المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة
للكتاب: ثمار من شجرة النبوة |
الناشر: دار الكتاب الحديث |
الفهرس
|
في اليوم السادس من تلك الأيام
العشرة المباركة التقيت المستشرق الذي قطفت على يده ثمرة السلام من شجرة النبوة..
وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله
تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ
خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ﴾
(البقرة:30)
وسر قوله تعالى:﴿ لَئِنْ
بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ (المائدة:28)
وسر قوله تعالى:﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ
بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا
اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
(الحج:
من الآية40).. وقوله تعالى:﴿ وَلا
تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت:34)
وعرفت بها سر قوله r:«:« لا يزال العبد في فسحة من دينه ما
لم يصب دما حراما »[1]
وسر قوله r:« يأتي القاتل متعلقا رأسه بأحدى يديه
متلببا قاتله بيده الاخرى تشخب أوداجه دما حتى يأتي به تحت العرش فيقول المقتول
لله: رب هذا قتلني! فيقول الله للقاتل: تعست! ويذهب به إلى النار »[2]
فهذه النصوص
المقدسة تخبر عن عظم قدسية الروح الإنسانية.. وعظم جرم القتل.. وأنه لا يباح إلا
للضرورات الشديدة، وبالحدود التي تحفظ المصالح.
***
كان من ضمن
الأسماء الموجودة بالدفتر الذي سلمني إياه المرشد اسم (مكسيم رودنسون)[3].. وقد
تعجبت كثيرا من وضعه في القائمة مع كونه مفكرا ماركسيا، وهو في ذات الوقت يرجع إلى
أصل يهودي.. وهو بذلك قد اجتمعت فيه جميع أسباب العداوة للإسلام من ماركسية تعادي
الأديان، ومن يهودية تعادي الإنسان.
لكني عندما
رأيته، وسمعت حديثه زال عجبي من ذلك، وعرفت أن ماركسيته نوع من الهروب من
يهوديته..
في ذلك
اليوم سرت إلى الجبل الذي كان يجثم بجلال في ضاحية باريس.. وكان بهذا الجبل غابة
زيتون كأنها ولدت مع ميلاد الإنسان.
وقد احترت
إذ رأيت جزءا مهما من تلك الغابة قد طوق بأسوار من حديد مكهرب ليمنع أي داخل،
ورأيت خارج تلك الغابة شابا يافعا ممتلئا شبابا جالسا ينظر إلى تلك الأشجار
المقيدة بقيود الحديد والكهرباء..
اقتربت منه،
وسألته عن سر حزنه، وسر أشجار الزيتون المطوقة بتلك الأغلال القاسية.
قال لي: هذه
الأشجار لي.. ورثتها عن سلسلة طويلة من الجدود.. ولم يشك أحد في يوم من الأيام
أنها لي.. ولم يخطر على بال أحد في يوم من الأيام أن تنزع مني.
قلت: فمن
الذي نزعها منك؟.. وما الذي جعله ينزعها منك؟
قال: رجل
يهودي قاسي القلب محجر الفؤاد.. له مال عريض.. وجاه مكين، اشترى به ذمم القضاة
والمحاكم والشرطة والجيش.. ولم يترك أحدا إلا رشاه.. وزور لأجل ذلك كتبا سماها
كتبا مقدسة تعده بأرضي وبزيتوني.
قلت: فمن الذي أغراه بأرضك دون الأراضي!؟
قال: قوم من الحاقدين.
قلت: عليك أم عليه!؟
قال: علي وعليه..
قلت: كيف يستقيم هذا؟
قال: لقد
كره الحاقدون مقامه بينهم، فأرادوا نفيه عنهم، فلم يجدوا غير أرضي..
قلت: ولم اختاروك أنت؟
قال: لعلمهم بإبائي ورسوخي في أرضي، وتضحيتي بكل شيء
في سبيلها.
قلت: فهل ستقاومه؟
قال: جبان أنا إن لم أقاومه.. مقاومته واجب إنساني،
وخلق رفيع.
قلت: ولكنك تملك الزيتون الذي هو رمز السلام.
قال: ولكني لو تركت له زيتوني فسيحرقه ويدمره.. ويؤسس
في أرض الزيتون مصانع سلاح يدمر بها العالم.
قلت: ولكنك
ـ إن قاومته ـ سيرمونك بالإرهاب.
قال: قد فعلوا ذلك.. ويوشك أن يرموني في سجونهم..
ولكني مع ذلك لم أيأس، ولن أيأس.. فسيخلفني من يقوم في وجوههم، ومن ينتزع منهم
أرضي، ويحمي زيتوني.
في ذلك
الموقف.. التقيت (مكسيم رودنسون)
جاء، ومعه
محفظته التي يحمل فيها كتبه، ومعها قفة يحمل فيها طعاما إلى ذلك الشاب، وما إن رآه
الشاب حتى راح يصافحه بحرارة.
سألت الشاب
أن يعرفني بهذا الرجل الطيب، فقال لي: هذا (مكسيم رودنسون)..هو ابن عم لذلك
المغتصب الظالم.. ولكنه يبغضه أشد البغض، ويحاربه أعنف حرب.
ملأ السرور
قلبي في تلك اللحظة، فقد كنت محتارا في الطريقة التي أدخل بها عالم هذا الرجل.
ابتدأته
بقولي: أنت الأستاذ (مكسيم رودنسون) المستشرق والمفكر..
قاطعني،
وقال: والباحث عن السلام.. البحث عن السلام هو وظيفتي الكبرى التي لا تراها العيون.
قلت: ما
تقصد؟
قال: إن حياتي كلها بحث عن السلام.. لقد ولدت في
بيئة تمتلئ حربا وبغضا وأحقادا.. ولذلك تراني أفر من موضع إلى موضع.. ومن بلد إلى
بلد.. ومن مذهب إلى مذهب.. لا لشيء إلا لأجل البحث عن السلام.
قلت: فلم
تبحث عن السلام؟
قال: لأنه
لا حياة بلا سلام.. السلام هو الوسط الصحيح الذي تنمو فيه شجرة الإنسانية.. فلا
يمكن لشجرة الإنسانية أن تؤتي ثمارا طيبة، وهي مختنقة بنيران الحرب.
انظر إلى
هذا الزيتون المسكين المحاصر.. ألا ترى إلى دموعه، وهي تنحدر كما تنحدر
السيول!؟
إن هذا
الزيتون الذي يمثل السلام يريد الحاقدون خنقه ليؤسسوا على أنقاضه شجرة الدمار التي
لا تثمر غير سفك الدماء.
قلت: فهل وجدت السلام؟
قال: وجدته..
قلت: كيف وجدته؟
قال: وجدته محاصرا كما يحاصر هذا الزيتون.
قلت: أين وجدته؟.. ومن غرس شجرته؟
قال: وجدته في الإسلام.. وقد غرس شجرته محمد.
تعجبت كثيرا
من قوله هذا، فقلت: لقد علمت أنك شيوعي يهودي.. فكيف تقول هذا؟
قال: أقول الحقيقة التي يمتلئ بها قلبي، ولكن لساني
يعجز عن التعبير عنها.
قلت: ولكني
أرى الناس جميعا مجمعون على أن الإسلام دين الإرهاب، وأن المسلمين هم ممثلو
الإرهاب في العالم.
قال: ألم تر إلى هذا الشاب المسكين الممتلئ حزنا؟
قلت: بلى.. لقد كنت أتحدث معه الساعة.
قال: إنهم يسمونه (إرهابيا)
قلت: لقد أخبرني بذلك.
قال: لو أن هذه الشاب المسكين لم يطوق حقله، ولم
يخرج من أرضه، أتراه يحمل السلاح على عدوه؟
قلت: لا أراه يفعل ذلك.. فبراءة السلام بين عينيه.
قال: وهكذا المسلمون المساكين.. احتلوا أرضهم..
وقتلوا أطفالهم.. ونهبوا خيراتهم.. ومنعوهم من كل شيء حتى من الكلام.. فإذا قام
أحدهم ورمى حجرا ليعبر عن إبائه سموه إرهابيا..
قلت: لقد
ذكرت لي أنك لم تجد السلام إلا في الإسلام، وعند محمد.
قال: ذلك بحث طويل.. لقد فتشت الأديان والمذاهب
والفلسفات والأفكار أبحث عن السلام الشامل.. فلم أجده إلا في دين محمد.
قلت: فهل تحدثني بخلاصة أبحاثك؟
قال: أجل.. يسرني ذلك كل السرور.. فأنا لا هم لي إلا
التبشير بهذا.
قلت: بم نبدأ حديثنا عن السلام؟
قال: بالجاهلية.
قلت: بجاهلية العرب!؟
قال: بجاهلية العالم.. فلا يعرف فضل الجمال إلا
بمقارنته بالدمامة.. ولا يعرف فضل السلام إلا بمقارنته بالصراع.. ولا يعرف فضل
الإسلام إلا بمقارنته بالجاهلية.. كما لا تعرف الثمرة الطيبة إلا بمقارنتها
بالثمرة الخبيثة.
قلت: فبأي ثمرة خبيثة نبدأ؟
قال: باليهودية.
قلت: هي دينك الذي ينتمي إليه أبوك وجدك.
قال: من أراد أن يبحث عن الحقيقة فعليه أن يقطع
جذوره، ويطلق أباه وجده.
قلت: إن اليهود شعب مضطهد، وقد عانى في
حياته الأمرين.. فكيف تعتبره عدوا للسلام؟
قال: إن
عداوته للسلام تنطلق من دينه ومعتقداته.. فهو يمارس الإرهاب عبادة لا عادة..
قلت: ما تقول؟
قال: ألا
تعرف سفر حزقيال؟
قلت: هو سفر من أسفار كتابنا المقدس في عهده القديم.
قال: نعم..
وهو قاسم مشترك بينكم وبيننا.. ولذلك، فإن لكم شبها عظيما بنا.. أتدري بماذا
يوصينا الرب في هذا السفر الغالي الذي اشتركنا في وراثته؟
قلت: بم؟
أخرج الكتاب
المقدس من محفظته، وفتحها على هذا السفر، وقال: الرب ـ في هذا السفر المقدس ـ يأمر
بقتل النساء والاطفال والشيوخ والبهائم، فيقول:« اعْبُرُوا فِي الْمَدِينَةِ خَلْفَهُ وَاقْتُلُوا. لاَ تَتَرََّأفْ
عُيُونُكُمْ وَلاَ تَعْفُوا. أَهْلِكُوا الشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ
وَالطِّفْلَ وَالنِّسَاءَ. وَلَكِنْ لاَ تَقْرَبُوا مِنْ أَيِّ إِنْسَانٍ عَلَيْهِ
السِّمَةُ، وَابْتَدِئُوا مِنْ َقْدِسِي». فَابْتَدَأُوا يُهْلِكُونَ الرِّجَالَ
وَالشُّيُوخَ الْمَوْجُودِينَ أَمَامَ الْهَيْكَلِ. وَقَالَ لَهُمْ: «نَجِّسُوا
الْهَيْكَلَ وَامْلَأُوا سَاحَاتِهِ بِالْقَتْلَى، ثُمَّ اخْرُجُوا».
فَانْدَفَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَشَرَعُوا يَقْتُلُون » (حزقيال9: 5-7)
التفت إلي، وقال: هل سمعت.. إن
الكتاب المقدس هو الكتاب الوحيد في الدنيا.. الذي يأمر بقتل الأطفال؟
ليس هذا فقط.. اسمع ما يقول سفر
العدد (31: 1-18):« وَقَالَ
الرَّبُّ لِمُوسَى: انْتَقِمْ مِنَ الْمِدْيَانِيِّينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ،
وَبَعْدَهَا تَمُوتُ وَتَنْضَمُّ إِلَى قَوْمِكَ. فَقَالَ مُوسَى لِلشَّعْبِ:
«جَهِّزُوا مِنْكُمْ رِجَالاً مُجَنَّدِينَ لِمُحَارَبَةِ الْمِدْيَانِيِّينَ
وَالانْتِقَامِ لِلرَّبِّ مِنْهُمْ.... فَحَارَبُوا الْمِدْيَانِيِّينَ كَمَا
أَمَرَ الرَّبُّ وَقَتَلُوا كُلَّ ذَكَرٍ؛ وَقَتَلُوا مَعَهُمْ مُلُوكَهُمُ
الْخَمْسَةَ: أَوِيَ وَرَاقِمَ وَصُورَ وَحُورَ وَرَابِعَ، كَمَا قَتَلُوا
بَلْعَامَ بْنَ بَعُورَ بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَسَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ نِسَاءَ
الْمِدْيَانِيِّينَ وَأَطْفَالَهُمْ، وَغَنِمُوا جَمِيعَ بَهَائِمِهِمْ
وَمَوَاشِيهِمْ وَسَائِرَ أَمْلاَكِهِمْ، وَأَحْرَقُوا مُدُنَهُمْ كُلَّهَا
بِمَسَاكِنِهَا وَحُصُونِهَا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى كُلِّ الْغَنَائِمِ
وَالأَسْلاَبِ مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ،.... فَخَرَجَ مُوسَى وَأَلِعَازَارُ
وَكُلُّ قَادَةِ إِسْرَائِيلَ لاِسْتِقْبَالِهِمْ إِلَى خَارِجِ الْمُخَيَّمِ،
فَأَبْدَى مُوسَى سَخَطَهُ عَلَى قَادَةِ الْجَيْشِ مِنْ رُؤَسَاءِ الأُلُوفِ
وَرُؤَسَاءِ الْمِئَاتِ الْقَادِمِينَ مِنَ الْحَرْبِ، وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا
اسْتَحْيَيْتُمُ النِّسَاءَ؟ إِنَّهُنَّ بِاتِّبَاعِهِنَّ نَصِيحَةَ بَلْعَامَ
أَغْوَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِعِبَادَةِ فَغُورَ، وَكُنَّ سَبَبَ خِيَانَةٍ
لِلرَّبِّ، فَتَفَشَّى الْوَبَأُ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ. فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ
ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ، وَاقْتُلُوا أَيْضاً كُلَّ امْرَأَةٍ ضَاجَعَتْ رَجُلاً،
وَلَكِنِ اسْتَحْيَوْا لَكُمْ كُلَّ عَذْرَاءَ لَمْ تُضَاجِعْ رَجُلاً »
ليس هذا فقط.. لقد جاء في سفر يشوع (
6: 16):« قَالَ يَشُوعُ
لِلشَّعْبِ: اهْتِفُوا، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ وَهَبَكُمُ الْمَدِينَةَ.
وَاجْعَلُوا الْمَدِينَةَ وَكُلَّ مَا فِيهَا مُحَرَّماً لِلرَّبِّ.. أَمَّا كُلُّ
غَنَائِمِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَآنِيَةِ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ، فَتُخَصَّصُ
لِلرَّبِّ وَتُحْفَظُ فِى خِزَانَتِهِ. فَهَتَفَ الشَّعْبُ، وَنَفَخَ الْكَهَنَةُ
فِي الأَبْوَاقِ. وَكَانَ هُتَافُ الشَّعْبِ لَدَى سَمَاعِهِمْ صَوْتَ نَفْخِ
الأَبْوَاقِ عَظِيماً، فَانْهَارَ السُّورُ فِي مَوْضِعِهِ. فَانْدَفَعَ الشَّعْبُ
نَحْوَ الْمَدِينَةِ كُلٌّ إِلَى وِجْهَتِهِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا.
وَدَمَّرُوا الْمَدِينَةَ وَقَضَوْا بِحَدِّ السَّيْفِ عَلَى كُلِّ مَنْ فِيهَا
مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَأَطْفَالٍ وَشُيُوخٍ حَتَّى الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
وَالْحَمِيرِ »
ليس هذا فقط.. لقد جاء في سفر هوشع (13:
16) يقول الرب:« تجازى السامرة
لأنها تمردت على إلهها. بالسيف يسقطون. تحطم أطفالهم، والحوامل تشق »
.. وفي سفر إشعيا ( 13: 16) يقول
الرب:« وتحطم أطفالهم
أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نساؤهم »
التفت إلي، وقال: اسمع هذه التشريعات
الإرهابية القاسية التي يأمبر بها الكتاب المقدس.. لقد جاء في سفر التثنية (20:
10-15) قول الرب:« حين تقرب من
مدينة لكي تحاربها استدعها الى الصلح، فإن أجابتك الى الصلح وفتحت لك فكل الشعب
الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك.
وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. واذا دفعها الرب الهك الى يدك
فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. واما النساء والاطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل
غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة اعدائك التي اعطاك الرب الهك. هكذا تفعل بجميع
المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الامم هنا »
ليس هذا فقط.. اسمع إلى تشريعات
الإبادة التي يأمر بها إله الكتاب المقدس..
لقد جاء في سفر التثنية (20: 16):« أما مُدُنُ الشُّعُوبِ الَّتِي
يَهَبُهَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ لَكُمْ مِيرَاثاً فَلاَ تَسْتَبْقُوا فِيهَا
نَسَمَةً حَيَّةً، بَلْ دَمِّرُوهَا عَنْ
بِكْرَةِ أَبِيهَا، كَمُدُنِ الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ
وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ
كَمَا أَمَرَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ »
التفت إلي، وقال: لا أظن هتلر قام
بفعلته الشنيعة ـ إن كان فعلها ـ إلا بعد قراءة هذا النص.. لقد خشي على قومه أن
يضموا إلى هذه الأجناس التي أمر بإبادتهم، فراح يتغذى بهم قبل أن يتعشوا بقومه[4].
ليس هذا فقط.. فأوامر الرب بالقيام
بالمذابح والمجازر في الكتاب المقدس لا تنتهي.. لقد جاء في سفر صموئيل الأول ( 15:
3 -5):« وَقَالَ
صَمُوئِيلُ لِشَاوُلَ: «أَنَا الَّذِي أَرْسَلَنِي الرَّبُّ لأُنَصِّبَكَ مَلِكاً
عَلَى إِسْرَائِيلَ، فَاسْمَعِ الآنَ كَلاَمَ الرَّبِّ. هَذَا مَا يَقُولُهُ رَبُّ
الْجُنُودِ: إِنِّي مُزْمِعٌ أَنْ أُعَاقِبَ عَمَالِيقَ جَزَاءَ مَا ارْتَكَبَهُ
فِي حَقِّ الإِسْرَائِيلِيِّينَ حِينَ تَصَدَّى لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ
خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ. فَاذْهَبِ الآنَ وَهَاجِمْ عَمَالِيقَ وَاقْضِ عَلَى
كُلِّ مَالَهُ. لاَ تَعْفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بَلِ اقْتُلْهُمْ جَمِيعاً
رِجَالاً وَنِسَاءً، وَأَطْفَالاً وَرُضَّعاً، بَقَراً وَغَنَماً، جِمَالاً
وَحَمِيراً »
ولهذا.. فإن من أهم أوصاف الرب أنه
إله النقمات.. لقد جاء في مزمور(94: 1): « يا إله النقمات.. يا رب.. يا إله
النقمات ».. وفي (تثنية:
4:24):« لأن الرب الهك
هو نار آكلة اله غيور ».. وفي (أشعياء:66: 16):« لأن الرب بالنار يعاقب وبسيفه على
كل بشر ويكثر قتلى الرب».. وفي (ارميا 48:10):« ملعون من يعمل عمل الرب برخاء
وملعون من يمنع سيفه عن الدم ».. لقد قال مثل هذا بولس في رسالته
إلى العبرانيين ( 12: 29 ):« لأن إلهنا ناراً آكلة »
ليس الأمر قاصرا على القتل والدمار..
هناك إرهاب الاغتصاب والسرقة.. يقول الرب لموسى:« تدخل أَنْتَ وَشُيُوخُ إِسْرَائِيلَ
أَمَامَ مَلِكِ مِصْرَ وَتَقُولُ لَهُ: إِنَّ الرَّبَّ إِلَهَ الْعِبْرَانِيِّينَ
قَدْ تَفَقَّدَنَا، فَدَعْنَا نَمْضِي مَسِيرَةَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْبَرِّيَّةِ وَنُقَدِّمُ ذَبَائِحَ لِلرَّبِّ إِلَهِنَا. وَلَكِنَّنِي عَالِمٌ
أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ لَنْ يُطْلِقَكُمْ مَا لَمْ تُرْغِمْهُ يَدٌ قَوِيَّةٌ.
فَأَمُدُّ يَدِي وأَضْرِبُ مِصْرَ بِجَمِيعِ وَيْلاَتِي الَّتِي أَصْنَعُهَا
فِيهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُطْلِقُكُمْ. وَأَجْعَلُ هَذَا الشَّعْبَ يَحْظَى
بِرِضَى الْمِصْرِيِّينَ، فَلاَ تَخْرُجُونَ فَارِغِينَ حِينَ تَمْضُونَ، بَلْ
تَطْلُبُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْ جَارَتِهَا أَوْ نَزِيلَةِ بَيْتِهَا جَوَاهِرَ
فِضَّةٍ وَذَهَبٍ وَثِيَاباً تُلْبِسُونَهَا بَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ
فَتَغْنَمُونَ ذَلِكَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ » (الخروج: 3/19-21)
وقد طبق الإسرائيليون هذه الأوامر
بغاية الدقة:« فَصَرَّ
الشَّعْبُ فِي ثِيَابِهِمْ مَعَاجِنَهُمْ وَعَجِينَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْتَمِرَ،
وَحَمَلُوهَا عَلَى أَكْتَافِهِمْ، وَطَلَبُوا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ آنِيَةَ
فِضَّةٍ وَذَهَباً وَثِيَاباً بِحَسَبِ قَوْلِ مُوسَى. وَجَعَلَ الرَّبُّ
الشَّعْبَ يَحْظَى بِرِضَى الْمِصْرِيِّينَ، فَأَعْطَوْهُمْ كُلَّ مَا طَلَبُوهُ،
فَغَنِمُوا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ» (الخروج: 12/34-36)
قلت: إن كل ما ذكرته من نصوص أحفظه
عن ظهر قلب..
قال: تصور معي عندما يلقن الطفل الصغير هذه النصوص..
وغيرها من النصوص الكثيرة التي تمتلئ بها الأسفار المقدسة..
ثم يلقن بعدها عقدة التفوق العنصري
الموهوم لما يسمى بـ ( الشعب المختار ).. ويلقن معها شدة الاستهانة بدماء الآخرين من
( الأمميين ) أو (الأغيار ) أو ( الجوييم ) أو ( العامة ) أو ( الكوفريم ) والتي
تعني كلها الأصناف البشرية الأخرى غير اليهود.
فإذا وجد هذا الطفل تطلعا للبطولة
حكيت له قصة شمشون.. وبطولات شمشون[5].
