الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: ثمار من شجرة النبوة

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

خامسا ـ روحانية

1 ـ الربانية

2 ـ العقلانية

3 ـ الإنسانية

خامسا ـ روحانية

في اليوم الخامس من تلك الأيام العشرة المباركة، التقيت المستشرقة التي قطفت على يديها ثمرة الروحانية من شجرة النبوة..

وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى:﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (آل عمران:164)

وعرفت بها سر قوله تعالى:﴿ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (الأنعام:52)، وقوله تعالى:﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف:28)

فهذه النصوص المقدسة تخبر عن وظيفة كبرى من وظائف النبوة هي وظيفة التزكية وملأ القلوب بمحبة الله والتوجه إليه..

***

كان من ضمن الأسماء الموجودة بالدفتر الذي سلمني إياه المرشد المستشرقة (آنا ماري شميل)[1].. وقد وضع بجانب اسمها هذه الكلمة (المارقة)

وقد كان هذا اللقب الذي وضع أمام اسمها من أكبر داوعي اهتمامي بلقائها، والحديث معها عن سبب هذا المروق الذي ينسب لها.

في ذلك اليوم المبارك الذي التقيتها فيه كنت أسير في حقل لعباد الشمس.. وكنت أنظر إليه، وهو يحول وجهته للشمس حيثما تحولت، فتعجبت من ذلك المنظر، ورحت أحاول تفهم سر ذلك التحول.. أو رحت أبحث عن المغناطيس الذي يجذب وجه عباد الشمس للشمس، أو رحت أبحث عن الدواليب التي تحرك وجه عباد الشمس نحو الشمس.

في تلك الأثناء سمعت صوتا حانيا يردد:

أحبك حبـين حب الهوى         وحباً لأنك أهْلٌ لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى فشغلي     بذكرك عمن سواكا

وأما الذي أنت أهلٌ له    فكشفك لي الحجب حتى أراكا

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

كان صوتا رقيقا عذبا روحانيا.. فانجذبت إليه، كما انجذبت زهرة عباد الشمس للشمس..

على عشب ذلك الحقل رأيتها.. رأيت (آنا ماري شميل)، ولم أكن أعرفها، مع كونها من أهل بلدي القلائل بجامعة السربون.. اقتربت منها، وقلت: هل عادت رابعة العدوية إلى الحياة؟

قالت: أنا لست رابعة.. ولكني عاشقة لرابعة، كعشق هذه الأزهار للشمس.

قلت: وما الذي جذبك لها؟

قالت: الحب.. الحب هو أعظم جاذب في هذا الوجود.. ولم أر أحدا يتحدث عنه بمثل تلك اللوعة التي تتحدث عنه بها رابعة، وإخوانها من القديسين.

قلت: لا شك أنك لا تعرفين المسيحية.. فالمسيحية هي دين الحب.. وفي كتابها المقدس تلك الآية التي لا نظير لها في أي كتاب من الكتب المقدسة التي تملأ الدنيا.

في الكتاب المقدس هذه العبارة المقدسة ( الله محبة)

ابتسمت، وقالت: اسمح للمارقة أن تجيبك لتؤكد لك من مروقها ما كنت تجهله.

قلت: كيف تحولت رابعة إلى مارقة؟

قالت: يستطيع عدوك أن يصفك بما يشاء، وباللقب الذي يشاء ما دام يرى لنفسه سلطة وضع الألقاب.

قلت:  أأنت (آنا ماري شميل).. تلك المرأة الألمانية التي تحدت الأعراف، فراحت تعلن حبها للإسلام؟

قالت: أجل.. ولذلك لقبوني بالمارقة.. وما أحلى هذا الاسم إذا كان من أعدائك.. لأنه يعلن انتصارك عليهم.

قلت:  ولكن ما الذي جذب قلبك إلى حب الإسلام والدفاع عنه مع كونك ـ حسبما أعلم ـ مسيحية نفسا وأبا وجدا.

قالت:  ألا ترى إلى هذه الزهرة الجميلة، وهي تولي وجهها إلى الشمس حيثما تولت؟

قلت:  أجل.. وقد كنت قبل ساعة، أتأملها، وأبحث عن الدواليب التي تحركها جهة الشمس.

قالت:  فقد بحثت عن تلك الدواليب.. ووجدتها.. ورحت أبحث في الأديان والمذاهب والأفكار والحضارات.. فلم أجد تلك الدواليب إلا في الإسلام..

محمد هو الرجل الوحيد في العالم الذي يملك أسرار الدواليب التي يتحول بها البشر إلى أزهار عباد شمس تتحول وجوهها لا إلى الشمس.. وإنما إلى المصدر الذي جاءت منه الشمس وجاء منه كل شيء.

لقد جاء في القرآن:﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:115)

محمد هو الرجل الوحيد في العالم الذي جاء بمنظومة كاملة تفسر حقائق الوجود، وتملأ النفس والعقل والقلب والروح والسر وجميع اللطائف بها.

قلت: ولكنك نسيت ما ورد في رسالة يوحنا، فقد قال أيها الاحباء لنحب بعضنا بعضاً، لأن المحبة من الله وكل من يحب الله فقد ولد من الله »(يوحنا1/4:7)

وقد كتب يوحنا هذه العبارة التي لا يوجد مثلها في أي كتاب من الكتب المقدسة لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به » (يوحنا 3: 16)

ابتسمت، وقالت: لقد كنت مثلك تبهرني مثل هذه العبارات الجميلة.. لكني عندما حاولت أن أعيش معانيها لم أجد فيها من المعاني الروحانية اللذيذة ما يمكن أن أعيشه.

لاحظ بعين العقل والمنطق والروح تلك العبارة الأخيرة التي بهرتك كما بهرت الملايين من غير أن يعرفوا معناها.

ألا ترى أنها تحمل تصويرا مشوها عن الله يصرف القلوب عنه.. بل قد يملؤها ببغضه!؟

قلت:  ما تقولين؟

قالت:  أرأيت لو أنك.. وأنت صاحب الدار.. دعوت ضيوفا إلى بيتك لتطعمهم من طعامك، وتسقيهم من شرابك.. ثم بدر من أحد ضيوفك ما أساء إليك.. فنظرت إليهم نظرة غضب تريد أن تبطش بهم.. ثم سرعان ما تحولت إلى حليم رحيم.. ولكنك لم تعف عنهم.. وإنما ذهبت إلى ولدك الوحيد لتضعه على الصليب، وتقتله شر قتلة أمام أعين ضيوفك، فإذا سألوك عن سر ما تفعله، قلت لهم: لأجل أن أكفر عن خطاياكم.

فإذا سألوك: لم؟.. ألا يمكن أن تكفر عن خطايانا بغير هذا الأسلوب؟

قلت لهم: لقد وضعت قانونا، بأني لا أكفر الخطايا إلا بالدم..

فإذا سألوك: ألا يمكن أن تتنازل عن قانونك هذه المرة؟

قلت:  لا..

فإذا سألوك: لم؟

قلت:  لأني عادل.

فإذا سألوك: فلم عاقبت من لم يستحق العقوبة إذن؟

قلت:  لأني رحيم.

التفتت إلي، وقالت: ألا ترى هذا نوعا من الجنون!؟

هل الذي يحب العالم لا يحب ابنه الوحيد.. ثم كيف يحب الله العالم، ولا يحب ابنه.. ثم.. هل الذي يحب العالم يقتل ابنه الوحيد!؟

ثم.. كيف نثق بإله لم يشفق على ابنه من أجل غفران خطيئة مذنب آخر؟ كما يقول بولس في (رومية 8: 32) الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لاجلنا اجمعين »

لقد نسب بولس إلى الله عدم الشفقة.. أي القسوة.

ألا توجد طريقة أخرى عند إله المحبة بدلاً من قتل ابنه المزعوم لإنقاذ غيره!؟

وهل اقتضت رحمته ألا يُعالج هذه الجريمة إلا بجريمة أبشع منها؟

وهل صحيح ما يقوله بولس الذي حجر على الله المغفرة في رسالته إلى العبرانيين ( 9: 22 )، فقال:« وكل شئ تقريبا يتطهر حسب الناموس بالدم وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة »[2].. أهذا إله يمكن أن يكون محبوبا.. الإله العاشق للدماء.. الذي لا يكفر الخطايا إلا بعد أن يسفك الدماء؟

ثم كيف يتطهر العباد الذين لم يجاهدوا أنفسهم في ذات الله.. أبالانتحار.. حتى يقدموا قرابين لله الذي يحب الدماء.. أم بالإيمان والذكر والعبادة والتوجه!؟

لم أجد ما أقول، فقالت: إن دينا يقوم على مثل هذه العقيدة يستحيل أن تصدر منه أي روحانية شفافة صادقة مترفعة.. ذلك أن قوانين الروحانية لا تنسجم إلا مع قوانين العقلانية.. فلا تناقض بين العقل والروح.

قلت: لقد ذكرت لي أنك اكتشفت أسرار الدواليب التي تحرك عباد الشمس.

قالت:  لقد اكتشفت أسرار الدواليب التي تحرك القلوب نحو الله.. وهي ما تحتاج أن تعرفه.

قلت:  فما هي؟

قالت: ثلاث:الربانية.. والعقلانية.. والإنسانية.

قلت:  فهل ستحدثيني عنها؟

قالت:  سأحدثك بخلاصة خلاصة ما وجدته من مقارناتي بين الإسلام وغيره من الأديان والفلسفات والمذاهب.. لتعرف سر مروقي [3].

1 ـ الربانية

قلت: فلنبدأ حديثنا عن الربانية.

قالت: لقد بحثت في التوجهات الروحية المختلفة.. فوجدت كل طائفة من الطوائف تولي وجهها نحو شمس من الشموس الآفلة.. ثم بحثت في وجهة المسلمين، فوجدتها جميعا موجهة نحو الشمس التي لا تأفل.

لعلك تعرف قصة إبراهيم في القرآن.. والتي ورد فيها:﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)﴾(الأنعام)؟

قلت:  أجل.. فما فيها مما نحن فيه؟

قالت: فيها كل ما نحن فيه.. إن هذه الآيات تلخص السير الروحي للمسلمين.. فالسير الروحي للمسلمين لا يتوجه إلا لله.. كما قال القرآن:﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام:162)

وذلك هو معني الإسلام، كما جاء في القرآن بعد الآية السابقة:﴿ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام:163)

بينما سيرنا نحن المسيحيين لا يتوجه إلا نحو أنفسنا.. فنحن بتركيزنا على الخطايا والفداء والكفارة ونحوها قد وضعنا حجبا بيننا وبين الله.

بينما لا تشكل الخطايا في نظر الإسلام إلا إفرازات للطبيعة الإنسانية.. ويمكن تجاوزها بالتوبة الصادقة.. وقد جاء في القرآن:﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر:53)

بل نحن لم نكتف بذلك.. لقد جعلنا من ديانتنا ديانة كهنوتية تفتقر إلى الوسائط الكثيرة.. بينما المسلمون يرتبطون بالله من أول لحظة، فليست لديهم أي وسائط بينهم وبين الله، وقد قال القرآن:﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة:186)

قلت: واليهود.. هم أيضا أصحاب ديانة سماوية.

قالت:  اليهود يعبدون أنفسهم.. لا الله.. ولذلك فإن شموسهم منحنية انحناءة بشعة مشوهة تصور ما تمتلئ به قلوبهم من أحقاد.

قلت:  والمسلمون!؟

قالت:  كل عارفي المسلمين وأوليائهم وقديسيهم لا تلهج ألسنهم إلا بذكر الله ومحبة الله وتعظيم الله..

سأل الشبلي جارية حبشية، فقال: من أين؟ قالت: من عند الحبيب، قال: وإلى أين؟ قالت: إلى الحبيب، قال: ما تريدين من الحبيب؟ قالت: الحبيب.

إن هذه الجارية عبرت خير تعبير عن وجهة أولياء أمة محمد.. فهم لا يعرفون إلا الله، ولا يبحثون إلا عن الله.

وقد قال مثلها ابن عطاء الله يحث المريدين على توحيد الوجهة:« كن أيها العبد إبراهيمياً، فقد قال أبوك إبراهيم ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ:﴿ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ (الأنعام: من الآية76).. وكل ما سوى الله آفل إما وجوداً وإما إمكاناً،  وقد قال سبحانه:﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾ (الحج: من الآية78).. فواجب على المؤمن أن يتبع ملة إبراهيم، ومن ملة إبراهيم رفع الهمة عن الخلق، فإنه يوم زج به في المنجنيق تعرض له جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا وأما إلى الله فبلى، قال: فاسئله، قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي.. فانظر كيف رفع إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ همته عن الخلق ووجهها إلى الملك الحق، فلم يستغث بجبريل، ولا احتال على السؤال من الله، بل رأى الحق سبحانه أقرب إليه من جبريل، ومن سؤله، فلذلك سلمه من نمروذ ونكاله، وأنعم عليه بنواله وأفضاله، وخصه بوجود إقباله »

وقال في حكمة من حكمه الجليلة يحذر من الانقطاع في الطريق عن الله بأي شاغل من الشواغل، أو زخرف من الزخارف:« لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى يسير والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون:) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى( (النجم:42)

والعارفون من المسلمين يعتبرون سكون الإنسان للأشياء وعدم عبوره منها وقوفا بل سقوطا، فعن القاسم بن عبد الله البزار قال سمعت سري بن المغلس يقول:« لو أن رجلا دخل إلى بستان فيه من جميع ما خلق الله تعالى من الأشجار، عليها من جميع ما خلق الله تعالى من الأطيار، فخاطبه كل طائر منها بلغته، وقال: السلام عليك يا ولي الله، فسكنت نفسه إلى ذلك كان في يدها أسيرا »

قلت: ألا ترين في هذا خطورة على إنسانية الإنسان وعلاقته بالأكوان؟

قالت:  لا.. في هذه الوجهة تجتمع الإنسانية مع العقلانية مع الربانية..

