الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: ثمار من شجرة النبوة

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

رابعا ـ إنسانية

1 ـ حقيقة الإنسان

العبودية:

الازدواج:

الآدمية:

الخلافة:

الخلود:

2 ـ حقوق الإنسان

الحرية

الإخاء

أخوة الإسلام:

أخوة الذمة:

المحاربون:

المساواة

 

رابعا ـ إنسانية

في اليوم الرابع من تلك الأيام العشرة التقيت المستشرق الذي قطفت على يده ثمرة الإنسانية من شجرة النبوة..

وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى:﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)(التين)

وسر قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (الاسراء:70)

وسر قوله تعالى:﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (الأحزاب:72)

فهذه النصوص المقدسة تخبر عن التكريم العظيم الذي ناله الإنسان في الإسلام، وتخبر في نفس الوقت عن المسؤولية العظيمة المناطة به.

ولا يمكن أن يعرف الإنسان إلا بهما.. بمعرفة حقيقته الشريفة، ووظائفة العظيمة.

***

سمعت بمارسيل بوازار، وهو مفكر، وقانونى فرنسى، كان له اهتمام كبير بالعلاقات الدولية وحقوق الانسان، وقد كتب عدداً من الأبحاث للمؤتمرات والدوريات المعنية بهما.

وكان يضم إلى هذا الاهتمام اهتمامه بالإسلام، وقد كتب كتابه (إنسانية الإسلام)، الذى انبثق عن اهتمامه الشديد بالإنسان، وبالإسلام في نفس الوقت..

ولهذا الكتاب أهمية كبرى في الدراسات الغربية للإسلام، بما تميز به من موضوعية، وعمق، وحرص على اعتماد المراجع التى لا يأسرها التحيز والهوى، زيادة على رجوعه للمصادر الإسلامية نفسها.

وبسبب هذا الكتاب.. وبسبب موضوعية الرجل.. كان اسمه من الأسماء التي وضعت في الدفتر الذي سلمني إياه المرشد، مع كونه لم يكن ينتسب لجامعة السربون.

وقد كنت أتحين الفرص للقائه والاستماع إليه، ولكني لم أظفر بذلك إلا في ذلك اليوم الجميل...

في ذلك اليوم كنت أسير في شارع مزدحم من شوارع باريس.. كانت أصوات السيارات فيه تكاد تصيبني بالصمم.. وكان الهواء مكدرا.. والروائح التي تنبعث من المحلات المختلفة تملأ الأنف بالتقزز..

ربما هناك من يحب هذه الأجواء المزدحمة.. ولكني لم أكن من هذا النوع.. فأنا أحب الحياة الهادئة الوديعة المسالمة الساكنة..

في ذلك الجو الكئيب ـ بالنسبة لي على الأقل ـ التقيت ضالتي التي كنت أبحث عنها (مارسيل بوازار).. وقد عجبت إذ رأيته ينشغل في ذلك الزحام بشجرة من الأشجار، يطأطئ رأسه إليها، ويحرك بيديه تربتها، ويزيل عنها ما علق بها من آثار الازدحام، ثم يخرج من حقيبته قارورة ماء، يسقيها بها، ويمسح على أغضانها وأوراقها كما يمسح أحدنا على رأس اليتيم والمسكين.

تعجبت من سلوكه الطيب هذا.. واقتربت منه، وحييته، فرد علي التحية، ثم عاد إلى الشجرة يمسح عنها ما علق بها.

قلت له: ألست ( مارسيل بوازار)؟

قال: أجل.. هل تعرفني؟

قلت: أجل.. لقد قرأت كتابك عن (إنسانية الإسلام).. وأنا أتعجب كيف كتبت ذلك الكتاب، ولماذا كتبته؟

قال: كتبته لأجل هذه الشجرة التي تراها تئن، ولا يسمعها أحد.. وتبكي ولا تجد من يمسح دموعها.. وتمتلئ الأرض التي تستقر عليها بالقاذورات، ثم لا تجد من ينظفها.

قلت: لم أرك في كتابك تذكر شجرة من الأشجار..

قال: بل لم أذكر غير الأشجار..

قلت: إلى ما يرمز قولك هذا.

قال: الإنسان لا يختلف عن الشجرة.. فطرة الإنسان التي لم تتدنس بالأفكار الشيطانية لا تختلف عن فطرة الأشجار.. ولذلك جعلت الشجرة رمزي الذي أصل به إلى حقيقة الإنسان.. وحقوق الإنسان.

قلت: فأنت لا تختلف عن دارون إذن.. لقد اعتبر دارون الحيوانات.. أو الخلية الحيوانية هي أصل الإنسان.. وأنت تجعلها الخلية النباتية.

قال: أنت تسيء إلي بهذه المقارنة.

قلت: كيف؟

قال: أنا أبحث عن حقوق الإنسان.. والتي تنطلق من كرامة الإنسان.. أما ذلك الرجل ـ قصد أو لم يقصد ـ فقد كان فكره معاديا للإنسان.. وحقيقة الإنسان.. وحقوق الإنسان.

قلت: فأنت لا تؤمن بتفسير دارون للحياة.

قال: إن كل عاقل لا يجد في نظرية دارون إلا الانحطاط..

 أنا لا يهمني استغلال دارون لبعض المعلومات التي توصل إليها في رحلاته.. والتي حاول من خلالها أن يرسم للإنسان صورة حيوانية.. بل صورة لا يرضاها الحيوان لنفسه[1].. ولكن يهمني استغلال المعادين للإنسان نظريته ليحطموا بها حقيقة الإنسان، ثم يفرضوا ـ بعد ذلك ـ ما توهموه من حقوق الإنسان.

قلت: فهل حصل هذا؟.. هل خرجت نظريته من علم الحياة إلى علم القانون والاجتماع..

قال: بل خرجت نظريته إلى كل ميادين الحياة.. ألست ترى نظريته تدرس فى معظم مدارس الأرض، لا على أنها فرضية علمية، كما اعتبرها دارون نفسه.. ولا على أساس أنها نظرية علمية لم تثبت ثبوتا قاطعا يرشحها لأن تكون حقيقة علمية.. بل هي تدرس على أنها حقائق نهائية فى علم الحياة.

قلت: فما يضرك من تدريسها؟.. أم أنك تقف مع الكنيسة التي كفرت دارون ابتداء، ووصفته بأنه زنديق مهرطق مارق من الدين، لأنه ينفى الخلق المباشر من الله للإنسان على صورته؟

قال: ربما يكون هذا أحد الأسباب.. ولكن السبب الأخطر له علاقة بهذه الشجرة.

قلت: أراك تعود إلى الشجرة من جديد؟

قال: أجل.. هذه الشجرة تمثل الإنسان.. لقد رأيت أخواتها في الغابات الطليقة، ورأيت لها من الجمال ما لا يمكن وصفه، وذقت من ثمارها ما لا يستطيع لساني أن ينساه، وشممت من روائحها الطيبة ما ملأني بالروحانية العذبة..

أما هذه الشجرة المسكينة التي عزلت عن أخواتها، وأكرهت على أن تعيش في واقع غير واقعها.. وأن تعيش حياة غير حياتها.. فأنت تراها ذابلة ميتة.. نعم لها أوراق وسيقان تجعلها تعيش حياة بدائية.. ولكن بلا ثمار طيبة.. ولا روائح زكية.. ولا حياة مطمئنة.

قلت: ما علاقة ذلك ببغضك لنظرية دارون؟

قال: دارون نقل شجرة الإنسان من الغابة التي غرست فيها إلى غابة اختلط فيها الكل.. فلم تعد للإنسان رائحة الإنسان، ولا طعم الإنسان، ولا جمال الإنسان.

قلت: لم أفهم مرادك.

قال: لقد كان الإنسان منذ وجدت الدنيا ينظر إلى نفسه على أنه مخلوق مميز مكرم مزين بالعقل والمشاعر.. وبما لا يمكن حصره من القيم والمثل النبيلة.

ولكنه بمجيئ دارون.. وبتغلغل أفكاره في المجتمع.. تغير الموقف تماما.

فنظرية دارون تقرر حيوانية الإنسان وماديته.. أي أن الظروف المادية المحيطة بالإنسان هى التى أثرت فى تطوره وإعطائه صورته.. وهي بذلك تنفى القصد والغاية من خلقه، وتنفى التكريم الربانى له بإفراده بين الكائنات الأخرى بالعقل والقدرة على الاختيار والقدرة على التمييز فضلا عن المزايا الإنسانية الأخرى.

إن نظرية كهذه يمكن أن تعطى إيحاءات خطيرة فى كل اتجاه [2]..

فحين يكون الإنسان حيوانا أو امتدادا لسلسلة التطور الحيوانى، فأين مكان العقيدة فى تركيبه، وأين مكان الأخلاق، وأين مكان التقاليد الفكرية والروحية والأخلاقية والاجتماعية!؟

وحين يكون حيوانا، أو امتدادا لسلسلة التطور الحيوانى، فما مقياس الخطأ والصواب فى أعماله؟.. وكيف يقال عن عمل من أعماله إنه حسن أو قبيح، جائز أو غير جائز.. أو بعبارة أخرى: كيف يمكن إعطاء قيمة أخلاية لأعماله؟

وحين يكون حيوانا، أو امتدادا لسلسلة التطور الحيوانى، فما معنى الضوابط المفروضة على سلوكه؟.. وما معنى وجود الضوابط على الإطلاق[3]؟ 

التفت إلي، وقال: أتدري ما سر انتشار هذه النظرية، وما نتج عنها من خلل؟

قلت: ما سره؟

قال: الكنيسة..

قلت: ما علاقة الكنيسة بهذا؟.. لقد كانت الكنيسة من أهم المعارضين لدارون.

قال: ولكن الخلل الفكرى الذي حدث فى حياة أوروبا فى ظل سيطرة الكنيسة الفكرية هو الذى رشح للهزة التى أصابت هذا الفكر يوم أطلقت عليه فكرة التطور، فقد كان كل شئ فى حس أوروبا المسيحية الكنسية ثابتا منذ الأزل، وسيظل ثابتا إلى الأبد.. ليست فكرة الألوهية فقط هى التى ينطبق عليها تصور الثبات، ولا القيم الدينية والأخلاقية وحدها، ولكن الجبال والشجر والحيوان والطير، والأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وكل شئ فى الحياة.

البابا هو البابا ذو القداسة، يذهب واحد ويجئ آخر، والبابوية ذاتها وقداستها أمر ثابت لا يتغير..

الملوك والأباطرة هم الملوك والأباطرة.. يذهب منهم من يذهب ويجئ من يجئ.. ولكن الملكية ذاتها أمر ثابت لا يتغير..

الإقطاع هو الإقطاع.. يذهب أمير ويجئ أمير.. بنفس الصورة، ونفس المعاملة، نفس السيادة من جهة، والعبودية من الجهة الأخرى.. وكلها أمور ثابتة لا تتغير.

من ثم غلب على الفكر الأوروبى المسيحى الكنسى تصور الثبات فى كل شئ.

فلما وقعت الثورة الفرنسية وأزالت الإقطاع والملكية، وزلزلت نفوذ الكنيسة كان ذلك حدثا حادا فى تاريخ أوروبا أثر تأثيرا عميقا فى كل اتجاه، ولكنه كان قمنا ـ بعد فترة من الزمن ـ أن يفقد حدته، ويستقر على صورة فيها لون من الثبات.

ولكن دارون جاء، فأطلق قذيفته على أمر لم تهزه حتى الثورة الفرنسية ذاتها، التى زلزلت كثيرا من الأوضاع فى أوروبا، فقال: إن الخلق ذاته غير ثابت، وإن الإنسان لم يكن إنسانا حين وجد أول مرة بل كان شبيها بالحيوان.

وفي ذلك الوقت سارع المفسدون في الأرض إلى تولي هذه النظرية، بل وإخراجها من إطارها الضيق الذي وردت فيه، إلى إطار أوسع وأضخم..

لقد سارع هؤلاء المفسدون يرمون فكرة (الثبات) ذاتها وقالوا ـ مستغلين فكرة التطور ـ إنه لا شئ ثابت على الإطلاق، وإن طلب الثبات فى أى شئ.. في الدين أو الأخلاق أو التقاليد.. هو فى حد ذاته فكرة خاطئة.. فكرة غير علمية.. فكرة مخالفة لطبيعة الأشياء.

ثم ظلوا يرددون هذه الأقاويل، وينشرونها ويؤكدون عليها، حتى صارت هى الصبغة المسيطرة على الفكر البشري، لا يقبلون فيها جدلا ولا مناقشة.. ومن ناقش فهو الرجعى المتزمت الجامد المتأخر الذى يريد أن يرجع عقارب الساعة إلى الوراء.. وعقارب الساعة لا ترجع أبدا إلى الوراء.. وستسحقه عجلة  التطور  التى لا تبقى ولا تذر[4].

التفت إلي، وقال: هل ترى هذه الحياة التي نعيشها في وسط هذا الزحمة؟

قلت: نعم.. وأصدقك القول بأن نفسي تضيق في هذه المحال.

قال: نفسك تضيق، لأنه لا زال فيك بعض الفطرة.. أما أكثر من تراهم، فقد انتكست فطرتهم.. فلذلك لا يحبون إلا مثل هذه الأجواء المدنسة.

قلت: ولكن التطور اقتضى هذا؟

قال: أرأيت.. أنت نفسك تقع في وهم التطور.. إن التطور هو القنبلة التي ستلقينا في أودية الهلاك.

قلت: ألذلك أيضا علاقة بهذه الشجرة؟

قال: أجل.. هذه الشجرة التي قلعها دارون من غابة الإنسانية ليغرسها كما شاء له هواه في غابة الحيوانية صارت عرضة لكل تبديل وتغيير..

جاء ماركس.. فقلع من هذه الشجرة جذور الروحانية والإيمان والتوجه للملأ الأعلى..

وجاء فرويد.. وقلع عن هذه الشجرة ثيابها، ليحيلها عارية، لا يسترها حياء، ولا تحفظها قيم..

وجاء دركايم، فأنشأ نظرية اجتماعية لتفسير الظواهر الاجتماعية بناها على حيوانية الإنسان، وغلبة نزعة القطيع الحيوانية عليه من جهة، وعلى انعدام الثبات فى القيم الاجتماعية من جهة أخرى.. فقلع عن هذ الشجرة جميع أصولها التي تربطها بالإنسان.

وهكذا ظل المفكرون الذين يستوحون أفكارهم من الشياطين، وظلت معهم الحكومات الجبرية، تضع تعديلاتها على شجرة الإنسان إلى أن حولتها إلى مسخ لا علاقة له بالإنسان.

قلت: فأنت يائس إذن من حياة شجرة الإنسان.

قال: لا.. لست يائسا.. ولو كنت يائسا، لما رأيتني أسقي هذه الشجرة، وأمسح آهاتها.

قلت: وما الذي دفعك إلى عدم اليأس.. أتراك ظفرت بمن يعيد شجرة الإنسان إلى غابة الإنسان.

قال: أجل.. لقد وجدته.. لقد نجح في الحفاظ على شجرة الإنسان طوال قرون عديدة، وترك لنا من التعاليم السامية ما يعيد الإنسان إلى فطرته وطبيعته التي جبل عليها.

قلت: من تقصد؟ 

قال: محمد..

قلت: نبي الإسلام!؟

قال: بل نبي الإنسان.. محمد هو النبي الوحيد الذي لا تزال تعاليمه هي العلاج الوحيد للإنسانية.. وهي الأمل الوحيد لعودة الفطرة الإنسانية.

قلت: ما سر ذلك؟

قال: إن محمدا يتلقى معارفه عن الإنسان، لا من عقله، ولا من تجاربه، ولا من بحوثه، بل يتلقاها من مصدر لعله هو المصدر الذي خلق الإنسان.. ومن خلق الإنسان عرف حقيقته، وعرف حقوقه.

قلت: نحن الآن في عصر العلوم.. أترى مخابرنا التي وسعت كل شيء ضاقت بمعرفة الإنسان.

قال: أجل.. لأن الإنسان ليس مادة جامدة.. وليس شيئا واحدا.. إنه في كل لحظة كيان جديد، بل هو في كل لحظة كيانات كثيرة..

والأمر ليس قاصرا على الفرد.. بل على المجموع.. فلكل إنسان إنسانيته الخاصة التي تميزه عن غيره.

فهل يمكن لمخابرنا مهما دقت مقاييسها أن تضع كل البشر وفي كل لحظة من لحظات حياتهم في محك مخابرها؟

قلت: ذلك غير ممكن.

قال: فلذلك كانت معرفة حقيقة الإنسان انطلاقا من المخابر غير ممكنة..

1 ـ حقيقة الإنسان

قلت: فهل عرف محمد حقيقة الإنسان؟

قال: أجل.. لقد تضمن الكلام المقدس الذي تنزل عليه.. وتضمنت الكلمات العظيمة التي نطق بها حقيقة الإنسان.. وهي الحقيقة التي بنيت على أساسها حقوق الإنسان في الإسلام..

قلت: أراك تدمج كلامك عن الحقيقة بالحقوق.

قال: لأن الخطأ الذي وقع فيه قومنا هو فصلهم بين الحقيقة والحقوق.. أو هو انطلاقهم في سن الحقوق من معلومات خاطئة.

نظر إلى الشجرة، وقال: هذه الشجرة.. إذا لم نعرف حقيقتها ونوعها وجنسها وأصناف حاجاتها، فإننا لا يمكن أن نتعامل معها معاملة صحيحة.. بل قد نسقيها سما، ونحن نتصوره دواء.

قلت: فحدثني عن تصور الإسلام لحقيقة الإنسان التي بنى عليها تصوره لحقوقه.

قال: لقد طفت المذاهب.. وسألت أرباب الأفكار.. وجلت على الحضارات والأديان أسألها عن الإنسان، فلم أجده إلا عند محمد.

قلت: فماذا قال لك محمد؟

قال: لقد أخبرني القرآن المقدس الذي تنزل على محمد عن حقيقة الإنسان في مواضع كثيرة تجتمع جميعها في قصة خلق الإنسان.. ففي القرآن:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)﴾(البقرة)

وفيه:﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)﴾(الأعراف)

وفيه:﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)﴾( ص)

إن هذه الآيات تجمع جميع الحقائق التي تفصل النظرة الإسلامية الإنسان عن جميع النظرات المدنسة بلوثات الأهواء:

العبودية:

لقد بدأت الآية الأولى بذكر الله رب الإنسان.. وذكر الخالقية.. وأن الإنسان مخلوق لله..

وهذه نقطة خلاف جوهرية بين الإسلام وجميع المذاهب المادية التي تسيطر على عقول بناة الحضارة الغربية وكل الحضارات الجاهلية..

ذلك أن الإنسان يدرس في جميع العلوم الإنسانية بمعزل عن خالقه، كأنما هو قد خلق نفسه، أو كأنما وجد بغير موجد.. وقد ترتب على هذا ألا تكون للإنسان مرجعية خارج حدود ذاته، إنما يكون  هو  مرجع نفسه، فما يراه  هو  يكون هو الأصل وهو الصواب.. إنه بعبارة أفصح هو الإله.

لقد نشأ هذا الانحراف الخطير في مدارسنا ومعارفنا وعلومنا من التصورات الخاطئة التي كانت تحملها الكنيسة، وتفرضها على الناس..

