الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: ثمار من شجرة النبوة

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

ثانيا ـ صمود

1 ـ صمود الجاهلية

اليهودية

1 ـ المصادر:

2 ـ الثمار:

العقيدة:

الشعائر:

3 ـ السلوك:

4 ـ الانتشار:

المسيحية

1 ـ المصادر:

2 ـ الثمار:

العقيدة:

الشعائر:

السلوك:

3 ـ الانتشار:

حضارات ومذاهب

 

2 ـ صمود الإسلام

صمود المصادر

1 ـ صمود الكتاب

1 ـ في وجه المستشرقين:

أصل كلمة (قرآن):

محمد والقرآن:

2 ـ في وجه المبشرين:

جيوش المبشرين:

مسالك المبشرين:

شبهات المبشرين:

3 ـ شهادات المنصفين:

4 ـ شهادات المعتدين:

2 ـ صمود السنة

حفظ الصحابة:

حفظ التابعين:

شبهات وردود:

صمود الثمار

العقيدة:

الشعائر:

السلوك:

صمود الانتشار  

ثانيا ـ صمود

في اليوم الثاني من تلك الأيام العشرة المباركة، التقيت المستشرق الذي قطفت على يده ثمرة الصمود من شجرة النبوة..

وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى:﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر:9)، وسر قوله تعالى:﴿  يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) ﴾(التوبة)

وعرفت بها سر قوله r:« لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة »[1]

وقوله r:« لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون»[2]

وقوله r:« ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله هذا الدين، بعِزِّ عزيز، أو بِذُلِّ ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر »[3]  

فهذه النصوص المقدسة تخبر عن التأييد الذي أمد الله به هذا الدين، فقام صامدا في وجه كل المؤمرات التي كانت ولا تزال تحاك ضده.

وإلى جنب هذا عرفت سر تلك النصوص الكثيرة التي تنبئ المسلمين عن العداوات الكثيرة التي تختزنها لهم الأيام، والتي عبرت عنها النصوص القرآنية والنبوية خير تعبير:

قال تعالى:﴿  وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)﴾(البقرة)

وقال تعالى:﴿ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)﴾(النساء)

وقال تعالى:﴿  إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)﴾(الممتحنة)

وقال تعالى:﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)﴾(التوبة)

فهذه النصوص المقدسة جميعا تقريرات ربانية تخبر المسلمين عبر التاريخ عما يريد الجاهلون والجاهليون أن يفعلوه بالشجرة المباركة التي بذر بذورها نبيهم r.

***

سمعت بـ ( جابرييلي فرانشيسكو)[4] وهو مستشرق إيطالي كان من النوع الذي حدثني عنه مدير جامعة السربون، واسمه من الأسماء التي وضعت في الدفتر الذي سلمني إياه المرشد، وقد كنت أتحين الفرص للقائه والاستماع إليه، ولكني لم أظفر بذلك إلا في ذلك اليوم الجميل...

في صباح ذلك اليوم سرت إلى حديقة جميلة بضاحية باريس، سمعت أن بها شجرة ولدت قبل أن تولد أكثر مباني المدينة، كان يأتيها الشيوخ ليتذكروا شبابهم، ويأتيها الشباب، ليسألوا الله أن يمدهم من العمر ما أمدها.

عندما رأيتها لم أصدق أنها شجرة عجوز، فقد كانت نضارة الشباب تملؤها، فأوراقها لا تزال غضة طرية، وسيقانها الجديدة تضاهي سيقان أصغر الأشجار وأرقها، وثمارها لا تزال تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

ولكن ما أكد لي هذا العمر الطويل الذي رزقها الله إياه هو ضخامة أصولها، وامتداد جذورها، وتعالي هامتها، ورسوخها الشديد في أرضها، فهي لا تهزها العواصف، ولا تعبث بها الأعاصير، ولا تميد بأغصانها الرياح.

وفوق ذلك، فقد اكتسبت مقاومة فعالة ـ لست أدري مصدرها ـ ضد كل تلك الحشرات الضارة التي عبثت بصحة نظيراتها، فأسلمتها إلى الموت المحتوم.

هناك رأيت ( جابرييلي فرانشيسكو) المستشرق الإيطالي، جالسا على عشب تلك الحديقة، يحدق بشدة إلى تلك الشجرة، وكأنه يرى في أوراقها وأغصانها وهامتها ما لا يرى سائر الناس.

فرحت فرحا شديدا للقائه، فحييته باللغة العربية، لأنال فرصة الحديث معه، فقد كنت أعلم هيامه الشديد بها.

عندما سمعني أتحدث بالعربية، طلب مني أن أجلس بجانبه، فجلست، وبدأ يسألني عني، فذكرت له ما أذن لي في ذكره، وحجبت عنه ما نهيت عن ذكره.

قلت له بعدها: أراك مستغرقا في هذه الشجرة، أتتذكر فيها شبابك؟

قال: لا.. أتذكر فيها رجلا غرس شجرة لا تختلف كثيرا عن هذه الشجرة.. لقد غرسها منذ قرون طويلة، ومع ذلك لا تزال غضة طرية ممتلئة شبابا.

مرت عليها الأعاصير.. كل الأعاصير.. فلم تجتثها.

أصيبت الأرض بجانبها بالزلازل، ولكن أرضها لاتزال مستقرة ثابتة.

اجتمعت جميع أسود الدنيا وسباعها لتغرز أنيابها في أصولها، وتقطع منابع الرزق عن فروعها، فعادت إليها أنيابها خاسئة حسيرة عاجزة.

صوبت في وجهها المدافع.. فلم تفلح المدافع، ولم يفلح القائمون عليها.

أضرمت حولها النيران، فلم تحرقها، ولم تجفف أوراقها، ولم تشوه صورتها.

ثم نظر إلى، وقال: هذه الشجرة تذكرني بتلك الشجرة العظيمة.

قلت: من ذلك العظيم الذي غرس تلك الشجرة العظيمة.

قال: صدقت، فالشجرة العظيمة لا يغرسها إلا عظيم.

قلت: فمن هو؟

قال: محمد.

قلت: أي محمد تقصد؟

قال: وهل هناك غير محمد؟

قلت: لعلك تقصد نبي العرب.

قال: بل نبي العالم.. نعم إن شجرة محمد نبتت في بلاد العرب، ولكن أغصانها وأوراقها وثمارها شملت العالم أجمع.

قلت: أي شيء أغراك بتلك الشجرة حتى نالت منك كل هذا الاهتمام؟

قال: الصمود..

قلت: الصمود!؟.. ما تعني بالصمود؟

قال: لقد كنت مغرما منذ صغري بالأبطال الصامدين الذين لا يهتزون لشيء، ولا يتأثرون لشيء.. الأبطال الثابتون على مبادئهم أمام كل ترغيب، وأمام كل ترهيب.

وقد كان من الأبطال الذين امتلأ قلبي تعظيما لهم محمد.. لقد سمعت قوله لعمه الذي جاء يخبره بما أغراه قومه به، وبما رهبوه.. فقال:« يا عم.. والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»[5]

قلت: والمسيح ـ أيضا ـ ثبت أمام خشبة الصليب.. لقد قضى ست ساعات على الصليب، وقد تألم فيها بأنواع عديدة من الآلام لم تزعزعه، ولم تهد كيانه المقدس.

لقد تألم آلاما كثيرة.. آلاما في جسده..  وآلاما في نفسه.

لقد تفل عليه، وضرب بالسياط، ووضعوا إكليل شوك فوق رأسه القدوس، وهو الملك صاحب التيجان الكثيرة.

وطعنوه بحربة في جنبه، وسالت منه ينابيع الغفران من خلال ذلك الدم الذي يطهر من كل خطية، والذي لا يزال يتكلم ويطلب الغفران لأجلنا.

ثقبوا يديه ورجليه بمسامير حديدية غليظة بواسطة أيدي الجنود الرومانيين الذين كانت قلوبهم غليظة.

رددت هذا الكلام من غير شعور، فقال: أنت مهتم بالدين المسيحي إذن؟

قلت: وكيف لا أهتم، وأنا مسيحي؟

قال: وأنا مثلك مسيحي.. أذهب كل أحد إلى الكنيسة.. ولكني لا أشعر بأي اهتمام بالمسيحية.

قلت: لم؟

قال: ألم أذكر لك بأني مغرم بالبطولة والصمود إلى الغاية التي لا تتصورها؟

قلت: ولم تتجل البطولة في أحد كما تجلت في المسيح، وهو على خشبة الصليب.

قال: إن شئت الحق، فإن هناك آلاف المصلوبين في العالم أبدوا من البطولة والصمود على ما هو أخطر من الصليب أضعاف ما ذكر عن المسيح..

بل إنه لا أحد من المجرمين المصلوبين من صاح بذلك الرعب الذي صاح به المسيح عندما قوّله كتبتنا قوله:« إيلي إيلي.. لماذا شبقتني!؟ أي إلهي إلهي لماذا تركتني » (متى:27)[6]

ثم التفت إلي، وقال: حتى لو فرضنا أن ما حصل من المسيح صمود لا نظير له[7]، فإنه صمود شخص يبعث على الإعجاب.. لا صمود أمة..

قلت: ولكن أتباع المسيح أبدوا من الصمود والثبات ما لا نظير له.

إن التاريخ يشهد بالبطولات العظيمة التي أبداها أتباع المسيح في القرون الثلاثة الأولى تجاه جميع أنواع المحن والبلايا والاضطهادات التي مورست عليهم.

لقد كان هناك على الأقل عشرة اضطهادات عظيمة أبدى أتباع المسيح تجاهها من البطولة والصمود ما لا يستطيع أحد في الدنيا أن يبديه:

لقد بدأ الأول في عهد نيرون سنة 64م الذي كان مشهوراً بالظلم والقسوة، حتى أنه أحرق مدينة روما، وألقى تبعة ذلك على المسيحيين، فاضطهدهم بعنف.

لقد كان الإقرار بالمسيحية ذنبا وجُرما عظيما.. لقد قتل نيرون بطرس وزوجته وأناساً كثيرين، وكان هذا القتل في العاصمة، وفي سائر الولايات مستمراً إلى نهاية حياة هذا السلطان الملعون الهالك سنة 68 م.

ثم تلاه الاضطهاد الذي حصل في عهد السلطان دوميتيانوس، والذي صار إمبراطور روما عام 81م، وهو أخو تيطس الذي ذبح اليهود سنة 70م، وكان طاغية جباراً، وعدواً للمسيحيين مثل نيرون، فأجلى يوحنا الحواري، وأمر بالقتل العام، وأسرف في القتل وفي قتل الكبراء ومصادرة أموالهم وحرق دورهم وكتبهم، ونكل بالمسيحيين تنكيلاً عظيماً فاق ما فعله أسلافه، وكاد أن يستأصل المسيحية، وبقى الحال هكذا إلى أن قُتِل الملعون سنة 96م.

ثم تلاه الاضطهاد الذي حصل في عهد السلطان ترايانوس الذي صار إمبراطور روما عام 98م، فقد بدأ اضطهاده العنيف للمسيحيين سنة 101م، واشتد جداً سنة 108م، حيث أمر بقتل كل من بقى من ذرية داوود، فقام الضباط بالتفتيش، وبقتل كل من وجدوه منهم، وأعدم كثيرين من الأساقفة بالصلب أو بالضرب أو بالاغراق في البحر مع سلب أموالهم وحرق دورهم، وبقى الحال هكذا طيلة حياته إلى أن فجأه الموت، فهلك سنة 117م.

ثم تلاه الاضطهاد الذي حصل في عهد السلطان مرقس أنطيونينوس ماركوس، الذي صار إمبراطور روما عام 161م، وكان فيلسوفاً رواقياً ووثنياً متعصباً، بدأ اضطهاده للمسيحيين منذ صار إمبراطوراً عام 161م، ولمدة تزيد على عشر سنين أباد فيها الأخضر واليابس حتى بلغ القتل العام شرقاً وغرباً.

وكان يطلب من الأساقفة أن يكونوا من جملة سدنة الأوثان.. أي خدام الأوثان التي كان يعبدها.. ومن رفض منهم يجلسونه على كرسي حديد تحته نار، ثم يمزق لحمه بكلاليب من حديد.

ثم تلاه الاضطهاد الذي حصل في عهد السلطان سيفيروس، الذي صار امبراطور روما عام 193م، وابتدأ اضطهاده للمسيحيين عام 202م، فأمر بالقتل في كل ناحية، وكان القتل أشده على مصر وقرطاجه وفرنسا حيث الألوف في غاية الشدة ولم يبق طفل ولا شاب ولا رجل ولا إمرأة ولا شيخ.. بل واغتنم الدور والأموال، فظن المسيحيون أن هذا الزمان هو زمان الدجال.

ثم تلاه الاضطهاد الذي حصل في عهد السلطان ماكسيمينيوس، والذي صار امبراطور روما سنة 235 م فأحيا رسوم الوثنية وعباداتها، وبدأ اضطهاده للمسيحيين عام 237م فأصدر أمره بقتل جميع العلماء، لأنه ظن أنه إذا قتل العلماء جعل العوام مطيعين له في غاية السهولة، ثم أمر بقتل كل نصراني بلا فحص ولا محاكمة، فكثيراً ما كان يُطرح منهم في بئر واحد خمسون أو ستون قتيلاً معاً، ثم هم بقتل جميع سكان روما، فقتله أحد الجند سنة 238م.

ثم تلاه الاضطهاد الذي حصل في عهد السلطان دنيس، الذي بدأ إضطهاده للمسيحيين سنة 253م، وقد أراد هذا السلطان استئصال المسيحية، فأصدر أوامره بذلك إلى حكام الولايات، ونفذ الولاة أوامره بقسوة، فبحثوا عن المسيحيين وقتلوهم في كل مكان بعد التعذيب الشديد، وكان ظلمه وقهره شديداً في مصر وأفريقيا وإيطاليا والمشرق (آسيا الصغرى وبلاد الشام )، حتى ارتد في زمنه كثيرون من المسيحية إلى الوثنية.

ثم تلاه الاضطهاد الذي حصل في عهد السلطان والريانوس، الذي بدأ اضطهاده للمسيحيين سنة 257م، عندما أصدر أمره الشديد بقتل جميع الأساقفة وخدام الدين، وإذلال الأعزة ومصادرة أموالهم، وسلب حلي نسائهم، وإجلائهن من الأوطان مجردين من متاعهم، ومن بقى منهم بعد ذلك مسيحيا ورفض تقديم قربان للإله جوبيتر يُقتل أو يحرق أو يلقى للنمور تفترسه، فقُتل بضعة ألوف بأبشع الطرق، وأُخذ الباقون عبيداً مقيدين بالسلاسل لاستعمالهم في أمور الدولة كخدم وعبيد.

ثم تلاه الاضطهاد الذي حصل في عهد السلطان أريلين، الذي بدأ إضطهاده للمسيحيين بأوامر مشددة ضدهم سنة 274م، لكن لم يقتل فيه الكثير لأن السلطان قُتل، ولكنه قد أحرق الكثير من الدور والكنائس.

ثم تلاه الاضطهاد الذي حصل في عهد السلطان دقلديانوس، الذي صار امبراطور روما عام 284م، وبدأ اضطهاده للمسيحيين سنة 286م، بقتل (6600) من المسيحيين في بداية حكمه، وكانت ذروته سنة 302م، واستمر إلى سنة 313 م، ففي سنة 302م أحرق بلدة فريجيا، كلها دفعة واحدة بحيث لم يبق فيها أحد من المسيحيين، وأراد هذا السلطان أن يمحو الكتب المقدسة من الوجود، واجتهد في هذا الأمر اجتهاداً عظيماً فأصدر أمره في شهر آذار ( مارس ) سنة 303م بهدم جميع الكنائس وإحراق الكتب، وعدم اجتماع المسيحيين للعبادة، فنفذ الولاة أمره بصرامة شديدة، فهدمت الكنائس في كل مكان، وأُحرق كل كتاب عثروا عليه بالجد التام، وعُذب عذاباً شديداً كل من ظُن أنه أخفى كتاباً أو صحيفة، وامتنع المسيحيون عن الإجتماع للعبادة، وقد ذكر (يوسي بيس) أنه رأى بعينيه تهديم الكنائس وإحراق الكتب المقدسة في الأسواق.

وأصدر أوامره لعامله على مصر أن يجبر الأقباط على عبادة الأصنام، وأن يذبح بالسيف كل من  يأبى، وأن يحرق كل ما تصل إليه يداه من الكتب، فقتل منهم (800.000) فسمي عصره بعصر الشهداء، وكان يقتل من المسيحيين في كل يوم ما بين 30 إلى80 نفسا.

واستمر إضطهاده شرقاً وغرباً عشر سنين حتى ملأ الأرض قتلاً، فهذا الإضطهاد الأعنف من كل الإضطهادات السابقة وأطولها أمداً عليهم.

قال: ولكنهم ـ في الأخير ـ تزعزعوا أمام إرادة الامبراطور..

نعم.. لم تطق معهم أسلحة الترهيب.. ولكن أسلحة الترغيب جذبتهم.. فتحولت المسيحية من دين المسيح إلى دين قسطنطين.. يغير فيها ما يشاء، ويثبت ما يشاء.

قلت: كيف تقول هذا؟

قال: أنا مؤرخ.. ولا أتعامل إلا مع الوثائق التاريخية، ولدي من الوثائق الكثيرة ما يثبت تلك الانحناءات الخطيرة التي انحناها ورثة المسيح، ليتركوا ـ في الأخير ـ الأمر للبابا الأول حضرة الامبراطور قسطنطين ليتصرف في دينهم كيف يشاء.

اسمح لي.. يا أخي.. أن أقول لك بأن ديننا الذي ندين به ورثناه من الامبراطور، لا من المسيح.

قلت: إن هذا الكلام الذي تقوله خطير جدا.

قال: ولكنه صحيح جدا للأسف..

1 ـ صمود الجاهلية

التفت إلي، فرأى الاستغراب في وجهي، فقال: أنت تريد الأدلة على كل هذا..

قلت: أجل.. فلا يمكن لعقلي أن يتعلق بأي قول لا دليل عليه.

قال: ولن تجد عندي إلا الأدلة.. لقد عقدت مقارنات طويلة بين الأديان والمذاهب والحضارات لأرى مدى صمودها مع عواصف الأيام.. وقد خرجت بالنتيجة التي ذكرتها لك.

قلت: تقصد صمود الإسلام.

قال: أجل.. هو الدين الوحيد الذي صمد أمام كل العواصف والزلازل والبراكين والحروب.. وهو لا يزال صامدا ينتظر عودة جديدة.. عودة قد تكون أقوى بكثير مما كان عليه.. بل إني أستشرف أن يطل بنوره على الأرض جميعا.. ليتحقق ما ذكره القرآن:﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)﴾(التوبة)

قلت: فحدثني عن هذه المقارنة.. واسمح لي أن أناقشك فيما تذكره.. فإنه لا يسهل إقناعي.

قال: أنت مثلي إذن.. إن هذا الخلق هو الذي جعلني أصرف جزءا طويلا من عمري في بحث هذا الجانب.

قلت: ما هو المنهج الذي تعتمد عليه في هذه المناقشة لأرى مدى علميته؟

قال: ألا ترى إلى هذه الشجرة؟

قلت: ما بالها.. وما علاقتها بما نحن فيه؟

قال: إن الصمود ـ على حسب ما توحيه لي هذه الشجرة الصامدة ـ يستدعي صمود ثلاثة أمور:

الأول: صمود المنابع التي تستقي منها هذه الشجرة رزقها، بحيث تستمر في توفير حاجيات الشجرة، لتديم لها نظارتها وبهاءها وحياتها.. لقد أطلقت على هذا النوع من الصمود في أبحاثي (صمود المصادر)

وأما الثاني، فهو صمود الثمار التي تنتجها هذه الشجرة.. بحيث تبقى حلوة نظرة صالحة، فلا قيمة لشجرة حية، ولكنها عقيم.. وقد سميت هذا النوع (صمود الثمار)

وأما الثالث، فصمود الجذور التي تنشرها هذه الشجرة لتمدها بالديمومة والبقاء.. فلا شجرة من غير جذور.. ويمثل هذه الجذور البشر الذين يعتنقون الدين، ويتغذون من منابعه الأصلين.. وقد أطلقت على هذا النوع من الصمود (صمود الانتشار)، فبقدر انتشار الجذور تمتد حياة الأشجار.

اليهودية

تأملت ما ذكره المستشرق ( جابرييلي فرانشيسكو) من أركان الصمود وعلاماته، فوجدته محيطا بها، حاصرا لها، فقلت له: نعم.. صحيح ما ذكرته.. فبمن ترى نبدأ مقارناتنا؟

قال: بأصل المسيحية الأول.. ومنبعها الذي لا تزال تشرب منه.

قلت: تقصد اليهودية!؟

قال: أجل.. ألم يكن المسيح يهوديا.. وولد في بيئة يهودية..

قلت: ولكنه جاء بدين جديد مختلف تماما عن اليهودية.

قال: ولكننا لا نزال نستمد من نفس مصادر اليهودية.. حتى لكأن المسيحية مذهب من مذاهب اليهودية.. أو نسخة مشوهة عنها.. بل إننا لا نزال إلى اليوم نحن إلى اليهود، ونقبل أعتابهم، ونقتل أولئك المسلمين الأبرياء في سبيلهم.

قلت: فحدثني عن صمود اليهودية.

قال: اليهودية لم تصمد في يوم من الأيام.. لقد بدأ انحدارها في عهد موسى نفسه.. لقد أذاقوا موسى من ألوان الإيذاء ما تعلمه.. ومن ذلك الحين.. وهم خاضعون للشياطين.

1 ـ المصادر:

قلت: لقد ذكرت أن أول صمود هو صمود المصادر.. ونحن إلى الآن نرى صمود مصادر اليهودية[8].. فكيف تزعم سقوطها؟

قال: ومن ذكر لك بأن مصادر اليهودية صمدت في يوم من الأيام.. سأذكر لك من الشهادات ما يثبت لك أن المصادر اليهودية قد عرض لها من التحريف ما أحالها مصادر قومية من القوميات، لا كتابا مقدسا يتعبد لله بتلاوته، وبسلوك هديه.

ولو كان لدي وقت لأتيت بنسخ العهد القديم وتراجمه وطبعاته لأثبت لك بعض التحريف الذي لحقها[9].. أما كل التحريف، فلا يطيق أحد من الناس الاطلاع عليه.

قلت: عساك تأتيني بشهادات القرآن.. أو علماء المسلمين الذين اشتدوا على مصادرنا.

قال: لا.. بل سأذكر لك شهودا من قومنا.. فلا شهادة أصدق من شهادة الإنسان على نفسه.

وأول هؤلاء الشهود القديس جيروم، فقد ذكر في (مقدمة كتاب أسئلة العبرانيين)[10]تهمته لليهود بالتحريف فقال إن هدف مقدمة أي كتاب هو تقديم البراهين التي سوف تعرض في الموضوع، ولكني مجبر أن أبدأ بالرد علي ما أثير عني..

إن حالتي إلي حد ما تشبه حالة تيرينس[11] الذي حول مقدمة روايته المسرحية إلى الدفاع عن نفسه, ولدينا لاسياس لنيوفينس[12] الذي أزعجه، واتهم الشاعر، وكأنه سارق للكنوز, وعانى شاعر مانشوا نفس المعاناة, فقد ترجم أبياتا قليلة من قصيدة هومار حرفيا فقيل عنه:« ما هو إلا منتحل من العصور القديمة », ورد عليهم قائلا:« إنه ليس قوة ضئيلة تلك التي تنتزع الهراوة من يد هيركليوس, وتولى الذي تربع علي قمة البلاغة الرومانية وملك الخطابة ومجد اللغة اللاتينية, فلما اتهم بسرقة الأعمال الأدبية من قبل اليونانيين من أجل ذلك لا أندهش أن يتعرض مسكين صغير مثلي لنخير سفلة الخنازير, الذين يدوسون لؤلؤتنا بأقدامهم, حين يكون هناك رجال نيران الحسد ذوي قدر كبير من العلم, مجد هؤلاء الرجال يتعين أن يخمد الحسد ولكن  تلهب الحاقدين, نعم قد حدث هذا لأناس رنين فصاحتهم ملئت المسرح. مجالس الشيوخ, تجمعات العامة ومنابر الخطابة, ان الرجل المقدام دائما ينتقض من قيمته كما قال هوريس[13]:« إن قمم الأعالي تتعرض لضربات البرق »

ولكن أنا في الزاوية, بعيد عن المدينة والتجمعات, بعيد عن الساحات المزدحمة, ومع ذلك وكما قال كوينتليان[14]:« الحسد يبحث عني »

لذلك ألتمس من القارئ إن كان هناك قارئ، إن كان هناك من تعمق برغبة عارمة في هذه السطور، اطلب منه أن لا يتوقع فصاحة أو حسن الخطابة في فصول أسئلة العبرانيين، والتي أنوي أن أكتب عن كل أسفار الكتاب المقدس, وبدل أن يتوقع القارئ الفصاحة من هذه الكتابات, أرجو منه أن يقوم بالدفاع عني بنفسه أمام منتقدى نيابة عني, وقولوا لهم: آن العمل، الجديد من نوعه يستحق قليل من المغفرة, وأنا حاليا رجل فقير وفي حالة سيئة, لا أملك ثروة، ولا أرى أنه يليق أن أقبلها إن عرضت علي, ودعوني أيضا أقول لهم: إنه يستحيل عليهم أن يحوزو علي غنى المسيح, وغنى المسيح هي معرفة الكتاب المقدس, مع غنى العالم.

سوف أجعل هدفي الأول هنا أن أشير إلي خطأ من يشكون في وجود أخطاء في النسخة العبرية, أما هدفي الثاني، فهو تصحيح تلك الأخطاء، ومن الواضح إن الأخطاء انتقلت إلي النسخة اليونانية واللاتينية بسبب اعتمادها علي المرجع الأصلي الخاطئ, وبالإضافة إلي ذلك, سوف أقوم بتوضيح الأشياء والأسماء والبلدان صرفا، وذلك إن كانت ليست واضحة في اللاتينية, ويكون ذلك بإعادة صياغتها باللغة الدارجة.

ولكي يسهل علي الدارسين معرفة ما قمت به من تصحيحات, أقترح في البدء أن نحدد القراءة الصحيحة, وأنا قادر علي فعل ذلك الآن, ثانيا ثم بعد ذلك نأتي بالقراءات اللاحقة ونقارن بما حددنا في الأول, ثم نشير علي ما أنقص, أضيف أو بدل, وليس هدفي من هذا كما يدعي علي الحساد أن أدين الترجمة السبعينية ولا أقصد بعملي أن أنتقص من مترجمي النسخة السبعينية، ولكن الحقيقة هي أن ترجمتها كانت بأمر من الملك بطليموس في إسكندرية, وبسبب عملهم لحساب الملك, لم يرد المترجمون أن يذكروا كل ما يحتويه الكتاب المقدس من الأسرار خاصة تلك التي تعد لمجىء المسيح, خشية أن يظن الناس أن اليهود يعبدون إلها آخر، لأن الناس كانت تحترم اليهود في توحيدها لله، بل أننا نجد أن التلاميذ وأيضا ربنا ومخلصنا وكذلك الرسول بولس استشهدوا بنصوص من العهد القديم، ونحن لا نجدها في العهد القديم, وسوف أسهب في هذا الموضوع في مكانه المناسب, كما أن يوسفوس المؤرخ اليهودي أخبر أن المترجمون ترجموا فقط أسفار موسى الخمسة، ومن الواضح أن الأسفار الخمسة أكثر الأسفار انسجاما من نسختنا بينما ترجمات أكيلا , سيمشيس وثيودوشن تختلف اختلافا كبيرا عن النسخة التي نستخدمها » 

ومن هذه الشهادات الرسالة التي أرسل بها أريجانوس إلى يوليوس الأفريقي، سأقرأ لك الرسالة لتكتشف الشهادة بنفسك.

لقد قال له:« سلام من أوريجانوس إلى أفريكانوس ( يوليوس الأفريقي ) الحبيب في الله الآب خلال ابنه القدوس  يسوع المسيح.

عرفت من خلال رسالتك, رأيك في قصة سوسنه المذكورة في سفر دانيال, ذاك السفر الذي يقرأ في الكنائس رغم أنه واضح وجود نقص في القصة نوعا ما, ومع وجود معضلات كثيرة في كلماتها القليلة إلا أن لا معضلة من المعضلات تستلزم بحثا كاملا ويكفينا رسالة مطولة, وأنا إذا أمعنت النظر في مقدرتي العلمية حسب معرفتي أري أني غير مؤهل لأن أرد عليك بالدقة المطلوبة في هذا الموضوع, بالإضافة إلى ذلك أن الأيام القليلة التي قضيتها في نيكوميديا لم تكن كافية لكتابة رد يستوفي استفساراتك وطلباتك ولا حتى علي هيئة هذه الرسالة, فلتعذرني في تقصيري  وضيق وقتي، ولتقرأ هذه الرسالة بتمعن وسوف أمدك إن كان هناك ما لم أذكره.

لقد بدأت رسالتك بقولك أني في نقاشي مع صديقنا بسوس ذكرت قصة سوسنة من نبوة  دانيال , وقلت أني ذكرت القصة، وكأني لم أنتبه إن هذا الجزء من نبوة دانيال زائفة, وقلت أيضا أنك تمدح في فقرات قصة سوسنة،  وترى عباراتها رشيقة غير أنك تجد فيها أخطاء، وأنها قد كتبت حديثا لذلك فهي فقرة مزورة, وأضفت أن المزور لجأ إلى ما لم يلجأ إليه حتى الكاتب المسرحي فلستون في تلاعبه بالألفاظ بين كلمة برينوس  prinos  وبريسن preisen وسيشيس سيشينوس, تلك الكلمات في نطقهم في اليونانية يمكن إستخدامها بهذه الطريقة ولا يمكن ذالك بالعبرية.

في الرد علي ذلك أقول لك, ما ينبغي أن نفعله مثل كل هذه الحالات، وليس فقط في حالة قصة سوسنة, تلك القصة التي نجدها في كل كنائس المسيح في النسخة اليونانية التي يستخدمها اليونانيون, ولكن لا توجد في النسخة العبرية, ولا تحتوي النسخة العبرية أيضا علي الفقرات  التي قلت أنها في آخر الكتاب تلك التي تتحدث عن الصنم بال والتنين، ليست فقط تلك الفقرات بل آلاف الفقرات, ولقد أدركت ذلك عندما كنت  بإمكانياتي الصغيرة أجمع النسخة العبرية مع نسختنا.

وفي سفر دانيال نفسه وجدت كلمة (أوثق) تلتها نصوص كثيرة في نسختنا، ولا توجد في النسخة العبرية نهائيا,.بدأ من (حسب بعض النسخ المتداولة في الكنيسة) وصلي حننيا و عزريا و ميشائيلو ورنموا للرب » إلى  « باركوا يا جميع القانتين الرب اله الالهة سبحوا و اعترفوا لأن إلى الأبد رحمته وحينئذ سمعهم الملك وهم يرنمون » (من دانيال: 3/25-90 حسب النسخة الكاثوليكية الحالية)، أو كما في نسخة أخرى:« ومشوا في وسط النار يسبحون الله ويمجدون الرب »، إلى:« باركوا يا جميع القانتين الرب اله الآلهة سبحوا و اعترفوا لأن إلى الأبد رحمته »

أما في النسخة العبرية فعبارة ( وهؤلاء الثلاثة الرجال شدرخ و ميشخ و عبد نغو سقطوا موثقين في وسط أتون النار المتقدة ) تليها مباشرة  ( حينئذ تحيّر نبوخذناصّر الملك وقام مسرعا، فأجاب، وقال لمشيريه: ألم نلق ثلاثة رجال موثقين في وسط النار. فأجابوا وقالوا للملك صحيح أيها الملك.  أجاب وقال ها أنا ناظر أربعة رجال محلولين يتمشون في وسط النار وما بهم ضرر ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة »

أكيلا وهو يتبع القراءة العبرية قد ذكرها، وهو ممن يشهد له اليهود أنه ترجم الكتاب المقدس بعناية غير عادية, وتعتبر ترجمته من أفضل الترجمات لتي يستخدمها من لا يجيد العبرية، من ضمن النسخ التي ذكرتها, نسختين تحت حوزتي إحداهما تتبع النهج السبعيني والأخري  نهج ثيودوشن, والنسختان تذكران قصة سوسنة التي وصفتها بأنها قصة مفبركة, وكذلك النصوص التي جاءت في آخر دانيال مذكورة, ومجموعها حسب تقديري أكثر من مائتي آية.

وفي أماكن أخرى كثيرة في الكتاب المقدس وحدت إضافية توجد في نسختنا، ولا توجد في النسخة العبرية، وأحيانا وجدت نسختنا تنقصها نصوصا نجدها في العبرية, وسوف أقدم عدة أمثلة حيث يصعب أن أذكر كل النصوص:

أدعية أستير ومردخاي في سفر أستير التي من شأنها أن تهذب القاري لم تذكر في النسخة العبرية, وكذلك النصوص التي تتحدث عن رسائل أستير إلى مردخاي، ولا تلك الموجهة لهامان عن إبادة اليهود، ولا عن رسالة مردوخ باسم أحشوبيرش لإنقاذ الشعب اليهودي.

و في سفر أيوب, العبارات (مكتوب أنه سوف يقوم مرة أخري مع الذين يقيمهم الرب ) إلى النهاية, هذه العبارات ليست في النسخة العبرية، ولا في نسخة أكيله اليونانية بينما توجد في (الترجمة ) السبعينية ونسخة ثيودستن, ويتوافقان معا علي الأقل في المعني.

وقد وجدت في أماكن كثيرة في سفر أيوب نصوصا إضافية في نسختنا, هذه الإضافات أحيانا  صغيرة وأحيانا كثيرة كثرة هائلة, من الإضافات الطفيفة علي سبيل المثال, نجدها بعد عبارة  « وبكّر في الغد واصعد محرقات على عددهم » (أبوب: 5/1) يضاف  بعدها:« عجل صغير لخطايا أرواحهم » إلى « جاء ملائكة الله ليمثلوا أمام الرب وجاء الشيطان أيضا في وسطهم »( أيوب: 1/6) « من الجولان في الأرض ومن التمشي فيها »، ثم بعد عبارة « الرب أعطي لرب أخذ » النسخة العبرية ليس فيها «  وكان كذلك إذ قد بدا جيدا للرب »، كما أن محتويات نسختنا أكثر بكثير من النسخة العبرية عند حديث زوجة أيوب له, بدأ من قول «  إلى متى تصبر  فقال لها: أنتظر قليلا, انتظر أمل خلاصي » إلى « حتى تنتهي آلامي وأحزاني التي تتوقني » أما النسخة العبرية فلا تحتوي سوي عبارة « ألعن الرب ومت » (أيوب: 2/9 )

ومن الناحية الأخرى, نجد نصوص كثيرة خلال سفر أيوب تفتقدها نسختنا, عامة أربع أو خمس آيات ( أعداد )، ولكن أحيانا النقص يتراوح ما بين أربعة عشر إلى تسعة عشر آية في  (مختلف نسخنا)

ولكن لماذا أسرد كل الأمثلة التي جمعتها بمشقة, كي أثبت لك أن الفوارق بين النسخ العبرية ونسخنا لم أغفل عنه؟ في إرميا لاحظت أمثلة عديدة, بل إني وجدت في ارميا تغيرات كثيرة في مواقع النصوص واختلافات في قرأه كثير من النبوات, وفي سفر التكوين في نص خلق السماء, عبارة « ورأى الله أن ذلك حسن »، ولا يوجد جدال صغير بينهم في ذلك.

وفي مثال آخر نجده في سفر التكوين, وقد علمت عليها لأجل التمييز بالعلامة التي يسميها اليونانيون المسلة كما أني أشرت بعلامة نجمية علي النصوص التي تحتويها نسخنا ولا تحتويها النسخة العبرية.

وماذا أقول عن سفر الخروج  حيث تجد التضارب في النصوص التي تتحدث عن خيمة الاجتماع ومحكمتها وكذلك ملابس الكهنة ورئيس الكهنة, هذه النصوص أحيانا لا يوجد تشابه بينهما حتى في مضمون معانيها.

وعندما نلاحظ مثل هذه الأشياء علينا أن نرفض فورا النسخ المستخدمة في كنائسنا  باعتبارها محرفة، ونفرض علي الإخوة أن يتركوا تلك النسخ، ويتلطفوا إلى اليهود كي يعطونا نسخا لم يتلاعب بها وليس فيها تزوير, أم نحسب أن العناية الإلهية في الكتاب المقدس وخدمتها في توعية الكنيسة لم تفكر في هؤلاء الذين دفع لهم الثمن، ومات المسيح من أجلهم إذ لم يستثني الله شيئا في حبه حتى ابنه تخلي عنه وبذله من أجلنا, وبه يعطينا كل شيء.  

« لا تنقل التخم القديم الذي وضعه آباؤك »

في كل هذه الحالات تمعن ما إن كان ليس حسنا أن يذكر قول:« لا تنقل التخوم القديمة التي وضعها آباؤك » ولا أقول ذلك لأتجنب التحقيق في كتاب اليهود ومقارنتها بنسخنا وملاحظة الفوارق, فقد فعلت ذلك إلى حد بعيد قدر إمكاني, ولا تعتبر قولي نوعا من الغطرسة,  فقد بذلت جهدا كبيرا للوصول إلى معاني كل الطبعات وكذلك القراءات المختلفة، وقد ركزت في عملي علي النسخة السبعينية خشية أن يقال أني أنسب التزوير إلى كل الكنائس, وبذلك أمنح  فرصة لمن يبحثون عن أي نقطة ينطلقوا منها للافتراء علي الإخوة, ولدى هؤلاء رغبة عارمة في توجيه الاتهامات إلى النخبة من جماعتنا, وأنا أسعي إلى معرفة الفوارق بين النسخ  وعدم الجهل بها كي أتمكن في جدالي مع اليهود أن أستحضر الشواهد من النصوص غير المذكورة في نسخهم, وأيضا كي أستشهد بالنصوص التي في نسخهم حتى وإن كانت ليست في نسخنا, فإننا إن تهيأنا لهم في نقاشنا معهم لن يستطيعوا أن يسخروا منا نحن الأميين, فمن أخلاقهم السيئة أن يحتقروننا قائلين إن الأمميين ليس لديهم النسخة الصحيحة التي في حوزتهم.

أما عن عدم ذكر النسخة العبرية لقصة سوسنة.. دعنا الآن ننظر إلى الأشياء التي تجد فيها أخطاء في قصة سوسنة, ولنبدأ بما هو محتمل إن يسبب عدم تقبل قصة سوسنة, أقصد التلاعب بين كلمتي برينوس وبريسي وكذلك شينوس وشيسيس, تقول أن هذا ممكن في اليونانية ولكن لا يمكن في اللغة العبرية لأنه لا يوجد تقارب في الكلمتين في العبرية. ولكني أشك في صحة قولك, لأني عندما بحثت في هذه النقطة ( فقد كنت أرى نفس المشكلة من قبل) لقد استشرت عددا من اليهود عن الموضوع, سألتهم عن المرادف العبري لكلمتي برينوس وبرئسين وماذا يسمون شجرة سشينوس زسيشيس, ولم يعرفوا كلمتي برينوس وسشينوس اليونانيتين وطلبوا مني أن أريهم الأشجار كي يخبروني ماذا يسمونها بالعبرية, وللتو فعلت ذلك (من أجل الحقيقة أيها العزيز) ووضعت أمامهم الأشجار, فقال أحدهم أنه لا يستطيع أن يسمي أي شيء بثقة ما لم يذكر في التوراة, وإن تعذر الحصول علي مرادف الكلمة يمكن للواحد أن يستخدم مرادفها السرياني, وأضاف قائلا:« إن بعض الكلمات لا يستطيع أحد ترجمتها حتى », ثم قال:« إنه من المكن للواحد أن يعرف معني تلك الكلمات إذا عرفت أين وردت في الكتاب، ولكن إن لم تذكر نهائيا فلا سبيل إلى معرفتها »

هذا هو ما أخبرني اليهودي الذي ناقشته, وهو شخص علي دراية بالتاريخ, ولذلك لا أستطيع أن أتسرع في تأكيد وجود ما يماثل تلك الكلمات في العبرية, أما تأكيدك في عدم وجودها فأنت تعلم ما بنيت عليه نظرتك.

علاوة علي ذلك, أذكر أني سمعت من يهودي دارس وهو ابن لحكيم يهودي يقال إن والده مرنه وأعده ليخلفه من بعده , لقد حاورته في أمور عدة ولم يرفض قصة سوسنة وأسماء الشيخان كما وردت في ارميا « يجعلك الرب مثل صدقيا ومثل اخآب اللذين شواهما ملك بابل بالنار من أجل إثمهما في إسرائيل »( ارميا: 29/22-23) كيف إذن يقطع أحدهما بالمنشار من قبل الملائكة ويمزق الآخر إربا إربا , والإجابة علي ذلك هي أن هذه نبوات تخص يوم الدينونة بعد الرحيل من هذا العالم, مثل ( نبوة ) ذاك العبد الآثم وسيده وقول العبد:« سيدي يبطئ قدومه » ثم يستسلم للشرب والأكل مع السكارى ويضرب رفاقه العبيد, وعند مجيء سيده «  يقطعه إربا ويجعل نصيبه مع غير المؤمنين »

كذلك الملاك الموكل بالعذاب سوف يتمم هذه الأمور علي الرجلين الذين جعلا شيخين ولكنهما استغلا مناصبهما في أعمال شريرة, أحدهما سوف يقطع بالمنشار لظلمه في القضاء بإدانة البريء وتبرئة الجاني، والآخر سوف يمزق إربا، وهو ليس  من نسل يهوذا بل من نسل كنعان وقد فتنه الجمال و أضلت الشهوة قلبه.

وأعرف يهوديا آخر ذكر الشيخين  وقال اتهما تظاهرا ليهود المنفي الآملين بمجي المسيح ليحررهم من العبودية.. تظاهر الشيخان بمعرفة كل ما يتعلق بالمسيح وأنهما بذلك خدعا زوجات مواطنيهما من أجل ذلك يقول دانيال لأحدهما:« أيها المتعتق الأيام الشريرة » وقال للآخر:« هكذا كنتما تصنعان مع بنات إسرائيل لكن بنات يهوذا لم تحتمل فجوركما » 

غير أنك سوف تقول: إذا كان اليهود تناقلوا هذه القصة، فلماذا إذن ليست مذكورة في النسخة العبرية لدانيال، والإجابة هي أن اليهود يخفون عن الناس قدر الإمكان النصوص الني تحتوي علي فضائح الشيوخ الحكام والقضاء.. بعض هذه القصص وردت في الأسفار الأبوكريفا كقصة عيسو التي شهد لها رسالة العبرانيين غير أننا لا نجدها في أي من أسفار اليهود.. لقد قال كاتب رسالة العبرانيين وهو يتحدث عن الأنبياء وما عانوه, يقول:« رجموا نشروا جربوا ماتوا قتلا بالسيف » (11/37 )

وأنا أسأل, إلى من تشير كلمة ( نشروا ) التي تعني ( قطعوا بالمنشار )

نحن نعلم جيدا أن التقليد يخبرنا أن عيسو النبي قطع بالمنشار، وهذا مذكور أيضا في بعض كتب الأبوكريفا التي من المحتمل أن اليهود حرفوها بإضافة نصوص واضحة في كونها غير صحيحة، وذلك كي تثار الشكوك حول مصداقية السفر كليا.

ولكن ربما أحد ما  أمام هذه الحجة القوية يستعين بالرأي القائل إن رسالة العبرانيين لم يكتبها بولس، وهذا الرأي سوف أفنده في وقت أحر وأثبت أن بولس هو كاتبها.. أما الآن فسوف أقدم من الإنجيل شهادة يسوع المسيح عن الأنبياء مع قصة أشار إليها لكنها لم تذكر في العهد القديم لأنها أيضا تخص فضائح القضاء الظلمة في إسرائيل.

كلمات مخلصنا هي « ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لانكم تبنون قبور الانبياء وتزيّنون مدافن الصديقين , وتقولون لو كنا في ايام آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء , فانتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء  فاملأوا انتم مكيال آبائكم. أيها الحيّات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم. لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة فمنهم تقتلون وتصلبون ومنهم تجلدون في مجامعكم وتطردون من مدينة إلى مدينة. لكي يأتي عليكم كل دم زكي سفك على الأرض من دم هابيل الصدّيق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح: الحق أقول لكم إن هذا كله يأتي على هذا الجيل  يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن اجمع أولادك كما تجمع الدجاجة أفراخها تحت جناحيها ولم تريدوا.  هوذا بيتكم يترك لكم خرابا »

فلننظر الآن, ألسنا في هذا الحالة ملزمين أن نصل إلى استنتاج وهو إن المخلص يعطينا قصة حقيقية عن اليهود بينما لا نجد أي نص من الكتاب المقدس يؤكد قول يسوع , فإن الذين يبنون قبور الأنبياء ويزينون مدافن الصديقين ويدينون جرائم آبائهم يقولون لو كنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء (متي 23/29-39)

فهل من أحد يخبرني: دم أي نبي من الأنبياء وأين ذكر هذا عن عيسو أو ارميا أو أي من الأنبياء الإثني عشر أو دانيال, وحتى زكريا بن برخيا الذي قتل بين الهيكل والمذبح لم نعرف عنه إلا من يسوع، ولولا يسوع لما عرفنا القصة، فالكتاب المقدس لم تذكر القصة أبدا.

من أجل ذلك, أعتقد أنه لا يوجد افتراض آخر سوى أن الحكماء والقضاة وأيضا الشيوخ أخفوا عن الناس النصوص الني تسيء إليهم.. لذلك يجب أن لا نرى غرابة في كون قصة الشيخان الفاجران وشرهما ضد سوسنة قصة حقيقية لكنها أخفيت ومسحت من الكتاب المقدس علي يد شيوخ اليهود.

وفي أعمال الرسل يقول استفانوس:« أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم وقد قتلوا الذين ظهروا قبل مجي صاحب العدل الذي غدرتم به وقتلتموه »( أعمال الرسل 7/52)

إن كل من يؤمن بقانونية  سفر أعمال الرسل يقر بصدق كلام استفانوس، ولكن من المستحيل أن نثبت تهم اضطهاد وقتل الأنبياء من العهد القديم لمن لا يؤمن بيسوع.

ويقول بولس في رسالته الأولى إلى تسالونكي:« فإنكم أيها الإخوة صرتم متمثلين بكنائس الله التي هي في اليهودية في المسيح يسوع لأنكم تألمتم أنتم أيضا من أهل عشيرتكم تلك الآلام عينها كما هم أيضا من اليهود الذين قتلوا الرب يسوع وأنبياءهم واضطهدونا نحن وهم غير مرضين للّه وأضداد لجميع الناس »( تسالونكي 2/14-15)

أعتقد أن ما قلته كاف لأن يبرهن علي صحة قصة سوسنة، وأن الهجوم القاسي علي سوسنة من قبل الشيخان حقيقة قد كتبت بواسطة روح الحكمة ولكن أزالها قضاة سدوم [15] كما يسميهم الروح »

لما انتهى من قراءة هذه الشهادة الخطيرة التي يحاول رجال الدين في الكنيسة جهدهم أن يخفوها عن العامة وأهل العلم.. قال لي: ها هو شاهد من أهلها أثبت وقوع التحريف..

لا شك أن هذين الشاهدين ليسا مسلمين.. ولا من العوام البسطاء.. ولا من أهل الهرطقة.. بل كلاهما مسيحيان.. ومسيحيان مخلصان لا نشك في إخلاصهما.

قلت: نعم.. إن ما ذكرته شهادات خطيرة.. ولكنا لا نعتمد إلا على نسخنا المخطوطة القديمة.. وهي في نظرنا أقوى من كل شهادة.

ابتسم، وقال: ومن أخبرك بأن نسخنا لم تحرف، وأنها بنفس حالتها الأصلية.

قلت: لأن كلام الله المقدس يستحيل أن يتجرأ أحد.. أو يستحيل أن يقدر أحد على تحريفه.. إن كلام الله لا يمكن أن يحرفه إنسان أو حتي شيطان.

لقد جاء في (إنجيل مرقس: 13: 31 ):« السماء و الأرض تزولان، ولكن كلامي لا يزول »

قال: إن هذا الكلام الذي تعود أحبارنا على ترديده لم يرد به هذا.. ولا علاقة له بهذا.. إن المسيح ـ في النص الذي ورد فيه هذا ـ يتحدث عن الأيام الأخيرة، مخبرا عما سيحدث فيها ومبلغا بما يجب أن يفعله الناس يومها.

وسأورد لك النص كاملا من (إنجيل مرقس 13: 1 – 32 ) لتفهم حقيقة المراد منه « وبَينَما هو خارِجٌ مِنَ الهَيكَل قالَ له أَحدُ تَلاميذِه: ( يا مُعَلِّمُ انظُر! يا لَها مِن حِجارَة ويا لَها مِن أَبنِيَة ) فقالَ لَه: يسوع: (أَتَرى هذهِ الأَبنِيَةَ العَظيمة؟ لَن يُترَكَ هُنا حَجَرٌ على حَجَرٍ مِن غَيرِ أَن يُنقَض)

وبَينَما هو جالِسٌ في جَبَلِ الزَّيتونِ قُبالَةَ الهَيكَل، اِنفَرَدَ بِه بُطرُسُ ويَعقوبُ ويوحَنَّا وأَندَراوس وسأَلوه: (قُلْ لَنا متى تكونُ هذه الأُمور، وما تَكونُ العَلامَةُ أَنَّ هذه كُلَّها تُوشِكُ أَن تَنتَهيَ)، فأَخَذَ يسوعُ يَقولُ لَهم: (إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكم أَحَد. فسَوفَ يَأتي كثيرٌ مِنَ النَّاسِ مُنتَحِلينَ اسمي فيَقولون: أَنا هو! ويُضِلُّونَ أُناساً كثيرين. فإِذا سَمِعتُم بِالحُروبِ وبإِشاعاتٍ عَنِ الحُروب فَلا تَفزَعوا، فإِنَّه لابُدَّ من حُدوثِها، ولكِن لا تكونُ النَّهايةُ عِندَئِذً. فستَقومُ أُمَّةٌ على أُمَّة ومَملَكَةٌ على مَملَكة، وتَحدُثُ زَلازِلُ في أَماكِنَ كَثيرة، وتَحدُثُ مَجاعات، وهذا بَدْءُ المَخاض. فخُذوا حِذْرَكم. سَتُسلَمونَ إِلى المَجالِسِ والمَجامِع، وتُجلَدون، وتَمثُلونَ أَمامَ الحُكَّامِ والمُلوكِ مِن أَجْلي شَهادةً لدَيْهِم. ويَجِبُ قَبلَ ذلك أَن تُعلَنَ البِشارَةُ إِلى جَميعِ الأُمَم. فَإِذا ساقوكُم لِيُسلِموكم، فلا تَهتَمُّوا مِن قَبلُ بِماذا تَتَكَلَّمون، بل تَكَلَّموا بِما يُلقى إِلَيكُم في تلك السَّاعة، لأَنَّكم لَستُم أَنتُمُ المُتَكَلِّمين، بلِ الرُّوحُ القُدُس. سَيُسلِمُ الأَخُ أَخاهُ إِلى المَوت، والأَبُ ابنَه، ويَثورُ الأَبناءُ عَلى والِدِيهِم ويُميتونَهم، ويُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجلِ اسمي. والَّذي يَثبُتُ إِلى النِّهاية، فَذاكَ الَّذي يَخلُص.

وإِذا رَأَيتُمُ المُخَرِّبَ الشَّنيعَ قائماً حيثُ لا يَنبَغي أَن يَكون، فمَن كانَ يَومَئِذٍ في اليَهودِيَّة فَلْيَهرُبْ إِلى الجِبال.ومَن كانَ على السَّطْح، فلا يَنزِلْ ولا يَدْخُلْ بَيتَه لِيأخُذَ مِنْه شَيئاً. ومَن كانَ في الحَقل، فَلا يَرتَدَّ إِلى الوراءِ لِيأخُذَ رِداءُه. الوَيلُ لِلحَوامِلِ والمُرضِعاتِ في تِلكَ الأَيَّام. صَلُّوا لِئَلاَّ يَحدُثَ ذلِكَ في الشِّتاء. فسَتَكونُ تِلكَ الأَيَّامُ أَيَّامَ شِدَّةٍ لم يَحدُثْ مِثلُها مُنذُ بَدءِ الخَليقَةِ الَّتي خَلَقَها اللهُ إِلى اليَوم ولَن يحدُث. ولَو لم يُقَصِّرِ الرَّبُّ تِلكَ الأَيَّام، لَما نَجا أَحَدٌ مِنَ البَشَر. ولكِن مِن أَجلِ المُختارينَ الَّذينَ اختارَهم قَصَّرَ تِلك الأَيَّام. وعِندَئذٍ إِذا قالَ لَكم أَحَدٌ مِنَ النَّاس: (ها هُوَذا المَسيحُ هُنا، ها هُوَذا هُناك ) فلا تُصَدِّقوه. فسَيَظهَرُ مُسَحاءُ دَجَّالونَ وأَنبِياءُ كَذَّابونَ يَأتونَ بِآياتٍ وأَعاجيب، لِيُضِلُّوا المُختارينَ لو أَمكَنَ الأَمر. أَمَّا أَنتُم فَاحذَروا، فقد أَنبَأتُكم بِكُلِّ شَيء.

وفي تلكَ الأَيَّامِ بَعدَ هذهِ الشِّدَّة، تُظلِمُ الشَّمسُ والقَمَرُ لا يُرسِلُ ضَوءَه، وتَتَساقَطُ النُّجومُ مِنَ السَّماء، وتَتَزَعزَعُ القُوَّاتُ في السَّموات. وحينَئذٍ يَرى النَّاسُ ابنَ الإِنسانِ آتِياً في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال. وحينَئذٍ يُرسِلُ مَلائكَتَه ويَجمَعُ الَّذينَ اختارَهم مِن جِهاتِ الرِّياحِ الأَربَع، مِن أَقْصى الأَرضِ إِلى أَقْصى السَّماء.

مِنَ التِّينَةِ خُذوا العِبرَة: فإِذا لانَت أَغْصانُها ونَبَتَت أَوراقُها، عَلِمتُم أَنَّ الصَّيفَ قَريب. وكذلكَ أَنتُم إِذا رأَيتُم هذهِ الأُمورَ تَحدُث، فَاعلَموا أَنَّ ابنَ الإِنسانِ قَريبٌ على الأَبواب. الحَقَّ أَقولُ لَكم: لن يَزولَ هذا الجيل حتَّى تَحُدثَ هذه الأُمورُ كُلُّها. السَّماءُ والأَرضُ تزولانِ وكَلامي لن يزول. وأَمَّا ذلكَ اليومُ أَو تِلكَ السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها: لا المَلائكةُ في السَّماء، ولا الِابنُ، إِلاَّ الآب »

التفت إلي، وقال: أرأيت.. إن النص واضح في المراد منه.. ولكن قومنا يتعسفون تأويله.. وهم في نفس الوقت يناقضون أنفسهم حين يقرأون في الكتاب المقدس النصوص الكثيرة المثبتة للتحريف كما قال أرميا:« كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا حقا إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب » (أرميا:8: 8)

 قلت: وما تقول في النسخ الأصلية التي هي عمدتنا في إثبات صمود كتابنا في وجه الأيام؟

ابتسم، وقال: أي نسخ أصلية هذه التي تتحدث عنها.. هذا كلام يصلح لك أن تخاطب به عامة لا باحثين.. أنت تعلم أنه لا يوجد ولا نص واحد له مخطوطة أصلية علي الإطلاق، وأن كل النصوص الأصلية فقدت بأكملها، وحتي لا تظن أني أتحدث بلا بينة سأذكر لك شهادة رجل حاول أن يثبت (عصمة الكتاب المقدس)، بل سمى كتابه بهذا الاسم، وهو الكاتب السير فردريك كينيون، وهو كتيب كما هو واضح من اسمه يدافع عن الكتاب المقدس، ويحاول إثبات عصمته من التحريف.

لقد قال هذا المحامي البارع تحت عنوان (ضياع النسخ الأصلية):« قد يندهش البعض إذا عرفوا أن هذه المخطوطات جميعها لا تشتمل على النسخ الأصلية والمكتوبة بخط كتبة الوحي أو بخط من تولوا كتابتها عنهم، فهذه النسخ الأصلية جميعها فقدت ولا يعرف أحد مصيرها »

إذن النسخ الأصلية فقدت كلها ولا يعرف أحد مصيرها. ثم يتابع محاولا استجداء عطف القارئ وتضليله قائلا:« على أن الدارس الفاهم لا يستغرب لهذا قط، لأنه لا توجد الآن أيضاً أية مخطوطات يرجع تاريخهـا لهذا الماضي البعيد. ومن المسلم به أن الكتاب المقدس هو من أقدم الكتب المكتوبة في العالم، فقد كتبت أسفاره الأولى قبل نحو 3500 سنة »

أي أنه ـ وببساطة ـ يقارن بين كلام الله وكتبه وبين كتب قدامي البشر مثل الأوديسا والألياذة وملحمة جلجامش مثلا، وهو قياس فاسد، فلو كان لهذه الكتب قيمة لما سمح الله بفقدانها.

أما بخصوص قوله إنه لا توجد مخطوطات ترجع إلي هذا الماضي البعيد، فهو استهانة بعقل القارئ أو استغلالا لجهله، حيث أن هناك العديد من المخطوطات بنفس قدم أو تسبق ظهور مخطوطات الكتاب بالمقدس لازالت بين أيدينا إلي اليوم مثل كتاب الموتي مثلا الذي كان يقدسه الفراعنه أو ملحمة جلجامش، ومن الكتب التي لازالت موجودة أيضا سابقة للتوارة هو كتاب مصري منذ عهد الفراعنة يسمي (قرطاس أحمس) أو (بردية رايند) كتب منذ أكثر من خمسة وثلاثين قرنا، وهو موجود في المتحف البريطاني وهو منسوخ من كتاب سابق له كتب في عهد أمنمحات الأول سنة 2200 ق.م أي منذ أكثر من 4200 سنة تقريبا.

وإذا سألنا حضرة الكاتب الفاضل عن سر ضياع النسخ الأصلية كلها، أجاب ببساطة:« ونحن نعتقد أن السر من وراء سماح الله بفقد جميع النسخ الأصلية للوحـي هو أن القلب البشري يميل بطبعه إلي تقديس وعبادة المخلفات المقدسـة؛ فماذا كان سيفعل أولئك الذين يقدسون مخلفات القديسين لو أن هذه النسخ كانت موجودة اليوم بين أيدينا؟ أية عبادة لا تليق إلا بالله كانت ستقدَّم لتلك المخطوطات التي كتبها أواني الوحي بأنفسهم؟ ألا نتذكر ماذا فعل بنو إسرائيل قديمـاً بالحية النحاسية التي كانت واسطة إنقاذهم من الموت، وكيف عبدوهـا؟ »

نظر إلي، وقال: أرأيت كيف يتلاعب قومنا بعقولنا.. لقد شهد هذا المسكين على هذا الكتاب الذي حاول أن يثبت عصمته من غير أن يشعر[16].

2 ـ الثمار:

قلت: لا بأس.. سلمت لك بهذا.. فلننتقل إلى الركن الثاني من أركان الصمود، والذي سميته (صمود الثمار)

قال: أنت تعلم أن الثمار التي يتناولها الإنسان من أي دين، تتعلق بثلاثة جوانب:

الجانب العقدي.. وهو الذي يتأسس عليه الدين.. أو هو غذاء العقل من الدين.

والجانب الشعائري.. وهو الذي يمارسه المتدين ليثبت وجهته الدينية.

والجانب السلوكي.. وهو الثمرة التي ترتبط بتأثير الدين في النفس والمجتمع.

قلت: ما تقوله صحيح.. والدين ينحصر فيما ذكرت.. فهلم اذكر ثمرات اليهودية.. لنقارن بينها، وبين ثمرات الإسلام.

قال: سنقارن هذا على ضوء الواقع، لا على ضوء المصادر وحدها.

العقيدة:

قلت: هذا صحيح.. ولكن لا غنى لنا عن الرجوع للمصادر لإثبات مدى الانحراف الواقع.

قال: أجل.. إن هذا مقياس صحيح.. وسنعتمد عليه في المقارنة.

أنت تعلم أن الكثير من النصوص في الكتاب المقدس تحمل بذورا للحقيقة التي جاء الأنبياء للدعوة إليها.. وهي الإله الواحد المنزه..

لقد ذكر القرآن هذا..  وذكر كيف تحول اليهود من دين الله الخالص إلى دين لا يختلف كثيرا عن أي دين وثني..

ففي القرآن نجد الآيات التي تتحدث عن وصية الله لبني إسرائيل بعبادة الله الواحد.. وتذكر في نفس الوقت كيف انحنوا أمام كل عواصف القوميات والوثنيات:

ففي سورة البقرة نجد هذه الآيات التي تتحدث عن أصل اليهودية.. ومدى الانحراف والتولي الذي وقع فيها.. يقول القرآن:﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)﴾(البقرة)

وقد بدأ هذا الانحناء في عهد موسى نفسه..:﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)﴾(البقرة)

بل إن انحرافهم عن دينهم بدأ قبل أن تجف أرجلهم من تجاوزهم البحر..:﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)﴾(الأعراف)

وقد حكى القرآن عن تصوراتهم الهزيلة التي انحرفت بهم عن التصور المقدس لله.. ففيه:﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)﴾(المائدة).. ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)﴾(التوبة).. ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)﴾(آل عمران)

هذا ما يقوله القرآن.. وهو لا يختلف كثيرا عما يؤكده الكتاب المقدس..

لقد تضمن الكتاب المقدس صورة عن الله لا تختلف كثيراً على الأوصاف التي وصف بها الإغريق آلهتهم[17]:

فهم يصفونه ككائن يتصف بصفات البشر، فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحـك ويبكي، غضـوب متعطـش للدماء، يحب ويبغض، متقلب الأطوار، يُلحق العذاب بكل من ارتكب ذنباً سواء ارتكبه عن قصد أو ارتكبه عن غير قصد، ويأخذ الأبناء والأحفاد بذنوب الآباء، بل يحس بالندم ووخز الضمير (خروج 32/10 ـ 14)، وينسى ويتذكر (خروج 2/23 ـ 24)، وهو ليس عالماً بكل شيء، ولذا فهو يطلب من أعضاء جماعة إسرائيل أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم من المصريين عن طريق الخطأ (خروج 12/13 ـ 14).

وهـو إلـه متجرِّد، ولكنه في الوقت نفسـه يأخذ أشكالاً حسية محددة، فهو يطلب إلى اليهود (جماعة يسرائيل) أن يصنعوا له مكاناً مقدَّساً ليسكن في وسطهم (خروج 25/8)، كما يسير أمام جماعة يسرائيل على شكل عمود دخان في النهار كي يهديهم الطريق، أما في الليل فكان يتحول إلى عمود نار كي يضيء لهم (خروج 13/21/22).

وهو إله الحروب (خروج 15/3 ـ 4) يعلِّم يدي داود القتال (صمويل ثاني 22/30 ـ 35)، يأمر اليهود بقتل الذكور، بل الأطفال والنساء (عدد 31/1 ـ 12)، وهو إله قوي الذراع يأمر شعبه بألا يرحم أحداً (تثنية 7/16 ـ 18)، وهو يعرف أن الأرض لا تُنال إلا بحد السيف. ولذا، فهو يأمر شعبه المختار بقتل جميع الذكور في المدن البعيدة عن أرض الميعاد « أما سكان الأرض نفسها فمصيرهم الإبادة ذكوراً كانوا أم إناثاً أم أطفالاً » (تثنية 20/10 ـ 18) وذلك لأسباب سكانية عملية مفهومة.

والمقاييس الأخلاقية لهذا الإله تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولذا فهي تتغيَّر بتغير الاعتبارات العملية، فهو يأمر اليهود (جماعة يسرائيل) بالسرقة ويطلب من كل امرأة يهودية في مصر أن تطلب من جارتها ومن نزيلة بيتها « أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين » (خروج 3/22).

وهكذا، فإن فكرة الإله الواحد المتسامي تتعايش مع أفكار أخرى متناقضة معها، مثل تشبيه الإله بالبشر، ومثل فكرة الشعب المختار، فهي أفكار تتناقض مع فكرة الوحدانية التي تطرح فكرة الإله باعتباره إله كل البشر الذي يسمو على العالمين.

وفي إطار هذه الرؤية للإله ليس من الغريب أن يسقط اليهود في عبادة العجل الذهبي (ويتزعمها بزعمهم هارون أخو موسى)، وأن يقبل العهـد القـديم عناصـر وثنية مثل الترافيم والإيفـود (الأصنام)

بالإضافة إلى هذا الانحدار الوثني الذي وقعت فيه اليهودية.. والذين ورثناه عنها.. كان هناك ما هو أخطر منها.. وهو القومية العنصرية التي جعلت من الله خالق كل الكون وكل الأجناس خادما لعنصر معين من الناس يقدم له كل القرابين التي لا تبقي لغيره غير الفتات الذي يقدم للكلاب.

فالإله ـ عند اليهود، وفي الكتاب المقدس ـ يتحول من كونه حقيقة مطلقة تعلو على المادة، إلى امتداد للشعب اليهودي على وجه الخصوص، فهو إله قومي مقصور على الشعب اليهودي وحده، بينما نجد للشعوب الأخرى آلهتها (خروج 6/7) حتى تصبح وحدانية الإله من وحدانية الشعب.

ولهذا، ظلت اليهودية دين الشعب اليهودي (جماعة يسرائيل) وحده، ونجد أن الغرض الإلهي يتركز في هذا الشعب دون سواه، فقد اختير من بين جميع الشعوب ليكون المستودع الخاص لعطف يهوه. كما أن مجرى الطبيعة أو تاريخ البشر يدور بإرادة الإله حول حياة ومصير اليهود.

ويخلع التلمود على الإله صفات بشرية بشكل عام، ويهودية بشكل خاص، وبشكل أكثر تطرفاً من التوراة، وقد جاء في التلمود أنه بعد وصول الماشيَّح[18]، سيجلس الإله على عرشه يقهقه فرحاً لعلو شأن شعبه، وهزيمة الشعوب الأخرى التي تحاول دون جدوى أن يكون لها نصيب في عملية الخلاص، أي أن الشعب اليهودي والتاريخ اليهودي يزدادان قداسة ومركزية في الدراما الكونية.