فالعارف لا يحجب عن نفسه وعن الكون احتقارا لنفسه أو احتقارا للكون.. وإنما هو يعيد في ذهنه نسبة الكون إلى صاحبه.. وبذلك تنتظم أموره جميعا..

العارف ينظر إلى الكون.. ويعيش الكون..

ولكن نظرته تختلف كثيرا عن نظرة الماديين الذين يصارعون الكون ويصارعون أنفسهم.. ولا يرون في الكون ولا في أنفسهم من جوانب الجمال ما حجبهم عنه صراعهم.

العارفون ينظرون إلى الكون المسبح قبل أن ينظروا إلى الكون المسخر، فيجتهدون في تفقه أسرار تسابيحه، قال الغزالي:« فإذن جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان العارف يتبوأ منه حيث يشاء من غير حاجة إلى أن يتحرّك إليها بجسمه وشخصه، فهو من مطالعة جمال الملكوت في جنة عرضها السموات والأرض، وكل عارف فله مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلاً، إلا أنهم يتفاوتون في سعة منتزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظرهم وسعة معارفهم، وهم درجات عند الله ولا يدخل في الحِصر تفاوت درجاتهم »

إن هذه هي دعوة القرآن إلى التعرف على الله من خلال الآفاق والأنفس..

لقد وصف القرآن هؤلاء العارفين وعلاقتهم بالكون،  فقال:« إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) (آل عمران)

قلت:  ولكني أسمع بأن الروحانيين من المسلمين ينفون الأكوان؟

قال:  هم ينفونها من حيث ذاتها، وثبتونها من حيث انتسابها إلى الله، فالعارفون لا يتوجهون إلا إلى الله، ولا ينحجبون بشيء عن الله.. يرددون مع أبي مدين قوله:

الله قل وذر الوجود وما حوى      إن كنت مرتاداً بلوغ كمال

فالكل دون الله أن حققته       عدم على التفصيل  والإجمال

واعلم بأنك  والعوالم  كلها    لولاه في محو وفي  اضمحلال

من لا وجود لذاته  من  ذاته      فوجوده   لولاه عين  محال

والعارفون بربهم لم  يشهدوا    شيئاً  سوى   المتكبر   المتعال

ورأوا سواه على الحقيقة هالكاً  في الحال والماضي والاستقبال

وعبر الآخر عن انشغال العارف بالله عن الكون بقوله:

شغل المحب عن الهواء بسره في حب من خلق الهواء وسخره

والعارفون عقولهم معقولة      عن كل كون ترتضيه مطهره

فهم لديه مكرمون وفي الورى     أحوالهم مجهولة ومستره

وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر ـ كما ورد في الحديث كلمة لبيد [4]: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ـ

قلت:  إن هذا عينه ما يردده أهل وحدة الوجود.. بل إن هذا النوع من الوحدة نجده عند اليهود أنفسهم.. ففي القبالاه نجد كلمات كثيرة تشير إلى هذا المعنى.

قال: نعم.. قد تجد بعض الكلمات مما يوهمك أن وحدة الوجود الفلسفية أو اليهودية هي عينها وحدة الوجود التي ينسبها البعض إلى العارفين من المسلمين.. ويؤيد هذا بعض العوام من المسلمين ممن لم يكن لهم من القدرة العقلية ما يحللون به الكلام ليفهموا حقيقة المراد منه.

ولكن التأمل العقلي والتحليل المنطقي يدل على أن وحدة الوجود المشار إليها عند الصوفية المسلمين مغايرة تمام المغايرة لقول الفلاسفة ووحدتهم التي لا تفرق بين الخالق والمخلوق والصنعة والصانع.

فليس المراد بوحدة الوجود عند الصوفية وجودين قديمين اتحدا، ولا قديم وحادث اتحدا، لأنهم يعتقدون ـ انطلاقا من المصادر المقدسة ـ أن الله لا يحل في شيء، ولا يمازج شيئاً، ولا شئ في ذاته في خلقه، ولا من خلقه في ذاته، وقربه وبعده ليس كقرب الأجسام وبعدها، ولا هو محصور ولا محدود.. تنزه عن أوصاف خلقه.

لقد قال محي الدين بن عربي وهو من رجالات التصوف الذي أسيء فهم مقاصدهم:« لو صح أن يرقى الإنسان عن إنسانيته، والملك عن ملكيته، ويتحد بخالقه تعالى، لصح انقلاب الحقائق وخرج الإله عن كونه إلهاً، وصار الحق خلقاً، والخلق حقاً، وما وثق أحد بعلم، وصار المحال واجباً، فلا سبيل إلى قلب الحقائق أبداً »

انظر كيف ينفي الاتحاد والحلول بشدة، فما كان في كتبه مما يوهم ذلك فهو إما مدسوس عليه، وإما فهم على غير حقيقته[5].

وبمثل هذا نطق كل العارفين.. فقد قال الشيخ علوان الحموي ( ت 936هـ ) في تعليقه على كلام محمد بن واسع تلميذ الحسن البصري في فنائه عن الخلق بالحق:« ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه » قال معلقاً على هذا:« مذهب أهل الحق أن مولانا عز وجل لا يحل في شيء، ولا يحل فيه شيء، وكلما ورد عليك ما يوهم ظاهره الحلول فأوله »

وقد بين الشيخ الهجويري (ت. 470هـ) في كتابه ( كشف المحجوب) تعليقاً على هذه العبارة قوله:« إن المرأ عندما تغلبه المحبة للذات الإلهية يصل إلى مرحلة لا يرى فيها الصنع وإنما يرى الصانع »

وقال أحد العارفين:« أراد بهذه الرؤية الشهود لا رؤية البصر لأن الرؤية من خصائص البصر، والشهود من خصائص البصيرة »

سكتت قليلا، ثم قالت: لقد نطق القرآن بهذه المعاني.. بل إن تأمل القرآن هو الذي جعل هؤلاء العارفين يصلون إلى ما وصلوا إليه من حقائق..

اسمع لهذه الآية.. وحاول أن تعيشها.. ففيها من الحقائق ما يجعل القلب لا يعرف وجهه إلا الله نافيا ما سواه..:﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (الحديد:3)

فالتأمل في المعاني العميقة التي تحملها هذه الأسماء يلبس الأشياء جميعا ثوب العدم، ليبقى الحق وحده هو المتفرد بالوجودالحقيقي.

لقد قال سيد قطب ـ هو مثال العارف المسلم المملوء بالروحانية العميقة ـ مبينا عمق المعاني التي تدل عليها هذه الأسماء الحسنى:« وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض، حتى تطالعه حقيقة أخرى، لعلها أضخم وأقوى، حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة، فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه ؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء، عليمة بكل شيء ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾

ويقول عن المعاني التي يستشعرها، وهو يعيش في ظلال هذه الأسماء:« الأول فليس قبله شيء. والآخر فليس بعده شيء. والظاهر فليس فوقه شيء. والباطن فليس دونه شيء.. الأول والآخر مستغرقا كل حقيقة الزمان، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان. وهما مطلقتان. ويتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله. وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه. حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله. فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده. وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته. وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود »

لقد عبر القرآن ـ كذلك ـ عن هذا المعنى باسم الله « الأحد » في قوله:) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ (الاخلاص:1)، وهو اسم عظيم يحوي ـ مع التأمل ـ الكثير من الدلالات، ولهذا لما خشي محمد أن لا يقدر حق قدره ـ كما قد لا تقدر المعاني الواردة في السورة حق قدرها ـ ذكر أن هذه السورة ـ التي تحوي هذه الحقيقة الجليلة ـ والتي نتوهمها صغيرة تعدل ثلث القرآن كما روي عن أبي سعد، أن رجلا سمع رجلا يقرأ:﴿ قل هو الله أحد ﴾ يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي  r فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالها - فقال النبي  r  والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن»

ولهذا كان بلال t في رمضاء مكة في بداية الإسلام يصيح بها في نشوة عظيمة، وقد فني عن كل العذاب المحيط به:« أحد أحد »

ولا غرابة في كل هذا ـ كما يقول سيد قطب ـ « فإن الأحدية التي أمر رسول الله r أن يعلنها: قل هو الله أحد .  هذه الأحدية عقيدة للضمير، وتفسير للوجود، ومنهج للحياة »

ولهذا ـ خلاف ما قد نتصور ـ فإن غاية رسالة محمد لم تكن الدعوة والتربية على معنى التوحيد الذي ينفي الشريك فقط، وإنما الدعوة والتربية على معنى الأحدية الذي ينفي الوجود الذاتي لغير الله.. وعلى كليهما تقوم حياة المؤمن، ومن كليهما يستمد العارف[6].

لقد شرح سيد قطب بتعبيره الجميل المعاني التي يعيشها العارف، وهو في ظلال هذا الاسم الجليل، فقال:« إنها أحدية الوجود.. فليس هناك حقيقة إلا حقيقته. وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده، وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية »

وهذه الحقيقة هي التي تتأسس عليها كل حقائق المعرفة والسلوك، وهي النهاية التي ينتهي إليها سلوك العارف ليبدأ بها استمداده، فهو ما دام ينظر إلى الوجود نظرة الشريك الذي يزاحم ربه في وجوده، لا يستمد من هذا الوجود غير الجهل والتشتت، لكنه إن خلع عنه هذا الوجود المشرك، وحلاه بحلية الأحدية، فإن الوجود كله يصبح عيونا تفيض بالمعارف على قلبه.

ولهذالا يفهم العارفون من قول « لا إله إلا الله »، ما يفهمه الكثير من قصر معناها على « لا معبود بحق إلا الله »، بل يفهمون ذلك، ومعه يفهمون أن « لا موجود بحق إلا الله »

قلت:  ولكني سمعت بكثير من المسلمين يكفرون سيدا وغيره بهذا.

قالت: دعك منهم.. هم فئة محدودة معروفة بالتطرف في كل شيء.. لعله لم يصب الإسلام بأنواع البلاء إلا بسببها.

فهذه المجموعة هي التي تزعمت تطرف الإرهاب.. وتزعمت تطرف الشعوذة.. وتزعمت تطرف التفريق بين المسلمين.. وهي تتزعم أنواعا كثيرة من التطرف أخطرها أنها الحجاب الأعظم بين قومنا وبين الإسلام.

وأنبئك سرا.. أنا التي أتهم بالمروق.. كنت مثل قومي في نكرانهم للإسلام.. وكان أولئك من سبب ذلك النكران.. ولكني ما تخلصت من عقدتهم، ورحت أبحث عن الحقائق من أهلها حتى بان لي من حقائق الإسلام ما جعلني مارقة بين قومي.

قلت: ولكن أولئك يذكرون أقوالا لعلماء لهم اعتبارهم في الإسلام؟

قالت: هم لا يقرؤون شيئا.. فإذا قرأوا ينتقون ما يقرؤون، ويقطعونه تقطيعا.

هم يزعموون أنهم يستمدون من ابن القيم.. مع أن ابن القيم يتحدث عن هذه المعاني من دون إنكار لها.. فهو يقول في مدارج السالكين عند حديثه عن منزلة الفناء:« الفناء ضد البقاء، والباقي إما باق بنفسه من غير حاجة إلى من يبقيه، بل بقاؤه من لوازم نفسه وهو الله تعالى وحده، وما سواه فبقاؤه ببقاء الرب، وليس له من نفسه بقاء، كما أنه ليس له من نفسه وجود، فإيجاده وإبقاؤه من ربه وخالقه، وإلا فهو ليس له من نفسه إلا العدم، قبل إيجاده والفناء بعد إيجاده »

ويرفع توهم أن المراد بأن نفسه وذاته اقتضت عدمه وفناءه بقوله:« إنما الفناء أنك إذا نظرت إلى ذاته بقطع النظر عن إيجاد موجده له كان معدوما، وإذا نظرت إليه بعد وجوده مع قطع النظر عن إبقاء موجده له استحال بقاؤه، فإنه إنما يبقى بابقائه كما أنه إنما يوجد بإيجاده فهذا معنى قولنا إنه بنفسه معدوم وفان فافهمه »

قلت:  وعيت مقاصد العارفين من المسلمين من هذا.. ولكني لم أع الفرق بينهم وبين سائر الطوائف.

قالت:  لقد ذكرت اليهود.. وتصورت أن في اليهودية مثل هذا.

قلت:  أجل..

قالت:  لتفهم الفرق بين هذه المعاني عند المسلمين وعند غيرهم من الطوائف وخاصة اليهود تحتاج إلى تمييز مهم  بين نمطين من التصوف، فالتصوف هو الاسم الذي اشتهرت به هذه المعاني [7]:

أما ألهما ـ وهو تصوف المسلمين ـ فهو تصوف يدور في نطاق إطار توحيدي، ويَصدُر عن الإيمان بإله يتجاوز الإنسان والطبيعة والتاريخ، ومن ثم يؤمن بالثنائيات الدينية الفضفاضة (سماء/أرض ـ إنسان/طبيعة ـ إله/إنسان)

وتتبدَّى هذه الرؤية في تدريبات صوفية يقوم بها المتصوف ليكبح جماح جسده تعبيراً عن حبه للإله وعن محاولته التقرب منه، وهو يعرف مسبقاً استحالة الوصول والتوحد مع الإله، فالحلول الإلهي يتنافى مع الرؤية التوحيدية، ولذلك، فإن وحدة الوجود عند الصوفية المسلمين ـ بمعناها الفلسفي ـ قمة الكفر.. والمتصوف الذي يدور في إطار توحيدي يعبِّر عن حبه الإلهي عن طريق فعل في التاريخ والدنيا يلتزم فيه بقيم الخير ويُعلي به من شأن القيم المطلقة المُرسَلة للإنسان من الإله ويصلح به حال الدنيا.