فإذا بلغ هذا الطفل لم يجد أمامه إلا
العصابات الإرهابية..
قلت: إن اليهود يشكون الإرهاب ويخافون منه.
قال: اللص لا يخاف إلا اللصوص.. ولو لم يكونوا لصوصا
لما خافوا أحدا..
الإرهاب ليس حدثاً عابراً عرضياً في
أولئك القساة إنما هو أمر كامن في مشروعهم الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، وفي
الصيغة الصهيونية الأساسـية الشـاملة.
كما أن حـلقات وآليات هذا الإرهاب
مترابطة متلاحقة، فالهجمات الإرهابية التي شُنَّت ضد بعـض القرى العربية أدَّت إلى
اسـتسلام بقية سكان الأراضي المحتلة، أي أن المذابح والاعتقالات والإبعادات إن هي
إلا آلية من آليات الاستيطان الصهيوني الإحلالي، ولا يمكن تَخيُّل إمكانية تَحقُّق
المشـروع الصهيـوني بدونها.
والإرهاب الصهيوني هو الآلية التي تم
بها تفريغ جزء من فلسطين من سكانها وفرض المستوطنين الصهاينة ودولتهم الصهيونية
على شعب فلسطين وأرضها.
وقد تم هذا من خلال الإرهاب المباشر،
غير المنظم وغير المؤسسي، الذي تقوم به المنظمات الإرهابية غير الرسمية (المذابح ـ
ميليشيات المستوطنين ـ التخريب ـ التمييز العنصري) والإرهاب المباشر، المنظم
والمؤسسي، الذي تقوم به الدولة الصهيونية (التهجير ـ الهيكل القانوني للدولة
الصهيونية ـ التفرقة العنصرية من خـلال القانون ـ الجـيش الإسـرائيلي ـ الشرطة
الإسرائيلية ـ هدم القرى).
وكلا هذين النوعين من الإرهاب
(الإرهاب المؤسسي وغير المؤسسي) مرتبطان تمام الارتباط، ويتم التنسيق بينهما ويجمع
بينهما الهدف النهائي، وهو إفراغ فلسطين من سكانها أو إخضاعهم وحصارهم [6].
لعلك سمعت بواقعة دير ياسين (قبل عام
1948)
قلت: أجل.. ولكنها من فعل بعض
الرعاع.. ولا يصح أن ننسبها لشعب كامل.
قال: لقد
راح ضحية تلك المذبحة زهاء 260 فلسطينياً من اهالي القرية العزل.. وكانت هذه
المذبحة، وغيرها من اعمال الارهاب والتنكيل، احدى الوسائل التي انتهجتها المنظمات
الصهيونية المسلحة من اجل السيطرة على الاوضاع في فلسطين تمهيداً لاقامة الدولة
الصهيونية.
لقد أرسل مناحم بيجين برقية تهنئة
الى رعنان قائد الارجون المحلي قال فيها:« تهنئتي لكم لهذا الانتصار العظيم،
وقل لجنودك انهم صنعوا التاريخ في اسرائيل »
وفي كتابه المعنون الثورة كتب بيجين
يقول:« إن مذبحة دير
ياسين اسهمت مع غيرها من المجازر الاخرى في تفريغ البلاد من 650 الف عربي »، واضاف قائلاً:« لولا دير ياسين لما قامت اسرائيل »
نعم.. لقد حاولت بعض القيادات
الصهيونية التنصل من مسئوليتها عن وقوع المذبحة. فوصفها ديفيد شالتيل، قائد قوات
الهاجاناه في القدس آنذاك، بانها (اهانة للسلام العبري). وهاجمها حاييم وايزمان
ووصفها بانها عمل ارهابي لا يليق بالصهاينة. كما نددت الوكالة اليهودية بالمذبحة.
وقد قامت الدعاية الصهيونية على اساس ان مذبحة دير ياسين مجرد استثناء، وليست
القاعدة، وان هذه المذبحة تمت دون أي تدخل من جانب القيادات الصهيونية بل ضد
رغبتها.. إلا ان السنوات التالية كشفت النقاب عن أدلة دامغة تثبت ان جميع
التنظيمات الصهيونية كانت ضالعة في ارتكاب تلك المذبحة وغيرها، سواء بالاشتراك
الفعلي في التنفيذ أو بالتواطؤ أو بتقديم الدعم السياسي والمعنوي.
لقد ذكر مناحم بيجين في كتابه الثورة
ان الاستيلاء على دير ياسين كان جزءاً من خطة أكبر وان العملية تمت بكامل علم
الهاجاناه (وبموافقة قائدها)، وان الاستيلاء على دير ياسين والتمسك بها يعد احدى
مراحل المخطط العام رغم الغضب العلني الذي عبر عنه المسئولون في الوكالة اليهودية
والمتحدثون الصهاينة.
وذكرت موسوعة الصهيونية واسرائيل
(التي حررها العالم الاسرائيلي روفائيل باتاي) ان لجنة العمل الصهيونية (اللجنة
التنفيذية الصهيونية) وافقت في مارس من عام 1948 على (ترتيبات مؤقتة، يتأكد
بمقتضاها الوجود المستقل للارجون، ولكنها جعلت كل خطط الارجون خاضعة للموافقة
المسبقة من جانب قيادة الهاجاناه).
وقد جاء في احدى النشرات الاعلامية
التي أصدرتها وزارة الخارجية الاسرائيلية ان ما وصف بأنه (المعركة من اجل دير
ياسين) كان جزءاً لا يتجزأ من (المعركة من اجل القدس).
وبعد ثلاثة ايام من المذبحة، تم
تسليم قرية دير ياسين للهاجاناه لاستخدامها مطاراً.
وقد أرسل عدد من الاساتذة اليهود
برسائل الى بن جوريون يدعونه فيها الى ترك منطقة دير ياسين خالية من المستوطنات،
ولكن بن جوريون لم يرد على رسائلهم وخلال شهور استقبلت دير ياسين المهاجرين من
يهود شرق أوربا.
وخلال عام من المذبحة صدحت الموسيقى
على ارض القرية العربية وأقيمت الاحتفالات التي حضرها مئات الضيوف من صحفيين
واعضاء الحكومة الاسرائيلية وعمدة القدس وحاخامات اليهود. وبعث الرئيس الاسرائيلي
حاييم وايزمان برقية تهنئة لافتتاح مستوطنة جيفات شاؤول في قرية دير ياسين (مع
مرور الزمن توسعت القدس الى ان ضمت ارض دير ياسين اليها لتصبح ضاحية من ضواحي
القدس).
وقد عبرت الدولة الصهيونية عن فخرها
بمذبحة دير ياسين، بعد 32 عاماً من وقوعها، حيث قررت اطلاق اسماء المنظمات
الصهيونية: الارجون، واتسل، والبالماخ، والهاجاناه على شوارع المستوطنة التي اقيمت
على اطلال القرية الفلسطينية.
لم تكن دير ياسين هي المذبحة الوحيدة
التي قام بها الإرهاب اليهودي..
هناك مذابح كثيرة.. سأذكر لك بعضها
لتعرف حقيقة هؤلاء الذين يصمون الإسلام بالإرهاب..
منها مذبحة قريتي الشيخ وحواسة (31 ديسمبر
عام 1947)، حيث انفجرت قنبلة خارج بناء شركة مصفاة بترول حيفا وقتلت وجرحت عدداً
من العمال العرب القادمين الى المصفاة. واثر ذلك ثار العمال العرب بالشركة وهاجموا
الصهاينة العاملين بالمصفاة بالمعاول والفؤوس وقضبان الحديد وقتلوا وجرحوا منهم
نحو ستين صهيونياً. وكان قسم كبير من العمال العرب في هذه المصفاة يقطنون قريتي
الشيخ وحواسة الواقعتين جنوب شرق حيفا، ولذا خطط الصهاينة للانتقام بمهامة
البلدتين.
وفي ليلة رأس السنة الميلادية 1948
بدأ الصهاينة هجومهم بعيد منتصف الليل وكان عدد المهاجمين بين 150، 200 صهيوني ركزوا
هجومهم على اطراف البلدتين، ولم يكن لدى العرب سلاح كاف، ولم يتعد الامر وجود
حراسات محلية بسيطة في الشوارع.
هاجم الصهاينة البيوت النائية في
اطراف هاتين القريتين وقذفوها بالقنابل اليدوية ودخلوا على السكان النائمين وهم
يطلقون نيران رشاشاتهم. وقد استمر الهجوم ساعة انسحب اثرها الصهاينة في الساعة
الثانية صباحاً بعد ان هاجموا حوالي عشرة بيوت وراح ضحية ذلك الهجوم نحو 30 فرداً
بين قتيل وجريح معظمهم من النساء والاطفال وتركوا شواهد من الدماء والاسلحة تدل
على عنف المقاومة التي لقوها.
ومنها مذبحة قرية سعسع (14 ـ 15 فبراير
1948) حيث شنت كتيبة البالماخ الثالثة هجوماً على قرية سعسع، فدمرت 20 منزلاً فوق
رؤوس سكانها، وأسفر ذلك عن مقتل 60 عربياً معظمهم من النساء والاطفال. وقد وصفت
هذه العملية بانها (مثالية).
ومنها مذبحة رحفوت (27 فبراير 1948):
حدثت في مدينة حيفا قرب رحوفوت حيث تم نسف قطار القنطرة الامر الذي اسفر عن
استشهاد سبعة وعشرين عربياً وجرح ستة وثلاثين آخرين.
ومنها مذبحة كفر حسينية (13 مارس
1948) حيث قامت الهاجاناه بالهجوم على القرية وقامت بتدميرها وأسفرت المذبحة عن
استشهاد ثلاثين عربياً.
ومنها مذبحة بنياميناه (27 مارس
1948): حدثت مذبحتان في هذا الموضع حيث تم نسف قطارين، أولهما نسف في 27 مارس
واسفر عن استشهاد 24 فلسطينياً عربياً وجرح أكثر من 61 آخرين، وتمت عملية النسف
الثانية في 31 من نفس الشهر حيث استشهد أكثر من 40 عربياً وجرح 60 آخرون.
وغيرها كثير..
بل إن الإرهاب الصهيوني لم يكتف بدعم
المؤسسات الرسمية.. بل هو مرتبط كل الارتباط بالدعم الغربي حين قامت حكومة
الانتداب بحماية المستوطنين وتأمين موطئ قدم لهم وسمحت بتأسيس البنية التحتية
العسكرية المكونة من المستوطنات التعاونية (وبخاصة الكيبوتس) فيما نسميه «الزراعة
المسلحة»
كما ساعدت المنظمات الصهيونية
المسلحة المختلفة ودعمتها، فكانت بمنزلة قوة مسلحة كامنة قامت بالانقضاض على أرض
فلسطين وأهلها عام 1948.
وبعد إنشاء الدولة، استمرت الدول
الغربية التي تسمي نفسها ديموقراطية في دَعْم الكيان الاستيطاني الإحلالي
الصهيوني، رغم ممارساته الإرهابية التي تتسم بكل الجدة والاستمرار، ورغم الحروب
العديدة التي شنها على العرب ورغم توسعيته التي لا تعرف أية حدود.
قلت: ألا يمكن أن يكون ما حصل من اليهود من إرهاب
مجرد رد فعل لما حصل لهم من إذلال؟
قال: رد
الفعل يكون لمن فعل الفعل لا لغيره.. هكذا يقول المنطق.. وهكذا تقول القيم
النبيلة..
وفي هذه الحالة ينبغي لقومنا أن
يوجهوا رد فعلهم للمسيحيين.. لأنه ـ على مدار التاريخ ـ لم يذل اليهود أحد كما
أذلهم المسيحيون..
لقد ظل اليهود في نظر العالم المسيحي
بأسره (أمة ملعونة) لمدة ألف وخمسمائة عام، لأنهم ـ في اعتقاد المسيحيين ـ قتلة
السيد المسيح.
وقد عانى اليهود صنوفا من الاضطهاد
والازدارء بناء على هذا التصور الذي ترسخ في العقل المسيحي وصمد على مر القرون،
مدعوما بنصوص كثيرة من الإنجيل، وظروف اجتماعية وسياسية خاصة[7].
أما حياتهم مع المسلمين، فقد كانت لا
تختلف عن حياة المسلمين أنفسهم.. بل إن العصر الذهبي لليهود لم يعيشوه إلا في ظلال
المسلمين..
فقد كان
اليهود ـ الذين يعيشون في بلاد المسلمين ـ يشاركون في معظم مجالات الحياة وفي كل
المهن والحرف تقريباً، وكانت ملكية الأراضي مفتوحة أمامهم، كما أنهم تملكوا
العقارات في كل أنحاء البلاد وتناقلوها عن طريق الوراثة أو عمليات البيع والشراء
فيما بينهم وبين المسلمين دون أية مضايقات [8].
وكان لهم
مطلق الحرية في العمل التجاري بلا حدود، وكانت نقابات الحرفيين والمهنيين مفتوحة
للجميع بغض النظر عن أي دين أو مذهب أو أصل.
وقد شغل
اليهود أعلى الوظائف الحكومية شريطة أن تكون الوظيفة ذات طابع تنفيذي، ولا تعطي
صاحبها سلطات تشريعية أو سياسية، ذلك أن الدولة الإسلامية كانت ترى أن مثل هذه
الوظائف لابد أن يشغلها مسلم لاعتبارات أمنية [9]
وقد تَركَّز
اليهود أيضاً في الوظائف والمهن التي تتطلب التعامل مع غير المسـلمين مثل التجـارة
الدوليـة والدبلوماسـية والترجمة.
وقد أدَّى
وجود الجماعات اليهودية داخل الإطار الحضاري الإسلامي الموحَّد إلى سهولة حركة
اليهود برؤوس أموالهم وأفكارهم وإلى تمازجهم، فاندمجت الجماعة اليهودية إلى حد
كبير في المجتمع العربي الإسلامي.
وتتضح درجة
الاندماج الاجتماعي والاقتصادي العالية في أن تركيب اليهود الطبقي لم يكن يختلف عن
تركيب المجتمع ككل.. ويظهر الاندماج الثقافي في أن لغة أعضاء الجماعة اليهودية،
سواء في الحديث اليومي أو في أدبياتهم الدينية أو الدنيوية، هي العربية.
وحينما قام
سعيد الفيومي بترجمة التوراة في القرن العاشر الميلادي، أشار إلى الآرامية
باعتبارها لغة الآباء، بل تأثرت نظرتهم إلى العبرية نفسها بمعرفتهم بالعربية، وهو
ما أدَّى إلى بعثها وتجديدها، فاهتموا بمفرداتها ونحوهـا وصرفهـا ووضعوا لها
المعاجم.
وقد تأثر
الأدب العبري، وخصوصاً الشعر، بالأدب العربي، فأخذوا الأوزان والقافية من الشعر
العربي. كما تأثر التراث الديني اليهودي بالتراث الديني الإسلامي إلى درجة أعمق من
تأثره بالهيلينية، فظهر أساطين الفكر العربي الإسلامي اليهودي مثل سعيد بن يوسف
الفيومي وطائفة القرّائين (منتصف القرن الثامن)، وجمعت الهلاخاه (الشريعة)
وصُنِّفت على طريقة المصنفات الفقهية الإسلامية، وأصدر علماء اليهود الفتاوى على
نمط الفتاوى الإسلامية.
بل إنه لا
يمكن فَهْم التراث الديني اليهودي في هذه المرحلة إلا بالعودة إلى التراث
الإسلامي؛ الفلسفي والديني.. بل إن تَفاعُل أعضاء الجماعة اليهودية مع الحضارة
الإسلامية أمر لا نظير له في أية حضارة أخرى.
وتجب ملاحظة
أن بروز اليهود في الحضارة الغربية الحديثة، وتفاعلهم معها، لم يتم إلا بعد أن تمت
علمنتهم وتخلوا عن أية هوية دينية يهودية، على عكس النجاح الذي حققوه في إطار الحضارة
العربية الإسلامية إذ حققوه باعتبارهم يهوداً ذوي هوية دينية مستقلة.
وقد شهد
القرنان العاشر والحادي عشر الميلاديان ـ في الأندلس ـ تَشرُّب اليهود الحضارة
العربية الإسلامية، وتَحسُّن أحوالهم المعنوية والروحية والمادية، وتعريب أسمائهم
ولغتهم ورؤيتهم، وَتأثُّر آدابهم الدنيوية والدينية بالتراث العربي الإسلامي.
وقد وصل
اليهود في الفترة نفسها إلى مكانة عالية رفيعة، فعملوا في الوظائف الإدارية
والمالية حيث كان يعمل بعضهم في وظيفة يهود البلاط، واشتغلوا بالتجارة المحلية
والدولية التي كانت تصل حتى حدود الصين أو كانت تدخل إلى أوربا، واحتكروا بعض
أنواع التجارة مثل تجارة العبيد الذين كانوا يحضرونهن من بلاد الصقالبة، واشتغلوا
بالحرف مثل الصباغة كما اشتغلوا بالزراعة.
وقد برز
اليهود في وظائف محددة مثل التجارة الدولية والترجمة بسبب وضعهم وثقافتهم، فقد
كانوا يجيدون العربية والعبرية وبعض اللغات الأوربية، الأمر الذي حوَّلهم إلى حلقة
وصل وجماعة وظيفية وسيطة بين العالمين الإسلامي والمسيحي، وخصوصاً أنهم كانوا
ينتقلون بسهولة ويسر بين إسبانيا المسلمة وإسبانيا المسيحية، فكان اليهودي ينشـأ
في إسـبانيا المسـيحية مثلاً ثم ينتقل إلى إسبانيا المسلمة أو العكس.
وقـد
تَركَّز اليهـود في المدن مثل قرطبة وطليطلـة وأشبيلية وسرقسطة. ووصل بعض اليهود
إلى أعلى الوظائف الحكومية بما في ذلك أعلى مراتب الوزراء كما هو الحال مع حسداي
بن شفروط الذي كان يعمل طبيباً ودبلوماسياً في بلاط عبد الرحمن الثالث (912 ـ 961)
والحكم الثاني (961 ـ 972). وقد تحوَّلت الأندلس إلى أهم مراكز اليهودية في
العالم.
قلت: وماذا قدم قومنا لليهود؟
قال: لقد قدموا لهم المذابح الكثيرة التي لا تنتهي..
وآخرها هي إرسالهم إلى المسلمين.. لعلمهم أن المسلمين مع كونهم مسالمين إلا أنهم لا
يسكتون عن ضيم ولا يخضعون عن ذلة.
قلت: عرفت ما فعل المجرمون من اليهود.. ولم أكن
أحتاج لمعرفة تفاصيل ذلك، فما تبرزه لنا الأخبار الموضوعية كل يوم لا يزيدنا إلا
يقينا بالأحقاد التي تمتلئ بها قلوبهم.. فحدثني عن قومي من المسيحيين.
قال: قومك من المسيحيين على امتداد تاريخهم لا يقلون
دموية عن هؤلاء.
قلت: احذر من الحديث عن المسيحية
بشيء من أحاديث العوام.. فالمسيحية لا يمثلها إلا رجال الدين.
قال: سأحدثك عما فعله أكبر رجال الدين في المسيحية..
سأحدثك عن البابوات المعصومين.. ألستم تعتبرون البابوات معصومين؟
سكت، فقال: إن كل الجرائم التي حدثت
باسم الحروب الصليبية أول من يتحمل وزرها هم البابوات..
ففكرة الحروب ذات الطابع الديني
الخالص ترجع لكرسي البابوية التي أضفت على الصراع الخالد بين المسلمين والمسيحيين
صفة الصليبية المتعصبة.
وخلال هذا الصراع الطويل برز العديد
من الباباوات الذين كان لهم دور بارز في تأجيج المشاعر العدائية ضد الإسلام
والمسلمين تمثلت في حملات صليبية عالمية على الأمة الإسلامية:
منهم البابا حنا العاشر [914-928]
فهو أول من نادى بطرد المسلمين من الحوض الغربي للبحر المتوسط؛ بدءًا بجنوب إيطاليا
وجزر البحر المتوسط وجنوب غربي فرنسا ثم إسبانيا, وهي الفترة التي كانت دولة
الإسلام في الأندلس وقتها في أوج قوتها ومجدها تحت قيادة عبد الرحمن الناصر أول من
تلقب بأمير المؤمنين في الأندلس, وكانت البابوية وقتها في حالة صراع مرير ضد
الإمبراطور أوتو الكبير عطلت دعوات حنا العاشر وخططه نحو شن حرب صليبية ضد
المسلمين.
يليه البابا إسكندر الثاني
[1061-1073] الذي يعتبر أول من استخدم فكرة صكوك الغفران كورقة لتحميس الأوروبيين
على حرب المسلمين, وذلك عندما دعاهم سنة 1063م لنجدة إخوانهم الإسبان في الأندلس
من نير المسلمين, مع العلم أن المسلمين كانوا وقتها في أضعف حالاتهم تحت حكم ملوك
الطوائف, وقد أسفرت هذه الدعوة عن واحدة من أشد المجازر البشرية روعة عندما شن
نصارى أوروبا حربا صليبية بقيادة قائد فرسان البابوية على مدينة بربشتر في شرق
الأندلس سنة 1064م راح ضحيتها أربعون ألف مسلم غير آلاف الأسارى من البنات
والصبيان.
يليهما البابا جريجوري السابع الذي
يعتبر أكبر من تولى منصب البابوية في التاريخ الكنسي كله, وهو مؤسس فكرة الحملات
الصليبية الشهيرة على العالم الإسلامي بالشام ومصر, وقد تولى البابوية خلفا
لإسكندر الثاني سنة 1073م, وهو ألماني الأصل, وكانت ولايته للبابوية نقطة تحول
فاصلة في حياة البابوية, إذ أصبح البابا من عهده هو سيد العالم النصراني وسيد
أوروبا المطلق وصاحب السلطة الأكبر والأهم على نصارى العالم القديم, وقد أثبت ذلك
في صراعه ضد الإمبراطور هنري الرابع الذي اضطر للتوجه إلي قلعة كانوسا حيث مقر
إقامة البابا جريجوري السابع طلبًا لمغفرة البابا وصفحه بعد أن ثار عليه شعبه
وقواده.. وإمعانًا في إظهار السيادة والقوة تركه جريجوري ثلاثة أيام حافيًا عاري
الرأس على الجليد حتى يرضي عنه.