ويقضي الإله وقته وهو يلعب مع حوت، ويبكي من أجل هدم الهيكل، ويندم على فعلته، وهو يلبس العمائم، ويجلس على عرشه، ويدرس التوراة ثلاث مرات يومياً. 

وتنسب إلى الإله صفات الحقد والتنافس، وهو يستشير الحاخامات في كثير من الأمور.

ويصل الحلول إلى منتهاه في تراث القبَّالاه[19]، فهو تراث يكاد يكون خالياً تماماً من أي توحيد أو تجاوز أو علو للإله، وبحيث لا يصبح هناك فارق بين الجوهر الإلهي والجوهر اليهودي، ويصبح الفارق الأساسي هو بين الجوهر اليهودي المقدَّس وجوهر بقية البشر، ويصبح الفرق بين اليهود والأغيار فرقاً ميتافيزيقياً، فاليهود قد خُلقوا من مادة مقدَّسة (حل فيها الإله بروحه) مختلفة عن تلك المادة (الوضيعة العادية) التي خُلقت منها بقية البشر. ويكتسب الإله صفات بشرية، ولذا فهو يغازل الشعب اليهودي (بنت صهيون) ويدخل معه (أو معها) في علاقة عاطفية قوية ذات إيحاءات جنسية، وهي فكرة أصبحت أساسية في التراث القبَّالي.

وتتضح النزعة نفسها في قصة الخلق في التراث القبَّالي، فالإله لا يخلق العالم من العدم وإنما صدرت عنه التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي تأخذ صورة آدم الأول أو القديم (آدم قدمون) أي أن صورة الإله هي صورة الإنسان.

وتستقل التجليات العشرة تماماً عن الخالق حتى أنه يتحدث مع الشخيناه (التجلي العاشر)، كما أن التجلي المذكر للإله يطارد التجلي المؤنث، وتصبح تلاوة الشماع، حسب الفكر القبَّالي، هي المحاولة التي يبذلها اليهود ليتوحد التجلي الذكوري بالتجلي الأنثوي، ويجتمعان معاً بالمعنى الجنسي.

وفي داخل التراث القبَّالي، يصبح التجلي العاشر (شخيناه) الذات الإلهية والتعبير الأنثوي عن الإله، وهو نفسه جماعة يسرائيل، أي أن الزواج بين الخالق والشعب يصبح هنا توحداً كاملاً، ويقوم هذا الشعب بتوزيع رحمة الإله على العالمين.

ثم تصل الحلولية إلى ذروتها والشرك إلى قمته، حين يصبح الإنسان اليهودي شريكاً للإله في عملية الخلق نفسها، ويزداد الإله اعتماداً على الإنسان. وبعد عملية السقوط، وتَهشُّم الأوعية في القبَّالاه اللوريانية، تتفتت الذات الإلهية نفسها، وتتوزع الشرارات الإلهية، ولا يتأتى للإله أن يستعيد كماله ويحقق ذاته إلا من خلال شعبه اليهودي.

فاليهود، بآثامهم، يؤخرون عملية الخلاص التي تؤدي إلى خلاص العالم وإلى اكتمال الإله. وهم، بأفعالهم الخيرة، يعجلون بها. ولذا، فالأغيار والإله يعتمدون على أفعال اليهود الذين يشغلون مكانة مركزية في العملية التاريخية والكونية للخلاص.

ومع بدايات العصر الحديث، كانت الحسيدية أوسع المذاهب انتشاراً، وهي شكل من أشكال الحلولية المتطرفة بكل ما تحمل من شرك وثنوية. ويتضح هذا في الدور الذي يلعبه التساديك فإرادته معادلة لإرادة الإله، فهو الوسيط بين اليهود والخالق، وهو محل القداسة، وهو الإنسان التقي صاحب القدرة الذي يمكنه النطق باسم الإله والتحكم فيه والتأثير في قراراته.

وقد تبنَّى الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر رؤية حلولية للإله، فتحدث عن الحوار الدائر بين الشعب والإله باعتبار أنهما طرفان متساويان، وهذا تَصوُّر ممكن داخل إطار حلولي قومي، كما نجد فرقاً يهودية حديثة مثل اليهودية المحافظة واليهودية التجديدية تبنيان تصوراتهما الدينية على أساس فكرة الشعب المقدَّس، مع إسقاط فكرة الإله تماماً، أو وضعها في مرتبة ثانوية.

ويصل الأمر إلى حد أن حاخاماً إصلاحياً مثل إيوجين بوروفيتز يتحدث عن حرب عام 1967 باعتبار أنها لم تكن تهدد دولة إسرائيل فحسب، وإنما تهدد الإله نفسه باعتبار أن الإله والشعب والأرض يُكوِّنان جوهراً واحداً، فمن أصاب جزءاً من هذا الجوهر بسوء (أرض دولة إسرائيل على سبيل المثال)، فقد أصاب الذات الإلهية نفسها.

بل إن بعض المفكرين الدينيين اليهود يتحدثون عن «لاهوت موت الإله»، وهي محاولة الوصول إلى نسق ديني خال تماماً من أي جوهر إلهي مفارق، فهي حلولية بدون إله.

وقد تفرَّع من هذا «لاهوت الإبادة» أو «لاهوت ما بعد أوشفيتس» الذي يذهب دعاته إلى أن الإله شرير لأنه هجر الشعب اليهودي. كما يذهبون إلى أن المطلق أو الركيزة النهائية هو الشعب اليهودي (دون الإله) وأن القيمة الأخلاقية المطلقة هي البقاء، وأن الآلية الأساسية لإنجاز ذلك هي الدولة الصهيونية، فكأن الدولة الصهيونية هي الإله أو اللوجوس في الحلولية الصهيونية بدون إله.

ومن الصعب عند هذه النقطة الحديث عن اليهودية كديانة توحيدية، إذ أصبحت ديانة وثنية حلولية.

الشعائر:

قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن ثبات الشعائر التعبدية.

قال: إن الانحراف الخطير الذي وقعت فيه اليهودية في ميدان العقائد سرى إلى الشعائر..

فاليهودية من أكثر الأديان انشغالا بالشعائر والطقوس[20].. ولكن الشعائر التي تقوم بها مجرد طقوس تستر الصورة المزيفة التي تحملها عن الله.

قلت: كيف تقول ذلك!؟.. ألم تسمع بالشمَّاع[21].. إنه شهادة التوحيد التي يعلنها اليهود.. أو هو سورة الفاتحة التي يقرؤها اليهود كما يقرؤها المسلمون؟

قال: اقرأ علي النصوص التي يقرأونها في هذا الشماع لأبين لك الانحرافات الخطيرة التي تحملها..

قلت: إنهم في الشماع يقرؤون النصوص التالية.. « اسمع يا يسرائيل الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك. ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك. وقصها على أولادك وتكلَّم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم. واربطها علامةً على يدك ولتكن عصائب بين عينيك. واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك »(تثنية 6/4 ـ 9).. « فإذا سمعتم لوصاياي التي أنا أوصيكم بها اليوم لتحبوا الرب إلهكم وتعبدوه من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم، أعطي مطر أرضكم في حينه المبكر والمتأخر. فتجمع حنطتك وخمرك وزيتك. وأعطي لبهائمك عشباً في حقلك فتأكل أنت وتشبع. فاحترزوا من أن تنغوي قلوبكم فتزيغوا وتعبدوا آلهة أخرى وتسجدوا لها فيحمى غضب الرب عليكم ويُغلق السماء فلا يكون مطر ولا تعطي الأرض غلتها. فتبيدون سريعاً عن الأرض الجيدة التي يعطيكم الرب. فضعوا كلماتي هذه على قلوبكم ونفوسكم واربطوها علامةً على أيديكم ولتكن عصائب بين عيونكم. وعلِّموها أولادكم متكلمين بها حين تجلسون في بيوتكم وحين تمشون في الطريق وحين تنامون وحين تقومون. واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك. لكي تَكثُر أيامك وأيام أولادك على الأرض التي أقسم الرب لآبائك أن يعطيهم إياها كأيام السماء على الأرض » (تثنية 11/13 ـ 21).. « وكلم الرب موسى قائلاً: كلِّم بني يسرائيل وقل لهم أن يصنعوا لهم أهداباً في أذيال ثيابهم في أجيالهم ويجعلوا على هدب الذيل عصابة من أسمانجوني. فتكون لكم هدباً فترونها وتذكرون كل وصايا الرب وتعلمونها ولا تطوفون وراء قلوبكم وأعينكم التي أنتم فاسقون وراءها. لكي تذكروا وتعلموا وصاياي وتكونوا مقدَّسين لإلهكم. أنا الرب إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر ليكون لكم إلهاً. أنا الرب إلهكم »(عدد 15/37 ـ 41)

قال: أهذا هو الشماع الذي شبهته بشهادة التوحيد التي يعلنها المسلمون، وبسورة الفاتحة التي يقرؤونها.

قلت: أجل.. إن الوحدانية تتجلى فيه بعمق.

قال: والقومية تتجلى فيه بعمق.. واللوثات المادية تأبى إلا أن تفضح نفسها فيه..

قلت: كيف ذلك[22]؟

قال: لو أخذنا العبارة الأولى من الشماع بمفردها، فسنلاحظ أنه بينما تبدأ الشهادة الإسلامية بضمير المتكلم (المفرد)، أي أن الإنسان الفرد صاحب الضمير الفردي والمسئولية الخلقية يشهد على أن الله، إله العالمين، واحد أحد، أما الشماع فتبدأ بخطاب إلى الأمة ككل، وهو ما يعطي الشمَّاع بعداً جماعياً قومياً.

ثم ينتقل الشماع بعد ذلك للتأكيد على أن «الرب إلهنا».. واستخدام ضمير المتكلمين، في العقيدة اليهودية بأكملها، ذو دلالة قومية جماعية عميقة، فهو يخصص الإله ويجعله مقصوراً على اليهود أو الشعب المختار الذي يحل فيه الإله.

إن تخصيص الإله لشعب معيَّن قد يفيد التوحيد، ولكنه لا يفيد الوحدانية الخالصة ويجعلها تقترب من التغليبية، وهي نوع من التوحيد البدائي يفيد الإيمان بعدد من الآلهة يترأسهم إله واحد، وهو ما يحمل معنى الشرك بالإله على عكس الشهادة الإسلامية التي تعني عدم وجود إله آخر سـوى اللـه.

ويتأكد هذا الموضوع الأساسي في بقية الدعاء « وتعبدوا آلهة أخرى وتسجدوا لها».. ويختم الدعاء هكذا « أنا الرب إلهكم الذي أخرجكم من مصر ليكون لكم إلهاً. أنا الرب إلهكم » 

والأهم من هذا كله هو بقيـة العبارات المستقاة من العهد القديم، فثمة إشارات عديدة إلى بعض الشعائر مثل: تمائم الصلاة (تفيلين)، وشال الصلاة (طاليت)، وتميمة الباب (مزوزاه). وتستغرق الإشارات إلى هذه الشعائر نصف الدعاء تقريباً.. وهذه الشعائر ذات اتجاه حلولي واضح فهي تؤكد انفصال اليهود وقداستهم واختيارهم: (وتكونوا مقدِّسين لإلهكم).

والجزء الثاني من الدعاء (تثنية 11/13 ـ 21) يؤكد المكافأة المادية المباشرة التي سيمنحها الإله للشعب، لو أنه نفذ الوصايا. وهناك إشارة إلى « الأرض الجيدة التي يعطيكم الرب ».. وبذلك تكتمل كل علامات الحلولية المتطرفة، فثمة إله يحل في الشعب والأرض، فيكتسب كلٌّ من الشعب والأرض قداسة، ولذا، لابد أن يعزل نفسه عن بقية العالم.

قارن كل هذا بما يقرؤه المسلمون في صلواتهم لترى الفرق العظيم بين شعائر المسلمين وهذه الشعائر القومية والمادية.

سكت قليلا، ثم قال: لننظر نفس هذه الأبعاد الجديدة التي يستحيل أن تكون في الدين الذي جاء به موسى في سائر الشعائر..

ولنأخذ كمثال على ذلك كتب الصلوات [23] التي تتجدد باختلاف المناسبات، فهذه الكتب تختلف باختلاف البيئة، فثمة اختلاف بين الكتب الإشكنازية والكتب السفاردية، وهناك أيضاً اختلاف بين الكتب اليهودية الإصلاحية والكتب المحافظة والكتب الأرثوذكسية.

فالإصلاحيون ترجموا كل الصلوات إلى اللغة المحلية، وأبقوا نصوصاً عبرية قليلة، كما استبعدوا كل الصلوات ذات الطابع القومي الديني، مثل الصلوات من أجل العودة إلى فلسطين، والأدعية بسقوط أعداء اليهود، ودعاء كل النذور، وقد بلغ رفض الأرثوذكس لكتب الصلوات الخاصة بالإصلاحيين حد أن أحد الأعضاء المتدينين بصق، أثناء مناقشة مسألة الهوية اليهودية في الكنيست، على نسخة من كتاب صلوات إصلاحي ثم ألقاها على الأرض.

أما كتب المحافظين والأرثوذكس، فقد أكدت أفكار الأمة والشعب المختار والعودة، كما أنها استبقت العبرية تأكيداً لاستقلال اليهود الديني الإثني. وتحتوي كتب المحافظين على إشارات إلى عيد استقلال إسرائيل، كما لو كان مناسبة دينية جليلة.

أما كتب اليهودية التجديدية، فتحوي إشارات إلى الإبادة النازية، كما تحوي أناشيد شكر على توطين اليهود في الولايات المتحدة، كما أنها حذفت كل الإشارات إلى البعث والثواب والعقاب وكل المفاهيم غير العلمية.

ليس ذلك فقط.. بل إن كتب الصلوات اليهودية عرضة للتغيير الدائم بسبب تداخل العنصر الديني والعنصر الدنيوي في هذه الصلوات، حتى أن بعض يهود العالم يقومون بوضع كتب صلوات، ثم يطبعونها على الاستنسل على عجل حينما تجدّ مناسبة قومية دينية يريدون الاحتفال الفوري بها، مثل انتصار عام 1967 الفجائي، وذلك حتى لا يضيعوا وقتهم في انتظار المطبعة.

وفي كتب الصلوات التي تنتشر في إسرائيل (فلسطين المحتلة) إشارات لإعلان الدولة الصهيونية، ولأولئك الذين سقطوا أثناء الدفاع عن إسرائيل.

وقد نظمت حاخامية الجيش الإسرائيلي صلاة خاصة بالمظليين كتبها الحاخام جورين.. وبعد حرب يونيه 1967، عدلت بعض المعابد في إسرائيل الصلوات الخاصة بها وتغيَّر الدعاء من « الالتقاء العام القادم في أورشليم » إلى الدعاء بإعادة بنائها.

وقد عُدِّلت الصلوات في عيد استقلال إسرائيل، وثمة اتجاه لإعادة تعديلها مرة أخرى لتأكيد الأهمية الدينية لهذه المناسبة، ولتأكيد أن الخلاص يتم على يد جيش إسرائيل لا على يد الإله.

وقد كان يظهر في كتب الصلاة في الماضي دعاء يقول: « نحمد الإله على أنه لم يجعلنا مثل أمم الأرض، فهم يسجدون للباطل والعدم ويصلون لإله لا ينفعهم »، وقد حُذف الجزء الأخير بعد عصر التنوير، ولكنه ظل يُتداوَل شفوياً في شرق أوربا، ثم أضيف من جديد في بعض كتب الصلاة في إسرائيل (فلسطين المحتلة)

إن هذا الذي أقوله ليس رأيا أراه، أو تهمة أتهمهم بها.. بل هذه هي الحقيقة التي يتفق شهودهم على القول بها.

سأذكر لك ما يثبت لك هذا من المقدمة التي كتبها أحد علماء الشريعة اليهودية المصريين، وهو الدكتور هلال يعقوب فارحي، لترجمته لمجموع نصوص الصلوات اليهودية الذي سماه (سِدُّور فارحي)، قال:« أما زمن وضع الصلاة المستعملة في وقتنا الحاضر، فيختلف حسب أقسامها، إنما القسم الأساسي والأهم فيها وهو الشِمَاع والشِمُونه عِسْرِهِ، ينسب إلى عزرا ومائة وعشرين رجلاً من الشيوخ والعلماء، والأنبياء، ومن ضمنهم النبي دانيال وحجي وزكريا وملاخي، فإن عزرا بعد خراب الهيكل الأول وإبطال الذبائح والتقدمات رأى وجوب وضع صلوات هؤلاء الرجال المعروفين برجال الكنيسة الكبرى، ووضعوا القسم الأساسي من الصلاة المذكور آنفاً، وهو المنبع عند كافة الإسرائيليين، ولم يتغير أساساً إلى الآن إلا في بعض تغييرات لفظية، وإضافة بعض فصول وأناشيد منتخبة من التوراة والمشنا والتلمود، وأغاني روحية مثل (أدُونْ عولام)، وما أشبه لسلمون جابيرول ورِبِّي يهوذا الليفي، وإبراهيم وموسى عزرا، لتلائم الأوقات والمواسم، أضيفت مؤخراً لغاية الجيل السادس عشر »

إن هذه الشهادة تثبت لك أن أساس التدين اليهودي نفسه، وهو الصلاة الموسوية الموصوفة في كتب الشريعة اليهودية، لا تمت إلى ما كان من طقوس الصلاة الموسوية.

أضف إلى هذا أن الأعياد الدينية الإسرائيلية ضعيفة الصلة كذلك بموسى وشريعته، بل إن كثيراً منها يرجع إلى مناسبات وذكريات تاريخها متأخر عن موسى بكثير.

ومن تلك الأعياد اليهودية المحدثة: عيد البوريم، أو عيد النصيب، ويسميه الكتاب العرب (عيد المسخرة أو عيد المساخر)، والسبب في ذلك ما جرت به بعض التقاليد اليهودية الشعبية في هذا العيد من إسراف في شرب الخمر، ولبس الأقنعة والملابس التنكرية على طريقة المهرجان (الكرنفال)

بالإضافة إلى هذا فهو احتفال تذكاري متصل بملابسات ممهدة للعودة من السبي البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد، بناء على وعد صدر من ملك الفرس إلى ممثلي الجالية اليهودية بالعراق، وهو احتفال أشد التصاقاً بالسياسة منه بالدين.

وبالرغم من وضوح مناسبة هذا العيد من الناحية السياسية والتأريخية، فإن التلمود يزعم أنه كان معروفاً محتفلاً به منذ أيام يوشع بن نون لأسباب مماثلة ـ كما يقول ـ للأحداث التي وقعت لليهود وفي السبي البابلي.

رأى في عيني العجب من هذا التلاعب بالشعائر، فقال: ليس ذلك فقط..

سأختار لك مثالا عن موقف اليهود من الأمم الأخرى.. والذي ارتبطت به شعائرهم.. والذي يستحيل أن يكون من الدين الحق الذي جاء به موسى.

لدى اليهود ما يمكن تسميته بشعيرة اللعنات[24].. وهذه الشعيرة يمارسها اليهودي ليثبت بها ما ملأه به كتابه المقدس ورجال دينه من عنصرية بغيضة.

فمن أمثلة هذه الشعيرة أن اليهودي إذا مر بمدافن لغير اليهود، يدعو على أمم الموتى.. وإذا رأى حشداً كبيراً من غير اليهود طلب من الإله أن يهلكهم.. وإذا مرّ على منزل مهدم يملكه يهودي، فإنه يدعو الإله أن يعمره مرة أخرى، أما إذا كان مالكه غير يهودي، فإنه يحمد الإله على انتقامه من الأغيار[25].

وعلى اليهودي أن يبصق حينما يرى صليباً، ويتلو الإصحاح التالي من سفر التثنية: « ولا تُدخل رجساً إلى بيتك لئَلا تكون محرَّماً مثله، تستقبحه وتكرهه لأنه محرم ». والرجس هنا إشارة إلى الصليب.

وفي القرن الرابع عشر، شيَّد ملك بوهيميا تشارلز الرابع ـ وكان إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة ـ صليباً ضخماً في براغ، وحينما أخبروه عن عادة البصق هذه فرض على أعضاء الجماعة اليهودية أن يكتبوا على الصليب لفظة (أدوناي) وهو أحد أسماء الإله في اليهودية التي يُجلُّونها ولا يجسرون على الإتيان بأفعال تنم عن ازدرائها.

وقد استُخدم سلاح استمطار اللعنات والبركات في انتخابات الكنيست عام 1988، فكان حاخامات الأحزاب الدينية يدعون بالبركات (بالمال والبنين) لكل من يدلي بصــوته لمرشحـهم، ويدعـون باللعنات على مـن لا يفعل. وقـد صدر قـرار فـي إسرائيل بمنع استمطار اللعنات أثناء المعارك الانتخابية.

هذا مثال عن توظيف الشعائر التعبدية في العنصرية وفي التنفيس عن الأحقاد..

سأضرب لك مثالا على تلاعب اليهود بالأيمان والعهود.. أو هو مثال على شريعة الخيانة التي شرعها لهم حاخاماتهم.

لدى اليهود شعيرة تعبدية يطلقون عليها (كول نيدري) Kol Nidre  أو كل النذور، وهو دعاء يهودي باللغة الآرامية تُفتتَح به صلاة العشاء في يوم الغفران، وهي أولى الصلوات، ويبدأ ترتيله قبل الغروب، ويستمر إلى أن تَغرُب الشمس، ويرتدي المصلون شال الصلاة (طاليت) الذي لا يتم ارتداؤه عادةً إلا في صلاة الصباح في الأيام العادية.

وقد بدأت ممارسة هذه العادة منذ القرن الثامن، لكن مصدرها وأصلها غير معروفين، وقد عارضها بعض فقهاء العراق من اليهود في القرن التاسع، وأكدوا أنها عادة لا تُمارَس في بلادهم.

ومع ذلك، فقد أصبح دعاء كل النذور الدعاء المفضل لدى اليهود، واكتسب قدسية خاصة، وهو عبارة عن إعلان إلغاء جميع النذور والعهود التي قطعها اليهود على أنفسهم، ولم يتمكنوا من الوفاء بها طوال السنة.

وتُتلى هذه الصلاة ثلاث مرات، حتى تتأكد دلالتها، وحتى يسمعها الجميع، وهكذا يتخلصون من عبء الشعور بالذنب، فيبدأون الاحتفال بأقدس يوم عندهم مرتاحي الضمير تماماً.

ومنطوق الدعاء هو: « نعبِّر عن ندمنا عن كل النذور والتحريمات والأيمان واللعنات التي نذرناها وأقسمنا بها ووعدنا بها والتي حلت ولم نف بها من يوم الغفران هذا حتى الذي يليه، والذي ننتظر مقدمه السعيد، فلتكن كلها منسية، ونكون في حلٍّ منها، معفين منها، ملغاة ولا أثر لها، ولن تكون مُلزمة لنا ولا سلطة لها علينا، والنذور لن تُعَدَّ نذوراً، والتحريمات لن تُعَدَّ تحريمات، ولن تُعدَّ الأيمان أيماناً ».

وقد تَعرَّض اليهود بسبب هذه الشعيرة للهجوم الشديد، فقيل: إن أي وعد، أو أي قَسَم صادر عن يهودي، لا قيمة له ولا يمكن الوثوق به، وقيل أيضاً إن هذا الدعاء كان سلاح اليهود المتخفين الذين تظاهروا بالإسلام أو المسيحية، مثل الدونمه أو المارانو، وظلوا يهوداً في الخفاء، فكان دعاء (كل النذور) وسيلتهم في التحلل من كل العهود التي قطعوها على أنفسهم.

وقد حاول الحاخامات جاهدين شرح المقصود بهذا الدعاء، فهو، حسب تفسير بعضهم، لا يُحل اليهودي من وعوده وتعهداته أمام الآخرين، فهذه لا تحلُّل منها إلا باتفاق الطرفين، وإنما هو يحله من وعوده للإله.

وحينما كانت تتم مناقشة مسألة منح اليهود حقوقهم في روسيا وإعتاقهم، طُلب إلى اليهود إعداد مقدمة للدعاء بالعبرية يأتي فيها أن الوعود التي يُحَلّ منها هي الوعود التي قطعها اليهودي على نفسه تجاه نفسه، وليس العهود التي قطعها على نفسه تجاه الآخرين.

وقد أثر دعاء (كل النذور) في القَسَم اليهودي وصياغته في العصور الوسطى، وقد حذفت اليهودية الإصلاحية هذا الدعاء واستبقت اللحن وحده بعض الوقت، ولكنها أعادته في الآونة الأخيرة.

وفي انتخابات الكنيست عام 1988، قام بعض « حكماء » حزب شاس (الليتواني سليل المتنجديم) بتلاوة دعاء كل النذور على شاشة التليفزيون ليُحلُُّوا الناخبين الذين وعدوا بإدلاء أصواتهم لحزب أجودات إسرائيل (ذي الأصول الحسيدية) من وعودهم حتى يمكنهم الإدلاء بها لمرشحي حزب شاس.

وتقوم بعض الكيبوتسات العلمانية بإنشاد بعض القصائد والأغاني في عيد يوم الغفران، وقد يكون من بينها الموسيقى المصاحبة لدعاء كل النذور.

سأضرب لك مثالا عن البعد الدنيوي العميق في الشعائر التعبدية اليهودي.. فاليهودي لا ينظر إلى الدين إلى على أنه وسيلة لتحصيل ما استطاع من الدنيا.. ولا علاقه له بالقيم ولا بالجزاء الأخروي.

من شعائر اليهود ما يطلقون عليه (أوث موري جودايكو) oath more judaico، وهي عبارة إنجليزية لاتينية معناها (القَسَم حسب عرف اليهود)

واليهود يتلون  هذا القسم في القضايا التي بينهم وبين غير اليهـود، وهو يعـود إلى أيام شـارلمان (771 ـ 814).

وكان نص القسم والطقوس الرمزية التي تصاحبه يعطيانه شكل اللعنة التي يستمطرها المرء على نفسه، ويجعلانه يتضمن وضعاً تفصيلياً للعقوبة التي ستحل إن كان اليهودي كاذباً في قَسَمه، وقد جاء في صيغة أحد الأقسام ما يلي:« إن كنت كاذباً في قَسَمي فلتنزل اللعنة على سلالتي ولأتحسس طريقي بين الحوائط كالأعمى، ثم لتنشق الأرض وتبتلعني » 

وقد كان الغرض من استمطار اللعنات بهذا الشكل تخويف اليهودي حتى لا يكذب، وخصوصاً أنه كان معروفاً في العصور الوسطى أن اليهود يتلون دعاء (كل النذور) السابق ذكره في صلاة يوم الغفران ويتحللون من خلال ذلك من أي نذور قطعوها على أنفسهم أو أي أيمان التزموا بها في العام السالف.

أما الطقوس التي كانت تصاحب القَسَم، فكانت أكثر تطرفاً حيث كان على اليهودي أحياناً أن يمسك بعصا القاضي ويلقي القَسَم، وفي إحدى المحاكم، كان على اليهودي أن يقف ووجهه نحو الشمس على كرسي نُزعت إحدى أرجله الأربع، فصار بثلاث أرجل، وهو يلبس قبعة اليهود ويلتفع بشال الصلاة (طاليت).

وأحياناً كانت تُوضَع تحت الكرسي مواد قذرة مثل جلد أنثى الخنزير، وهو حيوان كريه لدى اليهود، ولعل الهدف من كل هذا هو أن يحاول اليهودي أن يركز على الاحتفاظ بتوازنه ويردِّد القَسَم، فلا يمكنه أن يكذب في عقله الباطن ويَصدُق في قَسَمه ويستمطر على نفسه اللعنات بالفعل.

هذه أمثلة قليلة عن بعض الشعائر اليهودية..

وقد كان التطرف الذي تمتلئ به سببا في نفور اليهود المعاصرين من الشريعة.. بل يكاد أكثرهم يميل إلى الإلحاد، فالخنزير مثلا من المحرمات الكبرى لدى اليهود، مثلهم في ذلك مثل المسلمين،  فبينما نجد المسلمين مع تخلفهم عن دينهم لا يزالون يحرمون أكله، بل ظلوا على ذلك في جميع عصورهم، نجد الأغلبية العظمى من يهود الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، (ما يزيد على 80 بالمائة منهم) والذين يشكلون الأغلبية الساحقة من يهود العالم لا يطبقون أياً من قوانين الطعام، بل يأكل الكثيرون منهم لحم الخنزير، ولا يتجاوز من يطبقون كل قوانين الطعام نسبة 4 بالمائة[26].

والأمر ليس مختلفاً كثيراً في إسرائيل (فلسطين المحتلة) إذ يوجد نحو 30 ألف شخص يعملون في قطاع تربية الخنزير وبيعه.

ويبدو أن أكثر من نصف السكان اليهود الإسرائيليين يأكلون لحم الخنزير، ومن بينهم كثير من أعضاء النخبة (وزراء وجنرالات، بل أعضاء كنيست) ممن وافقوا على مشروع القرار الخاص بمنع تسويق لحم الخنزير.

بل هناك عدة مؤسسات في إسرائيل تقوم بتربية الخنزير وذبحه وبيع لحمه (أهمها كيبوتس مزرا).

ومع هذا، ونظراً للإيحاءات السلبية التي ارتبطت بلحم الخنزير في الوجدان الديني اليهودي، فإنهم يشيرون إلى لحم الخنزير في المطاعم وفي غيرها من الأماكن بأنه (اللحم الأبيض)، وقد بدأوا في تل أبيب يُسقطون حتى هذه الصيغة الشكلية التمويهية.

ولأن قانون عام 1962 يمنع تربية الخنزير على أرض الدولة، فقد قام أحد الكيبوتسات ببناء حظيرة لتربية الخنازير عند مستوى أعلى من مستوى الأرض المقدَّسة.

وهو مظهر آخر من مظاهر التلاعب بالدين.. وبشعائر الدين.. والذي ذكر القرآن مثالا له بتلاعبهم بالسبت، وشعائر السبت.

3 ـ السلوك:

قلت: فحدثني عن الثمرة الثالثة من ثمرات الصمود، وهي السلوك.

قال: أنت تعرف اليهود، والسلوك الذي يسلكونه في حياتهم مع أنفسهم، ومع غيرهم من الأمم..

ولن أحدثك الآن إلا على سلوك خطير يتنافى مع الدين.. مع أي دين.. وهو مزاولتهم للسحر، حيث يزاول أحبارهم ورؤساؤهم أعمال السحر والدجل مما هو مدون في كتابهم (القابالاه)  وهو أحد كتبهم السرية التلمودية، وقد عُرف اليهود بمزاولة السحر والشعوذة قديماً وحديثاً.

لقد ذكر القرآن ذلك، فقال:﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)﴾(البقرة)

والتلمود يمتلئ بطقوس السحر والشعوذة والعرافة، يقول الحاخام راوهنا: كل منا يوجد عن شماله ألف (من العفاريت )، ويوجد عن يمينه عشرة آلاف.

وقال ربَّا: إن الازدحام أثناء الموعظة بالكنيس بسببهم (العفاريت)، واستهلاك ملابس الحاخام ( الإبلاء ) بسبب احتكاكهم بها، والأقدام المكسورة بسببهم، ثم يصف الحاخام بعض الطرق السحرية لمن أراد مشاهدة العفاريت.

ولا يزال اليهود يمارسون السحر إلى يومنا هذا، بل تتميز ظاهرة الشعوذة لدى الإسرائيليين أن الأشخاص الذين يمارسونها في الأساس هم رجال دين من الحاخامات.

أما جمهورهم فهو من مختلف قطاعات الشعب وعلى جميع المستويات، ويشتهر في إسرائيل (فلسطين المحتلة) حالياً عدد كبير من الحاخامات الذين يمارسون السحر، حيث يحتاج المرء لتحديد موعد مع أحد هؤلاء الحاخامات إلى وقت طويل.

وتشاهد أحياناً طوابير من الناس أمام مقراتهم بانتظار دور للدخول، ويعتبر الحاخام (إسحاق كادوري) واحداً من أشهر هؤلاء الحاخامات الذي بالإضافة إلى كون قائمة زبائنه طويلة جداً، فإنها تتضمن نخبة من ألمع الأسماء في الحياة السياسية والعسكرية والإجتماعية عامة في إسرائيل (فلسطين المحتلة)، ومن بينهم رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين، ووزير الداخلية السابق آربيه درعي، ووزير الإسكان بنيامين اليعازر وغيرهم.

ومن تعاليمهم السرية في كتبهم تقديم ذبيحة أو أضحية بشرية في أعيادهم حيث يخلط الدم البشري المستنزف بطريقة بشعة مع عجين الفطير الذي يؤكل في عيد الفصح، وذلك من أشنع وأفظع ما يرتكبه أحبارهم باسم الدين، وقد افتضح اليهود في عدد من حوادث الإختطاف والقتل لذلك الغرض البشع المشين.

فهذه السلوكات المحرفة التي ترتبط بالدين من أعظم ما يبين لك مدى الانحطاط الذي بلغته الديانة اليهودية التي أسلمت نفسها للحاخامات والكهنة يضعون لها شرائعها ويرسمون لها سلكوها، ولهذا كان تقديس الحاخامات ورجال الدين اليهودي واعتقاد عصمتهم، ومجمع أحبارهم يسمى (السنهدرين) ويسمى الآن (الكهيلا) له دور كبير في حياة اليهود الدينية والاجتماعية والسياسية.

واليهود لا يكتفون بانحرافهم السلوكي.. بل يضمون إليه جهودهم المستميتة من أجل نشر الفساد في الأرض.. ويتخذ اليهود ـ لأجل ذلك ـ جميع الوسائل والطرق في إثارة الفتن والحروب ونشر الفساد الأخلاقي والدعوة إلى الإباحية والإجهاض والزنا وإشاعة الربا والفساد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني في سبيل تحقيق أهدافهم وأحلامهم[27].

4 ـ الانتشار:

قلت: فحدثني عن صمود الانتشار..

قال: أنت تعلم أن اليهودية ديانة عنصرية بكل المقاييس.. فإلهها مختص بالقومية الإسرائيلية، وشعائرها لا تخدم إلا هذه القومية، وسلوكها لا يحترم إلا هذه القومية.

قلت: أجل.. أعرف ذلك.

قال: فلذلك بقي انتشار هذه الديانة محدودا[28].. بل محدودا جدا.. فاليهودية ليست في الحقيقة دينا، إنما هي قومية لا تكاد تختلف عن النازية.



 

المسيحية

قلت: عرفت الانحرافات الكثيرة التي دخلت اليهودية.. ولم أكن بحاجة ـ في الحقيقة ـ لإثبات ذلك، فالكتاب المقدس والتاريخ والواقع كلها دلائل تشير إلى الشرور الكثيرة التي تحول إليها هذا الدين..ولكني أتعجب أن تقرن المسيحية مع اليهودية.

قال: لقد ذكرت لك أن المسيحية نسخة مشوهة من اليهودية.. أو هي يهودية متأثرة ببعض الوثنيات..

قلت: دعنا من هذه الأحكام الجزافية.. ولنتحدث بالمنطق العلمي.

1 ـ المصادر:

قال: أجل.. ولنبدأ بصمود المصادر.. لقد ذكرت لي أن المسيحيين مروا بفترات عصيبة.

قلت: أجل.. وقد أثبتوا من الصمود ما لا يطيقه أحد من الناس.

قال: ثم مروا بعد ذلك بعهود رخاء.

قلت: أجل.. بعد تلك السنوات الشديدة التي عاناها المسيحيون اعتنق قسطنطين المسيحية في عام 312م، فكان أول من تحول إلى المسيحية من ملوك الروم.

قال: بل قل: أعلن قسطنطين مسيحيته المشبوهة [29]..

قاطعته قائلا: كيف تقول ذلك؟.. لقد ظهرت المسيحية بفضل هذا الامبراطور العظيم، وبدأت بالانتشار بقوة.. لقد كان له دور هام في تحويلها من فرقة دينية مضطهدة، إلى ديانة مسيطرة ومهيمنة على أوروبا.

لقد كان من أوائل أعماله إصدار (مرسوم ميلان) الذي أصبحت المسيحية بموجبه ديناً شرعياً مسموحاً به.

لقد قضى المرسوم بإعادة أملاك الكنيسة التي كان قد صادرها الأباطرة أيام اضطهاد المسيحية، كما قرر أن يجعل يوم الأحد يوم عبادة وراحة من الأعمال.

قال: وهذا من تحريفه لما جاء به المسيح.. لقد كان يوم الأحد معروفاً من قبل في الإمبراطورية الرومانية التي كانت تقدس الشمس فيما تقدسه، وكان يوم الأحد (Sunday) يوم الشمس.. عندهم يوم راحة، فلما تمسح قسطنطين، نقل ذلك معه إلى المسيحية.

قلت: لا بأس بهذا.. ولكنه مع ذلك اهتم بالمسيحية، وبنشرها، وقد بُديء في عهده ببناء عدة كنائس شهيرة مثل كنيسة المهد في بيت لحم، وكنيسة القيامة في القدس.

وقد أعاد بناء مدينة بيزنطة، ووسعها وسماها القسطنطينية، وجعلها عاصمة له، فأصبحت من أعظم مدن العالم،وبقيت عاصمة النصف الشرقي للإمبراطورية الرومانية حتى عام 1453م.

قال: أنا لا يهمني صمود المباني والجدران.. أنا أهتم بصمود الحقيقة وثباتها.. وهذا ما لم يحصل في جميع عهود المسيحية سواء عهود الرخاء، أو عهود الشدة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أما في عهود الشدة، فقد كانت الحوادث التي مرت على المسيحيين في القرون الثلاثة الأولى سبباً لقلة النُسخ، ولسهولة التحريف فيها.

وبسبب تلك الحوادث التي ذكرتها وغيرها، فُقِدت الأسانيد المتصلة لكتب العهدين، وصار الموجود باسم كتب العهدين مُلفقاً مُختلقاً منسوبا زوراً لمن كتبوه، فلا يوجد عند اليهود ولا عند المسيحيين سند متصل لكتاب من الكتب.

وقد سمعت أن الشيخ رحمة الله الهندي طلب في مناظرته من القسيسين فندر وفرنج السند المتصل لأي كتاب من الكتاب المقدس، فاعتذرا بأن سبب فقدان الإسناد هو وقوع المصائب والفتن على المسيحيين إلى ( 313 م).

أما عهود الرخاء.. فأمرها أخطر بكثير.. وسأقص عليك قصة تلك الانحناءة الخطيرة التي انحنتها الشجرة التي غرسها المسيح.

في سنة 325م كانت القسطنطينية قاعدة الدولة الرومانية الشرقية.. ولما كان أغلب رعايا الإمبراطور قسطنطين من المسيحيين، وكان أغلب الوثنيين في روما في الغرب، أراد قسطنطين أن يقوّي مركزه، فقرب المسيحيين إليه.

ولكن لما كان المسيحيون أنفسهم مختلفين حول المسيح، فقد دعاهم الامبراطور إلى عقد مجمع لحسم هذه الخلافات العقدية التي كان لها أثرها على إشاعة عدم الاستقرار في امبراطوريته.

لذلك عقد مجمع نيقيّة سنة 325، وقد حضره (2048) أسقفاً من جميع أنحاء العالم، وذلك لتحديد من هو المسيح.

فتناظر المجتمعون وقرر(1731) من الأساقفة المجتمعين وعلى رأسهم (آريوس) أن المسيح إنسان، ولكن (أثناسيوس) الذي كان شماساً بكنيسة الإسكندرية انتهز هذه الفرصة، فأراد أن يتقرب إلى قسطنطين الوثني، فأعلن أن المسيح هو الإله المتجسد، وتبعه في ذلك الرأي (317) عضواً.

ومال قسطنطين الذي كان ما يزال على وثنيته إلى رأي (أثناسيوس) لما فيه من عقيدة وثنية تؤمن بتجسيد الآلهة ونزولها من السماء، فأقر مقالة (أثناسيوس)، وطرد الأساقفة الموحدين، وعلى رأسهم (آريوس)

وأخطر من ذلك كله أنه قضى بحبس الكتاب المقدس، فلم يسمح بتداوله بين الناس، وقضى أن يقتصر تعليم الدين على ما يقوم القساوسة بتلقينه للناس.

وبذلك يتحمل مجمع نيقيه وإلى الأبد مسئولية جريمة ضياع الإنجيل المقدس بلغته الآرمية الأصلية، وهي خسارة لا تعوض.

بالإضافة إلى ذلك فقد خرج من مجمع نيقية قرارات اعتبرت مع قرارات مجمع آخر عقد عام 381م[30] أول تأسيس لعقيدة التثليث عند المسيحيين.

فالتثليث المسيحي لم يكن معروفاً إلى سنة 325م حيث عقد مؤتمر نيقية، ولم يعترف المؤتمر إلا بالأب والابن، ثم أدخلوا الروح القدس عام 381 م في مجمع القسطنطينية.

وقد جاء التثليث بالتصويت في المجامع، وهو تصويت مصحوب بالتهديد والوعيد، فقد أراد الإمبراطور الروماني إلهاً يعجبه هو شخصياً، إلهاً ليس واحدا حتى لا يغضب الوثنيون الذين يؤمنون بتعدد الآلهة، وإلهاً واحداً حتى لا يغضب الموحدين؛ فكان اختراع التثليث، واحد في ثلاثة أو ثلاثة في واحد؛ فهو واحد إن شئت، أو هو ثلاثة إن شئت.

وهكذا فالتثليث اختراع إمبراطوري، صدر على شكل مرسوم أجبر الناس على تكراره دون فهم أو تصديق، آمن به، آمن به فقط و لا تسأل.

لقد كان لي صديق شاعر قروي سوري، هو رشيد سليم الخوري، وقد كان من أسرة أرثوذكسية، وقد سمعته يذكر هذا، ويقول:« إن الكنيسة ظلت حتى مطلع القرن الرابع الميلادي تعبد الله على أنه الواحد الأحد، وأن يسوع المسيح عبده ورسوله حتى تنصر قسطنطين عاهل الروم، وتبعه خلق كثير من رعاياه اليونان والرومان، فأدخلوا بدعة التثليث، وجعلوا لله سبحانه وتعالى أندادا شاركوه منذ الأزل في خلق السماوات والأرض وتدبير الأكوان، ومالأهم الأسقف الأنطاكي مكاريوس، فثار زميله الأسقف أريوس على هذه البدعة ثورة عنيفة، شطرت الكنيسة واتسع بين الطائفتين نطاق الجدل حتى أدى إلى الاقتتال، وفاز أريوس بالحجة القاطعة في المجامع، بيد أن السلطة وضعت ثقلها في الميزان، فأسكتت صوت الحق، وأنفذت صوت الباطل، واستمر المسيحيون يعمهون في ضلالتهم »

قلت: نحن نبحث في صمود المصادر..

قال: وفي مجمع نيقية حصل أخطر تحريف للمصادر المقدسة[31].. كل المؤرخين يقولون هذا.. بل حتى رجال ديننا يعترفون بهذا.. لا شك أنك تعرف القس الذي أسلم، وتسمى (عبد الأحد داود)

قلت: أجل..

قال: لقد قال مبينا تأثير ذلك المجمع المشأوم في مصادرنا المقدسة:« إن هذه السبعة والعشرين سفراً أو الرسالة الموضوعة من قبل ثمانية كتاب لم تدخل في عداد الكتب المقدسة باعتبار مجموعة هيئتها بصورة رسمية إلا في القرن الرابع بإقرار مجمع نيقية سنة 325 م، لذلك لم تكن أي من هذه الرسائل مصدقة لدى الكنيسة.. وهناك ـ أي في مجمع نيقية ـ تم انتخاب الأناجيل الأربعة من بين أكثر من أربعين أو خمسين إنجيلاً، وتم انتخاب الرسائل الإحدى والعشرين من رسائل العهد الجديد من بين رسائل لا تعد ولا تحصى، وصودق عليها، وكانت الهيئة التي اختارت العهد الجديد هي تلك الهيئة التي قالت بألوهية المسيح، وكان اختيار كتب العهد الجديد على أساس رفض الكتب المسيحية المشتملة على تعاليم غير موافقة لعقيدة نيقية وإحراقها كلها »[32]

ألا ترى أن الكنيسة هي التي حددت الكتب الصحيحة التي يجب أن تُداوَل وألغت الباقي، واعتبرتها كتبا غير قانونية، ومنها كتب ورسائل للمسيح نفسه، وكتاب لمريم العذراء، وأناجيل أخرى كثيرة للحواريين تلاميذه؟

ألا ترى أن هذه المجامع مارست دورا بوليسيا على الكتاب المقدس؟

إنها تريد أن تفرض على الله ما يقول.. وتريد أن تفرض على الكتبة ما يلهم لهم.

أتدري سر هذا الحرص من مجمع نيقية؟

إنه ليس الإخلاص للكتاب المقدس.. بل هو الإخلاص للامبراطور.

انتفضت قائلا: كأني بك تريد أن تقول بأن الامبراطور هو الذي حدد الكتب المقدسة، ونفى غيرها.

قال: أنا لا أقول ذلك.. بل التاريخ.. وحقائق التاريخ.. هي التي تقول ذلك.

لقد قال المؤرخ ( ديورانت ) في كتابه قصة الحضارة:« وصدر مرسوم إمبراطوري يأمر بإحراق كتب آريوس جميعها، ويجعل إخفاء أي كتاب منها جريمة يعاقب عليها بالإعدام »

ويقول الكاتب المسيحي حبيب سعيد:« وبذلك فض المؤتمر النزاع القائم، وقرر إبعاد آريوس وأتباعه وحرق الكتاب الذي أودعه آراءه الملحدة »

وقال آدم كلارك في المجلد السادس من تفسيره:« إن الأناجيل الكاذبة كانت رائجة في القرون الأولى للمسيحية، وأن فايبر بسينوس جمع أكثرَ من سبعين إنجيلاً من تلك الأناجيل وجعلها في ثلاث مجلدات » 

كما ذكر فاستوس ـ الذي كان من أعظم علماء فرقة ماني في القرن الرابع الميلادي ـ « إن تغيير الديانة النصرانية كان أمراً محقاً، وإن هذا العهد الجديد المتداول حالياً بين النصارى ما صنعه السيد المسيح ولا الحواريين تلامذته، بل صنعه رجل مجهول الاسم ونسبه إلى الحواريين أصحاب المسيح ليعتبر الناس »

ويقول العالم الألماني (دى يونس):« إن روايات الصلب والفداء من مخترعات بولس ومَنْ شابهه من المنافقين خصوصاً، وقد اعترف علماء النصرانية قديماً وحديثاً بأن الكنيسة العامة كانت منذ عهد الحواريين إلى مضى 325 سنة بغير كتاب معتمد، وكل فرقة كان لها كتابها الخاص بها »

ثم التفت إلي، وقال: ألا تزال تنكر تأثير الامبراطور على المجمع؟

صمت، فقال: كل الحقائق التاريخية تدل على أنه كان للامبراطور قسطنطين دور كبير في مجمع نيقية،لأنه كان يعلق أهمية كبرى في تكوين كنيسة واحدة في إمبراطورية واحدة.

ومما يدل على هذا أن علماء الآثار يكشتفون كل مرة مخطوطات جديدة من هذه الكتب تختلف عن النسخ المعروفة، ومن ذلك ما ذكرته صحيفة الواشنجتون تايمز THE WASHINGTON TIMES، فقد ذكرت فى عددهـا الصادر فى 7 إبريل 2006  مقالا بعنوان Judas stars as 'anti-hero' in gospel   By Julia Duin و جاء فى هذا المقال أن الجمعية الجغرافية الدولية National Geographic أزاحت النقاب عن أحد المخطوطات الأثرية  أو الأناجيل التى عثر عليهـا فى المنيا فى مصر، ويعود تاريخهـا إلى بداية القرن الثالث الميلادى و أطلق على هذا الانجيل إسم إنجيل يهوذا   The Gospel of Judas.

وقد اعتبر يهوذا من تلاميذ السيد المسيح، ويذكره التاريخ القبطى أنه هو الرجل الذى خان المسيح.

و قد تم ترميم هذا الإنجيل بعد العثور عليه منذ أكثر من عشر سنوات، وتمت ترجمته من اللغة القبطية إلى اللغة الانجليزية فى نهاية عام 2005 وأفرج عن هذه الترجمة فى 6 إبريل 2006 وأصبح هذا الإنجيل يباع فى الأسواق[33].

2 ـ الثمار:

قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن صمود الثمار.

العقيدة:

قال: أول الثمار وأخطرها ثمرة العقيدة..

قلت: فهل حرفت هذه الثمرة الطيبة..

قال: لم تحرف فقط.. بل أصبحت ثمرة سامة تقتل كل من اقترب منها.. لقد أصاب عقيدتنا أخطر ما أصاب أي عقيدة في الدنيا، فصرت لا تميز بينها وبين أي ديانة وثنية.

لقد عبرت المسيحية إلى الدولة الرومانية الوثنية في أشد عصور الوثنية والانحلال في هذه الدولة، ثم أخذت تنتشر حتى استطاعت أن تولي قسطنطين امبراطوراً في سنة 305 ميلادية، ومن ثم دخلت الإمبراطورية الرومانية في النصرانية، لا لتخضع للنصرانية، ولكن لتخضع النصرانية لوثنيتها العريقة[34].

وفي هذا يقول الكاتب الأمريكي (درابر) في كتابه (الصراع بين الدين والعلم) دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين، الذين تقلدوا وظائف خطيرة، ومناصب عالية في الدولة الرومانية، بتظاهرهم بالنصرانية. ولم يكونوا يحفلون بأمر الدين. ولم يخلصوا له يوماً من الأيام. وكذلك كان قسطنطين.. فقد قضى عمره في الظلم والفجور، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً في آخر عمره سنة 337 ميلادية » 

ويقول:« إن الجماعة النصرانية، وإن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك، ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية، وتقتلع جرثومتها، وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها ونشأ من ذلك دين جديد، تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء.. هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى على منافسه (الوثنية) قضاء باتاً، ونشر عقائده خالصة بغير غبش » 

ويقول:« وإن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا، والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئاً، رأى لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين ـ النصراني والوثني ـ أن يوحدهما ويؤلف بينهما، حتى أن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة. ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ونقحت بالعقائد الوثنية القديمة، وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها »

ولكن هذا الأمل لم يحصل.. بل لم تزد الأيام طين النصرانية إلا بلة..

فهذه الديانة الجديدة التي نسخت دين المسيح.. والتي انحنت أمام كل التيارات الوثنية.. غرقت في متاهات سياسية وعنصرية وطائفية حولتها إلى ديانات كثيرة تغذي الصراعات بينها.. كما نص القرآن على ذلك في قوله:﴿ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)﴾(مريم)

لقد وقع انقسام خطير في هذه التصورات الجديدة..

فقالت فرقة: إن المسيح إنسان محض..

وقالت فرقة: إن الأب والابن وروح القدس إن هي إلا صور مختلفة أعلن الله بها نفسه للناس.. فالله ـ بزعمهم ـ مركب من أقانيم ثلاثة: الأب وروح القدس.. فانحدر الله، الذي هو الأب، في صورة روح القدس وتجسد في مريم إنساناً، وولد منها في صورة يسوع..

وقالت فرقة: إن الابن ليس أزلياً كالأب بل هو مخلوق من قبل العالم، ولذلك هو دون الأب وخاضع له.

وفرقة أنكرت كون روح القدس أقنوماً.

وقرر مجمع نيقية سنة 325 ميلادية، ومجمع القسطنطينية سنة 381 أن الابن وروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب، وأن روح القدس منبثق من الأب.

وقرر مجمع طليطلة سنة 589 بأن روح القدس منبثق من الابن أيضاً.. فاختلفت الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية عند هذه النقطة وظلتا مختلفتين..

كذلك ألهت جماعة منهم مريم كما ألّهو المسيح[35].

يقول (سيرت. و. أرنولد) في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) عن هذا الخلاف، ومحاولة هرقل لتسويته بمذهب وسط:« لقد أفلح جستنيان Justinian قبل الفتح الإسلامي بمئة عام في أن يكسب الإمبراطورية الرومانية مظهراً من مظاهر الوحدة. ولكنها سرعان ما تصدعت بعد موته، وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قومي مشترك، يربط بين الولايات وحاضرة الدولة. أما هرقل فقد بذل جهوداً لم تصادف نجاحاً كاملاً في إعادة ربط الشام بالحكومة المركزية. ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى لسوء الحظ إلى زيادة الانقسام بدلاً من القضاء عليه. ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية. فحاول بتفسيره العقيدة تفسيراً يستعين به على تهدئة النفوس، أن يقف كل ما يمكن أن يشجر بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات، وأن يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الأرثوذكسية، وبينهم وبين الحكومة المركزية.

وكان مجمع خلقيدونه قد أعلن في سنة 451م أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتين، لا اختلاط بينهما، ولا تغير ولا تجزؤ، ولا انفصال. ولا يمكن أن ينتفي اختلافهما بسبب اتحادهما. بل الأحرى أن تحتفظ كل طبيعة منهما بخصائصها، وتجتمع في أقنوم واحد، وجسد واحد، لا كما لو كانت متجزئة أو منفصلة في أقنومين. بل متجمعة في أقنوم واحد: هو ذلك الابن الواحد والله والكلمة.

وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع. وكانوا لا يعترفون في المسيح إلا بطبيعة واحدة. وقالوا: إنه مركب الأقاليم، له كل الصفات الإلهية والبشرية. ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية، بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم.

وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام، والبلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية البيزنطيةن في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين عن طريق المذهب القائل بأن للمسيح مشيئة واحدة: Monotheletism: ففي الوقت الذي نجد هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين، إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية. وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد. فالمسيح الواحد، الذي هو ابن الله، يحقق الجانب الإنساني، والجانب الإلهي. بقوة إلهية إنسانية واحدة. ومعنى ذلك أنه لا يوجد سوى إرادة واحدة في الكلمة المتجسدة.

لكن هرقل قد لقي المصير الذي انتهى إليه كثيرون جداً ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام، ذلك أن الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون الاحتدام فحسب. بل إن هرقل نفسه قد وصم بالإلحاد، وجر على نفسه سخط الطائفتين سواء»[36]

سكت قليلا، ثم قال: لقد أجريت بحثا مقارنا بين معتقداتنا ـ نحن المسيحيين ـ وبين العقائد الوثنية فوجدت شيئا عجيبا.

قلت: ما وجدت؟

قال: لقد وجدت مقاربات كثيرة تحيل أن يكون مصدر عقائدنا هو المسيح، فقد ظهرت عقيدة التثليث ـ أو الآلهة المثلثة ـ في وقت مبكرا جدا، وعلى مستوى بدائي.. بل كانت هذه الآلهة المثلثة ليست آلهة ثلاثة مختلفة أو مستقلة عن بعضها، بل بينها علاقة وثيقة كالعلاقة بين الأقانيم عندنا.

وسأسوق لك من الأمثلة ما يكون برهانا جليا لك على ذلك:

فالآلهة البابلية المثلثة: أنو، بل، أيا، كان (أيا) رمزا للمعرفة، وكان والد بل (الآب) الذي كان يمثل النشاط العملي.

وهناك ثلاثة آلهة بابلية أخرى هي سن (القمر)، وأداد (العاصفة)، وهنا نجد أن (أداد) هو ابن الآب (أنو)، وفي حكم نبوخذ نصر صار (أداد) رب السماء والأرض، ثم اتضحت العلاقة بين الآب والابن في أيام حمورابي حيث نجد (مردوك بن أيا) يأخذ القوة من الإله (بل)، ويبعده إلى الظل، وكان (أيا) والدا عامرا بالمحبة لابنه الذي يعطيه قوته وحقوقه، أما مردوك فهو أصلاً إله الشمس وكانت له مرتبة (الآب) بينما كان ( أيا ) وسيطا بين الآب وبين ابشر. وقد قال (أيا) أن كل ما يعرفه هو يعرفه ابنه أيضاً.

ثم يبرز مردوك في صراعه مع (تياماتا) إلهاً مخلّصا، فهو الرب الذي يحب إيقاظ الموتى، والمخلص الحقيقي للبشرية. وكانت هذه الأفكار عن المخلص قد انتشرت في أرجاء البلاد البابلية كلها وما تزال منتشرة إلى الآن عند ورثة هذه الديانات.

بالإضافة إلى هذا، فقد كانت هناك آلهة بابلية مثلثة أخرى مثل: سن (القمر) وشمش (الشمس) ثم عشتار التي تحتل مكان الإله أداد، ولقد ثبت أن الآلهة المثلثة كانت عقيدة لاهوتية أكثر مما كانت قوة حية.

هذا في بابل..

أما في مصر، فقد تطورت فيها الأفكار البدائية في الدين البابلي.. فاللاهوت المصري القديم كان يصر على الوحدة الجوهرية التي كان فيها الفرعون المصري يجمع بين الأب والابن في الألوهة البابلية.

وكان العالم الألماني جاكوبسون قد أشار إلى ذلك في دراسة مهمة، وذلك في كتابه (دراسة العقائد الدينية عند ملوك مصر)، فقد ذكر أن الشخص الثالث بين الأب والابن المجتمعين في شخص الملك هو (كع- موتف)، وهذه عبارة تعني (ثور أمه).

و(كع) هي القوة الخلاقة، وبواسطتها يتحد الآب بالابن على شكل وحدة مؤلفة من الله والملك كع لا على شكل تثليث، وبهذا ـ كما يقول جاكوبسون ـ نستطيع الحديث عن وحدة مثلثة يكون فيها الآب هو الله، والملك هو الابن، و كع هو حلقة الوصل بينهما.

وفي نهاية كتابه يعقد جاكوبسون مقارنة بين هذه الفكرة المصرية، وبين العقيدة المسيحية، ثم يستشهد بكاتب آخر يدعى بارت، كان قد درس التثليث المسيحي.

ويقول جاكوبسون:« إن الروح القدس عند المسيحيين يوازي (كع) عند المصريين، وبه يتحد الآب بالابن فالولادة الإلهية للفرعون تتم عبر (كع)، وذلك من خلال أم بشرية للملك، غير أن هذه الأم ـ كما عند المسيحيين ـ تبقى خارج إِطار التثليث، وهكذا نجد عند الأقباط المصريين في فجر المسيحية هذا التأثر، فقد نقلوا الأفكار المصرية القديمة حول (كع) وألبسوها لروح القدس » 

وفي بعض الكتب القبطية القديمة ككتاب ( Pistis Sofia) ـ الذي اكتشف في نجع حمادي عام 1945، والذي يعود للقرن الثالث الميلادي ـ نرى أن الأقباط كانوا يسمون الروح القدس بـ (كع)، كما كانوا يجعلونه أحياناً شبيهاً بالمسيح.

وفي النصوص المصرية القديمة وصف لولادة الابن الإلهي، وهم يجعلونه أحياناً في حورس الإله، وكيف يقول الأب عن الابن:« لسوف يُمارس ملكا مباركاً في هذه الأرض لأني وضعت روحي فيه »، ويقول للابن:« إنك ابن جسدي الذي أنجبت».. إن هذا نفسه ما ورد في رسالة بولس إلى العبرانيين (5/1) أنت إبني أنا اليوم ولدتك»

وإذا كانت الشمس التي يرثها ابن حورس عن أبيه تبرز فيه من جديد ويقول:« إن عينيه هما الشمس والقمر وهما عينا حورس »، فإننا نقرأ في ملاخي (2/4) ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشقاء في أجنحتها » وهذا يشير إلى أجنحة قرص الشمس عند قدامى المصريين.

لقد انتقلت هذه الأفكار إلى التوفيقية الهيلينية، ثم انتقلت بعد ذلك إلى المسيحية عبر فيلون السكندري وبلوتارخ.

لهذا لا بد من القول أنه لا صحة لما يقول اللاهوتيون المسيحيون المعاصرون حين يزعمون أن مصر القديمة لم يكن لها أثر على قيام الأفكار والعقائد المسيحية.

إنني أرى الأمر على نقيض ما يقولونه، فمن المستحيل أن تكون الأفكار البابلية هي الأفكار الوحيدة التي دخلت فلسطين، سيما وأن فلسطين خضعت للسيادة المصرية فترة طويلة، وكانت لها علاقة وثيقة مع جارتها القوية (مصر)، وخاصة عندما كان هناك جالية يهودية في الإسكندرية قبل ولادة المسيح ببضعة قرون، إنني لا أفهم كيف أن البروتستانت اللاهوتيين يعملون المستحيل لإقناعنا بأن الأفكار المسيحية (الحالية) هبطت من السماء ولم تتأثر بشيء قبلها.

بالإضافة إلى هذه التأثيرات الوثنية.. فقد كان هناك تأثير يوناني لا شك فيه.

وقد ابتدأ هذا النوع من التأثير في إنجيل يوحنا المعروف بنزعته الغنوصية.. أما لاحقاً في زمن آباء الكنيسة اليونان، فإن الروح الفلسفية اليونانية راحت توسع المضمون الأصيل للوحي، وتشرحه انطلاقاً من أفكارها ومبادئها.

لقد كان فيثاغورس ومدرسته قد أثرا تأثيراً كبيراً على صياغة الفكر اليوناني التثليثي، وبما أن جزءا من مبدأ التثليث يقوم على رمزية الأعداد، فإنه من اللازم علينا أن نفحص النظام الفيثاغوري للأعداد، وأن نرى ما يتضمنه هذا النظام وما يقوله عن الأعداد الثلاثة الرئيسية التي تعنينا هنا.

قال الكاتب الألماني زيللر في كتابه (تاريخ الفلسفة اليونانية) الواحد هو الأول الذي تصدر عنه كل الأعداد، وبالتالي فإنه تتحد فيه الخصائص المتناقضة للأعداد المزدوجة والمفردة، والعدد اثنان هو أول عدد مزدوج، أما الثلاثة فإنه أول عدد مفرد كامل لأنه أول عدد يتضمن بداية ووسطاً ونهاية »[37]

لقد أثرت آراء الفلاسفة الفيثاغورسيين بأفلاطون تاثيرا كبيرا، كما نرى ذلك في طيماوس، وبما أن هذا التأثير قد أوغل بعيدا في ترك بصماته على التصورات الفلسفية اللاحقة، فإنه لا بد لنا من أن ندرس تصورات الأعداد لدى اليونان دراسة نفسية أعمق.

إن للعدد واحد اعتبارا خاصا، وهذا ما نلحظه في الفلسفة الطبيعية للقرون الوسطي، ووفقا لهذه الفلسفة فإن الواحد ليس عددا على الإطلاق.. إن العدد الأول هو الاثنان، ففيه حصل الافتراق والضرب، ثم إنه وحده جعل مسألة العد ممكنة.

ومع ظهور العدد اثنين يظهر الآخر إلى جانب الواحد، وهذا حدث مثير بحيث أن كثيرأ من اللغات تستخدم كلمتي (الآخر) و (الثاني) بمعنى واحد.

ثم إن فكرة اليسار واليمين مرتبطة أيضاً بالعدد (اثنين)، وكذلك الأمر بالنسبة للحسن والقبيح، والصالح والطالح. وقد يكون لـ (الآخر) معنى (مشئوم)، أو أن المرء يشعر بأنه معاد، أو غير أليف.

وهنالك سيميائي من القرون الوسطي كتب يقول انطلاقا من تلك النظرة: لهذا السبب لم يشأ الله أن يُمدح في اليوم الثاني للخلق، لأنه في ذلك النهار (الاثنين، نهار القمر) خلق الشيطان، إن العدد اثنين يتضمن معنى الواحد المختلف (أي العدد الثاني: اثنين) ويتميز عن العدد الواحد اللاعددي، وبتعبير آخر فإنه حالما يظهر العدد فإن ثمة وحدة تصدر عن الوحدة الأصيلةً، وهي أصلاً الوحدة التي انشطرت إلى اثنين وتحولت إلى عدد.

إن (الواحد) والآخر يشكلان تضادا، أما الواحد والاثنين فمجرد أعداد لا تتميز إِلا بقيمتها الرياضية، غير أن الواحد يحاول أن يتمسك بوجوده الواحد، بينما يناضل الآخر لأن يكون وجودا مضادا للواحد، والواحد يعمل على عدم إخراج الآخر لأنه إذا فعل ذلك فإنه يفقد ميزته بينما نرى الآخر يدفع بنفسه بعيدا عن الواحد في محاولة من أجل أن يظهر في الوجود، وهنا يتأزم التضاد بين الواحد والآخر.

غير أن كل تأزم بين التناقضات تتأوج في حل يخرج منه الثالث.. ففي الثالث ينحل التناقض، وتعود الوحدة المفقودة.

والوحدة، أي الواحد المطلق، لا يمكن عدها، فهي لا تعرف ولا تعرف، وهي لا تعرف إلا حين تبرز كوحدة، أي كالعدد واحد، وذلك لأن الآخر المطلوب من أجل فعل المعرفة هذا ناقص في شرط الواحد.

والعدد ثلاثة هو كشف الواحد لوضع يمكن أن يعرف فيه، وبذلك تصبح الوحدة قابلة للمعرفة، والثلاثة أيضاً تظهر أيضا مرادفاً ملائما لعملية التطور في الزمن، وبالتالي فإنها تشكل ما يعين على الكشف الذاتي الألوهة باعتبارها الواحد المطلق الذي تم الكشف عنه عبر الثلاثة.

وعلاقة الثلاثة بالواحد يمكن التعبير عنها من خلال مثلث متساوي الأضلاع، أي عبر تطابق الثلاثة.

وهذه الفكرة الذهنية للمثلث المتساوي الأضلاع ليست إلا نموذجاَ تخيليا للفكرة المنطقية حول التثليث.

وبالإضافة إلى التأويل الفيثاغوري للأعداد، فإن هناك ـ في الفلسفة اليونانية ـ مصادر أكثر مباشرة لعقيدة التثليث المسيحية، وهو كتاب (طيماوس) لأفلاطون.

فقد ورد في المقطعين 31 ب و32أ قوله:« وإذن فحين ابتدأ الله بصياغة جسد الكون راح يصنعه من النار والتراب، وبما أنه لا يمكن الجمع بين شيئين جمعا سليما بدون الاستعانة بثالث يربط بينهما ويشدهما إلى بعضهما، وأن أفضل هذه الروابط هي تلك التي تتحد مع العنصرين اللذين تجمع بينهما وتجعل من الثلاثة واحداً بكل معنى الكلمة. إن هذا الرابط ينتمي إلى طبيعة البعد الهندسي الذي يمكن أن يصنع هذا الكمال..