أما النمط الثاني من التصوف ـ وهو تصوف اليهود.. ومثله كثير من صوفية الأديان والمذاهب المختلفة، ولعل بعضه سرى لبعض طوائف المسلمين ـ فيدور في إطار حلولي يصدر عن الإيمان بالواحدية الكونية، حيث يحل الإله في الطبيعة والإنسان والتاريخ، ويتوحد معها ويصبح لا وجود له خارجها، فيُختزَل الواقع بأسره إلى مستوى واحد يخضع لقانون واحد.. ومن ثم، يستطيع من يعرف هذا القانون (الغنوصي) أن يتحكم في العالم بأسره.

فالتحكم في العالم وفي الأشياء هو هدف المتصوف في هذا الإطار... ولهذا تجده ـ بدلاً من التدريبات الصوفية التي يكبح بها الإنسان جسده ويطوع لها ذاته ـ يأخذ شكل التفسيرات الباطنية وصنع التمائم والتعاويذ والبحث عن الصيغ التي يمكن من خلالها التأثير في الإرادة الإلهية، ومن ثم التحكم الإمبريالي في الكون.

وحتى لو أخذ هذا التصوف شكل الزهد، فالهدف من الزهد ليس تطويع الذات، وإنما الوصول إلى الإله والالتصاق به والتوحد معه والفناء فيه، ليصبح المتصوف عارفاً بالأسرار الإلهية، ومن ثم يصبح هو نفسه إلهاً أو شبيهاً بالإله.

والمتصوف بهذا النمط لا يكترث إلا بذاته، ولذا فهو لا يتحرك في الزمان والمكان الإنسانيين، ولا يأتي بأفعال في التاريخ، ولا يهتم بإصلاح الدنيا، بل يضع نفسه فوق الخير والشر، وفوق كل القيم المعرفية والأخلاقية.

ألا ترى الفرق بينهما عظيما؟

قلت:  أجل.. فالتجربة الصوفية التوحيدية تطويع للذات وطاعة للخالق وإصلاح للدنيا، وأما الثانية فهي تحقيق للذات وتطويع للخالق وبحث عن التحكم في الدنيا.

ولكن كيف يستخدم كلاهما مصطلحا واحدا (تصوف) مع هذا؟

قال:  العاقل لا ينحجب بالمصطلحات.. بل يبحث عن الحقائق..

 الروحانية الإسلامي ـ التي استطاع التصوف المعتدل أن يعبر عنها أحسن تعبير ـ تمثل قمة التوجه إلى الله، وقمة الاستسلام له.

ولكن الروحانية المادية التي يمثلها التصوف الحلولي اليهودي أو المسيحي.. ليس سوى توجه للذات، بل هو في أشكاله المتطرفة، ليس سوى شكل من أشكال العلمنة.. فإذا كان الإله أو الخالق هو مخلوقاته، فإن مخلوقاته هي هو.. وإذا حل الإله في المادة، فإن الطبيعة تصبح هي الإله، كما يذكر إسبينوزا، كما أن صاحب العرفان يصبح قادراً على التحكم في الإله والطبيعة والكون.. وفي هذا نرى ملامح سوبرمان نيتشه، الذي لا يؤمن إلا بإرادة القوة ويتجاوز أخلاق الضعفاء.

ولهذا، فإن المتصوف اليهودي لا يتجه نحو تطويع الذات الإنسانية الفردية لله، وإنما يحاول الوصول إلى فَهْم طبيعة الإله من خلال التأمل والمعرفة الإشراقية الكونية (الغنوص أو العرفـان) بهـدف التأثير في الإله والتحكم الإمبريالي في الواقع.

ولهذا نرى ارتباط التصوف اليهودي أو القبَّالاه بالسحر، ولهذا أيضاً كانت علاقة السحر بالعلم والغنوصية.

وقد وصف العالم جيرشوم شوليم الصوفية اليهودية بأنها (ثيو صوفية)، أي أنها معرفة الإله من خلال التأمل والمعرفة الإشراقية الكونية (الغنوص) أو العرفان، ومن ثم، فهي تبتعد عن التمرينات الصوفية ومحاولة الذوبان أو إفناء الذات الإنسانية في الذات الإلهية.

قلت:  وعيت كل ما ذكرته.. ولكن ألا ترين أن هذا النوع من الروحانية فيه نوع من الارستقراطية!؟

قالت:  ما تقصد؟

قلت:  إن هذه المعاني التي ذكرتها لا يستطيع استيعاب فلسفتها إلا الأكابر.. أما البسطاء من الناس، فهم لا يطيقون فهمها.. وبالتالي، فإن المعاني الروحية للإسلام من اختصاص الثلة لا العامة؟

قالت:  في كلامك بعض الصحة.. وكثير من الأخطاء.

أما ناحية الصحة.. فهي أن المعاني الروحية الراقية بدرجاتها العالية لم تكتمل إلا للأكابر من الأولياء.. ولا حرج في هذا.. ففي كل أمة من الأمم العامة والقديسون.

وقد أشار القرآن إلى هذه الثلة حاثا على سلوك سبيها باعتبارها النموذج الأكمل للإنسان، فقال:﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر:32)

والقرآن يسمي هؤلاء (مقربون)..:﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ (الواقعة: 11)

والقرآن يعتبر هذا النوع ثلة قليلة في جميع الملل:﴿ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (الواقعة: 14)

ولكن هذا لا ينفي انتشار المعاني الروحية العالية بين المؤمنين..

ففي القرآن وفي كلام محمد وهديه منظومة كاملة من التوجيهات والتشريعات ليس لها من هدف سوى ربط المؤمنين بالله..

لا شك أنك تعرف الأذكار والأدعية وأنواع المناجاة التي وردت بها النصوص المقدسة للمسلمين؟

قلت:  أجل..

قالت:  لقد بحثت في تلك النصوص ودرستها دراسة متأنية، وقارنت بينها وبين أنواع الأدعية والأذكار في جميع الأديان والمذاهب.. فلم أجد روحانية أرق من تلك الروحانية التي تضمنتها أدعية المسلمين.

قلت:  ولكني أرى بدعا كثيرة دخلت.. فهناك أنواع من المناجاة لم ترد في النصوص المقدسة.. ومع ذلك أرى المسلمين يلهجون بذكرها.

قالت:  لقد بحثت في تلك الأنواع أيضا.. فرأيتها تصب فيما ورد في النصوص.. لقد صب الصالحون من المسلمين ممن أوتو قدرات بلاغية عالية المعاني الروحية الرقيقة في صورة أدعية وابتهالات ومناجاة لتكون معراجا يرقى بالمريدين إلى الله.

ولا أرى فيها أي بدعة.. فقد كان محمد يقر ما يقوله أصحابه من أدعية ومن أنواع الأذكار ما لم يخالف ما ورد في العقيدة الإسلامية من حقائق.

سأذكر لك نموذجا من هذا النوع لترى فيه كيف تنتظم المعاني الروحية العالية في مناجاة رقيقة.

هذه المناجاة هي مناجاة ابن عطاء الله..

اسمع ما يقول:« إلـهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟!..  إلـهي أنا  الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي؟! »

إن هذه المناجاة.. بل هذه الحكمة مما يميز الروحانية الإسلامية.. إنها روحانية افتقار إلى الله.. ولجوء إلى الله.. وانطراح بين يدي الله.. وهو تصديق لما ورد في القرآن:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (فاطر:15)

ولذلك.. فإن هذا الفقر يملأ صاحبه بالتواضع لله.. ولخلق الله.. وتجعله في قمة السلام بينه وبين نفسه، وبينه وبين الله.. وبينه وبين الخلق.

ثم يقول ابن عطاء الله:« إلـهي إن اختلاف تدبيرك، وسرعة حلول مقاديرك، منعا عبادك العارفين بك عن السكون إلى عطاء واليأس منك في بلاء »

هذه ناحية أخرى مهمة تجعل العارفين من المؤمنين.. بل تجعل العوام منهم متوجهين دائما إلى الله..

فالله في الإسلام لم يتخل عن خلقه هو معهم يرعاهم في كل لحظة ﴿ َمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (الأنعام: من الآية59).. ﴿  مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (المجادلة: من الآية7)..:﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ (غافر:19)..:﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (يونس:61)

وهو يقلب المقادير على مقتضى حكمته ورحمته وعدله.. ﴿ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (الانبياء:23)

ثم يقول ابن عطاء الله في أدب المؤمن العارف بنفسه:« إلـهي مني ما يليق بلؤمي، ومنك ما يليق بكرمك ».. أي مني ما يليق بلؤمي الذي هو وصف العبيد من مبارزتك بالذنوب، ومنك ما يليق بكرمك الذي هو وصف الربوبية من التجاوز والعفو وستر العيوب.

ثم يقول:« إلـهي وصفت نفسك باللطف والرأفة بي قبل وجود ضعفي، أفتمنعني منهما بعد وجود ضعفي »، وهذا توسل من المؤمن إلى الله بأسمائه.. وهو ما يقرب المؤمن إلى الله قربا عظيما.

ثم يقول متبريا من الحول والقوة التي قد تحجبه عن الله:« إلـهي إن ظهرت المحاسن مني فبفضلك، ولك المنة علي، وإن ظهرت المساوي مني فبعدلك، ولك الحجة علي »

ثم يتوجه إلى الله متوسلا إليه بكمالاته لطلب حاجاته:«إلـهي كيف تكلني إلى نفسي وقد توكلت لي؟ وكيف أضام وأنت الناصر لي؟ أم كيف أخيب وأنت الحفي بي؟ 

ها أنا أتوسل إليك بفقري إليك، وكيف أتوسل إليك بما هو محال أن يصل إليك؟ أم كيف أشكو إليك حالي وهو لا يخفى عليك؟ أم كيف أترجم لك بمقالي وهو منك برز إليك؟ أم كيف تخيب آمالي وهي قد وفدت إليك؟ أم كيف لا تحسن أحوالي وبك قامت وإليك؟

إلـهي ما ألطفك بي مع عظيم جهلي، وما أرحمك بي مع قبيح فعلي!

إلـهي ما أقربك مني ، وما أبعدني عنك!

إلـهي! ما أرأفك بي! فما الذي يحجبني عنك؟

إلـهي! قد علمت باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار، أن مرادك أن تتعرف إلي في كل شيء، حتى لا أجهلك في شيء .

إلـهي! كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك، وكلما آيستني أوصافي أطمعتني مننك.

إلـهي! من كانت محاسنه مساوي فكيف لا تكون مساويه مساوي؟ ومن كانت حقائقه دعاوي فكيف لا تكون دعاويه دعاوي؟ 

أي من كانت أعماله الصالحة عيوباً في نفس الأمر لعدم خلوها من

إلـهي حكمك النافذ ومشيئتك القاهرة لم يتركا لذي مقال مقالاً، ولا لذي حال حالاً.

إلـهي! كم من طاعة بنيتها وحالة شيدتها هدم اعتمادي عليها عدلك، بل أقالني منها فضلك.

إلـهي! أنت تعلم وإن لم تدم الطاعة مني فعلاً جزماً، فقد دامت محبة وعزماً.

إلـهي! كيف أعزم وأنت القاهر، وكيف لا أعزم وأنت الآمر؟ 

إلـهي! ترددي في الآثار يوجب بعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك.

إلـهي! كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ 

إلـهي! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبك نصيباً.

إلـهي! أمرت بالرجوع إلى الآثار فارجعني إليها بكسوة الأنوار وهداية الاستبصار، حتى أرجع إليك منها كما دخلت إليك منها مصون السر عن النظر إليها، ومرفوع الهمة عن الاعتماد عليها ﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (آل عمران:26).

إلهي هذا ذلي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك، منك أطلب الوصول إليك، وبك أستدل عليك فاهدني بنورك إليك، وأقمني بصدق العبودية بين يديك.

إلـهي! أغنني بتدبيرك عن تدبيري، وباختيارك لي عن اختياري، وأوقفني على مراكز اضطراري.

إلـهي! أخرجني من ذل نفسي، وطهرني من شكي وشركي قبل حلول رمسي.

بك أستنصر فانصرني، وعليك أتوكل فلا تكلين، وإياك أسأل فلا تخيبني، وفي فضلك أرغب فلا تحرمني، ولجنابك أنتسب فلا تبعدني، وببابك أقف فلا تطردني.

إلـهي! تقدس رضاك عن أن تكون له علة منك، فكيف تكون له علة مني؟ أن الغني بذاتك عن أن يصل إليك النفع منك، فكيف لا تكون غنياً عني؟

إلـهي! أن القضاء والقدر غلبني، وإن الهوى بوثائق الشهوة أسرني، فكن أنت النصير لي حتى تنصرني وتنصر بي، وأغنني بفضلك حتى أستغني بك عن طلبي.

أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك، حتى عرفوك ووحدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار من قلوب أحبابك، حتى لم يحبوا سواك ولم يلجئوا إلى غيرك أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حتى استبانت لهم المعالم، ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك؟ لقد خاب من رضي دونك بدلاً، ولقد خسر من بغى عنك متحولاً.