هذا البابا أول من أشعل الحملات
الصليبية على الأمة الإسلامية, ولكن العمر لم يطل ليشهد انطلاق هذه الحملات حيث
هلك سنة 1088م وترك ذلك لتلميذه النجيب أوربان الثاني الذي أخذ على عاتقه إدخال
الحملات الصليبية موضع التنفيذ, وقد قام بجولة أوروبية واسعة لحشد الرأي العام
واستثارة الهمم الصليبية من أجل ذلك, ثم دعا لمؤتمر مصيري في كليرمونت بفرنسا في
27 نوفمبر سنة 1095م, وفيه أطلق صيحته الشهيرة (إنها إرادة الرب), وأمر كل مسيحي
ومسيحية بالخروج لنجدة القبر المقدس من أيدي الكفرة (يعني المسلمين)، ثم أفاض في
حديث مليء بالكذب والأباطيل عن الاضطهادات التي يتعرض لها المسيحيين والحجيج ببلاد
المسلمين, فأدى ذلك لاشتعال روح حماسية عارمة بأوروبا نحو حرب المسلمين والخروج
إلى بلادهم.
وقد أرسل أوربان أحد الرهبان
المتعصبين واسمه بطرس الناسك, وكان ذا موهبة خطابية فائقة, فطاف أوروبا بأسرها
يدعو المسيحيين لمحاربة المسلمين, ونتيجة لخطب ومواعظ بطرس الناسك الحماسية
والمليئة بالمؤثرات من بكاء وعويل وأكاذيب خرج مئات الآلاف من نصارى أوروبا
استجابة لنداء البابا ورغبة في المغفرة ودخول الجنة بزعمهم, وذلك بلا نظام ولا
ترتيب ولا قيادة, وهي الحملة المعروفة باسم حملة الرعاع والتي أبادها السلاجقة،
ومؤرخو أوروبا يغفلون ذكر هذه الحملة ولا يعدونها من ضمن الحملات الصليبية.
ثم تلت هذه الحملة الفاشلة حملة
الأمراء، وكان معظمهم من فرنسا وقدرت بمليون مقاتل صليبي وذلك سنة
وقد تلى المجرم أوربان الثاني البابا
أوجينيوس الثالث.. والذي اعتلى كرسي البابوية سنة
وتلاه البابا باسكوال الثاني، وهو
الذي أنشأ جماعة فرسان المستشفى, والمعروفة في المراجع العربية بالإسبتارية, وذلك
سنة
تلاه البابا كالكتس الثاني، وهو الذي
أنشأ جماعة فرسان معبد سليمان أو الداوية كما هو معروف في المراجع العربية, وكانت
مهمتهما حماية طريق الحجاج، وهذه الجماعة من أشد الجماعات الصليبية تعصباً وحقداً
على المسلمين وحماسة في قتالهم، وهذه الجماعة وسابقتها عملت على تنمية الروح
الصليبية الخالصة ونشر فكرة التطوع ونذر النفس لمحاربة المسلمين، وكانت تقوم على
فكرة المزج بين الرهبنة والجندية, ومعظم فرسانها من الرهبان والقساوسة, وكان
المسلمون إذا ظفروا بأي أسير من هاتين الجماعتين قتلوه فوراً لكثرة جرائمهم
ووحشيتهم ضد المسلمين، وكانت هاتان الجماعتان تحت الإشراف المباشر لبابا روما,
ولهما من الامتيازات والإقطاعات ما يكفيهم عن العمل والتفرغ لقتال المسلمين.
تلاه البابا جريجوري الثامن الذي خلف
البابا أوربان الثالث الذي خرّ ميتاً من هول الصدمة بعد أن حقق المسلمون بقيادة
صلاح الدين انتصارهم العالمي وحرروا بيت المقدس سنة 583 هـ ـ 1187م.
وقد كان البابا جريجوري الثامن شيخاً
كبيراً, ولكنه سعى بكل جهده لشن حملة صليبية ثالثة على العالم الإسلامي, فأرسل
خطاباً عاماً لنصارى أوروبا ووعدهم فيه بالمغفرة الكاملة لجميع خطاياهم، وفرض
عليهم صياماً في كل يوم جمعة على مدى خمس سنوات قادمة، وفرض عليهم ضريبة تقدر بـ10
بالمائة من دخولهم عرفت باسم ضريبة صلاح الدين, والامتناع عن أكل اللحوم في أيام
السبت والأربعاء من كل أسبوع، وقد أدى هذا الخطاب لحماسة جارفة عمت أنحاء أوروبا
أسفرت عن الحملة الصليبية الثالثة والمعروفة باسم حملة الملوك.
تلاه البابا أنوسنت الثالث الذي تولي
كرسي البابوية سنة 1198م، وكان صغيراً نوعاً ما مقارنة لمن سبقوه من الباباوات،
وقد أحدث هذا البابا تغيرات خطيرة وجذرية بمكانة كرسي البابوية أشبه ما يكون
بجريجوري السابع، حيث كان يرى أن البابا يجب أن يكون صاحب سلطة روحية وزمانية أو
نوعاً من القسيس الملك، ورفض أن يكون دور البابا منحصراً في مجرد الدعوة للحملات
الصليبية ومنح صكوك الغفران، بل يجب أن يكون الأمر كله تحت سيطرة البابوية، لذلك
كان أكثر الباباوات محاربة للمسلمين وشناً للحملات الصليبية ضدهم، وهو أول من حول
دفة الهجوم من الشام إلى مصر مركز الثقل في العالم الإسلامي وقتها، وبالفعل أثمرت
جهود أنوسنت الثالث لشن الحملة الصليبية الرابعة وذلك سنة 1204م والتي تعتبر أفشل
الحملات الصليبية؛ حيث توجهت للقسطنطينية عاصمة بيزنطة بدلاً من بلاد الإسلام،
وذلك بسبب العداء المذهبي بين البيزنطيين الأرثوذكس والفرنجة الكاثوليك.
ورغم هذا الفشل الذريع لأنوسنت
الثالث في الحملة الرابعة إلا أنه عاد وأرسل حملة أخرى سنة
تلاه هونريوس الثالث، وهو الذي خلف
البابا أنوسنت الثالث وسار على نهجه واستكمل الدور الذي بدأه في شن الحملة
الصليبية الخامسة على المسلمين, وتأكيدًا لسياسة أنوسنت الثالث أرسل هونريوس
مبعوثًا من طرفه هو الكاردينال البرتغالي (بلاجيوس) لقيادة الحملة, ليس فقط روحيًا
وإنما أيضًا عسكريًا وميدانيًا, وكان بلاجيوس هذا تلميذًا نجيبًا لأنوسنت الثالث
يؤمن بكل مبادئه, ويفيض كراهية وكرهًا على المسلمين, شديد الإيمان بفكرة الحروب
الصليبية, ولكنه كان لا يصلح بالمرة للقيادة العسكرية, فهو ضيق الأفق, عديم
الخبرة, مستبد, مغرم بنفسه, شديد العناد, وهي خصال كلها كانت متوافرة في أستاذه
أنوسنت, وأيضًا هي الخصال التي ستؤدي لفشل الحملة التي قادها على دمياط سنة
1221م-618هـ.
تلاه جريجوري التاسع، وهذا البابا
يعتبر تجسيدًا حقيقيًا وواضحًا عن النفسية البابوية المليئة بالحقد والكراهية
للإسلام والمسلمين, ذلك أن أكبر ملوك أوروبا وقتها وهو الإمبراطور (فريدريك
الثانى) قد تلكّأ في الخروج لقتال المسلمين بسبب عدم اقتناعه بفكرة الحروب
الصليبية بالكلية, ما حدا بالبابا أن يصدر مرسومًا بالحرمان الكنسي والطرد من
الرحمة بحقه وذلك سنة 1227م, وأجبره على الخروج في حملة صليبية على بلاد الإسلام,
وهي الحملة السادسة, ولقد استطاع فريدريك أن يستولي على بيت المقدس عن طريق
التفاوض مع ملك مصر الذليل الجبان (محمد الكامل الأيوبي), وذلك من غير ضربة سيف
واحدة, فما كان من جريجوري التاسع إلا أن أصدر قرارًا ثانيًا بحرمان فريدريك من
الجنة! وأطلق عليه لقب الزنديق الأكبر, وقال كلمته الشهيرة والتي تعبر بصدق عن
النفسية الحاقدة على الدين وأهله: إن الملوك الصليبيين يذهبون لسفك دماء المسلمين,
وليس للتفاوض معهم. وبعدها شنت البابوية حربًا لا هوادة فيها ضد أسرة فريدريك كلها
وأبادتها بالكلية, ودبرت عدة محاولات لاغتيال فريدريك ولكنها باءت بالفشل, وذلك
كله لأن فريدريك رفض الانصياع لأوامر البابا في قتال المسلمين.
تلاه أنوسنت الرابع، وهو أول بابا في
تاريخ البابوية يفكر في تشكيل حلف نصراني – وثني ضد العالم الإسلامي, وذلك عندما
أرسل إلى خان المغول يعرض عليه مشروعًا شريرًا لمحاربة العالم الإسلامي والجهتين
الشرقية والشمالية من أجل إبادة المسلمين بالكلية, وقد أوفد البابا الشرير من أجل
استمالة المغول المئات من الأوربيات الزانيات من أجل إغواء المغول كخليلات
وعشيقات, وكان لهذا السلاح مفعول السحر خاصة أيام الطاغية هولاكو, ولكن هذه
المحاولات ورغم كثرتها وتأثيرها الجزئي إلا أنها فشلت في النهاية بسبب إصرار الخان
على خضوع البابا والأوروبيين له ودفع الجزية السنوية له.
ولما فشلت مساعي أنوسنت الرابع اتجه
نحو إعلان حرب صليبية جديدة على العالم الإسلامي كانت الأكبر والأفضل تنظيمًا
وتسليحًا وقيادة؛ إذ ندب لقيادة الحملة ملك فرنسا (لويس التاسع) وخلع عليه لقب
قديس, وكان لويس التاسع شديد الإيمان بفكرة الحروب الصليبية ووجوب محاربة
المسلمين, وذلك سنة 1249 م، ولكن هذه الحملة كان مصيرها الفشل الذريع كسابقتها.
بعد ذلك عمت روح من الفتور في أرجاء
أوروبا وفقدت البابوية حماستها المتقدة, وانشغل الباباوات خلال هذه الفترة
بمشاكلهم الداخلية مع قادة الدول الأوروبية والصراع ضد أسرة الهوهنشتاوفن
الألمانية والحركات الإلحادية في جنوب فرنسا، باستثناء المحاولات التي قام بها
البابا كليمنت الرابع وخليفته نيكولاس الرابع من أجل تشكيل حلف بين المغول
والصليبيين للتصدي لدولة المماليك القوية الآخذة في النمو والتمدد نحو الشام وحدود
العراق, وذلك سنة 1267م ـ 1274م.
وظل الأمر هكذا حتى ظهرت الدولة
العثمانية في منطقة الأناضول, وذلك في أوائل القرن الثامن الهجري وأواسط القرن
الرابع عشر الميلادي.
حيث جاء دور البابا كليمانس السادس
ليكمل الدور الإجرامي لمن سبقه من البابوات.. وقد كان هذا البابا هو أول الباباوات
دعوة لتكوين حلف صليبي مقدس ضد الدولة العثمانية الناشئة في آسيا الصغرى أو
الأناضول, وذلك سنة 1344م, وكانت الاستجابة في بدايتها ضعيفة ومحدودة، ولكنها مع
الوقت أخذت في التوسع والازدياد، خاصة مع الحماسة الدينية المتأججة في قلوب ملوك
قبرص التي أصبحت من أخطر البؤر الصليبية على الإسلام والمسلمين في هذه الفترة.
تلاه البابا أوربان الخامس، ويعتبر
أول الباباوات الداعين لحرب صليبية ضد العثمانيين ولكن بجنود من المسيحيين
الأرثوذكس, وذلك سنة 1364 م، وذلك أن إمبراطور بيزنطة وقتها قد تحول للمذهب
الكاثوليكي من أجل إغراء البابا والدول الأوروبية الكاثوليكية بمساعدته ضد قوة
العثمانيين المتنامية, وذلك أيام السلطان مراد الأول، وقد استجاب لدعوة أوربان
الخامس كل من لويس ملك المجر وبولندا وأمراء البوسنة والصرب ورومانيا وشكلوا حلفاً
صليبياً مقدساً، ولكن هذا الحلف مني بهزيمة ساحقة عند نهر مارتيزا بالقرب من
أدرنة، وهذه الهزيمة الكبيرة جعلت أوربان يجن جنونه ويكلف ملك قبرص الصليبي واسمه
[بطرس الأول] بغزو ميناء الإسكندرية وإيقاع أكبر قدر من الخسائر البشرية فيها،
وكان بطرس شديد الصليبية والإيمان بوجوب قتال المسلمين, فاستجاب على الفور لدعوة
البابا وقاد حملة صليبية نزلت بالإسكندرية سنة 1365م, وارتكبت هذه الحملة مجزرة
بشرية مروعة راح ضحيتها عشرات الآلاف من أهل الإسكندرية, ثم غادرها بطرس مسرعاً
قبل أن يقوم المسلمون بنجدة المدينة, وكما قال المؤرخون:« دخل الإسكندرية لصاً وخرج منها لصاً
»
تلاه البابا بونيفاس التاسع.. وهو
البابا الذي دعا إلى حلف صليبي يكون فيه كل الأوروبيين الكاثوليك والأرثوذكس, وكان
الأكبر في القرن الرابع عشر والأضخم في تاريخ الصراع بين الصليبيين والعثمانيين,
وذلك سنة 1396م, ولأول مرة يقاتل الكاثوليك جنباً إلى جنب مع الأرثوذكس ضد
المسلمين، ولقد انتصر بايزيد على هذا الحلف الصليبي الضخم في معركة نيكوبوليس
انتصاراً رائعاً.
تلاه البابا أوجين الرابع، وهو ترجمة
عملية للغدر والخيانة ونقض العهود، وذلك أن الدولة العثمانية كانت قد وقّعت معاهدة
سلام لمدة 10 سنوات مع الدول الأوروبية, وذلك سنة 1442م, ولم يكن أوجين الرابع
راضيًا عن هذه المعاهدة, فأرسل من طرفه الكاردينال الإيطالي الشرير (سيزاريني)،
فطاف على ملوك أوروبا وحرّضهم على نقض المعاهدة مع العثمانيين وأحلهم من وزر ذلك,
واصطحب معه صكوك غفران موقعة من البابا أوجين الرابع لكل من يشترك في هذه الحملة,
فاستجاب لندائه كل ملوك أوروبا وعلى رأسهم (لاديساس) ملك المجر، وكانت أخبار
اعتزال مراد الثاني الحكم لابنه محمد الثاني، ثم تفرغه للعبادة قد وصلت لأوجين
الرابع, فقرر استغلال الفرصة للهجوم على العالم الإسلامي, وذلك سنة 1448م، ولكن
مؤامراته الشريرة تحطمت تحت سيوف العثمانيين الذين أنزلوا هزيمة ساحقة على التحالف
الصليبي، وقتل (لاديساس) في المعركة ومعه الكاردنيال الشرير (سيزارينى)
تلاه البابا نيقولا الخامس، وهو
البابا الذي كان من قدره أن يكون على كرسي البابوية سنة 1453م, وهي سنة فتح
القسطنطينية على يد العثمانيين بقيادة محمد الفاتح، فحاول نيقولا الخامس توحيد
الصف النصراني المتشرذم ودعا إلى مؤتمر دولي في روما لشن حرب صليبية جديدة على
المسلمين لاسترجاع القسطنطينية, ولكنه فشل في ذلك, فأصيب بالهم والحزن وقتله الكمد
سنة 1455م، وحاول خليفته بيوس الثاني تأجيج المشاعر الصليبية بكل ما أوتي من مقدرة
خطابية وحنكة سياسية, ولكنه فشل بسبب الخلافات الداخلية بين الدول الأوروبية,
والعجيب والمضحك في نفس الوقت أن بيوس الثاني قد أرسل بخطاب للسلطان محمد الفاتح
يدعوه فيها إلى دخول المسيحية ودعمها, ووعده بأنه سيكفر عنه خطاياه إن هو أعتنق
المسيحية مخلصاً.
تلاه البابا جويلس الثاني، وهو الذي
شكل حلفًا صليبيًا ضد العثمانيين أيام السلطان بايزيد الثاني مستغلاً حالة الصراع
على الحكم بين بايزيد الثاني وأخيه الأمير (جم), فكلف البولنديين بالهجوم على
مولدافيا التابعة للعثمانيين، وشجع الرومانيين على الثورة على العثمانيين في غرب
البلاد, وضم لهذا الحلف فرنسا والمجر وإيطاليا.
تلاه البابا إسكندر السادس، وهو
البابا الذي اشترى الأمير (جم) من فرسان القديس يوحنا, وكان أسيراً عندهم في جزيرة
رودوس, وساوم عليه أخاه السلطان بايزيد الثاني من أجل وقف المساعدات عن مسلمي
الأندلس, ووقف تهديدات العثمانيين لسواحل اليونان، ولكن بايزيد رفض هذه المساومة
الرخيصة، فما كان من إسكندر السادس إلا أن قتل الأمير (جم), ثم دعا إلى حلف صليبي
جديد ضد العثمانيين اشتركت فيه فرنسا وإسبانيا, وذلك سنة 1499 م، فرد بايزيد بكل
قوة على هذه الجريمة الصليبية بنصر بحري كبير على البنادقة في خليج لبياتو.
تلاه البابا بيوس الخامس، وقد ولد في
السنة التي مات فيها سليمان القانوني[10]، وهو رجل في غاية الخطورة، وقد وضع مشروعاً بابوياً لجمع شمل
الدول الأوروبية المتنافسة وتوحيد قواها براً وبحراً تحت قيادة البابوية, كما كان
الحال أيام أنوسنت الثالث، واستطاع بيوس الخامس أن يقنع ملك فرنسا شارل الخامس
بنقض عهوده مع العثمانيين، وازدادت وتيرة الإعداد لحرب صليبية جديدة بعد نجاح
العثمانيين في فتح جزيرة قبرص سنة 1571م، وبالفعل نجحت الحملة الصليبية البابوية
التي كان يقودها الأمير (دون خوان), وهو أخ غير شرعي لملك إسبانيا فيليب الثاني،
وهو أيضاً الذي قضى على ثورة المسلمين في غرناطة قبل ذلك بثلاث سنوات، نجح في
هزيمة الأساطيل العثمانية في معركة ليبانتو سنة 1571م، وكانت أول هزيمة بحرية
ينالها العثمانيون منذ أكثر من 100 سنة، ما جعل الأوروبيون يهللون لهذا النصر
الكبير, وقام بيوس الخامس بعمل قداس خاص بالمناسبة قال فيه:« إن الإنجيل قد عنى دون خوان نفسه
حيث بشّر بمجيء رجل من الله يدعي حنا »
بعد انتصار ليبانتو سنة 1571م لم
يحقق الصليبيون انتصارات كبرى على العثمانيين زعماء العالم الإسلامي، وسرت روح من
الفتور في الجانبين وانشغل كلاهما بمشاكله الداخلية وصراعاته الإقليمية، وظل الأمر
على هذا المنوال حتى تولي كرسي البابوية (جريجوري العاشر) الذي ما إن تولى المنصب
حتى أخذ في الدعوة إلى تشكيل حلف مقدس ضد العثمانيين, مستغلاً حالة الفوضى داخل
الدولة العثمانية نتيجة تولي السلطان محمد الرابع السلطنة، وكان ابن سبع سنوات،
وقد قرر جريجوري الاستفادة من قوة روسيا القيصرية الصاعدة فضمها للحلف على الرغم
من أن الروس أرثوذكس، وكذلك ضم في حلفه النمسا رغم عصيان ملوكها الدائم لأوامر
البابوية, ولكن وجود أسرة كوبريلي في منصب الصدارة العظمى داخل الدولة العثمانية
عطل مشروع جريجوري العاشر حتى جاء خلفه حنا الخامس عشر, والذي استغل فشل الجيوش
العثمانية في فتح فيينا عاصمة النمسا سنة 1094هـ ـ 1681م في تأجيج مشاعر العداء الصليبي
ضد العالم الإسلامي, وكان هذا التاريخ هو تاريخ تحول كفة الصراع لصالح الصليبيين،
وأيضاً تاريخ خفوت صوت البابوية وبروز نجم روسيا القيصرية التي ستدخل في حرب
صليبية طويلة وشرسة نيابة عن العالم الصليبي ضد الدولة العثمانية زعيمة العالم
الإسلامي.
وفي هذه الفترة ظهرت الثورة الصناعية
وما صاحبها من محافل ماسونية وأفكار علمانية تحارب الدين ممثلاً في الكنيسة وحصلت
حالة من الفصام بين الدين والحياة في أوروبا، وأصبح دور البابا منحصراً في الجوانب
الروحية، بل تعرض منصب البابوية نفسه للإلغاء أيام حكم موسوليني في إيطاليا, ولكن
الحقيقة الثابتة والتي لا يستطيع أحد أن يجادل فيها أو يحاول أن يخفيها أن أثر
البابا ظل باقياً في كل الحروب والصراعات التي نشبت بعد ذلك بين العالم الإسلامي
وأعدائه الغربيين، فلقد كان الطابع الصليبي والحقد الديني بارزاً في كل هذه الحروب
والصراعات، وعشرات السنيين التي جثم خلالها الغرب على العالم الإسلامي في صورة
احتلال كانت الصليبية والعداوة الدينية طافحة في كافة أعمال وتحركات الغرب،
والمجازر الوحشية والمروعة التي قام بها الاحتلال الفرنسي في الجزائر والمغرب ودول
غرب إفريقيا ومثيلتها التي قام بها الاحتلال الروسي في القوقاز ووسط آسيا، وغير
ذلك كثير يعتبر خير دليل على الحقد الصليبي الطافح في هذه الحروب, والذي يرجع
الفضل الأول في إبرازه وتأجيجه ثم تثبيته لكرسي البابوية.
قلت: تلك
مواقف رجال دين.. لا مواقف أهل دين.. فلا يمكن أن نحمل المسيحيين ذنب بابواتهم.
قال: صدقت.. ولكن العوام
المساكين أصحاب القلوب الطيبة ملأهم رجال دينهم أحقادا.. لقد كان الجندى الإيطالى الذاهب لاحتلال ليبيا ينشد قائلا:« يا أماه صلاتك و لا تبكى بل اضحكى و تأملى ألا تعلمين أن إيطاليا تدعونى
وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحا مسرورا لأبذل دمى فى سبيل سحق الأمة الملعونة ولأحارب
الأمة الإسلامية سأقاتل لمحو القرأن وإن لم أرجع فلا تبكى على ولدك وإن سألك أحد
عن عدم حزنك على فأجيبيه إنه مات فى محاربة الإسلام »
لقد ذكر (فيدهام) أن الحروب قادها البابوات كانت
مليئة بالفظائع، لأن رجال اللاهوت (الطيبين) كانوا مستعدين دائمًا أن يضعوا الزيت
على النار، وأن يحيوا وحشية الجنود عندما يساورهم أي تردد أو ضعف، فقد يكون الجنود
قساة، ولكنهم كانوا يميلون في بعض الأحيان إلى الرحمة، أما رجال اللاهوت فاعتبروا
الاعتدال والرحمة نوعًا من الخيانة[11].