لقد كان رد فعلنا تجاه طغيان الكنيسة منذ عصر  النهضة  هو التمرد على سلطان الكنيسة، والتمر على الله ذاته، وإقامة الإنسان نفسَه مرجعا بدلا من الله،  وكانت هذه بداية العلوم الإنسانية.. أي العلوم التي يؤخذ العلم فيها من الإنسان، لا من خالق الإنسان.

لست الوحيد الذي يقرر هذا.. ولست الوحيد الذي اكتشف هذا.. لعلك قرأت كتاب (مبادئ الفلسفة ) لـ (رايو برث)، لقد قال يتحدث عن عصر النهضة:« وامتاز هذا العصر بشعور الإنسان بشخصيته المطلقة، وبمعارضته للسلطة وذويها، وذهابه شوطا بعيدا في اعتبار العالم كله وطنا له.. وقد أعلت النهضة شأن الطبيعة الإنسانية والحياة الدنيوية، مخالفة في ذلك طريقة التفكير في القرون الوسطى، ولذلك يسمى العلماء الذين خصصوا أنفسهم لدراسة آداب اليونان والرومان والعلوم عند القدماء  الإنسانيين.. وكان من خير ما أحدثه هؤلاء الإنسانيون  نمو الفردية، أعني الرأي القائل بأن الإنسان ينبغي أن يفكر بنفسه لنفسه، وهو رأي كان قد أهمل في عصر عبودية العقل »[5]   

سأضرب لك نموذجا يوضح لك هذا.. يقول  (جوليان هكسلي) في كتابه (الإنسان في العالم الحديث) إن الإنسان قد خضع لله في الماضي بسبب عجزه وجهله، والآن ـ وقد تعلم وسيطر على البيئة ـ فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر العجز والجهل على عاتق الله، ومن ثم يصبح هو الله »

ويقول في نفس الكتاب:« إن أسطورة بروميثيوس[6] ما تزال كامنة في كيان الأوربي الحديث توجهه على غير وعي منه، فالأوربي المعاصر هو  بروميثيوس الحديث  الذي يريد أن يضع نفسه في مكان الإله، وكلما تعلم، وزادت سيطرته على البيئة، ارتفع في حس نفسه درجة، وهبط الإله مقابل ذلك في حسه بنفس القدر، حتى إذا استطاع يوما أن يخلق الحياة انتهى الإله من حسه تماما، وأصبح هو الله »

التفت إلي، وقال: أرأيت مبلغ الخطر الذي وصلت إليه العلوم الإنسانية في عزلها الله عن خلق الإنسان..

قلت: هذا رجل مجنون لا ينبغي أن نقيس عليه، ولا أن نأخذ بقوله.

قال: كلهم مجانين.. كل من أخرج هذه الشجرة من غابتها ليضعها في هذا المستنقع مجنون..

لم يكن هكسلي وحده هو الذي قال ذلك.. الكل قال ذلك.. صرح أو كتم، يقول برنتون فالمذهب العقلي يتجه إلى إزالة الله وما فوق الطبيعة من الكون، ومن الوجهة التاريخية فإن نمو المعرفة العلمية، وازدياد الاستخدام البارع للأساليب العلمية يرتبط بشدة مع نمو الوضع العقلي نحو الكون »[7]    

ويقول:« إن السببية تهدم كل ما بنته الخرافات والإلهامات والمعتقدات الخاطئة في هذا العالم ( يقصد المعتقدات الدينية ).. فالإله في عرف نيوتن أشبه بصانع الساعة، ولكن صانع هذه الساعة الكونية ـ ونعني بها الكون ـ لم يلبث أن شد على رباطها إلى الأبد، فبإمكانه أن يجعلها تعمل حتى الأبد، أما الرجال على هذه الأرض فقد صممهم الإله كأجزاء من آلته الضخمة ليجروا عليها، وإنه ليبدو أنه ليس ثمة ذاعٍ أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذه الساعة الكونية، الذي لا يستطيع ـ إذا ما أراد ـ التدخل في شئون عمله »[8] 

أرأيت هذا المجنون الثاني.. إنه يقر بإله.. ولكنه يعزله.. وما جدوى إله معزول.

أتدري ما الذي أفضى إليه هذا القول؟

قلت: أنبئني.

قال: إن كل اختلال حصل في هذه الحضارة لم يحصل إلا بسبب هذا الموقف من الإله.. إن عزلها الإنسان عن الله هو الذي جعلها تسقط في أحضان الشيطان.. وهي سائرة خلف خطاه لن ينقذها إلا هدي محمد.

قلت: لم؟

قال: لأنه يستمد من المنبع الذي نبع منه الإنسان.

قلت: إن كان ذلك بسبب إخباره بأن الإنسان مخلوق خلقه الله.. فهو مما تتفق عليه جميع الأديان.. بل إن قوم محمد من المشركين كانوا يقولون ذلك، فقد ذكرهم القرآن، فقال:﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)﴾(الزخرف)

قال: ليس ذلك فقط ما أقصده.. إن هؤلاء المشركين، ومثلهم كل الأديان التي تحمل تصورات خاطئة عن رب الإنسان لا تساهم إلا في زيادة خطأ معرفة الإنسان بنفسه، وبالتالي الخطأ في كل ما يرتبط به.

التفت إلي، وقال: فلنفرض أنه أتيحت لك طاقة كهربائية تستطيع أن تستخدمها في مجالات شتى، فهل يكون سلوكا  علميا  سليما أن تقول: لا يهمني مصدر هذه الطاقة، ولن أشغل نفسي بمحاولة التعرف على هذا المصدر، إنما الذي يعنيني هو هذه الطاقة ذاتها، وطريقة استخدامها، والمجالات التي يمكن أن تستخدم فيها!؟

قلت: ربما أقول هذا.. وربما يقول هذا أكثر الناس.

قال: إن هذا قد يستقيم لو أن هذه الطاقة كانت تجري على منوال واحد، وبحسب ما تشتهي.. لكنها إذا فاجأتك كل مرة بأمور لا تستطيع تفسيرها، ومن ثم لا تستطيع أن تستخدمها على الوجه الأمثل، فمرة تجدها متدفقة ومرة تراها منحسرة بغير سبب ظاهر لك.. مرة تنير، ومرة تحرق.. مرة تزيد من حيويتك، ومرة تعرضك للهلاك..

ألا ترى أن التعرف على المصدر، وطبيعته، وطريقة تصريفه لهذه الطاقة، سيعينك على فهم تلك الظواهر التي لا تفسير لها عندك، ويعينك ذلك على استخدام تلك الطاقة في أحسن أوضاعها!؟

قلت: أجل.. ذلك صحيح.. بل إني في تلك الحالة لا أستغني عن معرفة مصدرها.

قال: أرأيت لو بحثت.. ولكنك سقطت على معلم جاهل، فدلك على معلومات خاطئة تتعلق بمصدر الطاقة؟

قلت: حينها لا يختلف الأمر.. بل قد أقع في دواهي لا تقل عن الدواهي التي كنت أمر بها قبل أن أتعرف عليه.

قال: فقد عرفت إذن أهمية المصدر الصحيح في السلوك الصحيح.

قلت: فهل جاء محمد بالمعلومات الصحيحة عن مصدر الإنسان[9]؟

قال: أجل.. فالله ـ في التصور الإسلامي ـ لا ينحصر في أنه هو مصدر الوجود البشري وخالقه، وإنما هو إلى جانب ذلك المنعم المتفضل.. الرزاق ذو القوة المتين.. المدبر لأمر الوجود كله.. الفعال لما يريد.. يقول القرآن في صفة الله:﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ (الحديد:3) وهو الذي ﴿ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة:28).. و﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ْ(24)﴾( الحشر).. و﴿ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)﴾(الإخلاص)

ولله في التصور الإسلامي سنن في التعامل مع خلقه.. هي بمثابة القوانين التي تنظم حياتهم كما تنظم حياة جميع الوجود.

فالبذخ المادي.. والترف المعيشي الذي نتصوره حضارة، ونقيس الأمم على أساسه لا يعني شيئا بالنسبة للسنن الإلهية.. ذلك أنه قد يكون نوعا من التخمة القاتلة، أو من السمن الكاذب:

ففي القرآن:﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾(الأنعام)  

وتوزيع الأرزاق بين الناس ومثلها المواهب فضل من فضل الله يدعو إلى التواضع والعبودية.. لا الكبر والبطر، ففي القرآن:﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً ﴾( الزخرف:32)

وهذا التفضيل المؤقت.. أو المرتبط ببعض الجوانب لا يعني التفضيل المطلق.. فالقرآن ينكر تلك التصورات التي تجعل الإنسان يقيس غيره بمقدار ما عنده من ثروة:﴿ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)﴾(الفجر)

ولهذا.. فإن النظرة الإسلامية للإنسان في غاية السمو والرفعة [10].. لأنها تستمد قوانينها وسننها من المنبع الذي جاء منه الإنسان.. لا من العقول التي أوحت لها الشياطين بزخرف القول لتشغل الإنسان عن الإنسان.

فتلك العقول التي تدرس الإنسان بمعزل عن خالقه، وعن السنن الربانية التي تحكم حياته، تتيه في المعيار الذي تقيس به تصرفاته، وتتيه في المعيار الذي تقيس به إنجازاته..

وتتيه بحسب ذلك فيمن تعتبره مرتفعا راقيا، ومن الذي نعتبره منتكسا هابطا.. أم الكل سواء.

وتتيه في التصرفات.. أيها تعتبره خيرا.. وأيها تعتبره شرا.. أم لا خير ولا شر..

وتتيه في الإنجازات.. أيها تعتبره صالحا.. وأيها نعتبره فاسدا.. أم يستوي الأمران في الميزان.

من هنا تتخبط النظريات، وتتخبط التفاسير التي تحاول أن تفسر السلوك البشري والحياة البشرية، ما بين مبدأ اللذة والألم، ومبدأ النفعية، ومبدأ نسبية القيم ؛ وما بين التفسير المادي للتاريخ، والتفسير اللبرالي ؛ وما بين الغاية التي تبرر الوسيلة، واللاغائية، والعدمية، والفوضوية، والوجودية.. وكلها مذاهب، وكلها تفاسير.. وكلها لا تزيد الإنسان إلا بعدا عن الإنسان.

الازدواج:

قلت: وعيت هذا.. وأدركت أهميته.. فأنبئني عما فهمته من ذلك النص القرآني من موقف الإسلام من الإنسان.

قال: في ذلك النص يبين القرآن أركان الإنسان.. فهو قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله.. وهما مترابطان متماسكان متفاعلان، يتكون منهما معا كيان موحد[11].

هذا الكيان ليس قبضة طين خالصة، كما كان قبل النفخة العلوية فيه.. وليس روحا خالصة طليقة من قبضة الطين.. إنما هو الأمران معا فى وحدة مترابطة تختلف فى خصائصها اختلافا جذريا عن قبضة الطين الخالصة، ونفخة الروح الخالصة، وإن كانت تحمل بين الحين والحين بعض أوجه الشبه من هذه وتلك، حين تجنح جنوحا شديدا نحو عالم الجسد أو عالم الروح، ولكنها حتى فى تلك الحالات لا تكون مماثلة أبدا لأي من العنصرين منفصلين.

فالإنسان فى لحظة الشهوة الجامحة غير المنضبطة يكون أقرب إلى قبضة الطين، لأنه يتعامل بجسده أكثر من أى جانب من جوانبه، ومع ذلك لا يكون أبدا جسدا خالصا كالحيوان، لأن فيه ـ على الأقل ـ قدرا من الوعي والإرادة والاختيار حتى فى هذا العمل اللاصق بالطين، بينما الحيوان لا يعمل بوعى ولا إرادة حرة ولا اختيار.

وفى لحظة التوجه الروحي الراقي يكون أقرب إلى نفخة الروح، لأنه ينطلق بروحه من إطار الحس المحدود، ومع ذلك لا يكون أبدا روحا خالصة كالملائكة، لأن له جسدا لا يستطيع أن يتخلص من وجوده، وعقلا لا يكف تماما عن التفكير.

هذا هو الإنسان كما يفسره الإسلام بعنصريه المكونين له: قبضة الطين، ونفخة الروح.

والخطأ الذي وقعت فيه كل الحضارات والمذاهب والأديان هو محاولتها تفسير الإنسان بعنصر واحد من عنصريه دون الآخر.. وهذا هو الخطأ الأكبر الذي تسللت منه سائر الأخطاء..

فالحضارة المادية التي تأسست على المذاهب المادية تبرز جانب الجسد، وجانب الحس، وجانب المادة، فإذا أخذت شيئا من النفخة العلوية أخذت جانب العقل وأبت جانب الروح، وسخرت العقل ـ من ثم ـ فى شهوات الجسد ومطالب الحس وعالم المادة، ففقد علويته ورفعته، وأسف مع قبضة الطين، وأنشأ عمارة مادية للأرض خالية من إشراقة الروح.

والمذاهب الروحية تبرز جانب الروح، وتهمل الجسد وتكبته وتقهره وتحتقره وتقوم بتعذيبه من أجل رفعة الروح، كما تفعل الهندوكية والرهبانية، كما أنها تهمل عالم الحس وعالم المادة، فلا يقوم الإنسان بعمارة الأرض، ولا يقاتل الشر والطغيان، ولا يجاهد لإقامة الحق والعدل، اكتفاء بلذة  الفناء  فى عالم الروح، التى يتم من خلالها الوجود[12].

الآدمية:

قلت: وعيت هذا.. وعرفت أهميته.. فما فهمت من القرآن من تميز التصور الإسلامي للإنسان.

قال: الآدمية.. لقد ورد في الآيات التي تلوتها عليك أن أول البشر هو آدم.. وآدم لم يكن من عائلة الشمبانزي.. بل هو مخلوق بالأصالة.. لقد أراد الله القادر على كل شيء أن يخلق الإنسان، فخلق الإنسان، وكان أول إنسان هو آدم.

ولهذا نرى القرآن يذكر البشر بأبيهم الذي ينتسبون إليه، ففيه:﴿ ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)﴾(الأعراف).. وفيه:﴿ يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)﴾(الأعراف)

قلت: أراك تشتد ككثير من المسلمين في إنكار هذا.. مع أني لا أرى فيه من المبالغة ما ترى.. اللهم إلا ما أدى إليه استغلال هذه النظرية، وتحميلها ما لا تحتمل.

قال: لا.. هذا من أصول الأخطاء، وليس من فروعها.. فالداروينية التي تقول بأن الإنسان لم يخلق إنسانا من أول لحظة، إنما هو تطور عن كائن آخر هو القرد الشبيه بالإنسان، والمتطور بدوره عن أحد القردة العليا الأربع: الشمبانزي والغوريللا والأورانج أوتانج والجيبون، وأنه مر في تطوره بمراحل عدة، كان يقترب فيها في كل مرة من وضعه الحالي.. فكان في مبدأ أمره يمشي على أربع، وينتصب قائما أحيانا كما تفعل القردة العليا، ثم زاد انتصاب قامته حين أخذ يأكل من ثمار الأشجار، فأصبح رأسه من ثم يرتكز على الجذع أكثر مما يكون معلقا في الفضاء، فأتيح لمخه أن يكبر، فتكلم وتعلم، ورويدا رويدا على مدى من الزمن لا يكاد يحصى أصبح هو  الإنسان..

هذه النظرية لا تهتم بالإنسان.. كما ذكره القرآن.. باعتباره أصلا قائما بذاته، وإنما تهتم بالخيوط التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان.. لتقول للإنسان: أنت بسبب هذه الخيوط حيوان لا إنسان.

ففي هذه النظرية جرى التركيز على الخصائص الجديدة التي  يكتسبها  الكائن المتطور، لا على السمات التي يشترك فيها مع الكائنات السابقة عليه، التي لم تسر على خط التطور مثله.

فهناك  مثلا ـ بحسب النظرية ـ كائن ليس له جهاز سمعي، تلاه في التطور كائن يشبهه في كثير من الخصائص، ولكنه  اكتسب  جهازا سمعيا لم يكن موجودا في الكائنات المشابهة له، السابقة عليه، والتي تطور عنها.. فعند الحديث عن هذا الكائن يكون التركيز على هذه الحاسة الجديدة التي  اكتسبها والأطوار التي مرت بها حتى اكتملت في وضعها النهائي.. وكذلك لو كان الكائن قد  اكتسب  جهازا بصريا أو جهازا للطيران، أو جهازا لتنظيم الدورة الدموية.. مما لم يكن لأقرانه الذين تطور عنهم.

وكان مقتضى ذلك بالنسبة للإنسان أن يكون التركيز على ما تفرد به الإنسان عن أشباهه من الكائنات السابقة عليه، التي تطور عنها، لا على أوجه الشبه بينه وبين تلك الكائنات.. وذلك كله على فرض صحة الفرضية من أساسها.. ولكن الذي جرى على يد داروين كان هو التركيز على أوجه الشبه بين الإنسان والقردة العليا (مع افتراض وجود حلقة مفقودة بينهما) أكثر من التركيز على ما تفرد به الإنسان.. أي ـ بعبارة أخرى ـ التركيز على حيوانية الإنسان، وليس على إنسانيته.

لقد حاولت الداروينية الحديثة سدّ هذا الخلل في تطبيق النظرية بالنسبة للإنسان، فكتب  جوليان هكسلي، وهو من عمد الداروينية الحديثة كتابا سماه  (الإنسان في العالم الحديث) بدأه بفصل طويل بعنوان  تفرد الإنسان، ذكر فيه أن المعلومات التي بنى عليها داروين نظريته كانت ناقصة، وأن العلم الحديث كشف عن جوانب كثيرة من تفرد الإنسان لم تكن معلومة لداروين، وجاء في هذا الفصل قوله:« وبعد نظرية داروين لم يعد الإنسان مستطيعا تجنب اعتبار نفسه حيوانا، لكنه بدأ يرى نفسه حيوانا غريبا جدا، وفي حالات كثيرة لا مثيل له. ولا يزال تحايل تفرد الإنسان من الناحية البيولوجية غير تام »

وجاء فيه:« وهكذا وضع علم الحياة الإنسان في مركز مماثل لما أنعم به عليه كسيد المخلوقات كما تقول الأديان ».. وفيه:« وأخيرا، فإن الإنسان لا مثيل له بين الحيوانات الراقية في طريقة تطوره »[13]

ولكن على الرغم من هذه المحاولة من جانب الداروينية الحديثة ما زال الإنسان ـ في أذهان الناس جميعا ـ حيوانا.. وما زال التركيز على الجانب  البيولوجي  من كيانه، ولا ذكر على الإطلاق للجانب الروحي من الإنسان.

إن السخرية بالإنسان تصل بالداروينية حدها حين تقصر تطور في الإنسان في عقله وإبهامه.

عقله تطور حين تعود الإنسان ـ أو الكائن الشبيه بالإنسان ـ على الوقوف منتصبا لفترات طويلة ليأكل من ثمار الشجر، فارتكز رأسه على الجذع، فأتيح للمخ أن يكبر، فتعلم وتكلم.

وإبهامه تطور ( ولا أدري لماذا! ) فصار يحسن الإمساك بالأشياء، فاستخدم الأدوات، ثم سعى إلى تحسينها، فصارت له حضارة.. وصار له تاريخ.

وفيما عدا هذين.. بقي الإنسان حيوانا..كان وما يزال.

قلت: ألم ير هؤلاء الأغبياء الإنجازات الحضارية العظيمة التي قام بها الإنسان دون سائر الحيوانات؟.. ألم يكن في هذا ما يكفيهم ليصدهم عن وساوسهم تجاه حقيقتهم؟

ابتسم، وقال: لم يصعب عليهم أن يجدوا حلا لذلك..

