العربي في الفكر اليهودي. ص 144، مكتبة الأنجلو المصرية 1963 م.

([96])  «الأيقونة» باليونانية «آيكون» بمعنى «صورة» أو «تمثيل»، ومنها «التأيقن» بالنحت. وفي السياق المسيحي، تشير كلمة «أيقونة» إلى «لوحة» أو «رسم بارز» (بالفرنسية: با رليف bas-relief) أو "لوحة فسيفسائية للمسيح أو العذراء (وأحياناً أحد القديسين). وكانت الأيقونات تُعتبَر أداة مساعدة أو وسيطاً للعابدين حتى يمكن للشخص المقدَّس المصوَّر في الأيقونة والمتجسِّد فيها، أن يستمع لدعواتهم، انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري.

([97])  سنذكر بعض هذه المواطن في هذا المبحث.

([98])  تكوين العقل الحديث، ترجمة جورج طعمة: 1 / 314.

([99])  الإسلام على مفترق الطرق، ترجمة عمر فروخ، ص 39 – 40.

([100])  انظر: الثقافة الإسلامية وأثرها في الحضارة، الأستاذ محمود الشرقاوي.

([101])  انظر: الإسلام والحضارة العربية، محمد كرد علي: 1/284.

([102])  جوستاف لوبون: حضارة العرب ص 26.

([103])  جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص 26.

([104])  جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص 66.

([105])  جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص569.

([106])  انظر: الفيلسوف رينيه جينو أو عبد الواحد يحيى، للدكتور عبد الحليم محمود، ص 50 – 60.

([107])  هو دانتى البجيري (1265-1321م) وهو من مفاخر عصر النهضة، وهو صاحب الكوميديا الالهية، وقد قام بترجمتها إلى اللغة العربية الدكتور حسن عثمان.

([108])  انظر: عبد الرحمن بدوي: دور العرب في تكوين الفكر الأوربي، بيروت 1965، ص 63-84.

([109])  حضارة الإسلام، جرونيباوم، ص 81- 82 م.

([110])  جوده هلال ومحمد صبح: قرطبة في التاريخ الإسلامي، ص104-105.

([111])  سعيد عاشور: فضل العرب على الحضارة الأوربية. القاهرة 1957، ص 36.

([112])  جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص 569.

([113])  ذكرنا المعاني الحقيقية المقصودة من كلام العارفين في هذا المجال الذي أساء البعض فهمه، فراح يرميهم بالكفر والبدعة من غير فهم لمقاصدهم، ولا ذوق لمشاربهم في رسالة (أكوان الله) من (رسائل السلام)

([114])  عباس محمود العقاد: أثر العرب في الحضارة الأوربية. القاهرة 1963، ص 98-99.

([115])  سيديو، تاريخ العرب العام: 2/77.

([116])  سنتحدث عن المناهج المختلفة، ونقارن بينها وبين المناهج التي قررها الإسلام، وأخذ بها علماء المسلمين في فصل  (معارف) من هذه الرسالة.

([117])  بناء الإنسانية، ص202.

([118])  بناء الإنسانية، ص202.

([119])  بناء الإنسانية، ص190.

([120])  بناء الإنسانية، ص109.

([121])  أشير بهذا إلى هجرة الكفاءات والعقول.. فالغرب إن كان قد اعتمد في تشييد النهضة الحديثة على إنجازات الحضارة الإسلامية في العصورالوسطى، فإنه لم يتوقف عند ذلك الحد.. بل هاجرت إلى الدول الغربية والأمريكية أعداد من الكفاءات العلمية والخبرات التقنية، تحصيها مجلة ( العلم والمجتمع ) في عددها الصادر في ديسمبر 1977م بثلاثين ألفا، كما ذكر كتاب ( رجال ونساء العلم الأمريكيين ) 754 من العلماء المتخصصين في مجالات متنوعة، منهم 321 من الدول العربية، 167 من الهند وباكستان، 106 من إيران وأفغانستان، 76 من تركيا ( وهى دولة إسلامية ) وحصى الكتاب من العلماء المسلمين 226 مهندساً، 313 في العلوم الطبية البيولوجية، 255 في العلوم الطبيعية والرياضية.