يعني أنت يا الله الذي أشرقت بفضلك أنوار المعارف واليقين في

إلـهي! كيف يرجى سواك، وأنت ما قطعت الإحسان؟ وكيف يطلب من غيرك وأنت ما بدلت عادة الامتنان، يا من أذاق أحباءه حلاوة مؤانسته فقاموا بين يديه متملقين، ويا من ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بعزته، مستعزين، أنت الذاكر من قبل الذاكرين، وأنت البادئ بالإحسان من قبل توجه العابدين، وأنت الجواد بالعطاء من قبل طلب الطالبين، وأنت الوهاب ثم أنت لما وهبتنا من المستقرضين.

إلـهي! اطلبني برحمتك حتى أصل إليك، واجذبني بمنتك حتى أقبل عليك.

إلـهي! إن رجائي لا ينقطع عنك وإن عصيتك، كما أن خوفي لا يزايلني وإن أطعتك.

إلـهي! قد دفعتني العوالم إليك، وقد أوقفني علمي بكرمك عليك.

إلـهي! كيف أستعز وأنت في الذلة أركزتني، أم كيف لا أستعز وإليك نسبتي؟ أم كيف لا أفتقر وأنت الذي في الفقر أقمتني، أم كيف أفتقر وأنت بجودك أغنيتني؟.

أنت الذي لا إله غيرك، تعرفت لكل شيء فما جهلك شيء، وأنت الذي تعرفت إلي في كل شيء فرأيتك ظاهراً في كل شيء، فأنت الظاهر لكل شيء.

يا من احتجب في سرادقات عزه عن أن تدركه الأبصار، يا من تجلى بكمال بهائه فتحققت عظمته الأسرار. كيف تخفى وأنت الظاهر، أم كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر؟ والله الموفق وبه أستعين.

  كانت (آنا ماري شميل) تقرأ هذه المناجاة الطويلة عن ظهر قلب بخشوع ورقة ملأتني بمشاعر لا أسطيع وصفها.

قلت لها: إن هذا الشيخ يذكر معاني جليلة.. فهل ترين كل هذه المعاني مستنبطة من النصوص المقدسة؟

قالت:  لو كان الوقت كافيا لاستدللت لكل كلمة قالها بنصوص كثيرة من القرآن والسنة..

إن الروحانية الإسلامية فيض من القرآن والسنة.. وهذه ميزة لم أجدها في أي دين من الأديان..

اذهب إلى كتابنا المقدس.. وحاول أن تجد ما يملأ روحك بما يلبي أشواقها إلى الله..

أنا موقنة أنك لن تجد إلا ما يملأ نفسك بالغثيان[8]..

التفتت إلي، وقالت: سأقرأ لك مناجاة أخرى لولي آخر من أولياء المسلمين ترى فيها كيف يستنبطون المعاني الجليلة من النصوص المقدسة.

إنه بديع الزمان النورسي الذي قال في بعض مناجاته:« يا ربي الرحيم.. لقد أدركتُ بتعليم الرسول، وفهمتُ من تدريس القرآن الحكيم، أن الكتبَ المقدسة جميعها، وفي مقدمتها القرآن الكريم، والأنبياءَ عليهم السلام جميعهم، وفي مقدمتهم الرسول الاكرم، يدلّون ويشهدون ويشيرون بالاجماع والاتفاق إلى أن تجليات الاسماء الحسنى ـ ذات الجلال والجمال ـ الظاهرةَ آثارُها في هذه الدنيا، وفي العوالم كافة، ستدوم دواماً أسطعَ وأبهرَ في أبد الآباد.. وأن تجلياتها ـ ذات الرحمة ـ وآلاءها المــشاهدة نمـاذجــها في هذا العـالم الفاني، ستثمر بابهى نور واعظم تألق، وستبقى دوماً في دار السعادة.. وأن اولئك المشتاقين الذين يتــملّونها - في هــذه الحيــاة الدنيا القصــيرة - بلهفــةٍ وشــوق سيرافـقـونـها بالمحبة والودّ، ويصحبونها الى الابد، ويظلون معها خالدين.. وأن جميع الانبياء وهم ذوو الارواح النيرة وفي مقدمتهم الرسول الاكرم، وجميع الأولياء وهم اقطاب ذوي القلوب المنورة، وجميع الصديقين وهم منابع العقول النافذة النيّرة، كل اولئك يؤمنون ايماناً راسخاً عميقاً بالحشر ويشهدون عليه ويبشرون البشرية بالسعادة الابدية، وينذرون اهل الضلالة بأن مصيرهم النار، ويبشرون أهل الهداية بأن عاقبتهم الجنة، مستندين الى مئات المعجزات الباهرة والآيات القاطعة، والى ما ذكرتَه انت يا ربي مراراً وتكراراً في الصحف السماوية والكتب المقدسة كلها من آلاف الوعد والوعيد. ومعتمدين على عزة جلالك وسلطان ربوبيتك، وشؤونك الجليلة، وصفاتك المقدسة كالقدرة والرحمة والعناية والحكمة والجلال والجمال وبناءً على مشاهداتهم وكشفياتهم غير المعدودة التي تنبئ عن آثار الآخرة ورشحاتها. وبناءً على ايمانهم واعتقادهم الجازم الذي هو بدرجة علم اليقين وعين اليقين.

فيا قدير ويا حكيم ويا رحمن ويا رحيم ويا صادق الوعد الكريم، ويا ذا العزة والعظمة والجلال ويا قهار ذو الجلال. انت مقدّس ومنزّهٌ، وانت متعال عن ان تُوصِم بالكذب كل أوليائك وكل وعودك وصفاتك الجليلة وشؤونك المقدسة.. فتكذّبهم، أو تحجب ما يقتضيه قطعاً سلطان ربوبيتك بعدم استجابتك لتلك الأدعية الصادرة من عبادك الصالحين الذين احببتهم واحبّوك، وحبّبوا انفسهم اليك بالايمان والتصديق والطاعة، فانت منزّه ومتعال مطلق عن أن تصدّق أهل الضلالة والكفر في انكارهم الحشر، اولئك الذين يتجاوزون على عظمتك وكبريائك بكفرهم وعصيانهم وتكذيبهم لك ولوعودك، والذين يستخفّون بعزة جلالك وعظمة ألوهيتك ورأفة ربوبيتك..

فنحن نقدّس بلا حد ولا نهاية عدالتَك وجمالك المطلقين ورحمتك الواسعة وننزّهها من هذا الظلم والقبح غير المتناهي..

ونعتقد ونؤمن بكل ما اوتينا من قوة بأن الآلاف من الرسل والأنبياء الكرام، وبما لا يعدّ ولا يحصى من الاصفياء والأولياء الذين هم المنادون اليك هم شاهدون بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين على خزائن رحمتك الأخروية وكنوز احساناتك في عالم البقاء، وتجليات اسمائك الحسنى التي تنكشف كلياً في دار السعادة..

ونؤمن ان هذه الشهادة حق وحقيقة، وان اشاراتهم صدق وواقع، وان بشاراتهم صادقة وواقعة.. فهؤلاء جميعاً يؤمنون بأن هذه الحقيقة الكبرى شعاع عظيم من اسم (الحق) الذي هو مرجع جميع الحقائق وشمسها، فيرشدون عبادك ـ باذن منك ـ ضمن دائرة الحق، ويعلمونهم بعين الحقيقة »

التفتت إلي، وقالت: بهذه الكلمات الرقيقة التي تفوح بعطر الربانية كان القديسون من المسلمين يسيرون ليملأوا أفواه العوام والخواص بذكر الله والتوجه لله والامتلاء بحب الله، وحب أوليائه.

ولذلك.. فإن الروحانية الإسلامية روحانية عامة حتى في حال ضعف المسلمين..

لقد رأيت بعض المسلمين من المنحرفين أو من السكارى قد يقاتل من أجل أن يسب ربه أو كتابه أو نبيه.. إنه يختزن في نفسه ـ مع كونه منحرفا في نظر الإسلام ـ إيمانا عظيما ومحبة عظيمة.. نعم غلبته شهواته.. ولكن الروحانية الإسلامية لا زالت تجذبه.. ولعلها في يوم من الأيام تستطيع أن تخلصه.

وهذا هو سر قوة الإسلام..

فقوة الإسلام في روحانيتة.. وقوة روحانيته في ربانيته.

سكتت قليلا، ثم قالت، وهي تعتصر ألما: إن المسيح يسب في بلادنا.. ويسخر منه، فيثور المسلمون ويتألمون.. أما نحن فلا ننبس ببنت كلمة..

أتدري لم؟

قلت:  لم؟

قالت:  لأن كتابنا المقدس لا يحمل أي احترام لله..

قارن ما سمعته من تلك الأدعية والمناجاة بما يذكه كتابنا المقدس من مناجاة الأنبياء.. لا الأولياء..

لقد جاء في سفر الملوك الأول ( 17: 20 ) عن إيليا النبي وهو يخاطب الله:« وصرخ إلى الرب وقال: أيها الرب إلهي، أأيضاَ إلى الأرملة التي أنا نازل عندها أسأت باماتتك ابنها »

وفي سفر الخروج ( 5: 22 ) عن موسى النبي وهو يخاطب الله فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: لِمَاذَا أَسَأْتَ إِلَى شَعْبِكَ يَارَبُّ؟ لِمَاذَا أَرْسَلْتَنِي؟ فَمُنْذُ أَنْ جِئْتُ لأُخَاطِبَ فِرْعَوْنَ بِاسْمِكَ، أَسَاءَ إِلَى الشَّعْبِ، وَأَنْتَ لَمْ تُخَلِّصْ شَعْبَكَ عَلَى الإِطْلاقِ »

وفي سفر إشعياء ( 63: 17 ) أن إشعيا النبي خاطب الله قائلاً:« لماذا أضللتـنا يا رب عن طرقك؟ قسيت قلوبنا عن مخافتك »

وفي مزمور [ 10: 1 ] أن داود النبي خاطب الله قائلاً:« يارَبُّ لماذا تقف بعيداً؟ لماذا تختفي في أزمنة الضيق؟»

بهذه الوقاحة يخاطب الأنبياء في الكتاب المقدس الله.. فكيف تريد من عوامنا أن يخاطبوا الله أو المسيح أو أي نبي من الأنبياء.

2 ـ العقلانية

قلت:  حدثتني عن الضابط الأول للروحانية الإسلامية.. هو ضابط الربانية، فحدثيني عن الضابط الثاني.. والذي سميته (العقلانية)

قالت:  ميزة الإسلام الكبرى أنه دين ينسجم مع جميع لطائف الإنسان.. مع عقله.. وقلبه.. وروحه.. وسره.. بل ينسجم مع جسده.. ومجتمعه.. والكون جميعا[9].

ولذلك، فالعقلانية إطار من الأطر التي تحكم جميع السلوكات والعقائد حتى لا يقع العقل في الخرافة.. ولا يقع السلوك في الشعوذة.

وهذا بخلاف جميع ما عرفته من أديان ومذاهب وأفكار.. فكلها يحوي مغالطات عجيبة لا تستقيم تحت موازين العقل.

سأضرب لك مثالا على الدجل الذي تمارسه الكنيسة لتكسب أتباعا جددا..

هي لا تقنعهم بالعقل.. ولا تحدثهم عن الله.. وإنما تسارع إلى ملأ جانب الشعوذة والخرافة التي يعشقها العوام.. وتنفر منها العقول.

لا شك أنك تعرف (الرمح المقدس)

قلت: لم أسمع بها.

قالت: إنها من قصة من قصص الحروب الصليبية التي استطاع رجال ديننا بواسطتها إقناع عقول المخلصين لإسالة أنهار دماء المسلمين[10].

لقد دفع الصليبيون من أجل عبور آسيا الصغرى ثمناً باهظاً، إذ فقدوا أفضل جنودهم وخيرة عساكرهم، بينما استولى اليأس والفزع على البقية الباقية..

وبدأ الخوف من تفكك الجيش وفرار الجنود يساور القادة، فعمدوا إلى بعض الحيل الدينية لصد هذا الخطر وربط الجنود برباط العقيدة.. ومن تلك الحيل التى روجوا لها ما رواه المؤرخون عن ظهور المسيح والعذراء أمام الجنود الهيابين ووعدهم بالصفح عن الخطايا والخلود فى الجنة إذا ما استماتوا فى معاركهم ضد المسلمين..

غير أن هذا الأسلوب النظرى لم يلهب حماس الجنود، ولم يحقق الغرض الذى ابتدعه الصليبيون من أجله، فكان لا بد من أسلوب آخر ينطوى على واقعة مادية يكون من شأنها إعادة الإيمان إلى القلوب التى استبد بها اليأس، وتقوية العزائم التى أوهنتها الحرب، وهنا أذيع بين الجنود قصة اكتشاف الرمح المقدس..

تلك الواقعة التى روى تفاصيلها المؤرخ (جيبون) فضلاً عن غيره من المؤرخين المعاصرين. قال: إن قساً يدعى بطرس بارتلمى من التابعين لأسقفية (مارسيليا) منحرف الخلق ذا عقلية شاذة، وتفكير ملتو معقد زعم لمجلس قيادة الحملة الصليبية، أن قديساً يدعى (أندريه) زاره أثناء نومه، وهدده بأشد العقوبات إن هو خالف أوامر السماء، ثم أفضى إليه بأن الرمح الذى اخترق قلب المسيح مدفون بجوار كنيسة القديس بطرس فى مدينة (انطاكيا)، فروى (بارتلمى) هذه الرؤيا لمجلس قيادة الجيش، وأخبرهم بأن هذا القديس الذى طاف به فى منامه قد طلب إليه أن يبادر إلى حفر أرض المحراب لمدة أيام ثلاثة، تظهر بعدها (أداة الخلود) التى تخلص المسيحيين جميعاً، وأن القديس قال له: ابحثوا تجدوا.. ثم ارفعوا الرمح وسط الجيش، وسوف يمرق الرمح ليصيب أرواح أعدائكم المسلمين..

وأعلن القس (بارتلمى) اسم أحد النبلاء ليكون حارساً للرمح، واستمرت طقوس العبادة من صوم وصلاة ثلاثة أيام دخل فى نهايتها اثنا عشر رجلاً ليقوموا بالحفر والتنقيب عن الرمح فى محراب الكنيسة.

لكن أعمال الحفر والتنقيب التى توغلت فى عمق الأرض اثنى عشر قدماً لم تسفر عن شىء. فلما جن الليل أخلد النبيل الذى اختير لحراسة الرمح إلى شىء من الراحة، وأخذته سنة من النوم، وبدأت الجماهير التى احتشدت بأبواب الكنيسة تتهامس..!..

فاستطاع القس (بارتلمى) فى جنح الظلام أن ينزل إلى الحفرة، مخفياً فى طيات ثيابه قطعة من نصل رمح أحد المقاتلين العرب، وبلغ أسماع القوم رنين من جوف الحجرة، فتعالت صيحاتهم من فرط الفرح، وظهر القس وبيده النصل الذى احتواه بعد ذلك قماش من الحرير الموشى بالذهب، ثم عرض على الصليبيين ليلتمسوا منه البركة، وأذيعت هذه الحيلة بين الجنود وامتلأت قلوبهم بالثقة، وقد أمعن قادة الحملة فى تأييد هذه الواقعة بغض النظر عن مدى إيمانهم بها أو تكذيبهم لها.

وقد روى التاريخ الكثير من مثل هذه الخرافات.. وبمثلها تنتشر المسيحية للأسف.. فنحن لا ننشر ديننا إلا بطرد الشياطين.. هذا هو منهجنا العقلي الذي نرحل به إلى الله..

كنت أقرأ قبل أيام نشرة صغيرة، على أحد وجهيها صورة العذراء وهى تقطر وداعة ولطفاً، وعلى ذراعها الطفل الإله يسوع يمثل البراءة والرقة.. أما الوجه الآخر للصورة فقد تضمن هذا الخبر تحت عنوان (محبة الآخرين وخدمتهم)، وتحته هذه الجملة « حسبما تتاح لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع » (غل 6: 10).. كانت السيدة زهرة ابنة محمد على باشا بها روح نجس، ولما علم أبوها أن (الأنبا حرابامون) أسقف المنوفية قد أعطاه الله موهبة إخراج الأرواح النجسة استدعاه. ولما صلى لأجلها شفيت فى الحال، فأعطاه محمد على باشا صرة بها أربعة آلاف جنيه، فرفضها قائلاً: إنه ليس فى حاجة إليها لأنه يعيش حياة الزهد، وهو قانع بها »[11]   

بهذا ومثله  تتعامل الروحانية المسيحية..

لقد كان القديسون يرقون إلى مرتبة القداسة.. لا بسبب سلوكهم الطيب وروحانيتهم الرفيعة، وإنما بسبب المعجزات التي تظهر على أيديهم[12].

لقد كان باستطاعة أي محتال  أن يترقى في منصبه بالقيام بأي عمل تجهل العقول الساذجة علته الحقيقية مدعياً أن ذلك هبة من الروح القدس له، وإذا كان التاريخ يذكر فزع الإمبراطور ( شارلمان ) وحاشيته من الساعة التي أهداها إليه الرشيد ظانين أن بها قوى خفية من الجن والشياطين، فما بالك بعامة الشعب من الفلاحين والرعاة.

لن أذكر لك شواهد على هذا من القرون الوسطى.. فشواهدها في ذلك العصر المظلم لا تكاد تنتهي.. وإنما سأذكر لك بعض ملامح الخرافات التي لا تزال كنيستنا تمارس نشاطها على أتباعها في العامل الغربي ذاته.

يقول فريزر:« معظم الفلاحين في فرنسا لا يزالون يعتقدون أن القسيس يملك على العناصر قوة خفية لا تقاوم وأنه حين يتلو البعض الصلوات المعينة بالذات التي لا يعرفها سواه والتي لا يحق لغيره أن يرتلها فإنه يستطيع في حالة الخطر الداهم أن يبطل لفترة معينة فعل القوانين الأبدية للعامل الفيزيقي أو حتى يقلبها تماما »

وفي مناطق أخرى يعتقد الناس « أن القسيس يملك القدرة على تشتيت العواصف، وإن لم يكن لكل القساوسة مثل هذه الملكة، ولذا فانه حين يتغير راعى الكنيسة في بعض تلك القرى يبدى أتباع الأبرشية كثيراً من التلهف لمعرفة ما إذا كان الراعى الجديد يتمتع بهذه السلطة كما يسمونها، وعلى ذلك فبمجرد أن تظهر أدنى بادرة بهبوب إحدى العواصف الشديدة فإنهم يخضعونه للاختبار فيطلبون إليه القيام ببعض الشعائر والترتيل ضد الغيوم المتكاثفة فإذا جاءت النتائج محققة لآمالهم ضمن الراعي الجديد لنفسه عطف أتباع الكنيسة واحترامهم »

وهناك قداس خاص يستعمله القساوسة في الأعمال الانتقامية يتحدث عنه فريزر بقوله:« لا يقام هذا القداس إلا في كنيسة متهدمة أو مهجورة حيث تنعق البوم وتمرح الخفافيش وقت الغسق وتأوي إليها جماعات الغجر في الليل، وحيث تقبع الضفادع البرية تحت مذبحها المدنس، فهناك يأتي ذلك القسيس الشرير بالليل ومعه عشيقته الفاجرة الخليعة وحين ترسل الساعة أولى دقاتها معلنة الحادية عشر يبدأ يهمهم في تلاوة القداس ابتداء من آخره إلى أوله بحيث يفرغ منه يحين تبدأ دقات الساعة تعلن منتصف الليل وتقوم عشيقته بمساعدته في ذلك، أما القربان الذي يباركه فلابد أن يكون أسود اللون كما أنه لا يتناول النبيذ، ولكنه يشرب بدلا منه بعض الماء من بئر سبق أن ألقيت فيها جثة طفل مات قبل تعميده، ثم يرسم علامة الصليب ولكن على الأرض وبقدمه اليسرى ويقوم بأداء كثير من الأعمال الأخرى التي لا يستطيع أي مسيحي أن يراها دون أن يصيبه العمى والصمم والبكم بقية حياته »

وفي سنة 1893م حدثت في جزيرة صقلية حادثة تصور الموضوع أبلغ تصوير فقد كانت الجزيرة تمر بمحنة رهيبة بسبب الجفاف، وكان الجدب قد استمر ستة أشهر متصلة تناقصت كميات الطعام بسرعة وأنتاب الناس ذعر شديد فجربوا كل الطرق المعترف بها للحصول على المطر، خرجت جموعهم من منازلهم وأحاطوا بالصور والتماثيل المقدسة يتوسلون إليها بترتيل الصلوات وإضاءة الشموع في الكنائس طيلة الليل والنهار وعلقوا على الأشجار سعف النخيل الذي سبق لهم أن باركوه في (أحد السعف)[13] ونثروا في الحقول ( الكناسة المقدسة ) وهى التراب الذي كنسوه من الكنائس في ذلك اليوم، فلم يجد ذلك شيئاً وحملوا الصلبان على أكتافهم وساروا حفاة الأقدام عراة الرؤوس وجلد بعضهم بعضاً بالسياط ولكن دون جدوى.

وأخيراً لجأوا إلى القديسين وتجمعوا حول القديس فرانسيس الذي اعتادوا حسب اعتقادهم أن ينالوا المطر ببركته فأقاموا له الصلوات والترانيم والزينات لكن جهودهم كلها ذهبت هباء فنبذوا معظم القديسين حتى أنهم ألقوا بالقديس يوسف في إحدى الحدائق ليجرب بنفسه الحال التي وصل إليها الناس واقسموا أن يتركوه هناك في الشمس حتى يأتيهم المطر، وأداروا وجوه بعض القديسين إلى الحائط كما يفعل المدرس بالتلاميذ الأشقياء، وجردوا بعضهم من ملابسهم الفاخرة وقذفوهم بأقذع السباب والشتائم أما القديس ميخائيل رئيس الملائكة ـ حسب عقيدتهم ـ فقد نزعوا أجنحته الذهبية ومزقوها ووضعوا مكانها أجنحة ورقية في بعض المناطق قيد الناس قس بلدته وتركوه عارياً وأخذوا يهتفون إليه بغضب ( المطر أو حبل المشنقة )[14]

ومن الخرافات التي لا تزال عالقة بأذهان النصارى إلى اليوم خرافة (تجلى العذراء) التي يثيرونها حيناً بعد أخر.. كما أن هناك عادت غربية شائعة اليوم أصلها خرافات كنسية فمثلاً التشاؤم من الرقم (13) أصله أن يهوذا الذي دل على المسيح هو التلميذ الثالث عشر للمسيح فكان ذلك مصدر شؤم للكنيسة وأتباعها حتى أنه عند ترقيم المنازل في المدن الغربية يرفض بعضهم وضع هذا الرقم على منزله ويضع مكانه 12ب.

قلت:  هذه عقلانيتنا.. فحدثيني عن عقلانية الروحانية الإسلامية.

قالت: إن القرآن الذي هو مصدر المسلمين الأول يقيم بناء روحيا عميقا على أسس العقل.. وعلى أسس العقل وحده..

ولهذا نجد أعلى صفات المؤمنين في القرآن هي صفة اليقين.. واليقين هو بلوغ المعرفة درجة من اليقين العقلي، بحيث تسري بعدها إلى الجوارح وسائر اللطائف.

فالفلاح الذي أخبر عنه القرآن الكريم عند ذكره للطائفة المؤمنة في سورة البقرة مرتبط باليقين:﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ (البقرة:4)

وأئمة الهدى العارفين بالله الذين جعلهم الله نجوما لهداية الخلق هم الذين زاوجوا بين الصبر واليقين، أو المجاهدة والمعرفة ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة:24)

وآيات الله بأنواعها المختلفة لا يفهمها ولا يصدقها ولا يقدرها حق قدرها سوى الموقنين ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (البقرة:118)

ومن هذه الآيات آيات الله الكونية المتجلية في الأرض ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ (الذريات:20)، أو المتجلية في الإنسان والكائنات الحية ﴿ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (الجاثـية:4)، فكل هذه الآيات لا يدركها سوى الموقنين.

وحقائق القرآن التي هي بصائر البصائر لا يراها ولا يعرفها ولا يهتدي بها ويرحم غير الموقنين ﴿ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (الجاثـية:20)

والمعارف المرتبطة بالله لا يفهمها، أو يذعن لها، أو يستشعر سموها سوى الموقنين، ﴿ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ (الدخان:7)

وأحكام الله لا يدرك حكمها، ويستكنه أسرارها، ويعرف وجوه المنافع والمصالح فيها سوى الموقنين ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة:50)، والآية تشير إلى أن إدراك الحسن المتغلغل في ثنايا الأحكام لا يقلب صفحاته سوى الموقنين، ولعله لأجل هذا لم يتصد للبحث في أسرار الشريعة ومقاصدها سوى من جمعوا بين العلم والتقوى، أو بين اليقين والإرادة.

ومن هذه المنطلقات القرآنية أجمع العارفون من المسلمين على أن اليقين هو البذرة التي تنبت منها جميع المحاسن التي ينضح بها العرفان.

فالمعرفة اليقينية هي روح الإيمان ـ كما يعبر ابن القيم ـ وهي « من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون وفيه تنافس المتنافسون وإليه شمر العاملون وعمل القوم إنما كان عليه وإشاراتهم كلها إليه » وهو « روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره »    

وقد أجمعوا على اعتبارها المركب الذي يحمل السالكين إلى الله، وبقدر سلامة المركب يكون الوصول.

وقد قال أبو سعيد الخراز معبرا عن هذا الدور:« العلم ما استعملك واليقين ما حملك »، فلولا اليقين ما سار ركب إلى الله ولا ثبت لأحد قدم في السلوك إلا به.

ويشير الجنيد إلى أن اليقين لا يعني ما يتصوره البعض ـ ممن يشحنون حياة العارفين والأولياء بالكرامات مع ما قد يلابسها من خرافات وأساطير ـ فالموقن لا يحتاج لأن يمشي على الماء ليثبت صحة يقينه :« قد مشى رجال باليقين على الماء ومات بالعطش من هو أفضل منهم يقينا »    

وهذه النصوص وغيرها تشير إلى أهمية اليقين وارتباطه بالروحانية.. وفي نفس الوقت ارتباطه بالعقلانية.

قلت:  فهمت علاقة اليقين بالروحانية.. ولكني لم أفهم علاقته بالعقلانية.

قالت:  أول مستقبل للحقائق هو العقل.. فإذا نضجت الحقائق في العقل.. وتقبلها سرت إلى الروح.. هذا هو منطلق الروحانية عند المسلمين..

أما منطلق الروحانية عندنا.. فهو أن تتيقن الروح بما لا يعقل العقل.. وبذلك يفرض على العقل التسليم بما لا يعلم وما لا يعقل.