لقد ذكروا أن الإنسان حيوان.. كان وما يزال.. تطور منه ما تطور، ولكنه لم يخرج من حيوانيته.

وما دامت أهداف ومشاغل الحيوان تنحصر في صراع البقاء، والاستمتاع، المتمثل في الطعام والشراب والجنس.. فإن هذه نفس مشاغل الإنسان وأهدافه.

والفرق بينهما.. بين الإنسان المتطور، والحيوان.. هو أن الحيوان يقوم بهذين الأمرين بدافع الغريزة، بغير وعي منه لما يفعل، ولا وعي منه بأنه يقوم بما يقوم به من أعمال وتصرفات لتحقيق هذين الهدفين الرئيسيين في حياته.

أما الحيوان المتطور الذي هو الإنسان، فقد اكتسب الوعي حين كبر مخه نتيجة انتصاب قامته، فلم تعد كل أعماله غريزية، بل حتى الغريزي منها صار يمارسه بوعي، يبدأ بإدراك الرغبة وينتهي إلى تحقيقها مرورا بالبحث عن الوسائل المادية إلى إشباعها.. ولكن الأهداف تبقى هي الأهداف.. وهي صراع البقاء والاستمتاع.

أما الحيوان، فهو يستخدم قوته العضلية ليأخذ مكانه في صراع البقاء، وليحصل على ضروراته، وأحيانا يستخدم الحيلة، ولكن بوحي الغريزة، وفي نطاقها.

وأما الحيوان المتطور فهو ـ إلى جانب عضلاته ـ يستخدم الأداة المستجدة التي  اكتسبها  في تطوره، وهي العقل، وكلما ارتقى صار استخدامه للعقل أوسع مدى وأكثر فاعلية، وذلك فضلا عما يتيحه له التطور الآخر ـ تطور إبهامه ـ من استخدام أدوات لا حصر لها لتحقيق أهدافه.

وأما الاستمتاع فقد ارتقى كذلك مع الحيوان المتطور، باستخدام التطورين الرئيسيين في كيانه، فدخل فيه العقل على نطاق واسع، يستجد فيه كل حين لونا جديدا من ألوان الاستمتاع، ويستخدم في سبيل ذلك مزيدا من الأدوات يخترعها العقل، وتستخدمها اليد ذات الإبهام المتطور.

ونشأ من ذلك التطور الحضارة..

فالحضارة بهذا هي حصيلة سعى الإنسان لإثبات ذاته في صراع البقاء، وسعيه إلى الاستمتاع من جانب آخر..

فسعيه إلى إثبات ذاته في صراع البقاء يتمثل في القوة الحربية، والقوة السياسية، والقوة العلمية، والقوة الاقتصادية.

وسعيه إلى الاستمتاع يتمثل في  الفن  بمحتلف أنواعه إلى جانب المتاع الحسي المباشر بما يلبي نداء الشهوات..

وهذه ـ بشقيها ـ هي معايير إنجازاته.

فالأمم تقاس بالقوة الحربية والقوة السياسية والقوة العلمية والقوة الاقتصادية التي تمكنها من البقاء في حومة الصراع، وتكفل لها ـ كلما تمكنت ـ سحق القوى الأخرى أو التغلب عليها ـ كما تقاس كذلك بتعدد الفنون التي تستخدمها من أجل الاستمتاع.

ويكون هذا هو المعيار التاريخي، والاجتماعي، الذي تقاس به  عظمة  الأمم خلال التاريخ.

أما القيم  النبيلة ـ من نشر العدل وإزالة الظلم ونشر الخير، وإشراك الناس في الخير بدافع  الإنسانية  بصرف النظر عن  المنفعة ، والتعاون على البر والتقوى ـ فلا وجود لها في ظل هذا التصور.. إنها مجرد كلام جميل يتحدث عه المتحدثون، وشعارات يرفعونها، ولكنها عند الجد لا تؤخذ مأخذ الجد، لأنه لا مكان لها عند الحيوان الأصلي، ولا مكان لها كذلك عند الحيوان المتطور.

الخلافة:

قلت: وعيت هذا.. فهل هذا وحده تصور الإسلام عن حقيقة الإنسان؟

قال: لا.. كل ما ذكرته لك مقدمات عن حقيقة الإنسان.

إن الإنسان ككل شيء في هذا الوجود خلق لغاية يؤديها، وحكمة هي التي تحدد وظيفته، ثم تحدد بعد ذلك الحقوق التي يستدعيها توفير الجو لأدائه لوظيفته.

قلت: تقصد واجبات الإنسان.

قال: أجل.. فمن الخطأ أن نتحدث عن حقوق الإنسان، ولا نتحدث عن واجبات الإنسان.

قلت: الحضارة الحديثة.. بل كل حضارة.. طوقت الإنسان بكثير من الواجبات.. في مقابل ما تعطيه من حقوق.

قال: نظرة الإسلام للحقوق والواجبات تختلف كثيرة عن نظرة هذه الحضارة.. وعن نظرة كل حضارة.. وكل دين.. وكل فكر.

قلت: فما هي هذه النظرة؟

قال: الإسلام يعتبر الإنسان خليفة.. والآيات التي قرأتها لك تحدد هذه الوظيفة الكبرى التي تفسر سر وجود الإنسان على هذه الأرض، وتفسر سر الطاقات التي منحت له.

لقد قدم القرآن لقصة خلق آدم  هذه المقدمة:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾( البقرة:30)

وبما أن الخلافة تتضمن الهيمنة والسيطرة والقدرة على الإنشاء والتعمير والقدرة على التمييز والاختيار .. فقد أمد الله الإنسان بالأدوات الصالحة للخلافة..

وفي القرآن ذكر لهذه الأدوات.. والتي هي أول الحقوق التي تستدعيها وظيفة الخلافة:﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا..﴾( البقرة:31).. ﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾( العلق).. ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)﴾ (النحل).. ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ ( البلد).. ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾( الشمس).. ﴿ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾( هود:61).. ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ﴾( الجاثية:13).. ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾( الملك:15)

هذه أول الحقوق التي نالها الإنسان بفضل الله.. لا بفضل التطور.. ولا بفضل الصراع كما تدعي جميع النظريات البشريات.. إنما هي مواهب إلهية زود بها الإنسان ليستطيع أن يؤدي الوظيفة الخطيرة التي وكلت إليه.

قلت: لا أزال حائرا في معنى الخلافة.. وفي علاقة حقيقة الإنسان بها.. وفي علاقة حقوق الإنسان بها.

قال: الإنسان في التصور الإسلامي مخلوق كريم لغاية رفيعة.. هو لم يخلق كما تتوهم الفلسفات ليأكل ويشرب ويسيطر.. ويمارس من أنواع المتع ما يغذي الفراغ الذي تعاني منه روحه، وإنما خلق ليكون خليفة.. يتولى إدارة الأرض وعمارتها وتطويرها.. وبما أنه خليفة فإن ذلك يقتضي أمورا.. على أساسها تنبني حقيقة الإنسان وحقوقه[14]:

أولها.. انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد هو الله، بدلاً من كل الانتماءات الأخرى، والايمان بسيد واحد للكون.. وهذا هو التوحيد الخالص الذي قام عليه الإسلام.

والثاني.. إقامة العلاقة الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله، وتحرير الإنسان من عبوديات الأسماء التي تمثل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت.

والثالث.. تجسيد روح الأخوة العامة في كل العلاقات الاجتماعية بعد محو ألوان الاستغلال والتسلط، فما دام الله تعالى واحداً ولا سيادة إلاّ له، والناس جميعاً عباده ومتساوون بالنسبة إليه، فمن الطبيعي أن يكونوا اخوة متكافئين في الكرامة الإنسانيّة والحقوق.

والرابع.. الخلافة استئمان، والأمانة تفترض المسؤولية والاحساس بالواجب، اذ بدون ادراك الكائن انّه مسؤول لا يمكن أن ينهض بأعباء الامانة أو يختار لممارسة دور الخلافة.

والإنسان بهذا المفهوم الذي جاء به الإسلام للخلافة خارج عن أي نوع من أنواع التبعية لأي قوّة اجتماعية أياً كانت، بل هو خاضع لله وحده.. فلا قمية لنسب ولا لون ولا وطن ولا قومية.. ولا أي شيء من هذه الأشياء التي قام عليها التناحر بها بين البشر.

والخلافة بهذا الشكل حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوّة.. حركة لا توقف فيها لأنها متجهة نحو المطلق، وأي هدف آخر للحركة سوى المطلق سوف يكون هدفاً محدوداً، وبالتالي سوف يجمد الحركة ويوقف عملية النمو.

قلت: فما الفرق بين هذا الفهم الذي جاء به الإسلام.. وبين سائر المذاهب والأفكار؟

قال: الفروق عظيمة لا يمكن حصرها.. سأضرب لك أمثلة عنها لتدرك سمو التصور الإسلامي، وانحطاط سائر التصورات.

الإسلام يعتبر الإنسان.. كل إنسان.. خليفة لله.. أي انتماء الإنسان الأول لله، فهو الذي خلقه.. ومنه يستمد وجوده، ورزقه، وإليه يتوجه بالعبادة والدعاء.

وهذا الانتماء يجعله يمحو من خاطره وسلوكه كل تلك الانتماءات الضيقة التي تمليها عليها حدود المكان والزمان والمصالح.

ولهذا.. فهو يشعر بأخوة تنتظم جميع الكون.. ولا تنحصر في البقع الضيقة التي ولد فيها، أو انتسب إليها.

قارن هذا المفهوم الذي ينطلق من قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) ﴾(الحجرات) بجميع المفاهيم العنصرية التي تفوح من الأديان والمذاهب والحضارات..

 إن القوميات والشعوب والقبائل والآباء والأنساب التي ابتعد بها الإنسان عن الانتماء لله.. كما يعنيه مفهوم الخلاقة.. هو الذي صدر مع صداه الضارب في أحقاب التاريخ أكثر الحروب، وأبشع العصبيات، وأرذل الجرائم الإنسانية.

فعندما انطلق الرومان من أرضهم الخصبة، ومعيشتهم الميسرة، وفلسفتهم وأساطيرهم لم يكونوا يحملون مع جيوشهم الجرارة من فضل حضارة وإنسانية، ليساهموا في رفعة الإنسان، بل كان زادهم الوحيد، وهاجسهم الوحيد، ودافعهم الوحيد هو أن يعرفوا العالم الذي نعتوه بالبربرية من هو الإنسان الروماني وأي دماء تسري في عروقه.

وعندما أباد خلفهم من الأوروبيين سكان أمريكا وأستراليا، واستعبدوا سكان إفريقيا واستعمروا سكان آسيا لم يكونوا يشعرون بأي ألم، وهم يستغلون الأرض، ويستسخرون البشر، ويمصون دماءهم، لأنهم كانوا يعتقدون، بل قد يصرحون، بأنهم الجنس السامي، والإنسان الممتاز، الإنسان الذي يجوز له أن يستغل من دونه كما يستغل سائر البشر النبات والحيوان.

ومرت حقبة على البشرية تصوروا أنهم تخلصوا من العبودية والاستعمار، وأن الإنسان ترقى ليمحو آثار الشعوبية والقبلية والعرقية، وأن العالم يتجه نحو الإنسان المفصول عن أعراقه، ولكن الأخبار التي تبث كل يوم، بل كل ساعة تكذب كل هذا.

فالآلاف يموتون في أنحاء العالم بجريمة من جرائم ذلك الإنسان الأشقر، فلا يلتفت العالم لهم، ولا يترحم عليهم، ولا يعزي ذويهم في مصابهم، لأن الموت هو المصير الحقيقي لهم، وهو الخاتمة السعيدة لمأساة وجودهم، فإذا ما جرح فرد من أفراد ذلك الجنس المتميز انتهض البشر جميعا لمداواة جراحه، وإذا ما فقد انتهضوا جميعا للبحث عنه، فإذا مات تحولوا جميعا معزين ومواسين، والويل لمن لم يفعل كل ذلك، أو بعض ذلك.

هذه الشعوبية والقبلية والعرقية هي التي وقفت قديما حائلا بين الشعوب واتباع أنبيائها، وهي التي تقف حاليا بين هذا العالم الذي يدعي معرفة كل شيء، ويتصور أنه حقق كل شيء، وبين الالتفات للبحث عن التفسير الصحيح للكون، والبحث الجاد عن حقيقة الإنسان[15].

التفت إلي، وقال: هذا مثال واحد عن أثر الوعي بحقيقة الخلافة في تقويم سلوك الإنسان والجماعات.. وهو مثال لم يكتمل نضجه إلى على أيدي محمد.

الخلود:

قلت: وعيت هذا.. فهل هذا وحده تصور الإسلام عن حقيقة الإنسان؟

قال: لا.. إن هناك شيئا عظيما.. بل هو أكسير لم يأت به إلا محمد.. وهو الذي يضع للحياة طعمها الجميل.. وهو الذي ينفي الصراع الذي يتوهمه الغافلون.

قلت: ما هو؟

قال: الخلود.

قلت: ما الخلود؟

قال: ألا ترى البشرية تتنازع وتتصارع من أجل البقاء؟

قلت: بلى.. وقد ولد ذلك الاستعمار والحروب الكثيرة التي لا نزال نرى آثارها.

قال: إن سر ذلك كله يكمن في عدم الإيمان بخلود الإنسان.. فلذلك تجده يلهث ليملأ ذلك الفراغ العظيم الذي تمتلئ به نفسه.

قلت: وهل أوجد الإسلام ما يملأ به ذلك الفراغ؟

قال: أجل.. لقد ذكر الإسلام للإنسان أنه خالد.. وأن الموت مجرد مرحلة يمر بها كما يمر بمرحلة الجنين.. وأنه بعد موته سيعيش الحياة الحقيقية التي هي نتيجة لحياته الدنيا[16]..

إن هذا التصور الذي ذكره القرآن.. وجاء به الإسلام.. بصورة لا نظير لها في جميع الأديان والمذاهب.. هو الحل الوحيد الذي يقضي على ذلك الفراغ العظيم الذي يجعل هم الإنسان محصورا في الصراع والاستمتاع.

ولكن أولئك الدجالين الذين وقفوا يملأون عقول البشر بأهوائهم اجتهدوا جهدهم لينفوا هذا.. فلهذا لا ترى في جميع الدراسات الغربية التي اهتمت بالإنسان رعاية هذا البعد.

فجميع الدراسات تدرس الإنسان باعتباره يعيش حياته الدنيا وحدها، ولا معاد له في الآخرة، وبذلك اختلت الموازين تماما.

فاعتبار الحياة الدنيا هي المبدأ والنهاية يؤثر تأثيرا بالغا في رؤية الإنسان للأشياء، ليس فقط من الناحية الاعتقادية، ولكن كذلك من الناحية السلوكية والعملية والعلمية.

فحين يكون أمامك منظر متكامل تعرف مبدأه ومنتهاه، وتستطيع أن تعرف مكان كل جزئية فيه، ودلالتها في المنظر المتكامل، ثم تقتطع جزءا من المنظر، وتقول: يكفيني هذا الجزء، ولست بحاجة إلى باقيه! هل يكون سلوكك  عقلانيا؟.. وهل يكون واقعيا؟.. وهل تحصل على نتائج علمية صحيحة؟!

إن إدراك الدلالة الخاصة لكل جزئية في الصورة يرتبط ارتباطا وثيقا بالرؤية الشاملة للكل المتكامل المتمثل في الصورة، أما في القطاع الذي تقتطعه ـ أيا كان حجمه ـ فكيف تأخذ الجزئية دلالتها؟ وكيف تتكامل النظرة؟ فإذا كان الجزء الذي اقتطعته هو الأصغر، والمتروك هو الأكبر، فأي خلل يمكن أن ينشأ في الرؤية، وإلى أي مدى تفقد الجزئيات دلالتها؟!

والعلوم الاجتماعية التي نشأت وترعرعت في الغرب في ظل الصراع الحاد مع الكنيسة ودين الكنيسة ألغت اليوم الآخر من حسابها تماما، على أنه  غيبيات  لا تخضع للبحث العلمي، وميتافيزيقيا  ضارة ومعوّقة عن التقدم العلمي والعمراني، فلا ينبغي الاهتمام يها والالتفات إليها، ونشأ من ذلك اختلال هائل في رؤية القيم والأهداف.

فحين يعيش الإنسان للدنيا وحدها، ويعتقد أن ما يجنيه فيها من خير أو شر هو الحصية النهائية لجهده، وألا بعث ولا نشور ولا حساب ولا جزاء في الآخرة، فكيف تكون قيمه، وكيف تكون أهدافه؟

إنه بذلك، سيركز على الهدفين الرئيسيين للحيوان: الغلبة في صراع البقاء، والاستمتاع، وإن كانت أدواته لتحقيق كل من الهدفين هي أدوات الحيوان المتطور، أي باستخدام العقل، واستخدام العدد والآلات.

ولأجل هذا يبرز مثل هذا الشعار (القوة هي الحق) أو بالإنكليزي( Might is right ) ويكون قانون التعامل بين التجمعات البشرية بعضها وبعض هو قانون الغاب: القوي يأكل الضعيف أو ينحيه من الطريق، بصرف النظر عما هو حق وما هو عدوان.

وإن كان الكلام  الحلو  الذي تعلمه الحيوان المتطور حين أتيح لمخه أن يكبر، يفيض رقة وعذوبة وهو يتكلم عن التعاون الدولي، وعن الحرية والديمقراطية واحترام حقوق  الآخرين  ولا ينفي هذا أن تكون هناك  أخلاقيات  في السياسة والاجتماع، وعلاقات الناس بعضهم وبعض في داخل كل تجمع على حدة، قائم على رابطة الدم أو العصبية القومية، ولكنها ـ باعترافهم ـ أخلاقيات نفعية، يتواضعون عليها لتقليل الاحتكاك في التجمع الواحد إلى أقصى حد ممكن، وتوجيه العدوان إلى  الآخرين، ثم لينال كل إنسان حظه من الاستمتاع الحيواني بأقل قدر من المنغصات.. وحتى هذه  الأخلاقيات ـ كما يقول دركايم ـ دائمة التقلب لا تثبت على حال.

2 ـ حقوق الإنسان

قلت: وعيت حقيقة الإنسان كما يصورها القرآن.. وكما تصورها مذاهب البشر وأفكارهم، فما الحقوق التي تتطلبها هذه الحقيقة؟

قال: فما هي الحقوق التي تتصورها أنت؟

قلت: ثلاث: الحرية.. والإخاء.. والمساواة.. وهي الحقوق التي جاءت بها الثورة الفرنسية..

قال: وما الثورة الفرنسية؟

قلت: تلك التي أعلنت حقوق الإنسان.

قال: وأعلنت معها عقوق الإنسان..

قلت: ما تقول؟

قال: سأحكي لك القصة من أولها لتعلم أنه بقدر الحقوق التي تصور الإنسان أنه نالها في هذه الثورة بقدر الضرائب الضخمة التي دفعها.

نظر إلى الشجرة الجاثية أمامنا بحزن، ثم قال: لقد قام أولئك الثوار المساكين بقلع شجرة الإنسان قلعا شديدا ممتلئا بالفوضى، فقطعوا عروقها، وسملوا أعين أوراقها، ثم ملأوها بالصور التي شاءت لهم أهواؤهم أن تحجب أشعة الشمس عنها، ثم أحضروا مياه المستنقعات، فسقوها بها، فامتلأت بالأدواء.