قلت: ولكن لم لا ننظر إلى تلك الحروب على أنها حروب
تحرير.
قال: نعم..
لقد كانت حروب تحرير.. ولكن بمعنى واحد لا غير.. هو تحرير الأرواح من الأجساد..
لقد روى ابن الاثير في تاريخه [12] عن دخول
الصليبين القدس في الحروب الصليبية فقال:« ملك الفرنج القدس نهار يوم الجمعة
لسبع بقين من شعبان، وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في البلدة أسبوعا يقتلون فيه
المسلمين، واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود، فاعتصموا به، وقاتلوا فيه ثلاثة
أيام، وقتل الفرنج بالمسجد الاقصى ما يزيد على سبعين ألفا، منهم جماعة كبيرة من
أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الاوطان وجاور بذلك الموضع
الشريف »
ووصف ستيفن رنسيمان في كتابه (تاريخ
الحروب الصليبية)[13] ما حدث في القدس يوم دخلها الصليبيون فقال:« وفي الصباح الباكر من اليوم التالي
اقتحم باب المسجد ثلة من الصليبيين، فأجهزت على جميع اللاجئين إليه وحينما توجه
قائد القوة ريموند اجيل في الضحى لزيارة ساحة المعبد اخذ يتلمس طريقه بين الجثث
والدماء التي بلغت ركبتيه وتركت مذبحة بيت المقدس أثرا عميقا في جميع العالم، وليس
معروفا بالضبط عدد ضحاياها غير أنها أدت الى خلو المدينة من سكانها المسلمين
واليهود، بل إن كثير من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث »
وقد وصف كثير من المؤرخين احداث
المذبحة التي حدثت في القدس يوم دخول الصليبيين أليها وكيف أنهم كانوا يزهون
بانفسهم لأن ركب خيولهم كانت تخوض في دماء المسلمين التي سالت في الشوارع.. وقد
كان من وسائل الترفيه لدى الصليبيين أن يشووا أطفال المسلمين كما تشوى النعاج.
ويذكر الكثيرون ما فعل ريتشارد قلب
الاسد في الحملة الصليبية الثالثة عند احتلاله لعكا بأسرى المسلمين فقد ذبح 2700
أسير من أسرى المسلمين الذين كانوا في حامية عكا، وقد لقيت زوجات واطفال الاسرى
مصرعهم الى جوارهم.
وقد ذكر غوستاف لوبون في كتابه
(الحضارة العربية)[14] نقلا عن روايات رهبان ومؤرخين رافقوا الحملة
الصليبية الحاقدة على القدس ما حدث حين دخول الصليبيين للمدينة المقدسة من مجازر
دموية لا تدل إلا على حقد أسود متأصل في نفوس ووجدان الصليبيين، فقد نقل عن الراهب
روبرت، وهو أحد الصليبيين المتعصبين، وهو شاهد عيان لما حدث في بيت المقدس واصفا
سلوك قومه:« كان قومنا
يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل وذلك كاللبؤات
التي خطفت صغارها.. كانوا يذبحون الأولاد والشباب ويقطعونهم إربا إربا وكانوا يشنقون
أناسا كثيرين بحبل واحد بغية السرعة، وكان قومنا يقبضون كل شيء يجدونه فيبقرون
بطون الموتى ليخرجوا منها قطعا ذهبية، فيا للشره وحب الذهب، وكانت الدماء تسيل
كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث »
وقال كاهن أبوس ( ريموند داجميل )
شامتا:« حدث ما هو
عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسرار القدس وبروجها، فقد قطعت رؤوس بعضهم،
فكان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم، وبقرت بطون بعضهم، فكانوا يضطرون إلى القذف
بأنفسهم من أعلى الأسوار وحرق بعضهم في النار، فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا
يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر
المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا»
وقال واصفا مذبحة مسجد عمر:« لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في
هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك، وكانت الأيدي المبتورة
تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها، فإذا اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها..
ولم يكتف الفرسان الصليبيون الأتقياء بذلك، فعقدوا مؤتمرا أجمعوا فيه على إبادة
جميع سكان القدس من المسلمين واليهود وخوارج النصارى الذين كان عددهم ستين ألفا،
فأفنوهم على بكرة أبيهم في ثمانية أيام، ولم يستبقوا منهم امرأة ولا ولدا ولا شيخا
»
ويقول لوبون:« وعمل الصليبيون مثل ذلك في مدن
المسلمين التي اجتاحوها، ففي المعرة قتلوا جميع من كان فيها من المسلمين اللاجئين
في الجوامع والمختبئين في السراديب، فأهلكوا صبرا ما يزيد على مائة ألف إنسان في
أكثر الروايات، وكانت المعرة من أعظم مدن الشام بعدد السكان بعد أن فر إليها الناس
بعد سقوط أنطاكية وغيرها بيد الصليبيين»[15]
أهؤلاء المجرمون محررون..
قارن هذا بما فعله المسلمون بهم لما
تمكنوا منهم..
لقد وصف المؤرخون ما حدث في اليوم
الذي دخل فيه صلاح الدين الأيوبي إلى القدس فاتحا.. فلم ينتقم أو يقتل أو يذبج بل
اشتهر المسلمون الظافرون في الواقع بالاستقامة والانسانية.. فبينما كان الصليبيون
منذ ثماني وثمانين سنة يخوضون في دماء ضحاياهم المسلمين لم تتعرض أي دار من دور
بيت المقدس للنهب، ولم يحل بأحد من الاشخاص مكروه، إذ صار رجال الشرطة يطوفون
بالشوارع والأبواب تنفيذا لأمر صلاح الدين لمنع كل اعتداء يحتمل وقوعه على
المسيحيين.
وقد تأثر الملك العادل لمنظر بؤس
الأسرى، فطلب من أخيه صلاح الدين إطلاق سراح ألف أسير، فوهبهم له، فأطلق العادل
سراحهم على الفور، وأعلن صلاح الدين أنه سوف يطلق سراح كل شيخ وكل امراة عجوز.
وأقبل نساء الصليبيين، وقد امتلأت
عيونهن بالدموع فسألن صلاح الدين أين يكون مصيرهن بعد أن لقي أزواجهن أو آباؤهن
مصرعهم، أو وقعوا في الأسر، فأجاب صلاح الدين بأن وعد باطلاق سراح كل من في الأسر
من أزواجهن، وبذل للأرامل واليتامى من خزانته العطايا كل بحسب حالته، فكانت رحمته
وعطفه نقيض افعال الصليبيون الغزاة.
أما بالنسبة لرجال الكنيسة أنفسهم
وعلى رأسهم بطريرك بيت المقدس، فإنهم لم يهتموا إلا بأنفسهم، وقد ذهل المسلمون
حينما رأوا البطريرك هرقل، وهو يؤدي عشرة دنانير (مقدار الفدية المطلوبة منه)
ويغادر المدينة، وقد انحنت قامته لثقل ما يحمله من الذهب، وقد تبعته عربات تحمل ما
بحوزته من الأموال والجواهر والأواني النفيسة.
سكت قليلا، ثم قال: إن هذه الحملات الصليبية التي قادها البابوات لم
تتوجه ضد المسلمين فقط، بل اتجهت في أوروبا ضد كل من حدثته نفسه بالخروج أو
بالانحراف عن الكنيسة، ففي الحملة ضد الألبيجنس والوالدنس والكثاريين (Cathartics, Waldenses, Aibigenses) مثلاً ـ في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ـ كانت
الكنيسة تحاول إفناءهم إفناءً تامًا.. وهذا ما حققته فعلاً، فقتلت وحرقت وشنقت
الرجال والنساء والأطفال بشكل جماعي.
لا شك أنك سمعت بـ (ملحمة سان
بارتلمى)، وهى مذبحة أمر بها سنة 572م شارل التاسع وكاترينا دوميديسيس حينما قتلت
كاترينا خمسة آلاف من زعماء البروتستانت فى باريس وظنت أنهم يتآمرون بها و بالملك،
ولم يكد ينتشر الخبر فى باريس حتى شاع أنه شرع فى قتل البروتستانت فانقض أشراف
الكاثوليك والحرس الملكى والنبالة والجمهور على البروتستانت وقتلوا عشرة آلاف نسمة
فى مختلف المدن بعد باريس.
وقد باركت الكنيسة الكاثوليكية هذه
المجزرة وما بدا السرور على أحد كما بدا على البابا غريغوري الثالث عشر، وقد أكر
بضرب أوسمة خاصة تخليدا لذكرى هذه المذبحة، ورسمت على هذه الأوسمة صورة غريغوري و
بجانبه ملك يضرب بالسيف أعناق البروتستانت.
وقد ذكر (بوري) في هذا الشأن بأن الأمر المهم، هو أن
الكنيسة أدخلت في القانون العام الأوروبي: المبدأ القائل بأن الملك أو الأمير
يستطيع أن يمارس سلطته على أساس واحد، وهو إفناء فرق الخارجين على الكنيسة، فإن
تجاسر أحد على التردد أرغمته الكنيسة على الطاعة، بجعل امتيازاته وأراضيه ملكًا
لأي فرد تستطيع الكنيسة أن توجهه لمهاجمته وتأديبه.
وفي مكان آخر من دراسته يفسر بأن اضطهاد روما
للمسيحيين يعود إلى تعصب المسيحية، وإلى نقضها لجميع الأديان الأخرى، وإلى عدائها
لجميع أشكال الإيمان خارج إيمانها، وإلى الاعتقاد بأن فوزها يعني إزالة جميع
العقائد.
وقد كانت هذه الظاهرة سببا في جعل (وليم جيمس) يقرر
أن العالم لم يعرف الاضطهاد الديني على نطاق واسع، قبل ظهور الأديان الموحدة، فقد
كانت المسيحية في الواقع أول مذهب ديني في العالم وجد خاصته في التعصب والذي كان
يقضي بإفناء خصومه.
وقصة مذابح الصرب ضد المسلميين فى
البوسنة ليست عنا ببعيدةٍ، ففى أربعة أعوام ذبح المسيحيون 200,000 مسلم و مسلمة
واغتصبوا النساء وشقو بطون الحوامل ودفنو الناس أحياء.. وقصة سربينيتشا تلك القرية
الصغيرة التى أعلنتها الأمم المتحدة منطقة آمنة إلا أن الصرب الصليبيين تعاونوا مع
إخوانهم الهولنديين وغدرو بالقرية الآمنة، وقتلوا عشرة آلاف مسلم فى ليلةٍ واحدة.
نعم إن قومنا يتشدقون ـ كعادتهم ـ
ويقولون بأن الحرب كانت عرقية لا دينية، مع أنهم يعلمون أن عرقية المسلمين هي نفس
عرقيتهم.
لقد كان العالم كله يعلم أن الحرب
بين الصرب والكروات حرب بين المسيحيين والمسلميين.. وكان ذنب المسلميين الوحيد
فيها هو أنهم مسلمون.
سكت قليلا، ثم قال: لا شك أنك سمعت
بمحاكم التفتيش..
قلت: أجل.. ولكني لم أسمع تفاصيل
أخبارها.
قال: لقد
بدأت هذه المحاكم فى القرن الثالث عشر لإرهاب (الهراطقة) الخارجين عن الكنيسة، لكن
أشنع فصولها بدأ بسقوط غرناطة و وقوع المسلمين فريسة لعدو خائن نقض كل العهود و المواثيق
التى وقعت فى عام 1491م بين أبى عبد الله الصغير وفرديناند و التى إشترط المسلمون
أن يوافق عليها البابا ويقسم على ذلك، ولكن هيهات فهؤلاء لا عهد لهم ولا ذمة و مما
جاء فى المعاهدة:« تأمين
الصغير والكبير فى النفس والأهل والمال إبقاء الناس فى أماكنهم ودورهم ورباعهم
وإقامة شريعتهم على ما كانت ولا يحكم على أحد منهم إلا بشربعتهم وأن تبقى المساجد
كما كانت والأوقاف كما كانت، وألا يدخل نصرانى دار المسلم ولا يغصبوا أحدا...وألا
يؤخذ أحد بذنب غيره وألا يكره من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم ولا ينظر نصرانى
على دور المسلمين ولا يدخل مسجدا من مساجدهم ويسير فى بلاد النصارى آمنا فى نفسه و
ماله.. ولا يمنع مؤذن ولا مصل ولا صائم ولا غيره فى أمور دينه »
ومع قسم فرديناند وإيزابيلا على كل
هذا إلا أن الأيمان والعهود لم تكن عند ملكى المسيحيين سوى ستارا للغدر و الخيانة،
فقد نقضت كل هذه الشروط، ولم يتردد المؤرخ الغربى(بروسكوت) أن يصفها بأنها أفضل
مادة لتقدير الغدر الأسبانى , فقد نقض الإسبان هذه المعاهدة بندا بندا، فمنعو
المسلمين من النطق بالعربية فى الأندلس، وفرضوا إجلاء المسلمسن الموجودين فيها
وحرق ما بقى منهم، وزاد الكردينال (أكزيمينيس) على ذلك، فأمر بجمع كل ما يستطيع من
كتب المسلمين وفيها من العلوم ما لا يقدر بثمن بل هى خلاصة ما تبقى من الفكر
الإنسانى وأحرقها.
يقول غوستاف لوبون متحسرا على فعلة
ذلك الجاهل أكزيمينيس:« ظن رئيس الأساقفة أكزيمينيس أنه
بحرقه مؤخرا ما قدر على جمعه من كتب أعدائه العرب (أى ثمانين ألف كتاب) محا ذكراهم
من الأندلس إلى الأبد فما درى أن ما تركه العرب من الأثار التى تملأ بلاد إسيانية
يكفى لتخليد إسمهم إلى الأبد »
لقد هدفت محاكم التفتيش إلى تنصير
المسلمين بإشراف السلطات الكنسية، وبأبشع الوسائل، ولم تكن العهود التى قطعت
للمسلمين لتحول دون النزعة الصليبية التى أسبغت على سياسة إسبانيا الغادرة ثوب
الورع والدين.
لقد قاوم المسلمون التنصير وأبوه
وبدأ القتل والتنكيل فيهم، فثارو فى غرناطة وريفها، فمزقهم الأسبان بلا رحمة.
وفى عام 1501م أصدر الملكان
الصليبيان مرسوما خلاصته:« إنه لما كان الرب قد إختارهما
لتطهير غرناطة من الكفرة، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها ويعاقب المخالفون بالموت
أو مصادرة الأموال »
فهاجرت جموع المسلمين إلى المغرب
لتنجوا بدينها، ومن بقى من المسلمين أخفى إسلامه، وأظهر تنصره، فبدأت محاكم
التفتيش نشاطها الوحشى المروع، فحين التبليغ عن مسلم يخفى إسلامه يزج به فى
السجون.
وكانت السجون وحشية رهيبة مظلمة
عميقة تغص بالحشرات والجرذان ويصفد فيها المتهمون بالأغلال بعد مصادرة أموالهم
لتدفع نفقات سجنهم.
ومن أنواع التعذيب التي كانت تمارس
فيها ملء البطن بالماء حتى الاختناق وربط يدى المتهم وراء ظهره وربطه بحبل حول
راحتيه وبطنه ورفعه وخفضه معلقا سواء بمفرده أو مع أثقال تربط به والأسياخ المحمية
وتمزيق الأرجل وفسخ الفك.
وكانت أغلب الأحكام بالإحراق وهو
الحكم الذى كان غالبا عند الأحبار الذين يشهدون تنفيذه مع الملكين الكاثوليكيين فى
(حفلات الإحراق)
ويوم احتلال نلبليون لإسبانيا بعد
قيام الثروة الفرنسية على أنقاض الكنيسة قام بإلغاء محاكم التفتيش، ولكن رهبان
(الجزويت) أصحاب هذه المحاكم استمروا فى القتل والتعذيب، فشمل ذلك الجنود
الفرنسيين المختطفيين، فأرسل المريشال(سولت) الحاكم العسكرى المدنى امدريد
الكولونيل (ليمونكى) مع ألف جندى وأربعمائة مدفع وهاجم دير الديوان، وبعد تفتيش
الدير لم يعثرو على شىء، فقرر الكولونيل فحص الأرض وحينئذ نظر الرهبان إلى بعضهم
البعض نظرات قلقة، وأمر الكولونيل جنده برفع الأبسطة فرفعوها، ثم أمر بأن يصبوا
الماء فى كل غرفة على حدة، فإذا بالماء يتسرب إلى أسفل من إحدى الغرف، فعرف أن
هناك بابا يفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة وضعت بجوار رجل مكتب الرئيس (تماما
كما نشاهد فى أفلام الرعب) وفتح الباب واصفرت وجوه الرهبان وظهر سلم يؤدى إلى باطن
الأرض.
لقد ذكر ذلك الكولونيل فى مذكراته:« فإذا نحن فى غرفة كبيرة مربعة وهى
عندهم قاعة المجكمة وفى وسطها عمود من رخام به حلقة حديدية ضخمة ربطت بسلاسل كانت
الفرائس تربط بها رهن المحاكمة وأمام ذلك العمود عرش (الدينونة) وهو عبارة عن دكة
يجاس عليها رئيس محكمة التفتيش وإلى جواره مقاعد أخرى أقل ارتفاعا لبقية القضاة ثم
توجهنا إلى آلات التعذيب وتمزيق الأجساد البشرية، وقد امتدت تلك الغرف مسافات
كبيرة تحت الأرض، وقد رأيت بها ما يستفز نفسى، ويدعونى إلى التقزز ما حييت, رأينا
غرفا صغيرة فى حجم الإنسان بعضها عمودى وبعضها رأسى فيبقى سجين العمودية واقفا
فيها على رجليه مدة سجنه حتى يقضى عليه، ويبقى سجين الأفقية ممددا بها حتى الموت،
وتبقى الجثة بالسجن الضيق حتى تبلى ويتساقط اللحم عن العظم ولتصريف الروائح
الكريهة المنبثقة من الأجداث البالية تفتح كوة صغيرة إلى الخارج، وقد عثرنا على
عدة هياكل بشرية لا زالت فى أغلالها سجينة، والسجناء كانوا رجال ونساء وأطفال
وشيوخ ما بين الرابعة عشر إلى السبعين، وكان السجناء عراة زيادة فى النكاية بهم،
وانتقلنا إلى الغرف الأخرى فرأينا ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات لتكسير
العظام وسحق الجسم، وعثرنا على صندوق فى حجم الرأس تماما يوضع فيه رأس المعذب بعد
أن يربط بالسلاسل فى يديه وقدميه فلا يقوى على الحركة فيقطر الماء البارد على رأسه
من أعلى الصندوق نقطة نقطة، وقد جن الكثيرون من هذا اللون من العذاب، وعثرنا على
آلة تسمى السيدة الجميلة، وهى عبارة عن تابوت تنام فيه صورة فتاة جميلة مصنوعة على
هيئة الإستعداد لعناق من ينام معها، وقد برزت من جوانبها عدة سكاكين حادة، وكانوا
يطرحون الشاب المعذب فوق هذه الصورة، ثم يطبقون عليه باب التابوت بسكاكينه
وخناجره، فإذا أغلق الباب مزق الشاب إربا كما عثرنا على آلة لسل اللسان، ولتمزيق
أثداء النساء وسحبها من الصدور بواسطة كلاليب فظيعة ومجالد من الحديد الشائك لضرب
المعذبين العراة حتى يتناثر اللجم من العظم »
لم أملك نفسي، فسالت دموع حارة من
عيني، فقال: هذه مجرد أمثلة عن الجرائم التي ارتكبها أولئك الذين يحملون الصليب،
ويرتلون الكتاب المقدس، ويغنون للسلام.
التفت إلي، وقال: لا تتعجب من ذلك..
فهم لا ينفذون إلا إرادة الرب.. لقد قال لهم يسوع:« لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ
لأُرْسِيَ سَلاماً عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُرْسِيَ سَلاَماً، بَلْ سَيْفاً.
فَإِنِّي جِئْتُ لأَجْعَلَ الإِنْسَانَ عَلَى خِلاَفٍ مَعَ أَبِيهِ، وَالْبِنْتَ
مَعَ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ مَعَ حَمَاتِهَا. وهَكَذَا يَصِيرُ أَعْدَاءَ
الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ » (إنجيل متى:10:34-36)
فلذلك هم ينفذون هذه الأوامر بدقة
متناهية..
أما تفاصيل تطيبقها فقد شرحها لهم
العهد القديم بما لا مزيد عليه..
قلت: ولكن الكتاب المقدس يقول:« من ضربك على خدك الايمن فأدر له خدك
الايسر »
قال: أتدري المعنى الرمزي الذي تحمله (فأدر له خدك
الايسر)؟
قلت: ألهذه الكلمة معنى رمزي؟
قال: أجل.. يختص به فقهاء المسيحية..
قلت: فما هو؟
قال: إن إدارة خدك الأيسر له لا تعني أن تمكنه من
ضربه، ولكن تعني أن تحاول اجتثاثه وقلعه وإبادته.. فالخد الأيسر في معناه الرمزي
هو الإبادة بكل ما شرح الكتاب المقدس من طرق الإبادة.
قلت: لقد اقشعر قلبي مما ذكرت مما
فعله أهل ديني.. فحدثني عن أهل حضارتنا.. هذه الحضارة الممتلئة بالفلسفات والمذاهب
والأفكار.
قال: لو ذهبت أحدثك عن جرائمها لما انتهينا.. ولذلك
سأكتفي بتحديثك عن الجرائم التي أسست لتلك الدولة العظمى التي لا تزال تنشر الخراب
في العالم.. في نفس الوقت الذي تصم كل من يخالفها بالإرهاب.
قلت: تقصد أمريكا؟
قال: أجل.. فأمريكا ثمرة خبيثة من ثمار اليهودية
والمسيحية والأفكار الرومانية التي لبست لباس الفلسفة الحديثة.
قلت: فما فعلت أمريكا؟.. تلك التي تحن لها القلوب.
قال: وترجف من ذكرها القلوب.