قلت: ولكني قرأت عن كثير من أولياء المسلمين ذمهم للعقل، واعتقادهم لقصوره، فقد سئل النوري:« ما الدليل على الله؟ قال:« الله » ، قال: فما العقل؟  قال: العقل عاجز، والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله.

وقد وضع ابن عطاء العقل الذي يعتمد عليه العالم في محله عندما قال:« العقل آلة للعبودية لا للإشراف على الربوبية »

وعبر آخر عن ذلك بقوله:« العقل يجول حول الكون فإذا نظر إلى المكون ذاب »

وعبر أبو بكر القحطبي على استحالة التعرف على الله بالعقل بقوله:« من لحقته العقول فهو مقهور إلا من جهة الإثبات ولولا أنه تعرف إليها الألطاف لما أدركته من جهه الإثبات »

وقد بعضهم شعرا معبرا عن عجز العقل:

من رامه بالعقل مسترشدا     سرحه في حيرة يلهو

شاب بالتلبيس أسراره     يقول من حيرته هل هو

وقال بعضهم: لا يعرفه إلا من تعرف إليه، ولا يوحده إلا من توحد له، ولا يؤمن به إلا من لطف به، ولا يصفه إلا من تجلى لسره، ولا يخلص له إلا من جذبه إليه، ولا يصلح له إلا من اصطنعة لنفسه.

قالت: صدق كل هؤلاء.. فلم ينطقوا إلا الحقيقة..

قلت:  فكيف يستقيم ما ذكرته عن انبناء الجانب الروحي من الإسلام على العقل، وهؤلاء ـ أعمدة الروح في الإسلام ـ يقولون ما يقولون؟

قالت: هؤلاء يشيرون إلى جانبين كلاهما خطر على الروحانية الصرفة:

أما أولاهما، وهي أخطرهما، فهي محاولة حصر الله بحدود العقل.. أو محاولة العقل التعرف على الله من خلال العقل المجرد.

وأما الثانية، فهي حصر العلاقة بالله في الجانب العقلي المجرد كما فعلت الفلسفة من غير تفاعل الوجدان.

قلت:  سلمت بأن الثانية تنافي الروحانية.. ولكن الأولى لا أرى أنها تنافيها.

قالت:  بل تنافيها.. لأن للعقل حدودا لا يستطيع أن يتجاوزها.. سأضرب لك مثالا يوضح لك ذلك:

أرأيت لو أن أحدهم دق عليك الباب، ولم تكن تعرفه، هل تستطيع ـ من خلال الاستدلال العقلي ـ أن تستدل على طوله ولونه واسمه ونسبه؟

قلت:  لا.. فعقلي أقصر من أن يعرف ذلك.

قالت:  ولكنك تستطيع أن تعرف أشياء من خلال هذا التصرف.

قلت:  أجل..

قالت:  فهذا هو دور العقل.. فهو يفتقر لمعرفة التفاصيل لأن يفتح له الباب حتى يتعرف على التفاصيل.

قلت:  فقد فتح لنا الباب بالمسيح.

قالت:  نعم.. فتح الباب بالمسيح.. ولكنا ـ معشر المسيحيين ـ أغلقنا باب المسيح، وفتحنا باب بولس.. وأبواب المجامع المقدسة.. فسقطنا في الخرافة.

قلت:  فكيف نرجع إلى باب المسيح؟

قالت:  بباب محمد.. فلا يمكن أن نفهم المسيح دون أن نمر على باب محمد.

3 ـ الإنسانية

قلت:  حدثتني عن ضوابط الروحانية الإسلامية من الربانية والعقلانية.. فحدثيني عن الضابط الثالث.. الإنسانية.

قالت: لقد خلقنا الله بشرا.. وطلب منا أن نعبده، ونحن بشر.. وليس من اللائق، ولا من الأدب، ولا من الحكمة أن نخرج من البشرية عندما نريد أن نمارس الروحانية..

قلت:  لم أفهم هذا.. فمع أننا بشر إلا أن الكمال في أن نرتقي عن بشريتنا.

قالت:  من غير أن نخرج عنها.

قلت:  بل لو استطعنا الخروج عنها لفعلنا.. فذلك هو الكمال الأكبر.

قالت:  إن هذا الكلام يحمل احتقارا للبشرية.. لأن من يريد أن يخرج من شيء، ليدخل في غيره.. لا يريد أن يخرج منه إلا لاحتقاره له، واعتقاده لنقصه.

وهذه ميزة للإسلام تفصله عن كثير من الديانات والفلسفات التي تحتقر الإنسان.. فهو يكرم الإنسان، ويضعه في المحل الذي خلقه الله له.

إننا ـ معشر المسيحيين ـ لما احتقرنا الإنسان ربأنا بالمسيح أن يكون إنسانا.. فلذلك رفعناه إلى مقام الإلهية..

أما قرآن المسلمين فهو يصرح في كل لحظة بأن محمدا وسائر الأنبياء والأولياء ليسوا إلا بشرا.. يقول القرآن:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ (الكهف:110).. ويقول:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ (فصلت:6)

ويقول عن سائر الأنبياء:﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (ابراهيم:11)

قلت:  وعيت هذا.. ولكن ما علاقته بالروحانية؟

قالت: لهذا علاقة وطيدة بالروحانية الإسلامية.. فأهم خصائص الإسلام أنه دين الفطرة.. والفطرة هي الطبيعة التي خلق عليها الإنسان.. أو النظام الذي يتحكم في الإنسان.. وهذه الفطرة لا ينبغي تدنيسها ولا تحريفها.. بل لا ينبغي للروحانية أن تحرف هذه الفطرة عن مسارها.

 ففي الإسلام ـ كما ذكرت لك ـ تلتقي الروحية مع المادية، ويجتمع الدين مع الدنيا، وتتشابك أشواق الروح مع الغرائز التي خلقت في الإنسان، ولم يكن له أن يخرج عنها.

وهذا بخلاف كل ما نعرفه من فلسفات وأديان ومذاهب [15]..

ففي اليهودية تطغي المادية المحضة.. فلا تكاد تجد للروحانية أثرا، ولا تكاد ترى للآخرة مكانا، حتى الوعد والوعيد لا يتعلقان إلا بأمور دنيوية.

فالخصب والصحة والثراء وطول العمر، والنصر على الأعداء ونحوها من المكاسب الدنيوية الحسية العاجلة، هي المثوبات التي تبشر بها التوراة من نفذ أحكام الناموس، وأضداد هذه الأمور من الجدب والمرض والموت والوباء والفقر والهزيمة ونحوها للذين يعرضون عن الشريعة.

ليس عليك لتدرك هذه الحقيقة سوى أن تقرأ هذه النصوص ( احترموا آباءكم وأمهاتكم لتعمروا طويلا في الأرض..).. (اعبدوا ربكم الإله الأزلي، وهو يبارك خبزكم وماءكم، ويبعد عنكم العلل والأدواء.. وسيطيل أعماركم.. ).. ( إذا أطعتم أمري وحفظتم وصيتي فسأبعث عليكم الأمطار في أوقاتها، فتخرج الأرض ثمرتها والأشجار فاكهتها.. )

أما المسيحية.. ففيها ـ على حسب الأناجيل ـ دعوة قوية إلى إلغاء قيمة هذه الدنيا، واعتبار هذه الأرض بمثابة منفى للإنسان، وطلب النجاة والسعادة هناك، في العالم الآخر، حيث تقوم مملكة السماء، فمن أراد ملكوت السماء، فليعرض عن هذه الأرض، ومن أراد العالم الآخر، فليرفض هذا العالم أو هذه الدنيا، وهكذا لا تحس في الإنجيل أن لك في الدنيا نصيبا، وأن لك في طيبات الحياة حظا، ولا تشعر أن لبدنك عليك حقا، وأن لك في عمارة الأرض دورا.

ففي الإنجيل:« لا يدخل غني ملكوت السموات، حتى يدخل الجمل في سم الخياط.. ».. وقال المسيح لشاب آمن به ودخل في دينه:« إذا أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع ما تملك واعطه للفقراء، ثم تعال واتبعني ».. وقال لتلاميذه:« وأنتم فلا تبحثوا عما تأكلون وما تشربون ولا تهتموا لذلك، لأن هذه الأشياء إنما يبحث عنها غير المؤمنين »

ولهذا توجهت الروحانية المسيحية نحو التقشف والتزهد وإهمال الحياة الأرضية.. ولم تقف عند الحد الذي جاء به الإنجيل، بل ابتدعت نظام الرهبانية، بما فيه من قسوة على النفس، وتحريم للزواج، وكبت للغرائز، ومصادرة للنزوع إلى الزينة والطيبات من الرزق.

وانتشر هذا النظام العاتي، وكثر أتباعه، وأصبح مما يتعبدون به لله ويتقربون به إليه: البعد عن النظافة والتجمل، واعتبار العناية بالجسم ونظافته ونوازعه رجسا من عمل الشيطان.

لقد ذكر الأستاذ (ليكي) في كتاب (تاريخ أخلاق أوروبا) صورا لجموح الرهبانية وغلوها، تقشعر منها الجلود، وتفزع القلوب، وتدهش العقول، وهي قليل من كثير جدا.. لقد قال هذا المؤرخ:« زاد عدد الرهبان زيادة عظيمة، وعظم شأنهم واستفحل أمرهم واسترعوا الأنظار وشغلوا الناس، ولا يمكن الآن إحصاؤهم بالدقة، ولكن مما يلقي الضوء على كثرتهم وانتشار الحركة الرهبانية، ما روى المؤرخون أنه كان يجتمع أيام عيد الفصح خمسون ألفا من الرهبان، وفي القرن الرابع المسيحي كان راهب واحد يشرف على خمسة آلاف راهب، وكان الراهب (سرابين) يرأس عشرة آلاف، وقد بلغ عددهم في نهاية القرن الرابع عدد أهل مصر »

قلت: ولكن مع ذلك.. فقد كان نظام الرهبانية من أرقى الأنظمة الروحية في العالم.. بل إن بعض مفكرينا يرى أن النظام الروحي في الإسلام مستمد من نظام الرهبانية عندنا.

قالت: قد يكون من المسلمين من وقع فيما وقع فيه رهباننا.. ولكنه بذلك انحرف عن الإسلام انحرافا شديدا.. ذلك أن نظام الرهبانية يتنافى تماما مع تعاليم الإسلام.

فقد اعتبر الإسلام الرهبانية بدعة خطيرة في الدين، ففي القرآن عند ذكر التحريف الذي حصل للمسيحية:﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (الحديد:27)

ولهذا، فإن الروحانية الإسلامية تنطلق من مزازين دقيقة تجمع بين الروح والجسد، وبين الفرد والمجتمع.. وبين الدنيا والآخرة.. وهي بذلك تجمع للإنسان كل متطلبات إنسانيته.. وهي بذلك تختلف تمام الاختلاف عن الرهبانية التي انحرفت لها الكثير من الأديان والمذاهب والفلسفات.

فالذي يقدم الروح على الجسد يحرم الإنسان من جزء أصيل منه وهو جسده.

والذي يقدم الفرد يبتر الإنسان من البيئة التي خلقها الله له، وخلقه لها، ويجعله سلبيا لا هم له إلا ذاته.

والذي يقدم الآخرة على الدنيا يحرم الإنسان من فترة من فترات الزمن خلقها الله له، وخلقه لها.

قلت: هذا كلام عام أريد تفاصيله.

قالت: لن أطيق أن أذكر لك كل تفاصيله، ولكني سأكتفي بعرض شروط الرهبانية على النصوص المقدسة للمسلمين لتعرف موقفها منها.

فقد اشترط القائمون على نظام الرهبانية شروطاً لا بد من تحقيقها في الراهب.. لا يكون راهبا إلا بها.

منها العزوبة.. وهذا أهم شروط الرهبانية، وقد ورد في إنجيل متى:« يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات من استطاع أن يقبل فليقبل »(متى: 19: 13 )

إضافة إلى أن التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، واحتقار وترذيل الصلة الجنسية وإن كانت حلالاً، من أساسيات المسيحية، حتى بالنسبة لغير الرهبان، يقول (سان بونافنتور) أحد رجال الكنيسة:« إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائنا بشرياً، بل ولا كائنا حياً وحشياً، وإنما الذى ترون هو الشيطان بذاته والذى تسمعون هو صفير الثعبان »[16]

وكان من المشاكل المستعصية على الكنيسة مشكلة زواج رجال الدين غير الرهبان أو تسريهم، و( كانت الكنيسة منذ زمن بعيد تعارض زواج رجال الدين بحجة أن القس المتزوج يضع ولاءه لزوجه وأبنائه في منزلة أعلى من إخلاصه للكنيسة ).. (وأنه سيحاول أن ينقل كرسيه أو مرتبته لأحد أبنائه يضاف إلى هذا أن القس يجب أن يكرس حياته لله وبنى الإنسان، وأن مستواه الأخلاقي يجب أن يعلو على مستوى أخلاق الشعب وأن يضفي على مستواه هذه المكانة التي لا بد منها لاكتساب ثقة الناس وإجلالهم إياه »[17].. « بوجوب التبتل على رجال الدين وتطليق زوجات المتزوجين منهم وكان لهذا الأمر آثار امتدت إلى القرن السادس عشر وانتهت بانتصار الكنيسة»[18]

وإذا كان هذا هو الحال مع غير الرهبان، فلنتصور كيف تكون الحال معهم.

وهذا الشرط يتناقض تماما مع ما دعا إليه الإسلام من حث على الزواج وترغيب فيه، فقد وردت النصوص القرآنية الكثيرة التي تأمر بالزواج وتحث عليه.. ففي القرآن:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم:21) ففي هذه الآية توجيه للأنظار للنعم التي وضعها الله في الزواج، وكيف هيأ الزوجين لبعضهما لتنتج عن ذلك المودة والرحمة.