قلت: كيف حصل كل ذلك؟

قال: في ذلك اليوم الذي اختلط فيه البغض بالحب.. والحقوق بالعقوق.. قام الثوار الذين انفجر بهم الظلم الاجتماعي، وقام معهم المفسدون في الأرض[17]، إلى الثورة..

لقد كان النظام الاجتماعي الذي هيمن على الحياة الأوروبية طيلة القرون الوسطى هو نظام (الإقطاع) [18].. وربما كان هذا النظام أبشع النظم الاجتماعية في التاريخ [19].

وقد كان من رحمة الله بأمة محمد أنه لم يكن فيها هذا النوع من النظم.. ذلك أن سياسة المال التي اتسم بها الإسلام، كانت تمنع ظهور الإقطاع.

والأخطر من ذلك.. ولعله هو الذي جر الثورة الفرنسية إلى ذلك الانحلال أو ذلك الاستغلال السيء لمبادئها هو أن الكنيسة كانت أكبر الملاك الإقطاعيين، فلذلك وقفت ضد الثورة، بدل أن تتولاها وتحميها وترشدها.

إن الكنيسة ـ التي حكمت أوروبا طيلة عصورها المظلمة ـ لم تكتف بصد الناس عن نور الإسلام، بل ناقضت تعاليم الإنجيل الداعية إلى المحبة والتسامح ونافست الأمراء الإقطاعيين في إذلال الشعوب وقهرها.

   لقد برر القديس توما الاكويني نظام الاسترقاق الإقطاعي بقوله:« إنه نتيجة لخطيئة آدم »[20] وكأن رجال الكنيسة والبارونات ليسوا من بني آدم.. ولهذا لم تكن تلك الثورة في حقيقة أمرها تمرداً على الكنيسة، لأنها كنيسة، وإنما كان ذلك لأنها مالك إقطاعي.

يقول ويلز:« كانت ثورة الشعب على الكنيسة دينية …فلم يكن اعتراضهم على قوة الكنيسة، بل على مساوئها ونواحي الضعف فيها، وكانت حركات تمردهم على الكنيسة حركات لا يقصد بها الفكاك من الرقابة، بل طلب رقابة دينية أتم وأوفي … وقد اعترضوا على البابا لا لأنه الرأس الديني للعالم المسيحي، بل لأنه لم يكن كذلك، أي لأنه كان أميراً ثرياً دنيوياً، بينما كان يجب أن يكون قائدهم الروحي »[21]

بسبب هذا.. ولدت أول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية دولة جمهورية لا دينية تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب، وعلى حرية التدين بدلاً من الكثلكة، وعلى الحرية الشخصية بدلاً من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلا من قرارات الكنيسة.

ونتج عن هذا أن حلت الجمعيات الدينية، وسرح الرهبان والراهبات، وصودرت أموال الكنيسة، وألغيت كل امتيازاتها.

وكان ذلك كله يمكن أن يتم باعتدال.. لولا أن الثورة الغوغائية لا يمكن أن تحصد الاعتدال..

والأخطر من ذلك كله أن القائمين على الثورة والناشرين لها أو الذين تربوا في أحضانها ومهدها انطلقوا من الثورة.. ولم ينطلقوا من العلم.. فوقعوا في أخطاء لا تقل عن الأخطاء التي ثاروا عليها.

لقد كان من أخطر ما ولدت الثورة.. وأخطر من ولدها تلك الأفكار التي سميت أفكارا تنويرية مع أنها كانت تحوي من الظلمات ما لا يقل عن الظلمات التي أرادت رفعها.

فمن المدارس التي ظهرت.. والتي طبعت الحياة العقدية والسلوكية والاجتماعية.. وحاولت أن تفسر حقيقة الإنسان، وتستنتج منها حقوقه مدرسة الكتاب الموسوعيين الذين كتبوا دائرة المعارف بزعامة (ديدرو)، وكانوا كما يقول ويلز:« يناصبون الأديان عداوة عمياء »

ومنها مدرسة (روسو)، وهي مدرسة ذات طابع اجتماعي وسياسي، وروسو هو صاحب كتاب (العقد الاجتماعي) الذي أطلق عليه (إنجيل الثورة الفرنسية).. ومن أعمدة هذه المدرسة (مونتسيكو) صاحب (روح القوانين)

ومن كتابات هؤلاء استلهم زعماء الثورة مبادئهم واقتباساتهم.

والغرض من فكرة العقد الاجتماعي واضح للعيان فهي تهدف إلى استبدال (لمصلحة الاجتماعية) أو الرابطة النفعية للأفراد بالأخلاق والنظم الدينية، لتحل عبادة المجتمع ممثلاً في الوطن أو القوم محل عبادة الله، وذلك ما نادت به الثورة حرفياً.

وروسو لم يكن ـ في الحقيقة ـ صاحب هذه الفكرة.. بل سبقه إليها الفلاسفة المثاليون في المدن الفاضلة ففي (جمهورية أفلاطون) و(اليوتوبيا) لتوماس مور، و(مدينة الشمس) لكامبانيلا، وكلها نماذج واضحة للحياة اللادينية التي تقوم على أساس من التفاهم والوفاق المجرد بين الأفراد، وهو ما عبر عنه روسو بالعقد الاجتماعي، إلا أنه أضاف إلى هذا النموذج ما اقتبسه من (هوبز) و(ميكافيلي) اللذين غلبا جانب الشر لدى الإنسان على الخير، لذلك كان روسو هداماً أكثر منه فيلسوفاً.

ومن تلك المدارس مدرسة الدين الطبيعي، وهي مدرسة ذات طابع فلسفي هدام، وقد سبق الفلاسفة العقلانيون غيرهم في بحث علاقة الفرد بالدولة والمناداة بمجتمع ينفصل فيه الدين عن الدولة، وكانت فكرتهم اللادينية أوسع مما تصوره ميكافيلي، لأن الدين نفسه عندهم يجب أن يلغى ليحل محله (الدين الطبيعي أو القانون الطبيعي)

وربما كان الفيلسوف (سبينوزا) رائد الفكرة العلمانية باعتبارها منهجاً للحياة، فهو يقول في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة):« ومن الخطورة على الدين وعلى الدولة على السواء إعطاء من يقومون بشؤون الدين الحق في إصدار القرارات أيا كانت أو التدخل في شؤون الدولة، وعلى العكس يكون الاستقرار أعظم إذا اقتصروا على الإجابة على الأسئلة المقدمة إليهم والتزموا في أثناء ذلك بالتراث القديم الأكثر يقيناً والأوسع قبولاً بين الناس »[22]  

واكتملت لدى فولتير فكرة الدين الطبيعي التي ورثها عن سبينوزا ولايبنتز واشتق منها فكرة (القانون الطبيعي)، حيث نجده يقول:« إن دين أهل الفكر دين رائع خال من الخرافات والأساطير المتناقض وخال من العقائد المهينة للعقل والطبيعة …لقد منع الدين الطبيعي آلاف المرات المواطنين من ارتكاب الجرائم …أما الدين المصطنع فإنه يشجع على جميع مظاهر القسوة … كما يشجع على المؤامرات والفتن وعلى أعمال القرصنة وقطع الطريق..ويسير كل فرد نحو الجريمة مسروراً تحت حماية قديسه »

ويقول:« هناك قانون طبيعي مستقل عن الاتفاقات الإنسانية..يبدو لي أن معظم الناس قد أخذوا من الطبيعة حساً مشتركاً لسن القوانين »[23]  

وإذا كان روسو وفولتير لم يدركا الثورة الفرنسية، فإن الفيلسوف الألماني (كانت) (1804 م) عاصرها واشتهر بتأييدها، وهو الذي طور فكرة العقد الاجتماعي في كتابه (الدين في حدود العقل وحده)

وهكذا بتأثير هذا الفكر اللاديني جسمت الثورة الفرنسية الفكرة الفلسفية القديمة بإقامة مجتمع يرفض القيم والأخلاق الدينية، ويجعل العلاقات النفعية المحضة هي الرباط المقدس الوحيد.

قلت: فهل تتصور تلك الجماهير البسيطة من الفلاحين والعمال الذين قهوهم الإقطاع قد قرأوا أفكار روسو، وانتقادات فولتير، ليقوموا بالثورة؟

قال: ربما لم يقرأوا.. ولكنهم قد قرأوا الواقع.. قرأو مخازي الكرادلة والقساوسة وفضائحهم وثراءهم البازخ.. ورأو بأعينهم ما عبر عنه توماس جفرسن بقوله:« إن القسيس في كل بلد، وفي كل عصر من أعداء الحرية، وهو دائماً حليف الحاكم المستبد يعينه على سيئاته في  نظير حمايته لسيئاته هو الآخر »[24]  

وكان كل ذلك مدعاة لأن تصب الجماهير جام غضبها على الكنيسة، وتصرخ خلف (ميرابو) اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس »

قلت: أرانا انشغلنا بالحديث عن الثورة الفرنسية عن حقوق الإنسان.

قال: لا.. لم ننشغل.. لابد أن نفهم كل هذا حتى نعي معنى حقوق الإنسان التي نادت بها الثورة الفرنسية، والتي اعتبرت بعد ذلك دستورا لحقوق الإنسان.. فلا يمكن مقارنة ما جاء به الإسلام إلا بعد أن نعرف ما جاءت به هذه الثورة التي زعم لها أنها أول من نادى بحقوق الإنسان.

قلت: أنا إلى الآن لم أعرف كيف دخلت فكرة حقوق الإنسان إلى الثورة الفرنسية..

قال: لا يزال ذلك لغزا.. أو قريبا من اللغز.. ذلك أن تلك الجماهير كان يمكن ككل الثورات أن تكتفي بالإنجازات البسيطة.. ولكنها لم تكتف بذلك.

لم تكتف الثورة بمصادرة أملاك الكنيسة.. أو القضاء على نفوذها.. لتظل بعد ذلك مؤمنة بدينها، وفيه لتاريخها، متمسكة بتقاليدها العريقة، لولا أنه وجد عامل آخر قلب أهداف الثورة وحول خط سيرها.

فعندما اندفعت الجموع الغوغائية لهدم الباستيل، وهو رمز العبودية والاستبداد لم تكن ترفع سوى شعار واحد هو (الخبز)، والخبز وحده.

لكنها ما إن بدأت في قطف أولى نتائج ثورتها حتى وجدت نفسها تهتف بشعار (الحرية المساواة الإخاء)، وهو شعار لقنته تلقيناً.. كما لقنت شعار (لتسقط الرجعية)،  وهي كلمة ملتوية تعني الدين.

وعندما بدأت المقصلة في تطبيق تلك الشعارات كان الضحايا يقدمون على مذبحها بحجة واحدة هي أنهم من أعداء الشعب، مع أنه كان بينهم من يعرف الشعب براءته، ودهش الشعب حين كان يرى من يقرأ بيان القتل اليوم باسم الشعب، يقدم هو نفسه غدا إلى المقصلة باسم الشعب أيضاً.

قلت: كيف هذا.. هل ترى الثورة فشلت في تحقيق أهدافها؟

قال: بل انحرفت عن أهدافها..

لقد تولى مفسدون كثيرون رعاية الثورة وتوجيهها.. فلذلك انحرفت ذلك الانحراف الخطير.. وانحرفت معها حقوق الإنسان انحرافا لا نزال نعاني منه.

قلت: ما هو هذا الانحراف؟

قال: عزل الدين عن الحياة.. وعزل حقيقة الإنسان عن حقوقه.

قلت: فهل تحدثني عن آثار ذلك؟

قال: سأحدثك عن بعض آثار ذلك، لتكتشف الزور الذي تحتوي عليه أكذوبة حقوق الإنسان التي جاءت بها الثورة الفرنسية، وأعلنتها القوانين العالمية[25].

الحرية

قلت: فلنبدأ حديثنا بالحرية..

نظر إلى الشجرة بعمق، ثم قال: هل ترى هذه الشجرة المسكينة التي تتنفس السموم، وترضع من المستنقعات.

قلت: ما بها؟

قال: هذه هي نهاية الحرية التي نادى بها أولئك الشياطين الذين اعتلوا عرش البشرية.

قلت: إن ما تقوله خطير جدا.

قال: وصادق جدا.. الحرية التي يريدها أولئك الشياطين هي أن تتمرد هذه الشجرة على جميع الغابة التي ولدت في أحضانها لتشرب غير الماء الذي تشربه، وتأكل من غير الكلأ الذي تأكل منه.

إن أول ما فعلته تلك الثورة التي أعلنت الحرية أن بترت الإنسان عن الإنسان، لأنها تصورته قيدا يكبت حرية الإنسان.

وقد بدأت ذلك بتحريره من الله.. أو بعزل الله عن حياته.

ثم كان الانقلاب الصناعى[26] الذى أتى على بقية ما كان من بنيان.. لقد أحدث هذا الانقلاب تغيراً كاملاً فى صورة المجتمع.. فى كل شىء فيه..

وكان عاملاً من أهم العوامل فى التركيز على (فردية) الإنسان..

لقد جاء العمال من الريف فرادى.. غير متعارفين ولا مترابطين، وسكنوا فى المدينة كذلك فرادى.. لا يلتقون إلا فى زمالة العمل وحده، ولكن لا تقوم بينهم الروابط التى كانت تقوم بين الفلاح وأخيه فى الريف، حيث الناس متعارفون، متعاونون، تربطهم القرابة والمصاهرة والجوار ودوام الاتصال.. والتقاليد المشتركة التى توحد كيانهم من الداخل فيلتقون متعارفين بالمشاعر والأفكار.

بل إنهم جاءوا كذلك فرادى بلا أسر.. فقد كان الجيل الأول من العمال النازحين من الريف يتحسسون الطريق فى المدينة، فلا يحضرون معهم أسرهم حتى يطمئنوا أولاً إلى الجو الذى يعيشون فيه، وكان معظمهم من الشبان العزاب الذين لم يرتبطوا بعد برباط الزواج..

وهكذا أحس كل إنسان فى المدينة بفرديته المتميزة أكثر مما أحس بالرباط الجمعى..

ثم عملت المرأة.. وأحست كذلك بفرديتها وحريتها..

لقد كانت من قبل هملاً لا وجود له ولا كيان ولا استقلال، مجرد تابع للرجل، تعيش عن طريقه اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً وفكرياً.. وكل شىء.. فلما اشتغلت حدث فى نفسها انقلاب، وصار فى يدها مال تملكه ملكاً حقيقياً، مباشراً، كاملاً، تستطيع أن تتصرف فيه كما تشاء.

وتعاملت ـ بشخصها مباشرة ـ مع المجتمع، فى المصنع والمتجر والطريق..

وتعاملت مع الرجل ـ أو بدأت ـ إن لم يكن على أنها ند له، فعلى الأقل على أنها لم تعد ذلك التابع الذى لا كيان له، وإنما صارت كائناً يحاول أن يصل إلى مستوى الرجل وينازعه السلطان..

وفى كل ذلك برزت فرديتها التى لم يكن لها وجود من قبل..

واشتغل الأطفال كذلك.. وبرزت ـ رويداً رويداً ـ لهؤلاء الصغار فردية متميزة، يكتسبونها من عرك العمل لهم منذ طفولتهم، ومن العملة القليلة التى تتحصل فى أيديهم..

وهكذا صار الجميع أفراداً متميزى الفردية.. تحرر بعضهم من بعض..

قلت: وما الخطر في ذلك.. إن الحياة لا تستقيم إلا بهذه الفردية..

قال: ولكن الفردية التي ولدت في ذلك الوقت كانت انحرافا خطيرا.. ذلك أنها ولدت في ظل الجاهلية المنحرفة..

لقد ذاق هؤلاء جميعاً فرديتهم المستقلة (المتحررة) من غير طريقها السوى، الذى كان يضمن لهم ـ مع الإحساس بالذاتية المتميزة ـ توازناً فى الإحساس بالحقوق والتبعات، والحرية والالتزام.

فسكان المدينة الجدد كانوا ـ رويداً رويداً ـ قوماً يتحللون من الدين والأخلاق والتقاليد، بتأثير الانتقال من الكبت العنيف فى الريف إلى (حرية) المدينة وبحبحتها، وبتأثير الانسلاخ التدريجى الدائم من الدين، وبتأثير التفسير الحيوانى للإنسان الذى بثته الداروينية فى النفوس؛ وبتأثير التفسير الجنسى للسلوك الذى بثه فرويد؛ وبتأثير وجود الشباب الفاره القوة بلا أسر تعصمه من الخطيئة، فيلجأ إلى الحل الرخيص الذى تقدمه المدينة فى صورة بغاء..

والمرأة ـ وهى تحس رويداً رويداً بفرديتها ـ كانت تستقى هذه الفردية على انحراف، فهى خارجة من حالة انعدام الكيان.. فى كل شىء.

فلما أحست بذاتيتها أخذت تناضل لتحطيم كل قيد.. لازماً أو غير لازم.. وأخذت بالذات تسعى إلى تحطيم الدين والأخلاق والتقاليد لأنها استخدمت ضدها فى معركة (التحرر).. استخدمها الرجل ليصدها عن منافسته، بينما كان هو فى واقع حياته متحللاً من الدين والأخلاق والتقاليد.

وحدث عند هذا انحلال مدمر شنيع..

لقد تحطمت روابط المجتمع، وروابط الأسرة، وفسد كيان الرجل والمرأة كليهما.. فلم يعودا رجلاً وامرأة كما خلقهما الله.

أما الرجل ـ وقد فقد روابطه الاجتماعية وضعفت فى نفسه روابط الأسرة وروابط الرجولة ذاتها ـ فقد أصبح شيئاً أقرب إلى الآلة منه إلى الإنسان.. آلة منتجة، ولكنها لا تكاد تفكر أو تحس.. وإنما تعيش الحياة لحظة لحظة، بلا هدف شامل ولا وعى بإنسانية الإنسان.. ثم إذا فرغ من الإنتاج المادى الذى يكبت كيانه الحى ويطمس إشعاعه الروح فيه ـ بسبب الأسلوب الآلى الذى يؤدى به العمل ـ انطلق فى حيوانية هابطة يشبع دوافع الحيوان.. وتتحول فى نظره إلى هذين الهدفين القريبين: إنتاج كالآلة.. وانطلاق كالحيوان.

قلت: وعيت هذا.. بل إني أرى هذا بعيني، وأتألم له كما تتألم.. بل إنه في كل يوم يظهر شذوذ جديد من هذا العالم الحر.. ويطالب الجميع بقبوله، لأنه مظهر من مظاهر الحرية.. ومن ينكر ذلك يعتبر من محور الشر الذي ينبغي أن يحارب ويباد لتحفظ الحرية في العالم.

قال: أما الإسلام.. دين الحرية الحقيقية.. فقد بنى مفهوم الحرية على أسس صحيحة تخدم الفرد، وتخدم المجتمع.. وتقيم عمارة الأرض التي لا تستقيم إلا بالحرية المنضبطة بضوابط المسؤولية.

قلت: لقد ذكرت لي أن حقوق في الإسلام تنطلق من تصوره لحقيقته.

قال: أجل.. ولذلك فإن الحرية في الإسلام تنطلق من الخصائص التي عرف بها الإسلام الإنسان.. وأولها العبودية لله..

قلت: إن قومنا من دعاة الحرية يعتبرون هذا من القيود التي تمنع انطلاقة الحرية..

قال: لا.. إن العبودية لله، والتي تعني الانقياد التام والطاعة الكاملة لله هي التي تحرر الإنسان من كافة العبوديات والانقيادات والتبعات لأية جهة أخرى.