قلت: ما فعلت [16]؟
قال: في عام 1664م، صدر كتاب بعنوان ( العملاق )
كتبه ( يوردجاك ) تضمن نصائح للقيادات الأنجلوساكسونية المتزعمة للمهاجرين
البروتستانت إلى القارة الأمريكية الجديدة، جاء فيه:« إن إبادة الهنود الحمر
والخلاص منهم أرخص بكثير من أي محاولة لتنصيرهم أو تمدينهم ؛ فهم همج، برابرة،
عراة، وهذا يجعل تمدينهم صعباً، إن النصر
عليهم سهل، أما محاولة تمدينهم فسوف تأخذ وقتاً طويلاً، وأما الإبادة فإنها تختصر
هذا الوقت، ووسائل تحقيق الانتصار عليهم كثيرة: بالقوة، بالمفاجأة، بالتجويع، بحرق
المحاصيل، بتدمير القوارب والبيوت، بتمزيق شباك الصيد، وفي المرحلة الأخيرة:
المطاردة بالجياد السريعة والكلاب المدربة التي تخيفهم ؛ لأنها تنهش أجسادهم
العارية»
وفي عام 1730 م، أصدرت الجمعية
التشريعية (البرلمان) لمن يسمون أنفسهم (البروتستانت الأطهار) تشريعاً يقنن عملية
الإبادة لمن تبقى من الهنود الحمر، فأصدرت قراراً بتقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهاً
مقابل كل فروة مسلوخة من رأس هندي أحمر، و40 جينهاً مقابل أسر كل واحد منهم، وبعد
خمسة عشر عاماً ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه، ثم وضع البرلمان البروتستانتي (
تسعيرة ) جديدة بعد عشرين عاماً من صدور القرارات الأولى: فروة رأس ذكر عمره 12
عاماً فما فوق: 100 جنيه، أسير من الرجال: 105 جنيهات، أسيرة من النساء أو طفل: 55
جنيهاً، فروة رأس امرأة أو فروة رأس طفل: 50 جنيهاً.
وفي عام
وبعد عقود قليلة انتهى أمر السكان
الأصليين في القارة الأمريكية إلى ما يشبه الفناء، بعد الإبادة المنظمة لهم على
أيدي المبشرين بالمحبة، والسلام للبشرية جمعاء.
وبعد فراغ القارة الأمريكية من
العبيد (الحمر) قرر الأمريكيون استيراد عدة ملايين من العبيد (السمر) لخدمة (الشعب
المختار) فتحول رعاة البقر إلى بحارة يجوبون السواحل الإفريقية لاصطياد العبيد
وحشرهم في سفن الشحن، في عمليات إجرام أخرى يعالجون بها آثار الجريمة الأولى في حق
الهنود الحمر، حيث لم يبق لديهم ما يكفي من الأيدي العاملة لبناء صرح الحضارة
الجديدة.
وقد جلب الأوربيون والأمريكيون في
أول الأمر ما لا يقل عن 12 مليوناً من الأفارقة المسترقين، جاءوا بأفواجهم في
الأصفاد، وكانت البرتغال أكثر الدول الأوروبية توسعاً في جلب هؤلاء إلى أراضي
العالم الجديد في أمريكا، دون توفير أدنى الضمانات لتلك (المخلوقات) الإفريقية
التي لم يَرْق التعامل معهم إلى مستوى التعامل مع فئران المعامل ؛ فقد صدر عن
منظمة اليونسكو عام 7891م تقرير يحكي فظاعة ما حصل للأفارقة وهول الكارثة
الإنسانية التي حلت بهم لهم من أجل تعمير أمريكا ؛ فقد جاء فيه أن إفريقيا فقدت من
أبنائها في تجارة الرقيق نحو 210 مليون نسمة، وذكرت التقارير أن ما لا يقل عن خمسة
وعشرين مليوناً من الأفارقة الذين تم شحنهم من أنحاء القارة في أفواج من (جزيرة
جور) الواقعة في مواجهة العاصمة السنغالية (داكار) قد هلك أكثرهم قبل أن يصلوا إلى
العالم الجديد مما لقوا في رحلات العذاب داخل سفن شحن المواشي.
ويذكر هنا أن أمريكا، وأمريكا
بالذات.. هي التي أحبطت في مؤتمر (دوربان) عام 2000م مطالب الأفارقة بالتعويض عما
حدث لهم، بل رفضت أن يقدم لهم مجرد اعتذار، ومع كل هذا لا يزال كثير من المغفلين
أو المغرضين يرفعون عقيرتهم قائلين: إن أمريكا محررة العبيد.
وقد بقي الأمريكيون مشغولين عن
التدخل في شؤون العالم ثلاثة قرون، تاركين ذلك للجزء الأصلي من الشعب الساكسوني
المختار (بريطانيا) ثم قرروا بعد نشوب الحرب العالمية الثانية أن ينفتحوا على
العالم، وكانت بداية ذلك الانفتاح دموية قاتلة.
ليست هذه فقط هي جرائم الأمريكان..
هناك جرائم أخرى كثيرة.. سأذكر لك
واحدة منها:
بالرغم من أن الحرب العالمية الثانية أفقدت
العالم ما لا يقل عن خمسين مليوناً من البشر، فإن خسارة الأمريكيين لخمسة آلاف
جندي، بعد الهجمات اليابانية بطائرات (الكاميكازا) على (ميناء هاربر) الأمريكي عام
1945م أفقدت الأمريكيين عقلهم؛ فلأول مرة يخسر الشعب الأمريكي (المختار) هذا الكم
الهائل من الدماء في معركة واحدة، فكان لا بد أن يكون الرد حقداً يصب على رؤوس
اليابانيين المدنيين منهم قبل العسكريين، وهذا ما حدث.
فمقابل دماء الخمسة آلاف جندي
أمريكي، أقبل الأمريكيون الأنجلو ساكسون على الانتقام المجنون، فأمر الجنرال (
جورج مارشال ) رئيس الأركان الأمريكي في ذلك الوقت، بتنفيذ عمليات قصف تدميري واسع
النطاق للمدن اليابانية الكثيفة السكان، فتم إطلاق 334 طائرة أمريكية لإلقاء
القنابل الحارقة لتدمر ما مساحته 16 ميلاً مربعاً، ولتقتل في ساعات نحو 100 ألف
شخص، وتشرد نحو مليون آخرين، في عمليات جحيم مستعر شمل طوكيو و64 مدينة يابانية
أخرى.
ثم ختم ذلك المشهد الدموي بمشهد آخر
أكثر دموية لم يكن للبشرية به عهد قبل مجيء العهد الأمريكي ؛ فقد أقدم الأمريكيون
وهم القوة المتظاهرة اليوم بالدعوة إلى التعقل في استعمال أسلحة الدمار الشامل إلى
استعمال هذا السلاح، وكانوا أسبق البشر إلى استعماله عندما أسقطوا قنبلتين نوويتين
فوق مدينتي هيروشيما وناجازاكي، حصدت بسببها عشرات الآلاف من الأرواح بلا أدنى
تفريق بين مدني وعسكري، أو رجل وامرأة وطفل.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية
وقعت أزمة بين أمريكا وكوريا الشمالية بسبب خوف الأمريكيين من انتشار النفوذ
السوفييتي في جنوب شرق آسيا، فتدخلوا بسبب ذلك في الأراضي الكورية، وعزل
الأمريكيون الحكومة الشعبية، وأغرقوا البلاد في حروب طاحنة أشاعت ناراً ودماراً،
ولكنها بعثت في الوقت نفسه نوعاً من الارتياح النفسي في قلوب زعماء (الشعب
المختار)
يقول ناعوم تشومسكي، الكاتب الأمريكي
المعروف، واصفاً نتائج تلك الحرب:« أشعلنا حرباً ضروساً، سقط خلالها 100 ألف
قتيل.. وفي إقليم واحد صغير سقط 30 ألفاً إلى 40 ألفاً من القتلى أثناء ثورة قام
بها الفلاحون »
ويصف ذلك الكاتب كيف أن حكومة بلاده
تدوس على « القيم » الديمقراطية إذا ما تبين أنها تحول بين أمريكا وبين مصالحها
الذاتية، فيقول:« لم يُثر انقلاب فاشي في كولولمبيا إلا قليلاً من احتجاج حكومة
الولايات المتحدة، بينما لم تهتم بانقلاب عسكري في فنزويلا، ولا بعودة السلطة
للمعجب بالفاشية في بنما، ولكن المرارة والعداوة التهبت في حكومتنا عندما صعدت
للسلطة أول حكومة ديمقراطية في تاريخ جواتيمالا »
وبينما لم تأبه أمريكا بقيام أنظمة
ديكتاتورية معادية للديمقراطية ما دامت تخدم الأغراض الغربية، فقد أطاح الأمريكيون
ـ كما قال تشومسكي ـ بالعديد من الحكومات ( الديمقراطية ) عندما ظهر لهم أن تلك
الأنظمة الديمقراطية لا تخدم مصالحهم الإجرامية.. يقول: « أعاقت حكومتنا بعض الحكومات
البرلمانية، وأسقطت بعضها، كما حدث في إيران عام 1953م، وجواتيمالا عام 1945م،
وتشيلي عام 1972م، ولم تكن أساليب الإسقاط طبيعية جداً، فلم يكن القتل العادي هو
عمل القوات التي حركناها في نيكاراجوا، أو عمل وكلائنا الإرهابيين في السلفادور أو
جواتيمالا، ولكنه كان بصفة واضحة قتل القسوة والتعذيب السادي: تعليق النساء من
أقدامهن، بعد قطع أثدائهن، وفض بكارتهن، وقطع الرؤوس وتعليقها على خوازيق، ورطم
الأطفال بالجدران حتى يموتوا.. »
سكت قليلا، ثم قال: ألم تسمع بعقدة
فيتنام؟
قلت: أنا أسمع بعقدة أوديب.
قال: هذه قريبة من تلك.. ولكن الفرق بينهما أن هذه
العقدة مختصة بالأمريكيين وبأصولهم من الأوروبيين.. ويستحيل على أي عالم نفس أن
يعالجها.
قلت: ما هذه العقدة الخطيرة؟
قال: هي
عقدة الانتقام.. لقد ذكرت لك واقعة قتل (خمسة آلاف جندي) أمريكي على يد اليابانيين
في حادثة ميناء هاربر أثناء الحرب العالمية الثانية.
قلت: أجل..
قال: لقد عرفت كيف انتقم الأمريكيون لها.
قلت: هذه عقدة اليابان لا عقدة
الفيتنام.
قال:
كلاهمها يصدر من مشكاة واحدة ومن قلب حقود واحد.. لقد خسر الأمريكان في فيتنام 55 ألف
قتيل من الغزاة العسكريين، الذين دخلوا أرض الفيتنام ظلما.. وقد سبب ذلك لدى
الأمريكيين عقدة مزمنة اسمها ( عقدة فيتنام)
أما سبب الشهرة فمعروف، وهو أن
القتلى أمريكيون بيض.. أنجلو ساكسون! في غالبيتهم، ومنتسبون للشعب المختار، لهذا
فمثلما انتقم الأمريكيون من اليابانيين فأسرفوا في الانتقام، فقد ثأروا من
الفيتناميين فأفرطوا في الثأر؛ فقد بلغ عدد القتلى الفيتناميين عند انتهاء الحرب
عام 1957م أكثر من مليون.. هذا هو الرقم المشهور.. ولكن مجلة نيويورك تايمز نشرت
في ( 8/10/1997م ) أن العدد الحقيقي بلغ 3. 6 مليون قتيل.
وكل هذا العدد لم يكن كافياً لإرواء
الظمأ الدموي للحاقد الأمريكي، فقد كشفت السلطات الأمريكية في أول مارس 2002م، أن
الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون قال في مكالمة هاتفية مع كيسنجر في شهر
أبريل 1972م: « إنني أفضل استخدام القنبلة النووية »، فرد عليه كينسنجر: « أعتقد أن هذا
خيار خطر جداً» فقال نيكسون بغضب: « هل تزعجك هذه الفكرة؟ أنا أريدك أن تكون أكثر
جرأة »
أما ما حدث بين عامي 1952م، 1973م،
فلا يستحق الشهرة أيضاً ؛ لأن القتلى لا تجري في عروقهم دماء ( مقدسة )، أمريكية
أو إنجليزية أو إسرائيلية، لقد قتل الأمريكيون بين العامين المذكورين زهاء عشرة
ملايين صيني وكوري وفيتنامي وروسي وكمبودي.
وفي بداية الحرب الفيتنامية، تسببت
تلك الحرب حتى حلول منتصف عام 1963م في مقتل 160 ألف شخص، وتعذيب وتشويه نحو 700
ألف شخص، واغتصاب نحو 31 ألف امرأة، وبقر بطون نحو ثلاثة آلاف شخص وهم أحياء،
وإحراق أربعة آلاف آخرين حتى الموت، ومهاجمة 46 قرية بالمواد السامة، وتسبب قصف
مدينة هانوي عام 1972م في إصابة أكثر من30 ألف طفل بالصمم الدائم، وفقدان 300 ألف
عائلة لعائلها أو أحد أفرادها، وفي جواتيمالا قتل الجيش الأمريكي صاحب الكفاءة
والشجاعة أكثر من 150 ألف مزارع في الفترة ما بين 1966 إلى 1986م.
سكت قليلا، ثم قال: هل تعرف القتل
بالوكالة.. والعمالة؟
قلت: لا.. هذه أول مرة أتشرف بسماع
هذا النوع من الجرائم.
قال: هذا ما
مارسته أمريكا منذ ولدت أمريكا.. ولا زالت تمارسه ببشاعة لا نظير لها.
فبتواطؤ أمريكي شبه فعلي، قُتل مئات
الآلاف من الأشخاص في مجازر عديدة في أندونيسيا ونيكاراجوا والسلفادور وهندرواس،
وقتْل هؤلاء وإن كان بأيد غير أمريكية، إلا أنه كان بأسلحة أمريكية، ومشورة
أمريكية وتدريب أمريكي مثلما يحدث الآن في فلسطين وأفغانستان والفلبين وغيرها.
وقد تكررت المجازر في أنجولا
وموزمبيق وناميبيا وغيرها من دول القارة الإفريقية، وعرف العالم في السنوات
الأخيرة عدداً من الطغاة الملفوظين من شعوبهم، والمدعومين من (الشعب المختار ) من
أمثال: ( سوموزا ) في نيكاراجوا، و( بينوشيه ) في تشيلي، و( ماركوس ) في الفلبين،
و( باتيسيتا ) في كوبا و(دييم ) في فيتنام و( دوفاليه ) في هايتي و( سوهارتو ) في
إندونيسيا، و( فرانكو) في إسبانيا.
وهناك زعماء آخرون رفضهم العالم
واحتضنهم الأمريكيون، وهم زعماء المافيا الإسرائيليون من بن جوريون إلى شارون حيث
لم يعدّ ( أحرار ) أمريكا واحداً من هؤلاء السفاحين إرهابياً، ولم يطالب شعبها
باعتقال أي منهم لتقديمه للعدالة كي يحاكم عن جرائمه ضد الإنسانية، أو يحاسب على
سجلاته الإرهابية.
سكت قليلا، ثم قال: أتعرف محور الشر؟
قلت: هم يقصدون بها بلاد المسلمين..
وهم في هذه الأيام يطلقون على إيران..
قال: عند ما كانت إيران إحدى العِزَب الأمريكية في
آسيا في عهود الإمبراطورية البهلوية، كانت محورا للخيرا.. ولكنها بعد قيام الثورة
الإسلامية التي خلصت المستضعفين من نير المستكبرين، وحطمت الطغاة بمعاول الحق، عام
1979م، اعتبر الأمريكان هذا التطور ضاراً بمصالحهم.
فخططوا له أن يضرب بسيوف إخوانه..
وهنا حدث ما يسمى حرب الخليج الأولى، حيث نشبت هذه الحرب بتواطؤ أمريكي أمدت
أمريكا فيها العراق بكل ما تحتاجه من أسلحة التقتيل والتدمير، بل إنها أظهرت ميلاً
سياسياً نحو مساندته لضمان مساعدته من الدول الصديقة لها.
ولكنها في الوقت ذاته، كانت تضمر
الشر للعراق كما كانت تضمره لإيران، وكان جوهر الموقف الأمريكي من تلك الحرب هو ما
كان يردده اليهودي الأمريكي المخضرم (هنري كيسنجر): « سياستنا تجاه تلك الحرب أن
لا تهزم العراق، وألا تنتصر إيران»
لقد حقق العراق - بانحياز أمريكي
تكتيكي - نصراً صعباً وغير مكتمل على إيران، ولكنه خرج قوياً بعد تلك الحرب، وهذا
ما لم يستطع الأمريكيون الصبر عليه بسبب قرب العراق من حليفتهم ( إسرائيل )، وكان
لا بد من إجراء يشبع الرغبات السادية لدى الأمريكيين والإسرائيليين في رؤية دماء
أحفاد البابليين وهي تسيل قرب ضفتي دجلة والفرات.
وبدأت الحرب ضد العراق.. وقد وصف
بعضهم تلك الحرب بكلمات أوردتها صحيفة التايمز البريطانية بعد إعلان وقف إطلاق
النار، حيث جاء فيها:« كانت الحرب نووية بكل معنى الكلمة، وجرى تزويد جنود البحرية
والأسطول الأمريكي بأسلحة نووية تكتيكية، لقد أحدثت الأسلحة المطورة دماراً يشبه
الدمار النووي، واستخدمت أمريكا متفجرات وقود الهواء المسماة ( BLU-82 ) وهو سلاح زنته 15000 رطل وقادر على إحداث انفجارات ذات دمار
نووي حارق لكل شيء في مساحة تبلغ مئات الياردات »
واستخدمت أمريكا وبريطانيا قنابل
اليورانيوم المستنفد لأول مرة ؛ حيث أطلقت
الدبابات ستة آلاف قذيفة يورانيوم، بينما أطلقت الطائرات عشرات الآلاف من هذه
القنابل، وقدر أحد التقارير السرية لهيئة الطاقة الذرية البريطانية كما قالت
الصحيفة مقدار ما ألقي على العراق بأربعين طناً من اليورانيوم المنضب، وألقي من
القنابل الحارقة ما بين 60 إلى 80 ألف قنبلة، قتل بسببها ما لا يقل عن 52 ألف شخص
حسبما أعلنت السلطات الأمريكية نفسها، أما الأمريكيون فلم يسل لهم دم يذكر على أرض
العراق ؛ لأنهم كانوا يقاتلون من الجو، بعد أن شلوا سلاح الطيران العراقي على
الأرض، وقد راقت هذه النتائج لأمزجة الأنجلوساكسون الذين راحوا يتلمظون الدماء
العراقية ويتشهون مناظرها وينشرون أخبارها ( السارة ) على شعوبهم الحرة.
لقد نشرت صحيفة الجارديان البريطانية
في شهر ديسمبر 1991م تقريراً بعنوان: ( دفن الجنود العراقيين أحياء ) نقلت فيه عن
العقيد الأمريكي ( بانتوني مارينوم ) قائد الوحدة الثانية في الجيش الأمريكي قوله
وهو يصف عمليات طمر العراقيين في الخنادق أحياء:« من المحتمل أن نكون قد قتلنا
بهذه الطريقة آلاف الجنود العراقيين.. لقد رأيت العديد من أذرع الجنود وهي تتململ
تحت التراب وأذرعها ممسكة بالسلاح»
ويبدو أن الاهتمام بالكيف غطى على
الاهتمام بالكم في رصد الأمريكيين لمجريات عمليات القتل ؛ حيث كان السؤال المطروح
دائماً، ليس هو كم سقط من القتلى؟ وإنما كيف سقطوا وبأي سلاح ( ناجح ) قتلوا ؛ فقد
سئل ( كولن باول ) الذي كان وقت الحرب رئيساً لأركان الجيش الأمريكي عن عدد القتلى
من العراقيين فقال:« لست مهتماً به إطلاقاً»
نعم.. لم يكن مهماً عند باول أن مئتي
ألف قتلوا من جراء تلك الحرب، وأن منهم آلافاً قتلوا أثناء انسحابهم، وإنما كان
المهم عند رئيس أركان الحرب في أمريكا سابقاً ورئيس الدبلوماسية لاحقاً أن يعرف
مدى ( فاعلية ) الأنواع المختلفة من وسائل القتل الأمريكية.
قصف الطيران الأمريكي أرتالاً من
القوات العراقية أثناء انسحابها من الكويت، فقتل منهم الآلاف، حتى سمي الطريق الذي
سلكوه في الانسحاب ( طريق الموت )، ووصف أحد الطيارين المشاركين في عمليات قصف القوات
ما حدث بقوله:« كان الأمر كأنني أطلق النار على سمك في برميل، فأين يهرب؟! وكيف
نحصي الصيد والضربة الواحدة تصيب عشرات الأهداف؟»
ولم يكن الأمر مقتصراً على العسكريين
؛ فقد قتل نحو ثمانية آلاف من المدنيين، منهم أربعمائة قضوا تحت الأرض في ملجأ
العامرية، أثناء اختبائهم من القصف الهمجي.
لقد أطلق الأمريكيون على تلك الحرب
وصف (الحرب النظيفة) لا لشيء إلا لأنها كما يقولون تقوم على استراتيجية التصويب
العسكري الدقيق باستخدام أدوات التسليح الإلكتروني ( الذكي ) الذي يجنب الأمريكيين
الاحتكاك العسكري المباشر الذي ( قد ) يسفر عن سقوط ضحايا عسكرية (بريئة)
لقد أدمنوا هذه النظافة القذرة بعد
تلك الحرب ؛ لأنها تحقق رغباتهم الدموية في إشباع النهم الأنجلوساكسوني من دماء (
الأمميين ) وتجنبهم الارتعاب والارتعاد من سيلان قطرات من دماء ( الشعب المختار)
وقد تبع هذه الحرب حرب أخرى، كانت أكثر أمناً
للأمريكيين، وأكثر فتكاً بالعراقيين، وهي حرب الحصار التي قتل بسببها من الأطفال
فقط ما لا يقل عن مليون طفل، لم تحرك دماؤهم المتجمدة نبضاً من إحساس في عروق
الأمريكيين ومنظماتهم (الإنسانية) بل إن وزيرة الخارجية الأمريكية اليهودية
السابقة (مادلين أولبرايت) لما سئلت عام 1996م عن ضحايا الحصار، وكانوا وقتها نصف
مليون طفل ( فقط )، وهل هناك مسوغ مشروع لهذا القتل الجماعي في الشرعية الدولية؟
أجابت:« قرار الحصار كان صعباً ؛ لأنه يستدعي ثمناً باهظاً من الضحايا، ولكن هذا
الثمن كان من الضروري دفعه»
وقد استخدم الأمريكان الأسلوب نفسه
في حروب البوسنة وكوسوفا التي ادعى الأمريكان أنهم خاضوها من أجل تحرير شعوب
البلقان من الطغيان الصربي، مع أنهم في الحقيقة أرادوا أن يحلوا محل الصرب في
السيطرة الاستراتيجية على منطقة البلقان، وإلا فإن شكاية أهالي تلك البلدان من آثار
تلك الحرب الأمريكية تدمي القلوب ؛ فقد ألقت أمريكا على سكان البلقان ـ أثناء «
تحريرهم » ـ أكثر من عشرة أطنان من اليورانيوم المنضب، والأنباء تتحدث عن أن حالات
سرطان الدم قد قفزت إلى مستويات مخيفة ؛ حيث بدأ سكان كوسوفا والبوسنة يشعرون ـ
بعد ( التحرير ) الأمريكي ـ أنهم أصبحوا فرائس الإشعاعات التي لا يمكن الفرار
منها.
قلت: إن كل ما ذكرته من جرائم من فعل أمريكا.. والحضارة
الغربية لا تمثلها أمريكا وحدها..
قال: تريد
أن أحدثك عن أوروبا..
قلت: تاريخ
أوروبا أنظف من تاريخ أمريكا..
قال: كلاهما
يصدر من قلب حقود واحد.. لقد تداعت دول أوروبا على البلدان الإفريقية، في شمالها وجنوبها وشرقها
وغربها ووسطها، وتقاسموها فيما بينهم ـ على شدة الاختلافات السائدة بينهم ـ
وأنزلوا بسكانها من الدمار والهلاك، ما تتورع عنه الوحوش في غاباتها، قضوا في كل
بلد على زعمائه وقادته وسفكوا دماء الآلاف من أبنائه، بدون تفرقة بين الرجال
والنساء، والشيوخ والكهول والشباب والأطفال، وشردوا الآلاف المؤلفة، وحرموا من بقي
في البلاد من أقل حقوق الإنسان التي يتشدقون بالدعوة إليها، فأذلوا بذلك سكان
البلدان الإفريقية كلهم واستعبدوهم ونهبوا خيراتهم، كل ذلك باسم الاستعمار
والتحرير.
لقد نقل الأمير شكيب أرسلان عن بعض
المراسلين الأوروبيين الذين رافقوا الجيوش الإيطالية عندما اغتصبت ليبيا شيئا،
يسيرا مما ذكره أولئك المراسلون وشاهدوه من أعمال غزاة النصارى الوحشية، فقال:« وليس المسلمون وحدهم هم الذين
شاهدوا أعمال الطليان وضجوا منها، بل ثمة كثير من الإفرنج شاهدوها وأنكروها، ومن
ذلك المستر (فرانسس ماكولا) الإنجليزي الذي كان مرافقا للجيش الإيطالي في طرابلس
عند الاحتلال وشاهد تلك الفظائع بعينه، فقد قال:« أبيت البقاء مع جيش لا هم له إلا
ارتكاب جرائم القتل، وإن ما رأيته من المذابح، وترك النساء المريضات العربيات
وأولادهن يعالجون سكرات الموت على قارعة الطريق جعلني أكتب للجنرال (كانيفا) كتابا
شديد اللهجة، قلت له: إني أرفض البقاء مع جيش لا أعده جيشا، بل عصابة من قطاع
الطرق والقتلة »
ومن ذلك شهادة الكاتب الألماني (فون
غوتبرغ) الذي قال:« إنه لم يفعل
جيش بعدوه من أنواع الغدر ما فعله الطليان في طرابلس، فقد كان الجنرال كانيفا
يستهين بكل قانون حربي، ويأمر بقتل جميع الأسرى، سواء أقبض عليهم في الحرب أو في
بيوتهم، وفي سيراكوزه الآن كثير من الأسرى الذين لم يؤسر واحد منهم في الحرب،
وأكثرهم من الجنود الذين تركوا في مستشفى طرابلس.
وقد قبض الطليان على ألوف من أهل
طرابلس في بيوتهم ونفوهم، بدون أدنى مسوغ إلى جزر إيطاليا حيث مات أكثرهم من سوء
المعاملة.
وأقر ما قاله (هرمان رنولوف) المراسل
النمساوي الحربي فقد وجد في الباخرة التي نقلت جانبا من هؤلاء الأسرى فوصف تلك
الحالة، فقال:« في الساعة
السادسة من مساء كل يوم يكبل هؤلاء المرضى بالحديد في اليد اليمنى والرجل اليسرى،
حقا إن موسيقى هذه السلاسل تتفق مع المدنية التي نقلتها إيطاليا إلى إفريقيا، لا
ريب أن الطليان قد أهانوا كثيرا، فلم يكف أنهم أسقطوا منزلة أوروبا العسكرية في
نظر إفريقيا، حتى شوهوا اسم النصرانية أمام الإسلام »
ثم قال:« وقد قتل الطليان في غير ميدان الحرب
كل عربي زاد عمره على أربع عشرة سنة، ومنهم من اكتفوا بنفيه »
وأحرق الطليان في 26 أكتوبر سنة 1911م حيا خلف بنك روما، بعد أن
ذبحوا أكثر سكانه بينهم النساء والشيوخ والأطفال قال:« ورجوت طبيبين عسكريين من أطباء
المستشفى، أن ينقلوا بعض المرضى والمصابين المطروحين على الأرض تحت حرارة الشمس
فلم يفعلا، فلجأت إلى راهب من كبار جمعية الصليب الأحمر، هو الأب (يوسف بافيلاكو)
وعرضت عليه الأمر، وأخبرت شابا فرنسيا أيضا، لكن الأب (بافيلاكو) حول نظره عني
ونصح الشاب بأن لا يزعج نفسه بشأن عربي في سكرات الموت، وقال:« دعه يموت »
ثم قال هذا المراسل النمساوي:« ورأيت على مسافة قريبة جنديا
إيطاليا يرفس جثة عربي برجله، وصباح اليوم التالي وجدت الجرحى والمرضى الذين رجوت الراهب
من أجلهم قد ماتوا.. »
ثم قال:« رأينا طائفة من الجنود تطوف الشوارع
مفرغة رصاص مسدساتها في قلب كل عربي تجده في طريقها، قد نزع أكثرهم معاطفهم،
ورفعوا أكمام قمصانهم كأنهم جزارون »
وقال المسي كسيرا مراسل جريدة
(إكسليسيور) الباريسية:« لا يخطر ببال أحد ما رأيناه بأعيننا
من مشاهد القتل العام ومن أكوام جثث الشيوخ والنساء والأطفال، يتصاعد منها الدخان
تحت ملابسهم الصوفية كالبخور يحرق أمام مذبح من مذابح النصر الباهر، ومررت بمائة
جثة بجانب حائط قضي عليهم بأشكال مختلفة.
وما فررت من هذا المنظر حتى تمثلت
أمام عيني عائلة عربية قتلت عن آخرها، وهي تستعد للطعام، ورأيت طفلة صغيرة أدخلت
رأسها في صندوق حتى لا ترى ما يحل بها وبأهلها. إن الإيطاليين فقدوا عقولهم
وإنسانيتهم من كل وجه »[17]
هذه نصوص مختزلة لبعض المراسلين
الأوروبيين عن وحشية الإيطاليين وقساوة قلوبهم وخلوها من الرحمة، في بلد واحد وهو
ليبيا ومن جيش بلد أوروبي واحد، هو الجيش الإيطالي برضا الدول الأخرى في أوروبا،
وهو مثال ينطبق على كل البلدان التي اغتصبها الأوروبيون في إفريقيا وغيرها.
وضعت يدي على فمه، وقلت: بالله عليك إلا
كففت من حديثك هذا.. فقد ملأتني غيظا وحقدا ورعبا.
قال: لم أذكر لك شيئا.. إن الحقيقة لا يمكن تصويرها
ولا تصورها.. لعل الملائكة الذين ذكرهم القرآن في قوله:﴿ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ (البقرة: من الآية30) كانوا يقصدون هذه الحضارة.. وهذا الإنسان المتربي في
كنفها المتعطش للدماء.
قلت: حدثني عن سلام الإسلام.
قال: ذاك حديث وطويل وعذب لا يمكنه أن نوفيه حقه في
هذه الجلسة[18].. ولكني سأحدثك عن السلام الذي
اشتهر الحديث عنه.. السلام المرتبط بالحرب.
قلت: لقد أمر الإسلام بالحرب.. فكيف يستقيم السلام
مع الحرب.
نظر إلى الشاب الجالس أمامنا.. وقد
علته الهموم، فقال: أرأيت لو أن هذا الشاب كان يملك قوة يحمي بها حقل زيتونه.. هل
يجرؤ أحد على الاقتراب منه؟
قلت: لا.. لن يجرؤ أحد على الاقتراب منه.
قال: ولهذا أمر الإسلام بالقوة وبالإعداد الذي يرهب
الأعداء الظالمين، فلا يطمعون في المستضعفين.. لقد جاء في القرآن:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ (لأنفال: من الآية60)
قلت: القرآن يستعمل مصطلح الإرهاب.
قال: الإرهاب لا يعني القتل.. بل يعني وضع الروادع
للظالمين حتى لا يفكروا في القتل.. ولهذا، فإن نظام الحرب في الإسلام يعتمد هذا
المنهج.. ولهذا كانت الحروب التي خاضها الإسلام من أنظف الحروب على الإطلاق.. وفي
إمكانك أن تستقرئ التاريخ لتعرف ذلك.
قلت: فحدثني عن ذلك.
قال: لا
يمكنك أن تفهم موقف الإسلام من الحرب، وتشريعاته المرتبطة بها حتى تعلم موقفه من
السلام.
قلت: فحدثني عنه.
قال: لقد
قرأت الكتب المقدسة للأديان جميعا.. وقرأت خلاصات الأفكار والمذاهب والفلسفات، فلم
أجد دينا حوت نصوصه المقدسة ذلك الحض على السلام مثلما حمله الإسلام.
لقد تناول القرآن لفظ (السلم)
و(السلام) في عشراتٍ الآيات؛ ليس ذلك فحسب، بل إنَّ السلام ـ عند المسلمين ـ اسمٌ
من أسماء الله، وقد جعله تحيَّته إلى عباده، وأمرهم بأن يجعلوا السلام تحيَّتهم..
يلقيها بعضهم على بعض، باعتبارها شعارهم في جميع مجالات الحياة.
وقد قامت الدولة الإسلاميَّة الأولى
في ظلِّ قيادة محمد على أساس توافر هذه المقوّمات التي لم ينقص من أهمِّيَّتها
وأثرها في تكوين الوحدة الوطنيَّة أن يكون لأبنائه يومئذ أكثر من دينٍ واحد.
لقد قامت دولة الإسلام الأولى
ودستورها المثالي ـ كما تقرِّره صحيفة الموادعة بين المسلمين واليهود ـ بسط جناح
الأمن والسلام والإخاء على أهل المدينة جميعها بدرجةٍ واحدة، مساواةً تامَّةً في
الحقوق والواجبات، لا يلمح فيها ظلاً للتفريق بين المسلم صاحب الأكثريَّة
والرياسة، وبين اليهودي الذي يمثِّل الأقليَّة التابعة، فضلاً عن المسيحي الذي
تشدّه إلى المسلم روابط وثيقة، لا يمكن لإنسانٍ أن ينال منها فيظفر بفكاكها، فهي
باقيةٌ خالدةٌ على الأيام والدهر، لا تزعزعها الحوادث، ولا تنال منها الأحداث.
وقد كان للإسلام مع إخوانه من أتباع
الشرائع السماويَّة الأخرى قصصًا يرويها التاريخ بإعجابٍ وإكبارٍ وتقدير؛ فلم
يُسمَع عن محمد أو عن أحدٍ من خلفائه أنَّهم قَتلوا مسيحيا لأنَّه لم يُسلم؛ ولم
يُسمَع عنهم أنَّهم عذبوا كتابيًّا أو سجنوه أو منعوه من التعبُّد وإقامة شعائر
دينه؛ ولم يُنقل عنهم أنَّهم خلال فتوحاتهم الحربيَّة ودعواتهم السلمية، هدموا
كنيسةً أو قوَّضوا بيعةً.. وإنّما قال التاريخ: إنَّ محمدا صالح نصارى نجران فكتب
لهم عهدًا جاء فيه:« ولنجران
وحاميتها جوار الله وذمة محمدٍ على أموالهم وأنفسهم وملَّتهم وبيعهم وغائبهم
وشاهدهم وكل ما تحت أيديهم من قليلٍ أو كثير، لا يُغيَّر أسقفٌ من أسقفيَّته، ولا
راهبٌ من رهبانيَّته، ولا كاهنٌ من كهانته، ولا يحشرون ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم
جيش »
حتى إنَّ بعض الخلفاء المسلمين ـ كما
يقول آدم ميتز ـ كانوا يحضرون مواكب المسيحيين وأعيادهم، ويأمرون بصيانتها، وإنَّ
الحكومة في حالة انقطاع المطر كانت تأمر بتسيير مواكب يسير فيها المسيحيون وعلى
رأسهم الأسقف، واليهود ومعهم النافخون بالأبواق، وأنَّ الأديرة كذلك ازدهرت
وتكاثرت.
التفت إلي، وقال: ميزة أخرى في سلام
الإسلام.. لم أجدها في كل ما بحثت فيه من أديان.
قلت: ما هي؟
قال: تشريع
أخلاق السلام.
قلت: ما تقصد بذلك؟
قال: في
الوقت الذي تصور فيه الرجولة والشجاعة ـ كما نرى في الأفلام التي تنتجها عقليتنا
السادية ـ في القتل والتدمير.. في ذلك الوقت يرى الإسلام أن الشجاعة والقوة في
امتلاك النفس، والسيطرة على الأعصاب، والتغلب على دواعي الانتقام.. لقد قال محمد
يصور هذا، ويعمقه في نفوس أمته:« ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب »[19]، وفي رواية أخرى:« أتحسبون أن الشدة في حمل الحجارة؟ إنما الشدة في أن
يمتلئ أحدكم غيظا ثم يغلبه »[20]، وفي رواية:« ألا أدلكم على أشدكم؟ أملككم لنفسه عند الغضب »[21]
فالحلم والعفو وسعة الصدر التي هي
أركان السلام تعتبر في الإسلام فروضا تشريعية وخلقية.. لقد قال القرآن يجمع محاسن
الأخلاق:﴿ خُذِ
الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ(
(لأعراف:199)
وقد نص علماء المسلمين على أن هذه
الآية من أجمع الآيات لمكارم الأخلاق، قال جعفر بن محمد:« أمر الله نبيه بمكارم
الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية »، وقال عبد الله بن
الزبير:« ما نزلت هذه
الآية إلا في أخلاق الناس »[22]
بل قد وردت أحاديث محمد الدالة على
احتواء هذه الآية على أصول الأخلاق، مفسرة لها بما يقتضي انحصار الأخلاق فيها، فعن
جابر قال: لما نزلت هذه الآية )
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ(
(لأعراف:199) قال النبي r:« يا جبريل ما تأويل هذه
الآية؟ قال: حتى أسأل، فصعد ثم نزل فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن تصفح عمن ظلمك،
وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك. فقال النبي r:« ألا أدلكم على أشرف أخلاق الدنيا والآخرة؟ قالوا: وما ذاك يا
رسول الله؟ قال: تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك »[23]
ويدل على هذا ما ورد في نصوص أخرى من
أن هذه الأخلاق المذكورة في الآية هي من أمهات الأخلاق وخيرها، كما روي ذلك في
أحدايث مختلفة، فعن علي قال: قال رسول الله r:« ألا أدلك على خير أخلاق
الأولين والآخرين؟ قال: قلت يا رسول الله، نعم. قال: تعطي من حرمك، وتعفو عمن
ظلمك، وتصل من قطعك »[24]،
وعن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله r:« ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة، تصل من قطعك، وتعطي
من حرمك، وتعفو عمن ظلمك »[25]،
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي r
قال:« ألا أدلكم على كرائم الأخلاق للدنيا والآخرة؟ أن تصل من قطعك، وتعطي من
حرمك، وتجاوز عمن ظلمك »[26]
ولهذا كانت هذه الآية ـ بما تحمله من
المعاني الجليلة ـ شعارا لأمة محمد، وضياء يهتدون به في تعاملهم مع الخلق مسلمهم
وكافرهم عاقلهم وجاهلهم.
ومما يروى في ذلك ما حدث به ابن عباس
قال: قدم عيينة بن حصن بن بدر، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس - وكان من النفر
الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبابا -
فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه؟ قال:
سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل قال:
هي يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى
هم أن يوقع به فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه r:) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ( (لأعراف:199) وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزنا عمر حين تلاها
عليه، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل »[27]
وانطلاقا من هذا.. فقد نبذ الإسلام
العنف، واعتبره من سوء الخلق.. ورتب عليه العقوبات التشريعية الرادعة.
ففي القرآن:﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ (المؤمنون:96).. وفيه ﴿ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت:34)
وفي أحاديث محمد وصايا كثيرة ترتبط
بهذا.. فقد قال:« إنَّ الله
رفيقٌ يحبُّ الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما
سواه »[28]
وقال:« إنَّ الرفق لا يكون في شيء إلا
زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه »[29]
وقال:« إنَّ الله عزَّ وجلَّ يحبُّ الرفق
في الأمر كله »[30]
وقال:« من يحرم الرفق يحرم الخير »[31]
وقال لزوجته عائشة:« يا عائشة، ارفقي فإن الرفق لم يكن
في شيءٍ قط إلا زانه ولا نُزع من شيءٍ إلا شانه »[32]
وقد سار أتباعه على هذا الهدي.. فصار
الحلم وسعة الصدر عندهم هي المثال على الكمال الأخلاقي، فعن علي قال:« ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن
الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت
الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى »
وقال:« إن أول ما عوض الحليم عن حلمه جهله
وصبره وشهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم »
وقال الحسن: اطلبوا العلم وزينوه
بالوقار والحلم.
وقال أكثم بن صيفي: دعامة العقل
الحلم وجماع الأمر الصبر.
وقال أبو الدرداء: أدركت الناس ورقا
لا شوك فيه فأصبحوا شوكاً لا ورق فيه، إن عرفتهم نقدوك وإن تركتهم لم يتركوك،
قالوا: كيف نصنع؟ قال: تقرضهم عن عرضك ليوم فقرك.
وسب رجل ابن عباس، فلما فرغ قال: يا
عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى.
وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: أشهد
أنك من الفاسقين، فقال: ليس تقبل شهادتك.
وعن علي بن الحسين بن علي أنه سبه
رجل فرمى إليه بخميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم، فقال بعضهم: جمع له خمس خصال
محمودة: الحلم وإسقاط الأذى وتخليص الرجل مما يبعد من الله عز وجل وحمله على الندم
والتوبة ورجوعه إلى مدح بعد الذم اشترى جميع ذلك بشيء من الدنيا يسير.
وقال رجل لجعفر بن محمد: إنه قد وقع
بيني وبين قوم منازعة في أمر وإني أريد أن أتركه فأخشى أن يقال لي: إن تركك له ذل،
فقال جعفر: إنما الذليل الظالم.
وقال الخليل بن أحمد: كان يقال من أساء
فأحسن إليه فقد جعل له حاجز من قلبه يردعه عن مثل إساءته
وقال رجل لمالك بن دينار: بلغني أنك
ذكرتني بسوء، قال، أنت إذن أكرم علي من نفسي إني إذا فعلت ذلك أهديت لك حسناتي.
والإسلام لم يكتف بهذه التوجيهات..
بل وضع نظاما تشريعيا صارما يحمي فيه السلام النفسي والاجتماعي من أن يدمره
المصارعون.
قلت: ربما تجد مثل هذه الأخلاق عند شعوب كثيرة..
ونحن لا نتحدث عن هذا، وإنما نتحدث عن أخلاق الحرب.. فقد زعم بعضهم أن الحرب لا
تحتاج إلى أخلاق[33].
قال: وهذه
ميزة أخرى من مزايا الإسلام.. فهو لا يفرق في الأخلاق بين حرب وسلم، وبين مسلم
وكافر، وبين لون ولون..
سأحدثك عن مجامع أخلاق الإسلام في
الحرب، وهي ثلاثة لا توجد إلا في الإسلام: الضرورة، والوفاء، والرحمة.
قلت: فحدثني عن الضرورة.
قال: الإسلام يجعل مبدأ السلام هو المبدأ الذي يحكم
العلاقات بين الأفراد والمجتمعات والشعوب، فالقرآن يقول:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات:13)
فالغرض من التنوع في الخلق ليس
الصراع كما تفهم فلسفاتنا المادية المؤيدة بالأديان المنحرفة.. ولكنها ـ بحسب
القرآن ـ هي التعارف والتكامل والسلام.
ولهذا.. فإن (الحرب)، ومثله (القتال)
في النصوص المقدسة عند المسلمين لا يلجأ إليها إلا كما يلجأ للعمليات الجراحية
للضرورة، وبدون اعتداء.
فقد يلجأ إليها لردع العصاة والمتمردين وقطاع الطرق والعابثين بالأمن.. ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (المائدة:33)
وقد يلجأ إليها لردع البغاة الذين يفرقون المجتمع، ويثيرون الفتنة فيه،
ومع ذلك لا يلجأ لها إلا بعد محاولة الصلح.. ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ
فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات:9)
وقد يلجأ إليها لردع المرابين وأمثالهم من المستغلين لجهود الفقراء
والعمال.. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ
فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة:178-279)
وقد يلجأ إليها لردع المغتصبين لحقوق الطبقات البائسة والعاملة في
ثرواتهم، وعلى ذلك قاتل أبو بكر مانعي الزكاة، وقال قولته المشهورة:« والله لو منعوني عقالاً كان يؤدونه إلى رسول الله
لقاتلتهم عليه »
وقد يلجأ إليها لردع المعتدين على حقوق الإنسان الأساسية كالنفس والمال
والعرض.
وقد يلجأ إليها لردع الطامعين، وتأمين السلام الداخلي.. فمن الناس من لا تردعهم
التربية ولا القانون عن العدوان والطغيان.. وفي الأمم من تغريها قوتها وضعف
جيرانها بالعدوان والاستعمار، فلا جرم إن كان من الخير أن يشرع استعمال القوة
حينئذ لحملة السلام من أعدائه في الداخل والخارج.. وهذا هو ما رمى إليه الإسلام
حين أقر استعمال القوة.
وقد يلجأ إليها لتأمين السلام العالمي..
قلت: هذه هي الحرب التي يسميها قومنا إرهابا.
قال: لا.. المجرمون دائما يقلبون الحقائق، فيتصورون أصحاب الدكاكين الذين
يتصدون لمنعهم من سرقة دكاكينهم بخلاء ومجرمين..
هذا هو منطق الإجرام.. ولا ينبغي للعاقل أن يخضع لمنطق الإجرام.
قلت: فما منطق العقل في هذا؟
قال: إن الحرب التي يعلنها الإسلام لتأمين السلام العالمي هي التي يعبر
عنها القرآن بالجهاد في سبيل الله، وهو لا يعني بذلك حرباً دينية لإكراه الناس على
الإسلام.. وإنما يعني بها المعارك التي يخوضها الإسلام لتحرير الأمة من العدوان
الخارجي، ولتأمين الحرية الدينية والعدالة الإجتماعية لجميع الشعوب..
وهاتان الغايتان هما اللتان عبَّرت عنهما الآية بصريح العبارة:﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ (لأنفال:39).. فدفع الفتنة وهو العدوان، وخلاص
الدين كله لله أي الحرية الدينية لجميع الناس هما الغاية التي ينتهي عندها القتال
في الإسلام.
فإذا كف العدو عن العدوان وعن فتنة الأمة في دينها وعقيدتها لم يجز القتال ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ ﴾.. وفي الآية الأخرى:﴿ فَإِنِ
انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ (البقرة: من
الآية193)
اسمع هذه الآيات لترى المقاصد الشريفة التي أمر الإسلام فيها بالجهاد:﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ
أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ
نَصِيرًا (75)﴾ (النساء)
﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ
ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ
وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾ (الحج)
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا
أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾ (النساء:76)
هذه أربع آيات من القرآن تتحدث عن الجهاد في سبيل الله، فلننظر ما هو هذا
الجهاد في هذه الآيات؟
أما في الآية الأولى فتحث على الجهاد لتحرير المضطهدين المظلومين الذين
ضاقت حيلتهم في دفع الظلم والطغيان عن أنفسهم، فاستنجدوا بالله أن يخرجهم من الأرض
التي طغى الظالمون فيها، وسألوه أن يجعل لهم أولياء ينصرونهم ويخرجونهم من هذه
المحنة، فحرّض الله المؤمنين على تحرير هؤلاء المضطهدين بعد أن وصف حالهم بما يثير
الحمية في النفوس الأبية الكريمة.
أما الآيتان الثانية والثالثة فتدلان على أن الجهاد في سبيل الله حرب
دفاعية، ولذلك جاء تبريرها بأنهم قوتلوا وظلموا وأخرجوا من ديارهم وطوردوا في
عقيدتهم، وعلى أن هذا الجهاد لتأمين الحرية الدينية وحماية أماكن العبادة لجميع
الأديان المنزلة من عدوان الملحدين والمتعصبين عليها:﴿ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ والصوامع هي أديرة الرهبان، والبيع أماكن العبادة
للنصارى، والصلوات أماكن العبادة لليهود، والمساجد أماكن العبادة للمسلمين.
فالغرض من الجهاد في سبيل الله كما ترى صيانة الكنيسة وأماكن العبادة وفيها
المساجد من عدوان المتعصبين، وليس الغرض منه ما يقوله قومنا من أن يقوم المسجد على
أنقاض الكنيسة، بل أن يقوم المسجد بجانب الكنيسة رمزاً لعبادة الله في مختلف طرق
العبادة، ودليلاً على وحدة الأهداف العامة بين ديانات السماء، ومصداراً للإشعاع
الروحي والسمو الخلقي في الأمة.
أما الآية الرابعة.. فقد وضعت الحد الفاصل بين الحرب التي يعلنها الإسلام
وبين الحرب التي يعلنها أعداؤه عليه.. فالحرب التي يعلنها الإسلام حرب في سبيل
الحق والحرية والعدالة والسمو الروحي والخلقي.. أما الحرب التي يعلنها أعداؤه فهي
حرب طغيان وظلم واضطهاد، وما أبعد دلالة (الطاغوت) على أهداف الحرب العدوانية التي
يقف الإسلام في وجهها.
قلت: فلم ارتبطت هذه الحروب بالله؟
قال: تنبيها للغاية الشريفة التي نهضت لها.. فالجهاد في سبيل الله جهاد في
سبيل الغايات الكريمة التي قامت من أجلها الشرائع، وتسعى إليها الإنسانية الكريمة
في كل عصر.. هو في سبيل الله.. أي لا في سبيل المال ولا التهديم ولا الاستعلاء ولا
الغلبة ولا الأمجاد القومية أو الطائفية.. فمن سعى إلى شيء من هذا لم يكن مجاهداً
في نظر الإسلام يستحق أجر المجاهدين وكرامة الشهداء.
سكت قليلا، ثم قال: اقرأ تاريخ محمد في حروبه لترى الأدلة الواضحة القوية
التي تثبت لك المعنى النبيل الذي خاض من أجله محمد حروبه ومعاركه، فما أعلن محمد
الحرب إلا بعد أن اضطهد هو وجماعته في عقيدتهم، وأخرجوا من أوطانهم، فجاءت معركة
بدر وما تلاها من معارك في سبيل الحرية الدينية وإقرار السلام والأمن في ربوع
الجزيرة العربية، ذلك السلام الذي حاربه الوثنيون من العرب فأحالوا بطاح مكة
ورمالها إلى ميادين لتذبيح المؤمنين وتعذيبهم ومطاردتهم في أرزاقهم وأوطانهم
وأموالهم.
لقد ظل محمد ثلاثة عشر عاماً يصبر ويدعو إلى الله بالحكمة، حتى إذا لجت
قريش في طغيانها، وصممت على وأد الدعوة الجديدة في مهدها بقتل محمد وصحابته، وهاجر
المسلمون إلى المدينة مستقر الدعوة والدين الجديد، بدأ الصراع بين القوة الجديدة
التي تمثل الحق والتسامح والفضيلة والكمال في أروع صوره، وبين القوة الوثنية
الطاغية التي تمثل العتو والكبرياء والطغيان في أبشع صوره ومظاهره..
قلت: عرفت
الخلق الأول من أخلاق الحرب في الإسلام.. فما الخلق الثاني؟
قال:
الوفاء.. الوفاء هو الخلق الذي أمر الإسلام به في السلم والحرب، واعتبره نقطة فاصلة
بين المؤمنين والمنافقين.
فمن أول
سمات المؤمن الوفاء..
قلت: ما
علاقة الوفاء بالسلام؟
قال: لو
تأملت أكثر حروب العالم تجد سببها نقض العهود والمواثيق وعدم احترام الكلمة..
قلت: فهل
حافظ الإسلام على هذا الخلق؟
قال: سأذكر لك النظام الذي فرضه الإسلام للحرب.. لتعرف من خلاله المدى الذي
تقيد فيه المسلمون بالوفاء.. وتعرف من خلاله النظافة التي مارس بها المسلمون
حروبهم.
فالحرب تبدأ حين تتأكد الأمة من نية العدوان والغدر لدى أمة من الأمم ضدها،
وحينذاك يجب عليها أن تستعد بكل ما تملك من قوة لإرهاب هذا العدو الذي يتربص بها:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
﴾ (لأنفال: من الآية60) فهو استعداد للإرهاب لا
للاعتداء، ولإرهاب أعداء الأمة لا أصدقاءها ومسالميها.
فإن كف العدو عن فكرة العدوان، وعدل عن الحرب وجب على الأمة أن تجنح للسلم
وتدخل فيه:﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ (لأنفال:61)
فإن أبى العدو إلا الحرب والعدوان، فـ ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ
عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
(40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ
(41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)﴾ (الشورى).. ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
مَعَ الْمُتَّقِينَ)(البقرة: من الآية194)
فإذا بدأت الحرب، فلتخفف ويلاتها بقدر ما يمكن، ولذلك جازت الخديعة في
الحرب (الحرب خدعة)
قلت: كيف يجتمع الوفاء مع الخداع؟
قال: الخدعة المرادة هنا إحباط مناورات العدو وخططه وتثبيط عزيمته، فإن في ذلك
إنهاء للحرب وإقرارا للسلام بأقل ما يمكن من الزمن، وأقل ما يقع من الضحايا.
فإذا لم تجد الخديعة والأساليب السياسية واضطر إلى الحرب.. فالإسلام يأمر
المقاتلين بالثبات ليستمدوا عونهم من الله، وليذكروا الله كثيراً:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ
فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ (لأنفال:45)
ألا ترى كيف يأمر القرآن بذكر الله في حال القتال ليذكر المقاتلون أنهم لا
يقاتلون رياء ولا حمية ولا ثأراً ولا استعلاءً وإنما يحاربون في سبيل الله..
وحين تشتعل نار الحرب يجب أن يذكر الجيش المحارب أنه يخوض حرباً دفاعية
لتحرير الضعفاء والمضطهدين، فليضيق حدودها حتى لا يصطلي بنارها إلا من حمل السيف
وبدأ العدوان، فلا تؤخذ أمة العدو كلها بجريرة جيشها أو فريق منها اعتدوا على
أمتنا:﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ
وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ (البقرة:190)
وهنا يسمو الإسلام إلى منتهى ذروة الإنسانية حين يحرم قتل الشيخ الكبير
والعاجز والمرأة والصبي ورجل الدين المنقطع للعبادة والفلاح والمسالم الذي لم
يشترك في القتال.
لقد أوصى أبو بكر خليفة المسلمين أول جيش خرج من الجزيرة العربية ليرد
عدوان الروم المبيت على دولة الإسلام الفتية، فقال:« لا تمثِّلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً
كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا
شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في
الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له »
هذه هي وصايا الأمة التي تحارب بروح مسالمة، وتأبى أن تنقلب إلى أمة معتدية
تنطلق وراء غرائزها وثاراتها تخرب وتنتقم.
فإذا رغب المحاربون في الصلح عند اشتداد المعركة أمر الإسلام المسلمين بأن
يقبلوا الصلح منهم ولو أشرفوا على النصر، ثم الوفاء بما تم عليه العهد:﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ
وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ
عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ (النحل:91)
فإذا بدا منهم بعد ذلك نية الغدر والخيانة فإن الإسلام ينهى عن مفاجأتهم
بالقتال، بل لا بد من إخبارهم بانتهاء العهد بين المسلمين وبينهم وفسح المجال لهم
ليستعدوا للحرب والقتال، وهذا هو النبذ الوارد في الآية:﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً
فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ (لأنفال:58)
وإذا انتهت المعركة باستسلام العدو وانتصار الأمة، فلا عدوان على الأعراض،
ولا تخريب للمدن، ولا استلاب للأموال ولا إذلال للكرامات، ولا اندفاع وراء الثأر والانتقام،
وإنما هو الإصلاح والتحرير والعدالة ونشر الخير ومكافحة الشر:﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ
أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ (الحج:41)
فهذه الآية نص على ما يجب أن تفعله الأمة المنتصرة بعد انتهاء الحرب وهي
أمور أربعة: إقامة الصلاة، وهي رمز لإشاعة السمو الروحي في العالم.. وإيتاء
الزكاة، وهي رمز لتحقيق العدالة الاجتماعية في الشعوب.. والأمر بالمعروف، وهو رمز
للتعاون على كل ما فيه خير الناس وأمنهم وسعادتهم.. والنهي عن المنكر، وهو رمز
للوقوف في وجه الشر الذي يعجل بالحرب ويفوت على الناس السلام والأمان.
التفت إلي، وقال: هل رأيت في الكتب المقدسة تعاليم سامية مثل هذه
التعاليم.. وهل رأيت في الأمم أخلاقا مثل هذه الأخلاق.
قلت: عرفت
الضرورة والوفاء.. فحدثني عن الرحمة.. وهل يمكن أن تجتمع الحرب والقتال مع الرحمة؟
قال: تتجلى
الرحمة في الحروب التي شرعها الإسلام انطلاقا من الدوافع التي تدفع لها.. فالإسلام
لم يشرع الحرب من أجل المال ولا الجاه ولا السلطان.. بل شرعها من أجل تحرير
المستضعفين من نير المستكبرين.. ولهذا يخاطب القرآن وجدان الرحمة في الإنسان،
فيقول:﴿ وَمَا
لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ
هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً
وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ﴾ (النساء:75)
ولا تقف الرحمة الإسلامية عند هذا
الحد.. بل تتعداه إلى المواقف المختلفة التي تتطلبها الحرب..
فعن الأسرى يقول القرآن:﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ
مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ (الانسان:8)
وفي الحديث يوصي محمد بالأسرى خيرا،
فيقول:« استوصوا بهم
(أي الأسرى) خيراً »
وقد أمر محمد المسلمين الذين أسروا
ثمامة بن أثال قائلاً:« أحسنوا أساره، اجمعوا ما عندكم من
طعام فابعثوا به إليه »
ويقول أبو عزيز بن عمير وكان أسيراً:« كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا
بي من بدر ـ فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية
رسول الله r إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبر إلا نفحني بها، فأستحي
فأردها على أحدهم، فيردها عليّ ما يمسها »
وقد وضع القرآن قانونا للتعامل مع
الأسرى جاء فيه:﴿ فَإِذَا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ
فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ
وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ (محمد:4)
إن هذه الآية تحوي رحمات عظيمة لا
يمكن حصرها.. فهي تأمر بضرب الرقاب.. وهو حث على القتل المريح.. بدل إصابة المقتول
بجراحات تظل تعذبه.
وهي تخير ولي الأمر في معاملة الأسرى
بين المن (اطلاق السراح) أو أخذ العوض إما بالمال أو تبادل الأسرى وهو (الفداء)
ولا تقف الرحمة الإسلامية هنا.. بل
إن الإسلام يحرم تحريما شديدا قتل الضعفاء وغير المقاتلين ويحرم التخريب.. فمحمد يقول
للجيش:« لا تقتلوا
شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا امرأة ولا تغلو ولا تقتلوا أصحاب الصوامع »
وهو ينهى عن التمثيل بجثث القتلى أو
تعذيب الجرحى.. ففي الحديث:« إياكم والمثلة »
وقد أمر محمد بوضع جثث قتلى المشركين
في بدر في القليب وهو بئر جاف، ونهى عن تعذيب الجرحى وقال:« لا تعذبوا عباد الله »
وهو بعد ذلك كله يتعامل بسماحة لا
نظير لها مع المغلوب.. فبعد فتح مكة قال محمد لقريش:« أقول لكم ما قال أخي يوسف لإخوته،
لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء »
وهو ـ فوق هذا ـ يلتزم بكل حقوق الفقراء والعاجزين وذوي العاهات، من الأمم
التي يسيطر عليها.
فنصوص القرآن التي تحتم إعالة البائسين والمحتاجين هي عامة شاملة لم تقيد
بالمسلمين فحسب:﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ﴾ (الاسراء:26).. ﴿
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ (الذريات:19)
وقد جاء في عهد خالد بن الوليد لأهل الحيرة:« أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات،
أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وأعيل من بيت مال
المسلمين وعياله»
وقد طبق عمر هذا المبدأ الإسلامي العظيم حين مر بشيخ كبير يسأل الناس
الصدقة، فلما سأله وعلم أنه من أهل الجزية، أخذ بيده إلى بيته وأعطاه ما وجده من
الطعام واللباس، ثم أرسل إلى خازن بيت المال يقول له:« انظر إلى هذا وأمثاله فأعطهم ما يكفيهم وعيالهم
من بيت مال المسلمين فإن الله يقول:﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ ﴾ (التوبة: من الآية60) والفقراء هم المسلمون،
والمساكين هم أهل الكتاب»
لقد ذكر جوستاف لوبون في كتابه
(حضارة العرب) تلك الرحمة العظيمة التي امتلأت بها حروب المسلمين، فقال:« إن العرب تركوا المغلوبين أحراراً
في أديانهم فإذا كان بعض النصارى قد أسلموا واتخذوا العربية لغة لهم فذلك لما كان
يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس بمثله عهد.. وقد عاملوا
أهل سورية ومصر وأسبانية وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم قوانينهم
ونظمهم ومعتقداتهم غير فارضين سوى جزية زهيدة في مقابل حمايتهم لهم وحفظ الأمن
بهم.. والحق إن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب »
وقال مونتجمري في كتابه (الحرب عبر
التاريخ):« إن المسلمين
كانوا يستقبلون في كل مكان يصلون اليه كمحررين للشعوب من العبودية، وذلك لما
اتسموا به من تسامح وإنسانية وحضارة فزاد إيمان الشعوب بهم »
قلت: هناك شبهة يثيرها الكثير في هذا المجال..
قال: اطرح ما تشاء من شبه.. فلن تعدو الشبه التي
طالما رددتها.. ثم سرعان ما لاح لي الحق، فتراجعت عنها.
قلت: لقد قرأت لبعض الفقهاء من يذكر أنّ على الدولة
المسلمة أن تخيّر الدول الأخرى بين الإسلام أو الجزية أو القتال.
قال: لقد بحثت في هذا.. وقد حاول هؤلاء أن يلووا
أعناق بعض النصوص ليلزموها هذا الفهم الخاطئ..
لقد كتب محمد بعد أن استقرّ له الأمر في المدينة،
رسائل إلى الملوك من حوله يدعوهم إلى الإسلام، وإلى الإيمان بالله وحده.. فكتب إلى
قيصر ملك الروم، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى المقوقس عظيم
القبط، وإلى الحارث ملك تخوم الشام.. وطلب من هؤلاء الملوك أن يبلّغوا دعوته إلى
شعوبهم، وإلاّ فإنّهم يتحمّلون إثم هؤلاء الناس.. وذلك بسبب ما كان معروفاً أنّ
الملوك يمنعون شعوبهم أن يدينوا بغير دينهم.
ولم يرد في أي رسالة من تلك الرسائل أي تهديد
بالقتال.. أو أي طلب للجزية.
قلت: ولكنه في الفتوحات الإسلامية، كان الفاتحون
يخيرون البلاد المفتوحة بين الإسلام أو الجزية أو القتال.
قال: ذلك صحيح.. وقد كان لذلك أسبابه الظرفية.. فهو
حكم ظرفي مرتبط بواقع معين لا حكما شرعيا ملزما.
فمبادرة بعضهم لقتال المسلمين، كما حدث مع كسرى الذي
مزّق كتاب محمد، وكتب إلى نائبه في اليمن (باذان) أن يبعث له هذا الذي يدّعي أنّه
نبي.. وكما حدث مع الحارث الغسّاني الذي رمى كتاب محمد وعزم أن يسير إليه
ليقاتله.. وكما حدث في غزوة تبوك عندما تجمّع الروم لغزو المدينة وقتل محمد.
والثاني ـ وهو الأهم ـ هو منع هؤلاء الملوك لشعوبهم
من حرية قبول الإسلام أو رفضه بناء على العرف العام في تلك العصور، والذي يمنع
الشعوب أن تعتقد ديناً يخالف دين ملوكها، وهذا ما أشار إليه محمد عندما حمّل
الملوك مسؤولية رعاياهم، وهذه هي الفتنة التي أمر المسلمون بالقتال لرفعها عن جميع
الناس، كما ورد في القرآن:﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى
الظَّالِمِينَ (193)﴾(البقرة)
فإذا لم يحصل هذان الأمران.. بأن لم يبدأ المعتدي
العداوة، ولم يظهر منه أي استبداد يمنع رعيته من الوقوف مع الحق، فإن الواجب في
هذا المحل هو الدعوة المجردة، وإلى ذلك الإشاره في قول محمد: دعوا الحبشة ما
ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم[34].
قلت: والجزية[35].. أليست الجزية نوعا من القهر!؟.. ألا ترى أن فرض الجزية يتنافى
مع الأخلاق التي ذكرتها.
قال: كيف ذلك؟
قلت: لأن ثقل الجزية الذي ينوء به ظهره يجعله مضطرا
لإعلان الإسلام ليتخلص من هذه الضريبة.
قال: أنت لا تعلم أحكام الجزية الفقهية إذن.
قلت: أعرفها عموما.. ولا أعرف تفاصيلها.
قال: أما أنا فبحثت في تفاصيلها.. بل بحثت في التاريخ
المرتبط بها.
قلت: فما وجدت؟
قال: أولا.. أنت تعلم أن الرعية التي حكمها الإسلام
في ذلك الوقت، وفي كل وقت تشمل نوعين من الناس بحسب التقسيم الإسلامي..
قلت: أجل.. مسلمون وذميون.
قال: هذا التقسيم لا يعني أن الذميين أدنى من
المسلمين في الحقوق.. ولكنهم أدنى منهم في الواجبات.
قلت: ما تقول؟
قال: لقد كان هناك واجبات كثيرة فرضها الإسلام لا
يطالب بها غيرهم من المواطنين ممن يسمون أهل الذمة.. وذلك مثل الجهاد والزكاة..
الجهاد الذي هو ضريبة أبدان.. والزكاة التي هي ضريبة أموال.
قلت: ذلك
صحيح.. فالإسلام لم يجند أهل الذمة ليدافعوا عن أرض الإسلام.
قال: ولذلك عوض عن ذلك.. عوض عن الزكاة والجهاد..
بالجزية.
ولكن الحقيقة أنها ليست كذلك، وما كانت إلا بدلاً عن
فريضتين فُرِضتا على المسلمين، وهما: فريضة الجهاد وفريضة الزكاة، ونظرًا للطبيعة
الدينية لهاتين الفريضتين لم يُلزم بهما غير المسلمين.
اسمع ما قلت في كتابي المعروف (الدعوة إلى الإسلام)
عن الغرض من فرض الجزية وعلى مَن فُرضت.. لقد قلت: ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين ـ
كما يردد بعض الباحثين ـ لونًا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما
كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة، وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت
تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف
المسلمين
ولهذا لما قَدَّمَ أهل الحيرة المال المتفق عليه
ذكروا صراحة أنهم دفعوا هذه الجزية على شريطة (أن يمنعونا وأميرهم البغي من
المسلمين وغيرهم)
ومثل ذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها مع
بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا
ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا
الشرط من تلك الحادثة التي وقعت في عهد الخليفة عمر، فقد حصل أنه لما حشد
الإمبراطور هرقل جيشًا ضخمًا لصد قوات المسلمين، كان لزامًا على المسلمين نتيجة
لما حدث أن يركزوا كل نشاطهم في المعركة التي أحدقت بهم، فلما علم بذلك أبو عبيدة
قائد العرب كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم برد ما جُبيَ من الجزية
من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جُمع لنا من
الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنّا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم
ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله
عليهم
وبذلك ردت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون
بالبركة لرؤساء المسلمين، وقالوا: ردكم الله علينا، ونصركم عليهم (أي على الروم)..
فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا، وأخذوا كل شيء بقي لنا
قلت: أرأيت لو بدا للذميين أن يشتركوا في الخدمة
العسكرية، ويدافعوا مع المسلمين عن حدود وطنهم.. فهل تسقط عنهم الجزية؟
قال: أجل.. لقد حصل هذا في التاريخ مع قبيلة
(الجراجمة)، وهي مسيحية كانت تقيم بجوار أنطاكية، وقد سالمت المسلمين وتعهدت أن
تكون عونًا لهم، وأن تقاتل معهم في مغازيهم على شريطة ألا تؤخذ بالجزية، وأن تعطى
نصيبها من الغنائم.
ولما اندفعت الفتوح الإسلامية إلى شمال فارس سنة
22هـ، أبرم مثل هذا الحلف مع إحدى القبائل التي تقيم على حدود تلك البلاد، وأُعفيت
من أداء الجزية مقابل الخدمة العسكرية.
ونجد أمثلة شبيهة بهذه للإعفاء من الجزية في حالة
المسيحيين الذين عملوا في الجيش أو الأسطول في ظل الحكم التركي.. ومن أمثلة ذلك ما
عومل به أهل ميغاريا، وهم جماعة من مسيحيي ألبانيا الذين أعفوا من أداء هذه الضريبة
على شريطة أن يقدموا جماعة من الرجال المسلحين لحراسة الدروب على الجبال التي كانت
تؤدي إلى خليج كورنته، وكان المسيحيون الذين استخدموا طلائع لمقدمة الجيش التركي
لإصلاح الطرق وإقامة الجسور قد أعفوا من أداء الخراج، ومُنِحوا هبات من الأرض
معفاة من جميع الضرائب.
ومثل ذلك لم يدفع أهالي حيدرة المسيحيون ضرائب مباشرة
للسلطان، وإنما قدموا مقابلها فرقة من مائتين وخمسين من أشداء رجال الأسطول، كان
ينفق عليهم من بيت المال في تلك الناحية.
وقد أعفي أيضًا من الضريبة أهالي رومانيا الجنوبية،
وكانوا يؤلفون عنصرًا هامًا من عناصر القوة في الجيش التركي خلال القرنين السادس
عشر والسابع عشر الميلاديين، ثم المرديون، وهم قبيلة كاثوليكية ألبانية كانت تحتل
الجبال الواقعة شمال إسكدرا، وكان ذلك على شريطة أن يقدموا فرقة مسلحة في زمن
الحرب.
وبتلك الروح ذاتها لم تقرر جزية الرؤوس على نصارى
الإغريق الذين أشرفوا على القناطر[36]التي أمدت القسطنطينية بماء الشرب، ولا على الذين
كانوا في حراسة مستودعات البارود في تلك المدينة نظرًا إلى ما قدموه للدولة من
خدمات.
ومن جهة أخرى أعفي الفلاحون المصريون من الخدمة
العسكرية على الرغم من أنهم كانوا على الإسلام، وفرضت عليهم الجزية في نظير ذلك،
كما فرضت على المسيحيين.
قلت: ما دام
الأمر بهذه الصورة، فلم لم يفرض الإسلام على مخالفيه أو على أهل الذمة من الزكاة
ما يفرضه على المسلمين، وبذلك تستوي الرعية جميعا، ويتحقق العدل؟
قال: إن هذا من أدلة احترام الإسلام لمخالفيه.. فمع
أن الزكاة تكليف اجتماعي، وضريبة مالية، تُنفق حصيلتها في مساعدة الضعفاء،
والمحتاجين، من رعايا الدولة إلا أن الإسلام لم يفرضها على أهل الذمة.
قلت: لم[37]؟
قال: أنت تعلم أن الزكاة مشروعة لاعتبارين:
أما أولهما، فهو ما أشرت إليه، من أنها تكليف
اجتماعي، وحق معلوم، للسائل والمحروم، وضريبة مالية، تؤخذ من أغنياء الأمة، لتُرَد
على فقرائها، قيامًا بحق الأخوة، وحق المجتمع.
وأما الثاني، فهو أنها عبادة من عبادات الإسلام،
ودُعامة من الدعائم الخمس، التي قام عليها بناؤه، شأنها شأن الشهادتين، وإقامة الصلاة،
وصوم رمضان وحج البيت الحرام.
بل إنها قرنت في القرآن بالصلاة، في عشرات المواضع..
واعتبرت مع التوبة من الشرك وإقامة الصلاة مظهر من مظاهر الدخول في الإسلام،
واستحقاق إخوة المسلمين، ففي القرآن:﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ
الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)﴾(التوبة)
كما أن بعضًا من أسهم الزكاة، يُصرف في نُصرة
الإسلام، وإعلاء كلمته، والمصالح العامة لدعوته، ودولته. وذلك هو سهم:﴿ في
سبيل الله ﴾، ومنها: ما يُصرف في تأليف القلوب، أو تثبيتها عليه. وذلك هو
سهم ﴿ المؤلفة قلوبهم﴾
ولهذا الاعتبار، أبت سماحة الإسلام وحساسيته في
معاملة غير المسلمين واحترام عقائدهم أن يفرض عليهم ضريبة لها صبغة دينية واضحة،
حتى إنها لتعد شعيرة من شعائره الكبرى، وعبادة من عباداته الأربع، وركنًا من
أركانه الخمسة.
قلت: لا بأس بما قلت، ولكن لم يؤخذ مقدار الزكاة من
غير المسلمين باعتباره ضريبة لا زكاة.. وبذلك تنتفي مشكلة الجزية التي تؤرق
أصحابنا من المبشرين والمستشرقين؟
ابتسم، وقال: الخلاف في الاسم فقط إذن..
قلت: ولكنه قد يكون مؤثرا عند الكثير من الناس..
قال: ولو اعتبر المخرج زكاة لكان أخطر تأثيرا.. ومع
ذلك فقد روي ما يثبت تنازل المسلمين عن اسم الجزية إلى اسم الصدقة في عهد السلف
الأول من أصحاب محمد.
فقد روي عن زرعة بن النعمان أنه سأل عمر بن الخطاب،
وكلمه في نصارى بني تغلب، وكان عمر قد هَمَّ أن يأخذ منهم الجزية، فتفرقوا في
البلاد، فقال النعمان بن زرعة لعمر: يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قوم عرب، يأنفون
من الجزية، وليست لهم أموال (يعني الذهب والفضة) إنما هم أصحاب حروث ومواشٍ، ولهم
نكاية في العدو، فلا تُعن عدوك عليك بهم، قال: فصالحهم عمر على أن أضعف عليهم
الصدقة (أي جعلها مضاعفة عليهم)[38]
وروي عن عبادة بن النعمان في حديث طويل: أن عمر لما
صالحهم على تضعيف الصدقة قالوا: نحن عرب لا نؤدي ما تؤدي العجم، ولكن خذ منا كما
يأخذ بعضكم من بعض (يعنون الصدقة) فقال عمر: لا، هذه فرض المسلمين. قالوا: زد ما
شئت بهذا الاسم، لا باسم الجزية. ففعل، فتراضى هو وهم على تضعيف الصدقة عليهم[39].
وفي بعض روايات هذا الحديث أن عمر قال: سموها ما
شئتم
وقد علق الإمام أبو عبيد على حكم أمير المؤمنين عمر
في بني تغلب، إذ قبل منهم أموالهم ولم يجعلها جزية كسائر ما على أهل الذمة، بل
جعلها صدقة مضاعفة، فقال: وإنما استجازها فيما نرى وترك الجزية، لما رأى من نفارهم
وأنفهم منها، فلم يأمن شقاقهم واللحاق بالروم، فيكونوا ظهيرًا لهم على أهل
الإسلام، وعلم أنه لا ضرر على المسلمين من إسقاط ذلك الاسم عنهم مع استيفاء ما يجب
عليهم من الجزية، فأسقطها عنهم، واستوفاها منهم باسم الصدقة حتى ضاعفها عليهم،
فكان ذلك رتق ما خاف من فتقهم، مع الاستيفاء لحقوق المسلمين في رقابهم [40]
قلت: إن ما ذكرته يثير إشكالا آخر أخطر وأعظم.. إنك
برواية هذا الحديث كمن يبحث عن حتفه بظلفه.
قال: تقصد مضاعفة عمر الصدقة عليهم.
قلت: أجل.. إن هذه شبهة خطيرة لا تقاوم.. فكيف يختلف
المواطنون في مقدار الضرائب التي يؤدونها مع كونهم جمعا مواطنين، وأهل بلد واحد؟
قال: ألم أذكر لك أن الجزية ضريبة ماليه بدل الزكاة
والجهاد؟
قلت: بلى..
قال: ولهذا ضاعف الصدقة عليهم.. فالجزء الأول من
الزكاة بديل عن زكاة الأموال، والجزء الثاني بديل عن زكاة الأبدان.
ومع ذلك، فقد ذكر علماء المسلمين أن هذا التصرف من
عمر (تضعيف الزكاة على أهل الذمة) ليس أمرًا لازمًا، إنما فعل ذلك مع بني تغلب؛
لأنهم هم الذين طلبوا ذلك، ووقع عليه الصلح والتزموا به، وهو أمر يرجع إلى السياسة
الشرعية، ومقتضيات المصلحة العامة للدين والدولة[41].
***
ما وصل
مكسيم رودنسون من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمعنا أصواتا لمدافع كثيرة تصم لها
الآذان، ثم لم نلبث حتى رأينا جيشا عرمرما يحيط بنا من كل جانب.. وهو يشهر أسلحته
نحونا.
أمرنا بنزع
ثيابنا، فنزعناها.. ثم أمرنا بالانبطاح أرضا، فانبطحنا.. ثم جاء بعض قساة القلوب،
فطوقوا أيدينا، حتى كاد الدم يجمد في عروقنا.. ثم أمرونا بالسير معهم.. فسرنا..
كان الشاب
المسكين ينظر ببراءة حزينة إلى حقل الزيتون.. وكأنه يودعه بدموعه.
أما صاحبي
مكسيم، فكان يقذف في وجوههم كل ما حفظه في صغره من لعنات اليهود.
وأما أنا..
فكنت ألتفت خلفي لأرى ما سيحصل لحقل الزيتون..
ما إن وصلنا
إلى الشاحنة التي حملنا فيها كما تحمل البضائع حتى دخل رجل ضخم، هو أشبه بضفدعة
عملاقة لبست لباس الإنسان.. كان يحمل في فمه سيجارة هي أشبه بالقنبلة.. ما دخل إلى
حقل الزيتون حتى رماها.. فإذا بالنيران تشتعل من كل جانب..
في ذلك
الحين الذي اجتمعت فيه الأحقاد على حقل الزيتون تذكرت محمدا.. وزيتون محمد.. فبكيت
بكاء حارا على افتقاد البشرية لتلك المعاني الجميلة التي عاشها محمد، وبشر بها..
ومع تلك
الدموع الحارة تنزلت علي أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد.
([3]) هو مكسيم رودنسون (1915- )Maxime Rodinson مفكر ماركسي ومستشرق فرنسي من أصل يهودي، وُلد في
باريس عام 1915، وكان أبوه أحد مؤسسي اتحاد نقابات العمال اليهود في باريس، تلقَّى
تعليمه الابتدائي في باريس ثم عمل كصبي تشهيلات قبل التحاقه بقسم اللغات الشرقية
الحية في السوربون حيث درس اللغات السامية والإثنوجرافيا وعلم الاجتماع.
خدم في الجيش الفرنسي
في سوريا أثناء الحرب العالمية الثانية، وبقي لمدة 7 سنوات في لبنان حيث عمل كمدرس
في مدارس إسلامية ثانوية وكموظف في الإدارة الفرنسية في سوريا ولبنان، وفي هذه
الفترة قام بزيارات متعددة لمختلف دول الشرق الأوسط.
انضم للحزب الشيوعي
الفرنسي عام 1937، وتعرف إلى الشيوعيين والماركسيين واليسار العربي إبان إقامته في
المنطقة، أصدر نشرة الشرق الأوسط الشهرية السياسية عامي 1950 و1951، وذلك بعد
عودته لفرنسا عام 1947. وترك الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1958، ولكنه استمر في صفوف
اليسار الماركسي يعمل مديراً لقسم الشرق الأوسط في المعهد التطبيقي للدراسات
العليات بالسوربون.
له مؤلفات عديدة حول
الإسلام والعروبة والمسـألة اليهـودية، من بينها: الإسلام والرأسمالية (1966)،
وإسرائيل والرفض العربي (1968)، والإسلام والماركسية (1972)، وإسرائيل واقع
استعماري (1973)، والعرب (1979)، ومحمد (1979)، وشعب يهودي أم مسألة يهودية
(1981).
وهو يذهب إلى أن
المنطق الصهيوني منطق إحلالي يقوم على الإحلال القسري للسكان (العرب) بغيرهم
(اليهود)، ومن ثم فهو عدواني واستعماري وعنصري، وهذا يعني أن الدولة الصهيونية
دولة لخدمة الاستعمار ارتبطت - كحركة - بالاستعمار البريطاني منذ نشأتها ثم
بالإمبريالية الأمريكية فيما بعد.
والعنصرية التي تقوم
عليها الفكرة الصهيونية ودولة إسرائيل تؤدي إلى سيادة القيم الإسبرطية أي قيم
المحاربين الدائمين، وهو المنطق الذي يحكم قادة إسرائيل.
وهو يرى أن هذا المنطق
نفسه قد أوصل المشروع الصهيوني إلى طريق مسدود، فلا يمكن تخيل بشر في حالة استنفار
دائم. وتلجأ إسرائيل إلى المغامرات العسكرية وذلك لتهدئة حالة التهيج والاستنفار
المستمرين بين المستوطنين وتنفيس الطاقة العدوانية لديهم.
وهذا، بدوره، يخلق
توترات جديدة ويزيد الاستنفار والتهيج، وهكذا في حلقة مفرغة مدمرة. ومن ثم، فإن
التناقضات الداخلية تأكل الدولة الصهيونية من الداخل والمنظمات الصهيونية تتخبط في
صراعات داخلية مدمرة.
ويرى أن الصهيونية هي
نتيجة ظاهرة معاداة اليهود، ويشير إلى أن معظم اليهود في أوربا كانوا في طريقهم
للاندماج، ثم جـاءت النازية لتقـدم فرصة نادرة للحركة الصهيونية وتبث الروح فيها.
وقد لعب دوراً مهماً
في تقريب وجهات النظر وتسهيل الحوار بين منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الجماعات
المعتدلة واليسارية في إسرائيل، وذلك من منطلق إيمانه بالقيم الإنسانية العامة،
بيد أنه لا يرى نفعاً كبيراً من هذا الحوار في أحسن الأحوال. فالحوار يفيد فقط في
إطار الإستراتيجية العامة للطرفين المتحاورين، لكن القادة الإسرائيليين أفهموا
شعبهم أن الفلسطيني حيوان يسير منتصب القامة، وأن الفلسطينيين من جانبهم يرفضون
الحوار مع الإسرائيليين.
ويرى رودنسون أن
الغربيين يتأثرون كثيراً بما يحدث في إسرائيل أكثر مما يحدث في الدول العربية حيث
لا يأبهون بما يحـدث في هذه البـلاد كثيراً أو لا يأبـهون بها على الإطلاق، فلا
تزال المشاعر العنصرية وآثارها السياسية تطغى على حياة الغربيين. ويضرب رودنسون
مثالاً لذلك بتزايد نمو الأحزاب العنصرية والنازية في الغرب الأوربي، ولذا فهو لا
يعتقد في أطروحات غياب الإعلام العربي وتغيير الحالة الذهنية الغربية، لأنه يرى أن المسألة أعقد كثيراً من ذلك وترجع
إلى الطبيعة العنصرية الأساسية في بنية الحضارة الغربية. (انظر: الموسوعة
اليهودية، المسيري، وانظر فيها فصلا مهما حول [شخصيات ومنظمات يهودية معادية للصهيونية]
([5]) شـمشون، هو اسم لشخص
يُشار إليه أحياناً بأنه آخر القضاة، فقد كان قاضياً من قبيلة دان مدة عشرين سنة،
وقد اشتهر بقوته الجسدية الخارقة.
تدور حياته حول مجموعة من المغامرات مع ثلاث
نساء فلستيات من غزة. فعند اكتمال شبابه تزوج من امرأة فلستية. وفي إحدى زياراته
لها، قابل أسداً فصرعه ثم أكل نحلاً وجده في جثته فيما بعد، وقارع الفلستيين ببعض
الأحاجي إذ سألهم: هل رأيتم نحلاً في فم أسد؟ فلم يستطيعوا الإجابة، ولكن زوجته
أفشت لهم سرَّه فهجرها، وقتل ثلاثين فلستياً في عسقلون. وعندما عاد إليها، وجد
أنها تزوجت من آخر، فأمسك ثلاثة من بنات آوى وأضرم النار في أذنابها وأطلقها على
مزارع الفلستيين فاشتعلت فيها النيران. وقد أخذ الفلستيون في الانتقام من
العبرانيين الذين طلبوا من شمشون أن يستسلم لهم ليسلموه إلى أعدائه ففعل (ولكن
شمشون فك وثاقه وأمسك بفك حمار وقتل ألفاً منهم).
أما محور ثاني المغامرات في حياة شمشون، فهو
قصته مع بغيّ من غزة كان يزورها. وبينما كان هو في منزلها، عرف الفلستيون بوجوده
وأرادوا أن يفتكوا به وهو منهك القوى. ولكنه استيقظ مبكراً، وخلع بوابات غزة على
كتفيه ووضعها على تل في حبرون (الخليل). ثم وقع شمشون في غرام دليلة الفلستية التي
يبدو أنها كانت بغياً هي الأخرى. وعرفت دليلة أن سرَّ قوة شمشون في شَعره لأنه كان
نذير الرب وهو في بطن أمه. فأتى الفلستيون عليه وهو نائم وجزُّوا شعره وأوثقوه
بسلاسل من نحاس وسملوا عينيه ثم أخذوه إلى غزة ووضعوه في السجن. وحينما أخرجوه
ليسخروا منه في المعبد دفع شمشون العمودين فسقط المعبد عليه وعلى من فيه فماتوا
جميعاً. (انظر: الموسوعة اليهودية، وانظر القصة وتحليلها في (الكلمات المقدسة) من
هذه السلسلة)
([7]) لكن القرن الخامس عشر
الميلادي أظهر تحولات عميقة في النفس المسيحية ـ الغربية على الأقل ـ مع بزوغ ما
عرف بحركة الإصلاح، وما استتبعه ذلك من انشقاق سياسي وعقائدي داخل الديانة
المسيحية بشكل عام، والكاثولوكية الغربية بشكل خاص كان من نتائج هذه التحولات أن
أصبحت المسيحية الجديدة التي عرفت باسم البروتستانتية ربيبة لليهودية.
فقد أصبح للعهد القديم أهمية أكبر في نظر
البروتستانت من العهد الجديد، وبدأت صورة الأمة اليهودية تتغير تبعا لذلك في أذهان
المسيحيين الجدد وقد ظهر هذا التحول في النظرة المسيحية إلى اليهود في كتابات رائد
الإصلاح البروتستانتي، القس الفيلسوف (مارتن لوثر). فقد كتب لوثر عام 1523 كتابا
عنوانه (المسيح ولد يهوديا) قدم فيه رؤية تأصيلية للعلاقات اليهودية المسيحية من
منظور مغاير تماما لما اعتاده المسيحيون من قبل، فكان مما قال في كتابه:«
إن الروح القدس شاءت أن تنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم. إن
اليهود هم أبناء الرب، ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي
تأكل من فتات مائدة أسيادها »
([9]) ولكن، ورغم عدم وجود تمايز وظيفي، كان يجري استبعاد أعضاء الجماعات
اليهودية في العالم العربي الإسلامي من بعض الوظائف الإستراتيجية بحكم انتمائهم
إلى أقلية، فكان معظم الذميين يعملون في الدرجات الدنيا والوسطى، ولم يصل إلى
الدرجات أو المراتب العليا إلا نسبة صغيرة، إذ كانت هذه الوظائف مقصورة على
المسلمين أو على من اعتنق الإسلام من الذميين. (الموسوعة اليهودية)
([10]) خلال فترة حكم السلطان
سليم الأول وولده سليمان القانوني بلغت الدولة العثمانية أوج قوتها واتساعها, وذلك
من سنة 918هـ ـ 1512م حتى سنة 974هـ ـ 1566م، وكانت أوروبا وقتها تعيش حالة من
الفوضى والصراع السياسي والديني وانقسامات كبيرة فـ"فرنسوا الأول" ملك
فرنسا ينافس الإمبراطور شارلكان على كرسي الحكم للإمبراطورية الرومانية المقدسة!
وكان الراهب الألماني مارتن لوثر مؤسس المذهب البروتستانتي ينافس بابا الكاثوليك
ليو العاشر، وهذه الصراعات المتأججة مع قوة العثمانيين المتنامية عطلت الحروب
الصليبية عند كرسي البابوية.
([33]) انظر في هذا: (نظام السلم والحرب فى الاسلام) وهي محاضرة- القاها الدكتور السباعى فى ندوة
دار الايتام الاسلامية فى بيروت، بدعوة من اللجنة النسائية للهيئة العليا لدار الايتام،
مساء الجمعة الواقع فى 3 من شعبان سنة 1372 الموافق 17 من نيسان 1953، وقد كان لها
اثر بالغ فى جمهور المستعين، حتى ان فريقا كبيرا منهم وبعضهم اساتذة فى الجامعات
العليا، رغبوا بطبعها وتوزيعها لما تضمنته من حقائق يجهلها كثير من المثقفين، عدا
عما تضمنته من تصحيح لكثير من الأخطاء الشائعة فى البيئات العلمية والدينية
البعيدة عن الاسلام.
([35]) من الشبهات الخطيرة التي
يثيرها المبشرون والمستشرقون (الجزية) التي اعتبرت في نظرهم ضريبة ذل وهوان، وعقوبة
فُرِضت عليهم مقابل الامتناع عن الإسلام.. وسنتناول الرد عليها هنا انطلاقا من
المصادر الإسلامية الكثيرة التي اهتمت بهذا الجانب، وأهمها كتابي القرضاوي (فقه
الزكاة)، و(غير المسلمين في المجتمع الإسلامي)
([36]) هي نوع من القناطر تقام
على أعمدة لتوصيل مياه الشرب إلى المدن، وقد كانت شائعة في الدولة الرومانية منذ
القرن الأول الميلادي.
([40]) الأموال: ص 541 وهامشها
وص 28، 29 منه، وقد ضعف ابن حزم خبر بني تغلب (المحلى: 6/111) ولكن الخبر مشهور
رواه ابن أبي شيبة وأبو يوسف في الخراج ص 143 - ط. السلفية، ويحيى بن آدم في في
الخراج ص 66-67 ط. السلفية، والبلاذري في فتوح البلدان ص 189 - ط. مصر سنة 1319
هـ، وقال الشيخ أحمد شاكر معقبًا على خبر بني تغلب هذا: روي من طرق كثيرة تطمئن
النفس إلى أن له أصلاً صحيحًا.( انظر: فقه الزكاة، للقرضاوي)