وفي القرآن:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب( (الرعد: 38).. ففي هذه الآية إخبار بأن الزواج من سنن المرسلين، وفيه رد بليغ على الممتنعين عنه بحجة التعبد والتبتل.

وفي القرآن:﴿ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (النور:32) وفي هذه الآية حث على تزويج من للمسلم ولاية عليهم، ونهي عن جعل الفقر حاجزا بين المؤمن والزواج.

وفي القرآن:﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (النساء:3)  ففي هذه الآية إجازة للتعدد في إطاره الشرعي الصحيح، وتنبيه للعلة من إجازته.

وعلى ضوء هذا الهدي القرآني جاءت النصوص الحديثية الكثيرة ترغب في الزواج، بل تعتبره من الأعمال الصالحة، ومن سنن الصالحين، ففي الحديث:« ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيراً من زوجة صالحة , إن أمرها أطاعته , وإن نظر إليها سرته , وان أقسم عليها أبرته , وان غاب عنها حفظته في نفسها وماله»[19]،فقد اعتبر محمد في هذا الحديث الزوجة الصالحة للرجل أفضل ثروة يكتنزها من دنياه ـ بعد الإيمان بالله وتقواه ـ وعدها أحد أسباب السعادة.

وفي حديث آخر:« الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة »[20]

وفي حديث آخر من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة , والمسكن الصالح , والمركب الصالح »[21]

وفي حديث آخر:« يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»[22]

وفي حديث آخر عن أنس بن مالك أنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي r يسألون عن عبادة النبي r، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي r قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا،وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر،وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله r  إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني»[23]

قال ابن حجر معلقا على هذا الحديث:«   فيه إشارة إلى رد ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره , فأعلمهم أنه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشددون وإنما كان كذلك لأن المشدد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد فأنه أمكن لاستمراره وخير العمل ما داوم عليه صاحبه»[24]

بل إن محمدا فوق هذا ذكر أمورا من سنن المرسلين كلها تناقض ما تتطلبه الرهبانية من بينها الزواج، فقال:«  أربع من سنن المرسلين الحياء والتعطر والسواك والنكاح »[25]

قلت: هذا الشرط الأول للرهبانية، وقد علمت شدة معارضة الإسلام له.. فما الشرط الثاني؟

قالت: التجرد الكامل عن الدنيا.. فعلى الراهب ـ حتى يصير راهبا ـ أن يعتزل عزلة نهائية عن المجتمع، ويقطع النظر عن كل أمل في الحياة.

قلت: لقد كتب المسلمون في العزلة كتبا.. بل مارس الكثير من علمائهم هذه العزلة.. بل لهم ـ إلى الآن ـ ما يسمى بالخلوات التي يختلون فيها للعبادة.

فإن قلت: إن كل ذلك حادث.. فقد شرع الإسلام الاعتكاف، وهو نوع من العزلة.

قالت: فرق عظيم بين العزلة التي دعا إليها الإسلام، واعتبرها مدرسة تربوية تهذيبية، وبين عزلة الرهبان.

قلت: فما الفرق بينهما؟

قالت: العزلة التي مارسها الربانيون من المسلمين هي عزلة تربوية تشبه مكوث المريض في المستشفى مدة معينة يحددها طبيبه، ويحددها نوع العلاج الذي يريد ممارسته.

وهي لا تعني الانفراد في الجبال والكهوف عن الناس.. اللهم إلا في أحوال الفتن التي يفر فيها المؤمن بدينه.

قلت: فما الشرط الثالث من شروط الرهبانية؟

قالت: عدم الاهتمام بالمطالب الجسدية حتى الضروري منها كالملابس والنظافة..

يقول صاحب كتاب (المشكلة الأخلاقية والفلاسفة) لنقرأ هذا السفر الطريف ( محاكاة المسيح)، إنه سفر أكبر أسفار التبتل المسيحي، ولنطلب بين صحائفه ومظاهر الحياة المسيحية بمعناها الصحيح، وأن ما نجده لمعبر عن الحال أبلغ عبارة: إحتقار أساسى لكل علم، حتى يشمل ذلك علم الإلهيات، واحتقار أصيل لكل ما نسميه خيرات هذا العالم: الثراء والشرف الاجتماعي، حتى المركز الوسط، وإنه لحتم علينا أن نستشعر دائما التواضع والندم وأن نمارس عملياً على الدوام التضحية وكل مظهر تملية الرحمة وأن نجمع حواسنا في صمت وذهول تام وتأمل دينى ينسى المرء فيه كيانه، يجب أن نقتل فينا كل ميول دنيوي، يجب أن يموت عالم الرغبة، يجب أن نبدأ من هذا العالم الزائل ما سوف يكون لنا الوجود الأبدى » 

ثم يعلق على هذه التعاليم قائلاً:« عظمة وعلاء، ولكنه قضاء قاس على الإنسانية، وإن التطبيق الكامل لمثل تلك المبادئ ليمكن أن يملأ الأرض بأديرة فيها الرجال من جهة والنساء من جهة أخرى ينتظرون في طهارة وتأمل الزوال النهائى للنوع الإنساني »[26]  

قلت: فما موقف الإسلام من هذا؟

قالت: للجسد في الإسلام قيمة لا تقل عن قيمة الروح.. فلذلك يذكر في القرآن باعتباره من نعم الله على عباده.. ففي القرآن:﴿ قالَ لَهُ صاحِبهُ وَهوَ يُحاورهُ أكفرتَ بالَّذي خَلَقَكَ مِنْ تُراب ثُمَّ مِنْ نُطفَة ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً (الكهف: 37).. وفيه:﴿ هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذلولاً فامشُوا فِي مناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيهِ النُّشُورُ ﴾ (الملك:  15)..وفيه:﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقناكُمْ وَلا تَطْغَوا فِيهِ فَيُحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ﴾ (طه:81 )

فهذه الآيات القرآنية تحمل بين طيّاتها معاني تشريعية كثيرة تبين قيمة الجسد وأهمية المحافظة عليه [27]..

فهي تبين أن الإنسان بتكوينه الجسماني، وبطبيعته البدنية، جزء من عالم الطبيعة، وأنّ الأرض هي مصدر نشوئه وتكوينه.. فهو ابن الأرض، ونتاجها الحي المترقي في تكوينه وأجهزته الجسمية المختلفة:﴿ أكفرتَ بالَّذي خلقكَ مِن تُراب

وهي تبين أن هذا الجسد الذي نشأ من الأرض لا يستغني بطبيعته عن إمداد الأرض لوجوده، من الطعام والشراب واللباس والسكن.. ﴿ وَما جَعَلناهُمْ جَسداً لا يأكُلون الطَّعامَ ﴾ (الأنبياء: 8).

وهي تبين أن التوافق في التكوين الطبيعي بين الإنسان والطبيعة تام ومتناسق، فكلّ ما يحتاجه الإنسان لاستمرار الحياة متوفر في عالم الطبيعة ومتنام فيها.. ﴿ وَباركَ فيها وقدّرَ فيها أقواتَها في أربعةِ أيّام سواءً للسّائلينَ ﴾ (فصّلت: 10).. ﴿ جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذَلولاً ﴾ (الملك: 15)

وهي تبين أن كلّ ما في الأرض، من خيرات وطيّبات، حلال طيّب ومباح لكافة بني الإنسان، دون تفريق أو تمييز، فحكمة الله، وعدله تقضيان بأن تتوفر لكلّ إنسان حاجته وحقّه المقرر له في الحياة:﴿ يا أَيُّها النّاس كُلُوا مِمّا فِي الأَرضِ حَلالاً طَيِّباً ﴾ (البقرة: 168)

انطلاقا من هذا.. فقد جاء الإسلام بشريعة تحرص على حفظ الحياة، وتتجاوب مع حاجات التكوين، فاستوعب بشريعته كل تلك الحاجات الإنسانية الطبيعية وقام بتنظيمها في مجالها الطبيعي المحدّد لها.

فقد أمر بمد الجسم بحاجاته المختلفة من الطعام والشراب، باعتبارهما من نعم الله على عباده:﴿ فَلْينظر الإنسان إلى طَعَامِهِ ﴾ (عبس: 24)

وقد قاوم الإسلام لهذا محاربة الجسد، والحرمان من الطعام والشراب واللذائذ المحلّلة، تلك المحاربة التي دعا لها المترهّبون وأمثالهم ممّن يعتقدون أنّ محاربة الجسد، وتعذيبه بالجوع، والعطش، والحرمان يؤدي إلى تقوية الروح، وتنمية الملكات النفسيّة والأخلاقيّة.

فقد استنكر القرآن على هؤلاء المنحرفين موقفهم هذا من المتع الجسديّة، والطيّبات التي أنعم الله بها على عباده، فقال:﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينةَ اللهِ الَّتي أخرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزق ﴾ (الأعراف: 32)

قلت: فما الشرط الرابع؟

قالت: تحمل تلك العقوبات الشديدة في حال التفريط في الطقوس الكثيرة التي يتطلبها نظام الرهبانية..

سأذكر لك نموذجا عن بعض ذلك من تعاليم القديس (كولمبان) الذي أسس الأديرة في جبال الفوج بفرنسا.. فمن تعاليمه:« يجب أن تصوم كل يوم وتصلى كل يوم وتعمل كل يوم وتقرأ كل يوم، وعلى الراهب أن يعيش تحت حكم أب واحد »

« ويجب أن يأوي إلى الفراش وهو متعب يكاد يغلبه النوم وهو سائر في الطريق »

وكانت العقوبات صارمة أكثر ما تكون بالجلد: ستة سياط إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة أو نسى أن يدرم أظافره قبل تلاوة القداس، أو تبسم أثناء الصلاة، أو قرع القدح بأسنانه أثناء العشاء الربانى.. وكانت اثنا عشر سوطاً عقاب الراهب إذا نسى أن يدعو الله قبل الطعام وخمسون عقاب المتأخر عن الصلاة، ومائة لمن يشترك في نزاع ومئتان لمن يتحدث من غير احتشام مع امرأة.

   وأقام (كولمبان) نظام الحمد الذى لا ينقطع، فكانت الأوراد يتلوها بلا انقطاع ليلاً ونهاراً طائفة بعد طائفة من الرهبان يوجهونها إلى عيسى ومريم والقديسين[28].

ولم يقتصر الأمر على ما ذكره بل تجاوز ذلك إلى تصرفات جنونية تشمئز لها الفطر السليمة، ابتدعها بعض الرهبان ليعبروا عن قوة إيمانهم وعمق إخلاصهم لمبدئهم.

وقد روى المؤرخون من ذلك عجائب فحدثوا عن الراهب ماكاريوس  أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائما نحو قنطار من حديد وكان صاحبه الراهب يوسيبيس يحمل نحو قنطارين من حديد.. وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح … وقد عبد الراهب يوحنا ثلاث سنين قائما على رجل واحدة ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدة، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة.

وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائما، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام.. وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش.

وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح ويتأثمون من غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأنقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس، يقول الراهب اتهينس أن الراهب أنتونى لم يقترف إثم غسل الرجلين طوال عمره، وكان الراهب أبرا هام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين عاماً، وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمان متلهفاً: و أسفاه، لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات[29].

وهناك راهب منعزل اخترع درجة جديدة من الورع يربط نفسه بسلسلة إلى صخرة في غار ضيق[30].

أما القديس كولمبان فـ ( كانت السناجب تجثم على كتفيه فتدخل في قلنسوته وتخرج منها، وهو ساكن [31].

وفوق هذا كله.. فقد كان الرهبان يتجولون في البلاد ويختطفون الأطفال ويهبونهم إلى الصحراء والأديار، وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم ويربونهم تربية رهبانية، والحكومة لا تملك من الأمر شيئا، والجمهور والدهماء يؤيدونهم ويحبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتهم ويختارون الرهبانية ويهتفون باسمها، وعرف كبار الرهبان ومشاهير التاريخ النصراني بالمهارة في التهريب، حتى روي أن الأمهات كن يسترن أولادهن في البيوت إذا رأين الراهب (أمبروز) وأصبح الآباء والأولياء لا يملكون من أولادهم شيئا، وانتقل نفوذهم وولايتهم إلى الرهبان والقسوس.

فكان الرهبان الذين تفيض قلوبهم حنانا ورحمة، وعيونهم من الدمع، تقسو قلوبهم وتجمد عيونهم على الآباء والأمهات والأولاد، فيخلفون الأمهات ثكالى، والأزواج أيامى، والأولاد يتامى، عالة يتكففون الناس، ويتوجهون قاصدين الصحراء، همهم الوحيد أن ينقذوا أنفسهم في الآخرة، لا يبالون ماتوا أو عاشوا، وحكي (ليكي) من ذلك حكايات تدمع العين وتحزن القلب.

قلت: فكيف أطاقوا تحمل كل هذا العناء؟

قالت: ومن ذكر لك بأنهم أطاقوا.. لقد تمردوا على فطرهم، فتمردت عليهم..