وهذا ما يكشف عن التحرر الحقيقي للانسان من كافة الأغلال والقيود التي طالما كبلت إرادته وفكره وجسمه وروحه وحتى عواطفه خلال مسيرته الحافلة بالعناء.

فالعبودية لله تعني أسمى أنواع الحرية التي لم يحلم بها الإنسان، ولم يتصورها أبداً، وهو يصارع ألوان العبوديات التي سلبت منه نعمة الحرية والحياة الآمنة والعيش الهانىء.

إن العبودية لله تحرر الإنسان من كل القيود.. لا من قيود الظلم والامتهان والاستعباد والآلهة المزورة فحسب، وانما من قيود النفس وأهوائها الجامحة ونزعاتها الجنونية.

وذلك ما يتيح للانسان شق طريقه بشكل أفضل وأداء دوره بالصورة المطلوبة.

ولئن كانت الحرية في الحضارات الغربية تبدأ من التحرر لتنتهي إلى ألوان من العبودية والأغلال، فإن الحرية الرحيبة في الإسلام على العكس.. لأنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى لتنتهي إلى التحرر من كل اشكال العبودية المهينة[27].

قلت: ولكن الذين ثاروا في الثورة الفرنسية ثاروا على الكنيسة التي ترمز للعبودية لله.

قال: لا.. لم تكن الكنيسة في يوم من الأيام ترمز للعبودية لله.. لقد قال القرآن في الانحراف الخطير الذي آلت إليه:﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (التوبة:31)

أنت تعلم ما فعله رجال ديننا متذرعين بما أعطي لهم من سلطة المنح والمنع، والغفران والحرمان، والإدخال في رحمة الله، والطرد منها، لأن المسيح قال لبعض تلاميذه: سأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما ربطته على الأرض يكون مربوطا في السموات، وكل ما حللته على الأرض يكون محلولا في السموات.

أما الإسلام فليس فيه هذا النوع من العبودية..

الإسلام يأمر بالعبودية التي تتوجه لله وحده من دون أي وسائط.. ولذلك فإن هذه العبودية هي عين الحرية.. فهي تحرره من أي قيد فكري أو سياسي أواجتماعي أونفسي.. وغيرها من القيود التي تحاول فرضها عليه الافكار والعقائد والتقاليد والقوى التي لاتمت إلى الله بصلة ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران:64)

وانطلاقا من هذه العبودية الجميلة التي يعيشها الفرد المؤمن كما تعيشها الجماعة المؤمنة يتحرك المؤمن في الحياة طبقاً لمرضاة من توجه إليه بالعبودية..

فالمسلم مطالب بتحقيق مرضاة الله، والبحث عنها في التكاليف التي كلف بها..

قلت: أليس هذا قيدا للحرية؟

قال: أرأيت لو أن طبيبا نهاك عما يضرك، أو أمرك بما ينفعك، ثم فعلت ما طلبه منك عن رضا تام.. وطواعية محبة.. أكان ذلك قيدا؟

قلت: لا.. فالطواعية تتنافى مع القيد.

قال: فهكذا العبودية التي أمر بها الإسلام، والتي يقوم بها المؤمن، ففيها وصفان يزيلان عنها ما نتوهمه من قيود:

أما أولهما، فكونها لا يمكن أن تتحقق إلا بالرضى التام والطواعية التامة.. ولهذا يربط الإسلام بين العبادة والمحبة.. فالعبادة التزام من قلب ممتلئ بحب الله.. قلب يشعر أنه ليس في الوجود من هو أجدر من الله بأن يحب، والإسلام بمصادره المقدسة يعمق في المؤمنين هذه المحبة.. فهو يصف الله بأنه صاحب الفضل والإحسان، الذي خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا، وخلق له ما في الأرض جميعا، وأسبع عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وخلقه في أحسن تقويم، وصوره فأحسن صورته، وكرمه وفضله على كثير من خلقه، ورزقه من الطيبات، وعلمه البيان، واستخلفه في الأرض، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته.

فإذا امتلأ المؤمن بهذه المحبة مارس العبودية ـ بجميع أنواعها ـ برضا وتلذذ وطواعية..

وأما الثاني.. فهو أن هذه العبودية التي يمارسها المؤمن عن طواعية تامة لم يقصد منها إلا مصالحه.. والمصالح بالمفهوم الإسلامي تشمل مصالح الدنيا، ومصالح الآخرة.

ولهذا.. فإن النصوص المقدسة تربط بين طاعة الله والمصالح..

قلت: إن قومنا يقصدون بالحرية حرية الرأي.. وهو ما أتاحته الديمقراطية الحديثة؟

قال: تقصد ديمقراطية المشاغبين؟

قلت: ما تقول؟

قال: أرأيت لو كنت معلما.. وكان لك تلاميذ.. وكان أكثرهم مشاغبين لا علاقة لهم بالعلم، ولا اهتمام لهم به.. وراحوا يطالبونك بانتخابات تحدد لهم الدروس التي يقرؤونها، والمنهج الذي تدرسهم به.. أترى هذا الأسلوب نافعا لهم؟

قلت: لا أراه مجديا معهم.. فهم سيرمون جميع الدروس في سلة المهملات.. وسيجعلون من المدرسة ملعبا لأهوائهم وشغبهم.

قال: فهكذا هذه الديمقراطية المزيفة.. إنها تتيح للص والمجرم والقاتل والمنحرف من الأصوات ما تتيحه للمفكر والعالم والعبقري.

وهي مع ذلك لا تتيح لهم إلا حرية محدودة في أطر رسمتها [28].. فالمتتبع لواقع حرية الرأي في الفكر الغربي يجدها قد قيدت بقيدين: أولهما سيطرة الاحتكارات الرأسمالية الكبرى على وسائل الإعلام، وقدرتها على توجيه الإعلام، والتحكم في مصادر الأخبار والمعلومات.. وثانيهما تلك القيود المثيرة التي تفرضها الدولة، بحجة عدم الاعتداء على حريات الآخرين، والمحافظة على الأمن الداخلي، والتي غالباً ما تستخدم كذريعة للحد من قدرة الأفراد على التعبير عن آرائهم.

قلت: والإسلام.. لقد سمعت أنه يكبت حرية الرأي!؟

قال: هو يكبت حرية الرأي الذي يريد أن يخرب المجتمع، أو يفتت وحدته، أو يحول وجهته عن الله الذي خلقه..

أما الرأي الذي يكون نصحا أو نقدا بناء.. فإن الإسلام لا يكتفي باعتباره حقا.. بل يعتبره واجبا على الكل.. وهو لا يسميه رأيا.. بل يسميه نصيحة، ويشرع له من الأخلاق ما يضعه في قمة قمم الأدب.

لقد كان أبو بكر هو أول خليفة للمسلمين، وقد رسم في أول خطبة له سياسة الحاكم المسلم، وموقف الرعية منه، فقال:« يا أيها الناس، إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفوني، ما كان رسول الله r يطيق، إن الله اصطفى محمداً على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوّموني »

ومن الجرأة على قول الحق ما روي أن عمر سأل سلمان الفارسي:« أملك أنا أم خليفة؟»، فأجابه سلمان بقوله:« إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة »

وروي أن عمر قال للصحابة يوماً:« أما والله لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر، تذهب بنا شرقاً وغرباً، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه، فقال طلحة: وما عليك لو قلت: إن يعوج عزلوه، فقال: لا، القتل أنكى لمن بعده »

قلت: وعيت هذا.. ولكن الإسلام يقمع حرية المعتقد.

قال: الإسلام ينهى عن الإكراه في الدين.. ولا يجيز لأحد أن يكره أحد على أي اعتقاد.

قلت: لا أقصد هذا.. ولكني أقصد أمره بقتل المرتد، وقد قاتل أبو بكر المرتدين حتى عادوا.. أليس ذلك إكراها[29]؟

قال: لا.. لأن قتل المرتد ليس من باب الإكراه على المعتقد من غير اقتناع، وإنما لطمس عنوان سوء ينفر الناس من اعتناق الإسلام، أو التفكير في قبول دعوته.

لقد مارس بعض اليهود هذا في عهد النبوة، كما ذكر القرآن:﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)﴾(آل عمران).. فلذلك جعل الإسلام هذا الرادع التشريعي ليحفظ حماه.

قلت: ولكن المرتد يظل على كفره حتى لو أرغم على الإسلام.

قال: الإسلام لا يتوجه بالعقوبة إلا للمرتد الذي لا هدف له إلا تخريب المجتمع، وتفتيت وحدة المسلمين، وخرق صفوفهم.. أما المرتد الذي يحتفظ بردته لنفسه، ويحتفظ بكفره لنفسه، فلا يسمع به الإسلام، ولا يهتم له.

بل إن محمدا كان يرى المنافقين ويعلم أسماءهم.. ولم يقتل واحدا منهم.

ثم التفت إلي، وقال: أنا أتعجب من المسيحيين الذين ينكرون هذا.. ألم يقرأو ما كتبه القديس (أوغستان) إلى الكونت (بونيفاس) يشير عليه باستعمال القوة لردع أهل البدع من المسيحيين، وردهم إلى النصرانية، وقد مثلهم في كتابه ببغال تعض وترفس من يعالجها من مرضها، والذي يعالجها مضطر إلى إيلامها؛ ليستطيع أن يضمد جراحها، ومثّلهم بالطفل الصغير الذي لا تتيسر تربيته بغير الحوط والعقاب، وقال: إن القسوة العادلة هي التي تأتيها كنيسة المسيح ضد الكافرين، لكن القسوة الظالمة هي التي يستعملها الكافرون ضد كنيسة المسيح 

وأتعجب مثل ذلك لمن ينكرون هذا بينما هم يمارسونه في أبسط الأمور، ومن غير أي مبرر؟

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألا تعتبر أكثر الأنظمة العالمية.. أو كل الأنظمة العالمية.. المساس بثوابتها، أو موالاة أعدائها خيانة عظمى.

قلت: بلى.. ذلك صحيح.

قال: فهكذا الردة عن الإسلام.. فهي ليست مجرد موقف عقلي، بل هى فوق ذلك ومع ذلك تغيير للولاء، وتبديل للهوية وتحويل للانتماء.

فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى، فهو يخلع نفسه من أمة الإسلام التى كان عضواً فى جسدها، وينقم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها.. ولهذا ورد في الحديث الجمع بين الأمرين: التارك لدينه المفارق للجماعة [30]،  فكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ، فكل مرتد عن دينه لابد أن يكون مفارقا للجماعة.

ابتسم وقال: أنا أتعجب من هؤلاء الذين يثيرون مثل هذه الشبهة.. إن الإسلام بهذا الحكم يدعو إلى التعقل في اتخاذ القرار المرتبط بالدين.. إنه يقول لكل من يريد أن يعتنقه: تثبت أولا.. وتثبت ثانيا.. فالإسلام لا يقبل أن تتلاعب به.. والإسلام لا يقبل منك إلا القناعة التامة والرضى التام.. فإن كنت لا تزال مترددا.. فابق على ترددك إلى أن يتضح لك الحق 

إنه بهذا يكاد يحد من انتشاره..

سكت قليلا، ثم قال: ومهما يكن جرم المرتد، فإن المسلمين لا يتبعون عورات أحدٍ ولا يتسورون على أحدٍ بيته ولا يحاسبون إلا من جاهر بلسانه أو قلمه أو فعله مما يكون كفراً بواحاً صريحاً لا مجال فيه لتأويل أو احتمال فأى شك فى ذلك يفسر لمصلحة المتهم بالردة.

إن التهاون فى عقوبة المرتد المعالن لردته يعرض المجتمع كله للخطر، ويفتح عليه باب فتنة لا تعلم عواقبها.. فلا يلبث المرتد أن يغرر بغيره، وخصوصاً من الضعفاء والبسطاء من الناس، وتتكون جماعة مناوئة للأمة تستبيح لنفسها الاستعانة بأعداء الأمة عليها، وبذلك تقع فى صراع وتمزق فكرى واجتماعى وسياسى، وقد يتطور إلى صراع دموى بل حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس[31].

التفت إلي، وقال: أجبني.. وكن صادقا في إجابتك.

قلت: لن تجد عندي غير الصدق.

قال: سأخاطبك باللغة التي يفهمها قومنا.. أرأيت لو أن لاعبا مشهورا في كرة القدم.. سلب ملايين من محبيه قلوبهم وعقولهم.. هل يوجد ـ أولا ـ مثل هذا؟

قلت: لا يوجد إلا هذا وأمثاله.

قال: فلو أن هذا الرجل أغرته بعض شبكات الإجرام بأن يظهر في إشهار لنوع قاتل من الغذاء، يجهل الناس ضرره، فخضع للإراء.. وراح يمثل دور المشتهي والآكل لذلك الغذاء.. هل ترى من الحكمة منعه؟

قلت: بل حبسه، والتشديد عليه.. فإن هذا الرجل سيقتل بهذا الأسلوب كل من يحبه.

قال: فهكذا حكم المرتد.. فالعامي البسيط الذي يبقى ارتداده بينه وبين ربه لا يلتفت له أحد.. ولا يعاقبه أحد.. ولكن المرتد المعقد الذي ينشر ارتداده بقلمه ولسانه، فيثير بذلك فتنة خطيرة بين الناس حكم عليه الشرع بهذا الحكم الرادع.

وهو مع ذلك لا يطبقه عليه إلا في حال إصراره.

لقد أعطى الإسلام فرصة لهذا المرتد ليراجع نفسه عسى أن تزول عنه الشبهة، وتقوم عليه الحُجة.. ويكلف العلماء في ذلك الحين بالرد على ما فى نفسه من شبهة حتى تقوم عليه الحُجة.

ولذلك لما حصلت الردة في عهد أبي بكر أعذر المرتدين بكتبه ورسله، وحاول اقناعهم بالحسنى، ولم يجيش الجيوش لحربهم إلا بعد أن أغار فريق منهم على المدينة، واعتدى فريق آخر على ولاته، وتحزب فريق ثالث لحربه، وكان قواده الذين أرسلهم لحرب المرتدين دعاة هداية وإرشاد، لم يبدأوا أحدا بقتال إلا بعد دعوته إلى الإسلام.

 

 

 

 

الإخاء

قلت: لقد حدثتني عن الحرية.. فحدثني عن الإخاء.

قال: أأحدثك عن الإخاء الذي علمته الثورة الفرنسية للثوار الذين قاموا بها، أم عن الإخاء الذي جاء به الإسلام؟

قلت: حدثتني عن كليهما.

قال: أول مظهر من مظاهر الإخاء الذي علمتنا إياها الثورة الفرنسية هو الاستعمار والنهب والسيطرة على حقوق المستضعفين، ثم قتلهم بعد ذلك.

لاشك أنك تعرف نابليون.. وتعرف رحلته إلى مصر.

قلت: أجل.. في تلك الرحلة أعلنت مصر بداية التحضر.

قال: وفي تلك الرحلة أعلنت الثورة الفرنسية ومعها الغرب جميعا بداية الانحطاط.

سأذكر لك حادثة واحدة تبين لك معنى الأخوة كما تفهمها شعوبنا، وكما يفهمها قادتنا.

لقد واجه الإحتلال الفرنسي عدة ثورات وانتفاضات شعبية خلال السنوات الثلاث التي هيمن فيها على مصر.. وفي 21 تشرين الأول 1798، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من دخول الفرنسيين، نشبت ثورة بدأها شيخ أزهري خرج إلى الأسواق ينادي: أن كل مؤمن موحد بالله عليه بجامع الأزهر، لأن اليوم ينبغي لنا أن نغازي الكفار.

وصارت الأصوات ترتفع من فوق المآذن والسطوح العالية تدعو المسلمين للجهاد، فتجمعت الجماهير حاملة البنادق والأسلحة، وبدأ الناس بمهاجمة الجنود الفرنسيين، كما هوجمت دار العلوم والمستشفى العسكري.

في ذلك الحين، أمر نابليون بتوجيه المدافع المصوبة في القلعة صوب الجامع الأزهر وما حوله من الدور والأسواق، وبدأت بدك المباني بالقنابل، فأثارت الرعب فهرب الناس من المكان.

وفي المساء أحاط الجنود الفرنسيون يصحبهم ثلاثمائة خيال بالجامع، ثم دخلوا فيه، وأخذوا يأسرون من كان فيه من الثوار، ويعبثون به وبمحتوياته عبثاً شديداً.

وذهب شيوخ الأزهر لمقابلة نابليون يرجونه الكف عن انتهاك الجامع وقتل الناس، فأخذ يلومهم ثم أعلن العفو عنهم.. لكن إعلانه للعفو كان ظاهرياً، إذ أنه أصدر أوامره خفية بقتل كل من قاد الثورة أو شارك فيها.

وكان من أوامره لأحد قواده: تفضل أيها المواطن القائد بأن تأمر قومندان القاهرة بقطع رؤوس جميع المسجونين الذين أمسكوا وبيدهم سلاح، فليؤخذوا إلى شاطئ النيل، بعد هبوط الظلام، ولتلق جثثهم المقطوعة الرؤوس في النهر.

ثم أمر نابليون بإعدام ثمانين رجلاً من الذين كانوا أعضاء في (ديوان الدفاع) وهو الديوان الذي كان بمثابة مركز القيادة للثورة.

هكذا تصرف القائد المتنور بمبادئ الثورة الفرنسية، إذ حمل معه المقصلة (الجيلوتين) التي أصبحت من أبرز معالم الثورة الفرنسية.. وأعدم عشرات من شيوخ الأزهر وطلابه دون محاكمة أو تحقيق.

وبعد أن تمت عمليات الإعدام والتصفيات الجسدية، أذاع نابليون منشوراً أشار فيه إلى عفوه، إذ بدأه بالتهديد والوعيد، ثم ذكر أنه فعل ما فعل بتقدير الله وإرادته، وأنه لا ينجو أحد من عقابه، وأن لديه قدرة عجيبة على أن يعرف ما في داخل المرء بمجرد أن يراه..

اسمع ما يقول هذا التلميذ النجيب الذي تتلمذ على الثوة الفرنسية:« أيها العلماء والأشراف، أعلموا أمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني إنما خصامه من ضلال عقله وفساد فكره، فلا يجد ملجأً ولا مخلصاً ينجيه مني في هذا العالم، ولا ينجو من بين يدي الله لمعارضته لمقادير الله سبحانه وتعالى.. والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله وإرادته وقضائه، ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة. وأعلموا أمتكم أن الله قدر في الأزل هلاك أعداء الإسلام وتكسير الصلبان على يدي، وقُدِّرَ في الأزل أني أجيء من المغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها وإجراء الأمر الذي أُمِرْتُ به. ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وإرادته وقضائه. وأعلموا أيضاً أمتكم أن القرآن العظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل، وأشار في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل، وكلام الله في كتابه صدق وحق. إذا تقرر هذا وثبتت هذه المقالات في آذانكم، فلترجع أمتكم جميعاً إلى صفاء النية وإخلاص الطوية، فإن منهم من يمتنع عن الغي وإظهار عداوتي خوفاً من سلاحي وشدة سطوتي، ولم يعلموا أن الله مطلع على السرائر، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. والذي يفعل ذلك يكون معارضاً لأحكام الله ومنافقاً، وعليه اللعنة والنقمة من الله علام الغيوب. واعلموا أيضاً أني أقدر على إظهار ما في نفس كل أحد منكم، لأنني أعرف أحوال الشخص وما انطوى عليه بمجرد ما أراه، وإن كنت لا أتكلم ولا أنطق بالذي عنده. ولكن يأتي وقت ويوم يظهر لكم بالمعايشة، أن كل ما فعلته وحكمت به فهو حكم إلهي لا يُرَد، وإن اجتهاد الإنسان غاية جهده ما يمنعه عن قضاء الله الذي قدره وأجراه على يدي. فطوبى للذين يسارعون في اتحادهم وهمتهم مع صفاء النية وإخلاص السريرة، والسلام »[32]  

أرأيت الأسلوب الذي يتعامل به قومنا مع أولئك المتحضرين أصحاب القلوب الطيبة والإيمان العظيم..