ولهذه الحجة أفكار ذات عواقب نفسية بعيدة المدى، فإذا كان مضادان بسيطان مثل النار والتراب مرتبطين برابط، و إذا كان هذا الرابط هندسيا، فإن رابطا واحدا يستطيع أن يربط بين الأشكال المسطحة فقط، بينما نحتاج إلى رابطين للربط بين جسمين صلبين، و إذا افترضنا أن جسد الكون مساحة مسطحة لا عمق لها فإن رابطا واحدا يكفي، لكن للعالم في الواقع شكلاً صلبا، والأجسام الصلبة بحاجة إلى رابطين.. ومن هنا فإن الرابط ذا البعدين ليس بحقيقة فيزيائية لأنه مسطح لا امتداد له في البعد الثالث (العمق) وهو تفكير مجرد، و إذا أراد أن يكون حقيقة فيزيائية فإن المطلوب ثلاثة أبعاد ورابطان.

لكل هذا وضع الله الماء والهواء بين النار والتراب، وجعلهما متناسقين قدر الإمكان بحيث يمكن أن تكون النار للهواء كما يكون الهواء للماء، ويكون الهواء للماء كما الهواء للتراب، بذلك أحكم الله خلق هذا العالم المرئي المحسوس، وانطلاقاً من هذه الأسباب وهذه المركبات الأربعة (عدديا) خلق العالم بأحجام متناسبة، وانطلاقا من هذه الأحجام صار العالم مفهوماً، وصار متحدا مع نفسه، كما صار من المستحيل تفكيكه من قبل أية قوة أخرى إلاه »

إننا هنا نواجه طريقا مسدودا يصطدم فيه العدد ثلاثة للأقانيم المسيحية بالعدد أربعة للعناصر الأفلاطونية، وهذا هو مأزق الثلاثة والأربعة التي يشير إليها أفلاطون في مقدمة طيماوس.

وكان غوتيه قد التقط هذا بالحدس أثناء حديثه عن البطل الرابع في فاوست:« لقد كان (هذا البطل الرابع في الترتيب العددي) هو الشخص المناسب الذي يفكر عنهم جميعا »،  كذلك فإنك « تستطيع أن تتساءل على جبل أوليمبوس (جبل الآلهة اليونانية) عن الثامن الذي لم يكن يفكر فيه أحد »

ومن الجدير بنا هنا أن نشير إلى أن أفلاطون بدأ بحثه بأن صور لنا اتحاد الضدين في بعديهما، وعرض لنا هذه المشكلة باعتبارها مشكلة فكرية يمكن حلها بواسطة التفكير، لكن أفلاطون اكتشف أن حل هذه المشكلة لا يتماشى مع الواقع أبدأ، فالحالة الأولى تتعلق بتثليث قائم بحد ذاته، أما الحالة الثانية فخاصة بالتربيع.

وتلك هي المعضلة التي حيرت السيميائيين أكثر من ألف سنة وكانت تُسمى ببديهية (العرافة ماريا) التي كانت يهودية أو قبطية، وتظهر أيضاً في الأحلام الحديثة..

من هنا يمكن فهم الكلمات التي افتتح بها أفلاطون طيماوس:« واحد- اثنان- ثلاثة- ولكن أين هو الرابع يا عزيزي طيماوس؟»

ومثل هذه العبارة تبدو أليفة لسمع عالم النفس والسيميائي معا، ولا شك في أن أفلاطون كان بالنسبة لهؤلاء كما كان بالنسبة لغوتيه أيضاً يشير إلى سرّ دفين..

وقد عرف أفلاطون من تجربته الخاصة صعوبة الانتقال من التفكير ببعدين إلى تحقيقه بثلاثة أبعاد واقعية، وكان قد اختلف في هذا الأمر مع صديقه ديونيزوس العجوز الطاغية السراقسي الذي احتال عليه وأراد أن يبيعه عبدا فلم ينج من هذه المكيدة إلا بعد أن افتداه أصدقاؤه.

وقد أخفق أفلاطون بعد ذلك في تطبيق نظرياته السياسية تحت حكم ديونيزوس الأصغر، ومن يومها تخلى عن طموحاته السياسية، وبدت له الميتافيزيقا أرحب من هذا العالم الذي لا يحكم، فقد كان يركز على عالم الفكر ذي البعدين، وهذا ينطبق بخاصة على طيماوس الذي كتبه أفلاطون بعد خيبة أمله السياسية.

ومن المعروف أن طيماوس آخر أعمال أفلاطون، والواقع أن الكلمة التي افتتح بها كتابه هذا لم تكن دليلا على مرحه ولا تعزى إلى المصادفة وحدها، بل كانت تحمل معنى مأساويا. إن واحدا من العناصر الأربعة غائب لأنه (غير مناسب)

على أن التاريخ في اقترابه من بداية عصرنا صار يرينا الآلهة تزداد تجريدا وروحانية، حتى يهوه نفسه انصاع لهذا التحول. وفي آخر قرن سبق ولادة المسيح رحنا نشهد في الفلسفة الإسكندرية على تبدل هذه الطبيعة وعلى ظهور مفهومين جديدين للألوهة هما (الكلمة) و(الحكمة) راحا يشاركان يهوه في ألوهيته. وقد ألف الثلاثة معا ثالوثا قدم سابقة واضحة جدأ للتثليث الذي تبنته المسيحية بعد المسيح.

قلت: أراك تبحث عن أي دين أو فلسفة لتنسب للمسيحية التأثر بها؟

قال: ذلك هو الواقع.. فالتثليث ليس فكرة مسيحية أساسا، وإنما جاء من الأديان الوثنية القديمة.. فأفكار التثليث كانت تنبع من لا وعي الناس في آسيا الصغرى وحدها، وكانت هذه الأفكار تبرز هنا وهناك في أماكن مختلفة من الأرض.

ولهذا لم يشعر آباء الكنيسة بالراحة إلا بعد أن أعادوا بناء عمارة التثليث على غرار نموذجها المصري الأصيل، وهو ما تم نقله أيضا لمريم العذراء عندما أعلن مجمع أفسوس في عام 431 ميلادي أن مريم العذراء (ولدت الإلة)، وقد تم إعلان ذلك في المكان الذي كان يشهد ترانيم المجد للمعبودة المتعددة الأثداء (ديانا)

وهنا لا بد من ذكر الأساطير التي شاعت بعد المسيح، والتي كانت تقول أن مريم لجأت مع الحواري يوحنا إلى أفسوس حيث ماتت هناك، وأفسوس كانت تعبد ديانا.

ويروي لنا الكاتب المسيحي أيبيفانيوس أن نحلة دينية جديدة ظهرت في تلك الفترة وراحت تعبد مريم على غرار عبادة الآلهة الوثنية القديمة، وكانت هذه النحلة تدعى الكولليديين. وانتشرت عبادة مريم في بعض المناطق المعينة مثل الجزيرة العربية وتراقيا وسيثيا Scythia وكان معظم أتباع هذه النحلة من النساء.

لقد أشار القرآن إلى هذه النحلة[38]، فقال:﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)﴾(المائدة)

 لقد هاجم الكاتب ايبيفانيوس أتباع هذه النحلة، ووجه لومه إلى النساء بخاصة فاتهمهن بأنهن (صغيرات العقول)، ثم قال ايبيفانيوس في كتابه (نقض مبادىء الفكر الثمانية):« كانت هناك معابد خاصة شيدت لمريم، كما كان لها كاهنات يحتفلن في أيام معلومة، فيزيّن العربات بالقطن ويضعن على مقاعد العربة لحماً مشويا يقدم لمريم، وبعد ذلك يتناولن الطعام معها، وكانت هذه الاحتفالات تشبه القرابين ويقدم فيها اللحم والخبز أيضاً »

وقد هاجم هذا الكاتب عبادة مريم بعنف قائلًا:« أكرموا مريم ودعوها لشأنها ولا تعبدوا إلا الأب والابن والروح القدس. أما مريم فلا تدعوا أحدا يعبدها »

 الشعائر:

قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن مدى صمود شعائرنا المقدسة.

ابتسم، وقال: ومتى صمدت شعائرنا حتى نسميها مقدسة.. إن كل ما أعرفه من شعائر بدع حادثة لم يفعلها المسيح.. ولا أحسب أن أحدا من الحواريين فعلها.

لقد بدأ أول انتهاك لشعائرنا بانتهاك بولس ليوم السبت فمع أنه ورد في الكتاب المقدس أن تعظيم السبت كان حكماً أبدياً في الشريعة الموسوية، وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل، كما ورد في (التكوين 2 / 3):« وَبَارَكَ اللهُ الْيَوْمَ السَّابِعَ وَقَدَّسَهُ، لأَنَّهُ اسْتَرَاحَ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْخَلْقِ »، وفي (اللاويين 19 /3 ):« لِيُوَقِّرْ كُلُّ إِنْسَانٍ أُمَّهُ وَأَبَاهُ، وَرَاعُوا سُبُوتِي. فَأَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ »، وفي (التثنية 5 /12 – 15):« احْفَظْ يَوْمَ السَّبْتِ مُقَدَّساً كَمَا أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ. سِتَّةَ أَيَّامٍ تَشْتَغِلُ وَتَقُومُ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابِعُ فَيَكُونُ يَوْمَ رَاحَةٍ لِلرَّبِّ إِلَهِكَ، لاَ تَقُومُ فِيهِ بِأَيِّ عَمَلٍ أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَثَوْرُكَ وَحِمَارُكَ وَكُلُّ بَهَائِمِكَ، وَالأَجْنَبِيُّ الْمُقِيمُ دَاخِلَ أَبْوَابِكَ، لِيَسْتَرِيحَ عَبْدُكَ وَأَمَتُكَ مِثْلَكَ. وَتَذَكَّرْ أَنَّكَ كُنْتَ عَبْداً فِي دِيَارِ مِصْرَ، فَأَطْلَقَكَ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ بِقُدْرَةٍ فَائِقَةٍ وََقُوَّةٍ شَدِيدَةٍ، لِهَذَا أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ أَنْ تَرْتَاحَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ »، وفي (حزقيال 20 /12):« وَأَعْطَيْتُهُمْ كَذَلِكَ سُبُوتِي لِتَكُونَ عَلاَمَةً بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ لِيُدْرِكُوا أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الَّذِي أُقَدِّسُهُمْ »

وفي (الخروج 31 /13 – 17) ما يؤكد ديمومته وعدم إمكانية نسخه، ففيه:« قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: احْفَظُوا أَيَّامَ سُبُوتِي لأَنَّهَا عَلاَمَةُ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، عَلَى مَرِّ الأَجْيَالِ، لِتَعْلَمُوا أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الَّذِي يُقَدِّسُكُمْ. حْفَظُوا يَوْمَ السَّبْتِ لأَنَّهُ مُقَدَّسٌ لَكُمْ. مَنْ يُدَنِّسْهُ حَتْماً يَمُتْ. فَكُلُّ مَنْ يَقُومُ فِيهِ بِعَمَلٍ، تُسْتَأْصَلُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهَا. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تَعْمَلُونَ، أَمَّا يَوْمُ السَّبْتِ فَهُوَ يَوْمُ عُطْلَةٍ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ. كُلُّ مَنْ يَقُومُ بِعَمَلٍ فِي يَوْمِ السَّبْتِ يُقْتَلُ حَتْماً. لِيَحْفَظْ بَنُو إِسْرَائِيلَ السَّبْتَ وَيَحْتَفِلُوا بِهِ فِي كُلِّ أَجْيَالِهِمْ عَهْداً أَبَدِيّاً. هُوَ بَيْنِي وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلاَمَةُ عَهْدٍ إِلَى الأَبَدِ، لأَنَّهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ، وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ فَرَغَ مِنَ الْعَمَلِ وَاسْتَرَاحَ »

ولم يرد عن المسيح أي نسخ لهذا الحكم.. بل استمر يعظم السبت مما يعظمه اليهود إلا أن بولس نقض ذلك وبدله.. لقد قال في رسالته إلى كولوسي [2 /16 - 17 ]:« فلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي قَضِيَّةِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، أَوْ فِي الْقَضَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالأَعْيَادِ وَرُؤُوسِ الشُّهُورِ وَالسُّبُوتِ؛ فَهَذِهِ كَانَتْ ظِلاَلاً لِمَا سَيَأْتِي، أَيْ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ الْمَسِيحُ »

وقال في رسالته إلى (العبرانيين 7/ 18-19):« فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ السَّابِقَةِ مِنْ أَجْلِ ضُعْفِهَا وَعَدَمِ نَفْعِهَا، إِذِ النَّامُوسُ لَمْ يُكَمِّلْ شَيْئاً. وَلَكِنْ يَصِيرُ إِدْخَالُ رَجَاءٍ أَفْضَلَ بِهِ نَقْتَرِبُ إِلَى اللهِ »

هذه البداية فقط.. أما ما حصل بعدها.. فلا يمكن تصوره.

قلت: ما هو السر الذي تراه في ذلك؟

نظر إلى الشجرة الراسخة في الأرض بعمق، ثم قال: لقد أخبرنا القرآن بالسر الذي حصل بسببه ذلك، لقد قال:﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)﴾(آل عمران)

أتدري السر المودع في قوله:﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾؟

لقد وضع القرآن يده على سر شقاء المسيحية، وسر انحرافها الخطير.. إنه تأليه الكنيسة لنفسها..

قلت: الكنيسة لا تفعل هذا..

قال: إنها تمارس من السلطات ما ليس إلا لله.. وبذلك تؤله نفسها من حيث لا تشعر..

لقد قرأت الكتاب المقدس مرات كثيرة لا يمكنني عدها.. ولكني لم أجد شيئا من الشعائر التي نمارسها في كنائسنا.. وكل ذلك بسبب تأليهنا لرجال ديننا، وإعطائهم سلطات تجعل لهم الحق في نسخ تعاليم الكتاب المقدس.

قلت: هل تسمح بذكر أمثلة تثبت هذا؟

قال: كل ما يمارس في الكنيسة أمثلة على هذا.. وسأذكر لك ما تقر به عينك، وتعلم أن ما يمارس فيها هرطقات وبدع ما جاء بها المسيح.

لاشك أنك تعرف (الإفخارسيتا)[39]..

قلت: وكيف لا أعرفها.. وهي من أقدس مقدساتنا.

ابتسم، وقال: أي قوّة استودعت في سلطان الكهنة حتى صار بموجبها يحوّل القربان أو خبز التقدمة والخمر إلى جسد يسوع وروحه ودمه ولاهوته المزعوم[40]  

سكت، فقال: بحسب هذا السر، فإن الرب يحضر بشخصه في القداس الإلهي، ويحل فى القربان المقدس، ويتحول الخبز الى جسده الحقيقى والخمر الى دمه الحقيقى.

يقول العّلامة الأنبا غريغورس في كتابه (سرّ القربان) بصلوات الكاهن المرتّبة والقداس الإلهي على الخبز والخمر يحلّ الروح القدس عليها، فيتحوّل ويتبدّل جوهر الخبز إلى جسد المسيح، وجوهر الخمر إلى دمه »[41]

وفي القداس القبطي عندما يتلو الكاهن الاعتراف الأخير، وهو يحمل الصينية المقدسة على يديه يقول:« أمين أمين أمين أمين أؤمن أؤمن أؤمن أؤمن وأعترف إلى النفس الأخير أنّ هذا (مشيراً إلى الخبز) هو الجسد المحيي الذي أخذه ابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح من سيدتنا وملكتنا كلّنا والدة الإله القديسة مريم الطاهرة وجعله واحداً مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير واعترف الاعتراف الحسن أمام بيلاطس البنطي وأسلمه عنّا على خشبة الصليب المقدس بإرادته وحده عنّا كلنا.. بالحقيقة أؤمن أنّ لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين ويعطي عنا خلاصاً وغفراناً للخطايا، وحياةً أبديةً لمن يتناول منه.. أؤمن أؤمن أؤمن أنّ هذا هو بالحقيقة آمين » 

وفي الخولاجي المقدس (الباسيلي) عندما يتلو الكاهن التقليدي صلاة حلول الروح القدس سرّاً على الخبز والخمر يخاطب الآب قائلاً:« ليحلّ روحك القدوس علينا وعلى هذه القرابين الموضوعة.. يطهّرها وينقلها – قدساً لقديسيك »، فهذا الخبز يجعله جسداً مقدساً له، وهذه الكأس أيضاً دماً كريماً لعهده الجديد، يُعطى لغفران الخطايا وحياة أبدية لكلّ من يتناول منه.

يقول صاحب كتاب اللاليء النفيسة وأسرار الكنيسة السبعة:« إنّ ذبيحة الصليب كانت دموية، أما ذبيحة القداس فغير دموية »

وعبارة أخرى تقول:« إنّ ذبيحة الصليب كانت للتكفير عن خطايا العالم ووفاء عدل الله وفاءً أبدياً، وأما ذبيحة القداس فتُقدم استعطافاً لله عن خطايا الذين قُدمت لهم وبواسطتهم ولذلك سمّاها الآباء (ذبيحة استعطاف)، وتطوّر الفكر التقليدي فقال:« إنّ ذبيحة القداس ليست غير ذبيحة الصليب فهما ذبيحة واحدة » لأنه ـ كما يقول مجمع نيقية ـ لا فرق حينئذ بين مسيح يُعلق على الصليب والمسيح المتحوّل في القداس من القربان والخمر.

وهذا السر ـ كما تعلم ـ يرفضه البروتستانت مستندين إلى تحذير المسيح ذاته من التردّي في التقاليد، فهو يقول:« فقد أبطلتم وصيّة الله بسبب تقليدكم. يا مراؤون حسناً تنبأ عنكم إشعياء قائلاً.. يقترب إليَّ هذا الشعب بفمه، ويكرمني بشفتيه وأمّا قلبه فمبتعد عني بعيداً وباطلاً يعبدونني وهم يعلّمون تعاليم هي وصايا الناس » (متى 6:15-9)

أتدري ما سر هذا الحرص على هذه الطقوس المبتدعة؟

صمت، فقال: إنه ما ذكره القرآن.. لقد اختلق التقليديون من الكاثوليك والأرثوذكس هذه الأسرار ليفرضوها على تابعيهم حتى يتسلطوا عليهم، لأنهم ربطوا كل البركات الدنيوية والأبدية بالانصياع لهم وقبول أسرارهم والتي تعتبر كمخدّر لهم حتى لا ينشغلوا عن مطالبتهم بطاعة وصايا الله وفروضه، وحتى تطمئن ضمائرهم المضطربة من جرّاء الدينونة التي تطاردهم بسبب عصيانهم لوصايا الله الصريحة.

اسمع ما يقول أحد مصادرهم.. إنه يذكر ( الأسـرار تمنح النعمة من ذاتها وبقوتها..لأن صدور النعمة معلّق على مباشرة السرّ )[42] 

فالنعمة ـ على هذا القول ـ معطّلة بدون ممارسة هذه الأسرار.

وأنا أتعجب.. وأتساءل: هل يمكن أن يقبل أي عاقل بأن القربان المختمر وخمير العنب يرقى لتمثيل جسد الربّ ودمه الطاهرين؟

لقد أنزل الله تعليمه وإرشاداته الواضحة بخصوص الحمل المقدم في عيد الفصح،  وكان يلزم أن يكون الحمل ابن حول واحد بلا عيب صحيحاً، وكذلك خبز التقدمة أو الفطير يكون دقيقاً ملتوتاً بالزيت وليس فيه خميرة البتة، وأيضا عصير العنب يجب أن يكون طازجاً بلا تخمّر يُذكر.

ولكن هؤلاء يصرفون النظر عن تعاليم كتابهم المقدس، ويستخدمون أشياء لا تليق، ثم يدعون بعد كل هذا الخرق أنّ الكاهن، المصرّ على كسر ناموس الله، أُعطِيَ له السلطان أن يحوّلها إلى شخص الإله الكامل القدوس الصالح جسداً وروحاً ودماً ولاهوتاً؟!

ليس هذا فقط.. بل ما أكثر الادّعاءات التي يتمسّك بها من يميلون إلى الاعتقاد بأنّ ما تسلموه من الرسل كان شِفاهاً، وهذا دليل في حدّ ذاته على عدم وجود تأييد كتابي موحى به من الروح القدس. ولو كان هناك وجود للقداس في عهد المسيح ورسله بهذه الأهمية الخطيرة، لازمٍ للغفران والخلاص، لوجدنا سجلاً واضحاً في الإنجيل المقدس وتعليماً صريحاً من الربّ، ومنوالاً واحداً لجميع الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية، وليس خمسين قداساً منها أربعة عشر  قداساً لكنيسة الحبشة وحدها[43].

وهذه القداسات جميعا لا تتفق مع بعضها، ولا تتفق مع كلام الوحي، وهي مليئة بالأخطاء، ولا علاقة لها بأقوال وتوصيات الربّ، ولا بإرشاد الروح القدس، وحتى مرقس الرسول كان بريئاً منها.

إن هذه القداسات اختُلِقت بعد القرن الرابع الميلادي.. بل إنّ بعض الأسماء الواردة في هذه القدّاسات هي لأناس ولدوا بعد المسيح بأربعة أو خمسة قرون مّما يكذّب إرجاعها إليه، فكيف يستعمل مرقس قداساً خاصاً بأناس جاءوا بعده بمئات السنين.

يقول الأب متى المسكين في كتابه (الأفخارستيا والقداس):« أول من حدد الأسرار الكنسية بالرقم ( 7 ) هي الكنيسة الكاثوليكية بواسطة أسقف باريس بطرس لمبارد مع غيره، ثم قبلها توما الأقويني وقننها بعد ذلك مجمع فلورنسا سنة 1439 م، ثم أخذت الكنيسة البيزنطية هذا التقليد عن الكنيسة الكاثوليكية ودخل هذا التقليد الي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وأول ذكر لها تحت ايدينا هو ما ورد في المخطوطات المعروفة بإسم ( نزهة النفوس ) وهي لكاهن مجهول وأقدم مخطوطة معروفة هي الموجودة بدير الأنبا مقار مكتوبة بتاريخ 24 / 3 / 1564 م، ويظن أن مؤلف كتاب ( نزهة النفوس ) ليس قبطياً أرثوذكسياً لأنه يورد أقوالاً ليوحنا الدمشقي وعلي أي حال لم نجد أي ذكر لتحديد أسرار الكنيسة بالعدد ( 7 )، سبعة في مخطوط العالم ( بن كبر ) المعروفة ( بمصباح الظلمة في إضاح الخدمة ) وهو أهم وأدق من كتب عن الأسرار في القرن الثالث عشر تقريباً وحتي ما ذكر في مخطوط لم يكن سبعة وتفرق ما كتبه في كتابه في كل كتابة وعاش هذا العالم حتي أوائل القرن الرابع عشر » 

أما عن الإستحالة، فأول من صرح بها في الكنيسة الغربية باسخاسيوس رادبرتس في منتصف القرن التاسع في كتاب ألفه في جسد الرب ودمه. وفي ذلك قال راترامنس في العناصر مانصه:« أما من جهة الجواهر المادية فكما كانت قبل التقديس لم تزل كذلك بعده »، وفي القرن الحادي عشر قام برانجر وافرغ مجهوده في نفي تلك البدعة علي ان السنودس الروماني أثبته سنة 1079 م وأخذ تعليم الإستحالة ينتشر ويقوي إلي أن صرح قانونياً بأنه من الإيمان في المجمع الإتراني الرابع سنة 1215 م تحت رئاسة البابا أنوسنتيوس الثالث ومن ثم حسب من تعاليم البابوية المقررة وأثبته اللاهوتييون البابوييون بالاجمال ومن اشهرهم توما الإكويني سنة 1274 م صاحب كتاب الخلاصة اللاهوتية وبلارمين سنة 1621 م وسواريز سنة 1617 م و... غيرهم كثير، أما لفظة الإستحالة فلم تعرف إلا بعد زمان رادبرتس المذكور، بنحو مئتي سنة أي بداءة القرن الثاني عشر ومن ثم صارت من مصطلحات الكنيسة البابوية.

وبهذا نرى أن النظام الكهنوتي والقداسات لم يكن نظاما وضعه الرسل، بل هو نظام متطور مع مرور السنين إلى أن وصل الينا في هذه الايام بهذا الشكل الكامل المتكامل.

لقد فرضت الكنيسة على الناس قبول هذا الزعم ومنعتهم من مناقشته. وإلا عرضوا أنفسهم للطرد والحرمان.

لقد كانت هذه السخافة محل سخرية رحمة الله الهندي، فقد قال فيها:« ومثل أن كل خبز من الخبزات وإن كانت بمقدار مليونات غير متعددة يستحيل في العشاء الرباني في آن واحد في أمكنة مختلفة إلى المسيح الكامل بلاهوته وناسوته الذي تولد من العذراء إذا فرض أن مليونات من الكهنة في أطراف العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً قدسوا في آن واحد.. ومثل أن خبزاً واحداً إذا كسره الكاهن ولو إلى مائة ألف كسرة يصير كل كسرة منه أيضاً مسيحاً كاملاً وإن كان وجود الحبوب ثم الطحن ثم العجن ثم وجود الخبز ثم الكسرة كلها من الحوادث بمشاهدة فتعطل حكم الحبس عندهم في هذه الأمور كلها »

سكت قليلا، ثم قال: أتدري منشأ هذه البدعة التي تدنست به شعائرنا؟

قلت: وهل أمكنك الوصول إلى معرفة ذلك؟

قال: لست أنا الذي عرف ذلك.. وليس عقلي هو الذي استنتج ذلك.. بل الذي دلنا على ذلك هو الدليل الحسي الذي لا يماري فيه أحد.

لقد قدمت لنا الاكتشافات الأثرية فهماً عميقا جدأ للعلاقة الوثيقة بين القداس المسيحي، وبين الأسرار في الديانات الوثنية القديمة.

فمن بين الآثار المكتشفة في بلاد فارس، والموجودة حاليا في متحف اللوفر تمثال لأتباع الإله ميترا نراهم فيه يتناولون الخبز والنبيذ.

وقد وصف الكاتب الفرنسي فرانز كومون في مجلة (علم الآثار) لعام 1946 هذا الأثر قائلاً:« نظرا لأن لحم الثور كان صعب المنال أحيانا، فقد اضطر أتباع الإله ميترا إلى استخدام الخبز والنبيذ مكان اللحم، وكانوا يرمزون بذلك إلى لحم معبودهم ميترا ودمه تماماً »

إن ذلك هو نفس ما نقوله.. إننا ننرمز اليوم إلى لحم المسيح ودمه بالخبز والخمر.

ليس ذلك فقط..

بل إن القداس ـ بجملة تعقيداته الطقسية ـ لا ينتمي إلى اليهودية، بل تضرب جذوره في أعماق التاريخ الوثني القديم:

لقد كان لكل قبيلة طوطمها الحيواني (معبود حيواني)، وكانت تعتبره إلها، وكان أفراد القبيلة يضحون بهذا الحيوان ويلتهمونه لحما ودما، اعتقادا منهم بأن ذلك سيكسبهم فضائل سماوية، كما تعتقد المسيحية الحالية أن التهام لحم المسيح ودمه سيكسب المؤمنين فضائل غير بشرية خالدة.

وبعض المسيحيين يذهلون ويرفضون مثل هذه المقارنات رفضاً قاطعأ. لكن علينا هنا أن نذكر فقرة واضحة جدآ من رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كورنثوس يتحدث فيها عن أكل اللحوم المذبوحة للآلهة عند الوثنيين، وفي هذا المقطع يحذر بولس قائلاً:« إن ما يذبحه الأمم إِنما يذبحونه للشياطين لا لله. فلست أريد أن تكونوا أنتم شركاء الشياطين. لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس شياطين. لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة الشياطين. أم نغير الرب. ألعلنا أقوى منه »

وقد غضب القديس جوستين من هذه المقارنة وقال:« إن المقارنة بين القداس المسيحي والذبائح الوثنية أصلا هي مقارنة شيطانية »

لكن علماء التاريخ والأديان الذين يرفضون المقارنة بين الوثنية والمسيحية هم قلة بين العلماء، ومعظمهم يرى أن أكل اللحم النيىء وشرب الخمر في أسرار ديونيزوس مثلاً لم يكن رمزاً بل كان مناولة حقيقية.

ويقول الكاتب الوثني أرنوب في كتابه (ضد الوثنيين) إن هؤلاء حين كانوا يتناولون اللحم النيىء إنما يعتقدون أنهم يمتلئون بالفضيلة الإلهية. وفي هذا الصدد يقول الأب لاغرانج في كتابه عن أورفيوس:« إن أكل اللحم النيىء كان يهدف إلى التوغل في الحياة الإلهية وذلك بالتهام الحيوان الإلهي لحما ودما »

أما فرانز كومون فيذهب إلى أبعد من ذلك عندما يقول إن نبيذ القربان المسيحي هو بديل للنبيذ الذي كان يقدم في أعياد باخوس وإنه شراب يضمن الخلود في العالم الآخر.

ويذكر العالم الفرنسي شارل غينييبير في كتابه عن المسيح أن علماء الآثار وجدوا نصوصا على ورق البردى من مصر القديمة تدل على أن دم الإله أوزيريس كان يتحول إلى خمر.

وكذلك يقول فرانز كومون في كتابه عن الأديان الشرقية القديمة « أن أتباع أتارغاتيس (المعبودة السورية القديمة) كانوا يلتهمون السمك الذي يقدمونه لها ثم ينشدون أنهم بذلك يتناولون لحم معبودتهم » وهذا ما يفعله المسيحيون في القداس أيضاً.

سكت قليلا، ثم قال: ليس هذا فقط ما يرد به هذا القداس وغيره..

إن نصوص القداس نفسها تناقض تعاليم الكتاب المقدس:

ففيه (اسجدوا لإنجيل ربنا يسوع المسيح)، مع أن المسيح ذاته يرد على هذا الخطأ بقوله في (متى 10:4) لإبليس:« للرب إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد »

وفي القداس يطلب السجود للخبز والخمر، مع أنه قد ورد في الكتاب المقدس:« فلا تكونوا عبدة أوثان » (1 كورنثوس 7:1)

وفي القدّاس تذكر أسماء ( قديسين من طائفتهم ) مما يستدعي إضافة أسماء أخرى كلما أضفت هذه الكنيسة صفة القداسة على أناس جدد.

وفي القداس، البَشَرُ (الأكليروس) هم الفاعلون والمؤثرون في الربّ وتغييره وخلقه وليس العكس، فهل عجزت يد الربّ على أن تخلّص؟ أم أنّ فهمهم وقوّة إيمانهم وجبروتهم أصبح يفوق خالقهم الكامل القدوس؟

وفي القداس يطلب أوشية الآباء ( السحق والإذلال للأعداء ) وهو أقرب إلى روح الشيطان منها إلى روح المسيح المحب الذي أوصانا بأن نحب أعداءنا وأن نبارك لاعنينا ونحسن إلى مبغضينا ونصلّي لأجل الذين يسيئون إلينا ويضطهدوننا، كما في (متى: 44:5)

ثم بعد هذا كله.. هل يعقل أن يكون المسيح جالساً على المائدة مع تلاميذه ويقدم لهم جسده ودمه حقيقة؟

أليس هو الموحي بكلام الله عن طريق إرشاد روحه القدوس؟

ألم يسطر لنا في سفر اللاويين، وفي الإصحاح الحادي عشر ما يجب أن نأكل وما نتجنبه؟.. وفيه:« كلّ ما شقّ ظلفاً ويجتر من البهائم فإياه تأكلون »(لاويين 3:11)، لقد حرّم على الإنسان أكل الدم، فكيف يسمح بأكل لحوم بشرية، ناهيك عن لحم ودم الإله ذاته.

ثم كيف يأخذ المتناولون نفس صفات الله الأزلية الأبدية وقدرته اللامحدودة؟

ثم كيف يملأون كل زمان ومكان؟

ثم كيف يشتركون في صفات الكمال المطلق والصلاح الإلهي السامي؟

وإذا هم حصلوا كل مرّة يمارسون فيها هذه الفريضة، على الكمال الإلهي فلماذا لا يزالون على الأرض؟

ولماذا يتسلّط عليهم إبليس باغراءاته ووساوسه ويجرّهم إلى جميع الويلات؟

وكيف يصلون إلى درجة الكمال المطلق بينما هم يتعدّون ناموس الله الكامل؟

وكيف هم قابعون إلى الآن بلا حول ولا حيلة على أرض مضروبة باللعنة؟

بقي أن يتخيّلوا أنفسهم كآلهة تهيمن على الكون كله وتخلق ملايين الشموس والمجرّات وشتى أنواع الحياة في السماء وعلى الأرض وفي البحر!

أليس هذا العمل أهون عليهم من خلق الله ذاته!؟

وبما أنّ أكل الدم محرّم في العهدين القديم والجديد (تكوين 3:9؛ لاويين 10:17؛ أعمال 20:15)، فالإدعاء ذاته بتحويل الخمر إلى دم الربّ فعلياً وتناوله يعتبر جريمة شنعاء في حقّ الربّ وتعاليمه السمحة.

وقد ذكر أحد القداسات[44] أن القربان المقدس يتصف بالصفات المختصة بالأجساد.. وتلك المختصة بالأرواح أيضاً، وهو حيّ إلاّ أنّه بحالة ميتة.. أي أنه لا يسمع ولا يتكلم ولا يحسّ ولا يتحرّك ومع ذلك فهو حيّ ويمنح الحياة لكل من يتناوله.

فهل توجد هرطقة تجلب العار على المسيحية برمتها أكثر من هذه الشعوذة اللامعقولة؟!

ويتجنىّ هذا الكتاب بقوله عن المسيح أنه قد ذبح نفسه.. (يا للهول، فلقد اعتُبر المسيح منتحراً مثل يهوذا ابن الهلاك)، وهو الذي ذبح نفسه ذبحاً حقيقياً على الصليب ويذبحها ذبحاً سرّياً على المذابح.

ليس هذه الأسرار والقداسات وحدها هي البدع التي دخلت الكنيسة.. بل إن النظام الكنسي نفسه نظام مبتدع لا علاقة له بتعاليم المسيح.. وليس له أي دليل من الكتاب المقدس.

فلم يكن هناك فكرة بوجود طبقة من الاكليروس أقل رتبة من الأسقف تكون تحت رئاسته وسيطرته، ولم تكن في ذلك الوقت إيرادات لدي الكنيسة سوي التبرعات التي كان يجود بها المؤمنون من تلقاء انفسهم، ومع أنها كانت قليلة وزهيدة فقد كان يسد منها أعواز الفقراء والمحتاجين وما بقي وهو شئ يسير جداً يعطى للأسقف ولم يتعين للأكليروس مرتبات شهرية إلا في سنة 245 م وحينئذٍ منعوا عن الإستمرار في ممارسة وظائفهم الخاصة العالمية[45].

ومثل ذلك مسألة الإعتراف السري والمحالة الكهنوتية، فقد كانت ولا تزال موضع بحث اللاهوتيين، ولكن لم يوضع لها قانون ثابت نهائي حتي بداية القرن الثالث عشر، إذ في سنة 1215 م في عهد البابا إنوسنت الثالث أصدر مجمع لتيران الرابع مرسوماً رسمياً بفرض واجب الاعتراف السري علي المؤمنين من الجنسيين، وضرورة ممارسته، ومن ذلك الوقت الي يومنا هذا أصبح الإعتراف معتبراً طقساً إلهياً محتماً في كنيسة روما، كما أنه يمارس أيضا في الكنيستين اليونانية والقبطية الارثوذكسية[46].

لقد وفرنا للمسلمين ـ بسبب السلطات الخطيرة التي منحناها للكنيسة ـ الكثير من أسباب ضحكهم علينا وسخريتهم بنا..

لقد قرأت كلاما لرحمة الله الهندي يقول فيها عن رجال ديننا وما ابتدعوه من أشياء غاية في الغرابة.

لقد قال بعد كلام له في مخالفة المسيحية لما يتطلبه العقل السليم:« ومثل أن أسقف رومية هو البابا دون غيره وهو رأس الكنيسة ومعصوم من الغلط، وأن كنيسة رومية هي أم الكنائس كلها ومعلمتها. ومثل أن للبابا ولمتعلقيه خزانة من قدر جزيل من استحقاقات القديسين أن يمنحوا الغفرانات سيما إذا استوفوا ثمناً وافياً لأجلها كما هو المروج عندهم. ومثل أن البابا له منصب تحليل الحرام وتحريم الحلال »

ثم نقل عن المعلم ميخائيل مشاقة ـ وهو من علماء بروتستنت ـ من كتابه المسمى بـ (أجوبة الإنجيليين على أباطيل التقليديين) المطبوع سنة 1852 في بيروت هذا النص:« والآن تراهم يزوجون العم بابنة أخيه، والخال بابنة أخته، والرجل بامرأة أخيه ذات الأولاد خلافاً لتعليم الكتب المقدسة ولمجامعهم المعصومة، وقد أضحت هذه المحرمات حلالاً عند أخذهم الدراهم عليها، وكم من التحديدات وضعوها على الإكليريكيين بتحريم الزيجة الناموسية المأمور بها من رب الشريعة.. وكم حرموا أصناف الأطعمة ثم أباحوا ما حرموه، وفي عصرنا أباحوا أكل اللحوم في صومهم الكبير الذي طالما شددوا بتحريهما فيه »

وينقل عنه في الرسالة الثانية من كتاب (الثلاث عشرة رسالة) فرنسيس ذابادلا الكردينال يقول: إن البابا مأذون أن يعمل ما يريد حتى ما لا يحل أيضاً، وهو أكبر من اللّه »

سكت قليلا، ثم قال: لقد ربط القرآن بين رجال ديننا وبين المال، فقال:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)﴾(التوبة)

لقد وضعت هذه الآية يدها على مكمن من مكامن الداء الذي عرض للمسيحية وللكنيسة.

اسمع ما يقول رحمة الله الهندي، وهو يسخر من سخافة عقولنا:« ومثل أن أنفس الصديقين تتوجه إلى العذاب في المطهر وتتقلب في نيرانه حتى يمنحها البابا الغفران أو يخلصها القسوس بقداساتهم بعد استيلائهم على أثمانها، وهو غير جهنم. وأهل هذه يحصلون السندات من نواب البابا وخلفائه لتحصيل النجاة من عذابه. لكن العجب من هؤلاء العقلاء أنهم إذا اشتروا سندات من خليفة اللّه النافذ أمره في الأرض والسماء فلم لا يطلبون منه وصولات ممضية بختم الذين أعتقهم من العذاب.. ولما كانت قدرة الباباوات تزيد يوماً فيوماً بفيض روح القدس اخترع البابا لاون العاشر للمغفرة تذاكر تعطى منه أو من وكيله للمشتري بمغفرة خطاياه الماضية والمستقبلة أيضاً، وكان مكتوباً فيها هكذا (ربنا يسوع المسيح يرحمك ويعفو عنك باستحقاقات آلامه المقدسة. وبعد فقد وهب لي بقدرة سلطان رسله بطرس وبولس والبابا الجليل في هذه النواحي أن أغفر لك أولاً عيوبك الاكليروسية مهما كانت ثم خطاياك ونقائصك مهما كانت تفوت الإحصاء، بل أيضاً الخطايا المحفوظ حلها للبابا، وبقدر امتداد مفاتيح الكنيسة الرومانية أغفر لك كل العذابات التي سوف تستحقها في المطهر وأردك إلى أسرار الكنيسة المقدسة وإلى اتحادها وإلى ما كنت حاصلاً عليه عند عمادك من العفة والطهارة حتى أنك متى مت تغلق في وجهك أبواب العذابات وتفتح لك أبواب الفردوس وإن لم تمت الآن فهي باقية لك بفاعلية تامة إلى آخر ساعة موتك باسم الأب والابن والروح القدس آمين) كتب بيد الأخ يوحنا تنزل الوكيل الثاني »

ومما نقله من سخافات عقولنا عن المعلم ميخائيل مشاقة في كتابه  الذي ذكرته سالفا:« وربما صوروا بعض قديسين على صورة لم يخلق اللّه مثلها، كتصويرهم رأس كلب على جسم إنسان يسمونه القديس خريسطفورس ويقدمون له أنواع العبادة إذ يلقبونه ويسجدون أمامه ويشعلون له الشموع ويطلقون البخور ويلتمسون شفاعته، فهل يليق بالمسيحيين الاعتقاد بوجود العقل النطقي والقداسة في أدمغة الكلاب؟ أي هي من عصمة كنائسهم من الغلط؟ »

ويواصل رحمة الله الهندي حديثه عن السخافات التي ارتبطت بطقوسنا، فيقول:« ومثل أن خشبة الصليب وتصاوير الأب الأزلي والابن والروح القدس يسجد لها بالسجود الحقيقي العبادي وأن صور القديسين يسجد لها بالسجود الإكرامي »

وقد أبدى رحمة الله ككل عاقل تحيره من هذه الطقوس الغريبة، فقال:« وإني متحير ما معنى استحقاق الأشياء الأولية للسجود العبادي، لأن تعظيمهم لخشبة الصليب لا يخلو إما أن يكون مثلها قد مس جسد المسيح، وهو ارتفع عليه بحسب زعمهم، وإما لأجل أنها واسطة فداء، وإما لأجل أن دمه سال عليه.  فإن كان الأول يلزم أن يكون نوع الحمير معبوداً لهم أعلى من الصليب عندهم، لأن المسيح عليه السلام ركب على الأتان والجحش ومساجد المسيح وكانا موضوعي راحته ودخوله ممجداً إلى أورشليم، والحمار يشارك الإنسان في الجنس القريب والحيوانية، فهو جسم نام حساس متحرك بالإرداة بخلاف الخشب الذي ليست له قدرة الحس والحركة. وإن كان الثاني فيهودا الاسخريوطي الدافع أحق بالتعظيم لأنه الواسطة  الأولى والذريعة الكبرى للفداء، فإنه لولا تسليمه لما أمكن لليهود مسك المسيح وصلبه، ولأنه مساوٍ للمسيح u في الإنسانية وعلى صورة الإنسان الذي هو صورة اللّه، وكان ممتلئاً بروح القدس صاحب الكرامات والمعجزات فالعجب أن هذه الواسطة الأولى عندهم ملعونة والصغرى مباركة معظمة. وأما الثالث فلأن الشوك المضفور إكليلاً على رأس المسيح u قد فاز أيضاً بالمنصب الأعلى، وهو سيلان الدم عليه فما باله لا يعظم ولا يعبد ويشعل بالنار، وهذا الخشب يعبد إلا أن يقولوا إن هذا سر مثل سر التثليث والاستحالة خارج عن إدراك العقول البشرية.

وأفحش منه تعظيم صورة أقنوم الأب، لأن اللّه بريء من الشبه وما رآه أحد ولا يقدر أن يراه أحد في الدنيا [47] فإذا كان كذلك فأي أب من آبائهم رآه فصوره؟ ومن أين علموا أن هذه الصورة مطابقة لصورته تعالى وليست مطابقة لصورة شيطان من الشياطين، أو لصورة كافر من الكفار؟ ولم لا تعبدون كل إنسان سواء أكان مسلماً أم كافراً لأن الإنسان على صورة اللّه بحسب نص التوراة.

والعجب أن البابا يسجد لهذه الصورة الوهمية الجمادية التي لا حس ولا حركة لها ويحقر صورة اللّه التي هي الإنسان ويمد رجله لذلك الإنسان لكي يقبل حذاءه »

ثم يعقب رحمة الله على هذه اللوثات الوثنية التي غزت المسيحية بقوله:« وما ظهر لي فرق بين هؤلاء أهل الكتاب ومشركي الهند وجدت عوامهم كعوامهم وخواصهم كخواصهم في هذه العبادة وعلماء مشركي الهند يقولون مثل قول علمائهم في الاعتذار»

السلوك:

قلت: وعيت هذا.. ولا أملك بعد ما ذكرته من حجج إلا أن أقر به.. فحدثني عن صمود الثمرة الثالثة.. صمود السلوك[48].

قال: لن أطيل الحديث عليك.. فأنت تعرف الانحرافات التي يقع فيها قومنا.. ولذلك سأقتصر لك على مثال واحد تستطيع أن تقارن به سلوكنا مع سلوك المسلمين.

وقد ذكر هذا المثال رجل تعرفه كثيرا.. إنه ذلك الشيخ صاحب اللحية البيضاء الذي ملأ أحلام رجال ديننا بالكوابيس..

قلت: أجل.. تقصد (ديدات)

قال: أجل.. هو يحظى عندي باحترام عظيم.. لا لشيء إلا لأنه امرؤ يحترم عقله.. ويصمد في مواقفه.. إنه يمثل شخصية المسلم الممتدة الجذور في الأرض أحسن تمثيل.

قلت: فما ذكر في هذا الباب؟

قال: لقد عقد مقارنة بين انتشار الخمر بين المسلمين وانتشارها بين المسيحيين، فذكر أن جمهورية جنوب إفريقيا ذات الاقلية البيضاء، والتي تقدر بأربعة ملايين نسمة، من بين مجموع السكان البالغ عددهم أربعين مليون نسمة. بها حوالي ثلاثمائة ألف مدمن خمر، يسمونهم ( الكحوليين ).

وتظهر الاحصائيات أن عدد مدمني الخمر من الملونين في جنوب إفريقيا يوازي خمسة أضعاف عدد مدمني الخمر ضمن أي جنس آخر.

ومثله المبشر الانجليزي، جيمي سواجرت الذي كتب في كتاب له بعنوان (الخمر) إن أمريكا بها أحد عشر مليون مدمن، وأربعة وأربعين مليون من المفرطين في شرب الخمر »

لا شك أن هذه إحصائيات قديمة.. وفي الواقع أكثر من ذلك بكثير.

قارن هذه الأعداد الضخمة بأعداد الذين يشربون الخمر من المسلمين..

فهم رغم بعدهم عن دينهم إلا أن الخمر والكثير من المحرمات لا تزال راسخة الحرمة في أذهانهم..

إنها منذ أنزل على نبيهم:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ(91) (المائدة) وهم يجتنبون الخمر.. ويبتعدون عنها كل البعد.

أتدري كيف فرض محمد هذا القانون.. قانون تحريم الخمر؟

قلت: لست أدري.. ولكني أعلم أنه لم يكن له شرطة تفرضه.

قال: لقد فرضه بالإيمان.. لم ينفق محمد r على ذلك درهما واحدا، بل كفاه عن كل ذلك تينك الآيتين.. لقد جعلتا كل القلوب تنفر من الخمر من غير شرطة لا قوانين ولا مصادرات.

فعن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله r يقول:« يا أيها الناس إن الله يبغض الخمر، ولعل الله سينزل فيها أمراً، فمن كان عنده شيء فليبعه ولينتفع به»، قال أبو سعيد: فما لبثنا إلا يسيراً، حتى قال:« إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية -يعني آية المائدة السابقة- وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبيع »، قال أبو سعيد: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها[49].

وعن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب فجاءهم آت فقال: إن الخمر حرمت.. فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها.. فأهرقها[50].

 ويحدث أبو موسى الأشعري قال: بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلة -أي حلالاً- إذ قمت حتى آتي رسول الله r فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر، فجئت إلى أصحابي، فقرأتها عليهم.. قال: وبعض القوم شربته في يده شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء.. فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا: انتهينا ربنا.. انتهينا ربنا[51].

قارن هذا بما فعل قومنا عندما فكروا بتحريم الخمر..

أنت تعلم أن الولايات المتحدة فكرت في يوم من الأيام في أن تحرم الخمر على شعبها لما رأت من أضرارها الشديدة على البناء الصحي والخلقي للمجتمع.. وقد فعلت المستحيل لأجل ذلك:

بدأت ـ أولا ـ بإصدار قانون[52].. ولم يكن مجرد أمر ملكي أو منشور إمبراطوري، بل كان تشريعا جاء عن طريق برلمان في بلد ديمقراطي دستوري حر، فحوالي عام 1918ثارت المشكلة في الرأي العام الأمريكي. وفي عام 1919أدخل في الدستور الأمريكي تحت عنوان « التعديل الثامن عشر »، وفي نفس السنة أيد هذا التعديل بأمر حظر، أطلق عليه التاريخ قانون (فولستد).

ولم يكتفوا بالقانون، بل جيشوا كل جيوشهم لتطبيقه، فجند الأسطول كله لمراقبة الشواطئ، منعاً للتهريب، وجند الطيران لمراقبة الجو، وشغلت أجهزة الحكومة، واستخدمت كل وسائل الدعاية والإعلام لمحاربة الخمر، وبيان مضارها وجندت كذلك المجلات والصحف والكتب والنشرات والصور والسينما والأحاديث والمحاضرات وغيرها.

ويقدر ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليوناً من الدولارات، وأن ما أصدرته من كتب ونشرات يبلغ عشرة ملايير صفحة، وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم -في مدة أربعة عشر عاماً_ لا يقل عن مائتين وخمسين مليون جنيه، وقد أعدم في هذه المدة ثلاثمائة نفس، وسجن 532,335 نفس، وبلغت الغرامات ستة عشر مليون جنيه، وصادرت من الأملاك ما بلغ أربعمائة مليون وأربعة ملايين جنيه.

ولكن الأمريكيين لم يزدادوا إلا غراماً بالخمر، وعناداً في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933الى إلغاء هذا القانون، وإباحة الخمر إباحة مطلقة.

التفت إلي، وقال: أتدري لم نجح الإسلام، وأخفقت أمريكا.

قلت:  لم؟

قال: لأن كتاب المسلمين المقدس هو الكتاب الوحيد الذي يستلهمون منه.. وهو ليس متناقضا ككتابنا المقدس، بل ككتبنا المقدسة.

قلت:  ما تقول؟

قال: أقول الواقع.. لقد كان الكتاب المقدس هو أحد الأسباب الكبرى لهذا السلوك المنحرف الذي طبع العالم المسيحي بطابعه.

التفت إلي، وقال: ما تتصور من رجل يفكر في التوبة من الخمر.. ثم يرجع إلى كتابه المقدس.. ليجده يغريه بها، ويجد في وصف النبي نوح هذا الوصف:« وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما. وشرب من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه »(تكوين 9: 20)

ويجد أن أول معجزة للمسيح هي تحويل الماء المبارك الطيب الطهور إلى خمر.. لقد ورد في (يوحنا:2/1-10):« وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا بِمِنْطَقَةِ الْجَلِيلِ، وَكَانَتْ هُنَاكَ أُمُّ يَسُوعَ. وَدُعِيَ إِلَى الْعُرْسِ أَيْضاً يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ. فَلَمَّا نَفِدَتِ الْخَمْرُ، قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ خَمْرٌ!» فَأَجَابَهَا: «مَا شَأْنُكِ بِي يَاامْرَأَةُ؟ سَاعَتِي لَمْ تَأْتِ بَعْدُ!» فَقَالَتْ أُمُّهُ لِلْخَدَمِ: « افْعَلُوا كُلَّ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ» وَكَانَتْ هُنَاكَ سِتَّةُ أَجْرَانٍ حَجَرِيَّةٍ، يَسْتَعْمِلُ الْيَهُودُ مَاءَهَا لِلتَّطَهُّرِ، يَسَعُ الْوَاحِدُ مِنْهَا مَا بَيْنَ مِكْيَالَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ (أَيْ مَا بَيْنَ ثَمَانِينَ إِلَى مِئَةٍ وَعِشْرِينَ لِتْراً). فَقَالَ يَسُوعُ لِلْخَدَمِ: «امْلَأُوا الأَجْرَانَ مَاءً ». فَمَلَأُوهَا حَتَّى كَادَتْ تَفِيضُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «وَالآنَ اغْرِفُوا مِنْهَا وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْوَلِيمَةِ!» فَفَعَلُوا. وَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْوَلِيمَةِ الْمَاءَ الَّذِي كَانَ قَدْ تَحَوَّلَ إِلَى خَمْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَصْدَرَهُ، أَمَّا الْخَدَمُ الَّذِينَ قَدَّمُوهُ فَكَانُوا يَعْرِفُونَ، اسْتَدْعَى الْعَرِيسَ، وَقَالَ لَهُ: «النَّاسُ جَمِيعاً يُقَدِّمُونَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً، وَبَعْدَ أَنْ يَسْكَرَ الضُّيُوفُ يُقَدِّمُونَ لَهُمْ مَا كَانَ دُونَهَا جُودَةً. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ حَتَّى الآنَ!»

هذه هي المعجزة الأولى التي أجراها المسيح، وقد عقب عليها يوحنا بقوله:« هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ هِيَ الآيَةُ الأُولَى الَّتِي أَجْرَاهَا يَسُوعُ فِي قَانَا بِالْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ »(يوحنا:2/11)

قلت:  ولكن الكتاب المقدس ينص على تحريم الخمر، ففيه:« وَقَالَ الرَّبُّ لِهَارُونَ: «خَمْراً وَمُسْكِراً لاَ تَشْرَبْ أَنْتَ وَبَنُوكَ مَعَكَ عِنْدَ دُخُولِكُمْ إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ لِكَيْ لاَ تَمُوتُوا. فَرْضاً دَهْرِيّاً فِي أَجْيَالِكُمْ وَلِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُقَدَّسِ وَالْمُحَلَّلِ وَبَيْنَ النَّجِسِ وَالطَّاهِرِ وَلِتَعْلِيمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعَ الْفَرَائِضِ الَّتِي كَلَّمَهُمُ الرَّبُّ بِهَا بِيَدِ مُوسَى »(لاويين 10: 8-11 )

وفيه « مِنْ كُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ جَفْنَةِ الْخَمْرِ لاَ تَأْكُلْ, وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَ تَشْرَبْ, وَكُلَّ نَجِسٍ لاَ تَأْكُلْ. لِتَحْذَرْ مِنْ كُلِّ مَا أَوْصَيْتُهَا»( قضاة 13: 14)

وفيه « لَيْسَ لِلْمُلُوكِ يَا لَمُوئِيلُ لَيْسَ لِلْمُلُوكِ أَنْ يَشْرَبُوا خَمْراً وَلاَ لِلْعُظَمَاءِ الْمُسْكِرُ. لِئَلاَّ يَشْرَبُوا وَيَنْسُوُا الْمَفْرُوضَ وَيُغَيِّرُوا حُجَّةَ كُلِّ بَنِي الْمَذَلَّةِ. أَعْطُوا مُسْكِراً لِهَالِكٍ وَخَمْراً لِمُرِّي النَّفْسِ. يَشْرَبُ وَيَنْسَى فَقْرَهُ وَلاَ يَذْكُرُ تَعَبَهُ بَعْدُ » (الأمثال31: 4-7 )

قاطعني، وقال: وفيه « اعطوا مسكرا لهالك و خمرا لمريئ النفس يشرب وينسى فقره ولايذكر تعبه » (الامثال6:31)..

وفيه يقدم بولس ـ الحواري الثالث عشر للمسيح، الذي عين نفسه تلميذا للمسيح، والمؤسس الحقيقي للنصرانية، ينصح احد رعاياه المتحولين حديثا الى النصرانية، ويدعى تيموثاس ـ قائلا:« لاتكن فيما بعد شراب ماء بل استعمل خمرا قليلا من اجل معدتك و اسقامك الكثيرة » ( رسالة بولس الى ثيموثاوس 23:5 )

أسمعت إلى هذه النصيحة الغالية.. منذ سمعها قومنا.. وهم يعبدون الله بشرب الخمر في الحانة المقدسة.

قلت:  كأنك تشير بأن للكتاب المقدس تأثيره في هذا السلوك المنحرف.

قال: أجل.. ليس هذا السلوك فقط.. بل أكثر الانحرافات التي تنتشر في مجتمعاتنا سببها الأكبر.. أو الأول على الأقل.. هو الكتاب المقدس.

أنت ترى الرذائل الخلقية في المجتمع.

قلت:  لذلك أسباب كثيرة.

قال: ومن أهمها كتابنا المقدس.. وكنيستنا المنحرفة التي لم تكتف بالنوادي الكثيرة التي تنشر الانحراف.. بل راحت هي نفسها تعينهم عليها[53].

3 ـ الانتشار:

قلت: فحدثني عن صمود الانتشار.. لاشك أن المسيحية أعظم الأديان انتشارا..

قال: ذلك صحيح للأسف..

قلت: لم؟

قال: لأنها انتشرت في البداية على يد أولئك الإرهابيين الذين نقدسهم.. والذين خيروا الناس بين الإيمان المسيحي وبين الموت[54].

وهي الآن تنتشر على يد إرهابيين أعظم خطرا يخيرون الناس بين الموت جوعا أو مرضا وبين الإيمان.. أنت تعلم أن المسيحية لم تنتشر إلا بالسيف.. والصلبان التي نتوجه لها بالتعظيم خير دليل على ذلك..

قلت: أنت تتحدث عن هيئات الإغاثة؟

قال: أجل.. هل تعلم أنَّ ميزانيات المبشرين في هذا المجال تخطَّت المئة وثمانين مليار دولار سنويًا، أما مقابلها من الهيئات الإسلامية، فلا يصل إلى المليار دولار سنويا.

بالإضافة إلى الحصار المفروض على هذه الهيئات، بحيث اتهمت بالإرهاب لئلا يبقى في الساحة غير المبشرين المسيحيين[55].

قلت: ولكني أرى أن الكثير من المسلمين ممن يظهرون في وسائل الإعلام ينتقلون من الإسلام إلى المسيحية.

ابتسم، وقال: لو كانوا مسلمين في البداية لما انتقلوا إلى المسيحية..

لقد ذكرتني بقول أحدهم في مؤتمر (كلورادو) سنة 1978م:« إن غالبية المسلمين الذين يحتمل أن يتنصروا هم من الذين يعتنقون ما يطلق عليه الإسلام الشعبي (أو إسلام العامة)، وهم أرواحيون، يؤمنون بالأرواح الشريرة والجن، ويعرفون القليل جدًا عن الإسلام الأصيل، كما يؤمن هؤلاء بدرجة كبيرة بالتعاويذ التي يعتقدون أنها تمدهم بالقوة لمواجهة شرور الحياة وتحدياتها »[56]  

وقد خطب (زويمر) في المبشرين يقول:« لقد أديتم الرسالة التي أنيطت بكم أحسن الأداء، ووفقتم لها أسمى التوفيق، وإن كان يخيل إلى أنه مع إتمامكم العمل على أكمل وجه، لم يفطن بعضكم إلى الغاية الأساسية منه. إني أقركم على أن الذين أدخلوا من المسلمين في حظيرة المسيحية لم يكونوا مسلمين حقيقيين، لقد كانوا، كما قلتم، أحد ثلاثة؛ إما صغير لم يكن لـه من أهله من يعرّفه ما هو الإسلام، وإما رجل مستخفٌ بالأديان لا يبغي غير الحصول على قوته، وقد اشتد به الفقر، وعزت عليه لقمة العيش، وإما آخر يبغي الوصول إلى غاية من الغايات الشخصية. ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هدايةً لهم وتكريمًا. وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقًا لا صلة لـه بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها. ولذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية. وهذا ما قمتم به خلال الأعوام المئة السالفة خير قيام. وهذا ما أهنئكم، وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعًا »[57]  

ولهذا.. فإن الخطة الشريرة التي يصفها لنشر ديننا هي الحيلولة بين الكثير من الشعوب والحضارة حتى يستغلوا جهل من يدعونهم، كما قال (زويمر) إن الخطة الفاسدة الخطرة التي تفضـي ببث مبـادئ المدنية مباشرة، ثم نشر المسيحية ثانيًا عقيمة لا فائدة ترجى منها، لأن إدخال الحضارة والمدنية قبل إدخال المسيحية لا تحمد مغبته، بل تنجم عنه مساوئ كثيرة تفوق المساوئ التي كانت قبلا »

نظر إلي، وقال: أرأيت الإرهاب الذي يمارسه قومنا على المسلمين.. ومع ذلك لم تزد الأيام دين محمد إلا رسوخا وانتشارا.. ولم تزد الأيام ديننا إلا ذبولا وانحدارا.

قلت: كيف تقول هذا؟

قال: فلننزل للواقع لنرى مدى صمود العقيدة المسيحية مقارنة بالواقع الإسلامي..

نحن نفخر على المسلمين بأن عدد رعية الكنيسة أكبر من عدد رعية المساجد، ولكن الحقيقة الواقعية تختلف كثيرا..

لقد أظهر استطلاع للرأي في بريطانيا أن غالبية الشخصيات البارزة في المجتمع البريطاني بمن فيهم كبار رجال الدين المسيحي لايؤمنون بأن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام كما ينص الكتاب المقدس.

وقد أعرب ثلاثة فقط من بين 103 من رجال الدين المسيحي شملهم الاستطلاع عن اعتقادهم في صحة رواية خلق العالم التي وردت في الكتاب المقدس.

وقال ثمانون ممن شاركوا في التحقيق الذي أجراه أحد برامج هيئة الإذاعة البريطانية إنهم لايعتقدون أن السيدة مريم أنجبت المسيح دون أن يمسسها بشر، كما لايعتقدون بوجود آدم وحواء[58].

التفت إلي، وقال: أتدري ما سر هذه الردة التي لم تختص بعصرنا هذا.. بل شملت أكثر عصور المسيحية؟

قلت: ما سرها؟

قال: قارن بين عقيدة الإسلام التي تتوافق مع العقل والمنطق والفطرة، وبين عقيدتنا الغريبة عن ذلك كله..

لقد كنت هذا الصباح أقرأ كتيبا صغيرا يعلم كنيسة الإسكندرية فيما يختص بطبيعة السيد المسيح..

الكتيب معي..

أخرجه من جيبه، وفتحه على صفحة من صفحاته، ثم قال: بعد أن قرر الكاتب أن الكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية تؤمن بلاهوت المسيح كما تؤمن أيضاً بناسوته، ولكن المسيح عندهم طبيعة واحدة مع ذلك، نقرأ قوله:« وقد يبدو في هذا النوع من التناقض، ولكن على الرغم مما يبدو في هذا من تناقض منطقي عقلي، إلا أن كنيستنا لا تري فيه شيئاً من التناقض لأنها تنظر إلي طبيعة السيد المسيح نظرة صوفية روحانية ينحل فيها كل ما يبدو أمام الفكر البشري أنه متناقض أو محال، هذه التجربة الصوفية أو الروحانية تعلو على كل تناقض عقلي أو فلسفي، فيها لا يسأل المسيحي لم؟ أو كيف؟ إن في ديانتنا أسرار نؤمن بها ونقبلها بكل يقين وإيمان لا لشيء إلا لأنها قد أعلنت لنا من الله، ونحن نؤمن بها على الرغم من معارضتها لحواسنا ومناقضتها لعقلنا المادي، لا لشيء إلا لأننا أيقنا أنها من الله، وكما نؤمن بوجود الله وأنه قادر على كل شيء، كذلك نؤمن بأسرار ديانتنا من دون أن نكون في حاجة إلي أن نسأل، لم؟ أو كيف؟ ولا شك أن العقل الفلسفي لا يستطيع أن يقبل هذا الإيمان الصوفي » 

ويستطرد الكاتب فيقول:« إن لنا أن نستخدم عقولنا إلي حد معين ؛ وحينئذ يجب أن يقف العقل ويسلم قياده للتجربة الروحية الصوفية »

وبعد أن يوضح الكاتب كيفية أن المسيح كما يعتقدون من طبيعتين، ولكنه ليس هو طبيعتين بعد الاتحاد، يقول:« قد تكون هذه مشكلة كبيرة بالنسبة للعقل الفلسفي أو العقل المادي، وقد يكون فيها تناقض، وقد يكون فيها ما يتعارض مع قوانين العقل والمنطق والحس والمادة والمصطلحات الفلسفية، كل هذا قد يكون صحيحاً، ولكننا في الشرق لا نسأل كيف؟ ولا لماذا؟ ولكننا نصدق ونؤمن بتجربة باطنية روحية صوفية عالية علي كل منطق وعقل أن هذا أمر ممكن، ذلك لأن الله أراده، وإذا أراد الله شيئاً فهو ممكن، وحتى لو كان هذا غير معقول للعقل المادي فإنه معقول للعقل الروحاني الذي لا يعرف لقدرة الله حدوداً، وهذا هو (الإيمان الذي بلا فحص) الذي يصرخ من أجله الكاهن القبطي في خدمة القداس الإلهي » 

قارن هذا الكلام بما يقوله المسلمون في عقيدتهم عن الله.. والتي هي سر صمود الإسلام وخلوده..

أنا أحمل كتابا معي لشيخ من مشايخ الأزهر هو الشيخ محمود شلتوت.. اسمع ما سأقرؤه عليك، وقارن بينه وبين ما يقوله رجال ديننا لتبصر سر صمود عقيدة الإسلام.

أخرج من محفظة كتاب (الإسلام عقيدة وشريعة) وفتحه على محل وضع فيه علامة خاصة[59]، وراح يقرأ:« والإسلام حينما يطلب من الناس أن يؤمنوا بتلك العقائد، لا يحملهم عليها إكراهاً، لأن طبيعة الإيمان تأبي الإكراه، ولا يتحقق إيمان بإكراه، وقد جاء في القرآن ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(البقرة: 256).. وجاء فيه خطاباً لنبيه محمد:﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)﴾(يونس)

وكذلك لا يحملهم عليها عن طريق الخوارق الحسية، التي يدهش بها عقولهم ويلقي بهم في حظيرة الاعتقاد دون نظر واختيار ﴿ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)﴾(الشعراء) والمعني أنا لا نشاء ذلك، لأننا نريد منهم إيماناً عن تقبل واختيار.

لا يحملهم عليها بالإكراه، ولا يحملهم عليها بالخوارق، وإنما يحملهم عليها بالبرهان الذي يملأ القلب،  وعلى هذا المبدأ عرض القرآن عقائد الإسلام عن طريق الحجة والبرهان.

وكانت حجته التي لفتت الأنظار إليها فيما يتعلق بعقيدة الإله (وجوداً ووجدانية وكمالاً) دائرة بين النظر العقلي، وبين ما يجد الإنسان في نفسه من الشعور الباطني والإحساس الداخلي »

سكت قليلا، ثم قال: أنا لم أتعجب عندما قرأت تلك الإحصائية التي ذكرتها لك.. ذلك أن الكنيسة في الحقيقة هي راعية الإلحاد والداعية إليه.