لقد قال رئيس دير كلونى:« إن بعض رجال الدين في الأديرة وفي خارجها يستهترون بابن العذراء استهتاراً يستبيحون معه ارتكاب الفحشاء في ساحاته نفسها، بل في تلك البيوت التى أنشأها المؤمنين الخاشعون لكى تكون ملاذاً للعفة والطهارة في حرمها المسور، لقد فاضت هذه البيوت بالدعارة حتى أصبحت مريم العذراء لا تجد مكاناً تضع فيه الطفل عيسى »[32]

لقد أدى التزمت والغلو في الدين ومغالبة الطبع السوي والفطرة السليمة إلى نتيجة عكسية تماماً، وأصبحت الأديرة مباءات للفجور والفسق وتضرب بها الأمثلة في ذلك، وقد وصل الحال بمسيحيي الشرق ـ وربما كانوا أكثر حياء وأشد تمسكاً  إلى حد أن المستهترين من الخلفاء والشعراء المجان كانوا يرتدون الأديرة كما يرتاد رواد الدعارة اليوم بيوت العهر وألفوا في ذلك كتباً منها (الديارات) المعروف في الأدب العربي[33].

 

***

ما وصلت (آنا ماري شميل) من حديثها إلى هذا الموضع حتى امتلأت عينيها بمدامع لم تملك حبسها، فقلت: ما الذي يبكيك؟

قالت:  لقد ذكرت صديقة لي كتبت كتابا سمته (الحج الى مكة)، وقد طبع بالعربية تحت عنوان (البحث عن الله)..

قاطعتها قائلا: تقصدين اللادي ايفلين كوبولد، تلك النبيلة الإنكليزية، التي اعتنقت الإسلام وزارت الحجاز، وحجت حج المسلمين، وكتبت مذكراتها عن رحلتها تلك في ذلك الكتاب.

قالت:  أجل.. لقد استطاعت أن تحطم كل الجدران والحجب التي كانت تحول بينها وبين الإسلام..

لقد كانت تقول:« سألني كثيرون كيف ومتى أسلمت؟ وجوابي على ذلك أنه يصعب عليّ تعيين الوقت الذي سطعت فيه حقيقة الإسلام أمامي فارتضيت الإسلام دينًا. ويغلب على ظني أنني مسلمة منذ نشأتي الأولى. وليس هذا غريبًا إذا ما راح المرء يفكر بأن الإسلام هو الدين الطبيعي الذي يتقبله المرء فيما لو ترك لنفسه ولم يفرض عليه أبواه الدين الذي يعتنقانه فرضًا. ألم يصف أحد مشاهير النقاد في أوروبا: (بأنه دين العقل والإنسانية)؟ [34]

وكانت تقول:« الإسلام كلمة تعني التسليم لله، وهي تعني السلام أيضًا، ويعرف المسلم بأنه الرجل الذي يسير في حياته وفاقًا لمشيئة خالقه وأوامره والذي يعيش بسلام مع الله وعباده. ولعل أجمل ما في الإسلام ما يضطرب فيه من وحدانية إلهية، وأخوة إنسانية، وخلوه عن التقاليد والبدع والتصاقه اللصوق كله بما في الحياة من أمور عملية.. والإيمان في القرآن إنما يقوم على العمل الصالح وليس هناك في الإسلام إيمان دون ما عمل صالح أبدًا »[35]

وكانت تقول:« إن روحانية الإسلام قوية شديدة، فهي أبدًا تدفع المسلمين بعضهم إلى بعض وتجعل منهم قوة إنسانية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر مما لا يوجد مثله في العالم الحاضر »[36]

وكانت تقول:« الإسلام دين حي، حي في قلوب أتباعه ومريديه، وهو دين كلما تقدمت به الأيام زادت حيويته وقوي أمره وتبسط سلطانه وفشت دعوته ولولا ذلك لما أمكنه أن يعيش وأن يظل محتفظًا بقوته وتأثيره وحب أتباعه له »[37]  

قلت: فما الذي يحول بينك وبين سلوك سبيلها؟

تنفست الصعداء، ثم قالت: حجب كثيرة.. لكني لن أستسلم لها.. يوشك أن أقطعها حجابا حجابا حتى أصل إلى تلك الشمس المضيئة التي شملت بأشعتها أركان العالم.

قالت ذلك، ثم قامت، وكأنها تهم بشيء..

أما أنا، فقد بقيت أتأمل تلك الأزهار الجميلة من عباد الشمس.. وقد عرفت سر الدواليب التي تحركها الشمس.

وفي ذلك المحل المبارك تنزلت علي أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد.

 



([1])  هي Annemarie Schimmel (ولدت في 1922)، وهي من أشهر المستشرقين الألمان المعاصرين، بدأت دراسة اللغة العربية في سن الخامسة عشرة، وتتقن العديد من لغات المسلمين وهي التركية والفارسية والأوردو.

درّست في العديد من الجامعات في ألمانيا، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وفي أنقرة، وقد اهتمت بدراسة الإسلام، وحاولت تقديم هذه المعرفة بأسلوب علمي موضوعي حتى نالت أسمى جائزة ينالها كاتب في ألمانيا تسمى جائزة السلام.

لكن بعض الجهات المعادية للإسلام لم يرقها أن تنال هذه الباحثة المدافعة عن الإسلام في وجه الهجمات الغربية عليه، فحاولوا أن يمنعوا حصولها على الجائزة.

وقد أدرك مكانة هذه المستشرقة العلاّمة والداعية المسلم في أوروبا الدكتور زكي علي منذ أكثر من أربعين سنة حين كتب يقول:« وعلى رأس المحررين ( لمجلة فكر وفن) الأستاذة الألمعية الدكتورة آن ماري شميل المتخصصة في دراسة محمد إقبال حكيم وشاعر باكستان..وترجمت إلى الألمانية له ديوان (جاويد نامة ) وكتاب (رسالة المشرق عن الفارسية ) وهي أستاذة بجامعة بون وغيرها ومن أكابر علماء ألمانيا..وتنصف الإسلام والمسلمين كثيراً جزاها الله خيراً »

وقال عنها ـ أيضاً ـ أنها أصدرت العديد من الكتب منها كتاب (محمد رسول الله) بسطت فيه مظاهر تعظيم وإجلال المسلمين لرسول الله r (عبد اللطيف الجوهري. من أعلام الدعاة في أوروبا: العلاّمة الدكتور زكي علي.(جدة: عالم المعرفة 1418-1988)ص123 والمقالة التي كتبها الدكتور زكي علي نشرت في مجلة البريد الإسلامي في 25/6/1963)

وقد امتدحها رئيس المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا بأنها ما زالت تواصل كتاباتها الموضوعية وترجماتها عن الإسلام (عكاظ، عدد 10961، ربيع الآخر 1417، (16أغسطس 1996م)

([2])  وهذا الذي قاله بولس، ويتعلق المسيحيون به.. بل يعتبرونه من أصول عقائدهم، وعليه تقوم حياتهم الروحية، يخالف ما ورد في الكتاب المقدس، فقد جاء في (هوشع: 6: 6-7 ) إِنِّي أَطْلُبُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، وَمَعْرِفَتِي أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْرَقَاتِ. 7وَلَكِنَّكُمْ مِثْلُ آدَمَ، نَقَضْتُمْ عَهْدِي »

وفيه (هوشع 14: 1-3 ) ارْجِعْ تَائِباً يَا إِسْرَائِيلُ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِكَ، لأَنَّكَ قَدْ تَعَثَّرْتَ بِخَطِيئَتِكَ. احْمِلُوا مَعَكُمْ كَلاَمَ ابْتِهَالٍ وَارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ قَائِلِينَ لَهُ: انْزِعْ إِثْمَنَا، وَتَقَبَّلْنَا بِفَائِقِ رَحْمَتِكَ، فَنُزْجِيَ إِلَيْكَ حَمْدَ شِفَاهِنَا كَالْقَرَابِينِ. إِنَّ أَشُّورَ لَنْ تُخَلِّصَنَا، وَلَنْ نَعْتَمِدَ عَلَى خُيُولِ مِصْرَ لإِنْقَاذِنَا، وَلَنْ نَقُولَ لِلأَوْثَانِ صَنْعَةِ أَيْدِينَا: «أَنْتُمْ آلِهَتُنَا» لأَنَّ فِيكَ وَحْدَكَ يَجِدُ الْيَتِيمُ رَحْمَةً »

وفي (ميخا 6: 6-8 ) يَارَبُّ: بِمَاذَا أَتَقَدَّمُ عِنْدَمَا أَمْثُلُ أَمَامَ الرَّبِّ وَأَسْجُدُ فِي حَضْرَةِ اللهِ الْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ مِنْهُ بِمُحْرَقَاتٍ وَبِعُجُولٍ حَوْلِيَّةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ الرَّبُّ بِأُلُوفِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُقَرِّبُ بِكْرِي فِدَاءَ إِثْمِي وَثَمَرَةَ جَسَدِي تَكْفِيراً عَنْ خَطِيئَةِ نَفْسِي؟ لَقَدْ أَوْضَحَ لَكَ الرَّبُّ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ. وَمَاذَا يَبْتَغِي مِنْكَ سِوَى أَنْ تَتَوَخَّى الْعَدْلَ، وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِكَ »

وفي (مزمور 40: 6) لَمْ تُرِدْ أَوْ تَطْلُبْ ذَبَائِحَ وَمُحْرَقَاتٍ عَنِ الْخَطِيئَةِ، لَكِنَّكَ وَهَبْتَنِي أُذُنَيْنِ صَاغِيَتَيْنِ مُطِيعَتَيْنِ »

وفي (مزمور 51: 16 – 17) فَإِنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ، وَإِلاَّ كُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى. إِنَّ الذَّبَائِحَ الَّتِي يَطْلُبُهَا اللهُ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. فَلاَ تَحْتَقِرَنَّ الْقَلْبَ الْمُنْكَسِرَ وَالْمُنْسَحِقَ يَااللهُ »

وفي (مزمور 69: 30 –31 ) أُسَبِّحُ اسْمَ اللهِ بِنَشِيدٍ وَأُعَظِّمُهُ بِحَمْدٍ. فَيَطِيبُ ذَلِكَ لَدَى الرَّبِّ أَكْثَرَ مِنْ مُحْرَقَةٍ: ثَوْرٍ أَوْ عِجْلٍ »

وفي سفر (إرمياء: 7: 22 ) هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل: ضموا محارقكم إلى ذبائحكم وكلوا لحماً، لأني لم أكلم آبائكم ولا أوصيتكم يوم أخرجتهم من أرض مصر بشأن محرقة وذبيحة، بل إنما أوصيتهم بهذا الأمر قائلاً:  إطيعوا  صوتي فأكون لكم إلهاً وأنتم تكونون لي شعباً، وسيروا في الطريق الذي أوصيتكم به ليحسن إليكم »

وبهذا يتبين أن ما ذكره بولس من أخطر البدع التي حرفت المسيحية.

انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (الإنسان) من هذه السلسلة.

([3])  سنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بالجانب الروحي في الإسلام والشبهات التي أثيرت حوله في رسالة (سلام للعالمين)

([4])  وقد ورد الحديث بصيغ مختلفة منها أشعر كلمة تكلمت بها العرب، وفي رواية أصدق كلمة قالها شاعر، وفي أخرى أصدق بيت قاله الشاعر، وفي أخرى أصدق بيت قالته الشعراء، وفي أخرى أصدق كلمة قالتها العرب.

([5])  انظر: اليواقيت والجواهر:1/80 –81 ) وقد قال ابن عربي في الفتوحات (جـ4 ص372-379)  ما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد ومن قال بالحلول فهو معلول لا دواء له »

([6])  انظر تفاصيل هذه المسألة والموقف القرآني منها في رسالة (أكوان الله) من (رسائل السلام) للمؤلف.

([7])  انظر هذه التفاصيل.. ونظرة اليهودية للتصوف في (الموسوعة اليهودية) للمسيري.

([8])  انظر في هذا رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([9])  انظر الأدلة المفصلة على هذا في رسالة (سلام للعالمين) من هذه السلسلة.

([10])  هذه القصة نقلها الشيخ محمد الغزالي من كتاب ( الشرق والغرب )

([11])  ذكر هذا الشيخ محمد الغزالي.

([12])  انظر: العلمانية، لسفر الحوالى.

([13])  يوم مقدس عندهم.

([14])  انظر قذائف الحق للشيخ الغزالى: 48 فما بعدها.

([15])  انظر: العبادة في الإسلام، يوسف القرضاوي.

([16])  أشعة خاصة بنور الإسلام: 29.

([17])  قصة الحضارة 14: 382.

([18])  تاريخ أوروبا في العصور الوسطى: 2: 152.

([19])  أبو داود:2/126.

([20])  المسند المستخرج على صحيح مسلم: 4/141، مصنف عبد الرزاق:  10/221، المعجم الأوسط: 8/281.

([21])  رواه احمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح، انظر: مجمع الزوائد: 4/272.

([22])  مسلم: 2/1018، البخاري: 2/673، ابن حبان: 9/335، الدارمي: 2/177، البيهقي: 4/296، أبو داود: 2/219، النسائي: 2/95.

([23])  البخاري: 5/1949.

([24])  فتح الباري: 9/105

([25])  الترمذي: 3/391، المعجم الكبير: 4/183.

([26])  المشكلة الأخلاقية والفلاسفة:115.

([27])  انظر مقالا بعنوان: كيف تعامل الإسلام مع الجسد؟ من موقع (البلاغ) الموسوعة الإسلامية.

([28])  قصة الحضارة 14: 365.

([29])  ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 168.

([30])  معالم تاريخ الإنسانية: 732.

([31])  قصة الحضارة: 14: 356.

([32])  قصة الحضارة: 145: 372.

([33])  كتبه أب الحسن السابشتى.

([34])  البحث عن الله، ص 9.

([35])  البحث عن الله، ص 13.

([36])  البحث عن الله، ص 13

([37])  البحث عن الله، ص13.