هذا ما علمتهم أفكار التنوير التي حملتها الثورة الفرنسية.

أما ما علمتهم المسيحية.. فلا أحتاج إلى ذكره لك.. فأنت تعرف الحروب الصليبية.. لقد قادها رجال دين.. لينفخوا فيها الحقد المسيحي..

لم يكتف تلاميذ الثورة الفرنسية النجباء بإعلان أخوتهم للعالم بهذا الأسلوب..

لقد ساروا إلى الأرض يقسمونها كما يحلو لهم.. وكأنها تركة لأبيهم الذي مات، فهم يرثونها عنه.. أما أهل الأرض من البسطاء والمستضعفين، فلهم مصيران لا ثالث لهما: إما الموت.. وإما السخرة.

أما السخرة.. فلن أحدثك عنها، فهم يسمونها أسام كثيرة يحرفون بها الحقائق.

وأما الموت.. فإن جرائم الإبادة التي نالت البشر في الفترة التي أعلنت فيها حقوق الإنسان، والأخوة الإنسانية لا تعدلها جرائم البشر في جميع فترات تاريخهم.

لقد بلغ عدد الذين أبادتهم بريطانيا العظمى من أجل إخضاع الصين لتاجها أكثر من عشرين مليون إنسان.

وكانت فرنسا تستعمر الجزائر رغم إرادة شعبها الذين قاوموا الاستعمار بعنف، ولم تستجب فرنسا لنداء الحرية المدوي في صفوف الشعب الجزائري، إلا بعد أن قتلت من ذلك الشعب المضطهد ما يقارب المليونين نسمة وبصورة بشعة قاسية.

وفي أثناء حرب الجزائر طلب حكام فرنسا من القائد العام للجيش أن يحول أجمل مسجد في الجزائر إلى كنيسة، فوقع اختياره على مسجد الحي الأورلي في القشارة فتقدمت مجموعة من آلية الهندسة للسلاح الفرنسي إلى المسجد، وكان الوقت وقت صلاة المغرب، وكان المسجد غاصاً بالمصلين الذي قدر عددهم بـ(1400) مصلٍّ، فدخلوا عليهم وقتلوا فيهم إلى منتصف الليل، حيث أبادوهم جميعاً.

وقد أحصي عدد القنابل التي ألقاها الطيران الأميركي من سنة 1961 إلى سنة 1972م زهاء ستة ملايين وسبعمائة وسبعة وعشرين ألف طن من القنابل على منطقة الهند الصينية وحدها.

وألقت الطائرات الأميركية واحد وسبعين مليون لتراً، من المواد الكيمياوية السامة على منطقة في جنوب فيتنام توازي مساحة إيرلندا الشمالية.

والمثال الواضح الذي يتفق عليه الجميع.. ليظهروه على أنه المجرم الوحيد.. هتلر.. تعرف طريقة تعامله الأخوي مع الشعوب.

قلت: أجل.. لقد فعل ما فعل باليهود.. لقد كاد يبيدهم..

قال: وهذا من الجرائم التي يتفنن إخواننا التلاعب بها، ليتاجروا بها في إبادة أولئك المسلمين البسطاء المستضعفين.

قلت: أتنكر إبادة هتلر لليهود[33]؟

قال: بل أنكر نزعة التفرقة بين اليهود وغيرهم في هذا.. أليس البشر جميعا إخوة؟

قلت: بلى..

قال: فلم يفرق بين اليهود والغجر؟

قلت: وما علاقة اليهود بالغجر؟

قال: لقد نال الغجر المستضعفين من الإبادة ما نالهم.. ولكن لا أحد يتحدث عنهم.. سأذكر لك بعض ما وصفت به  إحدى منشورات اليونسكو ما حصل للغجر المساكين[34]:

لقد كان لدى شرطة إقليم بافاريا الألماني منذ عام 1899 قسمٌ خاص « بشئون الغجر» يتلقى نسخاً من قرارات المحاكم المكلّفة بالبت في المخالفات التي يرتكبها الغجر. وتحوَّل هذا القسم عام 1929 إلى « مركز وطني »مقره ميونيـخ، وحُظر على الغـجر منذ ذلك التاريخ التنقل بدون تصريح الشرطة.

وكان الغجر الذين يزيد أعمارهم على السادسة عشرة، ولا يعملون يُجبرون على العمل لمدة سنتين في مركز من مراكز التأهيل، وابتداءً من عام 1933، وهو تاريخ وصول هتلر إلى الحكم، زادت تلك القيود شدة وصرامة. وطُرد الغجر الذين لا يحملون الجنسية الألمانية، وزُجّ بالباقين في المعتقلات بحجة أنهم (غير اجتماعيين)

ثم بدأ الاهتمام بالبحث في الخصائص العِرقية للغجر، فأعلن الدكتور هانز جلوبكه ـ أحد المساهمين في صياغة قوانين نورمبرج ـ عام 1936 ـ أن الدم الذي يجري في عروق الغجر « دم أجنبي ». ثم صنَّفهم الأستاذ هانز ف. حينثر في فئة مستقلة تمثل مزيجاً عرْقياً غير محدَّد (إذ لم يستطع نفي أصلهم الآري). وبلغت الخصائص العرْقية لدى الغجر من الأهمية درجة أهلتها لأن تصلح موضوعاً لرسالة دكتوراه، ومما قالته إيفا جوستين مساعدة الدكتور ريتّر في قسم الأبحاث العِرقية بوزارة الصحة (عند مناقشة رسالتها) إن الدم الغجري (يُشكِّل خطراً بالغاً على صفاء الجنس الألماني)

ووجَّه طبيب يُدعَى الدكتور بورتشي مذكرة إلى هتلر يقترح فيها فرض الأشغال الشاقة على الغجر وتعقيمـهم بالجملة نظراً لأنهم (يُشكِّلون خطراً على نقاء دم الفلاحين الألمان)

وفي 14 ديسمبر عام 1936، صدر قرار أدى إلى تفاقم أوضاع الغجر، إذ وصمهم بأنهم (مجرمون معتادون على الإجرام)

وفي نهاية عام 1937 وخلال عام 1938 شُنت حملات اعتقال جماعية عديدة ضد الغجر، وخُصِّص لهم جناح في معتقل بوخنولد، وكانت قوائم الوفيات في كثير من المعسكرات تحوي أسماء غجرية يُذكَر منها: ماوتهاوسن وجوسن وداوتمرجن وناتلزفايلر وفلوسنبورج. وفي رافنسبروك، راحت كثيرات من نساء الغجر ضحايا لتجارب أطباء الشرطة العسكرية الهتلرية الإس. إس. (ss).

وفي عام 1938، أصدر هملر بنفسه أمراً بنقل مقر المركز الوطني لشئون الغجر إلى برلين.. وفي السنة نفسها اعتُقل ثلاثمائة غجري كان قد استقر بهم المقام في قرية مانفويرت حيث كانوا يملكون الحقول والكروم.

وقد أمر هملر بتصنيف الغجر في الفئات التالية: غجري صرف (Z)، وخلاسي يغلب عليه العرْق الغجري (ZM+)، وخلاسي يغلب عليه العرْق الآري (ZM-)، وخلاسي يتساوى فيه العرْقان الغجري والآري (ZM).

ويميِّز المؤرخ ح. بلِّنج في كتابه (ألمانيا وإبادة الجنس) بين أساليب مختلفة لإبادة الجنس تتمثل في الإبادة عن طريق إزالة القدرة على الإنجـاب واخـتطاف الأطفال، والإبادة عن طريق الزج في المعتقـلات، والإبادة عن طريق الإفناء.

وقد عُقِّمت في مستشفى برسلدورف - لبيرنفلد نساء غجريات متزوجات من غير الغجر، ومات بعضهن على أثر تعقيمهن وهنَّ حوامل. وفي رافنسبروك، قام أطباء الإس. إس. بتعقيم مائة وعشرين فتاة غجرية صغيرة.

وكان من أمثلة الإبادة الجماعية عن طريق الاعتقال ترحيل خمسة آلاف غجري من ألمانيا إلى جيتو لودز في بولندا، وكانت ظروف المعيشة في هذا الجيتـو من الفظاعـة بحيث لم ينج أحد من هؤلاء الغجر من الهلاك.

ومع ذلك فإن الطريقة التي كان يؤثرها النازيون هي طريقة الإفناء المباشر..

ويُعتقد أن قرار إبادة الغجر بالإفناء اتُخذ في ربيع عام 1941 عندما شُكِّل ما عُرف باسم (فرق الإعدام)، ولكي يتحقق ذلك كان يتعيَّن جمع الغجر في أماكن محددة، فمنذ صدور قرار هملر في 8 ديسمبر 1938، كانت أماكن سكنى الغجر قد أصبحت معروفة لدى الشرطة، ثم جاء قرار 17 نوفمبر 1939 ليحظر عليهم ترك منازلهم، أو ليضعهم تحت طائلة الحبس في معسكرات الاعتقال. ورُحل ثلاثون ألف غجري إلى بولندا فلاقوا حتفهم في معتقلات الموت في بلزك وتربلينكا وسوبيبور ومايدانك، شأنهم شأن آلاف آخرين رُحلوا من بلجيكا وهولندا وفرنسا إلى معتقل أوشفيتس.

ويروي هويس، قائد المعتقل، في مذكراته أنه كان بين المعتقلين شيوخ يناهزون المائة سنة من العمر ونساء حوامل وأعداد كبيرة من الأطفال. كذلك يروي بعض السجناء الذين نجوا من الهلاك، كما يسرد كولكا وكرواس في كتابهما المعنون (مصنع الموت)، قصة مذبحة الغجر الرهيبة التي وقعت في ليلة 31 يوليه عام 1944.

وفي بولندا، كان الغجر يُقتلون في معسكرات الموت أو يُعدمون في البراري. وامتد نطاق القتل إلى الاتحاد السوفيتي عندما اندلعت نيران الحرب بين الألمان والسوفييت، فكانت فرق الإعدام التابعة للإس. إس. تسير مع الجيوش الألمانية، وكانت القبور الجماعية تملأ مناطق البلطيق وأوكرانيا والقرم.

وفي ليلة 24 ديسمبر 1941 أُعدم رمياً بالرصاص في سيمفيروبول ثمانمائة غجري من الرجال والنساء والأطفال. وحينما زحفت الجيوش النازية، كان الغجر يُعتقلون أو يُرحلون إلى المعسكرات أو يُقتلون. وفي يوغسلافيا، كان الغجر واليهود يُعدمون في غابة باجنيس.

ومن الصعب تقدير عدد الغجر الذين كانوا يعيشون في أوربا قبل الحرب العالمية الثانية وعدد ضحايا هذه الحرب، ويُقدِّر المؤرخ راؤول هيلبرج عدد الغجر في ألمانيا قبل الحرب بأربعة وثلاثين ألف نسمة؛ أما عدد من بقي منهم على قيد الحياة بعدها فغير معروف.

ويتبيَّن من تقارير فرق الإعدام أن عدد الضحايا في روسيا وأوكرانيا والقرم بلغ ثلاثمائة ألف غجري، بينما تُقدر السلطات اليوغسلافية عدد القتلى من الغجر بثمانية وعشرين ألفاً في الصرب وحدها، أما عدد الضحايا في بولندا، فمن الصعب تقديره وإن كان المؤرخ تيننباوم يؤكد أن الشعب الغجري فقد على الأقل خمسمائة ألف من أبنائه.

هذا، مع العلم بأن الشعب الغجري شعب عريق وكثير النسل، وعلى كل حال، ومهما اختلفت النسب، فإن نسبة من أُبيد من الغجر (إلى عددهم الكلي) يفوق نسبة من أُبيد من اليهود.

قلت: لقد اقشعر جلدي مما ذكرت..

قال: أنا لم أذكر لك إلا مثالا واحدا عن بعض جرائم الإبادة التي تهدف إلى تنقية العرق.. أما جرائم الإبادة التي تهدف إلى نشر ديمقراطية الدماء.. فاذهب وسل عنها أفغانستان والعراق وفلسطين.. بل سل عنها جميع عوالم المستضعفين ليخبروك بما يفعل بهم عالم المستكبرين.

قلت: يكفيني ما حدثتني به.. لقد جعلتني أنظر إلى تاريخ قومي بخجل.

قال: ليس إنسانا من لم يخجل من جرائمه، أو من جرائم قومه.

قلت: فحدثتني عن الأخوة التي دعا إليها الإسلام.. والتي عاشها المسلمون.

قال: ليس هناك في الأديان أخوة إلا الأخوة التي دعا إليها الإسلام.. وليس هناك في التاريخ أخوة إلا الأخوة التي مثلها المسلمون.

أما الإسلام.. فقد اعتبر البشر جميعا إخوة.. مهما اختلفت أعراقهم وألوانهم وأديانهم.

ولهذا تجد القرآن ينادي البشر بهذا الوصف:﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (لأعراف:26).. ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (لأعراف:27)..:﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الاسراء:70)

بل إنه اعتبر الأنبياء الكرام إخوة لأعدائهم الذين كانوا يسومونهم الخسف فقد اعتبر قوم نوح إخوانا لنوح:﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:106).. واعتبر قوم هود إخوانا لهود:﴿ )إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:124).. واعتبر ثمود إخوانا لصالح:﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:142)

وقد روي أن محمدا كان يقول دبر كل صلاة:« (اللهم ربنا ورب كل شئ ومليكه أنا شهيد أنك الله وحدك لا شريك لك.. اللهم ربنا ورب كل شئ ومليكه، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك.. اللهم ربنا ورب كل شئ ومليكه أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة »[35]

ألا ترى كيف اعتبر محمد إقرار مبدأ (الأخوة) بعد الشهادة لله تعالى بالوحدانية، ولمحمد بالعبودية والرسالة!؟

أخوة الإسلام:

قلت: ولكن القرآن يتحدث عن أخوة الدين.. ففيه:﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (التوبة:11).. وفيه:﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ  (الأحزاب: من الآية5) 

بل إن القرآن حصر علاقة المؤمنين في الأخوة، ففيه:﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الحجرات:10)

قال: هذه مرتبة من مراتب الأخوة..

فالإسلام يعتبر المسلمين جميعا ـ مهما تعددت أوطانهم وأعراقهم وألوانهم ـ أسرة واحدة لها أب روحي واحد هو محمد.. ولها دين واحد هو الإسلام.

وهذه الأخوة هي العلاقة الوحيدة التي تحكم بين المسلمين جميعا.. فليس في المسلمين أي عنصرية كتلك العنصرية التي تمتلئ بها شعوب الأرض.

وقد زخر التراث الإسلامي بجميل الأخلاق وعظيم الآداب التي طبعت علاقات المسلمين بعضهم ببعض.. والتي استوحت معانيها من نصوص القرآن ومن حديث محمد، فقد قال معبرا عن أصل أصول ذلك:«: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه »[36]

فمن آداب الأخوة الإسلامية[37] ما ورد في الحديث عن ابن عمر قال:« رآني النبي r ألتفت فقال‏:« ‏إلام تلتفت‏؟» قلت‏:‏ إلى أخ لي أنا في انتظاره فقال r:« ‏إذا أحببت رجلاً فسله عن اسمه واسم أبيه وجده وعشيرته ومنزله فإن مرض عدته وإن استعان بك أعنته‏ »[38]

ومنها القيام بأعذارهم والذب عنهم والانتصار لهم، كما قال الجنيد، وقد قيل له‏:‏ ‏ما بال أصحابك أكلهم كثير قال‏:‏ لأنهم لا يشربون الخمر فيكون جوعهم أكثر وقيل له‏:‏ ما بالهم لهم قوة شهوةٍ قال‏:‏ لأنهم لا يزنون ولا يدخلون تحت محظورٍ قيل‏:‏ فما بالهم لا يطربون إذا سمعوا القرآن قال‏:‏ لأنه كلام الحق ما فيه ما يوجب الطرب نزل بأمر ونهيٍ ووعدٍ ووعيدٍ فهو يقهر قيل‏:‏ فما بالهم يطربون عند القصائد قال‏:‏ لأنها مما عملت أيديهم قيل‏:‏ فما بالهم يطربون عند الرباعيات قال‏:‏ لأنها كلام المحبين والعشاق قيل‏:‏ فما بالهم محرومين من الناس قال‏:‏ قد قال أستاذنا القصار إذ سئل عن ذلك‏:‏ لخلال ثلاث أحدها‏:‏ أن الله لا يرضى ما لهم لهم والثانية‏:‏ أنه تعالى لم يرض حسناتهم بصحائف الناس والثالثة‏:‏ أنهم قومٌ لم يسيروا إلا إلى الله فمنحهم كل ما سواه وأفردهم له‏.‏

ومنها الصفح عن عثرات الإخوان وترك تأنيبهم عليها‏، قال الفضيل بن عياض:« ‏الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان‏ »

ومنها قلة الخلاف للإخوان ولزوم موافقتهم فيما يبيحه العلم والشريعة‏، قال أبو عثمان‏:« ‏موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم‏ »

ومنها أن يحمدهم على حسن ثنائهم وإن لم يساعدهم باليد، كما قال علي:« ‏من لم يحمل أخاه على حسن النية لم يحمده على حسن »

ومنها سلامة قلبه للإخوان والنصحية لهم وقبولها منهم كما قال القرآن:﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (الشعراء:89)، وقال سري السقطي:« ‏من أجل أخلاق الأبرار سلامة الصدر للإخوان والنصيحة لهم‏ »

ومنها ألا يعدهم ويخالفهم‏، قال الثوري:« ‏لا تعد أخاك وتخلفه فتعود المحبة بغضة‏»

ومنها ملازمة الحياء معهم، قال عليٌّ:« أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه‏ »، وقال أحمد بن حنبل:« ما أوقعني في بلية إلا صحبة من لا أحتشمه‏ »

ومنها أن يراعي في صحبة إخوانه صلاحهم لا مرادهم ودلالته على رشدهم لا على ما يحبونه‏، قال أبو صالح المزي:« ‏المؤمن من يعاشرك بالمعروف ويدلك على صلاح دينك ودنياك والمنافق من يعاشرك بالمماذعة ويدلك على ما تشتهيه والمعصوم من فرق بين ترك الأذى »

ومنها إظهار احترامهم، كما قال عمر بن الخطاب:« ‏ثلاث يصفين لك ود أخيك‏:‏ أن تسلم عليه إذا لقيته وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب أسمائه إليه‏» ‏

ومنها حمل كلام الإخوان على أحسن الوجوه ما وجدت لذلك‏ سبيلا، قال سعيد بن المسيب:« كتب إلي بعض إخواني من الصحابة أن ضع أمر أخيك على الأحسن ما لم تغلب‏ » ‏

ومنها الإغضاء عن الصديق في بعض المكاره، قال ابن المبارك‏:« ‏من استخف بالعلماء ذهبت آخرته ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته‏ »