أظهرت تعجبا عظيما مما ذكره، فقال: لا تعجب.. لقد كنت مثلك أتعصب للكنيسة.. ولكني بعد أن عرفت أسلوبها في الدعوة إلى الإلحاد قصرت من تعجبي.

قلت: إنك تقول قولا عظيما.

قال: ومع ذلك لا أقول إلا حقا.

ثم استأنف قائلا: أرأيت لو كان لديك علم من العلوم اختصصت به من بين الناس، ثم رحت تقول للناس.. أو من قصدك ليتعلم على يديك ذلك العلم..:« لن أقبلك تلميذا عندي حتى تضرب رأسك بحجر يزيل عقلك.. فتتعلم وأنت مجنون »، فهل ترى عاقلا يقبل هذا؟

قلت: فهل فعلت الكنيسة هذا؟

قال: لم تفعل الكنيسة غير هذا.. فأي فرق بين عقل زائل.. وعقل غير مستعمل.. كلاهما في الحقيقة سواء.

نظر إلى الشجرة الجاثمة أمامنا بعمق، ثم قال: لقد كانت القضية الكبرى التي ناضل من أجلها الإسلام.. وكسب نضاله.. هي الإيمان بوجود الله، الإله الذي لا إله إلا هو، خالق كل شيء، رب كل شيء، منه كل شيء، وإليه كل شيء.

كانت الدعوة إلي هذا الإيمان هي قضية الدين منذ أن كان الدين، وكان الكفر بالله هو عدم الإيمان بوجوده على هذا النحو..

هكذا أتصور دعوات جميع الأنبياء والمرسلين.. جميعهم بما فيهم المسيح نفسه..

لقد كان النضال من أجل هذه القضية ممتعا وناجحا.. لأنها قضية مزودة بكل أنواع الأسلحة.

لكن.. بعد رفع المسيح ظهر بين المسيحيين من قال بأن المسيح نفسه هو هذا الإله أو هو الله، وكان هذا جديداً في المسيحية، ولم يظهر إلا بعد رفع المسيح، ولم يتقبله لذلك كل من تبعوا المسيح، وإنما بقي الكثيرون على إيمانهم بالله على النحو الذي دعاهم إليه المسيح، وعلى النحو الذي دعا إليه جميع الرسل والأنبياء من قبله، وظلوا على إيمانهم هذا، وظلوا على اعتقادهم في المسيح مجرد إنسان بشر، وإن كان رسولاً نبياً، وإن كان قد ولد من عذراء، وإن كان قد صنع ما صنع من المعجزات بإذن الله.

لكن الآخرين أخذتهم هذه الدعوة الجديدة، ولعل مبالغتهم في حبه دفعتهم إلي تقبل القول بتأليهه.. وبمضي الزمن دخلت الدعوة إلي تأليه المسيح في صلب المسيحية، وزاد من اتبعوها وإن بقي كثيرون أبوا أن ينحرفوا عن إيمانهم الأول الذي تلقوه من المسيح نفسه، ولكن كانت الغلبة لمن اعتنقوا الإيمان بألوهية المسيح، حتى أصبح من ينفي هذه الألوهية اليوم عدواً للمسيحية حقيقاً بأن يحارب.

لا.. بل حوربت أناجيل كثيرة وأحرقت، ولاشك أن بعضاً منها كان ينفي هذه الألوهية، وإلا لما كان ثمة ما يدعو من آمنوا بهذه الألوهية إلي إحراقها، وبقيت الغلبة إلي اليوم، للذين انحرفوا عن الإيمان الأول، وقالوا بخلاف ما كان معروفاً بألوهية المسيح، ولا يكاد يوجد بين المسيحيين اليوم من ينفي هذه الألوهية.

وبذلك، انقلبت قضية الدين، فبعد أن كانت هي الإيمان بوجود الله، والدعوة إلي عبادته، وبعد أن كانت قضية الدين كلها هي محاولة إثبات ذلك، أصبحت قضية الدين في المسيحية، هي محاولة إثبات ألوهية المسيح، ولم يكن لهذا من نتيجة إلا أن يشتت كل الجهد الذي يبذل لقضية الإيمان.

فإذا كان من الممكن إثبات وجود الله بصورة منطقية ومقبولة ومتفقة مع كل منطق وكل عقل، فإنه من المستحيل إثبات أي ألوهية للمسيح، وبأية صورة من الصور المقبولة.

ولهذا يكاد جهد المسيحيين اليوم ينصرف لا إلي إثبات وجود الله والدعوة إلى عبادته، وإنما إلى محاولة قسر الناس على الإيمان بألوهية المسيح، على ما في كل صور الألوهية التي قالوا بها له من مخالفة للعقل والمنطق.

ولذلك لم يكن في القول بهذه الألوهية للمسيح إلا وبالاً على الدين نفسه، فيه انقسم المسيحيون أولاً إلى قسمين قسم بقي على إيمانه الأول، الذي تلقاه عن المسيح، وظل على إيمانه بالله الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو، وبالمسيح رسولاً نبياً إنساناً بشراً، وقسم آخر اعتنق الإيمان بألوهية المسيح، ثم تغلب من اتبعوا القسم الثاني وانتشر بين المسيحيين الاعتقاد بألوهية المسيح، ولكن لم يكن ذلك توحيداً لكلمة المسيحيين وإيمانهم، وإنما كان بداية لانشقاقات وانقسامات أخرى في الكنيسة وبين المسيحيين استمرت على مدي القرون العديدة التي عاشتها المسيحية على الأرض إلي اليوم، ولم يزدها الزمن إلا انشقاقاً وانقساماً، ومرجع ذلك كله، الاختلاف حول تصور هذه الألوهية، حتى انتهت المسيحية اليوم، وكما يقول المسيحيون أنفسهم، إلي صورة يتساءل معها المرء، عما إذا كان للعهد الجديد قيمة حقاً.

والأخطر من ذلك بكثير، انتشار الحضارة بين الدول المسيحية، وتفتح العقول والمدارك فيها على العلوم الحديثة.. لقد جعل هذا التفتح هذه العقول وتلك المدارك تأبي هذه الصورة لله، ولكن لأن المسيحية وهي الدين الذي يدعوهم إلي عبادة الله، وتصور الله على هذه الصورة الإنسانية التي عرف بها المسيح، حتى أنهم يقولون عنه الإله المتأنس، فإنهم يأبون تقبل هذه الصورة، وهو ما انتهى بهم إلي إنكار وجود الله كلية، أي إلي الإلحاد.

وبذلك فإن السبب الأساسي لانتشار الإلحاد في الدول المسيحية المتقدمة علمياً، ليس هو أن العلم لا يتفق معه أن يكون هناك إله، وإنما هو أن هذه الصورة للإله التي تحاول المسيحية اليوم أن تقسر العقول على تقبلها، وهي صورة لا تتفق بحق مع العلم، ولا مع العقل ولا المنطق ولا أي شيء مقبول[60].

 

 

 

حضارات ومذاهب

قلت: حدثتني عن مدى صمود اليهودية والمسيحية..

قال: وسأحدثك عن مدى صمود المذاهب والأفكار التي صاغها البشر لأنفسهم، إما بوحي أهوائهم، أو بوحي الشياطين التي سولت لهم.

ولن أحدثك هنا عن تلك التفاصيل التي ذكرتها لك في الأديان الكبرى.. ولكني سأقتصر على نماذج تعي بها أن الاستمرار لا يكون إلا للحق المجرد.. أما ما عداه فسيقذف به إلى هاوية الفناء.

لقد ذكر القرآن هذا، فقال:﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)﴾(الرعد)

لقد ذكر القرآن سننا لنهاية الحضارات ودمارها وسقوطها.. ولم تزد الأيام ما ذكره القرآن إلا ثبوتا ورسوخا وتأكيدا.

لقد ذكر القرآن أن الترف والبذخ والتسلط الذي تمتلئ به الحضارة هو الذي يجرها إلى السقوط أو الانفجار.. ففي القرآن:﴿ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)﴾(الإسراء)

 وفي الآية التي تليها تأكيد بأن كل القرى هلكت بسبب ذنوبها:﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)﴾(الإسراء)

إن الترف الذي تقع فيه الحضارات.. فيجعلها تشعر بالقوة التي لا تدانيها قوة، وبالعزة التي لا تدانيها عزة، وبالبطر والكبر الذي يجعل الكل خاضعا لها، جاثيا أمام قدميها هو الذي يسقطها في هاوية الموت.

قلت: ولكن القرآن حمد القوة، ودعا إليها، وأنا أقرأ في القرآن:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ((لأنفال: من الآية60)

قال: الفرح بالقوة والبطر بها غير القوة،كما أن الاستمتاع بالتفرج على المباريات الرياضية غير ممارسة الرياضة، وذم الفرح بالقوة لا يعني ذما للقوة، بل يعني ذما لجانب من جوانبها وأثر من آثارها.

والأثر المذموم هو الأثر الذي ينشأ عنه الظلم والاستعمار واستغلال الخلق وتسخيرهم واستعبادهم، وقد ألغي الاستعباد في جميع قوانين العالم،ولكن لا يزال الخلق إلى الآن عبيدا تحت سلطة ما يسمى بالقوى العظمى، القوى التي تأمر بما تشاء وتنهى عن ما تشاء،وتكيل بكل المكاييل،ثم تطلب من المستضعفين أن يمجدوها ويحترموها ويسبحوا بحمدها لسبب وحيد هو أنها قوة عظمى.

والحروب العالمية لا تعدو كونها غليانا لنار القوة، ونشوة الفرح بها في الروح الغربية باختراعها لأنواع الأسلحة وفنون الدمار الشامل.

ومن الفوراق الكبرى أن الدول التي تسعى للحد من هذه الأنواع من الأسلحة وتتغنى بالسلام هي التي تملك أكبر رصيد منها، بل تملك ما يدمر الأرض، ويمحي الأطلال التي يتركها دماره مرات كثيرة.

وقد ذكر القرآن أن  عصرنا هذا ليس بدعا في ذلك، وإنما هذا الفرح هو الذي حال بين كل قوة عظمى أو صغرى، بين الحضارات الكبرى أو القبائل البدوية البدائية البسيطة،وبين قبول الحق، وقد ضرب القرآن المثل لذلك بعاد: ) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ((فصلت:15)

ولهذا، فإن القرآن يعتبر الغرور بالقوة هو الحائل الأكبر بين الشعوب وبين البحث على الحق أو الوصول إليه، ففي القرآن:﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ((التوبة:69)

والقرآن يشير بهذا إلى الدورات التاريخية التي تختلف فيها أسماء الدول والحضارات والشعوب والقوى ولكنها تتفق في مبادئها ونظرتها للحياة وتصورها للوجود ووظائفها فيه، فكلا من تلك الدورات يستمتع بنصيبه من القوة والأموال، ويخوض فيه خوضا باطلا، والنتيجة النهائية التي تختم بها كل دورة هي الإحباط بكل معانيه الدنيوي والأخروي، والنفسي والاجتماعي.

والقوة الغربية ـ بهذا المفهوم ـ لم تصدر في نزعتها التسلطية التي استعمرت بها العالم وانتهبت بها خيراته وعقوله أجيالا طويلة بالسلاح أو بالديموقراطية أو بالصناديق الكثيرة أو بالمساعدات إلا من روح رومانية لا تزال تجثم على عقولها ومصادر تفكيرها.

ولهذا، فإنه كلما ازداد تعاظمها، وازدادت ثقتها بنفسها قرب موعد هلاكها كما ورد في القرآن:﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ((يونس:24)

والحصيد هنا، وإن كان يراد به في ظاهر اللفظ هو النبات الذي حصد وقطع، إلا أنه يشير إشارة صريحة إلى العمران والتكنولوجيا والثقافة، وكل ما يزهو ويتصور أثناء زهوه أنه لا يموت، وموته وحصاده لا يحتاج إلى تدبير طويل بحسب ما تنص الآية،بل مجرد إتيان أمر الله في ليل أو نهار يكفي لذلك،وأمر الله لا يتكرر،وهو أسرع من لمح البصر:﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ( (القمر:50)

لقد أشار (توينبي) إلى ما ذكره القرآن.. فذكر أن كارثة السقوط تنطلق من الثلاثي (بطر ـ حمق ـ جائحة)[61]، فالبطر يقود إلى ارتكاب الحماقات، وهي تفضي بصاحبها إلى الكارثة.

وهو يستعير لتأكيد هذا القانون التاريخي بقانون نفسي لأفلاطون هو (قانون التناسب) إن ارتكب أحد إثماً ضد قوانين التناسب، فأعطى شيئاً كبيراً للغاية إلى شيء صغير للغاية ليتولى حمله، مثل تزويد سفينة صغيرة للغاية بشراع كبير للغاية، وإعطاء وجبات ضخمة للغاية لجسم صغير للغاية، لو تم ذلك لكانت النتيجة وبالاً تاماً، ففي صورة الحمق يسرع الجسم بالبطن نحو المرض، في حين يندفع المتغطرس صوب الفجور الذي يغذيه الحمق »

وقد صدق نابليون عندما ذكر أن الخطر الأعظم يأتي في لحظة الانتصار.

وحسب القانون 47 لكتاب شطرنج القوة (لروبرت غرين) فإنه يحذر بأن لحظة الانتصار قد تدفع إلى الغطرسة والثقة المفرطة بالنفس والاندفاع إلى ما هو أبعد من الهدف الموضوع، وخلق أعداء أكثر من الذين تدحرهم « فلا تدع النجاح يدير رأسك. ضع نصب عينيك هدفا وعندما تصل إليه توقف »

التاريخ كله يؤكد هذا القانون [62]..

ففي عام 559 قبل الميلاد قفز شاب إلى مسرح الأحداث يدعى (قورش)[63]  جمع القبائل الفارسية المبعثرة وزحف بها إلى (ميديا) فامتلكها، وهزم ملكها (آستياجس)، وتوج نفسه على ميديا وفارس، وشرع في تكوين (الإمبراطورية الفارسية)، ثم دحر (كروسيوس) حاكم (ليديا) غربي آسيا الصغرى، ثم اتبع سببا فبلغ مغرب الشمس عند الجزر الأيونية غرب اليونان فامتلكها، ثم اتبع سببا فوضع يده على كنوز بابل وحرر سبي بابل من اليهود فأعادهم إلى بلادهم، وتوالت انتصاراته خلال ثلاثين سنة وراح يلقب بقورش الأكبر ملك العالم، ثم اتبع سببا حتى وصل عام 529 ق. م إلى منطقة قبائل (الماساجيتاي) الهمجية المحاربة على بحر قزوين، فأراد وضع يده على بلادهم.

وبعد ثلاثين سمة من حكم عادل وملك واسع ارتكب حماقة كبيرة، فعبر  نهر (آراكسيس) إليهم، فأرسلت له ملكتهم (توميريس) أنه ليس عندنا ثروة بابل فتطمع بها وأرضنا جبلية وشعبنا محارب فضحك منها.

وفي خدعة حربية وقع الشاب (سبارغابيزيس) ابن الملكة أسيراً في يده فأرسلت له توميريس تستعطفه أن يطلق لها ابنها، ويكتفي بثلث مملكة الماساجيتاي فأبى.

ثم إن ابن الملكة لم يطق الإذلال والأسر فقتل نفسه، فغرقت الملكة في الأحزان وأرسلت له تقول:« إنني أقسم بإله الشمس سيدنا أن أعطيك دماً أكثر مما تستطيع شربه رغم كل شراهتك »

وفي غمرة غضبهم مزقوا الجيش الفارسي شر ممزق وقتلوا قورش نفسه.

وقد ذكر (روبرت غرين) في كتابه (القوة): أنها بحثت عن جثة قورش وعندما وجدتها قطعت الرأس ودسته في زق جلدي للشراب مملوء بالدم صائحة رغم أنني انتصرت عليك، وأعيش الآن، فإنك قد دمرتني بأخذ ولدي عن طريق الغدر، وانظر كيف انفذ تهديدي فلديك ما يشبعك من الدم »، وبعد موت قورش انحلت الإمبراطورية الفارسية وأصبحت في ذمة التاريخ.

وهذا المرض الإمبراطوري يتكرر على وتيرة واحدة عبر التاريخ.. 

لقد ذكر (توينبي) علة انتحار (آشور) بأن المؤرخ (كسنوفون) عندما مر في المنطقة بعد أكثر من قرنين من زوال آشور من مسرح التاريخ ذهل من فخامة التحصينات في منطقة خالية من السكان.

ولم يكن اسم آشور معروفاً حتى تم العثور عليه في منتصف القرن التاسع عشر، وعرف أن هذه الأمة بقيت قائمة لألفي سنة وأمسكت بمصائر شعوب المنطقة لفترة قرنين ونصف، وتسلطت على الأمم المجاورة بذراع حربية بطاشة ندر مثيلها فاحتلت كل المنطقة حتى مصر، وسوت مدنا كاملة بالأرض وحملت إلى الأسر شعوباً بأكملها: دمشق عام 732 ق.م موساسير 822 ق.م بابل 689 صيدا 677 ممفيس 671 وطيبة 663 وسوسا 639 ولم ينجو من عدوانهم سوى صور والقدس من جميع كبرى مدن الدول التي بلغتها الذراع الآشورية.

لقد ذكر (توينبي) أن الجائحة المروعة التي دفنت آشور لم تكن تقصيرا في الآلة الحربية، فقد كانت تفحص بدقة وإمعان وتجدد وتعزز حتى يوم دمارها، ولكنها ماتت بنزعة (انتحارية الروح الحربية) التي فرضت ضغطاً متواصلاً على الموارد، فحصل فراق بين متطلبات الآلة وتوسع الرقعة.

وهو نفس القانون الذي توصل إليه المؤرخ الأمريكي المعاصر باول كينيدي في كتابه (صعود وسقوط القوى العظمى) أن قانون (فرط التوسع) هو الذي أودى الإمبراطوريات المهالك في القرون الخمسة الفارطة. كما يحصل في الصدمة الطبية وفراق (الضغط) عن (النبض) فكلما تسارع النبض وانخفض الضغط كان مؤشر الصدمة أشد ومشى المريض باتجاه الموت.

يقول (توينبي) عن نهاية آشور:« إن المحارب الذي لا يقهر الذي وقف متحفزا في نينوى عام 612 ق.م كان في الواقع جثة في سلاحها أمكن المحافظة على انتصابها بفضل جسامة العتاد الحربي الذي ضيق الخناق على هذا المنتحر فمات به »

وعندما شعر الجيران المعذبون أن آشور لا تزيد عن جثة مختنقة في الدرع انقضوا عليها فقطعوها مثل العقبان. ويعقب (توينبي):« أن مصير آشور يعيد إلى الذهن لوحة (الجثة في سلاحها) كما حصل مع الفيلق الإسبرطي في ميدان معركة لوكترا عام 371 ق.م والانكشاريين في الخنادق أمام فيينا عام 1683م»

 كانت نهاية آشور واحدة من الكوارث التاريخية العارمة التي أودت بالقوة الحربية الآشورية عام 614 ـ 610 ق. م ولم تتضمن دمار أداة الحرب الآشورية فحسب، ولكنها تضمنت كذلك محو الدولة الآشورية من الوجود واستئصال الشعب الآشوري، وهو مصير لا أحد يملك المناعة ضده.

قلت: ولكن أمريكا اليوم في منتهى قوتها.. ولعلك قرأت (نهاية التاريخ)[64]

ابتسم، وقال: بل هي في بداية سقوطها.. إن ما تفعله أمريكا اليوم، هو نفس غلطة دولة آشور وسيف تراجان الروماني واورانجزيب الهندي وكزركسيس الفارسي وورتي من اسرة هان من الصين والصليبيون عام 1099م.

في عام 1976 م خرج المؤرخ الفرنسي (ايمانويل تود Emmanuel Todd) على الناس بكتاب مثير يحمل عنوان (ما قبل السقوط) يتنبأ فيه بسقوط الاتحاد السوفيتي، وقد فاجأنا هذه الأيام بكتاب جديد يحمل عنوان (نعي القوة العالمية الأمريكية)

وفي المقابلة التي أجرتها معه مجلة در شبيجل الألمانية في عددها 12 \2003 قال إن أمريكا تعاني من كل (الأعراض الوصفية) التي تسم مرض انحدار القوى العظمى، فأمريكا يحصل فيها تحلل داخلي، ولا ينتخب معظم الناس، وتحكمها تدريجياً قوة أولغاريكية عسكرية.

نعم.. إن أمريكا اليوم هي العملاق الاقتصادي الأعظم في العالم ومقابل 4,5 بالمائة من سكان العالم فهي تنتج 31 بالمائة من الاقتصاد العالمي، والإنتاج السنوي لها يبلغ 10455,6 مليار دولار، وهي تضم 290 مليون نسمة في أرض تتمتع بكل المناخات في خمسين ولاية من المحيط إلى المحيط، ومنها ينال جوائز نوبل أكبر عدد من العلماء،  وهي تملك أعظم ترسانة أسلحة لم يحلم بها زيوس رئيس آلهة الأولمب أيام أثينا.

ولكنها مع ذلك تنحدر تحت جنون القوة إلى المنحدرات التي انحدرت لها سارئر الحضارات.. فكل القوى العظمى في القرون الخمسة الفارطة أصيبت بنفس المرض ودلفت إلى القبر بنفس العلة وهي ظاهرة (فرط التمدد الاستعماري Exapansion ). فلم يمر على أمريكا وقت كما هو حالياً تقاتل في كل جبهات الأرض بنفس الوقت وتضع نفقات للتسلح والحروب يتجاوز مجموع العشر دول التالية لها في النفقات.

فهي تدفع 329.1 مليار دولار لآلة الحرب (مقابل روسيا 65 مليار والصين 47 واليابان 40.3 وبريطانيا 35.4 وفرنسا 33,6 وأقلهم ألمانيا وهي تنفق 27.5 مليار دولار).. وهو ما يذكر بنموذج ( دولة آشور) التي ماتت (مختنقة في الدرع) على حد تعبير (توينبي) فأحد الكوارث العارمة التي أودت بأقوى دولة في غرب آسيا كانت حماقة الروح الحربية.

وانتبه المؤرخ البريطاني (توينبي) إلى هذا التحول في مصير الأقلية (المبدعة) التي تبني الحضارة حينما تندفع الأكثرية خلفها بآلية (المحاكاة) لتنقلب بعد حين إلى أقلية مسيطرة تسوق الناس بالإكراه و(الكرباج).

سكت قليلا، ثم قال: إن قانون موت الحضارات وانهيار القوى العظمى ينص عليه القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي صيغ لأول مرة عام 1829م على يد الفرنسي (سادي كارنو Sadi Carno) وهو يدعى في العمل الهندسي بالتآكل، وفي البيولوجيا الشيخوخة، وفي الكيمياء التحلل، وفي علم الاجتماع الفساد، وفي التاريخ الانحطاط.

قلت: ولكن أمريكا لا تزداد إلا قوة.. وهي تطوق العالم أجمع.. وربما تلتهم الأوبيك، وتسيطر على النفط، وتتحكم في سعر البترول، وتعيد رسم خريطة العالم.

ابتسم، وقال: وسيصيبها في الأخير ما يصيب الجسم.. لا شك أنك تعرف أن الجسم إذا اتحدت عليه الأمراض، يبدأ بتشكيل المضادات في الدم، وتبدأ المقاومة، وفي النهاية سترحل أمريكا، وتبقى الدولة الصهيونية في فلسطين لوحدها مطوقة بحزمة  من دول تطلب رأسها،  ويكرر التاريخ دورته.

ليس ذلك فقط هو ما ينتظر أمريكا.. أو الغرب عموما..

إن هناك قنابل كثيرة في كل بيت وفي كل شارع وفي كل مدينة ستنفجر لتقضي على هذه الحضارة السدومية.. ستفجرها الفطرة السوية التي تختنق [65]..

إن الحضارة الغربية طائر عجيب يريد أن يطير بجناح واحد هو جناح المادة.. هو مثل الدجال تماما يرى بعين واحدة.. ولا يمكن لحضارة تطير بجناج واحد.. أو ترى بعين واحدة أن يكتب لها الاستمرار.

لقد تسلمنا ـ نحن أهل هذه الحضارة ـ قيادة البشرية بعد أن خضنا معركة شرسة مع الكنيسة، وبعد أن دفعنا ثمنا  غاليا  لنحطم القيود الوثيقة التي كبلتنا بها.. لقد نفضنا عن كاهلنا غبار القرون المتراكم، وانطلقنا لا نلوي على شيء.. لا نقبل وصاية من دين ولا من حزب، ولا نريد أن نؤمن بشيء يغل أيدينا، أو يحجر على عقولنا.

لكن الجوعة الروحية التي نعانيها لم يعد يشبعها شيء..

لقد حصل الفراغ الروحي الهائل، وحاولنا أن نقيم من العقل إلها  يسد الفراغ النفسي الرهيب.. فلم يستطع..

لقد نصبنا تمثالا  لإله العقل في إحدى المدن الفرنسية، وهو صورة أجمل امرأة في باريس، ودفعنا بأمثال (هيجل ونيتشه) لسد الفراغ من خلال المدرسة (العقلية المثالية) ولكن هيهات هيهات.

جاء (كومت) لينصب الطبيعة إلها مقام الكنيسة، ولكن لم تكن نتيجة محاولته تختلف عن المحاولات السابقة.

وجاء (ماركس) ليقيم من الإقتصاد إلها  يسد الفراغ ويفسر التاريخ ويحلل سير الجنس البشري.. وكل هذه المحاولات باءت بالفشل الذريع.

يقول (ليبولد فلم دانز) في كتابه (الإنسان والضمير المأسوي الممزق) إن الإنسان المنتمي إلى عصرنا هذا لا يؤمن بشيء ولا يفكر أو أنه لم يفكر بعد، ولكنه يعلم كثيرا أن نهاية المسيجية تشمل أيضا  نهاية الأيدلوجيات الأخرى كالماركسية التي تجتاز من أجل ذلك أزمة عميقة، وإن هذه الأزمة ليست أبدا  علامة حياة بل علامة موت»

ويقول المفكر (لاموني) إن الجنس البشري بكامله يمشي بخطى حثيثة إلى الهلاك.. إنه في النزع الأخير كذلك الإنسان الجريح المسكين الذي لا يرجى له شفاء، فكثرة الأخطاء في حضارتنا تجرها إلى الغرق »

ومن هنا فإن سبب انهيار هذه الحضارة واضح بسيط، هو أنها قامت بلا دين واتخذت ربها وراءها ظهريا.

لقد قال (برجسبون) الفيلسوف الفرنسي يذكر هذه العلة الخطيرة:« إن فصل الدين عن العلم هو فناء محتوم للإثنين »

ويقول (برناردشو) كنت أعرف دائما  أن الحضارة تحتاج إلى دين، وأن حياتها أو موتها يتوقفان على ذلك »[66]  

لقد وضع الكاتب الإنجليزي (كولن ولسون) في كتابه (اللامنتمي) يده على الداء فقال:« إن حل القديس بولس يعتبر أمرا  غير مقبول بالنسبة لحضارة في منتصف القرن العشرين، حضارة ذات تطور ميكانيكي عال استمر ثلاثة قرون يصاحبه فراغ كبير لا تعرف الحضارة كيف تملؤه »

لقد استطاعت حضاراتنا أن تبدع في كل ما خضع لمقاييسها، فكل ما حللته في المختبر أو فحصته في مجاهرها أو راقبته من خلال التلسكوب أو شرحته بالمبضع أو وزنته بموازين الكتلة والضغط لديها أبدعت فيه إبداعا  عجيبا.

ولذا فقد قدمت إنتاجا  ماديا  هائلا، وأضافت إلى وسائل الراحة الشيء الكثير الذي أراحت به الإنسان كثيرا..

لقد قربت المسافات ووفرت الأوقات.. لقد قدمت الطائرة والسيارة والثلاجة والمكيف، ولكنها فشلت أن تقدم شيئا واحدا للإنسان وهو (السعادة).. فشلت أن تقدم الراحة للقلوب والطمأنينة للنفوس والسكينة للإنسان والإستقرار للضمير والأعصاب، والسبب بسيط وهو: أن هذه الأمور تتعلق بالروح، والروح لا يشبعها إلا خالقها.. إن قضية السعادة تتعلق بالقلوب، ولا يفتح القلوب إلا خالقها علام الغيوب فيدخل ما شاء من السعاده.

بعد أن نطق (نيتشه) باسم الغرب، وتكلم بلسان حال الحضارة المادية الغربية من خلال فلسفته (هكذا تكلم زرادشت عن موت الإله ونشوء الإنسان السوبرمان).

عندما صاح:« مات الله وقد قتلناه، وإن الإنسانية تشيعه بمأتم حافل، ما الإيمان بالله إلا ضعف ونتيجة ضعف ».. بعد الهروب من الله بهذا الشكل الرهيب ازداد الشقاء.. بل الحضارة المادية هي التي أوقعت الإنسان في جحيم الشقاء المرير.

ولهذا.. فإن الكل يشهد بأن حضارتنا في طريقها إلى السقوط.. أو هي بتعبير أفصح في حالة سقوط.. أو هي بعتبير أبلغ من ذلك كله سقطت..

يقول (ماكنيل) إن الحضارة الغربية في الطور الأخير من أطوار حياتها الأشبه بالوحش الذي بلغت شراسته النهاية في انتهاكه لكل ما هو معنوي، وبلغ اعتداؤه ـ على تراث السلف وعلى كل مقدس ومحرم ـ قمته، ثم أغاص مخالبه في أمعائه فانتزعها وأخذ يمزقها ويلوكها بين فكيه بمنتهى الغيظ والتشفي »

إن الخواء الروحي والفراغ في حياة الغرب، وعدم وجود غاية كبرى يهدف إليها الإنسان، والجحود بالإله الذي تفزع إليه وقت الشدة والحزن، كل هذه أوصلت الغرب إلى المصير المؤلم والنهاية الأسيفة المحزنة، إنه الشقاء والتمزق الداخلي والتوتر العصبي والفزع وشبح هول الحرب المسيطر على الأخيلة، إنه الهروب من الحياة إلى الكحول ثم إلى المخدرات، وأخيرا  لا بد من وضع حد لهذه الحياة البئيسة التعيسة بالإنتحار الذي هو إعلان عام أن الشقاء في النفس لم يعد يحتمل كما فعل (جاكوب مارينو، وآرنست همنغواي، ونيتشه، وغيرهم).

لقد لخص (شوينهار) حياة الغرب في كلمات فقال:« إن الحياة تتأرجح من اليمين إلى اليسار.. من الألم إلى الملل، وليستغث هذا الغرب المسكين إلهه إذا شاء.. إنه سيظل فريسة مصيره فالقدر لا يرحم »

لقد خنقت مداخن المصانع الروح الإنسانية في الغرب.. لقد قتلت الآلة صانعها ومهندسوها.. لقد تكدست أكوام الإنتاج والآلات على المجتمع الغربي فسحقته.. لقد تكومت أكداس النقود على القلب الغربي فخنقته.. لقد انطلق إشعاع الذرة فأباد الرحمة والخلق في أعماق الإنسان.

قلت: أراك مشؤوما غاية الشؤم..

قال: لست وحدي في ذلك.. لقد تتبعت كتابات كثير من أصحابنا.. وخاصة الكتاب الطليعيين، أو رواد مسرح اللامعقول من الوجوديين.. فرأيت العجب العجاب من القلق والضنك من خلال أسطرهم التي تفوح بالآلام وتعتصر بالأسى.

إن اليأس، والقلق، والأسى والألم، والصدمة، والملل، والعبث، والتمزق، والمأساة، والشقاء.. هذه العبارات لا تكاد تخلو منها صفحة واحدة من صفحات هؤلاء الكتاب، إقرأ إن شئت للكاتب الفرنسي (كامي) مسرحيات (الرجل المتمرد، سوء التفاهم، حالة الحصار..)[67] 

يقول (كامي) (ينبغي ألا نؤمن بشيء في هذا العالم سوى الخمر، إن صيحته هي الموت للعالم، حطموا كل شيء، يجب أن نلغي كل شيء، الإلغاء والإطاحة هو إنجيلي»

ويقول (إرثر ميللر) الأمريكي في مسرحيته (بعد السقوط) إن أكثر الأماكن براءة في بلدي هو مصحة الأمراض العقلية، وكمال البراءة هو الجنون »

ويقول (سلاكرو) الكاتب الفرنسي:« إن الآلهة لا عمل لها إلا أن تعبث بحطام الإنسان »

واقرأ إن شئت مسرحيات (جان بول سارتر) الفرنسي (جلسة سرية، موتى بلا قبور، الأيدي القذره، البغي الفاضلة، سجناء الطونا) واقرأ من كتبه: (موتة الروح، سبيل العقل، عصر الحرية، الذباب).

يقول (يونسكو) الفرنسي:« الواقع كابوس مؤلم لا يطاق ».. وطالع كتابه (قاتل بلا أجر)

الموت هو مشكلة المشاكل في نظر أصحابنا، فالموت يثير الرعب لأنه واقعة فظيعة في حد ذاتها.. بل لأنه يجعل كل الحياة التي سبقته عبثا، وسخفا  كما يقول صموئيل بكت في كتابه (الأيام السعيدة) فاليأس والعبث والألم والقلق هو عنوان الحياة الغربية»

يرى هيدجر أن الحياة الحقة تكون في اليأس، أما سارتر فيرى أن الحياة الحقة تكون فيما وراء اليأس، بل يقول سارتر: (الإنسان في صميمه قلق).

أما نيتشه ـ الفيلسوف الألماني ـ  فيرى أن الإنسان بين التسليم والتمرد فوجوده تمزق وسلب وهو العالم اللامعقول ولا يجد الخلاص إلا بالجنون الذي يخلصه من تعاسته الحاضرة، ويرى نيتشه أن اليأس والقلق شرطان دائمان للفطرة، أم للعظمة الإنسانية.

أما كيرك جارد ـ رائد الفلسفة الوجودية ـ  فيقول: إن الوجود معناه أن نعاني اليأس والقلق حتما، إن من يختار اليأس يختار ذاته في قيمتها الأبدية.

ولذا.. فقد حاول الإنتحار مرارا.

إن الوعي يظهر دائما  في صورة القلق، وأما اليأس فهو الحد الذي يفضي إليه، لقد بقيت الكآبة القاتلة ملازمة لكيرك جارد حتى الموت.

هذه هي الملامح الرئيسية للعالم اليوم، والتي تبرز واضحة مجسدة في معطيات كبار الكتاب والمفكرين والأدباء، فوضى تأخذ بخناق العالم تبعثر كل متبقى فيه من نظام، وتسعى إلى تمزيق بقايا خيوط العنكبوت من القيم الغربية، والإنسان اليوم يرى هذا الإعصار الفوضوي المأساوي يحيق بالإنسانية ويدمر كيانها ويسحق آدميتها، آلية طاغية عارمة حولت الإنسان إلى آلة وسحقت كل تجارب الروح والوجدان، وجماعية صماء قضت على كل مطمح بالتفرد والنبوغ والتفوق والإبداع واختلال رهيب بين كفي المادة والروح، وعزلة غربية مضنية إزاء عالم أصم لا يستجيب لتوسلاته، وسقوط وتهافت في سائر النظم الوضعية السياسية والإجتماعية والعسكرية التي تمسك بزمام العالم اليوم، بالإضافة إلى الخوف العالمي من الدمار والحروب والقنابل الذرية.

2 ـ صمود الإسلام

قلت:  لقد حدثتني عن المدى الذي صمدت فيه الأديان والمذاهب والحضارات.. فحدثني عن مدى صمود الإسلام.

قال: لقد ذكرت لك أنه لم يصمد دين من الأديان.. ولا مذهب من المذاهب.. ولا حضارة من الحضارات ما صمد الإسلام..

فمع أن الإسلام تعرض لجميع أنواع الضغوط والحروب، وتعرض أتباعه لجميع أنواع الشبهات والشهوات إلا أنه لم ينحن ولم يخضع.

صحيح أنه مر ببعض الفترات خيل لأعدائه فيها أنهم قد قضوا عليه.. ولكنه سرعان ما يعود في كل فترة غضا طريا كيومه الذي جاء.. وبالحماسة التي ولد بها.

قلت: ما سر ذلك؟

قال: أول سر لذلك هو بقاء مصادره سليمة صحيحة تقرأ كما كان يقرؤها محمد، وباللغة التي كان يقرؤها بها، وبالفهم الذي كان يفهمها به.. وذلك يعني أن الإسلام الذي جاء به محمد هو نفسه الإسلام الذي ظل بيننا.

إن مثال ذلك هو هذه الشجرة التي تجثو أمامنا بقوة وصمود عجيبين..

تصور لو أن هذه الشجرة انقطع رزقها.. أو اختلطت السموم بتربتها التي منها تتغذى، وبمائها الذي منه تستقي.

قلت:  لو حصل ذلك لماتت الشجرة.

قال: ولو حصل ذلك في الإسلام لمات الإسلام.

لقد ظلت شجرة الإسلام تتغذى من مصادر الإسلام النقية الصافية، لتعطي بحسب استعدادات المسلمين كل حين من الثمار ما يظل مددا للمسلمين في جميع أجيالهم.

قلت:  هذا السبب الأول.. فما الثاني؟

قال: نوع الغذاء الذي كانت تلك المصادر تغذي به من التجأ إليها.

قلت:  ما تقصد؟

قال: أرأيت لو أن هذه الشجرة كان لها نهر ماء يسقيها.. ولكنه نهر مسموم.

قلت:  سيقتلها إذن.

قال: لقد كانت المصادر المقدسة للمسلمين والتي هي الغذاء الذي يتغذون به.. والدواء الذي يستشفون به.. تحوي من الخصائص ما يجعلهم في منتهى القوة والصحة.

إن الغذاء الذي تمتلئ به تلك المصادر يناسب الإنسان تماما.. وكأنه مصنوع خصيصا من أجله.. هو غذاء يناسب الفطرة الإنسانية السوية بجميع أركانها..

هو يناسب العقل والروح والنفس..

وهو يناسب الفرد والمجتمع..

وهو يناسب الأمة والعالم..

وهو يناسب المصالح المتناقضة التي احتارت الأديان والمذاهب في التوفيق بينها..

ولذلك استطاع الإسلام أن يصمد في الوقت الذي سقط فيه الكل.

 

 

 

صمود المصادر

قلت:  فلنبدأ بالمبدأ.. بالمصادر.. فالإسلام في حقيقته هو المصادر.

قال: صدقت.. لقد ظللت أقول لأصدقائي من المستشرقين الذين يحكمون على الإسلام من خلال المسلمين: خطأ ذلك الذي تفعلونه.. الإسلام لا تمثله تمثيلا صحيحا إلا مصادره.. أما المسلمون، فهم بشر منهم المحسن ومنهم المسيء، ومنهم القريب ومنهم البعيد.. ومنهم الذي تغذى بغذاء الإسلام الخالص، ومنهم من مزج بغذائه شيئا من أغذية الجاهلية.

قلت:  فكيف نعرف صمود مصادر الإسلام؟

قال: في إمكانك أن تأخذ نسخة مطبوعة من القرآن من ماليزيا مثلاً، وأخرى من مصر، وثالثة من أمريكا.. ثم قارن بينها.. وبعد أن يتضح لك تطابقها قارنها بأي نسخة مخطوطة منه سواء في إحدى مكتبات الهند أو في أحد متاحف أوروبا لتجد الحقيقة عينها تتكرر لديك.

لقد ذكر البيهقي قصة واقعية رواها عن القاضي يحيي بن أكثم قال: دخل رجل يهودي على المأمون فتكلم فأحسن الكلام، فدعاه المأمون إلى الإسلام، فأبى، فلما كان بعد سنة جاءنا مسلماً، فتكلم فأحسن الكلام فقال له المأمون: ما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك، فأحببت أن أمتحن الأديان، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة، فاشتريت مني، وعمدت إلى الإنجيل، فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها البيعة، فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن، فعملت ثلاث نسخ فيها نقص وزيادة، وأدخلتها الوراقين فتصفوحها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها، فلم يشتروها فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي.

قال يحيى ابن أكثم: فحججت تلك السنة، فلقيت سفيان بن عينية، فذكرت له الحديث، فقال مصداق هذا في كتاب الله تعالى، قلت: في أي موضع؟  قال: قال الله تعالى في التوراة والإنجيل:﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ (المائدة: من الآية44)، فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال:﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر:9) فحفظه فلم يضع »[68]  

قلت:  أتصدق ما قال هذا الرجل؟

قال: لقد رأيت ذلك بعيني كما أراك الآن.. وجاحد أنا إن أنكرت ما رأيته بعيني.

قلت:  ولكن هذه المصادر تعرضت لشبهات كثيرة جدا.

قال: ووقفت في وجهها جميعا بإباء وثبات وصمود.

قلت:  فلنتحدث حديثا علميا.

قال: لك ذلك.. مصادر الإسلام نوعان: أحدهما أصل.. وهو الكتاب المقدس للمسلمين.. القرآن الكريم.. والثاني تابع.. وهو سنة محمد.. وهي المذكرة التفسيرية والتطبيقية للقرآن.

قلت:  فهل حفظ كلاهما؟

قال: بل لم يذهب من كليهما حرف واحد.

1 ـ صمود الكتاب

قلت: فلنبدأ بصمود الكتاب[69].

قال: ليس هناك كتاب في الدنيا صمد صمود القرآن..

لقد صمد في وجه كل الحملات التي أرادت تشويهه..

لقد صمد في وجه المستشرقين والمبشرين بنفس القوة التي صمد بها في وجه أولئك القرشيين الذين استعملوا كل الوسائل للصد عنه.

1 ـ في وجه المستشرقين:

قلت: فلنبدأ بالمستشرقين.

قال: لقد كان المستشرقون بفضل القوالب التي أسسوها لأنفسهم، وبفضل المناهج التي اعتمدوها، وبفضل الموضوعية العلمية التي اشتهروا بها أكثر الناس حظا في مواجهة القرآن، فهم الجدار الأول الذي يحمي من بعدهم من المواجهين.

سأذكر لك بعض هؤلاء المستشرقين، وما واجهوا به القرآن.. لترى مدى التناقض العجيب الذي كتبت به أطروحاتهم وجدلياتهم.

إن الباحث الذكي يستطيع أن يستخرج من تلك الأطروحات ما يرد به على جميعها من غير أن يرجع إلى أي كتاب من كتب المسلمين.

فمن أطروحاتهم ما يتميز بنكهة مسيحية، مثل (ج. بوستل) الذي كتب حول (توافق القرآن والإنجيل) سنة ( 1543 م ).

ومثل كراديفو الذي كتب (الراهب بحيرا والقرآن) سنة( 1898 م ).

ومثل فلهلم رودلف الذي كتب (صلة القرآن باليهودية والمسيحية)[70]

ومثل جون بيرتون الذي كتب (جمع القرآن)[71] 

ومثل (ريجي بلاشير) الذي كتب (القرآن)[72] 

ومثل (بوم شتارك) الذي كتب (مذهب الطبيعة الواحدة في القرآن) في مجلة المشرق المسيحي سنة 1953م

ومثل سترشتين الذ كتب (القرآن: الإنجيل المحمدي) سنة (1918م).

ومثل ريتشارد بيل الذي كتب (أصل القرآن في بيئته المسيحية) في لندن سنة 1926م، وأعيد طبعه عام 1968م.

ومثل تور أندريا الذي كتب (أصل الإسلام والمسيحية) في أوسلو سنة 1926 م.

ومنها ما يتميز بنزعة يهودية، مثل الحاخام إبراهام جيجر الذي كتب (ماذا أخذ محمد من النصوص اليهودية؟)[73] 

ومثل هيرشفيلد الذي كتب (العناصر اليهودية في القرآن) سنة 1878م، و(مقالة في شرح القرآن) سنة 1886 م، و(أبحاث جديدة في فهم القرآن وتفسيره)سنة 1902م.

ومثل سيدرسكي الذي كتب (أصل الأساطير الإسلامية في القرآن) سنة 1932م.

ومثل هورفيتز الذي كتب (بحوث قرآنية) سنة 1926 م.

ومثل إسرائيل الذي كتب (شابيرو الحكايات التوراتية في أجزاء القرآن) سنة 1907م.

ومثل جولد زيهر الذي كتب (العقيدة والشريعة في الإسلام)[74]

ومثل س. د. جويتين الذي كتب (اليهود والعرب: علاقاتهم عبر التاريخ) سنة (1955م ).

ومثل بيرنات هيللر الذي كتب (عناصر يهودية في مصطلحات القرآن الدينية)، سنة (1982 م ).

ومثل جوزيف هاليفي الذي كتب (السامريون في القرآن) في (المجلة الآسيوية 1908 م ).

ومثل ج فانسبرف الذي كتب (المصادر وطرق لتفسير الكتاب المقدس)، والذي طبع بتمويل من جامعة لندن عام 1972 م.

ومثل ميشائيل كوك الذي كتب (محمد)، وطبع في مطابع جامعة أكسفورد 1987م.

ومثل رودي بارت الذي كتب (محمد والقرآن: تاريخ النبي العربي ودعوته)[75] 

قلت: لقد ذكر هؤلاء المستشرقون وغيرهم شبهات كثيرة حول القرآن.. أفلا تراها كافية لزعزعة ثباته الذي تزعمه له[76]؟

قال: لقد خالطت أولئك المستشرقين المساكين، وعرفت المنهج الذي اتبعوه في ذلك.. إنه نفس المنهج الذي اتبعوه مع الكتاب المقدس، واستطاعوا بواسطته أن يبينوا مصدره البشري.. إنه ما يسمونه النقد الأعلى[77] والأدنى[78].

لقد كانت محاولتهم مع كتابنا المقدس غاية في السهولة، ذلك أن العهدين: القديم والجديد يمثلان أرقى إنتاج متطور عبر العصور؛ فهمالم يُؤَلَّفا دفعة واحدة أو بقلم واحد، بل مرَّا بمراحل تطور تاريخية وأدبية يمكن رصدها وتحليلها، حيث مرّ في مرحلة تكوينه: تأليفًا وجمعًا وتثبيتًا، بما يزيد على ألف عام بالنسبة للعهد القديم، وما يقارب نصف الفترة بالنسبة للعهد الجديد، وفي تلك الرحلة الطويلة تغيرت المضامين الدينية عبر مراحل التطور، وتغير البناء التركيبي للنصوص أدبيًّا ولغويًّا، مما استوجب بحثًا نقديًّا تاريخيًّا، يفسّر، ويبيّن، ويفصل ما بين تلك المراحل[79].

ولكنهم حين حاولوا ذلك مع القرآن، لم يجدوا إلا شبهات أوهي من بيت العنكبوت حاكوها بأهوائهم من غير منهج علمي موضوعي.

لقد كانت أول محاولة لتطبيق قواعد هذا المنهج على القرآن هي ما قام به المستشرقون من أصحابي في شأن ترتيبه حسب النزول[80].

وقد توسع صاحبي المستشرق الألماني (تيودور نولدكه) في دراسة النص القرآني لترتيبه زمانيًّا حسب نزوله، فاتجه إلى تقسيم السور المكية من القرآن إلى ثلاث فترات يتميز أسلوب النص القرآني في كل منها عن الآخر.

وقد تأثر صاحبي هذا بمنهج نقد الكتاب المقدس، والذي كتبت أسفاره ـ كما تبين بالدراسة الفاحصة ـ على فترات متباعدة تفصل بينها أحيانًا عشرات بل مئات السنين.

لقد لاحظ الدكتور عبد الرحمن بدوي مدى المغالطات التي حملها هذا المنهج، فقال معلقًا على صنيع نولدكه:« فيما يخص الأسلوب، فلو كان مفيدًا في التمييز بين الفترات الطويلة، فلن يفيد فيما يتعلق بالتمييز بين التتابع التاريخي للسور في فترة قصيرة في الواقع أن كل الفترة المكية لا توفّي إلا 12 سنة من 610 -622م، فبأي حق ندعي إذًا التمييز بين أسلوب كاتب خلال 12 سنة فقط؟ ناهيك عن استطاعتنا التمييز في تلك الفترة بين ثلاث فترات قصيرة »

وقد ختم الدكتور عبد الرحمن بدوي تعقيبه هذا بقوله:« إنه من الشطط، إن لم يكن من الكذب، أن نزعم استطاعتنا ترتيب السور تاريخيًّا في الفترة المكية حسب الأسلوب»[81]

هذا النقد لاستعمال هذا المنهج مع القرآن ليس خاصا ببدوي.. بل إن عددا من كبار المستشرقين لاحظوا عدم جدوى تطبيق قواعد النقد الأعلى والأدنى على النص القرآني، لقد قال المستشرق الإنجليزي آربري في ذلك:« أنا ألحّ على الرأي القائل بأن عملًا خالدًا كالقرآن لا يمكن أن يفهم بصورة أحسن لو أخضعناه لتجربة النقد الأدنى، إنه أمر خارج عن الموضوع أن تتوقع أن المواضع المطروحة في السور المستقلة سوف تنظم بعد عملية إحكام رياضي بعض الشيء لتشكل نموذجًا منطقيًّا.

إن منطق الوحي ليس منطقًا مدرسيًّا، فليس هناك (قبل) و(بعد) في رسالة النبي، عند ما تكون هذه الرسالة صادقة فإن الحقيقة الدائمة لا يمكن أن تحصر داخل إطار زمني أو مكاني، ولكن كل لحظة تعرض نفسها بشكل كلي مطلق »[82]

وبمثل هذه الصراحة التي أدى إليها المنهج العلمي الموضوعي صاح المستشرق السويدي (تور أندريه) صاحب كتاب (محمد: حياته وعقيدته).. لقد صارح بمعارضة هذا المنهج العقيم الذي سلكه بعض المستشرقين في البحث، مبينًا أن جوهر النبوة لا يمكن تحليله إلى مجموعة من آلاف العناصر الجزئية، ومهمة الباحث ـ كما ذكر ـ هي أن يدرك في نظرة موضوعية كيف تتألف من العناصر والمؤثرات المختلفة وحدة جديدة أصيلة تنبض بالحياة[83].

التفت إلي، وقال: أنت ترى كيف ألمح كل من آربري وتورأندريه إلى عيوب تطبيق منهج النقد الأعلى والأدنى على دراسة النص القرآني.

لقد حصرا تلك العيوب في طريقة تحليل النص إلى أجزاء صغيرة وفق أصول الكم الرياضي والكيف المنطقي والترتيب الزماني، وتنبّها إلى أن النص القرآني يعلو على هذه المعايير كلها، وهذا كله حق بلا جدال.

قلت: فهل ترى شيئا آخر غير ما ذكرا؟

قال: أجل.. ربانية القرآن.. إن القرآن يصيح في كل آية من آياته بأنه كلام الله، ومحمد يصيح بمثل ذلك.. بل لغة القرآن كلها تدل على هذا..

فلذلك أرى أن المنهج الصحيح أن نتعامل مع القرآن على ضوء هذا.

قلت: إنك بذلك تدعو إلى الإسلام.

قال: لم أقصد ذلك.. أقصد أن نفترض صحة قول القرآن بأنه كلام الله، ثم نتعامل معه بما نشاء من النقد على هذا الأساس.

أليس الأصل هو تصديق القائلين؟

قلت: بلى..

قال: لقد كان الأصل أن نتعامل مع القرآن على هذا الأساس، ولكنه للأسف لم نر إلا منطق الشك الذي لا مبرر له.

بل أحيانا تجد هؤلاء يقعون في تكلف لا مبرر له جعل بعض الباحثين، وهو الدكتور السيد محمد الشاهد، يقول بسخرية:« من أين لأعجمي ادعاء أن القرآن فيه ركاكة في اللغة.. هذا القرآن الذي أصبح فيما بعد مقياس اللغة العربية.. إلى أن يرث الله الأرض من وعليها، فلو أني اتهمت أسلوب جوته الشاعر الألماني بالركاكة لسخر الناس مني، رغم إلمامي باللغة الألمانية، وإجادتي لها لدرجة التأليف بها، فكيف بمستشرق يفهم العربية باستعمال القواميس »[84]

سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك بعض الأمثلة على فساد هذا المنهج الذي لو طبق على أي حقيقة في الدنيا لألغاها:

فمن الشك الذي وصفوه بالمنهجية، والذي دعاهم إلى تطبيقه ما يسمى بالنقد الأعلى الشك في الراوي، فلهذا راحوا يستعملون كل الأساليب، بل اختلاق جميع الأكاذيب حول سيرة محمد وأخلاقه وغايته، وجمع كل المفتريات في القديم والحديث وحشدها للقدح في ذلك كله، وبذر بذور الشك في نبوته[85].

ومنه محاولة حصره في حدود الطاقات والتصورات البشرية، ولهذا وصفوا كل ما يخرج فيه عن دائرة قدرة العقل البشري والمدركات الحسية في نطاق الأسطورة.

ولهذا اعتبروا من حق الباحث اعتمادًا على عقله وحواسه، وعلى أصول المنطق والمعرفة المتراكمة التاريخية والعلمية أن يرفض أي حقائق تتجاوز الواقع المادي المحسوس، كالغيبيات والعقائد، ويبدو كل ما يتجاوز الواقع المادي خرافة غير قابلة للتصديق.

وهذا يعني الطعن في ما ورد بالقرآن من غيب كالطعن في الألوهية والوحي والملائكة واليوم الآخر والجنة والنار، وما يخرج عن نطاق التاريخ الإنساني المدون[86].

ومنه محاولة إبراز أثر البيئة، والزعم بتأثير ما راج بين العرب قبل عصر النبوة من مقولات يهودية ومسيحية ووثنية على النص والتدليل على ذلك بأكاذيب شتى واضحة البطلان والتماس المشابهات بين ما ورد بالنص القرآني وكل من التوراة والإنجيل من ألفاظ وقصص.

وحين يعييهم البحث عن أي تشابه في الألفاظ يشتطون في الكذب والاختلاق، أما القصص فحين انتابهم اليأس من العثور على أصول لقصص عاد وثمود في العهد القديم شك بعضهم في هذه الأقوام أصلًا، بينما ردّها آخرون إلى أثر المرويات الشفوية التي كانت رائجة في البيئة العربية قبل عصر النبوة، ولا دليل لهم عليه [87].

ومنه النظر إلى آيات القرآن باعتبارها مرتبطة بزمان معين، ومشدودة الوثاق بظروف البيئة والعصر الذي نزلت فيه، لا باعتبارها أحكامًا نهائية مطلقة خارجة عن إسار الزمان والمكان قد اكتسبت صفة الديمومة والخلود.. كما لاحظ ذلك صديقي المستشرق آربري في تصريحه الذي ذكرته لك.

وقد أدت بهم هذه النظرة إلى الفشل الذريع الذي منيت به محاولاتهم المتكررة لتقييد النص القرآني بقيود تاريخية وترتيبه حسب الزمن.. بل كانت مقولتهم  هذه هي الأساس في اعتبارهم الإسلام حدثًا تاريخيًّا حدث في حينه، لم يكتب له الامتداد في التطبيق الواقعي، أو لم يعد صالحًا للتطبيق[88].

ومنه تمسكهم بالمفاهيم الغربية في النقد الأدبي، كاشتراط وحدة الموضوع في كل سورة من السور، وتمسكهم المتعسف بضرورة أن يكون موضوع كل سورة موضوعًا موحدًا، وبالتالي دراسة البناء الداخلي لكل واحدة من السور بمعزل عن غيرها، كما قال كاتب مادة (القرآن) بدائرة المعارف البريطانية:« قلما نجد فكرة واحدة نوقشت مناقشة كاملة في سورة واحدة »

ومثله ما قاله رودي باريت:« ولا يصح أن يظن أن من الممكن مع مرور الأيام توضيح نشأة جميع السور وفهم بنائها الداخلي على أنها وحدة مترابطة الأجزاء »[89]

ومنه محاولتهم وضع نماذج وأطر معيارية لصيغ القرآن وأساليبه الإنشائية والخبرية، وهي المحاولة التي باءت بالفشل وعبّر عنها كاتب مقال القرآن بدائرة المعارف الإسلامية بقوله:« إن طبيعة القرآن وترتيبه تجعل من الصعب تصنيف صيغه الأدبية أو تنظيم موضوعاته الرئيسة، وأية محاولة لتصنيف أجزاء القرآن وفق النماذج الأدبية المعيارية تصاب بالانهيار على الفور »

ومنه محاولاتهم المستميتة في البحث عن مصادر القرآن، فكونه كلام بشر يقتضي البحث المصادر التي استقى منها أفكاره وتصوراته.

فإن وجدوا في القرآن شيئا شبيها بما في الكتاب المقدس نسبوه إليه، ولم يقولوا بأن القرآن صدق الكتاب المقدس في هذا.

وإن وجدوا أشياء لم يذكرها الكتاب المقدس اعتبروها مردودة، وأطلقوا عليها (غرائب تثير الدهشة) و(أساطير)

ونسبوها إلى البيئة العربية أو إلى روايات من قصص تقليدية توجد في ثقافات الشرق الأدنى، وقد عدّلت لتتطابق مع النظرة العالمية وتعاليم القرآن، ويضربون لذلك أمثلة لا يمكن إن لم يكن من المستحيل التأكد بأن لها أصولًا في ثقافات الشرق القديم، لأن البحث في تلك الثقافات لم يرق إلى درجة اليقين بما كانت تشتمل عليه من تصورات وأفكار.

وإذا ورد في النص القرآني ما يثبت العلم الحديث حقيقة وقوعه ويقع في دائرة المعطيات الحسية.. فإنهم يبادرون إلى التشكيك فيه.

التفت إلي، وقال: هذه بعض الشبهات التي أفرزها الافتراض الذي افترضوه.. وهو بشرية القرآن.. وهو ينطلق من تكذيب ما أخبر به القرآن عن مصدره الإلهي.

قلت: إنك تحصي الشبهات إحصاء، وهذا يدل على اهتمامك الشبيه بالموضوع.

قال: أجل.. أنا أهتم بالموضوع اهتماما لا يقل عن اهتمامي بصمود هذه الشجرة.

قلت: إن لدي بعض الشبهات قرأتها عن هذا النوع من المستشرقين، وأرى فيها من القوة ما لا يمكن رده، فإن شئت ذكرتها لك لعلها ترد عنك هذا الذي تتوهمه حول ربانية القرآن.

قال: اعرض ما تشاء.. لقد بحثت في هذه المسائل بحثا عميقا.. ولا أحسبك تخرج بشبهك عما بحثت فيه.

أصل كلمة (قرآن):

قلت: أول شبهة تثير الانتباه هي أصل كلمة (قرآن)، والكلمات التي تدل على معناها، والمصطلحات القريبة منها.

فأكثر المستشرقين يؤكدون صحة النظرية التي قال بها شفالي في كتابه (تاريخ القرآن)، وهي أن (القرآن) قد اشتق من كلمة (قرياءنا) السريانية، ومعناها: القراءة المقدسة، والدرس، وقد اعتمد في ذلك على مخطوطة سريانية من القرن السادس موجودة بالمتحف البريطاني.

ليس هذا فقط، فهناك مصطلحات أخرى وثيقة الصلة بالموضوع:

فالمعنى الأصلي للفظ (آية) كالكلمة الشبيهة في العبرية (أوث)، والسريانية (آثا)، وهي العلامة والدليل، وتأتي كرمز لحقيقة غير مرئية.

وكلمة (سورة) تبدو مشتقة من (صورطا) أو (سورثا) السريانية، ومعناها (الكتاب المقدس)

وكلمة (مثاني) مشتقة من (مشنا)العبرية، أو من (ماثنيتكا) السريانية أو الآرامية.

وكلمة (حكمة)، والتي ربما جاءت من الكلمة الآرامية (حخما)

فهذه الكلمات جميعا ترجع إلى أصول عبرية أو سريانية أو آرامية..

ابتسم، وقال: لا شك أن هذا ليس ناتجا عن بحث موضوعي.. إنه كتعلق الغريق بقشة.. إن هؤلاء المساكين يهدفون من وراء هذا التشكيك في أصالة المصطلحات الرئيسة في القرآن وردّها إلى أصول عبرية أو سامية أو آرامية إلى التمهيد للقول بأن القرآن من اختراع محمد وتأليفه، وأنه قد تعلم هذه الألفاظ من اليهود والمسيحيين.

وهم بذلك يريدون أن يبينوا أن هناك اتصالًا وثيقًا بين القرآن والمصادر المذكورة، وأن هذا الاتصال إنما يبدأ بكلمة (القرآن) نفسها التي ليست في الواقع إلا كلمة مأخوذة من السريانية.

لقد ناقش الدكتور عبد الرحمن بدوي هذه المزاعم، ورد عليها قائلا:« ولكي نفترض صحة هذا الزعم فلا بد أن محمدًا كان يعرف العبرية والسريانية واليونانية، ولا بد أنه كان لديه مكتبة عظيمة اشتملت على كل الأدب التلمودي والأناجيل المسيحية ومختلف كتب الصلوات وقرارات المجامع الكنسية وكذلك بعض أعمال الآباء اليونانيين وكتب مختلف الكنائس: الملل والنحل المسيحية »

ثم عقب على هذا قائلا:« هل يمكن أن يعقل هذا الكلام الشاذ لهؤلاء الكتاب، وهو كلام لا برهان عليه.. إن حياة النبي محمد r قبل ظهور رسالته وبعدها معروفة للجميع.. ولا أحد قديمًا أو حديثًا يمكنه أن يؤكد أن النبي كان يعرف غير العربية، إذًا كيف يمكن أن يستفيد من هذه المصادر كما يدَّعون »[90] 

بالإضافة إلى هذا، فإن اللغات العربية والعبرية والسريانية تنتمي إلى سلالة لغوية واحدة هي سلالة اللغات السامية، ولا بد من أجل ذلك أن يكون بينها الكثير من التشابه والتماثل.

ومن ثم فإن القول بأن إحدى اللغات قد استعارت ألفاظًا بعينها من أخواتها هو ضرب من التعسف، ما لم يقم عليه دليل[91].

كما أنه من المستحيل الآن بسبب غموض تاريخ اللغات السامية أن نحدد من اقتبس هذه الألفاظ المشتركة من الآخر: العربية أم العبرية.. وهذا كاف في الدلالة على إثبات تفاهة حجج من توسع من المستشرقين في باب الاشتقاق من اللغات السامية[92].

قلت: ولكن علماء المسلمين يقرون بوجود مفردات غير عربية الأصل فى القرآن، ويذكرون منها (مِنْسَأَة) بمعنى عصى فى سورة (سبأ)، ومنها (اليم) بمعنى النهر فى سورة (القصص) وغيرها.

قال: ما ذكر من ذلك غير صحيح.. فليس في القرآن كلمات غير عربية الأصل اللهم إلا أسماء الأعلام مثل (إبراهيم، يعقوب، إسحاق، فرعون)، وهذه أعلام أشخاص.

ما عدا ذلك، فكل الكلمات التي نطق بها القرآن كلمات كان يعرفها العرب، ويتداولونها فيما بينها.

بالإضافة إلى هذا كله، فإن وجود مفردات أجنبية فى أى لغة سواء كانت اللغة العربية أو غير العربية لا يخرج تلك اللغة عن أصالتها، فمن المعروف أن الأسماء لا تترجم إلى اللغة التى تستعملها حتى الآن، فالمتحدث بالإنجليزية إذا احتاج إلى ذكر اسم من لغة غير لغته، يذكره برسمه ونطقه فى لغته الأصلية ومن هذا ما نسمعه الآن فى نشرات الأخبار باللغات الأجنبية، فإنها تنطق الأسماء العربية نُطقاً عربيَّا.

ولا يقال: إن نشرة الأخبار ليست باللغة الفرنسية أو الإنجليزية مثلاً، لمجرد أن بعض المفردات فيها نطقت بلغة أخرى.

والمؤلفات العلمية والأدبية الحديثة، التى تكتب باللغة العربية ويكثر فيها مؤلفوها من ذكر الأسماء الأجنبية والمصادر التى نقلوا عنها، ويرسمونها بالأحرف الأجنبية والنطق الأجنبى لا يقال: إنها مكتوبة بغير اللغة العربية، لمجرد أن بعض الكلمات الأجنبية وردت فيها، والعكس صحيح[93].

محمد والقرآن:

قلت: ومن الشبهات التي عرضها أصحابك من المستشرقين قول بعضهم بأن كتاب الإسلام المقدس، وتجربة محمد النبوية ترتبطان ارتباطًا وثيقًا بحيث لا يمكن فهم أيهما فهمًا كاملًا دون الآخر.

ثم يشير إلى ما استقر عليه الرأي من أن الله في القرآن هو المتكلم دائمًا، وأن محمدًا هو المتلقي، وأن جبريل هو وسيط الوحي.

ويضيف: ولكن تحليل النص يبين أن الموقف أشد تعقيدًا من هذا.

ويبدأ هذا المستشرق في عرض نصوص من القرآن لبيان العلاقة التي تربط بين أطراف القضية الثلاثة: المتكلم، والوسيط، والمتلقي، استنادًا إلى منهج (النقد الأعلى والأدنى)الذي يعمد إلى تحليل هذه النصوص، وربط بعضها ببعض ربطًا تاريخيًّا.

قال: فلنبدأ بمعالجة ما ذكره واحدا واحدا..

قلت: لقد بدأ بالطرف الأول، وهو المتكلم، فقال:« فيما يبدو أن الأجزاء الأقدم من القرآن، لا يتبين المتكلم أو مصدر الوحي، ففي بعض السور كسورة الشمس، والقارعة، والتكاثر، والعصر لا نجد حتى مجرد إشارة بأن الرسالة تأتي من الإله »[94] 

ابتسم، وقال: وهل هذه السور هي أول ما نزل من القرآن.. إن الجميع منا معشر المستشرقين، ومن المسلمين، يعتقدون بأن أول ما نزل من القرآن سورة العلق[95]، ففي أول آياتها:﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾(العلق)

ثم إن ما ورد في سورة الشمس ينفي مزاعمه ففيها هذه الآيات:﴿ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)﴾(الشمس)، فهذه وغيرها كلها إشارات إلى الخالق وصنعه في الكون وفي النفس البشرية.

قلت: وهذا المستشرق يذكر أن السور المبكرة التي يشار فيها إلى إله محمد لا ترد فيها إشارة إلى اسم الإله، إنما هو لفظ لشخص الثالث، إذ ترد في العبارة (ربي) و(ربك)، وهو يضرب على ذلك مثلًا بما ورد في سورة الذاريات، والطور، والمدثر وغيرها.

ابتسم، وقال: ألم أقل لك إن هؤلاء المساكين يتعلقون بقشة، وهم في غرقهم في أوهامهم ينتقون ما يشاءون، ويتغافلون عما يشاءون.

ألم يقرأ هؤلاء ما ورد في سورة العلق التي يقرون بأنها أول ما نزل من القرآن:﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾(العلق:14)؟

ألم يقرأوا ما ورد في السورة الثانية، سورة المدثر:﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ   رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ (المدثر:31)، وقوله:﴿ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ (المدثر:56

وقوله في سورة الذاريات التي استشهد بها من ذكرت:﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ (الذريات:50)، وقوله:﴿ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ (الذريات:51)، وقوله:﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ (الذريات:58)

وقوله في سورة الطور التي استشهد بها من ذكرت:﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ (الطور:27)، وقوله:﴿ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (الطور:43)

بالإضافة إلى هذا كله، فقد ورد في سورة المدثر ـ التي يستشهد بها هذا المستشرق ـ والتي هي من أوائل ما نزل من القرآن ما يدل على أن القرآن هو كلام الله، ففيه:﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)﴾(المدثر)

سكت قليلا، ثم قال: أتدري ما سر هذا الحرص على هذه المقولات التي لا دليل عليها؟

قلت: ما هو؟

قال: إن هذا المستشرق، ومن تبعه، ومن اعتمد عليه، جعل أمام عينيه هدفا راح يضرب أخماسا وأسداسا من أجل تحقيقه، وذلك ما أوقعه فيما أوقعه فيه.

قلت: وما هو هذا الهدف؟

قال: إن الهدف من تشكيكه في الطرف الأول من أطراف القضية، وهو المتكلم ـ بزعمه أنه كان طرفا غامضًا في الفترة المكية المبكرة، وأن السور التي تنتمي لتلك الفترة لم تحدده أو تعينه بوضوح ـ هو الإيحاء بأن اسم هذا الإله ما تحدد بوضوح إلا في الفترة المدنية بعد أن اتصل محمد باليهود الذين تعلم منهم.

ولكن هذا المستشرق المسكين ينسى هذا الهدف حين يريد أن يبث شبهة أخرى، فيقول:« ورد في القرآن أن محمدًا (الذي زعم لتوه أنه لم يكن يعرف ربه تمامًا) قد رأى الله مرات عديدة Muhammed had Visions of God كما ورد في سورة النجم [96]، وعلى الأقل في الفترة المكية كان صوت الله نفسه، وليس أي وسيط، ما سمعه محمد »

قلت: أما الطرف الثاني الذي شكك فيه هذا المستشرق، ومن أخذ عنه، ومن تبعه، فهو الوسيط، فقد قال:« وفي السور المبكرة، ومن أجل تحديد مصدر الوحي، فإن الله هو المتكلم، وهو المصدر المباشر، مثلًا:﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ (المزمل:5)، و﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى﴾ (الأعلى:6)، وعدد آخر من السور المكية المتأخرة والمدنية المبكرة يتحدث عن آيات القرآن والكتاب لمحمد[97].

لكن في خلال الفترة نفسها نجد مجموعة من السور تقول بتعالي الله عن الإيحاء المباشر، كقوله تعالى:﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الشورى:51)، وقوله:﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى:52)

ولهذا نجد في أول سورة مدنية مبكرة، وهي سورة البقرة، يشار إلى وسيط الوحي لأول مرة في القرآن على أنه جبريل[98]، وبناء على هذه الآية وعدد من الأحاديث النبوية، فإن المفسرين حددوا الروح في الأجزاء المبكرة بأنه جبريل، ووضعوه منذ بداية منصب محمد كوسيط للتنزيل.

وكما أن جبريل، وعلى عكس المعتقد السائد، لم يعرف أبدًا في القرآن على أنه واحد من الملائكة، كما لم يذكر أن الملائكة وسطاء للتنزيل.

ابتسم، وقال: أولا.. لا شك أن الاحتجاج بالكلمات: (سنلقي عليك)، (سنقرئك)، (نتلوها عليك)، يدل على جهل مطبق بأساليب العربية، وهي لا تدل بحال على الإلقاء المباشر أو القراءة والتلاوة المباشرة على المتلقي.

ومن ثم فليس هناك تناقض ولا تعارض بين الآيات المبكرة والمتأخرة كما يزعمون.

وأما الملاك الموكل بالوحي، فقد ذكرت صفاته فيما نزل في الفترة المكية الأولى، فإنا نجد في سورة التكوير هذه الآيات:﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)﴾(التكوير)

ونجد في سورة النجم:﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى﴾(النجم:5-6) إلى غير ذلك من الآيات التي تبين شخصية هذا الملك ذي القوة العلوية العالمة التي توحي إلى النبي، وتبلغه رسالة ربه.

بل إن النبي ـ بنص القرآن وحسب السور المكية ـ يعرفه ويراه:﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾(النجم:10-11).. بل ويناديه باسمه جبريل كما ورد في حديث الإسراء والمعراج، فلم تكن بالنبي والمسلمين حاجة إلى النص على هذا الاسم في القرآن.

أما الآية التي ذكرت اسمه، والتي استدل بها ذلك المستشرق المسكين، فقد نزلت ـ كما يذكر المفسرون ـ حين سأل اليهود محمدا عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي، فقال:« جبريل»، فقالوا: فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال، فنزلت الآية.

وأما المرة الأخرى التي ذكر فيها اسمه، وهي في سورة التحريم:﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ (التحريم:4)، فقد ذكر في موضع المحبة للنبي والاستعداد لتأييده ونصرته حتى في مواجهة أقرب الأقربين إليه وهن زوجاته.

ولذلك، فإن الملك الذي أبلغ الوحي كان معروفًا للنبي قريبًا منه، ويصبح التعلل بتأخير ورود اسمه في التنزيل أمر لا طائل وراءه.

أما ما قاله هذا المستشرق المسكين من أن القرآن لم يذكر أن الملائكة وسطاء للوحي، فيكفي أن نستشهد بالآية الأولى من سورة فاطر المكية:﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً﴾(فاطر: من الآية1)، وبالآية (75) من سورة الحج المدنية، والتي تقول:﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ﴾

وللدلالة على أن جبريل من الملائكة ما جاء في وصفه بالآية (19) من سورة التكوير:﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ فهو إذن رسول من الملائكة الذين يصطفيهم الله حسب القرآن، وهو ما يدحض كل ما ذكره ذلك المستشرق المسكين.

قلت: أما الطرف الثالث الذي شكك فيه هذا المستشرق، ومن أخذ عنه، ومن تبعه، فهو محمد، فقد قال:« يتحدث القرآن أيضًا لأول مرة عن معلم محمد من البشر في سياق مجموعة الاتهامات التي وجهها له معارضوه:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)﴾(الفرقان)

ويعقب على هذا بقوله:« وفيما عدا عنصر الإفك، فإن القرآن ينكر ما سجّل في هذه الآيات »

ضحك ملء فيه، وقال: هكذا يكون العبث بالألفاط، وإلا فلا..

قلت: ألا ترد على هذا؟

قال: هو في حقيقته لا يحتاج إلى رد.. ولكن الحكمة تقتضي أن يعامل المجانين بالطريقة التي يفهمون بها.

نعم.. لقد رد على الافتراء الأول بـ قوله:﴿ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾

أما الافتراء الثاني، وهو ما لم يلاحظه هذا المستشرق المسكين، فقد رد عليه بالآية التالية:﴿ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

ومثلما رد القرآن على هذين الافتراءين اللذين ساقهما كفار مكة رد على ما سجله بعدهما في السورة نفسها بقوله:﴿ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾(الفرقان 9)، فهو إذًا قد رد على كل الاتهامات لا على اتهام واحد كما يزعم هذا المستشرق المسكين.

قلت: وهو يستشهد على هذا أيضا بما ورد في القرآن من تسليمه بأن محمدًا كان له معلم أجنبي، ففي سورة النحل:﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ (النحل:103)، ففي هذه الآية لا ينفي القرآن هذه التهمة[99].

قال: لقد ذكرني كلامهم هذا بما قاله سيد قطب في (ظلال القرآن) عن هذا، فقد قال:« وحتى الماديون الملحدون في روسيا الشيوعية، عند ما أرادوا أن يطعنوا في هذا الدين في مؤتمر المستشرقين عام 1954 كانت دعواهم أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عمل فرد واحد، هو محمد، بل من عمل جماعة كبيرة، وأنه لا يمكن أن يكون قد كتب في الجزيرة العربية، بل إن بعض أجزائه كتب خارجها، فكيف كان يمكن ـ وهذا رأي جماعة من العلماء في القرن العشرين ـ أن يعلمه بشر لسانه أعجمي عبد لبني فلان في الجزيرة؟»[100]

سكت قليلا، ثم قال: وأنا أقول لهذا المستشرق المسكين: قل لنا ما اسم هذا المعلم؟ ومن الذي رآه وسمعه؟ وماذا سمع منه؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟ ولماذا لم يدع ذلك المعلم العارف بكل ما جاء به القرآن كل ذلك لنفسه؟

وأسئلة أخرى كثيرة لا يجدون لها أي إجابة.

قلت: لقد ذكر هذا المستشرق، ومن تبعه، ومن نقل عنه أن هناك سورا مدنية تعطى انطباعًا بأن محمدًا جهد في الحصول على معلومات من الكتاب المقدس عند اليهود، حيث جرى اتهامهم بأنهم يخفون كتابهم عنه، وقد عرضت بعض النسخ المكتوبة على محمد أو أتباعه، كما في سورة الأنعام:﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ (الأنعام:91)

قال: الرد على هذا من وجهين: الأول أن المستشرق الذي ذكر هذا، وهو تيودر نولدكه هو نفسه الذي ذكر في كتابه (تاريخ القرآن) ـ وهو يعتبر عند المستشرقين عمدة في ترتيب النزول ـ أن السورة مكية، وليست مدنية.. ومن ثم فالخطاب هنا لقريش، لا لليهود الذين وصفتهم الآية بأنهم يخفون بعض أجزاء التوراة لغرض في نفوسهم.

وأما الوجه الثاني، أن الخطاب موجه إلى اليهود ـ وهو ما اختاره بعض المفسرين ـ فالمعنى هو هو، ولا يحتمل غيره.

لقد ورد الخطاب بالمعنى نفسه إلى اليهود في سورة مدنية هي المائدة:﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ (المائدة:15)، وغيرها من الآيات.

وهي كلها تفضح اليهود الذين كانوا يتاجرون بكتبهم، وتبين لهم في نفس الوقت الحقائق التي يكتمونها، كما في القرآن:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ (البقرة:159)

وهو نفس الأسلوب الذي تعامل به القرآن مع المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، ففي القرآن:﴿ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ﴾ (المائدة:61)

وقد بين القرآن هدف اليهود من إخفاء جانب كبير من الكتاب، فقال:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (البقرة:174)، فهذا هو هدفهم على نحو ما حدده القرآن نفسه.

سكت قليلا، ثم قال: هؤلاء المساكين يخادعون أنفسهم، ويخادعون الناس حين يتلاعبون بالآيات بهذه الطريقة..

لقد قدم ذلك المستشرق تلك المقدمات ـ التي تصورها مقدمات علمية ـ ليبني على أساسها النتيجة التي ظل يضمرها، ويتحايل بكل حيلة معقولة كانت أو غير معقولة ليلبسها مسوحًا زائفة من العلم والدراسة النقدية يدلس بها على الناس ويفتري بها على محمد.

وقد قدم لتلك النتيجة مستشهدًا بآيات لم يذكرها وإنما أشار إلى موضعها فحسب لكي يوهم بأنه إنما يتقدم بخطى علمية واثقة نحو الحقيقة التي اطمأن إليها؛ مع أن النتيجة لا تتصل بالمقدمة من قريب أو بعيد، فقد قرأت له قوله:« وهناك أجزاء (سور) تتهم اليهود بأنهم يكتبون أجزاء بأنفسهم ويقولون:﴿ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾(البقرة: من الآية79) وانظر أيضًا (البقرة 77،140،174، آل عمران 71، المائدة 15)، وفي تلك الأجزاء (السور) لا نجد صعوبة في أن نرى محمدًا يتلقى قصصًا ومعلومات أخرى من معلمين مختلفين، بمن فيهم اليهود والنصارى، ثم إنه في لحظات الوحي ينقح المادة، ويحيلها على صيغتها القرآنية »

هكذا يفعل هذا المستشرق وغيره من إخوانه.. إنهم يحشدون حشودا هائلة من النصوص، يفسرونها كما يشاءون غير عابئين بالأصول العلمية، ولا المبادئ النقدية، ولا بأولويات الحيدة والتجرد العلمي بهدف الوصول إلى الحقيقة، بل هم يلوون عنق الحقائق لكي يصلوا إلى القول بأن محمدًا هو الذي ألف القرآن.

قلت: لقد صرح هذا المستشرق بالنتيجة التي يروم إليها من كل ذلك الحشد من النصوص، فقال:« في الفترة المكية المتأخرة والمدنية المبكرة قيل إن محمدًا قد تم تحديه لكي يخرج للناس كتابًا يمكنهم قراءته بأنفسهم (93:17)[101]  وأن أتباعه شكوا بأنه ليس لهم كتاب مقدس كاليهود والنصارى (155:6)[102]

ابتسم، وقال: لقد ذكرت لك.. إن هؤلاء يتلاعبون بالنصوص.. هم كمن يصف قصرا ضخما ممتلئا جمالا بكونه لا يعدو كونه كوخا حقيرا، فإن قيل له برهن على ذلك أخذ يهدم ذلك القصر لبنة لبنة، ثم يشكل من لبناتها أكواخا حقيرة، ويجعل من ذلك الهدم وذلك البناء براهين على ما يريد.

إنهم لا يختلفون عن هذا الرجل.. بل هم هذا الرجل.

إن تلك الآيات التي اكتفى بالإشارة إليها تذكر الاقتراحات التي عرضتها قريش على محمد..

ثم قال: اصبر علي، فسأقرأ عليك الحديث الوارد في ذلك.. فهو من أعجب أحاديث الثبات والصمود.. وكلما قرأته لم أهم بشيء سوى إعادة قراءته لأرى البطولة الصامدة، والصمود البطل الذي أبداه محمد مع جميع الذين صوبوا نحوه رماح حربهم.

ذكر ابن عباس صاحب محمد أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، ورجلا من بني عبد الدار، وأبا البَخْتَري أخا بني أسد، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية، وأمية ابن خلف، والعاص بن وائل، ونُبَيها ومُنَبِّها ابني الحجاج السَّهْمَيَّين، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم رسول الله r سريعًا، وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصًا، يحب رُشْدَهم، ويعز عليه عَنَتُهم، حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنُعْذرَ فيك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك! لقد شتمت الآباء، وعِبتَ الدين، وسَفَّهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، فما بقي من أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك! فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا، سوّدناك علينا، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيًا تراه قد غلب عليك ـ وكانوا يسمون التابع من الجن: الرئي ـ فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطب، حتى نبرئك منه، أو نُعذَر فيك.

فقال رسول الله r:« ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم » أو كما قال رسول الله r.

فقالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادًا، ولا أقل مالا ولا أشد عيشًا منا، فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضَيَّقت علينا، وَلْيبسُط لنا بلادنا، وَلْيُفَجر فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يُبْعث لنا قُصيّ بن كلاب، فإنه كان شيخًا صدوقًا، فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك، صدقناك، وعرفنا منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول، فقال لهم رسول الله r:« ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلغتكم ما أرسلت به، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم »

قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فاسأل ربك أن يبعث ملكًا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لك جنانًا، وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة، ويغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك، إن كنت رسولا كما تزعم.

فقال لهم رسول الله r:« ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم »

قالوا: فأسقط السماء، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال لهم رسول الله r:« ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك »

فقالوا: يا محمد، أما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا، إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة، يقال له: الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدًا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.

فلما قالوا ذلك قام رسول الله r عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته، ابن عاتكة ابنة عبد المطلب، فقال: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا، فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورًا ليعرفوا بها منزلتك من الله، فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من العذاب، فوالله لا أؤمن بك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سلمًا، ثم ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها، وتأتي معك بنسخة منشورة، معك أربعة من الملائكة، يشهدون أنك كما تقول. وأيم الله، لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك.

ثم انصرف عن رسول الله r، وانصرف رسول الله r إلى أهله حزينًا أسفًا لما فاته، مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه[103].

التفت إلي، وقال: لو قرأوا هذا النص وأمثاله من النصوص التي تبين الواقع الذي أنزلت فيه هذه الآيات لعلموا الحق من أقرب أبوابه.. ولكنهم لا يفعلون.

ثم قال: دعنا من ذلك النص.. ألا يعلم هؤلاء المساكين أن القرآن إنما أتى به محمد استجابة لهذا التحدي من جانب خصومه، مع أن القرآن كان ينزل على محمد ويتلى قبل هذا التحدي ببضع سنوات؛ وإنما اقترح الكفار هذه الاقتراحات لإظهار إنكارهم للدعوة إلى الإيمان بالغيب وبما لا تدركه حواسهم، وهو ما جاءت به السور التي نزلت من القرآن قبل نزول هذه السورة، ولم تكن بين محمد وقومه من خصومة قبل نزول القرآن، فقد لبث عمرًا بين ظهرانيهم لا يتحدونه ولا يتحداهم حتى نزل القرآن، ولم يكن هناك مجال للتحدي ولا سبب له قبل نزوله.

إذن لم يصرح الكفار بهذا التحدي إلا بعد نزول القرآن بزمن، ولا يمكن أن يكون هذا التحدي سابقًا على النزول.

قلت: لقد ذكر هذا المستشرق، ومن تبعه، ومن أخذ عنه أن المسلمين شكوا بأنه ليس لديهم كتاب مقدس كالذي عند اليهود والنصارى..

وقد استنبط هذا من آيتين من سورة الأنعام، جاء فيهما:﴿ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ(157)﴾(الأنعام)

ثم ذكر أن هذه الشكوى قد تمت بالمدينة، وأن محمدًا قد استجاب لأتباعه الذين تلاقت إراداتهم مع إراداته بإنشاء مجتمع إسلامي متميز بالمدينة.

يقول هذا المستشرق:« إن إنشاء مجتمع إسلامي مستقل بالمدينة متميز عن أهل الكتاب كان مرهونًا بالإتيان بكتاب إسلامي مقدس منفصل، يؤدي دوره كفرقان لتثبيت حقيقة الكتب المقدسة السابقة (3:3،105:4، 48:5 وغيرها)[104]

ابتسم، وقال: أولا.. إن معنى الآيتين واضح، لقد ذكر الطبري ـ وهو من يتخذونه حجة في التفسير ـ في تفسيرها قوله:« وهذا كتاب أنزلنا لئلا تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، يعني لينقطع عذركم.. فالكتاب قد أنزل لقطع الحجة »

وهذا يعني أن المسلمين لم يشكوا إلى محمد ـ كما يزعم هذا المستشرق المسكين ـ افتقارهم إلى كتاب مقدس كاليهود والمسيحيين، وهو ما لم يرد في مصدر من المصادر ؛ لأن كتاب المسلمين المقدس كان ينزل على رسولهم منذ مدة طويلة، وقد دارت حوله منذ أنزل معارك عنيفة وجدل كثير بين المؤمنين والكافرين، وكان أمر القرآن هو شغلهم الشاغل وهمهم الناصب، فما الذي يحمل المسلمين على أن يطلبوا إلى محمد أن يأتيهم بما هو لديهم ويعدونه مصدر عزهم وفخارهم!؟

وثانيا.. ما ذكره هذا المستشرق من الآيات التي أشار إليها من سورة الأنعام نزلت بمكة، والخطاب فيها لأهل مكة.

وثالثا.. يقال لهذا المستشرق المسكين: أيهما أسبق في الوجود: نزول القرآن أو إنشاء المجتمع الإسلامي بالمدينة؟

قلت: لقد واصل هذا المستشرق يقرر النتيجة التي وصل إليها من تلك الحشود من المقدمات بقوله:« وهذا من شأنه أن يبرهن على أن محمدًا بدأ في جمع كتاب مقدس مكتوب في السنوات المبكرة من الفترة المدنية لكن مسؤوليات قيادة المجتمع المسلم السريع النمو أجبرته على أن يترك هذه المهمة دون إتمامها »

قال: إن هذا الكلام يعني أن محمدا ـ بحسب زعم هذا المستشرق ـ لم يعن بتدوين القرآن وكتابته في الفترة المكية، وأن كتابة القرآن لم تستكمل في حياة محمد.

قلت: أجل.. هذا ما يرمي إليه، وقد قال نفس هذا الكلام كثير من المستشرقين، وخاصة (بوهل) الذي كتب مادة (القرآن) في الطبعة الأولى من دائرة المعارف الإسلامية وذكر فيها أن القرآن لم يسجل كله في الفترة المكية.

قال: لقد رد بعض علماء العرب المحدثين[105]، فقال:« ترى أيمكن أن نتصور أن ينشق أوائل من آمن بالرسول على قومهم ودينهم وأسلوب حياتهم معرضين أنفسهم للهلاك بسبب القرآن ثم هم مع ذلك لا يتنبهون لأهميته ولا يبالون بتسجيله »

التفت إلي، وقال: إن الخطأ الأكبر الذي أوقع هؤلاء في هذا هو عدم تفريقهم بين كتابة الوحي وجمع القرآن[106]، فعند وفاة محمد كان القرآن كله مكتوبًا كما كان محفوظًا في صدور المؤمنين، يدل على ذلك قول زيد:« فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال »[107] 

2 ـ في وجه المبشرين:

التفت إلي مبتسما، وقال: لم يقف القرآن في وجه المستشرقين فقط، بل وقف في وجه المبشرين أيضا.. ألا تعرف التبشير[108]؟

قلت: وكيف لا أعرفه.. إنه التبشير بالمسيح.. وبالخلاص.. وبالملكوت.

ابتسم، وقال: لكأني بك مبشر تختفي في ثياب باحث.

قلت: لو كنت مبشرا لذهبت إلى إفريقيا أو آسيا، أو البلاد التي لا يوجد فيها مسيحيون، أما أنت، فمسيحي بالأصالة.

قال: أنت لا تعلم إذن الصلة بين التبشير والاستشراق.. إن أكثر من درسنا على أيديهم مبشرون.. وأكثر من تخرج على أيديهم من زملائي مبشرون يلبسون لباس الاستشراق.

سكت قليلا، ثم قال: دعنا من ذلك.. ولنحاول التعرف على صمود القرآن في وجه المبشرين.

قلت: المبشرون منشغلون بالمسيح.. ولا علاقة لهم بالقرآن.

جيوش المبشرين:

قال: إن أكثر المبشرين انشغلوا بالقرآن أكثر من انشغالهم بالمسيح.. دعنا نبدأ الحكاية من أولها.. دعنا نبدأ من التاريخ[109].

لقد كانت كلية الثالوث المقدس القاعدة التي انطلق منها التبشير المؤسَّسي فهي أولى لَبِنَات مؤسسة تبشير ضد الإسلام.

ولم يكن ريموند لول أول معلم فيها فقط، بل كان أول من مارس التبشير ضد الإسلام، فجال في بلاده وناقش علماءه.

ولما كان الرهبان ورجال الدين من المسيحيين يؤلفون الطبقة المتعلمة في أوربا؛ كان من الطبيعي أن يقودوا العمل التبشيري ضد الإسلام نظرًا لمعرفتهم لغات المسلمين، فأصبحت الكنائس والأديرة مرتكزات وقواعد للعمل التبشيري لتخريج أهل الجدل الذين يجادلون ضد الإسلام والقرآن.

ومن أوائل المبشرين الذين وقفوا في مواجهة القرآن: الراهب الدومنيكاتي( ريكولدو دي مونت كروس﴾ ( 1243 ـ 1320 م ) الذي بعثه البابا نقولا الرابع إلى الشرق، فتجول مبشرًا في فلسطين ومجادلا باللغة العربية ضد القرآن، ثم ألّف أهم الكتب الجدلية ضد القرآن بعنوان(الجدل ضد المسلمين والقرآن)Disputatio Contra Saracenos et Alchoranem [110] 

وبعده كتب الكاردينال نيقولا دى كوزا ( 1401 ـ 1464 ) بتوجيه من البابا بيوس الثاني ( نقد الإسلام وتفنيده)، و(غربلة القرآن)

وتلاهما قيام عدد من الآباء الدومينيكانيين والجزويت بتصنيف جدليات ضد القرآن منهم دينيس الذي كتب (حول الخداع المحمدي ) سنة 1533 م.. وألفونس سينا الذي كتب ( التحصين الإيماني )سنة 1491 م.. وجان دي تيريكريماتا الذي كتب ( بحث للرد على الأخطاء الرئيسية الخادعة لمحمد) سنة 1606 م.. ولويس فييف الذي كتب (الإيمان المسيحي الحقيقي ضد المحمديين ) سنة 1543 م.. وميشيل نان الذي كتب (الكنيسة الرومانية اليونانية في الشكل والمضمون للدين المسيحي ضد القرآن والقرآنيين دفاعًا وبرهانًا ) سنة 1680 م.. ولودو فيجو مرتشي الذي كتب (مقدمة في دحض القرآن) سنة 1698 م.

هذا في القديم.. وأولئك كانوا سلفا لأمة المبشرين العظيمة التي تلتهم.

أما في العصر الحديث، فقد برز كثير من المبشرين الجدليين ضد القرآن الكثير منهم هنري لامانس، وهو مبشر يسوعي، وراهب متعصب خلف لويس شيخو في إدارة مجلة المشرق، وإدارة المجلة التبشيرية (البشير)، وقد أودع جدليته ضد القرآن في مقاله ( هل كان محمد أمينًا؟)، وفي كتابه ( الإسلام: عقائد ونظم)[111]

ومنهم وليم موير ( 1819 ـ 1905 م )، وهو مبشر إنجليزي أحد أعضاء البعثة التبشيرية الإنجليزية في شمال الهند، وقد كتب جدليتين ضد القرآن، أولاهما (القرآن: تأليفه وتعاليمه) سنة 1877 م، وثانيهما (الجدال مع الإسلام) سنة 1897 م.

ومنهم ريتشارد بل (توفي في النصف الثاني من القرن العشرين)، وهو أحد رجال المسيحية، وقد صرف سنين كثيرة في دراسة القرآن، وقد كتب في الجدل ضد القرآن عدة كتب ومقالات تبرز التأثير المسيحي على محمد، وأهمها مقدمته لترجمة القرآن التي ضمّنها جدليته الأساسية ضد أصالة القرآن.

ومنهم سانت كلير تسدال (توفي في أوائل القرن العشرين)، وهو قسيس مبشر في إيران، وقد صنّف أعنف وأخطر جدلية ضد أصالة القرآن الكريم، وهي(المصادر الأصلية للقرآن) وقد كتبها بالألمانية، ثم ترجمها المبشر وليم موير إلى الإنجليزية.

ومنهم آرثر جيفري (توفي في النصف الثاني من القرن العشرين)، من محرري مجلة العالم الإسلامي التبشيرية، وأبرز كتّابها، وقد بُعث للعمل في الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم للتبشير في أمريكا اللاتينية، ثم إلى مدرسة اللغات الشرقية بالقاهرة.

وله عدة جدليات ضد القرآن الكريم وأصالته نشر بعضها في مجلة العالم الإسلامي 1935م، ونشر بعضها في كتابه (مصادر تاريخ القرآن)، وأودع بقيتها في مقدمة تحقيقه لكتاب المصاحف لأبي بكر بن أبي داود.

ومنهم آرينز مبشر، له جدلية بعنوان (عناصر نصرانية في القرآن)

ومنهم كينث كراج، وهو خليفة زويمر في توجيه النشاط التبشيري في منطقة الشرق الأوسط، ورئيس تحرير مجلة العالم الإسلامي التبشيرية، ورئيس مؤتمر التبشير المنعقد في أكسفورد عام (1986)، وقد كتب جدليتين ضد أصالة القرآن، طبعتا أكثر من مرة لمساعدة وعاظ التبشير، وهما: (نداء المئذنة)، و( القبة والصخرة)

ومنهم بول بوبارد، وهو راهب فرنسي معاصر أشرف على إعداد قاموس للأديان( Dictionnair e des Religiansوقد شرت طبعته الأولى عام 1984 م، وقامت على طبعه (المنشورات الجامعية الفرنسية )، وأنجز أغلب مواده أساتذة المعهد الكاثوليكي بباريس.

بالإضافة إلى هؤلاء جميعا، فقد ظهر كثير من المبشرين في البلاد الإسلامية في القرون السوالف، وقد واجهوا القرآن مواجهات شديدة، ولكنها لم تؤثر فيه أي تأثير.

سأذكر لك منهم ما تعرف به عظم الهجمات التي ووجه بها القرآن:

فمنهم يوحنا الدمشقي (ت 750م)، وهو أحد أكبر آباء الكنيسة الأرثوذكسية، وبسبب قيمته الدينية الكبرى نال لقبين ذوي شأن، فلقِّب بـ (القديس يوحنا)، و(يوحنا ينبوع الذهب)[112]

وبحكم كونه في خط الصراع الأول ضد الإسلام، فإنه سارع بالعكوف على القرآن يقرؤه حرفا حرفا، مسخِّرًا قدراته اللغوية، وموظِّفًا إلمامه بالبيئة الثقافية الإسلامية التي يعيش في رحابها، ويعايش أعلى مستوياتها العلمية والسلطوية حيث كان من كبار موظفي بلاط الخلافة الأموية.

وقد عُدَّ يوحنا الدمشقي بالنسبة للكنيسة الشرقية مثل توما الإكويني بالنسبة للكنيسة الغربية، بسبب استخدامه الدلائل العقلية إلى جانب الدينية في خدمة الإيمان الأرثوذكسي وتسويغه، وذلك باستخدامه الفلسفة اليونانية والهللينستية في تفسير الدين والدفاع عنه.

وقد انتهى يوحنا الدمشقي إلى عدة آراء جدلية ضد الإسلام والقرآن والرسول، لخّصها في كتابه (ينبوع المعرفة) الذي قسمه ثلاثة أقسام، أولها عن المنطق والفلسفة، والثاني عن البدع، والثالث شرح لمبادئ الدين القويم.

وتتلخص رؤية يوحنا الدمشقي للإسلام ونبيه وكتابه في التشكيك في كون الإسلام امتدادًا لحنيفية إبراهيم، لذلك يصف المسلمين على نحو لا يخلو من الخبث، بالسرازانيين[113] (Saracens) ويعد أول كاتب مسيحي يستخدم هذا التشويه الإتيمولوجي لأغراض الجدل العنيف، كذلك يصف المسلمين بـ (المفسدين)، وهي التسمية التي تكثر في الجدليات التالية ليوحنا.

وهو يصف الإسلام بأنه هرطقة مسيحية.. بل ويعتبره مُؤْذنا بالمسيح الدجّال.. ويجعل محمدا أحد أتباع آريوس، كما يجعله على عقيدة المذهب النسطوري، وذلك بسبب تأكيده على أن المسيح مخلوق وإنسان مجرد، وذلك ما قال به آريوس ونسطور.

وهو يحصر ما جاء به محمد في أمرين:

أولهما: معرفته الضحلة بما قَلَّتْ قيمته من أسفار العهدين القديم والجديد اللذين وقع عليهما محمد مصادفة.

وثانيهما ما أخذه محمد عن الراهب الأريوسي (بحيرا).

وهو يعتبر القرآن نتاج لأحلام اليقظة؛ لأن محمدا تلقاه وهو نائم.

وتعتبر جدليات يوحنا ضد القرآن هي الأهم في تاريخ الجدل التبشيري ضد القرآن، حيث وضع الدمشقي آراءه في قوالب جدلية مكثفة، أصبحت ركيزة الجدل التبشيري في كل أدواره ومراحله التالية، فقد ردد جميع المجادلين بعده بعض أو كلّ قوالب الدمشقي من (الإسلام هرطقة مسيحية ـ القرآن تلفيق من العهد القديم والعهد الجديد ـ تعلم محمد من بحيرا الراهب ـ المسلمون سراسنة)

ومنهم تيودور أبو قرة (ت 826م)، وهو تلميذ ليوحنا الدمشقي، وقد تبع رأي أستاذه في (محمد والقرآن)، فعدّ محمدا نبيًّا أريوسيًّا مزيفًا[114].

ومنهم بارشولوميو الرهاوي (ت حوالي القرن الثاني عشر الميلادي)، من مدينة الرها، وقد تركزت جدليته زعمه أن محمدا أخذ القرآن عن راهب نسطوري، فقد قال:« فعندما شهد ذلك الراهب الفاسق سذاجة القوم رأى أن يمنحهم عقيدة وشريعة على غرار مذهب أريوس وغيره من ألوان الكفر والزندقة التي حرم من أجلها، فراح يسطر كتابًا هو الذي يسمونه القرآن، وهو شريعة الله ناثرًا فيه كل ما أودع من مروق... وعند ذلك أعطى كتابه لتلميذه (مؤمد)، وأبلغ أولئك البلهاء أن ذلك الكتاب أنزل على محمد من السماء، حيث كان في حفظ جبريل الملك، فصدقوه فيما قال، وبذلك مكّن الراهب لذلك القانون الجديد»[115]

ومنهم عبد المسيح الكندي (عاش في القرن العاشر الميلادي تقريبًا)، وكان عاملا في بلاط الخليفة المأمون، وكتب ردًّا على رسالة الهاشمي التي يدعوه فيها إلى الإسلام، وقد لقيت رسالة عبد المسيح الكندي عناية كبيرة من دوائر التبشير، حيث نشرت أكثر من مرة لخدمة الإرساليات، ليتعلموا منها أساليب مجادلة المسلمين حول القرآن ومحمد[116].

ومنهم بولس الأنطاكي (عاش في القرن السابع الميلادي تقريبًا)، قيل إنه أحد أساقفة سوريا، وله عدة رسائل مطوّلة ضد الإسلام، أهمها رسالته إلى أحد المسلمين التي ضمَّنها خلاصة معتقد النصارى في الإسلام، وفي عقائد النصرانية، حيث يدلل على صحة الديانة النصرانية، وعلى عدم حاجة العالم إلى القرآن ؛ إذ جاءت التوراة بشريعة العدل وجاء الإنجيل بشريعة الفضل، ولا يتبقى بعدهما جديد يحتاج الناس إليه[117].

وتكشف الرسالة عن معرفة جيدة ودقيقة بالقرآن، فأكثرها نقول قرآنية احتج بها المؤلف من باب الجدل على المعتقدات المسيحية في الصلب والتثليث والفداء وصحة الأناجيل.

ومنهم ابن كمونة اليهودي (ت 1284م)، ويُعَدُّ أول مجادل تنصيري من اليهود ضد القرآن، وقد ضمّن جدلياته ضد القرآن كتابه (تنقيح الأبحاث للملل الثلاث)، فعقد فصلا للقرآن أورد فيه خمسة عشر اعتراضًا، منها ثلاثة تتعلق بأصالة القرآن، سأذكرها لك لتتبين تهافة التفكير الذي يفكر به هؤلاء:

فأول اعتراض هو (لِمَ لا يجوز أن يكون القرآن أنزل إلى نبي آخر دعا محمدًا أولا إلى دينه، وإلى هذا الكتاب، فأخذه محمد منه وقتله؟)[118]، وهو اعتراض ينبئ عن نفسية مجرم يحمل كل شيء على أسلوب تفكيره، وطريقة تعامله[119].

والاعتراض الثاني، هو (يحتمل أن محمدًا طالع في كتب من تقدمه أو سمعها، فانتخب أجودها، وضمّ البعض إلى البعض)

والاعتراض الثالث هو (كيف يستبعد سماعه ذلك من الآخرين، وقد سافر إلى الشام قبل دعواه النبوة مرتين، وهي مملكة أهل الكتاب؟ وأيضا فقد كان في العرب من أهل الكتاب جماعة فلا يبعد أنه سمع ذلك منهم )[120]

وقد تسببت جدليات ابن كمونة ضد أصالة القرآن في هياج العامة عليه، ومحاصرة داره إلا أنه تمكن من الهرب، واختفى عدة أيام توفي بعدها.

بالإضافة إلى هذا، فقد كانت فترة الحكم الإسلامي للأندلس عصر ازدهار علمي وحضاري في مختلف الجوانب، وفيها ارتفع صوت الحرية الدينية، وقد استغل المبشرون ذلك، فصنَّفوا مؤلفات جدلية كثيرة ضد الإسلام، تصدى لها بعض علماء الإسلام كابن حزم والقرطبي وأبو الوليد الباجي وغيرهم.

وتكمن أهمية هذا الدور في أنه كان معبرًا انتقلت خلاله الجدليات التبشيرية إلى الغرب.

ومن الأمثلة على ذلك كتاب (نقض الفقهاء) Contrarietas elfolica لأحد المسيحيين الإسبان، الذي كان له تأثير بالغ في ريكولدو دي مونت كروس الحانق على الإسلام، وقد أفاد كروس من هذا الكتاب في تصنيف أشهر كتبه (تفنيد القرآن) Canfutatia Alcorani الذي عُني به مارتن لوثر، وسارع إلى ترجمته للألمانية عام 1542م[121].

ومن الذين قادوا حملة التبشير في هذه الفترة بطرس المحترم (1092 ـ 1156م)، وهو راهب لاهوتيّ رئيس لدير (كلون) الذي قام بدور كبير في حركة الجدل التبشيري ضد أصالة القرآن، ويعتبر أول جدليّ ضد الإسلام في الكنيسة الغربية، وقد قام برحلة إلى الأندلس، وألّف عقب عودته منها كتابًا في الرد على الإسلام والقرآن عام 1143 م، وأمر بترجمة القرآن إلى اللغة اللاتينية.

ومنهم روجر بيكون الراهب الفرنسيسكاني ( 1214 ـ 1294م )، وهو الذي وجّه رسالة إلى البابا أكليمنص الرابع سنة 1266 م ضمَّنها دعوته إلى: وجوب إدخال اللغات الأجنبية إلى مناهج الدراسات الجامعية، وبخاصة اللغة العربية للإفادة منها وسيلة للتبشير ضد الإسلام.

ودعا فيها إلى دراسة أحوال المسلمين للوقوف على الطرق التي يمكن النفاذ منها إلى هدم عقيدتهم وتقويضها.

وقد صنف جدلية ضد أصالة القرآن، جاء فيها:« بعد أن مات (محمد) أراد أنصاره أن يعالجوا العقيدة والشريعة معالجة شاملة قائمة على تعاليمه، فلما تبينوا أن الرجل الذي نيط به العمل لم يرزق الكفاية اللازمة لأداء ذلك على الوجه الأكمل طلبوا إلى اليهود والمسيحيين الذين أسلموا أن يساعدوه، وعند ذلك رأى هؤلاء من الأفضل أن ينتقوا فقرات مناسبة من العهد القديم والجديد، وأن يمزجوها بالكتاب كيفما اتفق، وبذا أصبح الكتاب على عظيم من الرونق والجمال المنقول من الكتب المنزلة ما بين مسيحية ويهودية»[122]

ومنهم ريموند مارتيني ( 1220 ـ 1284 م )، وهو راهب مبشر دومينيكاني أسباني، تبحر في دراسة القرآن، واجتهد في الجدل ضده، فألف كتابًا بعنوان (الخلاصة ضد القرآن)

وقد بلغت به رغبته في تفنيد القرآن محاولته معارضته بعد أن علم أنه معجزة محمد، فوضع سورة غاية في السخافة والسقامة، قال فيها:« بسم الله الغفور الرحيم، أعارض قرآن مَنْ آخر اسمه الدال وأوله الميم، بلسان فصيح عربي مبين، لا يمنعني منه سيف ولا سكين، إذ قال لي بلسان الإلهام سيد المرسلين: قل المعجزة لا شريك فيها لرب العالمين، وفي الفصاحة يشترك كثير كثيرين، يغلب فيها أحيانًا الصالح الطالح والكافر المؤمنين، فليست الفصاحة ولو في النهاية آية ولا معجزة، اللهم إلا عند الذين أوطاهم عشوة معلم مجنون، حتى قالوا عنه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، مع أنه بإقراره في سورة الأحقاف لم يدر قط ما يُفْعل به، ولا بتباعه أجمعين أكتعين، فقل يا من اسمه رمند، ولقبه مرَتْيِن: آه، لقومٍ يقبل الباطل والخرافات والترهات كأنها اليقين، وإن كنتم في شك مما ألهمنا إليه عبدنا يا معاشر المسلمين، فأتوا بحلِّ هذه الحجة، وبمثل هذه السورة وادعوا لذلك إخوانكم من الجن إن كنتم مهتدين. فإن لم تقدروا، ولن تقدروا فقد زهق الباطل، وانتقام اليقين والحمد والشكر لله آمين، آمين »[123]

بالإضافة إلى هذا كله، فقد كان البيزنطيون أول من كتب من الأوربيين ضد الإسلام والقرآن[124].

وكان أول هجوم مفصل على القرآن في أعمال (نيكتياس البيزنطي) في مقدمة كتابه (نقد الأكاذيب الموجودة في كتاب العرب المحمديين)

أما أكبر هجوم جدلي ضد القرآن، فهو ما قام به إمبراطور بيزنطة (جان كنتا كوزين) في كتابيه (ضد تمجيد الملة المحمدية)، و(ضد الصلوات والتراتيل المحمدية)، وكان هذا الهجوم باللغة اليونانية[125].

مسالك المبشرين:

قلت: أشكرك على هذه الإلمامة التاريخية التي قربت لي من خلالها صورة عن الجيوش التي جيشت لمواجهة القرآن.. فأخبرني الآن عن المسالك التي سلكها هؤلاء لتشويه القرآن، وإثارة الشبهات حوله.

قال: لقد سلكوا كل فج، وركبوا كل صعب، وصعدوا كل شاهق ليثبتوا الهدف الذي انطلقوا منه، وهو بشرية القرآن، وعدم علاقته بما يذكره محمد من الوحي الذي ينزل عليه من السماء.

ومن تلك المسالك ترجمة القرآن، فقد كانت الترجمة هي السلاح الذي يمكنهم من محو القرآن، ومنعه من الغلبة في الصراع الذي يتوهمونه بين المسيحية والإسلام.

فترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية لم تتم بقصد المعرفة الخالصة أو الفهم المجرد، أو التفاعل والتكامل مع الآخرين، بل إنها تمت بقصد معرفة المواطن التي يمكن الوثوب منها عليه، أو البحث عما يمكن أن يكون نقاط ضعف يتم التركيز عليها لقهره وهزيمته والسيطرة عليه[126].

يقول يوهان فوك في تأريخه للدراسات العربية في أوربا:« لقد كانت فكرة التبشير هي الدافع الحقيقي خلف انشغال الكنيسة بترجمة القرآن »

وهو يذكر أن هذه الفكرة التي أدت إلى ترجمة القرآن قد شهدت توسعًا من خلال تنقلات الوعاظ الدينيين لطائفتي الدومنيكان والفرنسيسكان.

ويظهر هذا بوضوح من خلال أمور كثيرة:

منها أن أول نصوص مترجمة من القرآن إلى اللغات الأجنبية جاءت ضمن كتاب (الجدل) الذي ألفّه ابن الصليبي مطران ديار بكر (ت 1171 م)[127] 

ومنها أن بطرس المحترم أمر بترجمة القرآن للمرة الأولى عام 1143م حتى يستطيع دحضه، وقد أكد زويمر ـ المبشر اليهودي ـ على أن تلك الترجمة تمت بدافع تنصيري.

ومنها ما ذكره جورج سيل في مقدمة ترجمته للقرآن بأن الهدف منها هو تسليح النصارى البروتستانت في حربهم التبشيرية ضد الإسلام والمسلمين؛ لأنهم وحدهم قادرون على مهاجمة القرآن بنجاح، وأن العناية الإلهية قد ادَّخَرَتْ لهم مجد إسقاطه[128].

ولما أعيد نشر هذه الترجمة في طبعة أخرى عام 1896م بتقديم المبشر (هويري) وتحقيقه، أعاد هويري التأكيد على دور هذه الترجمة في تنشيط العمل التبشيري ضد الإسلام وتدعيمه.

ومنها أن الكنيسة حرمت طبع أو نشر ترجمة القرآن، حتى إن ترجمة بطرس المحترم ظلت حبيسة محفوظات دير كلويي، ولم يفرج عنها إلا بعد أربعة قرون، ثم أعيد تحريم الطبع والنشر مرة ثانية، ولم يسمح بطباعة الترجمة إلا عام 1694 م، عندما قام راهب مدينة هامبورج الألمانية إبراهام هنكلمان بطبعه.

ومن الأساليب التي مارسها هؤلاء المبشرون مع ترجمات القرآن تشويه الترجمة، حيث عمد المترجمون إلى تشويه ترجمة القرآن بإسنادها إلى مترجمين من الدرجة الثانية والثالثة، ومعاملة النص القرآني معاملة مؤلفات بشرية، وذلك للحد من إمكان إقبال غربيّ على هذه الترجمات والإفادة منها، وبذلك تألَّف حاجز نفسي عميق بين غير المسلم والقرآن، وكانت هذه الترجمات أحد أسباب سيول الأباطيل والمطاعن والشتائم التي ساقها كتّاب التبشير ضد القرآن.

ومن وجوه تشويه ترجمات القرآن إزاحة الآيات من مكانها التوقيفي، لتضليل القارئ وإبعاده عن الإحاطة بحقيقة النص القرآني.

ومنها الترجمة الحرّة، وتحاشي الترجمة العلمية إمعانًا في التحريف والتضليل، مما يترتب عليه تحوير المعاني وتبديلها، وعرض النص القرآني كما يراه المترجم، لا كما تقتضيه آياته وألفاظه.

ومنها التقديم والتأخير والحذف والإضافة.

ولهذا وغيره فقد أعطت هذه الترجمات صورة مشوهة للقرآن لا يمكن الوثوق فيها، فالترجمة اللاتينية الأولى للقرآن ـ مثلا ـ وهي ترجمة بطرس المحترم، والتي تمت عام 1143 م اضطلعت فقط بتقديم مضمون الفكرة، ولم تكترث بأسلوب الأصل العربي وصياغته، وقام الدافع التبشيري حائلا أمام الوفاء بتحقيق هذا الغرض.

وقد كانت هذه الترجمة المشوّهَة الأصل الذي نبعت منه الترجمات الأخرى؛ فمنها نبعت الترجمة الإيطالية الأولى التي أشرف عليها أريفابيني عام 1547 م، وفي سنة 1616 م ترجم سالمون شفايجر إلى الألمانية عن الإيطالية، وعن الألمانية إلى الهولندية في سنة 1641م.

وعن هذه الترجمة اللاتينية الأولى وضع الحاخام اليهودي يعقوب بن إسرائيل أول ترجمة بالعبرية عام 1634م [129].

ومن تلك المسالك إضافة المقدمات والملاحق، فقد أضيف إلى نصوص الترجمات المشوّهة للقرآن مقدمات تفسيرية وملاحق شارحة لا لمضمون النص المترجم، بل جدليات ضد أصالته، وسخرية من محتواه، ومحاولات للحطّ منه.

فقد تضمنت الترجمة اللاتينية الأولى (ترجمة بطرس المحترم) التي قام بها الراهب الإنجليزي روبرت الرتيني والراهب الألماني هرمان الدالماني عددًا من المقدمات والملاحق سميت بمجموعة (دير كلوني)، وهي خطاب بطرس إلى بيرنهارد ( القديس برنار دي كليوفر)، ومجموعة مختصرة من (الوثائق الشيطانية المضادة للطائفة الإسلامية الكافرة)، ومقدمة روبرت الرتيني، و(تعاليم محمد) لهرمان الدالماني، و(أمة محمد ونشوزها)) لهرمان الدالماني.

ومثل ذلك ما فعله الكاردينال يوحنا الأشقوبي الإسباني (ت 1456 م)، فإنه لمّا انتهى من ترجمة القرآن إلى اللاتينية بمساعدة آخرين ألحق بالترجمة جدلية ضد الإسلام بعنوان( طعن المسلمين بسيف الروح)

وحينما نشرت مطبعة بتافيا بإيطاليا الترجمة اللاتينية ذائعة الصيت التي قام بها الراهب الإيطالي لودوفيجو مرّتشي 1698 م بموافقة البابا أنوسنت الحادي عشر جاءت الترجمة في قسمين:

القسم الأول منهما يشتمل على النص العربي للقرآن مع ترجمته اللاتينية وحواشي جزئية للرد على بعض المواضع، ويشتمل القسم الثاني على كتاب (الرائد إلى الرد على القرآن)[130]

أما ترجمة جورج سيل الإنجليزية التي ظهرت في لندن عام 1734 م وأعيد طبعها أكثر من ثلاثين مرة، فقد تضمنت مقدمة جدلية ضد القرآن وصفت في أدبيات التبشير بأنها قيِّمة، وأنها أفضل وصف موضوعي للإسلام، لذلك أصبحت هذه المقدمة إحدى الجدليات الأساسية التي يعتمد عليها التبشير في الجدل ضد أصالة القرآن.

ومن تلك المسالك عنونة ترجمات القرآن، فقد حملت تلك العناوين تأكيدا قويا وخطابيا لما يذكرونه في جدلياتهم، فمن تلك العناوين (كتاب محمد، قرآن محمد، القرآن العربي، القرآن التركي، مبادئ السراسنة، الشرائع التركية، الكتاب المقدس التركي، تشريعات المسلمين)[131]

ومن تلك المسالك إصدار الدوريات والقواميس ودوائر المعارف المتخصصة، ومن أبرز الدوريات التبشيرية المتخصصة في الجدل ضد القرآن: مجلة العالم الإسلامي، والحقيقة الواضحة، ومجلة الإسلام: الألمانية، والفرنسية، والروسية.

ومن أهم دوائر المعارف التبشيرية في هذا المجال (دائرة المعارف الإسلامية) التي صدرت طبعتها الأولى باللغات الثلاث: الإنجليزية والفرنسية والألمانية في الفترة من 1914م إلى 1942م، وتوفر على إصدارها كبار المستشرقين والمبشرين بإشراف الاتحاد الدولي للمجامع العلمية، ولما نفذت هذه الطبعة بدأ إصدار طبعة جديدة اعتبارًا من سنة 1954م[132].

وتعد هذه الدائرة أضخم عمل مرجعي عن الإسلام، كما أنها تتصف بصفة العالمية حيث شارك في تصنيفها قرابة ثلاثة آلاف مؤلف ينتمون إلى مختلف الجنسيات والديانات، مما أعطاها زخمًا كبيرًا في مجال الجدل ضد أصالة القرآن بما لها من انتشار وقبول.

وقد وفّرت كل تلك الخصائص للدائرة سمات العمل التبشيري الناجح في تشويه حقائق الإسلام وإثارة الشبهات حول أصالة القرآن.

لقد لاحظ الأستاذ فريد وجدي طغيان المبشرين على تلك الدائرة، فقال:« إن أكثر كتّاب الدائرة قسس مبشرون يهمهم أن يحيفوا الإسلام لا أن ينصفوه »

وقد وصف رشيد رضا مباحث الدائرة بما فيها من أغلاط ومطاعن ومخالفة الحقائق، بأنها (أضرُّ من شر كتب دعاة المبشرين وصحفهم)[133]

شبهات المبشرين:

قلت: فلم اعتبرت هذه الجحافل التي ذكرتها من المبشرين، مع هذه المسالك الدقيقة التي سلكتها قد انهزمت في مواجهتها القرآن والإسلام؟

قال: لأنها لم تعدو الشبهات الجدلية التي عارض بها مشركو مكة القرآن، هم ومن أعانهم من اليهود والمنافقين، والتي تولى القرآن نفسه الرد عليها.

سأضرب لك أمثلة توضح ذلك:

لقد ذكر  القرآن قول المشركين بأن الوحي المنزل على محمد هو من إلهام شيطان الشعر، حيث كان العرب يتوهمون أن لكل شاعر شيطانًا من الجن يقول الشعر على لسانه، وهو ما نفاه القرآن في قوله:﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ﴾(الحاقة:41)، وقوله:﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾(التكوير:25 )

فاستبدل مجادلو التبشير شيطان الشعر الجاهلي، وأحلوا محله الراهب النسطوري الفاسق الملحد كما تصوره بارشولوميو الرهاوي،  أو أحلام اليقظة كما اقترح يوحنا الدمشقي.

ومن ذلك أن مشركي مكة زعموا أن محمدا ﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾(النحل:103)، وقد رد عليهم القرآن بقوله:﴿ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾(النحل:103)

فجعل الدمشقي وتلميذه أبو قرة من هذا البشر هو بحيرا الراهب الأريوسي.

ومن ذلك أنه لما زعم المشركون جماعية مصدر تعليم الرسول القرآن، كما في القرآن:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ (الفرقان:4) زاوج ابن كمونة في احتمالاته، وأرجحها بين بحيرا الراهب أو أحد أهل الكتاب ممن كانوا بمكة أو الشام.

وقال المستشرق اليهودي إبراهام جيجر في كتابه (ماذا اقتبس محمد من اليهودية):« إن القرآن مأخوذ باللفظ أو بالمعنى من كتب اليهود »

وقال اليهودي برنارد لويس:« إن محمدًا خضع للتأثيرات اليهودية والمسيحية كما يبدو ذلك واضحًا في القرآن »

ويشرح جولد تسهر ذلك قائلا:« تبشير النبي العربي ليس إلا مزيجًا منتخبًا من معارف وآراء دينية عرفها بفضل اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية التي تأثر بها تأثرًا عميقًا، والتي رآها جديرة بأن توقظ في بني وطنه عاطفة دينية صادقة، فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يُعد هذه التعاليم وحيًا إلهيًّا»[134]

وقد استدل الخوري الحداد المبشر اللبناني في جدليته الضخمة ضد أصالة القرآن[135]  على صحة هذه المزاعم بقوله:« فوجود العالِم المسيحي ورقة بن نوفل في جوار محمد خمسة عشر عامًا قبل البعثة، وأعوامًا بعدها في أوائل الدعوة ووجود هذه الحاشية الكريمة في المدينة مع النبي في كل زمان ومكان حجة قاطعة على أن بيئة النبي والقرآن كانت كتابية من كل نواحيها، وأن ثقافة محمد والقرآن كتابية في كل مظاهرها، وذلك بمعزل عن الوحي والتنزيل »[136] 

ومن ذلك أن المشركين زعموا أن القرآن من أساطير الأولين، كما جاء فيه:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾(الفرقان:4 ـ 5)، ففسر مجادلو المشرق كلهم أساطير الأولين بأنها قصص التوراة والإنجيل:

يقول جولدتسهر:« لقد أفاد محمد من تاريخ العهد القديم وكان ذلك في أكثر الأحيان عن طريق قصص الأنبياء ليذكّر على سبيل الإنذار والتمثيل بمصير الأمم السالفة الذين سخروا من رسلهم ووقفوا في طريقهم»[137]، ويوضح طريقة الإفادة، فيقول:« إن محمدًا أخذ يجمع ما وجده في اتصاله السطحي أثناء رحلاته التجارية مهما كانت طبيعة هذا الذي وجده، ثم أفاد من دون أي تنظيم »[138]

ويقول المستشرق اليهودي فنسنك:« النبي كان يُبَشّر بدين مستمد من اليهودية والنصرانية، ومن ثمَّ كان يردد قصص الأنبياء المذكورين في التوراة والإنجيل، لينذر قومه بما حدث لمكذِّبي الرسل قبله، وليثبِّت أتباعه القليلين من حوله »

ومن ذلك زعم المشركين عدم احتواء القرآن على أي آية أو معجزة، بحيث تكفي للدلالة على نبوة محمد، كما جاء في القرآن:﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (العنكبوت:51)

وقد رد عليهم القرآن بقوله:﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ (الاسراء:88)

وهو نفس ما سلكه هؤلاء في شبهاتهم، من محاولاتهم إبطال فاعلية التحدي القرآني المستمر، وتحجيم قيمته، ونفي أصالته، تمهيدًا لمحاولة سلب محمد شرف النبوة بحجة (عدم وجود معجزة تؤيد نبوته)[139]

وقد حدد الواعظ التبشيري (جون تاكلي) هذا الباعث من الجدل التبشيري ضد أصالة القرآن قائلا:« يجب أن نستخدم كتابهم، وهو أمضى سلاح في الإسلام ضد الإسلام نفسه لنقضي عليه تمامًا، يجب أن يرى الناس أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا وأن الجديد فيه ليس صحيحًا »[140]

بل إن ما استعمله المشركون من لغو وتصفيق وتصفير أما القرآن ليحجبوا الناس عنه، كما ورد في القرآن:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾(فصلت:26)

هو نفس ما فعله هؤلاء، كما قال المبشر وليم جيفورد بالكراف:« متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه »[141]

وهو نفس المعنى الذي قاله المبشر وليم موير:« إن سيف محمد والقرآن هما أكثر أعداء الحضارة والحرية والحقيقة الذين عرفهم العالم عنادًا حتى الآن »[142] 

والمقصود بالحضارة التي حَالَ القرآن بين المسلمين وبينها، فيما أشار إليه هؤلاء هي الحضارة ذات المفهوم الغربي، ذلك النموذج الذي أكد (جياني ديميكليس) رئيس المجلس الوزاري الأوربي على ضرورة فرضه، وإلا فالحرب هي الخيار[143].

وهذا الذي ذكره هؤلاء ليس جديدا، فقد سبقهم إليه غلادستون أحد موطدي دعائم الإمبراطورية البريطانية في الشرق الإسلامي حين قال:« ما دام هذا القرآن موجودًا فلن تستطع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان »[144]

وهكذا.. فإن جميع تلك الجحافل لم تزد على ما ذكره مشركو مكة، وإن فاقوهم في القوالب التي حاولوا أن يموهوا بها الحقائق[145].

3 ـ شهادات المنصفين:

سكت قليلا، ثم قال: لقد كان من صمود القرآن أن قيض الله له باحثين منصفين من بني جلدتنا يذبون عنه.. ويصف كل منهم ما أداه إليه اجتهاده من فضائل القرآن التي حاول الجاحدون سترها.. بل إن منهم من امتلأ قلبه خشوعا للقرآن.. فراح يعلن إسلامه، وسأذكر لك من ذلك ما تعلم به عظمة التحدي الذي توجه به أولئك الحاقدون على القرآن[146].

فمن الذين أسلموا تحت تأثير القرآن إبراهيم خليل أحمد، وهو قس مبشر[147]، يحمل شهادات عالية في علم اللاهوت من كلية اللاهوت المصرية، ومن جامعة برنستون الامريكية. عمل استاذاً بكلية اللاهوت باسيوط. كما ارسل عام 1954 الى اسوان سكرتيراً عاماً للإرسالية الالمانية السويسرية. وكانت مهمته الحقيقية التنصير والعمل ضد الاسلام.. لكن تعمقه في دراسة الاسلام قاده الى الايمان بهذا الدين واشهر اسلامه رسمياً عام 1959.

كتب العديد من المؤلفات، ابرزها (محمد في التوراة والانجيل والقرآن)

ومما قال هذا القس المسلم يشهد به للقرآن يرتبط هذا النبى r باعجاز أبد الدهر بما يخبرنا به المسيح u في قوله عنه:« ويخبركم بامور آتية »، هذا الاعجاز هو القرآن الكريم، معجزة الرسول الباقية ما بقى الزمان. فالقرآن الكريم يسبق العلم الحديث في كل مناحيه: من طب، وفلك، وجغرافيا، وجيولوجيا، وقانون، واجتماع، وتاريخ.. ففي أيامنا هذه استطاع العلم أن يرى ما سبق اليه القرآن بالبيان والتعريف »

ويقول:« اعتقد يقيناً أنى لو كنت انساناً وجودياً.. لا يؤمن برسالة من الرسالات السماوية، وجاءنى نفر من الناس وحدثنى بما سبق به القرآن العلم الحديث ـ في كل مناحيه ـ لآمنت برب العزة والجبروت، خالق السماوات والارض ولن أشرك به احداً»

ويقول:« في هذا الظلام الدامس ـ  أيها المسيحي ـ ينزل القرآن الكريم على رسول الله ليكشف لك عن الله عز وجل »

ويقول:« للمسلم أن يعتزّ بقرآنه، فهو كالماء فيه حياة لكل من نهل منه »

ومنهم عامر علي داود، وهو ينحدر من أسرة هندية برهمية، دخلت المسيحية على أيدى المبشرين الذين قدموا مع طلائع الاستعمار، وقد أسلم بمجرد اطلاعه على القرآن.. قال:« تناولت نسخة من ترجمة معانى القرآن الكريم باللغة الانجيليزية، لأني عرفت أن هذ هو الكتاب المقدس عند المسلمين، فشرعت في قراءته وتدبر معانيه، لقد استقطب جل اهتمامي، وكم كانت دهشتى عظيمة حين وجدت الإجابة المقنعة عن سؤالي المحير: (الهدف من الخلق) في الصفحات الاولى من القرآن الكريم.. لقد قرأت الآيات (30 - 39) من سورة البقرة [148].. وهي آيات توضح الحقيقة بجلاء لكل دارس منصف، ان هذه الايات تخبرنا بكل وضوح وجلاء وبطريقة مقنعة عن قصة الخلق »[149]

وقال:« إن دراستى للقرآن الكريم وضحت أمام ناظري العديد من الاشكالات الفكرية، وصححت الكثير من التناقضات التي طالعتها في الكتب السماوية السابقة»

ومنهم  د. موريس بوكاي Maurice Bucaille الطبيب والعالم الفرنسي المعروف.. هو صاحب كتاب (القرآن الكريم والتوراة والانجيل والعلم).. وهو من أكثر المؤلفات التي عالجت موضوعاً كهذا، اصالة واستيعاباً وعمقاً.

وقد كان عمله في هذا الكتاب القيم هو الذي منحه قناعات مطلقة بصدق القرآن، وبالتالي صدق الدين الذي جاء به.

لقد قال يحدث عن نفسه لقد قمت أولاً بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أي فكر مسبق وبموضوعية تامة باحثاً عن درجة اتفاق نصّ القرآن ومعطيات العلم الحديث. وكنت أعرف، قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات، أن القرآن يذكر أنواعاً كثيرة من الظاهرات الطبيعية، ولكن معرفتي كانت وجيزة. وبفضل الدراسة الواعية للنصّ العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوى على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث. وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والاناجيل. اما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب الى أبعد من الكتاب الاول، أي سفر التكوين، فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين اكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا. وأما بالنسبة للأناجيل.. فاننا نجد نص انجيل متي يناقض بشكل جلي انجيل لوقا،  وان هذا الاخير يقدم لنا صراحة امراً لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الانسان على الارض »[150]

ويقول:« لقد أثارت الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهشتى العميقة في البداية، فلم أكن اعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير الى هذا الحدّ من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوع ومطابقته تماماً للمعارف العلمية الحديثة، ذلك في نص كتب منذ اكثر من ثلاثة عشر قرناً. في البداية لم يكن لي أي ايمان بالاسلام. وقد طرقت دراسة هذه النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة »[151]

ويقول:« تناولت القرآن منتبها بشكل خاص الى الوصف الذي يعطيه عن حشد كبير من الظاهرات الطبيعية. لقد اذهلتني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرات وهي تفاصيل لا يمكن ان تدرك الا في النص الاصلي. اذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن نفس هذه الظاهرات والتي لم يكن ممكنا لاي انسان في عصر محمد rان يكون عنها ادنى فكرة »[152]

ويقول:« كيف يمكن لانسان - كان في بداية امره اميّاً -.. أن يصرح بحقائق ذات طابع علمي لم يكن في مقدور اي انسان في ذلك العصر ان يكونها، وذلك دون ان يكشف تصريحه عن اقل خطأ من هذه الوجهة؟»[153]  

ومنهم  وليم بيرشل بشير بيكارد: W. B. Beckard  وهو أديب نكليزي[154]، انبهر بعظمة القرآن، فراح يقول:« ابتعت نسخة من ترجمة سافاري الفرنسية لمعاني القرآن وهي أغلى ما أملك، فلقيت من مطالعتها أعظم متعة وابتهجت بها كثيراً حتى غدوت وكأن شعاع الحقيقة الخالد قد اشرق علي بنوره المبارك »[155]  

ومنهم ايتين دينيه[156] الرسام الذي اعتنق الإسلام، وتسمى بناصر الدين، قال:« لقد حقق القرآن معجزة لا تستطيع أعظم المجامع العلمية أن تقوم بها، ذلك انه مكّن للغة العربية في الارض بحيث لو عاد احد اصحاب رسول الله إلينا اليوم لكان ميسوراً له أن يتفاهم تمام التفاهم مع المتعلمين من أهل اللغة العربية، بل لما وجد صعوبة تذكر للتخاطب مع الشعوب الناطقة بالضاد، وذلك عكس ما يجده مثلاً أحد معاصري (رابيليه) من أهل القرن الخامس عشر الذي هو أقرب إلينا من عصر القرآن، من الصعوبة في مخاطبة العدد الاكبر من فرنسيّى اليوم »[157]

ويقول:« أحسّ المشركون، في دخيلة نفوسهم، أن قد غزا قلوبهم ذلك الكلام العجيب الصادر من أعماق قلب الرسول r وكلهم كثيراً ما كانوا على وشك الخضوع لتلك الالفاظ الأخاذة التى ألهمها ايمان سماوي، ولم يمنعهم عن الاسلام الا قوة حبهم لأعراض الدنيا»[158]  

ويقول:« إن معجزة الانبياء الذين سبقوا محمداً كانت في الواقع معجزات وقتية وبالتالي معرضة للنسيان السريع. بينما نستطيع أن نسمي معجزة الآيات القرآنية: (المعجزة الخالدة) وذلك أن تأثيرها دائم ومفعولها مستمر، ومن اليسير على المؤمن في كل زمان وفي كل مكان أن يرى هذه المعجزة بمجرد تلاوة في كتاب الله، وفي هذه المعجزة نجد التعليل الشافي للانتشار الهائل الذي احرزه الاسلام، ذلك الانتشار الذي لا يدرك سببه الاوروبيون لانهم يجهلون القرآن، أو لانهم لا يعرفونه الا من خلال ترجمات لا تنبض بالحياة فضلاً عن انها غير دقيقة »[159]

ويقول:« إن كان سحر اسلوب القرآن وجمال معانيه، يحدث مثل هذا التأثير في [نفوس علماء] لا يمتون إلى العرب ولا إلى المسلمين بصلة، فماذا ترى يكون من قوة الحماسة التى تستهوى عرب الحجاز وهم الذين نزلت الآيات بلغتهم الجميلة؟… لقد كانوا لا يسمعون القرآن إلا وتتملك نفوسهم انفعالات هائلة مباغتة، فيظلون في مكانهم وكأنهم قد سمّروا فيه. أهذه الايات الخارقة تأتي من محمد r ذلك الأمي الذي لم ينل حظاً من المعرفة؟.. كلا إن هذا القرآن لمستحيل أن يصدر عن محمد، وأنه لا مناص من الاعتراف بأن الله العلي القدير هو الذي أملى تلك الايات البينات »[160]

ويقول:« لا عجب أن نرى النبى الأمي يتحدى الشعراء، ويعترف لهم بحق نعتهم له بالكذب، إن أتوا بعشر سور من مثله، فقد آمن بعجزهم عن ذلك »

ومنهم ليوبولد فايس[161] الذي تسمى بعد إسلامه (محمد اسد)، وهو مفكر وصحفي نمساوي، اشهر إسلامه، وتسمى بمحمد أسد وحكى في كتابه القيم (الطريق الى مكة) تفاصيل رحلته الى الاسلام. وقد أنشأ بمعاونة وليم بكتول، الذي اسلم هو الآخر، مجلة (الثقافة الاسلامية)، في حيدر آباد، الدكن (1927) وكتب فيها دراسات وفيرة معظمها في تصحيح أخطاء المستشرقين عن الاسلام.

لقد قال يحكي عن نفسه وعن زوجته:« أصبحت السا (زوجتي)، شأني أنا، اكثر تأثراً مع الوقت بذلك الالتئام الباطني بين تعاليم (القرآن) الأخلاقية وتوجيهاته العملية. إن لله بمقتضى القرآن، لم يطلب خضوعاً أعمى من جانب الإنسان بل خاطب عقله: إنه لا يقف بعيداً عن مصير الانسان بل إنه (أقرب اليك من حبل الوريد) انه لم يرسم اي خط فاصل بين الايمان والسلوك الاجتماعي »[162]

وقال:« لقد عرفت الآن، بصورة لا تقبل الجدل أن الكتاب الذي كنت ممسكاً به في يدي كان كتاباً موحى به من الله، فبالرغم من أنه وضع بين يدي الانسان منذ اكثر من ثلاثة عشر قرنا فانه توقع بوضوح شيئاً لم يكن بالامكان أن يصبح حقيقة الا في عصرنا هذا المعقد، الآلي. لقد عرف الناس التكاثر في جميع العصور والازمنة ولكن هذا التكاثر لم ينته قط من قبل الى ان يكون مجرد اشتياق الى امتلاك الاشياء والى ان يصبح ملهاة حجبت رؤية ايما شئ آخر.. اليوم اكثر من امس وغداً اكثر من اليوم.. لقد عرفت ان هذا لم يكن مجرد حكمة انسانية من انسان عاش في الماضي البعيد في جزيرة العرب النائية فمهما كان هذا الانسان على مثل هذا القدر من الحكمة فانه لم يكن يستطيع وحده ان يتنبأ بالعذاب الذي يتميز به هذا القرن العشرون، لقد كان ينطق لي، من القرآن، صوت اعظم من صوت محمد »

ومنهم اللادي ايفلين كوبولد، وهي نبيلة إنكليزية، اعتنقت الإسلام وزارت الحجاز، وحجت حج المسلمين، وكتبت مذكراتها عن رحلتها تلك في كتاب لها بعنوان: (الحج الى مكة) (لندن 1934)، والذي ترجم الى العربية بعنوان: (البحث عن الله)، لقد قالت تتحدث عن تأثير القرآن فيها:« وذكرتُ ايضاً ما جاء في القرآن عن خلق العالم وكيف ان الله سبحانه وتعالى قد خلق من كل نوع زوجين، وكيف ان العلم الحديث قد ذهب يؤيد هذه النظرية بعد بحوث مستطيلة ودراسات امتدت اجيالاً عديدة»[163]  

وقالت:« إن أثر القرآن في كل هذا التقدم (الحضارى الاسلامي) لا ينكر، فالقرآن هو الذي دفع العرب الى فتح العالم، ومكنهم من انشاء امبراطورية فاقت امبراطورية الاسكندر الكبير، والامبراطورية الرومانية سعة وقوة وعمرانا وحضارة »[164]

 وقالت:« الواقع أن جمل القرآن، وبديع أسلوبه أمر لا يستطيع له القلم وصفاً ولا تعريفاً، ومن المقرر ان تذهب الترجمة بجماله وروعته وما ينعم به من موسيقى لفظية لست تجدها في غيره من الكتب. ولعل ما كتبه المستشرق جوهونسن بهذا الشأن يعبر كل التعبير عن رأي مثقفي الفرنجة وكبار مفكريهم قال:« إذا لم يكن شعراً، وهو أمر مشكوك به، ومن الصعب ان يقول المرء بانه من الشعر او غيره، فانه في الواقع اعظم من الشعر، وهو إلى ذلك ليس تاريخاً ولا وصفاً، ثم هو ليس موعظة كموعظة الجبل ولا هو يشابه كتاب البوذيين في شئ، قليل او كثير، ولا خطبا فلسفية كمحاورات افلاطون، ولكنه صوت النبوة يخرج من القلوب السامية، وان كان عالمياً في جملته، بعيد المعنى في مختلف سوره وآياته، حتى انه يردد في كل الاصقاع، ويرتل في كل بلد تشرق عليه الشمس »

وقالت:« اشار الدكتور ماردريل المستشرق الافرنسي الذي كلفته الحكومة الافرنسية بترجمة بعض سور القرآن، إلى ما للقرآن الكريم من مزايا ليست توجد في كتاب غيره وسواه فقال:« أما اسلوب القرآن فانه اسلوب الخالق عز وجل وعلا، ذلك ان الاسلوب الذي ينطوي عليه كنه الكائن الذي صدر عنه هذا الاسلوب لا يكون الا الهياً. والحق والواقع ان اكثر الكتاب ارتياباً وشكاً قد خضعوا لتأثير سلطانه وسحره، وان سلطانه على ملايين المسلمين المنتشرين على سطح المعمور لبالغ الحدّ الذي جعل اجانب المبشرين يعترفون بالاجماع بعدم امكان اثبات حادثة واحدة محققة ارتد فيها أحد المسلمين عن دينه الى الآن. ذلك أن هذا الاسلوب.. الذي يفيض جزالة في اتساق منسق متجانس. كان لفعله الاثر العميق في نفس كل سامع يفقه اللغة العربية، لذلك كان من الجهد الضائع الذي لا يثمر ان يحاول المرء (نقل) تأثير هذا النثر البديع الذي لم يسمع بمثله بلغة أخرى »[165]

وقالت:« الواقع ان للقرآن اسلوباً عجيباً يخالف ما كانت تنهجه العرب من نظم ونثر، فحُسنُ تأليفه، والتئامُ كلماته، ووجوه إيجازه، وجودة مقاطعه، وحسن تدليله، وانسجام قصصه، وبديع امثاله، كل هذا وغيره جعله في اعلى درجات البلاغة، وجعل لاسلوبه من القوة ما يملأ القلب روعة، لا يمل قارئه ولا يخلق بترديده.. قد امتاز بسهولة ألفاظه حتى قلّ ان تجد فيها غريباً، وهي مع سهولتها جزلة عذبة، والفاظه بعضها مع بعض متشاكله منسجمة لا تحسّ فيها لفظاً نابياً عن اخيه، فاذا اضفت الى ذلك سمّو معانيه ادركت بلاغته واعجازه »[166]

هؤلاء نزر قليل ممن بهرتهم أنوار القرآن..

ومن المنصفين الذين لم يشهروا إسلامهم.. ولكن ذلك لم يمنعهم من الشهادة للقرآن بما علموا توماس أرنولد [167].. إنه من أعز أصدقائي.. وهو مهتم مثلي بالإسلام.. ولو أن اهتمامه انصب إلى الإسلام المخلص.. أما أنا فاهتممت بالإسلام الصامد.. وكلاهما يدل على كمال الإسلام.. وعلى طيب الثمرة التي غرس شجرتها محمد.

لقد قال:« إننا نجد حتى من بين المسيحيين مثل الفار A"va" الاسبانى الذى عُرف بتعصبه على الاسلام، يقرر أن القرآن قد صيغ في مثل هذا الأسلوب البليغ الجميل، حتى أن المسيحيين لم يسعهم الا قراءته والاعجاب به »[168]  

 ومنهم واشنجتون ايرفنج W. Irving [169] المستشرق الأمريكي.. لقد قال:« كانت التوراة في يوم ما هي مرشد الإنسان وأساس سلوكه. حتى إذا ظهر المسيح اتبع المسيحيون تعاليم الانجيل، ثم حلّ القرآن مكانهما، فقد كان القرآن أكثر شمولاً وتفصيلاً من الكتابين السابقين، كما صحح القرآن ما قد ادخل على هذين الكتابين من تغيير وتبديل. حوى القرآن كل شئ، وحوى جميع القوانين، إذ أنه خاتم الكتب السماوية »[170]  

وهو يقول:« يدعو القرآن إلى الرحمة والصفاء وإلى مذاهب أخلاقية سامية »[171]  

ومنهم  د. ميلر بروز Mllar Burrows، وهو رئيس قسم لغات الشرق الادنى وآدابه وأستاذ الفقه الدينى الانجيلى في جامعة (بيل)[172].. فقد قال:« إنه ليس هناك شئ، لادينى في تزايد سيطرة الانسان على القوى الطبيعية، هناك آية في القرآن يمكن أن يستنتج منها أنه لعل من أهداف خلق المجموعة الشمسية لفت نظر الانسان لكي يدرس علم الفلك ويستخدمه في حياته:﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)﴾(يونس)، وكثيراً ما يشير القرآن إلى إخضاع الطبيعة للانسان باعتباره إحدى الآيات التى تبعث على الشكر والايمان:﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)﴾(الزخرف)،  ويذكر القرآن ـ لا تسخير الحيوان واستخدامه فحسب ـ ولكن يذكر السفن أيضاً.. فاذا كان الجمل والسفينة من نعم الله العظيمة، أفلا يصدق هذا اكثر على سكة الحديد والسيارة والطائرة؟» " 5

ومنهم  بلاشير[173]، وهو من أهل هذه البلاد، قال:« إن الفضل بعد الله يعود إلى الخليفة عثمان بن عفان لإسهامه قبل سنة 655هـ في ابعاد المخاطر الناشئة عن وجود نسخ عديدة من القرآن، وإليه وحده يدين المسلمون بفضل تثبيت نص كتابهم المنزل، على مدى الاجيال القادمة »[174]  

ويقول:« لاجرم في أنه اذا كان ثمة شئ تعجز الترجمة عن ادائه فانما هو الاعجاز البيانى واللفظي والجرس الايقاعي في الآيات المنزلة في ذلك العهد.. ان خصوم محمد قد اخطأوا عندما لم يشاءوا ان يروا في هذا إلاّ أغاني سحرية وتعويذية، وبالرغم من أننا على علم ـ استقرائياً فقط ـ بتنبؤات الكهان، فمن الجائز لنا الاعتقاد مع ذلك بخطل هذا الحكم وتهافته، فان للآيات التى أعاد الرسول ذكرها في هذه السور اندفاعاً وألَقاً وجلالةً تخلّف وراءها بعيداً اقوال فصحاء البشر كما يمكن استحضارها من خلال النصوص الموضوعة التي وصلتنا »[175]

ويقول:« إن القرآن ليس معجزة بمحتواه وتعليمه فقط، انه ايضاً ويمكنه ان يكون قبل اى شئ آخر تحفة ادبية رائعة تسمو على جميع ما أقرّته الانسانية وبجّلته من التحف.. إن الخليفة المقبل عمر بن الخطاب المعارض الفظ في البداية للدين الجديد، قد غدا من أشد المتحمسين لنصرة الدين عقب سماعه لمقطع من القرآن.. وسنورد الحديث فيما بعد عن مقدار الافتتان الشفهي بالنص القرآني بعد ان رتّله المؤمنون »[176]

ويقول:« في جميع المجالات التى أطللنا عليها من علم قواعد اللغة والمعجمية وعلم البيان، أثارت الواقعة القرآنية وغذت نشاطات علمية هي أقرب إلى حالة حضارية منها الى المتطلبات التى فرضها إخراج الشريعة الاسلامية. وهناك مجالات اخرى تدخل فيها (الواقعة القرآنية) كعامل أساسى.. ولا تكون فاعليتها هنا فاعلية عنصر منبه فقط، بل فاعلية عنصر مبدع تتوطد قوته بنوعيته الذاتية »

ومنهم مارسيل بوازار، وهو مفكر، وقانونى فرنسى، وهو أستاذ معنا بهذه الجامعة.. وهو مغرم غراما عظيما بموقف الإسلام من الإنسان.. والحقوق التي أعطاها له، والتي لم يظفر بها في غيره من الأديان والمذاهب والحضارات [177]..  لقد قال يتحدث عن القرآن:« لابدّ عند تعريف النصّ القدسى في الاسلام من ذكر عنصرين: الأول انه كتاب منزل أزلي، والثاني أنه (قرآن) أي كلام حي في قلب الجماعة.. وهو بين الله والإنسانية (الوسيط) الذى يجعل أي تنظيم كهنوتى غير ذي جدوى، لانه مرضيّ به مرجعاً أصلياً، وينبوع إلهام اساسي.. ومازال حتى ايامنا هذه نموذجاً رفيعاً للادب العربى تستحيل محاكاته، إنه لا يمثل النموذج المحتذى للعمل الادبي الأمثل وحسب، بل يمثل كذلك مصدر الادب العربي والاسلامي الذي ابدعه، لأن الدين أوحى به هو في اساس عدد كبير من المناهج الفكرية التي سوف يشتهر بها الكتاب »[178]

ويقول:« لقد أثبت التنزيل برفضه الفصل بين الروحي والزمني أنه دين ونظام اجتماعي.. ومن البديهي أن التنزيل والسبيل الذي ظن إمكان استخدامه فيه قد طبعا المجتمع بعمق »[179]

ويقول:« إن القرآن لم يقدّر قط لإصلاح أخلاق عرب الجاهلية، إنه على العكس يحمل الشريعة الخالدة والكاملة والمطابقة للحقائق البشرية، والحاجات الاجتماعية في كل الأزمنة »[180]

ويقول:« يخلق الروح القرآني مناخ عيش ينتهي به الأمر إلى مناغمة التعبيرات الذهنية والمساواة بين العقليات والنظم الاجتماعية بأكثر مما تفترض التصريفات السياسية والطوابع الايديولوجية التي تسند الى الدول، ولا يكفي قط ما يتردد عن درجة تأثير القرآن الكبرى في (الذهنية الاسلامية) المعاصرة، فهو ما يزال مصدر الالهام الفردى والجماعي الرئيسى، كما أنه ملجأ المسلمين وملاذهم الأخير »[181]

ويقول:« إن الأدوات التى يوفرها التنزيل القرآني قادرة ولا ريب على بناء مجتمع حديث »[182]

 ومنهم د. فيليب حتي[183]، المستشرق العربي المعروف، فقد قال:« إن الأسلوب القرآني مختلف عن غيره، ثم انه لا يقبل المقارنة بأسلوب آخر، ولا يمكن أن يقلّد. وهذا في أساسه هو إعجاز القرآن [184].. فمن جميع المعجزات كان القرآن المعجزة الكبرى»[185]

وقال:« إن إعجاز القرآن لم يحل دون أن يكون اثره ظاهراً على الادب العربي. أما اذا نحن نظرنا الى النسخة التي نقلت في عهد الملك جيمس من التوراة والانجيل وجدنا أن  الأثر الذي تركته على اللغة الانكيزية ضئيل، بالإضافة إلى الاثر الذي تركه القرآن على اللغة العربية. إن القرآن هو الذي حفظ اللغة العربية وصانها من أن تتمزق لهجمات»[186]

 ومنهم الدكتور جوج حنّا[187]، فمع كونه مادي التفكير إلا أن ذلك لم يمنعه من الإدلاء بشهادته للقرآن، فقال:« إنه لابدّ من الاقرار بأن القرآن، فضلاً عن كونه كتاب دين وتشريع، فهو أيضاً كتاب لغة عربية فصحى. وللغة القرآن الفضل الكبير في ازدهار اللغة، ولطالما يعود إليه ائمة اللغة، في بلاغة الكلمة وبيانها، سواء كان هؤلاء الائمة مسلمين ام مسيحيين. واذا كان المسلمون يعتبرون أن صوابية لغة القرآن هي نتيجة محتومة لكون القرآن منزلاً، ولا تحتمل التخطئة، فالمسيحيون يعترفون أيضاً بهذه الصوابية، بقطع النظر عن كونه منزلاً أو موضوعاً، ويرجعون إليه للاستشهاد بلغته الصحيحة، كلما استعصى عليهم امر من امور اللغة »[188]  

 ومنهم درمنغم [189] وهو مستشرق من هذه البلاد، قال:« للمسيح في القرآن مقام عالٍ، فولادته لم تكن عادية كولادة بقية الناس، وهو رسول الله الذي خاطب الله جهراً عن مقاصده، وحدث عن ذلك أول شخص كلمه، وهو كلمة الله الناطقة من غير اقتصار على الوحي وحده.. والقرآن يقصد النصرانية الصحيحة حينما يقول: إن عيسى كلمة الله، او روح الله، ألقاها الى مريم وأنه من البشر.. وهو يذمّ مذهب القائلين بألوهية المسيح، ومذهب تقديم الخبز إلى مريم عبادةً ثم أكله وما إلى ذلك من مذاهب الإلحاد النصرانية، لا النصرانية الصحيحة، ولا يسع النصراني إلا أن يرضى بمهاجمة القرآن للثالوث المؤلف من الله وعيسى ومريم »[190]

ويقول:« سيكون القرآن حافزاً للجهاد يردده المؤمنون كما يردد غيرهم أناشيد الحرب، محرضاً على القتال جامعاً لشؤونه، محركاً لفاتري الهمم، فاضحاً للمخلّفين مخزياً للمنافقين، واعداً الشهداء بجنات عدن »[191]

ويقول:« كان محمد يعد نفسه وسيلة لتبليغ الوحي، وكان مبلغ حرصه أن يكون أميناً مصغياً أو سجلاً صادقاً أو حاكياً معصوماً لما يسمعه من كلام الظل الساطع والصوت الصامت للكلام القديم على شكل دنيوي، لكلام الله الذي هو أمّ الكتاب، للكلام الذي تحفظه ملائكة كرام في السماء السابعة، ولا بد لكل نبى من دليل على رسالته، ولابد له من معجزة يتحدى بها.. والقرآن هو معجزة محمد الوحيدة[192]، فأسلوبه المعجز وقوة أبحاثه لا تزال.. إلى يومنا يثيران ساكن من يتلونه، ولو لم يكونوا من الاتقياء العابدين، وكان محمد يتحدى الانس والجن بان يأتوا بمثله، وكان هذا التحدى أقوم دليل لمحمد على صدق رسالته.. ولا ريب أن في كل آية منه، ولو أشارت إلى أدق حادثة في حياته الخاصة، تأتيه بما يهزّ الروح بأسرها من المعجزة العقلية، ولا ريب في أن هنالك ما يجب أن يبحث به عن سرّ نفوذه وعظيم نجاحه »[193]  " 1

ومنهم الكونت هنري دي كاستري [194]، وهو مقدم في الجيش الفرنسي، قال:« إن العقل يحار كيف يتأتى أن تصدر تلك الآيات عن رجل أمي، وقد اعترف الشرق قاطبة بانها آيات يعجز فكر بني الانسان عن الإتيان بمثلها لفظاً ومعنى، آيات لما سمعها عقبة بن ربيعة حار في جماها، وكفى رفيع عبارتها لإقناع عمر بن الخطاب فآمن برب قائلها، وفاضت عين نجاشيّ الحبشة بالدموع لما تلى عليه جعفر بن ابى طالب السورة التي ذكر فيها زكريا وما جاء في ولادة يحيى وصاح القسس إن هذا الكلام واردٌ من موارد كلام عيسى.. لكنا نحن معشر الغربيين لا يسعنا أن نفقه معاني القرآن كما هي لمخالفته لافكارنا ومغايرته لما ربيت عليه الامم عندنا، غير أنه لا ينبغي ان يكون ذلك سبباً في معارضة تأثيره في عقول العرب، ولقد اصاب (جان جاك روسو) حيث يقول:« من الناس من يتعلم قليلاً من العربية، ثم يقرأ القران ويضحك منه، ولو انه سمع محمداً يمليه على الناس بتلك اللغة الفصحى الرقيقة وصوته المشبع المقنع الذي يطرب الاذان ويؤثر في القلوب.. لخرّ ساجداً على الارض وناداه: ايها النبي رسول الله خذ بيدنا الى مواقف الشرف والفخار أو مواقع التهلكة والاخطار فنحن من أجلك نودّ الموت أو الانتصار».. وكيف يعقل أن النبي ألّف هذا الكتاب باللغة الفصحى مع انها في الازمان الوسطى كاللغة اللاتينية ما كان يعقلها إلا القوم العالمون.. ولو لم يكن في القرآن غير بهاء معانيه وجمال مبانيه لكفى بذلك أن يستولي على الافكار ويأخذ بمجامع القلوب»[195]  

ويقول:« أتى محمد بالقرآن دليلاً على صدق رسالته، وهو لا يزال إلى يومنا هذا سرّاً من الاسرار التي تعذر فك طلاسمها، ولن يسبر غور هذا السر المكنون إلاّ من يصدق بأنه منزل من الله »[196]

ويقول:« قد نرى تشابهاً بين القرآن والتوراة في بعض المواضع، إلا أن سببه ميسور المعرفة.. إذا لاحظنا أن القرآن جاء ليتممها، كما أن النبي خاتم الانبياء والمرسلين»[197]

ومنهم ول ديورانت[198]، وهو أشهر من كتب مؤرخا للحضارات البشرية عبر مساراتها المعقدة المتشابكة،  قال:« ظل [القرآن] أربعة عشر قرناً من الزمان محفوظاً في ذاكرة [المسلمين] يستثير خيالهم، ويشكل اخلاقهم، ويشحذ قرائح مئات الملايين من الرجال، والقرآن يبعث في النفوس أسهل العقائد، وأقلها غموضاً، وابعدها عن التقيد بالمراسم والطقوس، وأكثرها تحرراً من الوثنية والكهنوتية، وقد كان له أكبر الفضل في رفع مستوى المسلمين الأخلاقي والثقافي، وهو الذي أقام فيهم قواعد النظام الاجتماعي والوحدة الاجتماعية، وحرضهم على اتباع القواعد الصحية، وحرر عقولهم من كثير من الخرافات والاوهام، ومن الظلم والقسوة، وحسّن احوال الارقاء، وبعث في نفوس الاذلاء الكرامة والعزة، وأوجد بين المسلمين.. درجة من الاعتدال والبعد عن الشهوات لم يوجد لها نظير في أية بقعة من بقاع العالم يسكنها الرجل الأبيض »[199]  

 ومنهم فرانز روزنثال F.rsenthal [200].. قال:« من الدوافع العملية لدراسة التاريخ توفر المادة التاريخية في القرآن مما دفع مفسريه إلى البحث عن معلومات تاريخية لتفسير ما جاء فيه، وقد اصبح الاهتمام بالمادة التاريخية، على مر المزمن، أحد فروع المعرفة التي تمت بالارتباط بالقرآن. واذا كان الرسول قد سمع بعض الاخبار والمعلومات التاريخية، فان هذا لا يبرر الافتراض بانه قد قرأ المصادر التاريخية كالتوراة في ترجماتها العربية. لقد وردت في القرآن معلومات تاريخية تختلف عما يدعي اليهود وجوده في التوراة. وقد ذكر الرسول أن اليهود والنصارى حرفوا التوراة، وتمسك المسلمون بما جاء في القرآن.. لقد اشار القرآن الى كثير من الاحداث التي احاطت بالرسول، وكان لذلك اهمية في التاريخ الاسلامي لأن الاحداث التي أشارت اليها الآيات صارت لها أهمية تاريخية كبرى للمسلمين، واستثارت البحوث التاريخية »[201]  

4 ـ شهادات المعتدين:

سكت قليلا، ثم قال: ليس ذلك فقط.. بل إن أعداء الإسلام.. ومن قديم.. أدركوا سر شموخ القرآن وعظمته.. ولهذا لاحت منهم في أوقات غضبهم، أو أوقات تهديدهم كلمات تبين ما للقرآن من عظمة وصمود.

اسمع إلى هذا الحقد الدفين الذي يغلي في قلوب هؤلاء نحو القرآن:

يقول رئيس وزراء بريطانيا (جلادستون) في مجلس العموم البريطاني بعد ما حمل القرآن بيده:« إننا لا نستطيع القضاء على الإسلام والمسلمين إلا بعد القضاء على ثلاثة أشياء:صلاة الجمعة، والحج، وهذا الكتاب »، فقام أحد الحاضرين ليمزق القرآن فقال: ما هكذا أريد يا أحمق، إني أريد تمزيقه في قلوبهم وتصرفاتهم.

ويقول:« ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق »

ويقول المُبَشر (وليم جيفورد بالكراف) متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه »‏‏

ويقول المبشر تاكلي:« يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضى عليه تماماً، يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداً، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً‏»

وقال الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذِكْرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر:« إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نُزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم‏ »

لم يكتف الحكام الفرنسيون بالقول.. بل راحوا يمارسون كل الأساليب لمواجهة القرآن..

ومن ذلك أنهم قاموا بتجربة عملية، قامت بانتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية، وألبستهن الثياب الفرنسية، ولقنتهن الثقافة الفرنسية، وعلمتهن اللغة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماماً‏.‏

   وبعد أحد عشر عاماً من الجهود هيأت لهن حفلة تخرج رائعة دعي إليها الوزراء والمفكرون والصحفيون ‏..‏ ولما ابتدأت الحفلة، فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري ‏، فثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت‏:‏ ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً!؟

فأجاب لاكوست، وزير المستعمرات الفرنسي:«  وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا!؟ »

2 ـ صمود السنة

قلت: عرفت صمود القرآن.. فكيف صمدت السنة، وقد دخلها الضعيف والموضوع، واختلف الناس في كثير مما ورد فيها؟

قال: إن ذلك كله من دلائل صمودها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألا نستدل ببقاء المريض حيا معافى بعد أن اعترته الأمراض الكثيرة، أو تناولته السموم الكثيرة على ما له من قوة مناعة؟

قلت: أجل.. ذلك صحيح.. فكيف تطبقه على هذا؟

قال: لقد تعرضت السنة لمحاولات تشويه كثيرة، فظهر كذابون كثيرون يحاولون تحريف هدي محمد.. بل تحريف الدين نفسه، بعد أن عز عليهم تحريف القرآن.. والتمسوا لذلك كل الوسائل، ولكن كل وسائلهم باءت بالفشل، فقد نهض رجال كثيرون، ليس لهم من هم إلا الذب عن كل ما وصلهم من نبيهم.. فحموه بمثل الجهود التي حموا بها القرآن.

وقد صمدت السنة بذلك، وخلصت من كل محاولات التشويه التي لحقتها.

قلت: فحدثني كيف تم ذلك؟

نظر إلى الشجرة الجاثية أمامنا، كأنه يستلهم منها ما يريد قوله، ثم قال: لقد كان ذلك معجزة من معجزات هذا الدين الخالدة.. لقد ظهر رجال كثيرون.. كثيرون أكثر مما تتصور.. لا هم لهم في هذه الحياة إلا أن يستظهروا مئات الألوف من الأسانيد والأحاديث غيباً.. لو أن أحدهم شك في كلمة، بل في حرف لذكر ذلك في روايته أداء للأمانة وتبرئة للذمة.

ونتيجة للضبط المتقن والدقة البالغة في حفظ الأسانيد والتثتب منها حفظت السنة، وكشف كل مدسوس فيها.. وقد جيء إلى الرشيد بزنديق، فأمر بقتله فقال: يا أمير المؤمنين، أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم، أحرم فيها الحلال، وأحل فيها الحرام ما قال النبي منها حرفاً واحداً؟

فقال الرشيد: أين أنت يا زنديق من عبد الله بن المبارك، وأبي إسحاق الفزاري ينخلانها فيخرجانها حرفاً حرفاً[202].

قلت:  حدثني عن قصة حفظ السنة من أولها.

حفظ الصحابة:

قال: صدقت.. فلنبدأ القصة من أولها.

لقد كان أول من تولى حفظ سنة محمد هم أصحاب محمد.. فهم الذين نقلوا كل ما رأوه من أفعاله وأقواله.. وذلك ما لم يحصل في ديننا، فالأناجيل التي رويت فيها حياة المسيح لا تمثل إلا جزءا بسيطا مما روي عن حياة محمد، وهدي محمد.

بالإضافة إلى أن من تولى ذلك ـ خلافا لنا ـ هم أصحاب محمد أنفسهم.

لقد كانت أعينهم وآذانهم تلتقط كل حركة لرسول الله r، وكل قولة يقولها بكل دقة وتثبت.

وقد بلغ من حرصهم على هدي نبيهم أنهم كانوا يتناوبون ملازمته حتى لا يضيع شيء من هديه عنهم، فهذا عمر بن الخطاب يقول:«  كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ـ من عوالي المدينة ـ وكنا نتناوب النزول على رسول الله r، ينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك ليوم، وإذا نزل فعل مثل ذلك»[203]

وكانوا يقطعون المسافات الطويلة ليسألوا نبيهم عن حكم الله في بعض ما يعرض لهم، فعن عقبة بن الحارث: أن امرأة أخبرته أنها أرضعته هو وزوجه، فركب من فوره من مكة إلى رسول الله r بالمدينة، فلما بلغ رسول الله r سأله عن حكم الله فيمن تزوج امرأة لا يعلم أنها أخته من الرضاع، ثم أخبرته بذلك من أرضعتهما؟ فقال له النبي r:« كيف وقد قيل؟» ففارق زوجه لوقته، وتزوجت بغيره[204].

وكانوا حريصين على أن يسألوا أزواج نبيهم عن سيرته وسنته في بيته، وكانت النساء يذهبن إلى بيوت أزواج النبي يسألنهن عما يعرض لهن.

بل كانوا ـ لشدة التزامهم بهدي نبيهم ـ يلتزمون ما يفعل، ويتركون ما يترك دون أن يعرفوا لذلك حكمة، ودون أن يسألوا عن ذلك، ثقة منهم بأن فعله وحي، فعن ابن عمر قال:« اتخذ رسول الله r خاتمًا من ذهب، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، ثم نبذه النبي r، وقال:« إني لن ألبسه أبدًا »، فنبذ الناس خواتيمهم »[205] 

وعن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله r يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعها عن يساره، فلما رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم، فلما قضى صلاته قال:« ما حملكم على إلقاء نعالكم؟»، قالوا: يا رسول الله رأيناك ألقيت نعليك، فقال:« إن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا»[206]

وعن ابن مسعود أنه « جاء يوم الجمعة والنبي r يخطب، فسمعه يقول اجلسوا»، فجلس بباب المسجد ـ أي حيث سمع محمدا يقول ذلك ـ فرآه النبي r فقال:« تعال يا عبد الله بن مسعود »[207] 

قلت: فما الذي ولد فيهم كل هذا الحرص، بل كل هذا الذوبان فيما يصدر عن نبيهم؟

قال: لا يمكن للرسول ـ أي رسول ـ أن يبلغ دعوة ربه، وأن يهدي الناس إلى طريقه ما لم تتوفر في المتلقين عنه القابلية المطلقة لكل ما جاء به.

ولهذا جاءت النصوص الكثيرة تربي في نفوس الصحابة، ومن بعدهم، هذه القابلية التي تنم عن الثقة المطلقة بكل ما يقوله النبي، وكل ما يفعله.

ففي القرآن آيات كثيرة تدل على أن الله فرض على أتباع محمد اتباع كل ما يقوله ويفعله ويقره،  ففي القرآن:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ (النساء:59)، وفيه:﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ (النساء:80)

ففي هاتين الآيتين أمر صريح يعتبر طاعة الله وطاعة الرسول شيئا واحد لا يقبل أحدهما إلا مع الآخر.. وما طاعة الله إلا اتباع كتابه، وما طاعة الرسول إلا إتباع سنته.

ومن ذلك قوله:﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾ (الأحزاب:36)، وقوله:﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ (النساء:65)، ففي هاتين الآيتين إلزام باتباع حكم النبي، وما الحكم إلا جزء من أقواله أو أفعاله، وكلاهما من السنة.

ومثل ذلك الآيات التي تدل على أن الرسول لا يقول أو يفعل شيئًا في الدين إلا بوحي من عند الله، ففي القرآن:﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ (الأعراف:157)، فقد أسندت الآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحلال الحلال، وتحريم الحرام إلى الرسول مباشرة دون أن تقيد ذلك بكونه قرآنًا أو سنة.

ومثل ذلك قوله:﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم:3-4)، ففيها دليل على أن ما جاء به محمد من السنة إنما هو وحي من عند الله، وما كان من عند الله وجب اتباعه، لأن الله هو المشرع، فلذلك كانت السنة واجبة الاتباع.

ومثل ذلك الآيات التي تنص على أن ما يحرم الرسول بسنته مثل ما يحرم بالكتاب، كلاهما من عند الله، وذلك مثل قوله:﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾(التوبة:29)، فهذه الآية ذكرت نوعين من المحرمات: ما حرم الله، وما حرم رسوله، وجمعت بين الأمرين في جملة واحدة عاطفة ما حرم الرسول على ما حرم الله، وذلك يدل بوضوح على أن ما حرم الرسول هو مثل ما حرم الله، وأن الأمرين على منزلة واحدة من حجية التشريع وحكمه، وأن ما شرع الله في كتابه هو مثل ما شرع الرسول في سنته.

ليس هذا فقط..

بل هناك شيء آخر جعل في الصحابة، ومن بعدهم ذلك الحرص الشديد على حفظ السنة..

أنت تعلم أن القرآن هو الكتاب الذي يحمل الحقائق الكبرى التي ينبني عليها الإسلام، وهو لذلك لم يتفرغ لتفصيل الكثير من الأمور العملية، فكانت السنة هي الهدي الذي يكمل القرآن..

والقرآن في ذلك كالقوانين التي تحتاج إلى مذكرات تفسيرية، وقد كانت السنة هي خير مذكرة تفسيرية للقرآن، وذلك ما يشير إليه القرآن نفسه، ففيه:﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل:44)

ففي الصلاة التي ورد الأمر بها مجملا في القرآن نجد في السنة التفاصيل الكثيرة المبينة لها، حيث بين محمد أركانها ومواقيتها وشروطها وكيفية التعامل مع الأخطاء التي قد تقع فيها.

ومثل ذلك في الزكاة، حيث  بيّن حقيقتها، وعلى من تجب، وبيّن أنصبتها، والمقادير المخرجة منها.

ومثل ذلك في الصيام، حيث بين تفاصيل المفطرات وعلى من يجب وما هي مواقيته وما هي سننه وغير ذلك كثير.

ومثل ذلك في الحج، فقد بين محمد أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، وبيّن ما يلبس المحرم مما لا يلبسه، وحدّد مواقيت الحج والعمرة وبيّن عدد الطواف وكيفيته، وكلّ ذلك ليس في القرآن تفاصيل بيانه.

ومثل ذلك سائر الأحكام..

وقد كان محمد ينبههم إلى أخذ كل ذلك عنه، فيقول في الحج:« خذوا عني مناسككم»[208] 

ويقول في الصلاة:« صلوا كما رأيتموني أصلي»[209]

ويقول في سائر الأمور:« كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى »، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال:« من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى»[210] 

وقد عرف الصحابة ذلك، فكانوا يعرفون للسنة قدرها، فهذا جابر بن عبد الله يقول أثناء سرده صفة الحج:« ورسول الله r بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به»[211]

وعن ابن عمر قال: قال رسول الله r: « ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد » فقال ابن له، يقال له واقد: إذن يتخذنه دَغَلاً، قال: فضرب في صدره وقال: أحدثك عن رسول الله r، وتقول: لا »[212]   

وعن عمران بن حصين أنه ذكر الشفاعة، فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد، إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاً ووجدت المغرب ثلاثاً، والغداة ركعتين، والظهر أربعاً والعصر أربعاً؟ قال: لا. قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنّا أخذتمونا وأخذناه عن رسول الله r؟ أوجدتم فيه: في كل أربعين شاة شاة، وفي كل كذا بعيراً كذا، وفي كل كذا درهماً كذا؟ قال: لا. قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن النبي r؟ وقال: في القرآن:﴿ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾(الحج: 29). أوجدتم في القرآن: « لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام»؟ أما سمعتم الله قال في كتابه:﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ قال عمران:« فقد أخذنا عن رسول الله أشياء ليس لكم بها علم »[213]  

وعن أيوب السختياني أن رجلاً قال لمطرف بن عبد الله بن الشخير: لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال له مطرف:« والله ما نريد بالقرآن بدلاً ؛ ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا »[214]  

قلت: لك أن تقول ذلك.. ولكنه ورد في المقابل أن كبار أصحاب محمد كانوا يكرهون رواية الحديث، بل كان عمر يهدد رواة السنة، بل إنه نفذ وعيده، فحبس ثلاثة من الصحابة بسبب إكثارهم من رواية السنة.

قال:  لم يكن الصحابة يكرهون رواية الحديث، وإنما كانوا يخشون روايته ويهابون من ذلك، لعظم المسؤولية، ولما ورد من الوعيد على من يكذب على محمد.

أما دعوى حبس عمر ثلاثة من الصحابة، وهم عبد الله بن مسعود، وأبو ذر، وأبو الدرداء، بسبب روايتهم للحديث، فهي رواية غير صحيحة جرت على الألسنة من غير تحقيق في صحتها.

وقد تولى تمحيص هذه الدعوى ابن حزم، وبين انقطاعها وعدم صحتها، ثم قال معقبا:« إن الخبر في نفسه ظاهر الكذب والتوليد، لأنه لا يخلو: إما أن يكون عمر اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث وتبليغ السنة وألزمهم كتمانها وعدم تبليغها، وهذا خروج عن الإسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، وهذا قول لا يقول به مسلم، ولئن كان حبسهم وهم غير متهمين فلقد ظلمهم، فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات أي الطريقين الخبيثين شاء »[215]  

حفظ التابعين:

قلت: فلنفرض أن السنة حفظت في عهد الصحابة، وقد كان لهم من الورع ما جعلهم يحفظون سنة نبيهم، فهل توفر مثل هذا الورع لمن بعدهم؟

قال: أجل.. لقد قام الصحابة الذين تربوا على يد رسول الله r بنقل ذلك لمن بعدهم.. بل قد ربى الصحابة أجيالا من أمة محمد لا يقلون ورعا ولا دينا ولا حرصا من الصحابة أنفسهم.

وهكذا من جاء بعدهم من تابعيهم ومَن بعدهم إلى أن اكتمل تدوين علم الحديث في الكتب المصنفة التي تناقلتها الآلاف المؤلفة من المسلمين جيلاً بعد جيل عن طريق الحفظ والكتابة معاً، بحيث يستحيل معه التشكيك فيها وفي نسبتها إلى مؤلفيها [216].

قلت: لقد ابتدأ الكذب في الحديث في الزمن الأول، فكيف ميز المحدثون بين الصحيح والمكذوب؟

قال: لما ظهر الكذب على الرسول، وخشي الحريصون على الدين من أن يصيبه ما أصاب سائر الأديان من تحريف وضعوا ضوابط شديدة تقي الحديث من هؤلاء العابثين، وهي من الشدة بحيث لا تكاد تختلف عن الضوابط التي يضعها الشرطة في تحقيقاتهم ليحققوا الأمن.

لقد أسس هؤلاء العلماء دواوين ضخمة تشمل ما يسمى بعلم الرجال والتاريخ والجرح والتعديل، والذي ضم آلاف الرواة مبيناً حال كل راوٍ من حيث أنه معروف أو مجهول، ومن حيث مدى حفظه وضبطه وإتقانه وشيوخه وتلاميذه وسنة ولادته وسنة موته، وهل بقي حفظه كما هو أم تغير في آخر عمره لِكِبَر سنِّه، أو لحادثٍ أصابه، وما أشبه ذلك من مقاييس الجرح والتعديل، بل وصل الأمر إلى جمع روايات الثقات العدول ومقارنتها لمعرفة إن كان أحدهم قد وهم في لفظة أو جملة.

وقد وضع  علماء الحديث خمسة شروط لقبول الأحاديث النبوية: ثلاثة منها في السند، واثنان في المتن [217]:

1 ـ فلابد في السند من راو واع يضبط ما يسمع، ويحكيه بعدئذ طبق الأصل..

2 ـ ومع هذا الوعي الذكي لابد من خلق متين وضمير يتقي الله ويرفض أي تحريف.

3 ـ وهاتان الصفتان يجب أن يطردا في سلسلة الرواة، فإذا اختلتا في راو أو اضطربت إحداهما فإن الحديث يسقط عن درجة الصحة.

وهم لا يكتفون بهذين الشرطين، بل ينظرون بعد السند المقبول الى المتن الذي جاء به، أي الى نص الحديث نفسه..

4 ـ فيجب ألا يكون شاذا.

5 ـ وألا تكون به علة قادحة.

والشذوذ أن يخالف الراوي الثقة من هو أوثق به.. والعلة القادحة عيب يبصره المحققون في الحديث فيردونه به..

وهذه الشروط ضمان كاف لدقة النقل وقبول الآثار.. ولا أعرف في تاريخ الثقافة الإنسانية نظيرا لهذا التأصيل والتوثيق.

وقد توفر للسنة المحمدية علماء أولو غيرة وتقوى بلغوا بها المدى، وكانت غربلتهم للأسانيد مثار الثناء والإعجاب، ثم انضم اليهم الفقهاء في ملاحظة المتون، واستبعاد الشاذ والمعلول.

ذلك أن الحكم بسلامة المتن يتطلب علما بالقرآن، وإحاطة بدلالاته القريبة والبعيدة، وعلما آخر بشتى المرويات المنقولة لإمكان الموازنة والترجيح بين بعضها والبعض الآخر[218].

وقد كان عمل الفقهاء متمما لعمل المحدثين، وحارسا للسنة من أي خلل قد يتسلل اليها عن ذهول أو تساهل.

بالإضافة إلى هذا، فقد وضع العلماء لمعرفة الحديث الموضوع الكثير من الضوابط التي تعين على إدراكه ليُعرف فيحذرَ..

منها اشتمال الحديث على مجازفات لا تتناسب مع ما ورد في سائر الأحاديث من أنواع الجزاء، وذلك مثل ما ورد في الحديث المكذوب:« من صلى الضحى كذا وكذا ركعة أعطي ثواب سبعين نبياً »، قال ابن القيم معلقا عليه:« وكأن هذا الكذاب الخبيث لم يعلم أن غير النبي لو صلى عمر نوح u لم يعط ثواب نبي واحد »[219]

ومنها سماجة الحديث وكونه مما يسخر منه كحديث:«  لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً، ما أكله جائع إلا أشبعه »

ومنها مناقضة الحديث لما جاءت به السنة الصريحة المتواترة مناقضة بينة، ولهذا حكموا على كل حديث يشتمل على فساد أو ظلم أو عبث أو مدح باطل أو ذم حق، بكونه مكذوبا موضوعا.

ومنها أن يكون الحديث باطلاً في نفسه كحديث:« المجرة التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش »[220] 

ومنها أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا مثل قوله:« إذا كان سنة كذا وكذا وقع كيت وكيت، وإذا كان شهر كذا وكذا وقع كيت وكيت »

ومنها مخالفة الحديث صريح القرآن كحديث مقدار الدنيا وأنها سبعة آلاف سنة، قال ابن قيم الجوزية:« وهذا من أبين الكذب، لأنه لو كان صحيحاً لكان كل أحد عالماً أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا مئتان وإحدى وخمسون سنة، قال تعالى:﴿  يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ (الأعراف:187)»[221]

ومنها أن تكون ألفاظ الحديث أو معانيه ركيكة يمجها السمع ويدفعها الطبع ويسمج معناها للفطن، كحديث:« إن لله ملكاً من حجارة يقال له: عمارة ينزل على حمار من حجارة كل يوم فيسعر الأسعار ثم يعرج »[222]

ومنها ما يقترن بالحديث من القرائن التي يُعلم بها أنه باطل مثل حديث وضع الجزية عن أهل خيبر، قال ابن القيم:« وهذا كذب من عدة وجوه: أحدها أن فيه شهادة سعد بن معاذ، وسعد قد توفي قبل ذلك في غزوة الخندق، ثانيها: أن فيه (وكتب معاوية بن أبي سفيان) هكذا، ومعاوية إنما أسلم زمن الفتح، وكان من الطلقاء»[223]

ولم يكتف المحدثون بهذا، بل أفردوا الموضوعات بكتب تحذر منها.. ككتاب (الموضوعات) لابن الجوزي، والذي اشتمل على نحو خمسين كتاباً على ترتيب الكتب المصنفة في الفقه.

كما أن كتب العلل تذكر كثيراً من الحديث الموضوع، فهي السباقة لتنبيه الناس إلى الأحاديث الموضوعة.

ولم يقتصروا على ذلك، بل ألّفوا كتباً لبيان الضعفاء والمتروكين والوضاعين وأحاديثهم كالضعفاء للعقيلي والكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي وكتاباهما جامعان لما سبقهما من الكتب المؤلفة في الضعفاء كالضعفاء لعلي بن المديني والضعفاء للبخاري والشجرة في أحوال الرجال للجوزجاني والضعفاء والمتروكين للنسائي.

شبهات وردود:

قلت: لقد تعرضت سنة محمد لكثير من شبهات المستشرقين [224] من إخوانك كما تعرض القرآن.. ألا تراها قد أثرت في مصداقيتها؟

ابتسم، وقال: وهل ترى الرياح العاتية أثرت على هذه الشجرة؟

قلت: لا.. وإلا لما بقي لها وجود.

قال: فكذلك أولئك المتلاعبون من أصحابي.. كان المساكين لا يرضيهم إلا أن يجدوا من الشبه ما يحاولون به أن يحجبوا ضوء الشمس، ولم يكن لهم من العلم الكافي ما يخول لهم أن يتحدثوا فيما تحدثوا فيه، فلذلك كان كلامهم لا يزيدهم إلا وصما بالجهالة.

قلت: لقد لقنت في مراحل تعليمي الكثير من الشبه في هذا الجانب، فهل تأذن لي بطرحها؟

قال: لقد لقنت مثلك تلك الشبه.. فاطرح ما تشاء منها[225].

قلت: من الشبهات التي ذكرها الكثير من المستشرقين.. ومن قديم.. هي أن الحديث بقي مائتي سنة غير مكتوب، ثم بعد هذه المدة الطويلة قرر المحدثون جمع الحديث.

قال: لقد قرأت هذه الشبهة عن عدد من المستشرقين منهم جولد تسيهر وشبرنجر، ودوزي، فقد عقد جولد تسيهر فصلاً خاصاً حول تدوين الحديث في كتابه (دراسات إسلامية)، وشكك في صحة وجود صحف كثيرة في عهد محمد، ورأى شبرنجر في كتابه (الحديث عند العرب) أن الشروع في التدوين وقع في القرن الهجري الثاني، وأن السنة انتقلت بطريق المشافهة فقط، أما دوزي فهو ينكر نسبة هذه (التركة المجهولة)ـ بزعمه ـ من الأحاديث إلى محمد.

وقد أراد المستشرقون من وراء هذه المزاعم إضعاف الثقة باستظهار السنة وحفظها في الصدور، والتشكيك في صحة الحديث واتهامه بالاختلاق والوضع على ألسنة المدونين، وأنهم لم يجمعوا من الأحاديث إلا ما يوافق أهواءهم، وصاروا يأخذون عمن سمعوا الأحاديث، فصار هؤلاء يقول الواحد منهم: سمعت فلاناً يقول سمعت فلاناً عن النبي r، وبما أن الفتنة أدت إلى ظهور الانقسامات والفرق السياسية، فقد قامت بعض الفرق بوضع أحاديث مزورة حتى تثبت أنها على الحق، وقد قام علماء الحديث بدراسة أقسام الحديث ونوعوه إلى أقسام كثيرة جداً، وعلى هذا يصعب الحكم بأن هذا الحديث صحيح، أو هذا الحديث موضوع.

قلت: لقد عرفت من تاريخ إيراد هذه الشبهة ما عرفت.. ولم أرد منك أن تحدثني عنه.. وإنما أردت عن كيفية صمود الحديث أمامها.

قال: هذه شبهة متهافتة.. لو طبقناها على جميع التراث الإنساني لما بقي هناك أي تراث.. فكثير من التراث الإنساني لم ينقل لنا إلا بهذا الطريق.

لقد كان العمدة فيه هو الوثوق في الشهود، ودقة شهادتهم.

أجبني.. لو أن شيخا كبيرا بلغ من العمر عتيا جاء يحدثك عن شبابه.. وكنت لا تشك في صدقه.. أتراك تطالبه بذكريات مسجلة حتى تصدقه، أم تكتفي منه بما حكى لك؟

قلت: بل أكتفي بما حكى لي.. فلا يمكن لشخص من الناس أن يسجل كل ما يحصل له.

قال: فهكذا حصل الأمر.. لقد كان أصحاب محمد في معرض تعليمهم للتابعين يذكرون لهم ما حصل في عهد نبيهم، وما قال لهم في المواقف المختلفة، وكان التابعون الكثيرون الذين كان لهم شوق عظيم للتراث الذي تركه نبيهم يحرصون على تلك الأحاديث، فيحفظونها أو يسجلونها في قراطيسهم الخاصة لينقلوها لمن بعدهم.. وهكذا حتى جاء زمن التصنيف الذي لم يبتعد كثيرا عن زمن النبوة.

سكت قليلا، ثم قال: إن المنطق يقتضي تأخر كتابة هذا النوع من النصوص..

سأضرب لك مثالا يقرب لك هذا [226]..

لنفترض أنّ تابعيّاً سأل صحابيّاً عن حكم أكل لحم الضّب، ولنفترض أنّ الإجابة كانت: كنتُ يوماً آكل لحم الضب والرسول، ينظر.. ولنفترض أنّه حصل بعد خمسين سنة أن سُئل هذا التابعي، السؤال الآتي: بما أنّكم عاصرتم الصحابة، فهل تعلمون شيئاً في حكم أكل لحم الضب؟.. سيكون جواب التابعي حينها: نعم سألتُ يوماً الصحابي الفلاني عن ذلك فقال: إنّه كان يأكل لحم الضب والرسولُ ينظر.

فليس كل ما كان يعرفه الصحابي يكتبه أو يفطن إلى ضرورة ذكره، حتى يأتي أحد التابعين فيسأل الصحابي فيجيب بما يعرف. وقد يكتفى هذا التابعي بما سمع ولا يخطر بباله أن يكتب، حتى يأتي أحد أتباع التابعين، بعد خمسين سنة مثلاً، فيسأل عن ذلك، ويدون الجواب، إن كان من أهل العلم والاعتناء بالحديث.

ولهذا كان من الطبيعي أن يُكتب الحديث في أكثر من عصر، لعدم إمكانية أن يَكتُب الصحابة كل ما لديهم من علم.

فحتى تتم كتابة الحديث بالكامل لا بد من انقضاء عصر محمد، ثم عصر الصحابة، ثم عصر التابعين؛ لأنّ الحديث يتعلّق بكل ما ورد عن محمد من قول أو فعل أو تقرير أو صِفه، وهذا يُحتّم أن يقوم التابعون باستفراغ كل ما عند الصحابة من حديث، بالتتلمذ عليهم والإكثار من سؤالهم، ويُحتّم أيضاً أن يستفرغ أتباع التابعين ما عند التابعين من حديث، بالتتلمذ عليهم والإكثار من سؤالهم.

وهكذا إلى أن دخل عصر التصنيف ابتداء من تابعي التابعين..

بالإضافة إلى ذلك.. فإن تصنيف الحديث على الأبواب في المصنفات والجوامع ـ والذي يشير أولئك المستشرقين إلى تأخره ـ ليس إلا مرحلة متطورة متقدمة جداً في كتابة الحديث، وقد تم ذلك قبل سنة 200 للهجرة بكثير، فتم في أوائل القرن الثاني، بين سنة 120 ـ 130 هـ، بدليل الواقع الذي بين لنا ذلك، فهناك جملة من هذه الكتب مات مصنفوها في منتصف المائة الثانية، مثل جامع معمر بن راشد، وجامع سفيان الثوري، وهشام بن حسان، وابن جريج، وغيرها كثير.

بالإضافة إلى هذا.. فقد ذكرنا أن علماء الحديث وضعوا شروطاً لقبول الحديث، تكفل نقله عبر الأجيال بأمانة وضبط، حتى يُؤدَّى كما سُمِع من نبيهم، فهناك شروط اشترطوها في الراوي تضمن فيه غاية الصدق والعدالة والأمانة، مع الإدراك التام لتصرفاته وتحمل المسئولية، كما أنها تضمن فيه قوة الحفظ والضبط بصدره أو بكتابه أو بهما معاً، مما يمكنه من استحضار الحديث وأدائه كما سمعه، ويتضح ذلك من الشروط التي اشترطها المحدثون للصحيح والحسن والتي تكفل ثقة الرواة، ثم سلامة تناقل الحديث بين حلقات الإسناد، وسلامته من القوادح الظاهرة والخفية، ودقة تطبيق المحدثين لهذه الشروط والقواعد في الحكم على الحديث بالضعف لمجرد فقد دليل على صحته، من غير أن ينتظروا قيام دليل مضاد له.

ولم يكتف علماء الحديث بهذا، بل وضعوا شروطاً في الرواية المكتوبة لم يتنبه لها أولئك المتحاملون على ما لا يعلمون، فقد اشترط المحدثون في الرواية المكتوبة شروط الحديث الصحيح، ولذلك نجد على مخطوطات الحديث تسلسل سند الكتاب من راوٍ إلى آخر حتى يبلغ مؤلفه، ونجد عليها إثبات السماعات، وخط المؤلف أو الشيخ المسمَع الذي يروي النسخة عن نسخة المؤلف أو عن فرعها، فكان منهج المحدثين بذلك أقوى وأحكم وأعظم حيطة من أي منهج في تمحيص الروايات والمستندات المكتوبة.

بالإضافة إلى هذا كله، فإن البحث عن الإسناد لم ينتظر مائتي سنة كما زعموا، بل فتش الصحابة عن الإسناد منذ العهد الأول حين وقعت الفتنة سنة 35 هجرية لصيانة الحديث من الدس، وضرب المسلمون للعالم المثل الفريد في التفتيش عن الأسانيد، حيث رحلوا إلى شتى الآفاق بحثاً عنها واختباراً لرواة الحديث، حتى اعتبرت الرحلة شرطاً أساسياً لتكوين المحدث.

بالإضافة إلى هذا كله، فقد وردت النصوص الكثيرة التي تثبت اهتمام أصحاب محمد بتدوين أحاديثه في حياته وبعد مماته بإذن منه.

فعن أبي هريرة قال:« ما من أصحاب النبي r أحد أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من حديث عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب »[227]، وعنه قال: « لما فتح الله على رسوله r مكة.. فقام أبو شاه ـ رجل من أهل اليمن ـ فقال: اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله r:« اكتبوا لأبي شاه »[228]

وعن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة، قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر»[229]

وعن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وسئل أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق، قال: فأخرج منه كتاباً، قال: « فقال عبد الله: بينا نحن حول رسول الله r نكتب إذ سئل رسول الله r أي المدينتين تفتح أولاً:قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله r:« مدينة هرقل تفتح أولاً يعني قسطنطينية »[230] 

ففي هذه الأحاديث وغيرها كثير دليل صريح على أن الصحابة كانوا يكتبون الأحاديث النبوية، وقد كانت لبعضهم صحائف مثل صحيفة عبد الله بن عمرو وصحيفة جابر بن عبد الله، وقد أحصى الدكتور محمد مصطفى الأعظمي الصحابة الذين كانوا يكتبون أو كانت لهم صحف، فبلغ عددهم اثنين وخمسين صحابيا[231].

وبعد الصحابة نجد أن الكتابة انتشرت أكثر من جيل الصحابة، فقد أوصل محمد مصطفى الأعظمي التابعين الذين كانت لهم صحائف ورسائل إلى أكثر من اثنين وخمسين ومائة تابعي[232].

ومما شجع على ذلك أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بكتابة الحديث، فقد روي أنه كتب إلى الآفاق:« انظروا حديث رسول الله r فاجمعوه »[233]

وأصدر أمره إلى أبي بكر بن حزم أن « انظر ما كان من حديث رسول الله r فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء »[234]

وأما جيل تابعي التابعين، فقد أخذت كتابة الأحاديث النبوية منحى آخر إذ أضيف إليها آثار الصحابة والتابعين، وصُنفت على حسب الكتب والأبواب الفقهية.

وما من حاضرة من حواضر العالم الإسلامي إلا وقام علماؤها بتدوين هذه الكتب وتصنيفها، وكانت هذه الكتب مادة أساسية للكتب الستة، قال ابن حجر:« ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع، فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة فدونوا الأحكام، فصنف الإمام مالك الموطأ وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم، وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة، وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي r خاصة، وذلك على رأس المائتين، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسنداً، وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسنداً، وصنف أسد بن موسى الأموي مسنداً، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسنداً، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد، كالإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من النبلاء، ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معاً، كأبي بكر بن أبي شيبة »[235]  

قلت: ولكن لماذا لم يهتم المسلمون بكتابة الحديث بنفس الاهتمام الذي اهتموا فيه بكتابة القرآن؟

قال: لقد كان ذلك من أقوى أسباب صمود هذا الدين بمصادره وثمراته.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألا ترى أن كتبنا اختلط فيها الوحي بالتاريخ وبالحكايات وبالأوصاف المملة؟

قلت: أجل.. لك أن تقول ذلك.

قال: فسبب ذلك هو هذا الاختلاط.. حيث يترك للراوي حرية الحديث كما يشاء، فيخلط الوحي المقدس بما شاء له هواه أو شاءت له ثرثرته من الكلام.

لكن الإسلام حمى كتابه المقدس من ذلك.. فتميز القرآن عن السنة، وكان هذا من مظاهر ذلك التميز.

بالإضافة إلى هذا.. فأنت تعلم البيئة التي كان فيها محمد.. لقد كان العرب أمة أمية، وكان يندر فيهم الكتبة، وكانت أدوات الكتابة عزيزة ونادرة، حتى إن القرآن كان يكتب على جريد النخل والعظام والجلود، وقد عاش محمد بين أصحابه بعد البعثة ثلاثًا وعشرين سنة، ولهذا كان التكليف بكتابة الحديث كله أمرا ًفي غاية الصعوبة والمشقة، لأنه يشمل جميع أقواله وأفعاله وأحواله وتقريراته وِما يحتاجه هذا العمل من تفرغ عدد كبير من الصحابة له، مع الأخذ في الاعتبار أن الصحابة كانوا محتاجين إلى السعي في مصالحهم ومعايشهم، وأنهم لم يكونوا جميعا يحسنون الكتابة، بل كان الكاتبون منهم أفراداً قلائل، فكان تركيز هؤلاء الكتبة من الصحابة على كتابة القرآن دون غيره حتى يؤدوه لمن بعدهم تامًا مضبوطًا لا يُنْقص منه حرف.

ومن أجل ذلك اقتصر التكليف على كتابة ما ينزل من القرآن شيئاً فشيئاً حتى جمع القرآن كله في الصحف.

ثم إنه لم يحصل لحفاظ السنة في عهد الصحابة ما حصل لحفاظ القرآن، فقد استحرَّ القتل بحفاظ القرآن من الصحابة، أما السنة فإن الصحابة الذي رووا الحديث عن محمد كانوا كثر، ولم يحصل أن استحر القتل فيهم قبل تلقي التابعين عنهم.

ومن الأسباب المهمة لذلك أيضاً أن السنة كانت متشعبة الوقائع والأحداث فلا يمكن جمعها كلها بيقين، ولو جمع الصحابة ما أمكنهم فربما كان ذلك سبباً في رد من بعدهم ما فاتهم منها ظناً منهم أن ما جمع هو كل السنة.

ثم إن جمعها في الكتب قبل استحكام أمر القرآن كان عرضة لأن يُقبِل الناس على تلك الكتب، ويدعوا القرآن، فلذلك رأوا أن يكتفوا بنشرها عن طريق الرواية، وبعض الكتابات الخاصة.

أضف إلى ذلك كله أن القرآن يختلف عن السنة من حيث أنه متعبد بتلاوته، معجز في نظمه ولا تجوز روايته بالمعنى، بل لا بد من الحفاظ على لفظه المنزل، فلو ترك للحافظة فقط لما أمن أن يزاد فيه حرف أو ينقص منه، أو تبدل كلمة بأخرى، بينما السنة المقصود منها المعنى دون اللفظ، ولذا لم يتعبد الله الخلق بتلاوتها، ولم يتحداهم بنظمها، وتجوز روايتها بالمعنى، وفي روايتها بالمعنى تيسير على الأمة وتخفيف عنها في تحملها وآدائها.

قلت: لدي شبهة أخرى ترتبط بهذا.

قال: ترتبط بالرواية بالمعنى.

قلت: أجل.. فكل الروايات التي نسبت إلى محمد جاءت بالمعنى، ولم تأت بألفاظه.. والمعروف أن تغيير اللفظ موجب لتغيير المعنى ولو يسيرا.

قال: أولا.. لقد حث محمد أتباعه على أن ينقلوا عنه سنته ويُعْنَوْا بها ويبلِّغوها كما سمعوها منه فقال:« نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلّغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع »[236]

وقد حرص أتباع محمد على ذلك حرصا شديدا.. ونحسب أن الكثير مما رووه من أقواله من هذا النوع..

ولكن مع ذلك.. فإن العلماء لم يتركوا رواية الحديث بالمعنى لهوى الرواة، بل وضعوا لرواية الحديث بالمعنى ضوابط تكفل صونه من تغيير المعنى، قال الخطيب البغدادي قال جمهور الفقهاء: يجوز للعالم بمواقع الخطاب ومعاني الألفاظ رواية الحديث على المعنى، وليس بين أهل العلم خلاف في أن ذلك لا يجوز للجاهل بمعنى الكلام وموقع الخطاب، والمحتمل منه وغير المحتمل.. فأما الدليل على أنه ليس للجاهل بمواقع الخطاب، وبالمتفق معناه والمختلف من الألفاظ فهو أنه لا يؤمن عليه إبدال اللفظ بخلافه بل هو الغالب من أمره.

وأما الدليل على جواز ذلك للعالم بمعناه فهو اتفاق الأمة على أن للعالم بمعنى خبر النبي r وللسامع بقوله أن ينقل معنى خبره بغير لفظه وغير اللغة العربية، وأن الواجب على رسله وسفرائه إلى أهل اللغات المختلفة من العجم وغيرهم أن يرووا عنه ما سمعوه وحملوه مما أخبرهم به وتعبدهم بفعله على ألسنة رسله سيما إذا كان السفير يعرف اللغتين.. وإذا ثبت ذلك صح أن القصد برواية خبره وأمره ونهيه إصابة معناه وامتثال موجبه، دون إيراد نفس لفظه وصورته.

وعلى هذا الوجه لزم العجم وغيرهم من سائر الأمم دعوة الرسول إلى دينه والعلم بأحكامه.

ويدل على ذلك أنه إنما ينكر الكذب والتحريف على رسول الله r وتغيير معنى اللفظ، فإذا سلم راوي الحديث على المعنى من ذلك كان مخبرا بالمعنى المقصود من اللفظ، وصادقا على الرسول r »[237]  

وقد ضرب المعلمي مثالا يبين صحة هذا، ما دام لا يؤثر على المعنى، فقال ولو قلت لابنك: اذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك، فذهب وقال له: والدي ـ أو الوالد ـ يدعوك، أو يطلب مجيئك إليه، أو أمرني أن أدعوك له، لكان مطيعا صادقاً، ولو اطلعت بعد ذلك على ما قال، فزعمت أنه قد عصى أو كذب وأردت أن تعاقبه لأنكر العقلاء عليك ذلك، وقد قص الله عز وجل في القرآن كثيرا من أقوال خلقه بغير ألفاظهم ؛ لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحد المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمي، ومنه ما يأتي في موضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر، فبالنظر إلى أداء المعنى كرر النبي r بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب»[238]  

بالإضافة إلى هذا، فإن الأحاديث ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال محمد، وهي كثيرة، ومنها ما أصله قولي، ولكن الصحابي لا يذكر القول، بل يقول: أمرنا النبي r بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، أو أذن في كذا، وأشباه هذا وهذا كثير أيضا.

بالإضافة إلى هذا، فمن تتبع الأحاديث التي يرويها صحابيان أو أكثر ووقع اختلاف بينهما، فسيرى أن هذا الاختلاف يقع في بعض الألفاظ، وهو يبين أن الصحابة لم يكونوا إذ حكوا قول محمد يهملون ألفاظه البتة، لكن منهم من يحاول أن يؤديها فيقع له تقديم وتأخير، أو إبدال الكلمة بمرادفها ونحو ذلك.

ومع هذا فقد عرف عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يتحرون ضبط الألفاظ، وكان ابن عمر ممن شدد في ذلك، وقد آتاهم الله من جودة الحفظ ما أتاهم.

فعلى هذا ما كان من أحاديث المشهورين بالتحفظ فهو بلفظ محمد، وما كان من حديث غيرهم فالظاهر ذلك ؛ لأنهم كلهم كانوا يتحرون ما أمكنهم، ويبقى النظر في تصرف من بعدهم[239].

قلت: لدي شبهة أخرى ترتبط برواة الحديث.. فقد كان من حَمَلَةَ السنة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من كانوا جنودا للسلاطين والملوك في العصر الأموي والعباسي، فكانوا ـ لذلك ـ يضعون لهم من الأحاديث ما يوافق رغباتهم ويثبت ملكهم.

قال: أولا.. هذه المقولة تدل على جهل كبير بالسنة، فليس هناك حديث واحد في فضل بني أمية، بل هناك أحاديث كثيرة في ذمهم، وفي ذم منهج الحكم الذي جاءوا به[240].. وهو ما ينطبق على منهج الحكم الذي استمر عليه العباسيون.

بالإضافة إلى هذا فقد كان موقف الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الإسلام من ملوكهم وأمرائهم معروفة، فالنماذج المشرفة الدالة على ذلك كثيرة، فمنها موقف أبي سعيد الخدري من مروان والي المدينة، وموقـف ابن عمر من الحجاج، وموقف الإمام الزهري مع هشـام بن عبد الملك الأموي، وغيرهم كثير.

بالإضافة إلى هذا.. فقد كان المحدثون ـ خوفا من الكذب على نبيهم ـ لا يحابون في حكمهم على الرجال أحدا لا أبا ولا ابنا ولا أخا ولا صديقا ولا شيخا.

فهناك أمثلة كثيرة على نزاهتهم في حكمهم على الرجال:

فمنهم المُجَرِّحُونَ لآبائهم، كالإمام علي بن المديني الذي سئل عن أبيه فقال:« سلوا عنه غيري »، فأعادوا المسألة، فأطرق ثم رفع رأسه فقال:« هُوَ الدِّينُ، إِنَّهُ ضَعِيفٌ»

ومنهم المجرحون لأبنائهم، كالإمام أبي داود السجستاني صاحب السنن الذي قال ابني عبد الله كذاب »

ومنهم المجرحون لإخوانهم، كزيد بن أبي أنيسة الذي قال:« لا تأخذوا عن أخي يحيى المذكور بالكذب »

ومنهم المجرحون لأصهارهم وأختانهم، كشعبة بن الحجاج الذي قال:« لو حابيت أحدا لحابيت هشام بن حسان كان خَتَنِي، ولم يكن يحفظ »

ومنهم المجرحون لبعض أقاربهم، كأبي عروبة الحراني الذي قال عن الحسين بن أبي السري العسقلاني:« هو خال أمي، وهو كذاب »

بل منهم الذين لم يحابوا مشايخهم، فقد روى الإمام ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن مهدي قال: اختلفوا يوما عند شعبة، فقالوا: اجعل بيننا وبينك حكما فقال: قد رضيت بالأحول يعني: يحيى بن سعيد القطان، فما برحنا حتى جاء يحيى فتحاكموا إليه فقضى على شعبة وهو شيخه ومنه تعلم وبه تخرج، فقال له شعبة: ومن يطيق نقدك ـ أو من له مثل نقدك ـ يا أحول؟!

قال ابن أبي حاتم: هذه غاية المنزلة ليحيى بن سعيد القطان إذ اختاره شيخه شعبة من بين أهل العلم، ثم بلغ من عدالته بنفسه وصلابته في دينه أن قضى على شعبة شيخه ومعلمه.

وبلغ من نزاهة أئمة الحديث أنهم كانوا لا يقبلون شفاعة إخوانهم للسكوت عمن يرون جرحه، وكيف يرتضون تلك الواسطة وهم الذين طعنوا في أبنائهم وآبائهم وإخوانهم لما رأوا منهم ما يستوجب القدح.

قلت: هناك شبهة أخرى يرددها الكثير من المستشرقين، وهي أن نقد المحدثين اقتصر على نقد الإسناد، ولم يشمل نقد المتون، قال غاستون ويت:« وقد درس رجال الحديث السنة بإتقان إلا أن تلك الدراسة كانت موجهة إلى السند ومعرفة الرجال والتقائهم وسماع بعضهم من بعض »

ثم قال:« لقد نقل لنا الرواة حديث الرسول مشافهة ثم جَمَعَهُ الحُفَّاظ ودوَّنُوه إلا أن هؤلاء لم ينقدوا المتن لذلك لسنا متأكدين من أن الحديث قد وصلنا كما هو عن محمد من غير أن يضيف إليه الرواة شيئا عن حسن نية في أثناء روايتهم الحديث »

قال: لقد عرفنا في عرضنا السابق اهتمام علماء الحديث بدراسة متن الحديث، بل إنهم استوفوا تلك الدراسة، وبذلوا قصارى جهدهم في العناية بها بحيث لا يوجد مزيد على ما قدموه.

وقد عرفنا أن صحة إسناد الحديث لا تعني بالضرورة صحة الحديث لأن من شروط الصحيح ألا يكون شاذا ولا معللا، والشذوذ والعلة يكونان في السند كما يكونان في المتن، فقد يصح إسناد حديث ما ويكون في متنه علة قادحة تقدح في صحته، وهكذا الشذوذ.

ولذا لم تكن دراستهم قاصرة على الأسانيد، وإنما بحثوا في علل المتون وشذوذها، وجمعت أبحاثهم هذه في علل المتون والأسانيد في مصنفاتهم من كتب العلل وهي كثيرة.

ومن أجل ذلك نشأت علوم لا تكتفي بدراسة الإسناد بل تعني بدراسة الإسناد والمتن جميعا فمن ذلك: الحديث المقلوب، والمضطرب، والمدرج، والمعلل، والمصحف، والموضوع، وزيادة الثقة.

كما أنشئت علوم تتعلق بدراسة المتن خاصة من ذلك غريب الحديث، أسباب وروده، ناسخه ومنسوخة، مشكله، ومحكمه.

يقول الدكتور صبحي الصالح صاحب كتاب علوم الحديث و مصطلحه مؤكدا عدم تفرقة المحدثين بين السند والمتن في حكمهم على الحديث:« على أننا لا نرتكب الحماقة التي لا يزال المستشرقون، وتلامذتهم المخدوعون بعلمهم (الغزير) يرتكبونها كلما عرضوا للحديث النبوي، إذ يفصلون بين السند والمتن مثلما يفصل بين خصمين لا يلتقيان أو ضرتين لا تجتمعان، فمقاييس المحدثين في السند لا تفصل عن مقاييسهم في المتن إلا على سبيل التوضيح والتبويب والتقسيم، وإلا فالغالب على السند الصحيح أن ينتهي بالمتن الصحيح، والغالب على المتن المعقول المنطقي الذي لا يخالف الحس أن يرد عن طريق صحيح » 

صمود الثمار

قلت: عرفت صمود مصادر الإسلام.. فكيف صمدت الثمار التي جاء الإسلام ليحققها؟

نظر إلى الشجرة برهة، ثم قال: ألم تتساءل عن سر نشاط هذه الشجرة وحياتها واستمرارها في العطاء طول تلك السنين التي مرت بها؟

قلت: لا أحتاج إلى التساؤل عن ذلك.. فهو واضح.. فأرضها طيبة تمدها بالماء وما تحتاجه من غذاء الأرض، وهواؤها عليل يمدها بما تحتاجه من غذاء السماء.. وهي مع ذلك كريمة لا تحتفظ بهذه الأقوات لنفسها.. بل تمد بها من قصدها، فتحييه بحياتها، وتشمله ببركاتها.

قال: فكذلك الشجرة التي غرسها محمد.. لقد كان لصمود المصادر التي تغذت بها شجرته أثرها الكبير في حفظ حياة دينه، وحفظ ثمراته.

قلت: ولكنا نرى الإسلام تقزم بعد أن كان عملاقا، وهرم بعد أن كان شابا.

قال: هو هرم مزيف، وهو تقزم تكذب العين في رؤيته.. الإسلام في حقيقته لا يزال يحتفظ بكل مقومات حياته.. ولكن الحروب العظيمة التي ووجه بها جعلتنا نرى في المسلمين ما نراه.. ولو أن هذه الحروب توقفت أياما، وتركت المسلمين لأنفسهم لعادوا إلى قوتهم التي تختزن في مصادرهم.

إن الشجرة التي غرستها المصادر المقدسة لهذا الدين شجرة لا تنتج إلا الثمار الطيبة.. وهي ثمار قد يعرض عنها البعض في وقت من الأوقات، ولكنهم سرعان ما يحنون إليها، ويحدو بهم الشوق للأكل منها.

قلت: هذا كلام عام أريد تفاصيله [241].

قال: ولن تجد عندي إلا تفاصيله.. لقد عشت كثيرا في المجتمعات المسلمة.. ومع كونها تخلفت كثيرا عن دينها، ولكنها مع ذلك لا تزال تحتفظ بكل المقومات التي يمكن أن تعيد لها الحياة من جديد، وتعيد لهذا الدين دوره الرائد في العالم.

العقيدة:

قلت: فلنبدأ بالعقيدة.. والتي هو أصل أصول الدين، وأساس أسسه.

قال: قال: لقد بحثت في الأديان جميعا.. وقرأت تراثها المقدس.. وتغلغلت في أديرتها ومعابدها لأبحث عن صورة مقدسة لله.. فلم أجدها إلا في دين محمد..

إنه الدين الوحيد الذي يعرض تعريفا لله ينسجم مع الفطرة والعقل والكون والحياة..

إن كل شيء يبرهن على كل كلمة يحملها دين محمد عن الله.

والمسلمون في جميع فترات تاريخهم بجميع فرقهم ومذاهبهم يحملون تصورات مقدسة عن الله تسمو كثيرا عن كل ما حصل في جميع الأديان من تحريفات.

أنت مثلي تحب التفاصيل.. ولا تقنع بالأسلوب الخطابي.. فلذلك سأذكر لك ما يبرهن لك على أن الشجرة الوحيدة التي صمدت في وجه جميع التحريفات هي الشجرة التي غرسها محمد.

إن أهم ما يميز العقيدة الإسلامية هو تناسبها مع الفطرة السليمة التي يلتقي فيها العقل والروح والنفس من غير أن يحصل بينها أي اضطراب.. لقد عبر القرآن عن هذه الخاصية بقوله:﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم:30)

هذه العقيدة الفطرية تشرحها سورة قصيرة قل أن يوجد مسلم لا يستظهرها هي سورة الإخلاص.. وهي السورة التي نزلت جواب إلهياً للمشركين عندما سألوا محمدا أن يصف لهم ربه

وهذه الحقيقة هي التي تجذب اهتمام وتركيز دارسي الإسلام من أول لحظة، وتدفع من كتبت له الهداية منهم إلى نفض ما علق بفطرته من ركام والدخول في دين الله بطمأنينة ذلك، أن « أول ما يستشعره القلب والعقل أمام العقيدة الإسلامية هو الاستقامة والبساطة والوضوح..وهذه السمة التي تجتذب الأفراد الذين يدخلون في هذا الدين من الأوربيين والأميركيين المعاصرين فيتحدثون عنها بوصفها أول ما طرق حسهم من هذا الدين وهي ذاتها السمة التي تجتذب البدائيين في إفريقيا وآسيا في القديم والحديث لأنها سمة الفطرة التي يشترك فيها الناس أجمعين متحضرين وبدائيين »[242]   

لقد قال بعض قومنا من المسيحيين ممن عشقوا هذه العقيدة الفطرية المنطقية:« بدأت أدرس الأديان بصفة عامة، والإسلام على وجه الخصوص، فأيقنت في غضون دراستي أن دنيا تفكيري وإحساسي أقرب للإسلام منها للمسيحية، وبالتدريج اكتشفت أن الإسلام كمنهج حياة كان ينسجم من كافة الوجوه مع فطرتي البشرية »

ويقول:« عندما درست وجهة النظر الإسلامية حول النبي عيسى عليه السلام ابن الله، كما عرفت فيما بعد من أستاذ بروتستانتي أن عدداً كبيراً من المسيحيين ـ حوالي 80 بالمائة ـ منهم أقرب إلى الإسلام منه إلى المسيحية في هذه الناحية على الأقل من عقيدتهم، أما من الناحية العملية فحتى قبل إسلامي كنت أنفر من الخمور والرقص وما شابه ذلك من الأمور التي عرفت فيما بعد أنها محرمة في الإسلام، وهكذا كان الإسلام بالنسبة لي كعملية اكتشافي لفطرتي »[243]  

ويقول:« والعجيب في قضية التثليث التي تنسب أوروبا الفضل في إنكارها إلى فلاسفة عصر التنوير (ق18) من أمثال فولتير، ويعرب بعض الباحثين عن دهشتهم لان عقلية جبارة كتلك التي يتمتع بها ديكارت لم تستنكر هذه العقيدة ولو بكلمة واحدة.. هذا في حين أن الإسلام ـ دين الله الحق ـ سبق إلى نقص هذه العقيدة وإبطالها ليس من خلال تنفيره العام من الشرك وإنكاره المطلق فحسب بل أفرد الحديث عنها استقلالاً وفصله من وجوه منوها بأنها عقيدة وثنية قديمة وهي الحقيقة التي لم تعرفها أوروبا إلا بعد ظهور علم مقارنة الأديان الذي يعد من أحداث علومها النظرية، قال تعالى:﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (التوبة:30)»[244]

هذا في العقيدة في الله التي هي أصل العقائد ولبابها[245].. وهكذا في سائر العقائد.

قارن بين موقفنا من الخطيئة الموروثة التني تنبني عليها المسيحية، وبين قول القرآن:﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (الأنعام:164).. وقوله:﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ (الاسراء:15).. وقوله:﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (الزمر:7)

وغيرها من الآيات الكثيرة التي تنفي مسؤولية الإنسان على ما لم يعمله.. بل إن القرآن ينفي مسؤولية الإنسان على ما أكره عليه.. لأن العمل لايعتبر عملا يستحق الجزاء إلا إذا كان عن طواعية تامة.. يقول القرآن:﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النحل:106).. ويقول:﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ (النساء:65)

قارن هذه العقيدة التي تنسجم مع المنطق العقلي بعقيدتنا في الخطيئة الموروثة..

لقد أزعجت الخطيئة المورثة فولتير وباسكال.. بل أقلقت الضمير الأوروبي كله وأرقته منذ أن اعتنقها إلى الآن..

أما القرآن، فإنه يذكر الحادثة باعتبارها حدثا تاريخيا يذكر للعبرة.. لا لتبنى حياة البشر كلها على أساسه..

بالإضافة إلى ذلك.. فالقرآن ذكر القصة مذيلة بذكر التوبة والاستغفار وبيان أن الله قبل التوبة وغفر الخطيئة، ففي سورة البقرة ينتهي سياق القصة إلى قوله:﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة:37)

وفي سورة الأعراف تنتهي القصة بقوله:﴿ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (لأعراف:23)

وفي سورة طه يقول:﴿ فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى(121)ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)﴾(طه)

انظر.. إن الآيات القرآنية لا تعطي الخطيئة ذلك الحجم الضخم الذي تعطيها إياه تعاليم الكنيسة، فهي أمر عرضي في حياة آدم، بل في حياة كل بشر، تمحوه التوبة ويذهبه الاستغفار.

أما الهبوط إلى الأرض ـ على حسب القرآن ـ فقد كان هو الغرض الأصلي من خلق آدم   .. فقد قال الله للملائكة قبل خلق آدم:﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ (البقرة: من الآية30).. ولم تكن المعصية إلا سببا لذلك [246]..

إن هذه العقيدة المنطقية ـ مقارنة بعقيدتنا ـ هي الأساس السليم الذي بني عليه السلوك الإسلامي الرفيع.

أما تصوراتنا.. فقد كانت محل سخرية من المسلمين.. ومحل نقد لاذع.. وقد كان علماء المسلمين أسبق من فلاسفة عصر التنوير وأتباع مدرسية النقد التاريخي في هذا المضمار.. كما قال ابن القيم:« فنسبوا الإله الحق سبحانه إلى ما أنف أسقط الناس وأقلهم أن يفعله بمملوكة وعبده، وإلى ما يأنف عباد الأصنام أن ينسبوا إليه.. ونسبوه إلى غاية السفه حيث خلصهم من العذاب بتمكينه أعداءه من نفسه حتى قتلوه وصلبوه وأراقوا دمه، ونسبوه إلى غاية العجز حيث عجزوه أن يخلصهم بقدرته من غير هذه الحيلة ونسبوه إلى غاية النقص حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه ففعلوا به ما فعلوا.. وبالجملة فلا نعلم أمة سبت ربها ومعبودها وإلهها بما سبت به هذه الأمة كما قال عمر رضي الله عنه:« إنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر »، وكان بعض أئمة الإسلام إذا رأى صليباً أغمض عينيه، وقال: لا أستطيع أن أملأ عيني ممن سب إلهه ومعبوده بأقبح السب »

هذا الكلام نموذج من بين انتقادات عقلية لا حصر لها دونها علماء المسلمين قبل أن يخلق سبينوزا وباسكال وفولتير بقرون، وقبل أن تفكر أوروبا في شيء اسمه (النقد التاريخي) أو حرية التفكير.

قلت: أنا أقر بالكثير مما ذكرت من الانحرافات الخطيرة التي دخلت المسيحية.. ولكنها مع ذلك لا تقل عن الانحرافات التي دخلت الإسلام.. وبذلك انحنى الإسلام أمام الهرطقات الكثيرة التي دخلته كما انحنت المسيحية..

قال: لا.. لقد أتيحت لي فرصة الاطلاع على مقولات الفرق الإسلامية المرتبطة بهذا الجانب.. فوجدتها كلها تصب في بحر واحد هو بحر الوحدانية والتقديس والتعظيم.. المسلمون كلهم موحدون لله.. يحملون تصورات غاية في القداسة عن الله.

قلت: ولكني قرأت الكثير من الكتب والمطويات التي تحذر من طوائف المبتدعة من المؤولة والمفوضة والمشبهة والمجسمة..

قال: تلك ـ كما يقال ـ زوبعة في فنجان.. وأولئك قوم من المتطرفين.. هم أشبه الناس بأولئك الذين اجتمعوا بأمر قسطنطين في مجمع نيقية.. ليس لهم من هم إلا التفريق بين صفوف إخوانهم..

قلت: ولكن لقولهم مصداقية عظمى.

ابتسم، وقال: لقد أتيحت لي مخالطة بعضهم.. وقد رأيت من قصر عقولهم ما صرفني عن الاستماع لهم..

قلت: ولكن كلامهم مهم جدا.. لقد لاحظت اهتمام الكنيسة به.

قال: إن الكنيسة تهتم بمقولاتهم لأنها من التبشير غير المباشر.. أما الحقيقة.. فلا خلاف بين المسلمين جميع المسلمين في جميع مسائل العقيدة[247].

قلت: الشيعة والسنة والمعتزلة والخوارج..

قال: أجل.. جميعهم يعبدون إلها واحدا.. ويؤمنون بنبي واحد.. وكل الذي يثار ليس إلا زوبعة في فنجان[248].

الشعائر:

قلت: عرفت صمود ثمار عقائد الإسلام.. فهل صمدت ثمار شعائره؟

قال: أجل.. وبنفس صمود عقيدته.. ذلك أن كليهما يستمد من مصادر ثابتة صحيحة غاية في القوة..

قلت: فهل صمد الإسلام في هذا الميدان؟

قال: كما لم يصمد دين من الأديان.. بل هو لا يزال غضا طريا كما جاء.. وقد كان للنظام الذي اتسمت به شعائر الإسلام السر الأكبر في بقائها وصمودها.

فكل الشعائر التي وضعت النصوص الإسلامية المقدسة طرقها وأساليبها ليس لها إلا هدف واحد هو ربط المسلمين بربهم ورسولهم ودينهم، فلا يمر وقت من الأوقات على المسلم يكون فيه بعيدا عن ربه وذكره وعبادته[249]:

فارتباط المسلم بربه مستمر دائم في كل لحظة من لحظات عمره، بل هو على صلة دائمة به: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) ﴾ (الأنعام)

فهو يصلي كل يوم وليلة خمس صلوات مفروضة، في أوقات محددة موقوتة، ليس له أن يتقدم عليها أو يتأخر بدون عذر شرعي.. وهو مأمور بالطهارة الكبرى والصغرى لكل صلاة منها..هذا عدا نوافل الصلاة المؤكدة وغيرها مما لا حصر له منها..

وهو يصوم شهرا كاملا في السنة فرضا لا يسقطه عنه سقوطا مؤقتا أو مطلقا إلا عذر شرعي..هذا عدا نوافل الصوم التي أفضلها صوم يوم وإفطار يوم على القادر في عمره كله.. وهناك أيام محدودة في الأسبوع وفي الشهر وفي العام يشرع للمسلم صيامها..

وهو يحج حجا مفروضا عليه مرة في عمره، لا يجوز له تركه إلا بعذر شرعي.

وهو يخرج زكاة ماله في أوقاته المحددة، لا يجوز له تأخير ذلك، وأمره الله تعالى بنوافل الصدقات والإنفاق مما رزقه الله، في كل ما يحقق الخير للإسلام والمسلمين..

وهو مأمور بذكر الله تعالى الواجب والمندوب، بحيث لا يزال لسانه رطبا بذكر ربه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)﴾ (الأحزاب)

وهو مأمور بتعاطي ما أحل الله، وترك ما حرم الله في كل تصرفاته، فلا يخلو المسلم في أي وقت من أوقاته من فعل طاعة أو ترك معصية.

فليس له أن يعصر خمرا ولا يبيعها ولا يعلن عنها ولا يسقيها ولا يملكها..

وليس له أن يصنع سلاحا أو يبيعه لمن يقتل به نفسا حرم الله قتلها مسلما كان أو غير مسلم بغير حق، ولا يتلف به مالا ولا حرثا ولا حيوانا..

وليس له أن يبيع أو يشتري بيعا أوشراءا فيه غش للناس، وضرر بهم.

وليس له أن يسرق مال غيره ولا يغتصب أرضه ولا يستحل عرضه ولا يطلع على عورات جاره..

فهو في كل حال من أحواله مرتبط بربه، لأنه يضبط جميع تصرفاته بطاعته وترك معصيته..

وهو مرتبط بجماعة المسلمين من أي جنس كانوا، وفي جميع أنواع الشعائر.. ففي الإسلام عبادات جماعية، يقوم بها المسلمون قياما جماعيا، سواء كان التكليف بها فرض عين أو فرض كفاية أو مندوبا..

ولهذا شرع للمسلمين عمارة الجوامع والمساجد في مدنهم وأحيائهم، وشرع لهم عمارتها بذكر الله فيها، وبخاصة صلوات الجماعات خمس مرات في اليوم والليلة، وصلوات الْجُمَع الأسبوعية، التي ينادي المؤذنون فيها لكل صلاة من تلك الصلوات.

وشرع لهم أن يكون أئمتهم من القراء الذين يحفظون كتاب الله أو كثيرا منه، ويفقهون أحكام الله، فيسمع منهم المصلون في الصلوات الجهرية ما يقرؤون من كتاب الله، فيتدبرونه وينتفعون به..

والمسلم في هذه الحالة العبادية الخاشعة الراغبة الراهبة، شديد البحث والتفتيش عن نفسه في آيات كتاب ربه، ليعرف أين هو فيها من النواحي الإيمانية والعبادية والأخلاقية، والاجتماعية، والفقهية والدعوية، أين هو من رضا ربه أو سخطه.. وهل يتصف بصفات من رضي الله عنهم من المؤمنين، أو بصفات من سخط الله عليهم من الكافرين والمنافقين، وهل صلته بالله تؤهله لدخول الجنان أو لعقاب ربه في النيران.

ويتدبر ذكر ربه المشروع في قيامه وركوعه وسجوده وقعوده، فيمتلئ قلبه حبا لله ورغبة فيما عنده وخوفا ورهبة من قوته وجبروته، وطمعا في عزته ونصره على أعدائه، فلا يخاف إلا الله ولا يطلب العزة إلا من مولاه، فلا يخرج من صلاته إلا وقد تحقق له الهدف من إقامتها والحكمة من أدائها.. ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ ( العنكبوت:45)

يضاف إلى هذه الصلوات الخمس صلوات أخرى لها مناسبات معينة.. لا علاقة لأي منها بأي قومية أو عنصرية أو وثنية:

منها صلاة الاستسقاء عند الجدب والقحط لطلب الغيث من ربهم الذي يسقي أرضهم وينبت زرعهم ويدر ضرعهم ويغذيهم ويغذي أنعامهم..

ومنها صلاة الكسوف والخسوف عندما تكسف الشمس ويخسف القمر، تضرعا إلى الله تعالى من أن لا ينزل بهم غضبه عقابا على معصيته، ففي الكسوف والخسوف تذكير لعباده بكمال قدرته، وتغيير الأحوال المعتادة إلى غيرهما مما لا قدرة لأحد على اتقائه إلا برحمة الله وفضله [250]..

ومنها صلاة العيدين: عيد الفطر وعيد النحر، اللتين يؤديها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، في يوم واحد أو أيام متقاربة، بحسب المطالع.

وللمسلمين يومُ عيدٍ أسبوعي، وهو يوم الجمعة الذي فرض فيه على كل مكلف من رجالهم، حضور خطبتيه وصلاته، حيث يعلو خطباء الجوامع الكبيرة والصغيرة في القرى و المدن و الأحياء المنابر، أمام الجموع الحاشدة، لتذكيرهم بكل ما يحتاجون إليه في حياتهم من أمر الإيمان والعبادة والأخلاق والحلال والحرام في المعاملات، والشئون السياسية والعلاقات الدولية، مبنية كلها على كثير من آيات القرآن والسنة وما استنبطه منهما علماء الإسلام.

إنها مظاهرة مشروعة في يوم واحد وفي كل مكان من الأرض لنصر هذا الدين وجمع كلمة المسلمين على الحق، وتفقههم في دين الله، لا يستطيع أحد أن يمنعها.

وفرض علي المسلمين جميعا فرض عين على كل قادر صيام شهر رمضان كله، لذلك ترى المسلمين في هذا الشهر المبارك، جميعا صائمين نهاره، تجتمع أسرهم في المنازل لتنال وقت الإفطار ووقت السحور، في غاية من الفرح والحبور، يتسابقون في مناولة أحدهم أخاه حبات التمر أو لقمة العيش.

وهكذا تجد جماعاتهم في المساجد عند أذان المغرب، يمدون موائدهم ويقربون تمرهم وأطعمتهم، ويتنافسون في استضافة المصلين على مشاركتهم في الإفطار معهم.

ثم تراهم بعد صلاة المغرب يتسابقون إلى منازلهم، ليستعدوا لصلاة العشاء وصلاة التراويح التي يختم فيها كثير من الأئمة القرآن في ليالي رمضان، يتلونه تلاوة تؤثر في القلوب وتغذي الألباب، فلا يخرج شهر رمضان إلا وقد تزود المسلمون منه زادا يربطهم بربهم بقية أشهر السنة.

إنه شهر تربية وتدريب وإيمان وتقوى وعبادة جماعية ذات أثر عظيم في جمع الكلمة والثبات على هذا الدين وقوة الصلة برب العالمين..

وفرض على الصائمين في ختامه حقا لفقرائهم، سميت بزكاة الفطر، لتكون طهرة لهم وغناء لإخوانهم المحتاجين في يوم العيد الذين يفرحون فيه بتوفيق الله لهم بإتمام الصيام، فلا يفرح فيه الغني دون الفقير، ولا يترك الفقير فيه يتكفف لقمة عيشه وعيش أولاده.

وهكذا تراهم في الحج يفدون إلى البيت الحرام من كل فج عميق، يملأون الجو والبر والبحر، متحدين لباسا ونية وذكرا، مؤدين نسكهم في وقت واحد طوافا وسعيا ووقوفا، ومبيتا ورميا ونحرا، بصفة قلما تجد لها نظيرا في أمة من الأمم، وهم يلهجون في كل أوقاتهم بذكر الله.

يلتقي المسلمون ليحققوا في لقائهم ما ذكره القرآن من حكم الحج ومنافعه: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ (الحج:28)

يُعَلِّم عالِمُهم جاهلَهم، ويتحاورون فيما يعود عليهم وعلى أمتهم بالخير في دينهم ودنياهم.

التفت إلي، وقال: قارن هذا بشعائرنا وقداساتنا التي يتحول فيها الخبز جسدا، والخمر دما.. أو قارنه بصكوك الغفران..

إن كثيرا من قومنا امتلأوا إعجابا بشعائر المسلمين التعبدية التي يتوجه فيها المسلم مباشرة إلى الله من غير حاجة إلى أي وسائط..

يقول توماس أرنولد:« إنه لا يتأتي لأحد يكون قد رأى ذلك المشهد أن يبلغ تأثره به أعماق قلبه وأن لا يلحظ ببصره القوة التي تمتاز بها هذه الطريقة من العبادة عن غيرها»[251]

وقال رينان:« لم أدخل مسجداً إلا شعرت بانفعالات نفسية وأسف بالغ حينما أذكر أنني لست مسلماً »[252]  

ويقارن المستشرق الأمريكي (بودلي) بين المسيحية والإسلام في ذلك قائلاً:« لو أن القديس بطرس عاد إلى روما لامتلأ عجباً من الطقوس الضخمة وملابس الكهنوت المزركشة والموسيقى الغربية في المعبد المقرونة باسمه، ولن يعيد البخور والصور والرقى إلى ذهنه أي شيء من تعاليم سيده المسيح.. ولكن إذا ما عاد محمد إلى أي مسجد من المساجد المنتشرة بين لندن وزنجبار فإنه سيجد نفس الشعائر البسيطة التي كانت تقام في مسجده في المدينة الذي كان من الآجر وجذوع الشجر»[253]  

أما المهزلة العظمى (صكوك الغفران ) التي تعد صفحة سوداء في تاريخ الإنسانية، فلا يستطيع أحد من أعداء الإسلام أو دعاة العلمانية مهما بلغت به المكابرة أن يزعم أنها وجدت في التاريخ الإسلامي فضلاً عن أصوله التشريعية ذاتها.

فهذه المهزلة لم يعرفها المسلمون حتى في أحط وأحلك عصورهم حين فشا الجهل وعلقت بعض الخرافات بأذهان الجهلة والعوام.. فلم يحدث قط أن كتب أحد ممن يسمون أولياء وثيقة غفران.. ذلك أن الأمة الإسلامية مهما انحرفت وتخبطت تظل لديها مسكة من عقل وبقية من إيمان تمنعها عن ارتكاب مثل هذه الحماقات الصفيقة التي لم يتورع عنها بابوات الكنيسة قرابة ثلاثة قرون.

قلت: ولكن مع ذلك.. فقد انتشرت بدع كثيرة بلاد المسلمين.

قال: لقد طفت المجتمعات الإسلامية كما ذكرت لك.. بل دخلت مساجدها.. فلم أر إلا صلاة واحدة، لعلها هي الصلاة التي صلاها محمد.. بل إن الأسانيد الكثيرة تشير إلى أنها نفس صلاة محمد..

ولم أر المسلمين يصومون إلا شهرا واحدا قد يختلفون في يوم من أيامه.. ولكنهم يتفقون في كل أيامه.. ويتفقون مع ذلك في كل أحكامه..

وأنت ترى المسلمين يقصدون كعبة واحدة، ويصلون خلف إمام واحد، ويقفون على جبل واحد.. هو نفس الجبل الذي وقف عليه محمد، وخطب خطبة الوداع.

ألا ترى في كل هذا دلائل صمود الإسلام؟

قلت: ولكني أرى حلقا كثيرة تعقد تختلف فيها المجتمعات..

قال: تقصد حلق الذكر التي قد يختلط فيها الرقص واللعب.

قلت: أجل.. أليس ذلك انحناء؟

قال: لا.. تلك عادات توارثتها تلك الشعوب، وحاولت أن تمزجها ببعض شعائر الإسلام.. والإسلام يتساهل كثيرا في هذا الباب.

قلت: فهو انحناء إذن.

قال: ليس هذا انحناء.. وإن كان انحناء فهو انحناء عادات الشعوب للإسلام وعقيدة الإسلام.

قلت: كيف ذلك؟

قال: إن تلك العادات كانت مملوءة بالوثنية أو بغيرها من العناصر التي يرفضها الإسلام، وهي في حركاتها من اللهو المباح الذي لا يرفضه الإسلام.. ولذلك وقف العدول من المسلمين موقفا وسطا.. حفظوا بها عادات تلك الشعوب.. وحفظوا به في نفس الوقت سلامة عقيدتها.

قلت: فما هذا الموقف الوسط؟

قال: أقروا الحركات التي لا علاقة لها بالدين.. وأضافوا إليها ذكر الله.. والترنم بحبه.. فتحولت العادة عبادة.. وتحولت الطقوس الوثنية طقوسا دينية.

قلت: لم أفهم ما تقصد.. فإني أرى البعض يعتبر هؤلاء مارقة من الدين.

قال: تلك نظرة المتطرفين.. وهم لا يشكلون إلا جزءا لا يكاد يذكر أمام جماهير المسلمين.

أما عوام المسلمين.. وعلماء المسلمين.. فهم متشددون في أصول الدين.. متساهلون في العادات التي لا تمس جوهر الدين، ولا تؤذي حقيقته.

قلت: فأنت تقر كل ما يمارس في تلك المجامع.

قال: أنا ليس لي سلطة الإقرار ولا سلطة الإنكار.. ولكني لا أرى في ذلك خطرا على الإسلام.. بل أرى فيه صمودا عجيبا للإسلام.

ذلك أن أولئك يمارسون كل شعائر الإسلام بحرص شديد.. ولا يكتفون بذلك، بل يحولون عاداتهم عبادة، ولهوهم ذكرا.

قلت: ولكن العوائد مختلفة.. وهي تفرق بين المسلمين.

قال: مفهوم الوحدة في الإسلام مفهوم أسمى من كل المفاهيم التي نعرفها.. ذلك أنه يقرر القواعد والأصول.. ثم يترك لأتباعه ميادين كثيرة يمكنهم أن يختلفوا فيها من غير أن ينكر بعضهم على بعض[254].

السلوك:

قلت: فلنتحدث عن الناحية الثالثة من نواحي الدين.. وهي السلوك.. وهي الناحية التي أرى أن حضارتنا المؤسسة على الكنيسة أفلحت فيها.. وخفق الإسلام.

قال: كيف عرفت ذلك؟

قلت: ألسنا أصحاب السلوك الحضاري الذي لم يصل أحد في الدنيا إلى سلوكه.

ابتسم، وقال: أي سلوك حضاري؟.. لو كنت قلت: إن هذه الحضارة التي سلمت زمامها للشيطان جمعت كل جرائم من سبقها من الحضارات كنت صادقا..

قلت: كيف ذلك؟

قال: تفصيل ذلك يطول.. وربما تجد من يتحدث لك عن تفصيل المقارنات في هذا الجانب[255].. ولكني أقول لك من وحي دراستي للمصادر الإسلامية والتاريخ الإسلامي.. بل والواقع الإسلامي لكثير من شعوب المسلمين:

ليس هناك في الدنيا.. ولا في التاريخ.. ولا في مصادر الأديان سلوك أنظف ولا أرفع ولا أسمى من سلوك المسلمين.. ذلك أن السلوك في الإسلام عبادة لا تقل عن أي عبادة شعائرية.

ولهذا وردت النصوص الكثيرة تخبر بأن أرفع المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، ففي الحديث:« خياركم  أحاسنكم أخلاقا »[256]، وفي الحديث:« إن من أكمل المؤمنين إيمانا  أحسنهم خلقا، وخياركم  خياركم لنسائهم »[257] 

بل ورد ما هو أعظم من ذلك، وهو أن درجة القرب من محمد ـ الذي يمثل الكمال الإنساني ـ بقدر حسن الخلق، ففي الحديث:« إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة  أحاسنكم أخلاقا وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون » قالوا:« يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون » قال:« المتكبرون »[258]

ولذلك، فإن الدرجات العليا والأجور العظيمة لا يحوزها إلا من حسن خلقه، ففي الحديث:«  ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء »[259]، وفي الحديث:« أنا زعيم ببيت في ربض الجنة  لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه »[260]، فجعل البيت العلوي جزاء لأعلى المقامات الثلاثة، وهي حسن الخلق والأوسط لأوسطها وهو ترك الكذب، والأدنى لأدناها وهو ترك المماراة وإن كان معه حق ولا ريب أن حسن الخلق مشتمل على هذا كله.

وسئل محمد عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال:« تقوى الله وحسن الخلق»، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال:« الفم والفرج »[261]

بل أخبر أن «  المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم »[262]

ولهذا فإن القرآن يربط بين قضايا الإيمان والعبادة والسلوك في كل آياته.. ففي الآية التي تصف أصول البر يقول:﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة:177)

وفي الآية التي تثني على أوصاف المؤمنين يقول:﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ (الأحزاب:35)

انطلاقا من هذا.. فإن للأخلاق الإسلامية مزايا كثيرة تميزها عن غيره من أنواع الأخلاق التي جاءت بها الأديان والمذاهب والفلسلفات..

فمن مزاياها [263] الثبات.. فالثبات في الأخلاق ضرورة، لأنها الضوابط التي تضبط سلوك الناس، ولأنّها المقياس الذي يلتقي عنده الجميع.. وتتميز الأخلاق الإسلاميّة في ذلك على الأخلاق المنبثقة عن العادات والتقاليد، والتي هي متغيرة لأنها من وضع الإنسان القاصر.

ومن مزاياها الفطرية.. وذلك ما يجعلها يسيرة وفعّالة في حياة البشر.. أمّا الأخلاق المنبثقة عن العادات والتقاليد فتكون في أحيان كثيرة منافية للفطرة، وعلى وجه الخصوص في حالات انتكاس المجتمع وتدهور أخلاقياته، وتكون في أحيان أخرى مثاليّة ومجافية لواقع النفس البشريّة، وهذا يعني أنّ الأخلاق الإسلاميّة واقعيّة، لأنها تراعي واقع الإنسان وفطرته.

ومن مزاياها العملية.. فهي إيمان وعمل، وهي تختلف عن الأخلاق في المنظور الفلسفي، حيث أنّ الفلسفة تقدم الجانب المعرفي ولا تهتم بالجانب العملي التطبيقي.

ومن مزاياها.. أنها تستند إلى العقيدة، وتنبثق عنها، وهذا ما يجعلها قناعات قبل أن تكون سلوكاً، على خلاف الأخلاق التي تستند إلى العادات والتقاليد؛ فكثيراً ما تُمارس هذه الأخلاق على أساس من التقليد غير الواعي وبُحكم العادة، ويغلب أن يكون الدافع إليها الرغبة في إرضاء المجتمع.

ومن مزاياها.. أنها عبادة يثاب فاعلها، ويتقرب بها إلى الله تعالى، مما يجعلها ذات منفعة دنيويّة وأخرويّة، على خلاف الأخلاق المنبثقة عن العادات والتقاليد، ولذلك يسهل نبذها عندما تتعارض مع المصالح الدنيويّة للفرد أو الجماعة.

ومن مزاياها.. أنها مُلزمة، وتأتي سلطة الإلزام ابتداءً من القناعة الدينيّة، ثم من الرغبة في مثوبة الخالق والرهبة من عقوبته، ثم من نظرة المجتمع المؤمن الذي يعيش فيه المسلم، ثم ما يكون من قانون يُنظّم المجتمع ويحمي قيمه.. أمّا الأخلاق المنبثقة عن العادات والتقاليد فتضعف فيها سلطة الإلزام والتي يغلب أن تكون منحصرة في نظرة المجتمع، حيث أنّ القانون الوضعي لا يشمل الكثير من مسائل الأخلاق.

ومن مزاياها.. أنها شاملة لكل سلوكيات الإنسان، لا يستثنى من ذلك أي سلوك.. ثم هي تشمل الفرد والجماعة، والحاكم والمحكوم، وتشمل جميع فئات المجتمع في جميع الظروف.. وهي تشمل ظاهر الإنسان وباطنه وجميع جوانب شخصيّته، على خلاف الأخلاق المنبثقة عن العادات والتقاليد والفلسفات، حيث أنها قاصرة ولا تشمل كل سلوك، ثم هي تتعامل مع الظاهر ولا سلطان لها على الباطن، ثم هي في ظروف الحرب، مثلاً، تختلف عنها في ظروف السلم، ونجدها أحياناً تختلف بين حاكم ومحكوم، وخادم ومخدوم، وصغير وكبير، وطبقة اجتماعيّة أخرى.

قلت:  ولكن الواقع الإسلامي يختلف كثيرا عن هذه المثالية التي تذكرها.

قال:  نعم.. الواقع الإسلامي متخلف كثيرا عن هذه المثل.. ولكن.. ألم تتساءل عن سر ذلك؟

قلت:  لم أتساءل.

قال:  أنا تساءلت عن ذلك، وبحثت عنه، وقد وجدت أن أولئك المتخلفين لم يتتلمذوا على محمد في سلوكهم، ولم يتعرضوا لأشعة محمد حتى يرتفعوا إلى هذه المثل.

قلت:  فعلى من تتلمذوا؟

قال:  علينا نحن.. تتلمذوا على ما نبثه لهم عبر وسائل الإعلام الكثيرة التي لا هم لها إلا إفسادهم وتضليلهم.

قلت:  فقد انحنى الإسلام في هذه الناحية إذن؟

قال:  لا.. مدرسة الإسلام لم تنحن.. ولكن بعض المسلمين انحنوا.. ولو أتيح لهم الجو المناسب، فسيقومون من جديد..

قلت:  من ضمن لك ذلك؟

قال:  أنا لست في شك من ذلك.. لأن الفطرة التي تملأ نفوسهم لن يؤثر فيها أي انحراف.

صمود الانتشار

قلت:  فحدثني عن صمود الانتشار..

قال:  لقد ذهبت إلى التاريخ أقارن أنواع البلاء التي تعرضت لها العقائد والمذاهب والأفكار، فلم أجد مواجهات عنيفة كتلك المواجهات التي قوبل بها الإسلام.. ولم أجد صمودا كذلك الصمود الذي أبداه المسلمون.

إن تاريخ الإسلام حافل بالمواجهات بينه وبين أعدائه والمكيدين له والمتآمرين عليه.. وفي كل مرة كان الإسلام يخرج منتصرا شامخا[264]..

لقد اجتمع على محمد العدوان الثلاثي: المشركون كلهم في جزيرة العرب، واليهود والمنافقون في غزوة الأحزاب، فخرجوا من ذلك العدوان منتصرين.

وارتدت جزيرة العرب بعد وفاة محمد في عهد أبي بكر، وكان المسلمون في ضعف مادي شديد، ولكنهم خرجوا منتصرين..

وحاربتهم الدول العظمى في ذلك العهد: الروم في الشمال، والفرس في الشرق، والأحباش في الجنوب، فكان النصر لهم على تلك الدول جميعا.

واجتمعت على حربهم الدول الصليبية، وكانوا في غاية من الضعف والتفرق، ولكن أعداءهم خرجوا في النهاية يجرون أذيال الهزيمة..

واجتاح التتار وزعيمهم هولاكو عاصمة الخلافة بغداد، وسيطروا على المسلمين سيطرة لم يكونوا يظنون أنهم سيطردون منها شر طردة، ولكن النصر كان حليف المسلمين.

واستجاب أتاتورك لليهود والصليبيين، وقضى على آخر رمز للخلافة الإسلامية، وأغلق مدارس المسلمين وغير مناهجهم وأكرههم على إظهار موافقته في كتابة أغلى كتاب على وجه الأرض بغير حروفه العربية، وأرغمهم على الأذان بغير ألفاظه العربية، وأنزل بالمسلمين من المحن والمصائب ما لا يخفى على قارئ التاريخ، ولكن المسلمين درَّسوا أولادهم في دهاليز منازلهم، وفي حظائر دوابهم القرآن والحديث، والفقه، والتفسير، والتاريخ الإسلامي، وإذا الجيل الذي نشأ في عهده يظهر بعد إدباره حافظا للقرآن، متقنا للغة العربية، متمسكا بدينه.. رافضا مبادئ أتاتورك وزمرته على رغم تسلطهم واستبدادهم الشامل الذي تدعمه القوة العسكرية..

وجثم الاتحاد السوفييتي على صدور المسلمين في آسيا الوسطى سبعين عاما، قتل من قتل، واعتقل من اعتقل، وشرد من شرد، وحظر على المسلمين حمل القرآن، ومع ذلك خرج الجيل الذي نشأ في ظل هذا النظام الظالم، وهو يحفظ القرآن، ويحفظ أحكام دينه ويلتزم بها، وما جوهر دوداييف، وزملاؤه الذين سلكوا سبيله إلى الآن إلا دليل على أن المسلمين يستعصون على أي عدو يحاول القضاء عليهم وعلى دينهم..

والمحتلون الأوربيون البريطانيون، والفرنسيون والإيطاليون، والبرتغاليون، والألمان والأسبان، الذين اغتصبوا بلدان المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وبقوا فيها فترات طويلة، حتى أصبحت في ظاهر الأمر جزءا من بلد المحتل، خرجوا جميعا وهم يجرون أذيال الهزيمة..

وهاهم المسلمون اليوم، يجاهدون أعداءهم الأقوياء ماديا المعتدين عليهم في بلدانهم، في فلسطين والعراق والفيليبين والشيشان وأفغانستان وغيرها من البلدان، برغم ضعفهم المادي، صابرين مستبسلين، لا يخافون إلا ربهم، وسيبقون كذلك حتى يحقق الله لهم النصر على عدوهم..

ولم تكن الحرب حربا عسكرية فقط.. ولم يكن الصمود صمودا عسكريا فقط..

لقد وضعت مخططات كثيرة.. وحيكت مؤامرات كثيرة لينحرف المسلمون عن دينهم.. لكنها كلها باءت بالفشل..

لقد قال (زويمر) في بداية المؤتمر العالمي للتبشير في القدس سنة (1933) يفضح هذه المؤامرات، ويبين الهدف منها:« إن مهمتكم إخراج المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا  لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاقية التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، إنكم أعددتم شبابا  في بلاد الإسلام لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا  لما أراده له الإستعمار، لا يهتم بعظائم الأمور ويحب الراحة والكسل ولا يصرف همه في الدنيا إلا في الشهوات، فإذا تعلم فللشهوات وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بأغلى ما يملك »

ويقول زويمر:« إن السياسية الإستعمارية لما قضت منذ سنة (1882) على برامج التعليم في المدارس الإبتدائية أخرجت منها القرآن، ثم تاريخ الإسلام، وبذلك أخرجت ناشئة لا هي مسلمة ولا هي مسيحية ولا هي يهودية، ناشئة مضطربة مادية الأغراض لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقا  للدين ولا للوطن حرمة »

ويقول (هاملتون جب) المستشرق الإنجليزي في كتابه (جهة الإسلام) سنة (2391م):« إن العالم الإسلامي سيصبح خلال فترة قصيرة لا دينيا في كل مظاهر حياته »[265]  

هذا ما كان قومنا يتوقعونه من الأجيال القادمة.. لقد عادوا يفركون أيديهم فرحا  بعد أن رأوا مجموعات من خريجي جامعاتهم لا يعبأون بدين، ولا يهتمون بخلق ولا قيمة، ولكن كل تلك المخططات باءت بالفشل، وانحنت أمام صمود الإسلام.

لقد أنفقوا أموالهم وأحكموا خططهم ودبروا مكائدهم لإخراج جيل لا ديني، توقع سادته أن يكون سحق الإسلام في المنطقة على يده، وأقموا الجامعات وفرضوا الإختلاط وأقصوا الصادقين من حملة القيم والأخلاق عن كل المراكز الحساسة، وقربوا دعاة الإباحية والإلحاد والعلمانية والفساد إليهم، ونصبوهم قضاة وسادة وأقاموا حولهم الهالات، ونفخوا في الأقزام حتى أضحوا عمالقة في أعين الرعاع والدهماء، ولكن هل كان لهم الذي أرادوا؟ هل أقصي الإسلام نهائيا  عن حياة الفرد والأسرة والمجتمع؟

قلت:  نعم.. لقد نجحوا في كثير من ذلك..

قال:  ولكن تلك المدارس التي خططوا لها أن تصير مدارس علمانية لا صلة لها بدين ولا خلق راحت تدفع بالأفواج إلى الإسلام.

لقد أضحت الجامعات التي سهروا على منهاجها وظنوها مراكز التدمير تقدم نماذج من الشباب الصادق الملتزم الذي يضحي بكل شيء من أجل عقيدته ودينه.

لقد أصبحت الجامعات كبلاط فرعون يربى فيه موسى عليه ليهدم بيده عرش فرعون ويسحب البساط من تحت رجليه.

أما سحر حضارتنا.. فلم يعد يخدع الأبصار.. فققد تفتحت أعين المسلمين على نور الإسلام، وانفتحت بصائرهم لتقبل الحق، بعد انبلاج الحق وسطوع نوره على القلوب والنفوس.

فحيثما تتوجه الآن في الكرة الأرضية تجد رجوعا  إلى الإسلام.. تجد نفوسا  متعطشة للدين، حتى تستظل بفيئه بعد أن أضناها لفح الهاجرة وأرهقها طول المشي في التيه[266].

قلت:  ولكن الإسلام ـ الآن ـ يواجه حروبا عظيما.. حروبا في كل النواحي، ومن كل الجهات.. فهل تراه سيصمد لها؟

قال: لا أقول يصمد لها فقط.. بل إنه سينتصر فيها.. وسيعود أولئك المحاربون إلى الإسلام أفواجا كما عاد القرشيون..

هذا (ديباسيكييه) المفكر الفرنسي، يرشح الإسلام كمنقذ وحيد للبشرية فيقول:« إن الغرب لم يعرف الإسلام أبدا، فمنذ ظهور الإسلام اتخذ الغرب موقفا  عدائيا  منه، ولم يكف عن الإفتراء عليه والتنديد به لكي يجد المبررات لقتاله، وقد ترتب على هذا التشويه أن رسخت في العقلية الغربية مقولات فظة عن الإسلام، ولا شك أن الإسلام هو الوحدانية التي يحتاج إليها العالم المعاصر ليتخلص من متاهات الحضارة المادية المعاصرة التي لا بد أن استمرت أن تنتهي بتدمير الإنسان »[267]

إن هؤلاء الكتاب الغربيين يقفون نفس الموقف الذي وقفه هرقل عندما وصله كتاب محمد، فقد سأل أبا سفيان عن أحوال محمد، وبعد أن أخبره قال هرقل لأبي سفيان:« إن كان ما تقول حقا، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه »[268]   

لقد كان هرقل عاقلا  يدرك أن أمر العقائد إلى إقبال، وأمر السلطان الذي لا يدعمه فكر وعقيدة إلى زوال، كان هرقل آنذاك يحكم إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، ولكنه يراها متفسخة من داخلها، وسرعان ما تتهاوى على رؤوس أصحابها، ولأول ضربة من ضربات أعدائها.

ولهذا فإن أعداء الإسلام الذين درسوا تاريخه يعرفون قدرته على الممانعة والمواجهة والخروج من الأزمات.. يقول ابن غوريون:« نحن لا نخشى الإشتراكيات ولا القوميات ولا الملكيات في المنطقة، إنما نخشى الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلا  وبدأ يتململ في المنطقة، إني أخشى أن يظهر محمد جديد في المنطقة »

وبمثل هذا شهد أصدقاؤنا من المستشرقين، يقول (كوستاف لوبون):« مع ما أصاب حضارة العرب من الدثور، كالحضارات التي ظهرت قبلها: لم يمس الزمن دين النبي الذي له من النفوذ ما له في الماضي، والذي لا يزال ذا سلطان كبير على النفوس، مع أن الأديان الأخرى التي هي أقدم منه تخسر كل يوم شيئًا من قوتها.. وتجمع بين مختلف الشعوب التي اتخذت القرآن دستورًا لها وحدة اللغة والصلات التي يسفر عنها مجيء الحجيج إلى مكة من جميع بلاد العالم الإسلامي. وتجب على جميع أتباع محمد تلاوة القرآن باللغة العربية بقدر الإمكان، واللغة العربية هي لذلك أكثر لغات العالم انتشارًا على ما يحتمل، وعلى ما بين الشعوب الإسلامية من الفروق العنصرية ترى بينها من التضامن الكبير ما يمكن جمعها به تحت علم واحد في أحد الأيام »[269]

ويقول:« كان سلطان الإسلام السياسي والديني قويًا في بلاد الهند، ورسخ فيها ثمانية قرون بفضل ملوك الإسلام الذين تداولوا حكمها، ولا يزال سلطان الإسلام الديني قائمًا في بلاد الهند، وإن توارى سلطانه السياسي عنها، وهو يمضي قدمًا نحو الاتساع »[270]

ويقول:« تأثير دين محمد في النفوس أعظم من تأثير أي دين آخر، ولا تزال العروق المختلفة التي اتخذت القرآن مرشدًا لها تعمل بإحكام كما كانت تفعل منذ ثلاثة عشر قرنًا »[271]

ويقول:« دخلت حضارة العرب في ذمة التاريخ منذ زمن طويل، ولا نقول، مع ذلك أنهم ماتوا تمامًا، فنرى الآن ديانتهم ولغتهم اللتين أدخلوهما إلى العالم أكثر انتشارًا مما كانتا عليه في أنضر أدوارهم.. ولا يزال الإسلام جادًا في تقدمه.. واليوم يدرس القرآن، فيما عدا جزيرة العرب، في مصر وسورية وتركية وآسية الصغرى وفارس وقسم مهم من روسية وأفريقية والصين والهند، وتناول القرآن مدغشقر وأفريقية الجنوبية، وعرف في جزر الملايو، وعلمه أهل جاوة وسومطرة وتقدم إلى غينيا الجديدة، ودخل أمريكا مع زنوج أفريقية.. ويتقدم الإسلام في الصين تقدمًا يقضي بالعجب.. حيث اضطر المبشرون الأوروبيون إلى الاعتراف بالحدود وسيقوم الإسلام – كما يقول وازيليف – مقام البوذية، ومسلمو الصين لا يشكون في ذلك وهذه المسألة على جانب عظيم من الأهمية. فإذا اعتنقت الصين دين الإسلام تغيرت علاقات العالم القديم السياسية تغيرًا عظيمًا وأمكن دين محمد أن يهدّد النصرانية من جديد »[272]

يقول جب في كتابه (Wither Islam) (جهة الإسلام)، وهو كتاب كتبه مجموعة من المستشرقين نتيجة أبحاث قدمت لمؤتمر في جامعة (برنستون في أمريكا:« إن الحركات الإسلامية تتصور عادة بسرعة مذهلة مدهشة، فهي تنفجر انفجارا  مفاجئا  قبل أن يتبين المراقبون من إماراتها ما يدعوهم إلى الإسترابة في أمرها، فالحركات الإسلامية لا ينقصها إلا الزعامة وظهور صلاح الدين »

***

ما وصل (جابرييلي فرانشيسكو) من حديثه إلى هذا الموضع حتى انتفض قائما، فتعجبت من موقفه هذا، فقلت: ما الذي حصل؟

قال:  لقد ذكرت صلاح الدين..

قلت: أعلم أنك كتبت عن صلاح الدين الأيوبي واعتبرته بطلاً وشخصية عظيمة بالرغم مما تعرضت له هذه الشخصية من تشويه في الكتابات الغربية.

قال:  لست أدري.. كلما تذكرت صلاح الدين أجدني أقوم ممتلئا نشاطا.. إنه مثال للصمود والبطولة والرجولة الحقيقية الكاملة..

قلت:  فهل يئست من قيام مثله؟

قال:  لا.. ليس هناك جيل من أجيال المسلمين إلا وكان فيه نماذج كثيرة من أمثال هذا الرجل الصامد.. إن لمدرسة الإسلام قدرة عجيبة على تخريج الأبطال.

قلت:  اسمح لي حضرة الأستاذ الفاضل أن أسألك هذا السؤال الذي حيرني..

قال:  تريد أن تسأل عن سر عدم إسلامي مع هذه الحماسة التي أبديها للإسلام.

قلت:  أجل.. فأنا في غاية العجب منك.

قال: أنت تعلم ما قاله (اللورد هدلي)

قلت: تقصد قوله إنني أعتقد أن هناك آلافاً من الرجال والنساء أيضاً، مسلمون قلباً، ولكن خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ عن التغيير، تآمروا على منعهم من إظهار معتقداتهم »

قال:  أجل.. وهذا ما أستطيع أن أجيبك به، ولن أزيد.

قال ذلك.. ثم انصرف سائرا من غير أن يسألني عني..

بقيت أتأمل تلك الشجرة العظيمة لأرى فيها من عزة الإسلام وصموده ما كان محجوبا عن بصيرتي.

وفي تلك الأثناء تنزلت علي أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد.

 

 



([1])  رواه مسلم.

([2])  رواه البخاري ومسلم.

([3])  رواه أحمد (4/103) وقال الهيثمي في المجمع (6/14) رجال أحمد رجال الصحيح»

([4])  هو في الأصل abrieli Francesco. (1904 ـ 1997) مستشرق إيطالي، كان مهمتاً باللغة العربية وآدابها حتى عيّن كبير أساتذة اللغة العربية وآدابها بجامعة روما، عرف بدراسته للأدب العربي، وفي تحقيق التاريخ الإسلامي، انتخب عضواً مراسلاً في المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1948. واشتهر فرانشسكو بمواقفه المعتدلة من التاريخ الإسلامي حتى إنه كتب عن صلاح الدين الأيوبي بوصفه بطلاً وشخصية عظيمة بالرغم مما تعرضت له هذه الشخصية من تشويه في الكتابات الغربية (انظر: سمير القريوتي، (رحيل فرانشسكو جابرييلي) في الشرق الأوسط، عدد:6592، 5شعبان 1417(15ديسمبر 1996م)

([5])  رواه ابن إسحق وغيره.

([6])  هذا بناء على ما يعتقده المسيحيون، أما المسيح.. فقد كان سيد الأبطال الثابتين، والبطولة لا تتجلى على الصليب وحده.. وسنناقش التفاصيل المرتبطة بالصليب في الرسالة الخاصة بـ (الإنسان) من هذه السلسلة.

([7])  هناك رد مفصل على حادثة الصلب، وما فهمه المسيحيون منها، والأدلة الكثيرة على عدم حدوثها، في رسالة (الإنسان) من هذه السلسلة.

([8])  تنقسم الكتب المقدسة عند اليهود إجمالا إلى قسمين هما:

الأول: التوراة، وما يتبعها من أسفار الأنبياء المقدسة عند اليهود، وهذا القسم يسميه اليهود بعدة أسماء منها:

1- أهمها وأشهرها (التناخ) ويكتبونها بالعبرية (ت،ن،ك) وهي حروف اختصار من الألفاظ (توراة)، نبوئيم (الأنبياء)، كتوبيم (الكتب) وهي الأجزاء الثلاثة الكبيرة التي يتألف منها العهد القديم كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

2- (المقرا) ومعناه: النص المقروء، لأنهم مطالبون بقراءته في عباداتهم والرجوع إلى الأحكام الشرعية فيها التي تنظم حياتهم.

3- (المِسُورَه) أو (المِسُورِتْ) وهو عندهم صفة علمية خاصة، يعنون بذلك النص المقدس المروي عن الأسلاف رواية متواترة -على حد زعمهم- ارتضتها أجيال العلماء ورفضت ما عداها.

الثاني: التلمود، وهو الذي يعتبره اليهود مصدراً من مصادر التشريع اليهودي، ومن أسفارهم المقدسة لديهم، ويتكون من جزئين أحدهما يسمى المِشْنا أو المشْنَة، والثاني الجمارا أو الجمارة.

وهناك أسفار أخرى كثيرة عند اليهود لم تدخل ضمن الأسفار القانونية التي يتكوّن منها كتاب اليهود المقدس، وإن كانوا يحيطون تلك الأسفار غير المعترف بها ـ ويسمونها بـ (الكتب غير القانونية) أو (الأبوكريفا) ـ بكثير من العناية والاهتمام ويجعلونها استمراراً لتاريخهم.

([9])  انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بالتحريف الذي لحق العهد القديم في رسالة ( الكلمات المقدسة)، وسنكتفي هنا بذكر بعض الشهادات المرتبطة بهذا من بعض رؤساء الكنيسة وأعمدتها.. وهي شهادات مهمة جدا، وهي أقوى في إثبات التحريف ـ بالنسبة لمن يناظرهم ـ من كل دليل، ذلك أنهم لا يسلمون إلا لقديسيهم ولرجالهم ولأنفسهم، فهذا من خطابهم بمصادرهم التي يعتمدون عليها، وهو من أساليب البرهنة التي حاولنا الاعتماد عليها في هذه السلسلة، وخصوصا في هذه الرسالة.

([10])  العنوان بالإنجليزي PREFACE TO THE BOOK OF HEBREW QUESTIONS.. وقد ترجمها إلي العربية محمود أباشيخ، موقع صوماليانو.

([11])  كاتب كوميدي رومانى.

([12])  كاتب درامي روماني اتهم تيرينس بالسرقة الأدبية.

([13])  شاعر روماني في القرن الأول ق م.

([14])  من خطباء الرومان في القرن الأول ق م.

([15])  عبارة تشبيهية قصد بها كهنة اليهود وحكامهم.

([16])  انظر الأمثلة الكثيرة المثبتة للتحريف في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

وقد ذكر المسيري في (الموسوعة اليهودية) أن نقد العهد القديم بدأ على يد المؤلف اليهودي القرّائي (حيوي البلخي) الذي عاش في القرن التاسع. وقد ظهرت محاولات متفرقة هنا وهناك، أهمها دراسة إسحق أبرابانيل (1447 ـ 1508) الذي قدَّم أول دراسة علمية لنصوص العهد القديم. كما أن ابن حزم الأندلسي وبعض الدارسين المسلمين القدامى لاحظوا أن ما ينسبه العهد القديم إلى الأنبياء من جرائم، يُعدُّ دخيلاً على النص الأصلي. ولكن العلم نفسه، بالمعنى الحديث، بدأ مع الفيلسوف اليهودي إسبينوزا الذي قال بأن أسفار موسى ليست من تأليف موسى، وأن عزرا مؤلفها الحقيقي. وبعد ذلك، تتالى العلماء الغربيون في دراسة العهد القديم من وجهة نظر نقدية. وكان أول الكتب لجان إستروك الأستاذ في جامعة باريس عام 1753، وتبعه كتاب ج. آيتشورن عام 1779، وهناك آخرون بينوا مصادر العهد القديم المختلفة، ولم يبق سوى تبيان تتاليها التاريخي، وهو ما أنجزه فون جراف عام 1866، وفلهاوزن (1876ـ 1878)، وكونهيل. ويُلاحَظ أن هـؤلاء الثلاثة من أشـهر علماء الإسلاميات في الغرب، ولابد أن النقد القرآني للتحريفات التي وردت في التوراة، كان دافعاً لدراستهم النقدية. وقد انضم إليهم آخرون، من بينهم جايجر (أحد مؤسسي اليهودية الإصلاحية) وجراييتس وكاوفمان وكوهلر. وظهر علم اليهودية الذي يحاول اكتشاف الأسس التاريخية للنصوص المقدَّسة.

وقد استخدم نقاد العهد القديم في دراساتهم المعايير التالية:

1 ـ التناقض في الأجزاء التشريعية: وكما هو واضح في الحكمة من فرض شريعة السبت، فقد ورد مرة أنه فُرض "لأن الرب استراح في اليوم السابع بعد أن خلق السماوات والأرض" (خروج 20/11). أما في سفر التثنية، فلا يوجد ذكر للخلق، وإنما الإشارة إلى الخروج من مصر (تثنية 5/12 ـ 15).

 

2 ـ التناقض في القصص: فقد ورد في سفر التثنية (2/4) أن العبرانيين مرُّوا بأرض الأدوميين (بني عيسو) في طريقهم إلى كنعان. أما في سفر العدد (20/21)، فقد ورد شيء مخالف تماماً.

3 ـ التناقض بين ما جاء في الشرائع وما ورد في القصص: فسفر التثنية (12/5، 6) يصر على ضرورة تقديم القرابين في مذبح مركزي، ومع هذا قدَّم إلياهو قرابين على جبل الكرمل (ملوك أول 18/19 - 37). وتؤكد أسفار موسى الخمسة أهمية تقديم القرابين خلال سنوات التيه، بينما يؤكـد النبي عامـوس أن مثل هـذه القرابين لم تُقدَّم (عاموس 5/25). وينكر إرميا أن الإله أمر بمثل هذه القرابين ( إرميا 7/22).

4 ـ تباين الأسلوب الأدبي: وقد توصَّل الباحثون، بعد دراسة الاختلافات الواضحة في مفردات النصوص وأفكارها، إلى أن هذه النصوص تعود إلى فترات زمنية مختلفة. فسفر الخروج يعلن أن الآباء يعرفون الإله باسم «شدَّاي»، وهو ما يساعد على تحديد هذه النصوص وتحديد تاريخها، وأنها تعود إلى المصدر نفسه. كما أن اختلاف الخلفيات التاريخية في سفر أشعياء والمزامير يُسهِّل عملية معرفة المؤلف وتاريخ التأليف.

5 ـ استخدام ترجمات العهد القديم المختلفة: يجد النقاد أن الترجمات القديمة للعهد القديم تظهر فيها نصوص أو مقطوعات ليست في النص العبري، كما وجدوا أيضاً ما هو مخالف. فالترجمة السبعينية لسفر أيوب (38/2) تضم فقرة لا توجد في النص العبري تُغيِّر تفسير السفر تماماً.

6 ـ الاكتشافات الأثرية: يدرس ناقدو العهد القديم الآثار والمدونات الآشورية والبابلية والمصرية ليحصلوا على المعلومات التي تلقي ضوءاً جديداً على التاريخ. وتتفق هذه المدونات مع الرواية التوراتية أحياناً، وأحياناً تتناقض معها. وقد ألقت عقائد أمم الشرق الأدنى القديم الكثير من الضـوء على عقائد العبرانيين القــدامى، وعلى تطـوُّر العقيدة اليهودية.

(انظر: الموسوعة اليهودية، للمسيري)

([17])  انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري.

([18])  يقصدون به المسيح.. وهو في الحقيقة المسيح الدجال.

([19])  القبَّـــالاه Kabbalah هي مجموعة التفسيرات والتأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود. والاسم مُشتَّق من كلمة عبرية تفيد معنى التواتر أو القبول أو التقبل أو ما تلقاه المرء عن السلف، أي «التقاليد والتراث» أو «التقليد المتوارث». وكان يُقصَد بالكلمة أصلاً تراث اليهودية الشفوي المتناقل فيما يعرف باسم «الشريعة الشفوية»، ثم أصبحت الكلمة تعني، من أواخر القرن الثاني عشر، «أشكال التصوف والعلم الحاخامي المتطورة» (إلى جانب مدلولها الأكثر عموماً باعتبارها دالاً على سائر المذاهب اليهودية الباطنية منذ بداية العصر المسيحي).

وقد أطلق العارفون بأسرار القبَّالاه («مقوباليم» بالعبرية و«القبَّاليون» بالعربية) على أنفسهم لقب «العارفون بالفيض الرباني» انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري.

([20])  يطلق اليهود على الأوامر والنواهي الشرعية اسم (متسفوت ) Mitzvot التي تعني أيضاً «الوصايا» أو «الفرائض».

وللكلمة عند اليهود معنيان: معنى عام، وهو القيام بأي فعل خيِّر تمتزج فيه الأفعال الإنسانية بالقيم الدينية، فإذا ساعد يهودي أخاه منطلقاً من حبه له فهذه «متسفاه» (وتأتي عادةً في هذه الصيغة).

أما المعنى الخاص للكلمة، ويأتي عادةً في صيغة «متسفوت» فهو الوصايا أو الأوامر والنواهي (متسفوت) التي تُكوِّن في مجموعها التوراة. وتشمل المتسفوت ستمائة وثلاثة عشر عنصراً، منها مائتان وثمانية وأربعون أمراً، وثلاثمائة وخمسة وستون نهياً، وهي موجهة إلى اليهود وحسب، إذ أن أبناء نوح لهم وصايا خاصة بهم.

وقد صُنِّفت المتسفـوت إلى أوامر ونواهٍ توراتيــة وأخرى حاخامية. كما قُسِّمت إلى أوامر ونواه أقل أهمية وأخرى أكثر أهمية، وإلى أوامر ونواه عقلانية (أي تُفهَم بالعقل) وأخرى مُوحىً بها (أي يطيعها اليهودي دون تفكير).

ومن التصنيفات الأخرى، أوامر ونواه تُنفَّذ بالأعضاء وأخرى بالقلب، وتلك التي لا تُنفَّذ إلا في فلسطين (إرتس يسرائيل)، وتلك التي تنفذ داخلها وخارجها.

واليهودي البالغ ثلاثة عشر عاماً ويوماً يُكلف بتنفيذها، وكذلك اليهودية البالغة اثني عشر عاماً ويوماً، ومن هنا تسمية الصبي اليهودي الذي يبلغ سن التكليف الديني «برمتسفاه»، أما الفتاة فهي «بت متسفاه». والنساء غير مكلفات بتنفيذ الأوامر المرتبطة بزمن محدَّد أو فصل محدَّد، مثل إقامة الصلاة، وإن كن مكلفات بإقامة شعائر السبت برغم ارتباطها بزمن محدَّد، وكلٌ من الذكور والإناث مكلفون بالنواهي.

وهذه أعدادها، ومضامينها كما ذكرتها (الموسوعة اليهودية):

الأوامر التي تختص بالإله (1 ـ 9)، وبالتوراة (10 ـ 19)، والهيكل والكهنة (20 ـ 38)، والقرابين (39 ـ 91)، والإيمان (92 ـ 95)، والطهارة (96 ـ 113)، والهبات للهيكل (114 ـ 133)، والسنة السبتية (134 ـ 142)، وذبح الحيوانات (143 ـ 153)، والأعياد (154 ـ 170)، والجماعة (171 - 182)، والشرك (185 ـ 189)، والحرب (190 ـ 193)، والعلاقات الاجتماعية (194 ـ 208)، والأسرة (209 ـ 223)، والشئون الاقتصادية (224 ـ 231)، والعبيد (232 ـ 235)، والأذى (236 ـ 248).

أما النواهي، فتختص بالشرك (1 ـ 59)، والهرطقة (60 ـ 66)، والهيكل (76 ـ 88)، والقرابين (89 ـ 157)، والكهنة (158 ـ 171)، وقوانين الطعام (172 ـ 201)، ونذيرو الإله (202 ـ 209)، والزرعة (210 ـ 229)، والإقراض بالربا والتجـارة ومعاملـة العبيـد (230 ـ 272)، والعدل (273 ـ 329)، وجماع المحارم والعلاقات المحرمة الأخرى (330 ـ 361)، والملكية (362 ـ 365).

ومن أهم الأوامر، تلك الأوامر المتصلة بالختان وزراعة الأرض (السنة السبتية) والطعام والأسرة وغيرها.

وعدم الالتزام بالأوامر والنواهي يعني عدم الانتماء إلى الشعب اليهودي، ومن الملاحَظ أن كثرة الأوامر والنواهي والشعائر المرتبطة بها (في اليهودية) قد أدَّت إلى تكبيل اليهود وإلى زيادة سلطة الحاخامات، الأمر الذي جعل عملية تحديث اليهودية أمراً عسيراً.

انظر: الموسوعة اليهودية، لعبد الوهاب المسيري، مادة (الأوامر والنواهي (متسفوت ) Mitzvot)

([21])  الشماع Shema: دعاء «الشمَّاع» من كلمة «شمَع» العبرية وتعني «اسمع» ويُعرَف أيضاً باسم «قريئات شماع» ويُختصَر إلى «قريشماع»). وكلمة «شماع» أول كلمة في نصٍّ من نصوص العهد القديم تُقرَأ في صلاة الصباح والمساء « اسمع يا يسرائيل الرب إلهنا رب واحد » (تثنية 6/4)، وتُقرَأ الشماع في صلاة الصباح والمساء، ولا تُتلى في صلاة الظهر. وعلى اليهودي أن ينطق بعبارة التوحيد قبل موته، أو ينطق له بها أحد الواقفين بجواره.

 انظر: الموسوعة اليهودية لعبد الوهاب المسيري.

([22])  انظر المقارنة بين الشماع وشهادة المسلمين في (الموسوعية اليهودية) لعبد الوهاب المسيرى.

([23])  كتب الصلوات اليهودية (سدُّور) Prayer Books; Siddur تُسمَّى كتب الصلوات اليومية عند الإشكناز «سدُّور»، من الكلمة العبرية «سدْر» التي تعني «نظام». أما بين السفارد، فتُسمَّى كتب الصلاة «سيفر تفيلاه». وهذه الكتب تضم الصلوات اليهودية المفروضة والاختيارية، كما تضم بعض النصوص الدينية المأخوذة من الكتب اليهودية الدينية، وبعض الأدعية والأغاني (بيوط) التي تُتلى في السبت، وأحياناً كل المزامير، وبعض فصول المشناه التي عادةً ما تُتلى قبل أو بعد الصلاة، وكل المعلومات التي قد يحتاج إليها المصلي أثناء أداء الصلاة في المعبد اليهودي. انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري.

([24])  انظر: الموسوعة اليهودية، مادة (الأدعية (الابتهالات واللعنات) Benedictions and Curses.

([25])  ويذكر المسيري أن نطاق اللعنة قد تقلص، وأصبح ينطبق على الكنائس، وأماكن العبادة التي تخص المسيحيين وغيرهم (استُثنيَت أماكن العبادة الخاصة بالمسلمين، وربما يكون ذلك في فترة من الفترات.

ويذكر كذلك أن مثل هذه الممارسات كان يقوم بها بعض الجماعات اليهودية وليس كلها، وفي بعض المراحل التاريخية وليس في كل زمان ومكان، كما أن كثيراً من هذه التقاليد الدينية العنصرية آخذة في التآكل بين غالبية أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، ولكنها آخذة في التزايد بين الصهاينة الأرثوذكس في إسرائيل. انظر: الموسوعة اليهودية، مادة (الأدعية (الابتهالات واللعنات)

([26])  انظر هذه الإحصائيات في (الموسوعة اليهودية)

([27])  سنرى تفاصيل أكثر لانحرافات اليهود المختلفة في الفصول القادمة.

([28])  رغم أن اليهودية ليست ديانة تبشيرية، إلا أن كثيراً من الشعوب قد تَهوَّدت. فقد فرض الحشمونيون اليهودية قسراً على بعض الشعوب المجاورة لهم، مثل الأدوميين والإيطوريين، كما تَهوَّدت قبائل الخزر (أو نخبتها القائدة) في ظروف لا تزال غامضة. (انظر تفاصيل ذلك في الموسوعة اليهودية، للمسيري)

وهذا يدل على الخرافة العظيمة، والتدليس الخطيرة الذي أسس عليه الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.

([29])  ويدل لذلك ما ذكره المؤرخون من أنه لم يُعمد إلا على فراش الموت، مع أنه كان قد اعتنق المسيحية قبل ذلك بكثير.. وكان يوصف بالقسوة إلى حد كبير، فقد أعدم ابنه الأكبر، وزوجته في عام 326م. وقد وصفه (هندرليك فان لون) في (قصة الجنس البشري) بقوله:« لقد كان وغداً غليظ القلب لا يرحم »

([30])  هو مجمع القسطنطينية، والذي حضره (150) أسقفاً، وقد كان حصيلة هذا المجمع الصغير أن الروح القدس هو إله من جوهر الله.

([31])  انظر التفاصيل المثبتة لهذا في (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([32])  الإنجيل والصليب صفحة 14.

([33])  انظر: صحيفة وشنطن تايمز على الرابط التالي:

http://www.washtimes.com/national/20060407-120642-3758r.htm

 

([34])  انظر: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته لسيد قطب.

([35])  انظر: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته لسيد قطب.

([36])  الدعوة إلى الإسلام، من الترجمة العربية للدكتور حسن إبراهيم حسن وزميليه.ص 52.

([37])  تاريخ الفلسفة اليونانية:1/429.

([38])  وفي هذا رد بليغ على الشبهة التي يوردها البعض، وهي أن المسيحيين لا يؤلهون العذراء ـ عليها السلام ـ

([39])  وهي شعيرة مستحدثة ما جاء بها (الكتاب المقدس)، وما تعرض لها المسيحيون الأولون، ولا (المجامع المقدسة) الأولى.. وفيها يأكل المسيحيون في الفصح خبزاً، ويشربون خمراً، ويسمون ذلك (العشاء الرباني)، وقد زعمت الكنيسة أن ذلك الخبز يستحيل إلى جسد المسيح وذلك الخمر يستحيل إلى دم المسيح المسفوك، فمن أكلهما وقد استحالا هذه الاستحالة فقد ادخل المسيح في جسده، بلحمه ودمه..

ويستندون في ذلك إلى ما ورد في إنجيل متى على لسان المسيح:« خذوا كلوا. هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي» (متى:26/26- 28)

ويُقال إن بعض أتباعه تخلوا عنه عندما قال هذا الكلام، وقالوا على ما ورد في إنجيل يوحنا (53/6- 66):« فخاصم اليهود بعضهم بعضا كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل. فقال لهم يسوع: الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير، لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق. من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنه فيه. كما أرسلني الآب الحي وأنا حي بالآب فمن يأكلني فهو يحيا بي. هذا هو الخبز الذي نزل من السماء. ليس كما أكل آباؤكم المن وماتوا. من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد.. فقال كثيرٌ من تلاميذه إذ سمعوا: إن هذا الكلام صعب. من يقدر أن يسمعه. فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا فقال لهم: أهذا يعثركم، فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولا، الروح هو الذي يُحيي أما الجسد فلا يفيد شيئا. الكلام الذي أُكلمكم به هو روح وحياهّ. ولكن منكم قوم لا يؤمنون »

وعندما قام الإصلاح البروتستانتي قامت ثورته على رفض هذه العبارة التي تتردد في القداس الكاثوليكي، وكان الخلاف يدور حول الإجابة عن السؤال التالي: ما هي طبيعة القربان تماماً، هل يجب اعتباره ماديا أم يجب اعتباره روحيا خالصاً؟ غير أن نصوص الأناجيل الأربعة الرسمية ورسائل القديس بولس ـ على حسب قول الكاثوليك ـ تدل على أن هذا الطقس أقيم على أساس حسي مادي.

ثم ظهرت النزعة إلى إعطائه بعدا روحيا كما يدل على ذلك إنجيل يوحنا، وهو أكثر الأناجيل عمقا و غنوصية.

وإنجيل يوحنا يتجاهل الكلام المنسوب إلى المسيح في العشاء الأخير (حول أكل لحمه وشرب دمه) لكنه في المقابل تضمن خطابا بالغ الأهمية في اليوم التالي لتوزيعه الخبز الذي تكاثر بين يديه بأعجوبة.

([40])  وهو سر لدى الأرثوذكس والكاثوليك دون البروتسنت الذين هاجموه بشدة.

([41])  سرّ القربان، طبعة يناير 1966، ص14.

([42])  حبيب جرجس – أسرار الكنيسة السبعة – الطبعة الخامسة ص6،12 ؛ الافخارستيا والقداس – للقمص متى المسكين ص24.

([43])  وهي: 1-قداس الرسل.. 2-قداس الربّ.. 3-قداس القديسة مريم.. 4-قداس يوحنا ابن الوعد.. 5-قداس الثلثمائة.. 6-قداس اثناسيوس.. 7-قداس باسيليوس.. 8-قداس غريغوريوس.. 9-قداس أبيفانيوس.. 10-قداس يوحنا فم الذهب.. 11-قداس كيرلس.. 12-قداس يعقوب السرجي.. 13-قداس ريتورس.. 14-قداس غريغوريوس الثاني..

وقد تقلّص عددها إلى ثلاثة قداسات وهي: 1-قداس باسيليوس.. 2-قداس غريغوريوس.. 3-قداس كيرلس.

(انظر: المجموع الصفوي لابن العسال، فصل 12 بند 28)

([44])  انظر: كتاب علم اللاهوت صفحة 386.

([45])  من كتاب (مختصر تاريخ الكنيسة من البداية حتى القرن العشرين)1/ 216.

([46])  من كتاب (مختصر تاريخ الكنيسة من البداية حتى القرن العشرين)1/ 216.

([47])  كما ينص الكتاب المقدس.

([48])  سنتحدث عن التفاصيل المرتبطة بهذا النوع من الصمود في فصل (قيم) من هذه الرسالة.

([49] )  مسلم.

([50] )  البخاري ومسلم.

([51] )  رواه الطبري في تفسير آية المائدة.

([52] )  انظر: تنقيحات، أبو الأعلى المودودي، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي، ص 177هامش.

([53])  انظر فصل (قيم) من هذه الرسالة.

([54])  انظر الأدلة الكثيرة على ذلك في الفصل الأول من هذه الرسالة.

([55])  تعرضت الهيئات الإغاثية الإسلامية في بعض البلدان العربية الواعدة في العمل الإغاثي إلى حالة من الجمود بعد أحداث 11/9/2001م,  وتقلصت خدماتها في سعي إلى إعادة تقويم أدائها من حيث الشرائح التي تستفيد منها.

([56])  انظر: دون م. ماكوري. التنصير: خطة لغزو العالم الإسلامي، ص:252.

([57])  انظر: عبدالله التل. جذور البلاء.- ط 2.- بيروت: المكتب الإسلامي، 1408هـ-1988م.- ص 275.

([58])  إلا أن الأشخاص الذي أدلوا بآرائهم في هذه الدراسة ومنهم رجال دين ومديرو مدارس وهيئات تعليمية وسياسيون بارزون وعلماء ورؤساء تحرير صحف يؤمنون بأن الله قادر على تصريف شؤون الكون والتأثير على أحداثه وأن الوصايا العشر يمكن تطبيقها في عصرنا هذا.. نقلاً عن هيئة الاذاعة البريطانية.

([59])  انظر: الإسلام عقيدة وشريعة: 32 و 33.

([60])  انظر: دعوة الحق بين المسيحية و الإسلام، القاضي منصور حسين عبد العزيز.

 

([61])  وذكر بعض المفكرين المسلمين ثلاث مراحل لسقوط الحضارات، هي:

1- الهرب من الله.

2- فتح أبواب كل شيء عليها: الإنتاج والإبداع في ناحية أو نواح كثيرة.

3- طور الضمور والنحلال فالإستبدال.

وقد مرت الحضارة الغربية بها ككل الحضارات العلمانية المادية:

فقد بدأت هذه الحضارة بهربها من الله وإنكارها للأديان، وثورتها عليها..

ثم كانت كلمات الحرية والديموقراطية ومصلحة الأمة تحرك مشاعر الجماهير في أوروبا وتسير الجيوش من أجل استعمار الشعوب وامتصاص خيراتها ودمائها.

ثم حصلت الحرب العالمية الأولى والثانية، وفقدت أوروبا حوالي ستين مليونا  من زهرات شبابها في ميادين الحرب، وانتهت الحرب ليفقد الشباب كل قيمة كان يتمسك بها، وانتهت هذه الكلمات، لم يعد للحياة أي معنى، وجاء عصر الجاز.. ابتداء من سنة (1920م) واستبدل الشباب بأنهار الدماء التي جرت في الحرب أنهار الخمر الذي أصبح المهرب الوحيد للشباب القلق الفارغ، وانطلق الشباب يريد أن يستمتع ويشبع بهيمة الجنس وسعاره الحيواني، وأضحى المجتمع بحاجة ماسة إلى مستشفيات الأمراض الجنسية المريعة، وبحاجة إلى علوم النفس ومستشفيات الأمراض العصبية والعقلية.(انظر: الإسلام ومستقبل البشرية، عبد الله عزام)

([62])  انظر هذه النماذج في (الزلزال العراقي) لخالص جلبي..

([63])  هناك من يرى بأن قورش هو ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم، ولكن الخاتمة التي انتهت بها حياته تنفي هذا.

([64])  انظر: الزلزال العراقي، خالص جلبي، فصل(نعي أمريكا، ونهاية الديكتاتوريات العربية)

([65])  انظر: الإسلام ومستقبل البشرية، عبد الله عزام.

([66])  انظر تهافت العلمانية للدكتور عماد الدين خليل، ص561.

([67])  انظر: كتاب فوضى العالم في المسرح الغربي المعاصر، عماد الدين خليل، 031-121).

([68])  الخصائص الكبرى:3/128.

([69])  انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (الكلمات المقدسة)، وفيها رد واف على ما ذكره المبشرون والمستشرقون من الشبه في هذا المجال.

([70])  بترجمة عصام الدين حفني ناصف دار الطليعة. بيروت 1974 م.

([71])  جامعة كمبردج 1977 م.

([72])  ترجمة رضا سعادة وإشراف الأب فريد جبر دار الطليعة. بيروت 1974 م.

([73])  بون 1833م، ط 2 ليبزج 1902 م، إعادة طبع 1969 م.

([74])  ترجمة محمد يوسف موسى وزميله، القاهرة ( 1948 م )

([75])  نشر دار كول هامر ضمن سلسلة أربان الألمانية عام 1957 م. وأعيد طبعه 1966م.

([76])  الشبهات المذكورة هنا  وردت في موسوعتين إحداهما متخصصة والأخرى عامة، كل واحدة منهما تعد علمًا في مجالها ونموذجًا لهذا المجال:

أما الموسوعة المتخصصة، فهي دائرة المعارف الإسلامية بطبعتها الجديدة (The Encyclopaedia of Islam - New Edition )، وهي من الموسوعات التي لا غنى عنها للمشتغلين بالدراسات الإسلامية والشرقية.

وأما الموسوعة العامة فهي دائرة المعارف البريطانية (Encyclopaedia Britannica)، وهي تتمتع بانتشار واسع في دوائر المثقفين في سائر أرجاء العالم.

والفرق بينهما أن الموسوعة العامة تتجه إلى القارئ العادي غير المتخصص أكثر من اتجاهها إلى الباحث المتخصص فتكون أقل تفصيلًا من الموسوعات المتخصصة، ومن ثم فإن موادّها تناسب القارئ المتعجل الذي يريد أن يلمّ بأطراف الموضوع ويحصل فيه على نوع من المعرفة المتميزة دون التعمق فيه.

أما الموسوعة المتخصصة فتقتصر على مجال محدد تتناوله من مختلف جوانبه وفروعه دون غيره، كدائرة المعارف الإسلامية التي تعنى بكل ما يتعلق بالإسلام من علوم ومعارف.

وتعد الموسوعة البريطانية (دائرة المعارف البريطانية) أشهر الموسوعات العامة على الإطلاق، كما تعد أفضل موسوعة كتبت باللغة الإنجليزية، وهي توزّع على نطاق واسع في كل القارات، ويتباهى بتملكها المثقفون في كل أنحاء العالم.

وكانت قد طبعت لأول مرة في بريطانيا سنة 1771 في ثلاثة أجزاء بإشراف عدد من كبار العلماء البريطانيين في ذلك الوقت، ثم طبعت بعد ذلك عدة طبعات وصدرت طبعتها الرابعة عشرة في شيكاغو (أمريكا) سنة 1929م في 24 مجلدًا.

وكانت دائر المعارف البريطانية قد خلت من مادة مستقلة عن (القرآن) في طبعاتها القديمة التي أحيل فيها إلى الرجوع تارة إلى مادة (محمد) وتارة إلى مادة (الأدب العربي﴾ (انظر طبعتي 1890و1926م) حتى أفردت في طبعه سنة 1929للقرآن مادة مستقلة تشتمل على ترجمة لكتاب ألماني بعنوان (موجزات شرقية) نشره المستشرق الألماني تيودور نولدكه (توفي سنة 1930) في برلين سنة 1892، وقد كان هذا الرجل الذي كتب مادة القرآن في تلك الطبعة كما وصفه المستشرق السويسري ستيفان فيلد Stefan Vild أجهل علماء عصره، وأشدهم عداوة للإسلام (انظر: ثابت عيد: الإسلام في عيون السويسريين، بافاريا، ألمانيا، 1420ه - 1999م. ص218)

أما طبعة سنة 1974، وهي الطبعة الخامسة عشرة، فقد كتب مادة القرآن فيها باللغة الإنجليزية H. R (كذا دون تعريف كاف). وتقع هذه المادة في المجلد الخامس عشر، في نحو خمس صفحات على عمودين كاملين.

أما دائرة المعارف الإسلامية، وهي موسوعة متخصصة، فقد قرر مجلس إدارتها أن يضرب صفحًا عن طبعتها الأولى، ويعيد كتابة موادها من جديد، فصدرت الدائرة في طبعتها الجديدة بالاسم نفسه وأضيفت إليها عبارة الطبعة الثانية Encyclopaedia of Islam second Edition، وقام بكتابة مواد هذه الطبعة المستشرقون المحدثون وعدد من كتاب الطبعة السابقة ممن ظلوا على قيد الحياة لكي تتضمن خلاصة ما توصل إليه الفكر الاستشراقي الحديث من آراء ونتائج في مختلف الموضوعات الإسلامية.

وبدأت مجلداتها تصدر تباعًا من مطبعة بريل، بمدينة ليدن بهولندا منذ سنة 1960م. ثم أعيد طبع هذه الطبعة نفسها مرة أخرى بعد ذلك في سنة 1979.

ودائرة المعارف الإسلامية تتوسع في مقالاتها توسعًا يكاد يخرجها عن كونها مجرد إشارات سريعة تتيح أمام الباحث المبتدئ مساحة كافية تعينه على تكوين رأي خاص في الموضوع، بل توشك هذه المقالات أن تكون تقارير شبه كاملة تتضمن الكثير من التقرير والحسم، قلما يجد الباحث فرصة كافية لكي ينفك من تأثيراتها الغالبة وآرائها شبه النهائية ويكون لنفسه رأيًا خاصًا في موضوعاتها.

وإذا نظرنا إلى مادة (القرآن) التي كتبها باللغة الإنجليزية A.T.Welch في الطبعة الثانية المشار إليها، نجد أنها تقع في 33 صفحة من القطع الكبير، ببنط صغير وعلى عمودين كاملين في كل صفحة، مما يساوي كتابًا بأكمله في الموضوع. وقد حشد الكاتب المادة بآراء كبار المستشرقين القدماء منهم والمحدثين في كل جزئية من جزئيات المقال، وبذلك توفر علينا هذه المادة عناء البحث عن الشبهات المختلفة للمستشرقين في هذا المجال (انظر: الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم، للدكتور: محمد السعيد جمال الدين)

([77])  يقصد بالنقد الأعلى، أنه لا بد للباحث أن يستخدم قاعدة الشك المنهجي، فلا يجزم بشيء يتعلق بالراوي إلا بعد التثبت من ذلك بأسباب قوية.

ففيما يتعلق بالراوي لا بد من الإجابة عن أسئلة كثيرة، مثل: من الراوي، وما سيرته وما أخلاقه، وما غايته؟.. ومتى كتب كتابه، وفي أي وقت، ولمن كتب؟.. وما مدى تحقق شروط العدالة الأخلاقية والضبط العلمي فيه.

وما البيئات السياسية والاجتماعية والأحداث التاريخية والصراعات العقدية التي عاصرها؟.. وما مدى انعكاسها على الكاتب وبالتالي على النص؟

وكيف جمع النص أولًا، وما الأيدي التي تناولته، وما النسخ التي اشتمل عليها؟

([78])  يقصد بالنقد الأدنى وجوب دراسة لغة الكتاب المقدس (العبرية) لفهم المعنى المقصود دون تدخل من المترجمين.

ويرون أنه لا يؤخذ النص ككل، بل يحلل إلى أجزاء، ويدرك كل جزء على حدة، ثم تجمع العبارات في أقسام رئيسة وتفرز العبارات الواضحة من العبارات المبهمة والمعارضة لفظيًّا، مع تطبيق قاعدة الحقيقة والمجاز اللفظي لا المعنوي في شأن هذه العبارات.

وبعدها يأتي التحليل الداخلي الدقيق للنص للعثور على الأخطاء والاختلافات والتناقضات كالأخطاء الطبيعية والرياضية، أوأن يذكر الحديث في أكثر من موضع بشكل مختلف من حيث تحديد الزمان والمكان والعناصر زيادة كانت أو نقصًا، أو إثبات شيء في موضع ونفيه في موضع آخر، أو ذكر قاعدة شرعية في موضع ونفيها في موضع آخر، أو ورود لفظ لا يمكن أن يكون قد استعمل بهذه الدلالة إلا في عصور لاحقة، أو تباين الأسلوب الأدبي بين أجزاء النص.

وبعدها ملاحظة تطور الفكر العقدي من عصر إلى آخر، لاكتشاف اختلاف تواريخ كتابة أجزاء النص.

وقد أغرى نجاح هذا الأسلوب مع الكتاب المقدس المستشرقين المشتغلين بالدراسات الإسلامية على تطبيق المنهج نفسه على القرآن الكريم، لعلهم يحققون به مع القرآن نتائج مماثلة لما حققها نقاد الكتاب المقدس.

انظر: الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم، د. محمد السعيد جمال الدين.

ولتفاصيل تطبيق هذا المنهج على كلا المصدرين: القرآن الكريم والكتاب المقدس انظر الرسالة الخاصة بذلك (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([79])  محمد خليفة حسن، آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية، ص 102.

([80])  صنّف المبشرون من أتباع مدرسة النقد التاريخي عدة مصنفات ضد أصالة القرآن الكريم تضعه في مصافّ الأعمال ذات المراحل التطورية المتعاقبة، ومن هذه المصنفات:

1. تاريخ القرآن، بوتيه ( 1800 ـ 1883م )، باريس 1904م.

2. التطور التاريخي للقرآن، إدوارد سل، مدارس ( الهند ) 1898م.

3. القرآن، فلهاوزن ( 1844 ـ 1918م ) مقال بالمجلة الشرقية الألمانية عام 1913م.

4. مواد لدراسة تأريخ نص القرآن، آرثرجيفري، ليدن 1937م.

5. تاريخ النص القرآني، أجناس جولدتسهر، جوتنجن 1860م، وقد أعيد طبعه والتعليق عليه في مجلدين بواسطة ف. شواللي، ليبتزج 1909م.

6. تاريخ النص القرآني، نولديكه.

7 0 تاريخ قراءات القرآن، برجشتراسر.

وذلك بخلاف المداخل التي صنفها مجادلو التبشير للتعريف بالقرآن الكريم وتناولت قضية (مصادر القرآن)، (تاريخ القرآن)، مثل المدخل الذي وضعه: بلاشير الفرنسي ونُشر في باريس 1947م بعنوان (مدخل إلى القرآن)، والمدخل الذي وضعه: د. بل، ونشر في أدنبرج 1954 م بعنوان (مدخل إلى القرآن)

انظر: عمر رضوان، آراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره (1/220 ـ 231 ).

([81])  دفاع عن القرآن، ص 107-108، وللدكتور بدوي آراء أخرى في نقد نولدكه، انظر ص 107.

([82])  من مقدمة أربري لترجمة القرآن الإنجليزية، الطبعة الأولى، 1955، انظر: أحمد سمايلوفيتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، طبع مصر 1980م، ص 173 - 174.

([83])  انظر: الدكتور التهامي نقرة: القرآن والمستشرقون، مقال في كتاب (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية)، مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1405ه (1985م): 1/ 21-57

([84])  قال ذلك في في كتابه: التوحيد والنبوة والقرآن في حوار المسيحية والإسلام، انظر: الإسلام في عيون السويسريين للدكتور ثابت عيد، ص 198.

([85])  انظر الرد المفصل على هذه الشبهات في رسالة ( النبي المعصوم) من هذه السلسلة.

([86])  كمثال على ذلك انظر ما ورد في دائرة المعارف الإسلامية، مادة (القرآن) عن آية الكرسي، وقول كاتب المادة إن لفظي العرش والكرسي ينطويان على « دلالات أسطورية»، ومثل ذلك كلامه على الشهب المرسلة ونفخ الصور يوم القيامة وطوفان نوح وغيرها.

([87])  انظر ما أثبته علم الآثار في هذا المجال في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة، وقد فسر الأستاذ عباس محمود العقاد سكوت العهد القديم عن عاد وثمود بأنه محاولة من الكتبة للتعفية على كل رسالة إلهية في أبناء إسماعيل (العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء، ص 119)

وليس هذا صحيحا من الناحية التاريخية لأن عادا وثمود كانا قبل إسماعيل u وليسا من ذريته.

وربما يكون مقصوده التعفية على كل رسالة من غير بني إسرائيل، وخصوصا من العرب.

والأرجح من ذلك كله هو أن الكتاب المقدس في أصله تأريخ لبني إسرائيل، وما دامت عاد وثمود لم تدخل في أنساب بني إسرائيل، فلم يكن هناك مبرر لذكرها.

([88])  انظر: محمد قطب: المستشرقون والإسلام، ص 60.

([89])  البحوث القرآنية، مقال من كتاب ألمانيا والعالم العربي، ترجمة مصطفى ماهر وكمال رضوان، بيروت: 1974، ص 347-357.

انظر الرد على هذه الشبهة وما يبين سر هذا النظم القرآني الخاص في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([90])  دفاع عن القرآن، ص28.

([91])  ومن أطرف ما يذكرون في هذا الباب أن لفظ الجلالة (الله) عبرى أو سريانى، وأن القرآن أخذه عن هاتين اللغتين.

مع أن اللفظ (الله) ليس له وجود فى غير العربية، فالعبرية مثلاً تطلق على (الله) عدة إطلاقات، مثل ايل، الوهيم، وأدوناى، ويهوا أو يهوفا. فأين هذه الألفاظ من كلمة (الله) فى اللغة العربية.

وفى اللغة اليونانية التي ترجمت منها الأناجيل إلى اللغة العربية نجد (الله) فيها (الوى)، وقد وردت فى بعض الأناجيل يذكرها المسيح u مستغيثاً بربه هكذا (الوى الوى) وترجمتها إلهى إلهى، انظر: شبهات المشككين.

([92])  انظر: تعليقات إبراهيم عوض في كتابه (دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية: أضاليل وأباطيل)، وهو الكتاب الذي ألفه في نقد ما كتب في الطبعة الأولى من الدائرة المذكورة، حول آراء المستشرقين في المسائل اللغوية، وما أثبته من وجود عدد كبير من هذه الألفاظ في الشعر الجاهلي قبل نزول القرآن الكريم.

وانظر: شبهات المشككين.

([93])  انظر الرد على وجود كلمات أعجمية في القرآن في (شبهات المشككين)، وانظر (الكلمات المقدسة)

([94])  هذا ما ذكره المستشرق (نولدكه)، وهو منقول عن المستشرق موير Muri في كتابه (إله محمد)

([95])  ترد سورة العلق في ترتيب (نولدكه) الزماني للقرآن، وهو الترتيب الذي يعتمده المستشرقون، برقم 1 (انظر: دائرة المعارف الإسلامية، مادة القرآن في الفقرة 3 تاريخ القرآن)

([96])  يشير إلى قوله ':﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ (لنجم:13)، والآية تشير إلى جبريل u لا إلى الله، فقد رآه النبي r في ذلك الموقف على صورته الحقيقية.

([97])  يشير هنا إلى قوله تعالى:﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ﴾( البقرة: 252)، و(آل عمران 108) وكلاهما مدنية، و(الجاثية: 6) مكية.

([98])  يشير إلى قوله ':﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (البقرة:97)

([99])  هناك رد مفصل على هذه الشبهة في رسالة (الكلمات المقدسة)، وانظر: الدكتور محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم، ص 62 وما بعدها.

 

([100])  سيد قطب، في ظلال القرآن:4 /2195.

([101])  يشير إلى قوله ':﴿ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً﴾ (الاسراء: من الآية93)

([102])  يشير إلى قوله ':﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأنعام:155).

([103])  رواه ابن جرير وابن إسحق وغيرهما.

([104])  هذه عادة المستشرقين والمبشرين وغيرهم من المعادين للإسلام من الاكتفاء بالإشارة إلى الآيات دون ذكرها ليحملوها ما يشاءون.

([105])  وهو الدكتور إبراهيم عوض، انظر: د. إبراهيم عوض: دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية: أضاليل وأباطيل، ص 14.

([106])  انظر تفاصيل الفرق بينهما، والشبه المرتبطة بذلك في (الكلمات المقدسة)

([107])  رواه البخاري.

([108])  نحن نستعمل هذا المصطلح هنا مع أن الكثير ينفر منه، ويعدل بدله إلى (التنصير)وذلك لسببين:

أولهما أنه المصطلح الذي سمى به المبشرون لأنفسهم، وما كان لنا أن نسميهم بغير ما ارتضوه لأنفسهم.

وثانيهما أن التبشير ـ في أصل اللغة العربية، وفي القرآن الكريم ـ يعبّر به عن الحسن والطيب، وعن السوء، وما لا تُحمد عقباه، كما قال ':﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾(آل عمران: 21)، وقال ':﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ﴾(النحل: 58 ـ 59)، وقال ':﴿ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (لقمان: 7)

انظر: محمد عثمان بن صالح، النصرانية والتنصير، أم المسيحية والتبشير، مكتبة ابن القيم، المدينة المنورة 1410هـ ـ 1989م

([109])  استفدنا أكثر المعلومات والاقتباسات في هذا المطلب من كتاب: الغارة التنصيرية على أصالة القرآن الكريم، د. عبد الراضي محمد عبد المحسن.

وهي دراسة مهمة جدا، وقد قال مؤلفها في مقدمتها:« تهدف هذه الدراسة إلى تحصين المسلم المعاصر وتزويده بنظرة نقدية للفكر التبشيري حول القرآن الكريم، وتاريخ الجدل ضد أصالته، ومسالك المنصرين في جدلياتهم ضد أصالة القرآن الكريم بما يتمكن معه المسلم المعاصر من الفكاك من أسر الأطروحات التي قدمها التبشير خلال مراحل ارتقائه التاريخي منذ نشأته حتى يومنا هذا.

كما تهدف الدراسة من جانب آخر إلى توجيه الدعاة إلى الله بين غير المسلمين إلى الردود والشواهد العقلية والنقلية، والبراهين العلمية، والحقائق التاريخية التي تعينهم في الدعوة إلى كتاب الله، وتمكنهم في الوقت نفسه من تصحيح المفاهيم المغلوطة التي روّجها المنصِّرون حول القرآن الكريم بغرض صرف الناس عنه » فجزاه الله خيرا على هذا الهدف النبيل.

([110])  عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، بيروت: دار العلم للملايين. 1989م. ص 211.

([111])  عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، ص 348 ـ 349.

([112])  انظر: د. جواد علي، يوحنا الدمشقي، مجلة الرسالة ( مصر )، ( عدد 610 )، ص 243، ربيع الأول 1364 هـ ـ مارس 1945 م.

([113])  أي: الذين أبعدتهم سارة باحتقار.

([114])  انظر: رشا الصباح، الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى، ص 706، مجلة عالم الفكر، عدد (3) المجلد الخامس عشر. وزارة الإعلام، الكويت.

([115])  د. محمد الفيومي، الاستشراق رسالة استعمار، ص 364 ـ 365، دار الفكر العربي. القاهرة 1413هـ ـ 1993م.

([116])  د. قاسم السامرائي، الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية، الرياض: دار الرفاعي، 1403 هـ ـ 1983م. ص 57.

([117])  الرسالة منشورة بمجلة المشرق المسيحي، العدد (15) من السنة السابعة، عام 1904م. ونسخة أخرى نشرها لويس شيخو في كتابه: «مقالات دينية قديمة لبعض مشاهير الكتبة النصارى» ص / 15 ـ 26، طبع الآباء اليسوعيين.

ومما ورد في الرسالة عند حديثه عن الأناجيل:« وأما تعظيمه لإنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا فقوله:﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة: 46)، ثم قوله:﴿ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ (يونس: 94)، فثبت بهذا المعنى ما معنا ونُفِيَ عن إنجيلنا وكتبنا التهم بالتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.

قلت: فإن قال قائل: إن التبديل قد يجوز أن يكون بعد هذا القول.

قالوا: هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله لأن كتبنا قد جاز عليها من نحو ستمائة سنة وصارت في أيدي الناس يقرؤونها باختلاف ألسنتهم » (انظر: رسالة بولس أسقف صيدا الراهب الأنطاكي، ص 17 من نشرة لويس شيخو)

وهذا القول لا زال المبشرون ـ للأسف يتداولونه في واقعهم وكأنه حقيقة مقررة.

([118])  سعد بن منصور بن كمونة، تنقيح الأبحاث للملل الثلاث، ص 70، نشره موسى برلمان، مطبوعات جامعة كاليفورنيا.

([119])  لقد ذكر الله ' تسارع اليهود إلى قتل أنبيائهم، فقال ':﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾ (البقرة: من الآية87).

([120])  هناك ردود مفصلة على هذه الاعتراضات في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([121])  قاسم السامرائي، الاستشراق به الموضوعية والافتعالية، ص 78.

([122])  محمد الفيومي، الاستشراق رسالة استعمار، ص 368.

([123])  قاسم السامرائي، الاستشراق به الموضوعية والافتعالية، ص 90.

([124])  محمد الفيومي، الاستشراق رسالة استعمار، ص 373.

([125])  عبد الرحمن بدوي، دفاع عن القرآن ضد منتقديه، ص 5.

([126])  انظر: عبد الحميد مدكور، الترجمة والحوار مع الآخر، كتاب المؤتمر الدولي الأول للفلسفة الإسلامية (الفلسفة الإسلامية والتحديات المعاصرة) المنعقد بدار العلوم، القاهرة، 1996 م، ص 47.

([127])  وهو مخطوط بالسريانية، وموجود في كنيسة بطريركية السريان ببيروت (محمد صالح البنداق، المستشرقون وترجمة القرآن الكريم، دار الآفاق الجديدة، ط2، بيروت 1403، ص 7)

([128])  انظر: أحمد عبد الحميد غراب، رؤية إسلامية للاستشراق، ص 35، المنتدى الإسلامي، لندن 1411هـ.

([129])  أما الترجمات الفرنسية للقرآن ـ سواء ما اعتمد منها على الترجمة اللاتينية الأولى أم ما اعتمد على الأصل العربي، أم على ترجمة مرتشي الإيطالي ـ فإنها شوهت النص الأصلي، وابتعدت عنه كما تقول الباحثة هداية عبد اللطيف مشهور في دراستها حول ترجمات القرآن الفرنسية:« رجعت إلى خمس وعشرين ترجمة للقرآن بالفرنسية، فوجدتها كلها محرَّفة، وتضيف نصوصًا من التوارة إلى آيات القرآن الكريم دون الإشارة إلى ذلك » (مجلة الحرس الوطني، المملكة العربية السعودية ( ذو القعدة 1413هـ ـ مايو 1993 م، العدد 129، ص 37)

([130])  عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، ص 303.

([131])  راجع رصدًا لهذه العناوين لدى: محمد أبو فراخ، تراجم القرآن الأجنبية في الميزان، مجلة كلية أصول الدين بجامعة الإمام ابن سعود الإسلامية. العدد الرابع ( عام 1402هـ ـ 1403هـ )

([132])  بدأ صدور الترجمة العربية للطبعة الأولى منذ عام 1934م، وفي عام 1997م صدرت ترجمة كاملة لدائرة المعارف الإسلامية بالتعاون بين الهيئة المصرية العامة للكتاب ومركز الشارقة للإبداع الفكري.

([133])  أعراب عبد الحميد، دائرة المعارف الإسلامية، ص 9.

([134])  جولد تسهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، بترجمة محمد يوسف موسى وآخرون، القاهرة 1948م، ص 12.

([135])  صدرت هذه الجدلية منتصف القرن العشرين في أربع مجلدات طبعتها مطبعة حريصا البولسية في لبنان بعنوان (دروس قرآنية)، مع عنوان خاص لكل كتاب، يجسد فيه مضمون جدليته.

وعناوين هذه الكتب الأربعة هي (الإنجيل والقرآن)، (القرآن والكتاب)، (القرآن والكتاب) وهو تكملة للجزء الثاني، و(نظم القرآن والكتاب)

وقد تصدى له الشيخ محمد عزة دروزة في ردٍّ تفصيلي في كتابه (القرآن والمبشرون)

([136])  الحداد، القرآن والكتاب ( 2/1060 )

([137])  جولدتسهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 15.

([138])  جولدتسهر، العقيدة والشريعة، ص 25.

([139])  تيودور أبو قرة، ميمر في وجود الخالق والدين القويم، ص 85، بتحقيق: إغناطيوس ديك.

([140])  مصطفى خالدي ـ عمر فروخ، التبشير والاستعمار في البلاد الإسلامية، ص 40.

([141])  جلال العالم، دَمِّرُوا الإسلام وأبيدوا أهله، ص 63، مكتبة الصحابة جدة ـ مكتبة التابعين، القاهرة. 1994م..

([142])  إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 168.

([143])  د. محمد عمارة، إستراتيجية التبشير، ص 29.

([144])  محمد أسد، الإسلام على مفترق الطرق، بيروت: دار العلم للملايين، 1987م، ص 41.

([145])  انظر الرد على تفاصيل هذه الشبهات وغيرها في (الكلمات المقدسة)

([146])  قالوا عن القرآن، الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل، وهو كتاب يعرض العديد من أقوال علماء وأدباء ومفكري الغرب حول القرآن الكريم، منهم من أسلم ومنهم من لم يسلم.

([147])  من مواليد الاسكندرية عام 1919.. وهذه الشهادات من كتابه (محمد في التوراة والانجيل والقرآن)

([148])  تناولنا هذه الآيات بالدراسة مستخلصين منها حقيقة الإنسان في الإسلام في فصل (إنسانية) من هذه الرسالة.

([149])  رجال ونساء اسلموا، 7/116 - 118.

([150])  القرآن الكريم والتوراة والانجيل والعلم، ص 13، وانظر البراهين العلمية الكثيرة المثبتة لهذا القول في رسالة ( معجزات علمية ) من هذه السلسلة.

([151])  القرآن الكريم والتوراة والانجيل والعلم، ص 144.

([152])  القرآن الكريم والتوراة والانجيل والعلم، ص 145.

([153])  القرآن الكريم والتوراة والانجيل والعلم، ص 150.

([154])  تخرج من كانتر بوري. مؤلف وكاتب مشهور. ومن بين مؤلفاته الادبية بالانكليزية (مغامرات القاسم) و (عالم جديد). شارك في الحرب العالمية الاولى وأسر. عمل فترة من الوقت في اوغندا. اعلن اسلامه عام 1922م.

([155])  رجال ونساء اسلموا 2/86.

([156])  هو Et.Dinet (1861 - 1929): تعلم في فرنسا، وقصد الجزائر، فكان يقضي في بلدة بو سعادة نصف السنة من كل عام، واشهر اسلامه وتسمى بناصر الدين (1927)، وحج الى بيت الله الحرام (1928)، من آثاره: صنف بمعاونة سليمان بن ابراهيم (محمد في السيرة النبوية)، وله بالفرنسية (حياة العرب)، و(حياة الصحراء)، و(أشعة خاصة بنور الإسلام)، و(الشرق في نظر الغرب)، و(الحج الى بيت الله الحرام)

([157])  اشعة خاصة بنور الاسلام، 35.

([158])  محمد رسول الله، ص 106.

([159])  محمد رسول الله، ص 118.

([160])محمد رسول الله، ص 119 - 121.

([161])  من آثاره: ترجم صحيح البخاري بتعليق وفهرس، والف (اصول الفقه الاسلامي)، و(الطريق الى مكة)، و(منهاج الاسلام في الحكم)، و(الاسلام على مفترق الطرق).

([162])  الطريق الى مكة، ص 318.

([163])  البحث عن الله، ص 45.

([164])  البحث عن الله،  51.

([165])  البحث عن الله، ص 112 - 113.

([166])  البحث عن الله، ص 113.

([167])  سبق تعريفه والحديث معه في الفصل السابق.

([168])  الدعوة الى الاسلام (بحث في تاريخ نشر العقيدة الاسلامية)، ص 162.

([169])  هو مستشرق أمريكى، أولى اهتماماً كبيراً لتاريخ المسلمين في الأندلس. من آثاره: (سيرة النبي العربي) مذيلة بخاتمة لقواعد الإسلام ومصادرها الدينية (1849)، و(فتح غرناطة﴾ (1859)، غيرها.

([170])  حياة محمد، ص 72.

([171])  حياة محمد، ص 304.

([172])  وعمل استاذاً بجامعة براون، واستاذاً زائراً بالجامعة الامريكية في بيروت، ومديراً للمدرسة الامريكية للبحوث الشرقية بالقدس، ومن مؤلفاته: Founders of Great religions,، What Means these Stones,.Palestines is our Busness, 1941.

 

([173])  بلاشير r.l.Blachere، ولد بالقرب من باريس، وتلقى دروسه الثانوية في الدار البيضاء، وتخرج بالعربية في كلية الاداب بالجزائر (1922)، وعين استاذاً لها في معهد مولاي يوسف بالرباط، ثم انتدب مديراً لمعهد الدراسات المغربية العليا بالرباط (1924 - 1935)، واستدعنه مدرسة اللغات الشرقية بباريس استاذاً لكرسى الادب العربى (1935 - 1951)، ونال الدكتوراه (1936)، وعين استاذاً محاضراً في السوربون (1938)، ومشرفاً على مجلة (المعرفة)، التى ظهرت في باريس باللغتين العربية والفرنسية، من آثاره: دراسات عديدة عن تاريخ الادب العربى في اشهر المجلات الاستشراقية، وكتاب (تاريخ الادب العربى﴾ (باريس 1952)، وترجمة جديدة للقرآن الكريم في ثلاثة اجزاء (باريس 1947 - 1952)، وغيرها.

([174])  تاريخ الادب العربى 2/22.

([175])  تاريخ الادب العربى 2/31.

([176])  القرآن الكريم، ص 102 - 103.

([177])  سيكون الحوار معه في فصل (إنسانية) من هذه الرسالة.

([178])  انسانية الاسلام، ص 52 - 53.

([179])  انسانية الاسلام، ص 206 - 207.

([180])  انسانية الاسلام، ص 109.

([181])  انسانية الاسلام، ص 343.

([182])  انسانية الاسلام، ص 345..

([183])  ولد عام 1886م، لبناني الاصل، امريكي الجنسية، تخرج من الجامعة الامريكية في بيروت (1908م)، ونال الدكتوراه من جامعة كولومبيا (1915م)، وعين معيداً في قسمها الشرقي (1915 - 1919)، واستاذاً لتاريخ العرب في الجامعة الامريكية ببيروت (1919 - 1925)، واستاذاً مساعداً للاداب السامية في جامعة برنستون (1926 - 1929م)، واستاذاً ثم استاذ كرسى ثم رئيساً لقسم اللغات والاداب الشرقية (1929 - 1954م)، حين احيل على التقاعد، انتخب عضواً في جمعيات ومجامع عديدة.

من آثاره: (اصول الدولة الاسلامية﴾ (1916م)، (تاريخ العرب﴾ (1927م)، (تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين﴾ (1951م)، (لبنان في التاريخ﴾ (1961م)، وغيرها.

([184])  هذا وجه من وجوه الإعجاز، وليس كل الإعجاز.

([185])  الاسلام منهج حياة، ص 62.

([186])  الاسلام منهج حياة، ص 287 - 288.

([187])  مسيحي من لبنان، ينطلق في تفكيره من رؤية مادية طبيعية صرفة، كما هو واضح في كتابه المعروف (قصة الانسان)..

([188])  قصة الانسان، ص 79 - 80.

([189])  هو إميل درمنغم E.Dremenghem: عمل مديراً لمكتبة الجزائر، من آثاره: (حياة محمد﴾ (باريس 1929)، و(محمد والسنة الاسلامية﴾ (باريس 1955)، ونشر عدداً من الابحاث في المجلات الشهيرة مثل: (المجلة الافريقية)، و(حوليات معهد الدراسات الشرقية)، و(نشرة الدراسات العربية)، وغيرها.

([190])  حياة محمد، ص 131 - 132.

([191])  حياة محمد، ص 195.

([192])  هناك معجزات أخرى للنبي r.. انظر الغرض من هذا القول الذي يلح عليه الكثير من المستشرقين والمبشرين في رسالة (معجزات حسية)

([193])  حياة محمد، ص 279 - 280.

([194])  هو Cte.H.de Castries(1850 - 1927)، قضى في الشمال الافريقي ردحاً من الزمن، من آثاره: (مصادر غير منشورة عن تاريخ المغرب﴾ (1905)، (الاشراف السعديون﴾ (1921)، (رحلة هولندي الى المغرب﴾ (1926)، وغيرها..

([195])  الاسلام: خواطر وسوانح، ص 18 – 20.. ولا يخفى ما في كلامه هذا من الأخطاء، ولكن محل الشاهد هو تقديره للقرآن بغض النظر عن جهة التقدير.

([196])  الاسلام: خواطر وسوانح، ص 20.

([197])  الاسلام: خواطر وسوانح، ص 22 - 23.

([198])  ول ديورانت W.Durant: مؤلف امريكي معاصر، يعد كتابه (قصة الحضارة) ذو الثلاثين مجلداً، وأصدر جزأه الاول عام 1935، ثم تلته بقية الاجزاء، ومن كتبه المعروفة كذلك (قصة الفلسفة)..

([199])  قصة الحضارة، ص 13/68 - 69.

([200])  من أساتذة جامعة ييل. من آثاره: العديد من الدراسات والابحاث في المجلات الشهيرة مثل (الثقافة الاسلامية)، (الشرقيات)، (صحيفة الجمعية الامريكية الشرقية).كما الف عدداً من الكتب من اشهرها: (مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي)، (وعلم التاريخ عند المسلمين).

([201])  علم التاريخ عند المسلمين، ص 41 - 42.

([202])  تحذير الخواص:السيوطى 163.

([203])  رواه البخاري.

([204])  رواه البخاري.

([205])  رواه البخاري.

([206])  رواه أحمد وأبو داود والدارمي.

([207])  رواه أبو داود.

([208])  رواه أحمد والنسائي.

([209])  رواه البخاري.

([210])  رواه البخاري.

([211])  رواه مسلم.

([212])  رواه مسلم.

([213])  رواه الحاكم في المستدرك (1 / 109) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2 / 1192) مختصراً.

([214])  رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم ( 2 / 1193 )

([215])  ابن حزم. الإحكام 2: 193.

([216])  انظر: بينات الرسول r ومعجزاته، عبد المجيد الزنداني.

([217])  انظر: السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث، محمد الغزالي.

([218])  انظر: السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث.

([219])  المنار المنيف في الصحيح والضعيف 46.

([220])  المنار المنيف في الصحيح والضعيف 56.

([221])  المنار المنيف 78..

([222])  المنار المنيف: 78.

([223])  المنار المنيف: 94.

([224])  للأستاذ أكرم ضياء العمري ( وهو أستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة كلية الدعوة) بحث حول (موقف الاستشراق من السنة والسيرة النبوية) ذكر فيه تأريخا ملخصا لجملة من آراء المستشرقين في السنة النبوية نذكره هنا ـ ببعض التصرف ـ لأهميته، ولارتباط ما نورده من الرد عن الشبهات به:

قال: لم يفرد المستشرقون القدامى السنة بدراسات مستقلة، بل ركزوا على العقيدة والقرآن والسيرة والتاريخ.. ففي نهاية القرن السابع عشر كتب هربلو وهو فرنسي ( 1635 - 1695 م ) صاحب المكتبة الشرقية ـ وهي دائرة معارف عن الشرق نُشرت 1738 م - بحثاً في ( حديث، قصة، خبر مسموع مقول، أحاديث الرسول، حديث عن أشياء قالها الرسول الزائف وقد نقل من فم إلى فم ومن شخص إلى آخر ).

وخلاصة رأيه أن جملة الأحاديث التي في الكتب الستة والموطأ والدارمي والدارقطني والبيهقي والسيوطى مأخوذة إلى حد كبير من التلمود.

ويلاحظ أنه يفرق بين السنة التى التزم المسلمون بتطبيق أحكامها وبين الحديث الذي هو مجرد خبر تاريخى غير موثوق.

وهو يزعم بأن المحمدية مستقاة من التلمود، واليهود الذين دخلوا في الإسلام، مما سيتطور فيما بعد إلى الاستقاء من عدة ديانات وحضارات كانت على صلة بجزيرة العرب.

وفي القرن الثامن عشر قسم المستشرقون حقول الدراسات الشرقية بصورة موضوعية، وفي نهاية القرن برز الأمير كايتاني ( 1869 - 1926 م ) وميور ( ت 1905 م ) وشبرنجر Sprenger( ت 1893 م ). وكانوا مهتمين بتاريخ السنة واعتقدوا الشك في صحة الأحاديث وسعوا للكشف عما أسموه (المادة الأصلية للحديث)

وقد أفاد من الثلاثة أحد المتضلعين بأصول اللغات السامية والتاريخ الإسلامي هو إجناس جولد تسيهر ( 1850 - 1921 م ) الذي درس بالأزهر، وهو مجري الجنسية يهودي الديانة، وقد اعتبره المستشرقون ـ ومن تأثر بهم ـ الرائد الأول في دراسة الحديث ونقده بالاستعانة بمنهج النقد التاريخي، حيث توصل إلى فكرة تطور الأسانيد والمتون في الفكر الإسلامي.

وهو يرى أن وضع الحديث بدأ في جيل الصحابه المبكر، وإن كان يثبت وجود مادة أصلية، فهو يعترف بوجود أحاديث مكتوبة في الصحف في ايدي الصحابة، لكنه رغم ذلك يرى أن التدوين للسنة لم يبدأ إلا فى القرن الثانى.

ويرى أن معظم الأحاديث وضعتها الفرق السياسية الكلامية والمذهبية في القرنين الثاني والثالث، لذلك هى تعكس تطور المسلمين السياسي والفكري خلال القرنين ولا تمت غالباً إلى القرن الأول بصلة.

وقد عزا أصول الإسلام إلى اليهودية والمسيحية، وأكد على تأثير الهلينية في تطور الإسلام، وتأثير القانون الروماني في نمو التشريع الإسلامي.

وقد صارت دراساته دستوراً للمستشرقين من بعده، وقليل منهم انتقد بعض آرائه أو عدَّل فيها مثل فيوك Fueck ( ت 1939 م ) وهوروفتس Horovitz ( ت 1931 م )، أما الأكثرية الساحقة فاكتفوا بتعميق آرائه بإضافة براهين جديدة أو تعميمها على حقول جديدة مثل كيوم ونيكلسون وهاملتون كب وواط وفنسنك ( ت 1939 م ).

وقد ركز فنسنك على أحاديث العقيدة في كتابه العقيدة الإسلامية في حين ركز جوزيف شاخت ( ولد 1902 م ) ـ وهو يهودي الديانة بريطاني الجنسية ـ على أحاديث الأحكام في كتابه أصول الشريعة المحمدية وكتابه الآخر مقدمة في الفقه الإسلامي.

وقد أكد شاخت على اختلاق الأحاديث، وأثنى كيب وسافوري على كتابه، واعتبره كيب أساساً لكافة الدراسات في الحضارة الإسلامية والتشريع الإسلامي في الغرب - على الأقل - في حين عده سافوري من أكبر علماء الشريعة الإسلامية في العالم.

وقد درس شاخت في مؤلفه ( أصول الشريعة المحمدية ) كتابي (الموطأ) لمالك و(الأم) للشافعي ثم عمم نتائج دراسته على كتب الحديث والفقه الأخرى، فقال بنظرية (القذف الخلفي) لتفسير تطور الأسانيد، وتتلخص آراؤه في زعمه اختلاق الجزء الأكبر من الأسانيد، واعتقاده أن أقدم الأحاديث لا يرقى إلي ما قبل سنة 150هـ، وأن الأحاديث اختلقها الفقهاء وأصحاب الفرق، وأن الشافعى هو الذي استحدث مبدأ حجية السنة، وكان العمل قبله على السنة المذهبية، وقد كان أثره كبيراً على جيله من المستشرقين.

وقد طعن شاخت في سند مالك عن نافع عن ابن عمر بأن نافعاً مات ومالك صغير، وهذا خطأ، فمالك كان صاحب حلقة في مسجد المدينة في حياة نافع.

وقد رد روبسون على شاخت في هذا السند في مقاله (الإسناد في الحديث النبوي)، وفي هذه المقالة عدل عن آرائه التي تابع فيها شاخت عندما نشر بحثه، حيث كان يشك في جملة الأحاديث ويرى أن ما يمكن عزوه إلى الرسول r هو القرآن وحده.

والملاحظ أن كيوم وواط وروبسون كلهم من رجال الكنيسة.

وقد ظهر توجه نحو دراسة موارد الحديث ونقد بعض وثائقه عند روبسون ( ولد 1890 م) الأستاذ في مانشستر منذ سنة 1949 م، وقد أثبت أن ثمة مادة أصلية من الأحاديث خلافاً لما ذهب إليه شاخت ومن قبله جولد تسيهر، كما أنه لم يوافق كايتاني وشبرنجر ( 1813 - 1893 م ) في القول بأن أسانيد عروة بن الزبير ( ت 93 هـ ) مختلقة ألصقها به المصنفون المتأخرون.

وقد أشار شبرنجر ( ت 1893 م ) إلى تعاسة نظام الإسناد وأن اعتبار الحديث شيئاً كاملاً سنداً ومتناً قد سبَّب ضرراً كثيراً وفوضى عظيمة، وأن أسانيد عروة مختلقة ألصقها به المصنفون المتأخرون، وكذلك مقاله (أصول تدوين الوثائق عند المسلمين)، لكنه أثبت تدوين الحديث في عهد النبي r بالاعتماد على كتاب (تقييد العلم) للخطيب. وهذا ما خالفه فيه جولد تسيهر فيما بعد.

أما ميور معاصر شبرنجر فينتقد طريقة اعتماد الأسانيد في تصحيح الحديث لاحتمال الدس في سلسلة الرواة، ورغم أنه مثل شبرنجر أقر بأن ثمة مادة أصلية في الحديث لكنه اعتبر نصف أحاديث صحيح البخاري ليست أصلية ولا يوثق بها.

وأما كايتاني ( ت 1926 م ) فقد ذكر في حولياته أن الأسانيد أضيفت إلى المتون فيما بعد بتأثير خارجي لأن العرب لا يعرفون الإسناد، وأنها استعملت مابين عروة وابن اسحق، وأن عروة لم يستعمل الإسناد مطلقاً، وابن إسحق استعملها بصورة ليست كاملة.

وقد أثبت هوروفتس ( 1874 - 1931 م ) معرفة عروة للإسناد، وأن الإسناد دخل في الحديث منذ الثلث الأخير من القرن الأول. وألمح إلى الإسناد الجمعي عند الزهري حيث يفيد وقوفه على عدة أسانيد للمتن الواحد.

ويرى هوروفتس أن العرب أخذوا فكرة الإسناد عن المدارس التلمودية عند اليهود. ويرى ـ ويوافقه كيوم ـ تشابه المسلمين واليهود في نسبة شرائعهما إلى نبييهما.

ورد فيوك Fueck( ت 1939 م ) على جولد تسيهر فبرأ المحدثين والفقهاء من تهمة وضع الأحاديث، وكشف عن منهج جولد تسيهر في التعامل مع الإسلام وأنه يستخدم المذهب المادي لنقد التاريخ ومنهج الشك فانتهى إلى أن كل أحاديث الأحكام تعتبر زائفة حتى يثبت العكس.

أما مرجليوث المعاصر لجولد تسيهر ( 1858 - 1940 م ) فقد تابع جولد تسيهر بل ذهب إلى أن الرسول r لم يترك أوامر ولا أحكاماً سوى القرآن.

ويرى كيوم أنه لا يمكن إثبات صحة نسبة الأحاديث في الكتب الستة إلى الصحابة ولكن لعل بعضها تسلم نسبته.

ويفسر كيوم قول الزهري:« إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث » تفسيراً خاطئاً ليدلل على وضعه للأحاديث، وهو فهم جولد تسيهر من قبله.

ويتشبث نيكلسون بقول أبي عاصم النبيل:« ما رأيت الصالح يكذب في شيء أكثر من الحديث »،  فذهب إلى أن شواهده في (دراسات محمدية) لجولد تسيهر وأن أتقى العلماء كان يستعمل الغش في الحديث لتأييد أغراض سياسية ومذهبية.

وقد بين الإمام مسلم أن الكذب يجري على لسانهم ولا يتعمدونه. وقال يحيى بن سعيد القطان:« ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير والزهد »

ويرى كولسون وكيوم أن المحدثين يبحثون في الأسانيد شكلياً بدون الاهتمام بنقد المتون، يقول كولسون:« إذا كانت سلسلة الإسناد متصلة، وكان كل فرد من أفراده عدلاً - من وجهة نظرهم - فحينئذ قبلوا الحديث وصار شرعاً واجباً، ولا يمكن بسبب الإيمان السؤال عن متن الحديث لأنه وحي إلهى فلا يقبل أي نقد تاريخي » 

ويقول كيوم:« متى اقتنع البخاري بتحديد بحثه في سلسلة الرواة في السند مفضلاً ذلك على نقد المتن، صار كل حديث مقبول الشكل حتمياً بحكم الطبع »

([225])  انظر هذه الشبه والرد عليها في (شبهات المستشرقين حول السنة النبوية) لأحمد محمد بوقرين، وشبهات القرآنيين لعثمان بن معلم محمود بن شيخ علي.

([226])  انظر: دراسات في الفكر الإسلامي، بسام نهاد جرار.

([227])  رواه البخاري.

([228])  رواه البخاري.

([229])  رواه البخاري.

([230])  رواه أحمد والحاكم.

([231])  دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه 92 - 142.

([232])  دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه  143 - 220.

([233])  رواه أبو نعيم.

([234])  رواه البخاري.

([235])  هدي الساري:6.

([236])  رواه أحمد والترمذي والحاكم وابن حبان وغيرهم.

([237])  الكفاية في علم الرواية 300 - 304.

([238])  الأنوار الكاشفة 78 - 79.

([239])  الأنوار الكاشفة 78 - 79.

([240])  انظر الرسالة السابقة (معجزات حسية)، فصل (نبوءات)

([241]) سنعرض للتفاصيل الكثيرة المرتبطة بثمار الإسلام في هذه الجوانب في الرسائل التالية (الرسائل الست الأخيرة)، أما هذه الرسالة، فهي مخصصة للمقارنات العامة.

([242])  خصائص التطور الإسلامي:228.

([243])  رجال ونساء اسلموا، عرفات كامل العشي:1/24-25.

([244])  رجل ونساء اسلموا،عرفات كامل العشي:1/24 25.

([245])  هنا رسالة خاصة بهذه العقيدة هي رسالة (الله) من هذه السلسلة، وفيها مقارنة مفاصلة بين عقيدة المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات في هذا الباب.

([246])  ويدل لهذا ما روي من محاجة آدم موسي ـ عليهما السلام ـ حين عاتبه على أنه تسبب في إخراج بنيه من الجنة، فرد عليه آدم كما ذكر النبي r:« أفليس تجد فيما أنزل الله عليك أنه سيخرجني منها قبل أن يدخلينها »، قال: بلى قال r:« فحج آدم موسى (ثلاثاً) » رواه البخاري.

([247])  لدينا رسالة خاصة بهذا من جملة (رسائل السلام)، تحاول التوفيق بين المدارس الإسلامية، وتهون من شأن الخلاف بين المسلمين.

([248])  هناك تفاصيل كثيرة ترتبط بهذا، وتجيب عن الشبه المتعلقة به في رسالة ( الله جل جلاله)

([249])  انظر: الإسلام دين هداية ورحمة واستعصاء، د. عبد الله قادري الأهدل.

([250])  انظر مراعاة الشريعة للنواحي الصحية في صلاة الكسوف في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

([251])  إلى الدين الفطري الأبدي:الطرازي:263.

([252])  إلى الدين الفطري الأبدي:الطرازي:264.

([253])  الجفوة المفتعلة بين العلم والدين:23-24.

([254])  سنتحدث عن التفاصيل المرتبطة بهذا في فصل (الروحانية) من هذه الرسالة.

([255])  سنذكر الكثير من الأدلة المثبتة لهذا في الفصول القادمة.

([256])  أحمد عن أبي هريرة.      

([257])  الترمذي، وقال: حديث صحيح.     

([258])  الترمذي.

([259])  الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.  

([260])  الطبراني،  وإسناده صحيح.

([261])  الترمذي، وقال: حديث صحيح.      

([262])  أبو داود.

([263])  انظر: دراسات في الفكر الإسلامي، بسام نهاد جرار.

([264])  انظر: العالم الإسلامي والمكائد الدولية، فتحي يكن، والإسلام دين رحمة وهداية واستعصاء.

([265])  انظر هذه المقولات وغيرها في كتاب (الخنجر المسموم) لأنور الجندي، و(أجنجة المكر الثلاث) لعبد الرحمن حبنكه، و(قادة الغرب يقولون) لجلال العالم.

([266])  انظر: الإسلام ومستقبل البشرية، عبد الله عزام.

([267])  مجلة الإيمان اللبنانية عدد (75) السنة الثانية آذار سنة (0891م)

([268])  رواه البخاري ومسلم.

([269])  حضارة العرب، ص 126.

([270])  حضارة العرب، ص 186.

([271])  حضارة العرب، ص 417.

([272])  حضارة العرب، ص 616 – 61 7.