ومنها ألا تقطع صديقاً بعد مصادقته ولا ترده بعد قبول‏، كما قال حمدون القصار:« ‏اقبلوا إخوانكم بالإيمان وردوهم بالكفر فإن الله سبحانه وتعالى أوقع قدسية الصداقة »

ومنها ألا يضيع صداقة صديق بعد ود فإنها عزيزة وكتب عالم إلى من هو مثله:« ‏أن اكتب لي بشيءٍ ينفعني في عمري‏ » فكتب إليه:« ‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ استوحش من لا إخوان له وفرط المقصر في طلبهم وأشد تفريطاً من ظفر بواحد منهم فضيعه ولوجد أن الكبريت الأحمر أيسر من وجدانه وإني أطلبه منذ خمسين سنة ولم أجد إلا نصف صديق‏ » ‏.‏

ومنها إيثار الإخوان بالكرامة على نفسه‏، قال أبو عثمان‏:« ‏من عاشر الناس ولم يكرمهم وتكبر عليهم فذلك لقلة رأيه وعقله فإنه يعادي صديقه ويكرم عدوه فإن إخوانه في الله أصدقاؤه ونفسه عدوه‏ » ‏، وقال القاسم بن محمد:« قد جعل الله في الصديق البار عوضاً من الرحم المدبر‏ » 

ومنها حفظ أسرار الإخوان، قيل:« ‏أفشى رجل لصديق له سرا من أسراره فلما فرغ قال له‏:‏ حفظته قال‏:‏ لا بل نسيته‏ »

ومنها المشورة مع الإخوان وقبولها منهم‏، كما في القرآن:﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ((آل عمران: من الآية159)

ومنها قلة مخالفة الإخوان في أسباب الدنيا لأنها أقل خطراً من أن يخالف فيها أخ من الأخوان، قال يحيى بن معاذ الرازي‏:« ‏الدنيا بأجمعها لا تساوي غم ساعة فكيف بغم طول عمرك وقطع إخوانك بسببها مع قلة نصيبك منها‏ »

ومنها ترك المداهنة في الدين، قال سهل بن عبد الله التستري:« ‏لا يشم رائحة الصدق من داهن نفسه أو غيره‏ » ‏

ومنها قلة الخلاف على الإخوان وتحري موافقتهم فيما يريدون في غير مخالفة الدين قالت جويرية:« ‏دعوت الله أربعين سنة أن يعصمني من مخالفة الإخوان‏ » ‏

ومنها مجانبة التباغض والتدابر والتحاسد لما ورد في الحديث عن محمد:« إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك »[39]

ومنها قبول العذر من فاعله صدق أو كذب لقول محمد:« من اعتذر إليه أخوه بمعذرة فلم يقبلها كان عليه من الخطيئة مثل صاحب مكس[40] »[41]، وقال عبد الله بن المبارك‏:« ‏المؤمن طالب عذر إخوانه والمنافق طالب عثراتهم»

ومنها التسارع إلى قضاء حاجة رافعها إليك، لقول جعفر الصادق‏:« ‏إني لأسارع إلى قضاء حوائج الإخوان مخافة أن يستغنوا عني بردي إياهم‏ »، وقال ابن المنكدر‏:« ‏لم يبق من الله إلا قضاء حوائج الإخوان‏ »

ومنها ألا ينسيك بعد الدار كرم العهد والنزوع إلى مشاهدة الإخوان‏، قال ابن الأنباري:« ‏من كرم الرجل حنينه إلى أوطانه وشوقه إلى إخوانه‏ »

ومنها الصبر على جفاء الإخوان وإسقاط التهمة عنهم بعد صحة الأخوة‏، قال يحيى بن أكثم: لما حضرت علقمة العطار الوفاة قال لابنه:« ‏يا بني إذا صحبت الرجال فاصحب من إذا أخدمته صانك وإن صحبته زانك وإن تحركت بك مؤنة صانك وإن أمددت بخير مد وإن رأى منك حسنة عدها أو سيئة سترها وإن أمسكت ابتدأك أو نزلت بك نازلةٌ واساك وإن قلت صدقك أو حاولت أمراً أمرك وإذا تنازعتما في حق آثراك‏ »، قال عبد الملك‏:‏ ‏‏سمع الشعبي هذه الوصية فقال‏:‏ تدري لم أوصاه بها فقلت‏:‏ لا‏!‏ قال‏:‏ لأبنه أوصاه ألا يصحب أحداً لأن هذه الخصال لم تكمل في أحد‏‏.‏

أخوة الذمة:

قلت: ولكن هذه العلاقات محصورة بين المسلمين فيما بينهم..

قال: هذه مرتبة من مراتب العلاقات.. وهي مرتبة ضرورية.. ألا ترى أن الناس جميعا يمارسون في علاقاتهم هذا الأسلوب.. فيفرقون بين إخوانهم وأصدقائهم وأقاربهم وأهل بلدهم وسائر الناس!؟

قلت: بلى.. ذلك صحيح.

قال: فقد اعتبر الإسلام هذا النوع من الأخوة مرتبة من المراتب.. وهي لا تلغي غيرها من المراتب، كما لا تلغي الصداقة ولا القرابة غيرها من العلاقات.

قلت: فما المرتبة الثانية من الأخوة التي دعا إليها الإسلام؟

قال: لقد اعتبر الإسلام غير المسلمين في المجتمع المسلم أهل ذمة.. وقد فرض لهم حقوقهم الخاصة.

قلت: أليس في ذلك تفرقة عنصرية؟

قال: نحن نسمي هؤلاء في عصرنا أقليات.. وهي عنصرية أخطر من اعتبارهم أهل ذمة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أليست الديمقراطية هي حكم الأكثرية؟

قلت: بلى..

قال: فالأكثرية تفرض قوانينها وشخصيتها على الأقلية.. أليس ذلك صحيحا؟

قلت: بلى..

قال: فهي بذلك تقمع الأقلية، وتحرمهم من شخصيتهم وهويتهم.

قلت: يمكن أن يقع ذلك.

قال: إن عدل الإسلام جعله يعتبر هذه الأقلية.. ويفرض لها من الحقوق ما يحميها من طغيان الأكثرية.

قلت: فلم سموا أهل ذمة، ولم يعتبروا مواطنين عاديين.

قال: إن اسم المواطنة اسم حادث.. وهو اسم من أسماء الجاهلية.. فهذه الحدود التي يسمونها أوطانا هي التي ملأت الأرض بالعنصرية وبالمظالم..

الإسلام قسم سكان البلاد الإسلامية المقيم فيهم وغير المقيم إلى قسمين:

مسلمون.. لهم جميع حقوق الأخوة الإسلامية التي سبق ذكرها.

وذميون.. ولهم حقوقهم الخاصة بهم..

وقد لجأ الإسلام إلى هذا التقسيم رحمة بغير المسلمين حتى تبقى لهم هويتهم الخاصة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: سأقرب لك هذا بذكر مراتب التسامح الديني والفكري.. لترى من خلالها أن الإسلام تعامل بأخوة متسامحة غاية التسامح مع هؤلاء الذميين[42]:

فالدرجة الدنيا من التسامح: أن تدع لمخالفك حرية دينه وعقيدته، ولا تجبره بالقوة على اعتناق دينك أو مذهبك، بحيث إذا أبى حكمت عليه بالموت أو العذاب أو المصادرة أو النفي، أو غير ذلك من ألوان العقوبات والاضطهادات.. فتدع له حرية الاعتقاد، ولكن لا تمكنه من ممارسة واجباته الدينية التي تفرضها عليه عقيدته، والامتناع مما يعتقد تحريمه عليه.

والدرجة الوسطى من التسامح: أن تدع له حق الاعتقاد بما يراه من ديانة ومذهب، ثم لا تضيق عليه بترك أمر يعتقد وجوبه أو فعل أمر يعتقد حرمته، فإذا كان اليهودي يعتقد حرمة العمل يوم السبت، فلا يجوز أن يكلف بعمل في هذا اليوم؛ لأنه لا يفعله إلا وهو يشعر بمخالفة دينه.

وإذا كان النصراني يعتقد بوجوب الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد، فلا يجوز أن يمنع ذلك في هذا اليوم.

والدرجة التي تعلو هذه في التسامح، ألا تضيق على المخالفين فيما يعتقدون حلّه في دينهم أو مذهبهم، وإن كنت تعتقد أنه حرام في دينك أو مذهبك.

وقد ارتفع المسلمون مع المخالفين من أهل الذمة الدرجة العليا من التسامح:

فقد التزموا احترام كل ما يعتقد غير المسلم أنه حلال في دينه، ووسعوا له في ذلك، ولم يضيقوا عليه بالمنع والتحريم، وكان يمكنهم أن يحرموا ذلك، مراعاة لشريعة الدولة ودينها، ولا يتهموا بكثير من التعصب أو قليل؛ ذلك لأن الشيء الذي يحله دين من الأديان ليس فرضاً على أتباعه أن يفعلوه.

فإذا كان دين المجوسي يبيح له الزواج من أمه أو أخته، فيمكنه أن يتزوج من غيرهما ولا حرج، وإذا كان دين المسيحي يحل له أكل الخنزير، فإنه يستطيع أن يعيش عمره دون أن يأكل الخنزير، وفي لحوم البقر والغنم والطير متسع له.

ومثل ذلك الخمر، فإذا كان بعض الكتب المسيحية قد جاء بإباحتها، أو إباحة القليل منها لإصلاح المعدة، فليس من فرائض المسيحية أن يشرب المسيحي الخمر.

فلو أن الاسلام قال للذميين: دعوا زواج المحارم، وشرب الخمر، وأكل الخنازير، مراعاة لشعور إخوانكم المسلمين، لم يكن عليهم في ذلك أي حرج ديني؛ لأنهم إذا تركوا هذه الأشياء لم يرتكبوا في دينهم منكراً، ولا أخلوا بواجب مقدس، ومع هذا لم يقل الاسلام ذلك، ولم يشأ أن يضيق على غير المسلمين في أمر يعتقدون حله، بل قال للمسلمين: اتركوهم وما يدينون!

بالإضافة إلى هذا.. فالمسلمون لا ينطلقون في هذه المعاملة المتسامحة من منطلقات قوانين بشرية قد تتغير بتغير البشر، بل ينطلقون فيها من مصادرهم المقدسة التي تذكرهم كل حين بأن هؤلاء (أهل ذمة) أي أهل عهد وحرمة يجب الوفاء لهم بها.

لقد قال القرآن في الأمر بالبر بهم:﴿ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة:8)

لقد ذكر القرافي بعض صور البر التي أمر بها المسلم تجاه أهل الذمة، فقال:« ولين القول على سبيل اللطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته، لطفاً منا بهم، لا خوفاً وتعظيماً، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، نصيحتهم في جميع أمور دينهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم  »

وقد تجلى حسن الخلق عند المسلمين في تعاملهم مع غيرهم في كثير من تشريعات الإسلام التي أبدعت الكثير من المواقف الفياضة بمشاعر الإنسانية والرفق.

فقد أوجب الإسلام حسن العشرة وصلة الرحم حتى مع الاختلاف في الدين، فقد أمر القرآن بحسن الصحبة للوالدين وإن جهدا في رد ابنهما عن التوحيد إلى الشرك، فإن ذلك لا يقطع حقهما في بره وحسن صحبته:﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (لقمان:15)

ويمتد البر وصلة الرحم بالمسلم حتى تبلغ الرحم البعيدة التي مرت عليها المئات من السنين، فها هو محمد يوصي أصحابه بأهل مصر خيراً، براً وصلة لرحم قديمة تعود إلى النبي إبراهيم، حيث قال:« إنكم ستفتحون مصر.. فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذِمة ورحِماً »، أما الذمة فهي الحرمة والحق , وهي هنا بمعنى الذمام، وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم.

وحين تحدث الفقهاء عن حقوق الضيف رأوا وجوبها لكل ضيف، سواء كان مسلماً أم غير مسلم، قال أبو يعلى:« وتجب الضيافة على المسلمين للمسلمين والكفار لعموم الخبر، وقد نص عليه أحمد في رواية حنبل، وقد سأله إن أضاف الرجل ضيفان من أهل الكفر؟ فقال: قال r:« ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم »، دل على أن المسلم والمشرك مضاف.. يعم المسلم والكافر »

ومن حق الضيافة إكرام الضيف على قدر الاستطاعة، وقد صنعه محمد لما جاءه عدي بن حاتم، يقول عدي: أتيتُ رسول الله r وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم. وجئتُ بغير أمان ولا كتاب، فلما دُفعتُ إليه أخذ بيدي.. حتى أتى بي داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها.

ومن أنواع البر التي ذكرها الفقهاء الدعاء لهم، وقد استنبطوا ذلك من دعاء محمد لغير المسلمين، ومنه دعاؤه لقبيلة دوس، وقد قدم عليه الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه فقالوا: يا رسول الله إن دوساً قد كفرت وأبت ؛ فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس - أي ستهلك بدعائه عليها - فقال r:« اللهم اهد دوساً، وائت بهم »

ولما قيل له في موطن آخر: يا رسول اللّه، ادع على المشركين.. قال:« إنّي لم أبعث لعّاناً، وإنّما بعثت رحمةً »

المحاربون:

قلت: عرفت القسمين اللذين تعامل معهما الإسلام معاملة الأخوة.. لكن هناك من تعامل معهم معاملة العداوة.. وأمر المسلمين بمعاداتهم واعتبر ولاءهم من نواقض الإخلاص للإسلام.

قال: أولئك هم المحاربون الظالمون المعتدون..

قلت: فكيف تخلفت الإسلام عن هؤلاء؟

قال: هي لم تتخلف.. ولكنهم هم الذين تخلفوا عنها..

الإسلام يتعامل بمنطق الرحمة مع الجميع.. حتى أن أخص خصائص محمد التي وصفه بها القرآن هي كونه رحمة للعالمين.

ولذلك فإن الإسلام مع المحاربين يتلمس كل السبل لعدم وقوع الحرب بينه وبينهم..  ولكن الحرب إذا فرضت نفسها.. ولم يكن هناك مندوحة عنها أجازها الإسلام أو فرضها بحسب الظروف والأحوال مع آداب كثيرة وأخلاق عظيمة لم أر لها مثيلا في أي دين من الأديان [43]..

المساواة

قلت: فحدثني عن المساواة.

قال: لقد درست عن كثب مجتمعات كثيرة متنوعة.. فلم أجد مجتمعا يمتلئ بالتواضع كالمجتمع الإسلامي.

قلت: ما علاقة التواضع بالمساواة؟

قال: لا يمكن أن تنشأ المساواة إلا في ظلال دين أو فلسفة تعتبر التواضع قيمة من قميها الكبرى.. وخلقا من أخلاقها الرفيعة..

ذلك أن الطبقية لا تنشأ إلا في ظلال المتكبرين.. فالمتكبرون ـ بالقوانين التي يسنونها لأنفسهم، أو يسنها لهم مجتمعهم ـ هم الذين يحولون المجتمعات إلى طبقات يعتلون هم أعلى درجاتها.

لقد بحثت في تاريخ أوربا في العصور الوسطى [44] ـ في الوقت الذي كان فيه المسلمون يدا واحدة وقلبا واحدا ـ فوجدت طبقات النبلاء أو الأشراف، ورجال الدين، والشعب، طبقات متميزة محدَّدة المعالم يختلف بعضها عن بعض، بحيث لا يخطئ الإنسان معرفتها بمجرد النظر.

فرجال الدين لهم ثيابهم الخاصة التي تميزهم، وكان لهم في تلك العصور سطوة كبرى، فكان البابا سلطة مناوئة للملوك والأباطرة، يريد أن يزعم أنه هو الذي يمنحهم السلطان على الشعوب، ويريدون هم أن ينسلخوا من سلطته ويستقلوا بأنفسهم. وكانت لهم كذلك أموال طائلة من الأوقاف التي وقفها عليهم المتدينون، ومن الإتاوات التي يفرضونها هم على الناس، بل كانت للكنيسة جيوش كاملة في بعض الأحيان.

أما الأشراف فكانوا طبقة تتوارث الشرف بعضها عن بعض، بحيث يولد الطفل فإذا هو شريف منذ مولده، ويظل شريفاً حتى يـموت، بصرف النظر عن الأعمال التي يقوم بها في حياته، وقر بها أو بعدها من هذا الشرف المزعوم.

أما امتيازاتهم فكانت في عهد الإقطاع سلطاناً مطلقاً على الشعب الموجود في الإقطاعية.. كانوا هم السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، وكانت أهواؤهم ونزواتهم هي القانون الذي ينفذ على الشعب، وكانت تتكون منهم المجالس النيابية التي تشرع للبلاد، فكانت تشريعاتهم لا تهدف إلا حمايتهم والاحتفاظ لهم بامتيازاتهم وإضفاء صفة القداسة عليها.

أما الشعب فهو ذلك الهمل الذي لاحقوق له ولا امتيازات، وإنما عليه الواجبات كل الواجبات، وكان يتوارث الذل والفقر والعبودية جيلاً بعد جيل.

ثم حدثت تطورات اقتصادية هامة في أوربا أنشأت طبقة جديدة تنازع الأشراف امتيازاتهم ومكانتهم، هي الطبقة البرجوازية. وبقيادة هذه الطبقة وعلى أكتاف الشعب، قامت الثورة الفرنسية التي ألغت - في الظاهر - نظام الطبقات، وأعلنت - نظرياً - مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.

وفي العصر الحديث قامت هذه الطبقة الرأسمالية مقام طبقة الأشراف القديمة، ولكن من وراء ستار، ومع بعض التعديلات التي اقتضاها التطور الاقتصادي، ولكن الجوهر لم يتغير، فهي طبقة تملك المال والسلطان والقوة التي تسير بها دفة الحكم، وعلى الرغم من مظاهر الحرية التي تتمثل في الانتخابات الديمقراطية، فإن الرأسمالية تعرف طريقها إلى البرلمانات ودواوين الحكومات، وتنفذ بوسائلها الملتوية ما تريد تنفيذه تحت مختلف العنوانات.

بل ما يزال في إنجلترا ـ أم الديمقراطية كما كان يقال ـ مجلس يسمى بصفة رسمية (مجلس اللوردات)، وما زال فيها قانون إقطاعي يقضي بأن يحرم جميع الأبناء والبنات من الميراث فيما عدا الابن الأكبر، منعاً لتفتيت الثروة، أي محافظة على ثروات (الأسر) لكي تبقى قائمة لا تزول، ويظل لها كيانها الموروث كما كانت طبقة الإقطاعيين في العصور الوسطى.

هذا هو نظام الطبقات، يتلخص في حقيقة أساسية هي أن الطبقة التي تملك المال تملك السلطان، وتملك وسائل التشريع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فتشرع لحماية نفسها، ولإبقاء الشعب خاضعاً لسلطانها، محروماً من كثير من حقوقه إرضاء لشهوات الطبقة الحاكمة.

قلت: هذا في غير الإسلام.. فحدثني عن المساواة في الإسلام.

قال: ليس هناك دين ينظر للبشر جميعا بمنظار واحد كالإسلام.. فهو يعتبرهم جميعا عبادا لله.. وأفضلهم أقربهم لله، وأكثرهم نفعا لعباده[45].

لقد نص القرآن على هذا في مواضع كثيرة.. فهو يرد على اليهود والمسيحيين الذين اعتبروا أنفسهم أبناء لله، فقال:﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (المائدة:18)

وبين عدالة الجزاء الإلهي الذي يتعامل مع العباد بحسب أعمالهم لا بحسب أمانيهم، فقال:﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (النساء:123)

وقد رسخ محمد بسلوكه وهديه هذه المعاني.. حيث كان يصحبه العرب والعجم، والبيض والسود، والأحرار والرقيق، ولم يكن يميز أحدهم عن الآخر.

وقد ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله، قال: خطبنا رسول الله r في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال:«يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل  لعربي على   عجمي  ولا لعجمي على   عربي  ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( (الحجرات:13)، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله،  قال: فليبلغ الشاهد الغائب »[46]

وفي حديث آخر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: « إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان خير من فلان بن فلان فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم أين المتقون»[47]

وفي حديث آخر قال:« إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها»[48]

وفي حديث آخر:« أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحدكم، كلكم بنو آدم  ليس لأحد على أحد فضل الا بالدين أو تقوى وكفى بالرجل أن يكون بذيا فاحشا بخيلا »[49]

قلت: فكيف عمق الإسلام قيمة المساواة في نفوس المسلمين؟

قال: بتربيتهم على التواضع لله ولخلق الله..

لقد اعتبر القرآن الكبر الحجاب الأكبر بين العباد ومعرفة ربهم والاتصال به، فقال:﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (لأعراف:146)

بل أخبر أن المتكبرين لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، فقال:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (لأعراف:40)..:﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص:83)

وقد ربى محمد في أصحابه هذا الخلق العظيم.. فكان يحثهم عليه بكل الأساليب، ففي الحديث القدسي:« إن الله تعالى أوحى إلي أن توضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا ينبغي أحد على أحد »[50]  

وفي حديث آخر:« ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد إلا رفعه الله »[51]

وفي حديث آخر:« طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسألة»[52]  

وفي حديث آخر:« من مات وهو برئ من الكبر والعلو والدين دخل الجنة»[53]  

وفي حديث آخر:« من تواضع لأخيه المسلم رفعه الله، ومن ارتفع عليه وضعه الله»[54]، وفي رواية:« من تواضع تعظيما يحفظه الله، ومن تواضع خشية يرفعه الله »

قلت: ولكن الإسلام ربى في نفوس أتباعه العزة.. وهي نوع من أنواع الكبر.

قال: لا.. العزة ليست كبرا.. ويستحيل أن تكون كبرا.

العزة هي امتلاء النفس تعظيما للحق الذي هداها الله إليه، فلا تتشوف لغيره، والمعتز بالحق هو الذي يسعى لإيصاله لغيره من غير أن يستعلي عليهم به.

لقد أخبر محمد « أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فاني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك »[55] 

وفي حديث آخر:« ألا أحدثكم حديث رجلين من بني إسرائيل؟ كان أحدهما يسرف على نفسه، وكان الآخر يراه بنو إسرائيل أنه أفضلهم في الدين والعلم والخلق، فذكر عنده صاحبه، فقال: لن يغفر الله له، فقال الله لملائكته:« ألم يعلم أني أرحم الراحمين؟ ألم يعلم أن رحمتي سبقت غضبي؟ فاني أوجبت لهذا الرحمة، وأوجبت على هذا العذاب، فذا تتألوا على الله »[56] 

وفي حديث آخر:« قال رجل لا يغفر الله لفلان، فأوحى الله إلى نبي من الانبياء أنها خطيئة، فليستقبل العمل »[57] 

وفي حديث آخر ورد ما هو أعظم من ذلك، فقد قال r:« كان رجل يصلي، فلما سجد أتاه رجل فوطئ على رقبته، فقال الذي تحته: والله لا يغفر لك الله أبدا، فقال الله عزوجل: تألى عبدي أن لا أغفر لعبدي، فاني قد غفرت له »[58]

وقد سمى محمد هؤلاء الذين زعموا لأنفسهم امتلاك خزائن الجنان « المتألين »[59]، فقال:« ويل للمتألين من أمتي، الذين يقولون: فلان في الجنة، وفلان في النار »[60] 

بل أخبر عن هلاك هذا النوع من الناس، فقال:« إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم »[61]، وقال:« إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم »[62]

***

ما وصل (مارسيل بوازار) من حديثه إلى هذا الموضع حتى اغرورقت عيناه بدموع لم يملك حبسها، فقلت: ما يبكيك؟

نظر إلى الشجرة، وقال: أبكي على هذه الشجرة المسكينة.. إنها تئن.. فلا يسمعها أحد..

قلت: ما تطلب؟

قال: تطلب تلك التعاليم العالية الرفيعة التي نادى بها محمد، ولا زال ينادي بها..

تطلب أن يعود الإنسان لغابة الإنسان..

تطلب أن ترمى تلك الوساوس ـ التي نفختها الشياطين في دعاة جهنم ـ إلى هاوية العدم ليعود للإنسان اعتباره الذي ألغي.. وتعود للإنسان حقيقته التي زيفت.

قلت: فما الذي يحول بين الإنسان وتعاليم محمد؟

قال: كلهم يرفعون أصواتهم ليملأوا الدنيا ضجيجا.. فلا يسمع أحد صوت محمد.. إنهم يمارسون ما فعله مشركو قريش حين قالوا:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (فصلت:26)

قلت: إني أعجب لك.. كيف تقول هذا.. ومع ذلك لم أرك في يوم من الأيام ترقى منبرا من المنابر لتعلن إسلامك.

ابتسم، وقال: لله من المنابر ما لا تراه.. ولإعلان الإسلام من الصيغ ما لا تسمعه.

قلت: فأنت مسلم إذن!؟

قال: كم وددت لو كنت كذلك..

قلت: فما الذي يحول بينك وبينه!؟

قال: أنسيت أخاك التوأم!؟

قلت: ما باله.. لقد تركته في ألمانيا بألف خير وعافية.

قال: إن لي توأما مثله.. لا يختلف عنه في شيء.. يضع ألف حجاب بيني وبين محمد.. ولكني يوشك أن أتخلص من حجبه جميعا لتشملني أنوار تلك الشمس التي شملت العالمين.

قال ذلك، ثم انصرف ليتركني بجانب تلك الشجرة أمسح بعض آلامها.. وفي ذلك الحين تنزلت علي أشعة جديدة، اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد.

 

 

   

 

 

 

 

 

 



([1])  انظر الرد العلمي على نظرية دارون في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

([2])  انظر: مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب.

([3])  قالت الداروينية الحديثة فيما بعد إن الضوابط موجودة فى الكيان " البيولوجى " للإنسان، فى تركيب مخه وجهازه العصبى، وإنه متفرد بهذا عن الحيوان.

([4])  انظر: مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب.

([5])  رايو برث، مبادئ الفلسفة، ترجمة محمد أمين، طبع دار الكتاب العربي ببيروت، ص 119 – 120.

([6])  (بروميثيوس) كائن أسطورى كان الإله (زيوس) يستخدمة فى خلق الناس من الماء والطين، وقد أحس بالعطف نحو البشر، فسرق لهم النار المقدسة من السماء وأعطاها لهم. فعاقبه (زيوس) على ذلك بأن قيده بالسلاسل فى جبال القوقاز حيث وكل به نسر يرعى كبده طول النهار وتتجدد الكبد فى أثناء الليل، ليتجدد عذابه فى النهار.

ولكى ينتقم (زيوس) من وجود النار المقدسة بين أيدى البشر أرسل إليهم (باندورا) أول كائن أنثى على وجه الأرض ومعها صندوق يشتمل على كافة أنواع الشرور ليدمر الجنس البشرى.. فلما تزوجها (إيبيميثيوس) أخو (بروميثيوس) وتقبل منها هدية (الإله!) فتح الصندوق فانتثرت الشرور وملأت وجه الأرض.

وهذه الأسطورة ـ في الفكر الغربي ـ ترمز إلى طبيعة العلاقة بين البشر والله، فالنار المقدسة، نار (المعرفة) قد استولى عليها البشر سرقة واغتصاباً من الآلهة، ليعرفوا أسرار الكون والحياة، ويصبحوا آلهة! والآلهة تنتقم منهم فى وحشية وعنف، لتنفرد وحدها بالقوة، وتتفرد دونهم بالسلطان.. (انظر: منهج الفن الإسلامى، محمد قطب)

([7])  جرين برنتون، منشأ الفكر الحديث، ترجمة عبد الرحمن مراد ص 27.

([8])  جرين برنتون، منشأ الفكر الحديث، ترجمة عبد الرحمن مراد ص 151.

([9])  انظر التصور الإسلامي للألوهية مقارنا بسائر الأديان والمذاهب في رسالة (الله جل جلاله) من هذه السلسلة.

([10])  في هذه السلسلة رسالة خاصة بـ (الإنسان) تصف التصورات التي جاء بها الإسلام للإنسان مقارنة بسائر النظرات الدينية والفلسفية.

([11])  الإسلام ومشكلات الحضارة، سيد قطب، بتصرف.

([12])  انظر: الإسلام ومشكلات الحضارة، سيد قطب.

([13])  جوليان هكسلي، الإنسان في العالم الحديث، مقتطفات من ص 3 – ص 9.

([14])  انظر: خلافة الإنسان وشهادة الانبياء، الشهيد آية الله الصدر، ص 11 ـ 12.

([15])  انظر: رسالة (أفراح الأنا) من رسائل السلام.

([16])  انظر رسالة (الحياة) من هذه السلسلة.

([17])  يدعى اليهود في تبجح وغرور أنهم صناع الثورة الفرنسية ومدبروها، تقول البروتوكولات المنسوبة لهم:« تذكروا الثورة الفرنسية التي نسميها الكبرى.. إن أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لنا جيداً لأنها من صنع أيدينا »

وتقول:« كذلك كنا قديماً أول من صاح في الناس (الحرية والمساواة والإخاء) كلمات ما انفكت ترددها منذ ذلك الحين ببغاوات جاهلة متجمهرة من كل مكان حول هذه الشعائر » (البروتوكولات:103،111)

وقد أيدهم في دعواهم هذه بعض الكتاب من أمثال وليم كار في (أحجار على رقعة الشطرنج) وسيبريدوفيتش في (حكومة العالم الخفية﴾ (انظر أحجار على رقعة الشطرنج:فصل الثورة الفرنسية.وحكومة العالم الخفية:79 )

ويدل لهذا أن اليهود تغلغلوا في منظمات الثورة المختلفة كالجمعية التأسيسية ونادي اليعاقبة وبلدية باريس، ولهذا استطاعوا أن ينفثوا تلك الشعارات التي رددتها الجماهير ببلاهة لا سيما شعار الثورة البارز (الحرية والإخاء والمساواة)، فهذا الشعار الذي قامت عليه الثورة وحققته كان له عند اليهود تفسير آخر:

فهم يقصدون بالحرية تحطيم القيود الأخلاقية والتقاليد الموروثة التي تحول بينهم وبين إفساد الأمم وتدميرها.

ويقصدون بالإخاء والمساواة كسر الحواجز النفسية والاجتماعية التي تحول بينهم وبين الانسلال إلى أجهزة الدولة وتنظيماتها، وإذابة الفوارق الدينية بينهم وبين غيرهم كى تزول عنهم وصمة الاحتقار والمهانة.

وهكذا نجحوا في تحويل الثورة من ثورة على مظالم رجال الدين نفسه وجعلوا لفظة الدين عند الشعوب الأوربية مرادفة للظلم والرجعية والتخلف والاستبداد.

([18])  سنتحدث عن هذا النوع من النظم في فصل (نظام) من هذه الرسالة.

([19])  انظر: العلمانية، لسفر الحوالى، وغيره من المراجع السابق ذكرها.

([20])  قصة الحضارة:14/406.

([21])  معالم تاريخ الإنسانية:3/989.

([22])  رسالة في اللاهوت والسياسة، ص:426.

([23])  القاموس الفلسفي لفولتير:سلسلة تراث الإنسانية:8/207.

([24])  أفكار ورجال:502.

([25])  معظم القوانين التي نصت على حقوق الإنسان لم ينص إلا على بعد جهود كبيرة، ومع ذلك فإن أكثرها مخترق وغير ملزم.

وهذا ذكر لبعض القوانين المتلعقة بحقوق الإنسان متسلسلة تاريخيا:

1. أجبر الملك جون في بريطانيا على إصدار العهد الأعظم في سنة 1215 م ويسمى الماجنا كارتا، وهذا العهد يلزم الملك بألا يعتدي على الممتلكات الشخصية لأحد رعاياه ما لم يكن ذلك إنفاذا لقضاء محكمة من نظراء هذا الشخص المنتمين لطبقته نفسها، وهذا يكرس سلطة محاكم النبلاء والأشراف كطبقة مميزة، كما يلاحظ أن هذا العهد على الرغم من أنه يسمى بوثيقة الحريات العظمى إلا أن صياغته تكشف عن أنه يخدم نظام الطبقات ويحفظ للبارونات والأمراء حقوقهم كطبقات ممتازة، وهي المعنية بهذه الحقوق والمستفيدة منها.

2. أصدرت بريطانيا سنة 1679 وثيقة المثول أمام القضاء وهي تشمل ضمانات للمتهم حتى لا يتم القبض عليه دون سند من القانون، أي تحميه ضد الاعتقال والسجن.

3. أصدرت بريطانيا وثيقة إعلان الحقوق سنة 1689 وتتضمن وجوب إقرار البرلمان لحرية القول وعدم فرض ضرائب دون سند من القانون.

4. أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية وثيقة إعلان الاستقلال سنة 1776 وتضمنت أن الرجال سواسية أمام القانون.

5. أصدرت فرنسا إعلان حقوق الإنسان والمواطن، وذلك سنة 1789 وهذا على إثر قيام الثورة الفرنسية.

6. توجت هيئة الأمم المتحدة هذه الوثائق بإصدارها للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من ديسمبر سنة 1948، وهو كسائر قرارات المنظمة الدولية ليس له قوة إلزامية، ولهذا تنتهك حقوق الإنسان، بل يغتال هذا الإنسان في كثير من الدول.

([26])  انظر كتب سيد قطب ومحمد قطب، خصوصا (مذاهب فكرية معاصرة).

([27])  الاضواء، العدد 2، مقالة للشهيد آية الله الصدر.

([28])  انظر: د. محمد مفتي/ د. سامي الوكيل، الحرية السياسية الغربية وحق إبداء الرأي في التصور الإسلامي.

([29])  سنذكر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بشبهة قتل المرتد في رسالة (سلام للعالمين) من هذه السلسلة.

([30])  رواه مسلم.

([31])  انظر: شبهات المشككين.

([32])  اتبع نابليون سياسة براغماتية تميل إلى كثير من النفاق، فحاول التقرب من المسلمين والتحبب إليهم، فقد أعلن أنه مسلم في قلبه وأنه سيعتنق الإسلام، ولبس العمامة والقفطان في أحد الأيام، وصلى مع المصلين. وذهب إلى أكثر من ذلك في نفاقه، إذ قال لأحد مشايخ الدين أنه ينوي إقامة حكومة موحدة تقوم على مبادئ القرآن التي هي وحدها المبادئ الحقة القادرة على إسعاد الناس.

ونسي نابليون الفكر الأوربي ومبادئ الثورة الفرنسية، وأخذ يتصرف تصرف المشايخ الصوفية فأشاع أنه شاهد النبي r في منامه وأنه قال له: اجهر بإيمانك، بأركان ديني لأنه دين الله. إن العرب في انتظار هذه العلامة، وسأخضع آسيا كلها لسلطانك. وأخذ يساهم في المواليد النبوية وينفق عليها.

وكان المسلمون يشكون في ادعاءاته وتصرفاته فهو (نصراني ابن نصراني) ـ على حد تعبيرهم ـ وقد حاول إقناع الناس بسلوكه، وذكر يوماً لشيخ الأزهر أنه يرغب باعتناق الإسلام، ولكن الذي يمنعه من ذلك عقبتان، الختان وتحريم الخمر.

وبينما كان نابليون سادراً في ألاعيبه وأكاذيبه، كان هناك قائد فرنسي قد أعلن إسلامه فأصبح اسمه عبد الله مينو. فكان يتلو القرآن ويؤدي الصلاة. فأرسل إليه نابليون يهنئه على «تضحيته» في سبيل القضية «الوطنية» (انظر: القانون الدولي والقانون الإسلامي، رسالة ماجستير قدمت إلى قسم الدراسات الإسلامية في جامعة ليدن بهولندا)

([33])  ارتبطت الإبادة النازية بـ (اليهود) بحيث استقر في الأذهان أن النازيين لم يبيدوا سوى اليهود، وقد ساعد الإعلام الغربي والصهيوني على ترسيخ هذه الفكرة حتى أصبح دور الضحية حكراً على اليهود.. بل تطور الأمر إلى حد أنه إذا ما أراد باحث أن يبيِّن أن الإبادة النازية لم تكن مقصورة على اليهود، وإنما هي ظاهرة شاملة ممتدة تشمل الغجر والسلاف والبولنديين وغيرهم، فإنه يصبح هدفاً لهجوم شرس (انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري)

([34])  نقلا عن الموسوعة اليهودية للمسيري.

([35])  رواه أحمد.

([36] )  البخاري:1/10.

([37] )  انظر تفاصيل هذه الآداب وغيرها في: آداب العشرة وذكر والصحبة والأخوة ، لأبي البركات الغزني.

([38] )  قريب منه في: الطبراني في الكبير عن ابن عمر، والخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن عمر.

([39] )  مالك، وأحمد، ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة.

([40] )  بفتح الميم وسكون الكاف هو النقص والظلم، ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، ولا زالت في بعض المجتمعات.

([41] )  ابن ماجة عن جودان (جودان غير منسوب ويقال ابن جودان سكن الكوفة مختلف في صحبته. تهذيب التهذيب (2/122).

([42])  انظر: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، يوسف القرضاوي.

([43])  سنرى بعض التفاصيل المرتبطة بهذا في فصل (سلام) من هذه الرسالة.

([44])  انظر: شبهات حول الإسلام، محمد قطب.

([45])  في الحديث سئل النبي r:« أي الناس أحب إلى الله؟» قال:« أنفع الناس للناس » رواه الطبراني وغيره بألفاظ متقاربة، وهذا لفظ الطبراني من حديث ابن عمر انظر: المقاصد الحسنة ص ( 200 – 201)

([46])  مجمع الزوائد:3/266،  المعجم الكبير:18/12، شعب الإيمان:4/289

([47])  مجمع الزوائد:8/84، المعجم الصغير:1/383، قال المنذري: رواه الطبراني في الأوسط والصغير والبيهقي مرفوعا وموقوفا وقال المحفوظ الموقوف، الترغيب والترهيب: 3/375.

([48])  مسند أحمد:2/523، شعب الإيمان:4/286.

([49])  شعب الإيمان:4/292، مسند أحمد:4/158.

([50])  رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه.

([51])  رواه مسلم والترمذي.

([52])  رواه مسلم والترمذي.

([53])  رواه الترمذي والنسائي وغيرهما.

([54])  رواه الطبراني.

([55])مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة عن جندب باب النهي عن تقنيط الانسان من رحمة الله وبرقم (2621).

([56])أبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن أبي قتادة.

([57])الطبراني في الكبير عن جندب.

([58])الطبراني في الكبير عن ابن مسعود.

([59]) معنى يتألى: يحلف والالية اليمين.

([60]) البخاري في التاريخ عن جعفر العبدي مرسلا.

([61])مالك وأحمد ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة.

([62])أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة.