الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: ثمار من شجرة النبوة

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

سابعا ـ نظام

1 ـ نظم الجاهلية

المسيحية

الانحراف الديني:

الفساد المالي:

صكوك الغفران:

الاستبداد السياسي:

الديمقراطية

الرأي العام:

الصراع والتفتيت:

الشيوعية

2 ـ نظام الإسلام

الفرد:

المجتمع:

الأمة:

 

 سابعا ـ نظام

في اليوم السابع من تلك الأيام العشرة المباركة، التقيت المستشرقة التي قطفت على يدها ثمرة النظام من شجرة النبوة..

وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى:﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة:50)

وسر قوله تعالى:﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ (المائدة:49)

وسر قوله تعالى:﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾ (الأحزاب:36)

فهذه النصوص المقدسة تبين ثمرة طيبة من ثمرات النبوة، هي تلك الأحكام العظيمة التي جاء بها لإسلام لتنظم حياة البشر وفق قوانين العدل والرحمة.

***

كان من جملة الأسماء التي كتبت في دفتر المرشد المستشرقة (هيلين كارير دانكوس)[1] Helene Carrere d' Encansse، وقد كنت محتارا في كيفية الاتصال بها للتعرف على سر وضعها في ذلك الدفتر إلى أن علمت أن لها مزرعة في ضواحي باريس، وعلمت أنها تشرف بنفسها عليها أيام العطل.

فاخترت يوما من أيام العطلة الأسبوعية، وذهبت مع فريق من التجار قصدوا مزرعتها لشراء بعض الخضر منها.

كانت هي المشرفة على البيع..

وقد استغللت الفرصة لأتحدث معها بعد أن رأيتها تقسم الخضر قسمين: الخضر الجيدة، والخضر الرديئة.

قلت لها: أنا متعجب من وجود خضر رديئة في هذه المزرعة التي توفرت لها كل أسباب الحياة.. لقد كان الأصل أن لا تكون هناك أي ثمرة رديئة.

التفتت إلي، وقالت: صدقت.. ذلك ما أقوله دائما للفلاحين الذين يزالون أعمالهم في هذه المزرعة..

قلت:  فهل بحثت عن سر الرداءة والجودة؟

قالت:  أجل.. لقد قمت ببحث معمق لذلك.. لا لأجل هذه المزرعة.. ولا لأجل ما أجنيه منها من مال.. ولكن لأجل أمر أخطر.

قلت:  أمر أخطر.. ما هو؟

قالت:  أنا أرى الفطرة النباتية هي الفطرة التي انطلقت منها فطرة الإنسان.. ولذلك فالانحراف الذي يحصل في عالم النبات قد يحصل مثله في عالم الإنسان، وأسباب الانحراف قد تكون نفسها.

قلت:  هذا قياس جيد، وقد سمعت بعضهم يعتبره [2].. فكيف عبرت من النبات إلى الإنسان؟

قالت:  ذلك سهل.. لقد وجدت أن جودة النبات تعتمد على ثلاثة أمور: جودة البذور، وجودة الوسط الذي تتغذى منه النبتة، ورعاية الفلاح.

قلت:  هذا بالنسبة للنبات.. فكيف عبرت منه إلى الإنسان؟

قالت:  البذور هي البشر.. فكل إنسان بذرة ستخرج في يوم من الأيام ثمراتها التي قد تكون طيبة، وقد تكون خبيثة.

والوسط الذي تتغذى منه النبتة وفيه تعيش هو وسطها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي..

والفلاح الذي يقوم برعاية النبتة يمثل المسؤولين على المجتمع من الساسة وغيرهم.

قلت:  هذا كلام طيب.. وهو كلام فلاسفة وعلماء، لا كلام فلاحين.

قالت:  أعرفك بنفسي.. أنا هيلين كارير دانكوس.. مهتمة بالنظم التي تحول الأرض إلى مزرعة طيبة، وتحول البشر إلى ثمار طيبة.. وهذه المزرعة هي حقل تجاربي.

قلت: أهناك نظم حاولت أن تحول البشر إلى ثمار طيبة؟

قالت:  أجل.. كل النظم حاولت أن تفعل هذا.

قلت: ليس المهم المحاولة.. ولكن المهم النتيجة.. هل أثمرت مزارع هذه النظم ثمارا طيبة؟

قالت: كل المزارع أثمرت غسلينا وحنظلا وزقوما..

قلت:  أأنت متشائمة من مزارع البشر.. فلذلك لجأت إلى مزارع الخضر!؟

قالت:  أنا متشائمة ومتفائلة في نفس الوقت.

قلت:  كيف يستقيم ذلك؟

قالت: لأن هناك من البشر من زرع مزرعة طيبة لا تزال بعض آثارها تملؤني بالتفاؤل.

قلت:  فهل خربت تلك المزارع؟

قالت: لقد اجتمع الإنس والجن على تخريبها.. لكني أشعر أن لها مقاومة ذاتية.. وستنهض تلك المزرعة من جديدة.. فلذلك تجد تفاؤلي يغلب تشاؤمي.

قلت:  أي مزرعة تلك التي استطاعت أن تقضي على تشاؤمك؟

قالت: مزرعة محمد..

قلت:  ذلك النبي البدوي الذي ظهر في جزيرة العرب!؟

قالت: بل ذلك النبي الذي أعطى الحلول لكل مشكلات العالم.. ووضع له من النظم ما يملؤه بالسلام والسكينة والسعادة.

قلت:  فكيف وصلت إلى هذه النتيجة؟

قالت: ذلك بحث طويل.. لقد طفت خلاله النظم والمدارس والفلسفات والأفكار أبحث عن نظام يتناسب مع فطرة الإنسان، ويغطي جميع احتياجاته، فلم أجده إلا عند محمد.. ولم أجده إلا في الإسلام[3].

قلت: فهل ستحدثيني عن نتيجة أبحاثك؟

قالت: يسرني ذلك.. ولكن قبل أن أحدثك عن مزرعة الثمار الطيبة، سأحدثك عن بعض مزارع الثمار الخبيثة.

قلت:  تقصدين مزارع الجاهلية.

قالت: أجل.. فلا يعرف الإسلام من لا يعرف الجاهلية.. ولا يعرف الثمرة الطيبة من لم يذق الثمرة الخبيثة.

1 ـ نظم الجاهلية

قلت: بأي ثمرة خبيثة تودين أن نبدأ؟

نظرت إلى مزرعتها بأسى، وقالت: بالثمرة الطيبة التي حولها المجرمون والدجالون والسحرة إلى ثمرة خبيثة.

قلت: من تقصدين؟

استمرت في كلامها، وكأنها لم تسمعني.. وراحت تقرأ من الكتاب المقدس احترزوا من الأنبياء الكذبة يأتونكم بثياب الحملان الوديعة، ولكنهم من الداخل ذئاب خاطفة.. من ثمارهم تعرفونهم، هل تجتنون من الشوك عنبا، أو من الحسك تينا.. هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارا  جيدة، وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارا ردية» (إنجيل متى:15:7-17)

نظرت إلي، وقالت: لقد كان المسيح يقصدهم.. بل لم يكن يقصد غيرهم.

قلت:  من؟

قالت:  أولئك الدجالون الذين حولوا المسيحية إلى مزرعة تنتج السموم.

قلت:  نحن نقارن بين النظم لا بين الأديان.. وقد تبرأت المسيحية من السياسة من أيام المسيح.. لقد جاء في الإنجيل:« ذهب الفريسيون وتشاوروا لكى يصطادوه (أى السيد المسيح) بكلمة، فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين: يا معلم؟ إنك صادق وتعلم طريق اله بالحق ولا تبالى بأحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس فقل لنا ماذا تظن؟ أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم وقال: لماذا تجربوننى يا مراءون؟ أرونى معاملة الجزية. فقدموا له ديناراً فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر؟ فقال لهم: أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر، وما لله لله؟ فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا »( انجيل متى: 23: 14 – 23)

المسيحية

قالت: ذلك على المستوى النظري.. أما على المستوى الواقعي، فقد أتيح للمسيحية أن تكون نظاما من النظم الحاكمة في المجتمع.. لقد أتيحت لها فترة كافية لتبين كيف يحكم أولئك الرجال الذين يمثلون المسيح.

قلت:  فكيف كان حكمهم؟

قالت: قبل أن تعرف كيف كان حكمهم اعرف كيف كانوا.. فقد تقع البذرة الطيبة في يد الفلاح الخبيث، فيملؤها بالعطش والجوع الذي يميتها، أو قد يلقح أغصانها ببعض السموم لتتحول ثمارها إلى سموم.

قلت: فكيف كان أولئك الذين خلفوا المسيح؟

قالت: أتعرف الألقاب التي لقب بها المسيح أحبار اليهود؟

قلت:  أجل.. لقد كان يسميهم (بائعي العهد، أولاد الأفاعي، عباد الدنيا)

الانحراف الديني:

قالت:  لقد كانت هذه الأوصاف تنطبق تمام الانطباق على أولئك الفلاحين من رجال الدين الذين كلفوا بتنمية بذور البشرية.

لقد عبد أولئك القسيسون والرهبان الدنيا كما عبدها أحبار اليهود.. لقد سلكوا الطريق نفسها، وانصاعوا إلى الدنيا مستعبدين أتبعاهم المؤمنين، وساعد وجودهم ضمن الإمبراطورية الرومانية على تثبيت مراكزهم وتدعيمها، ذلك بأنهم اقتبسوا من الأنظمة والهياكل السياسية للدولة فكرة إنشاء أنظمة وهياكل كهنوتية، وكما كانت هيئة الدولة تمثل هرماً قمته الإمبراطور وقاعدته الجنود، كانت الهيئة الكنسية تمثل هرماً مقابلاً قمته البابا وقاعدته الرهبان.. ونتيجة لمبدأ فصل الدين عن الدولة رعت الإمبراطورية الهرم الكنسي، ولم تر فيه ما يعارض وجودها فرسخ واستقر[4].

لقد ذكر المؤرخ الإنجليزي (ويلز) في معرض حديثه عن الفرق بين مسيحية المسيح ومسيحية الكنيسة أن تعاليم يسوع الناصري تعاليم نبوية من الطراز الجديد الذي ابتدأ بظهور الأنبياء العبرانيين، وهي لم تكن كهنوتية، ولم يكن لها معبد مقدس حبساً عليها ولا هيكل، ولم يكن لديها شعائر ولا طقوس، وكان قربانها (قلباً كسيراً خاشعاً)، وكانت الهيئة الوحيدة فيها هيئة من الوعاظ، وكان رأس ما لديها من عمل هو الموعظة.

بيد أن مسيحية القرن الرابع الكاملة التكوين، وإن احتفظت بتعاليم يسوع في الأناجيل كنواة لها، كانت في صلبها ديانة كهنوتية من طراز مألوف للناس من قبل منذ آلاف السنين، وكان المذبح مركز طقوسها المنمقة والعمل الجوهري في العبادة فيها القربان الذي يقربه قسيس متكرس للقداس، ولها هيئة تتطور بسرعة مكونة من الشمامسة والقساوسة والأساقفة[5].

التفتت إلي، وقالت: أتدري السر في ظهور هذا الهرم الكنسي الذي سيطر على بذور البشرية ليحولها عبيدا عند هؤلاء الوسطاء؟

قلت:  ما هو؟

قالت: (التوسط بين الله والخلق).. لقد اعتبر رجال الكنيسة أنفسهم وسائط بين الله والخلق..

قلت:  في الإسلام يوجد هذا أيضا.. فلا بد للمؤمن أن يذهب إلى رجل الدين ليعلمه شعائر الدين.

قالت:  لا حرج في هذا النوع من الوساطات.. بل هو موجود في كل مناحي الحياة، لا في الدين وحده.. ولكن الوساطة التي ادعاها رجال الدين المسيحي متبعين فيها سنن من قبلهم من الوثنيات هي أن يوسطوا رجل الدين بينهم وبين الله.

لقد ذكر القرآن هذا.. ونبه إلى خطورته، فقال:﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (التوبة:31)

وقد ورد في الحديث عن عدي بن حاتم: أنه لما بلغته دعوة رسول الله r فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثمَّ منَّ رسول الله r على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، ورَغَّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله r، فقدم عَدِيّ المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدَّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله r وفي عنق عَدِيّ صليب من فضة، فقرأ رسول الله r هذه الآية:﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال:« بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم »[6]

لقد وقع هذا الذي أخبر به محمد.. وأخبر به قبله القرآن..

لقد نصب رجال الدين أنفسهم أنداداً لله، وقد ترتب على هذا آثار سيئة للغاية أخطرها احتكار رجال الدين لحق قراءة وتفسير الإنجيل، ثم مهزلة صكوك الغفران، ثم الانشقاقات الدينية المتوالية التي دمرت الحياة بصفة عامة، وأخيراً كان هذا المبدأ إحدى الحجج التي سلها ملاحدة القرن السابع عشر فما بعد،في وجه الأديان عامة والمسيحية خاصة.

يقول العالم الفرنسي الذي اعتنق الإسلام (ناصر الدين دينيه) الوسيلة هي إحدى كبريات المسائل التي فاق بها الإسلام جميع الأديان، إذ ليس بين الله وعبده وسيط وليس في الإسلام قساوسة ولا رهبان، إن هؤلاء الوسطاء هم شر البلايا على الأديان وإنهم لكذلك مهما كانت عقيدتهم ومهما كان إخلاصهم وحسن نياتهم، وقد أدرك المسيح نفسه ذلك، ألم يطرد بائعي (الهيكل) غير أن أتباعه لم يفعلوا مثلما فعل، واليوم لو عاد عيسى فكم يطرد من أمثال بائعي الهيكل؟

ويقول:« كذلك ما أكثر البلايا والمصائب، بل ما أكثر المذابح والمجازر التي يكون سببها هؤلاء الوسطاء، سواء كانت بين العائلات وبعضها أو بين الشعوب والشعوب، وهم في ذلك كله يصيحون: باسم مجد الله »[7]

قلت:  ولكن النصوص الدينية المقدسة تدل على هذا.. فقد قال المسيح لبطرس كبير الحواريين:« أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة ابن كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السموات »( متى: 16: 19 – 20)

فهذا النص يدل على أن المسيح قد جعل السلطة الدينية المهيمنة باسمه في الموضع الذي يموت فيه كبير الحواريين بطرس، ومن ذلك المركز تمد أجنحة نفوذها على العالم أجمع، وتحكمه باسم المسيح، وبما أن بطرس ـ كما تقول الكنيسة ـ مات في رومة فإن رومة هي قاعدة المسيح لحكم العالم، وفيها مقر الكنيسة التي يرأسها ممثل المسيح ورسوله (البابا) المعصوم عن الخطأ، وكل ما تقرره الكنيسة هذه هو عين الصواب، إذ أن المسيح بواسطة الروح القدس هو الذي يملى عليها تصرفاتها، ومادام أنها تعمل باسم الله وتحل وتبرم حسب مشيئته، فطاعتها واجبة وقراراتها إلزامية لكل المؤمنين بالمسيح وليس على الأتباع إلا الطاعة العمياء والانقياد الذي لا يعرف جدلاً أو نقاشاً..

كنت أقول هذا على حسب ما حفظته من غير شعور، فقاطعتني، وقالت: والذنب الذي لا يغتفر هو أن تصادم أوامر الله، التي هي أوامر الكنيسة، بواسطة العقل البشرى أيا كان صاحبه، والخارج على سلطة الكنيسة أو الناقد لقرارات مجامعها كافر مهرطق تحل عليه اللعنة والحرمان من دخول الملكوت مهما بلغت وجاهة رأيه، بل مهما كانت سوابقه وخدماته للمسيحية وللكنيسة نفسها.

أما إذا كان المتمرد على الكنيسة وسلطتها حاكماً أو شعباً، فإن الجيوش المقدسة ستسحقه بأقدامها، إرضاء للمسيح.

قلت:  أجل.. هذا ما تقوله الكنيسة مستندة في ذلك إلى ما تفهمه من الكتاب المقدس.. وما تفهمه من قول المسيح.

قالت:  وهذا الفهم هو الذي تحول إلى واقع تاريخي عاد بأسوأ النتائج على أوروبا والعالم أجمع.. بل لا نزال نصلى ناره إلى الساعة.

وأنا لا أتصور أن المسيح ذلك الرجل العظيم الممتلئ تواضعا وعبودية وأدبا يمكن أن يقول هذا.. لقد قال القرآن:﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران:79-80)

   لقد سخر الكاتب الأمريكي (جرين برنتن) من استدلال الكنيسة بتلك الفقرات وأرجع السبب في وقوع الكنيسة في هذا الخطأ إلى التشابه الشكلي بين لفظي (بطرس) و(صخرة)[8]

بالإضافة إلى ذلك.. فإنا لو راجعنا إنجيل متى الذي أورد هذا الافتراء لوجدنا المسيح بعد ثلاث فقرات من هذا القول يخاطب بطرس قائلاً:« اذهب عنى يا شيطان، لأنك لا تهتم بما الله لكن بما للناس » … فكيف يتسق هذا الوصف وهذه التهمة مع الهبة السابقة والتكريم الذي لا حد له؟ 

الفساد المالي:

قلت:  فهمت هذا ووعيته.. ولكنا لا نستطيع أن نحكم على رجال الدين من غير نظر إلى سلوكهم..

قالت:  إن الجرائم التي ارتكبها رجال الدين باسم بطرس والمسيح والكنيسة لا عداد لها.. ولذلك سأكتفي بأن أسردها لك سردا لتعلم التشويه الخطير الذي لحق بذور البشرية ومزرعة البشرية إبان حكم أولئك الفلاحين من رجال الكنيسة.

أولها مساندة الكنيسة للظلم السياسى والاقتصادى والاجتماعى المتمثل فى الإقطاع الذي عانت منه أوروبا معاناة عظيمة..

فقد أصبحت الكنيسة ـ بفضل الهبات والإتاوات والعشور والهدايا والغصب والنهب والتدليس وغير ذلك من الوسائل ـ من ذوات الإقطاع.. بل كانت أملاكها فى بعض الأوقات تفوق أملاك الأباطرة وأمراء الإقطاع.

ومن ثم فقد تحدد موقفها من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فوقفت فى صف الظلم تسانده وتذود عنه وتحارب حركات الإصلاح.. وكانت فى ذلك منطقية مع وضعها باعتبارها من كبار الملاك.. فهل كان يمكن – عقلا – أن تحارب الإقطاع وهى جزء منه، بل من أكبر ممثليه!؟  

نظرت إلى مزرعتها.. وابتسمت، وراحت تقرأ:« من أراد الملكوت فخبز الشعير والنوم فى المزابل مع الكلاب كثير عليه ».. « مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله »( مرقص 10: 22 ومتى 19: 25.. « لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم ولا مزوداً للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصاً » (متى 10: 10-11، ومثله لوقا 9: 4-10 )

قلت:  هذه هي الفضائل المسيحية.. فكيف تزعمين أن الكنيسة كانت بعيدة عنها؟

قالت:  هذا هو الأفيون الذي كان يطعم به رجال الكنيسة بذور الرعية لتظل في نومها وسباتها لا تثمر ثمرا، ولا تنتج إنتاجا.. أما رجال الكنيسة أنفسهم فقد كانوا في عالم آخر..

يقول (كرسون) فى كتاب (المشكلة الأخلاقية) كانت الفضائل المسيحية كالفقر والتواضع والقناعة والصوم والورع والرحمة، كل ذلك كان خيرا للمؤمنين وللقسيسين وللقديسين وللخطب والمواعظ. إما أساقفة البلاط والشخصيات الكهنوتية الكبيرة فقد كان لهم شئ آخر: البذخ والأحاديث المتأنقة مع النساء والشهرة فى المجالس الخاصة والعجلات والخدم والأرباح الجسيمة والموارد والمناصب »[9]

ويقول (ول ديورانت) أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضى وأكبر السادة الإقطاعيين فى أوروبا، فقد كان دير (فلدا) مثلا يمتلك خمسة عشر ألف قصر صغير، وكان دير (سانت جول) يملك ألفين من رقيق الأرض، وكان (ألكوين فيتور) ـ وهو أحد رجال الدين ـ سدا لعشرين ألفا من أرقاء الأرض، وكان الملك هو الذى يعين رؤساء الأساقفة والأديرة، وكانوا يقسمون يمين الولاء كغيرهم من الملاك الإقطاعيين، ويلقبون بالدوق والكونت وغيرها من الألقاب الإقطاعية.. وهكذا أصبحت الكنيسة جزءا من النظام الإقطاعى..

وكانت أملاكها الزمنية، أى المادية، وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية مما يجلل بالعار كل مسيحى متمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين، ومصدرا للجدل والعنف بين الأباطرة والبابوات »[10]  

وكانت مصادر تلك الأملاك متعددة، فمنها الأوقاف، ومنها العشور، ومنها الهبات ومنها الضرائب، ومنها السخرة.

فأما الأوقاف فقد كانت الكنيسة تستولى على أراض زراعية واسعة وتوقفها على نفسها لتنفق منها على الأديرة والكنائس وتجهيز الجيوش للحروب الصليبية أو الحروب التأديبية التى تقوم بها ضد الملوك والأباطرة الخارجين على سلطانها.. وفى ذلك يقول ويكلف، وهو من أوائل الذين ثاروا على الفساد الكنسى وطالبوا بالإصلاح الشامل:« إن الكنيسة تملك ثلث أراضى إنجلترا، وتأخذ الضرائب الباهظة من الباقى »[11]  

لم تكتف الكنيسة بذلك.. بل فرضت على اتباعها أن يدفعوا إليها عشر أموالهم ضريبة سنوية لا يملكون التملص منها تحت وطأة التهديد بالحرمان وغضب الرب.

يقول ويلز:« كانت الكنيسة تجبى الضرائب، ولم يكن لها ممتلكات فسيحة ولا دخل عظيم من الرسوم فحسب، بل فرضت ضريبة العشور على رعاياها، وهى لم تدع إلى هذا الأمر بوصفه عملا من أعمال الإحسان والبر، بل طالبت به كحق »[12]  

ولم تكتف الكنيسة بذلك.. بل راح البابا يوحنا الثانى والعشرون يفرض ـ بالإضافة إلى ذلك ـ ضريبة جديدة سميت (ضريبة السنة الأولى)، وهى دخل السنة الأولى لأية وظيفة من الوظائف الدينية أو الإقطاعية يدفع إلى الكنيسة بطريق الإجبار.

أما الهبات، فهى هبات فى ظاهر الأمر فقط، ولكنها ـ في الحقيقة ـ تؤخذ بالإحراج والتوريط، والترغيب والترهيب، وخاصة الهبات التى تمنح للكنيسة فى الوصايا التى يكتبها الناس قبل موتهم.. فقد فرضت الكنيسة على الناس ألا يكتبوا وصاياهم إلا على يد القسيس.. وما دام القسيس حاضرا وقت كتابة الوصية فقد أصبح الواجب ـ من باب المجاملة على الأقل _ أن يهب الوصى شيئا من ماله للكنيسة حتى لا يكون مجافيا للذوق، أو حتى يتحاشى ما هو أخطر من ذلك: غضب الأرباب المؤدى إلى غضب رب الأرباب.

أما السخرة فقد كانت الكنيسة تفرضها على رعاياها بالعمل يوما واحدا فى الأسبوع بالمجان فى أراضى الكنيسة الواسعة، فيعمل التعساء ستة أيام فى الأسبوع ليجدوا خبز الكفاف لهم ولأسرهم، ثم يعملون اليوم السابع ـ يوم الراحة ـ سخرة فى أراضى الكنيسة لكى توفر الأخيرة أجور العمال التى كان المفروض أن تدفعها لقاء زراعة إقطاعياتها الواسعة وجنى حاصلاتها وتزداد بذلك اكتنازا وضراوة فى طلب المزيد من المال.

لقد كان من السهل على الكنيسة أن تمارس ذلك الطغيان المالى وهى تملك ذلك النفوذ الطاغى على أرواح الناس وعقولهم، فما هى إلا أن تصدر الأمر، فيطيع العبيد صاغرين.

صكوك الغفران:

قلت: عرفت هذا النوع من الطغيان.. فهل هناك غيره؟

قالت: لقد جرهم هذا النوع من الطغيان إلى أنواع أخرى لا تقل شأنا عن هذا النوع.

لقد اغترت الكنيسة بتلك القلوب الطيبة من العامة البسطاء الذين يسلمون لها بكل ما تقوله، ويسلمون لها كل ما تطلبه، فراحت تستعبدهم بطريقة أخرى.. لا شك أنك تعرفها.

قلت:  ما الذي تقصدين؟

قالت: صكوك الغفران.. لا شك أنك سمعت بها.

قلت: أجل.. ولكنه لم يعد لها الوجود الآن..

قالت: تلك قصة أخرى.. ولنبدأ القصة من أولها.. ألسنا نريد أن نعرف نوع النظام الذي تبنته الكنيسة في حكمها.

قلت:  أجل..

قالت:  فلا مناص لنا إذن من التعرف على مفردات برنامجها الذي حكمت به لنقيمه وفق المنطق والعقل والواقع [13].

لقد صارت الكنيسة توزع الجنة، وتعرضها للبيع في مزاد علني، وتكتب وثائق للمشترين تتعهد فيها بأن تضمن للمشترى غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر وبراءته من كل جرم وخطيئة سابقة ولاحقة ونجاته من عذاب المطهر، فإذا ما تسلم المشترى صك غفرانه ودسه في محفظته فقد أبيح له كل محظور وحل له كل حرام.. فلا حرج عليه لو سرق أوقتل.. بل لو جدف وألحد وكفر ما دم الصك رهن يده.. أليس المسيح هو الذي منحه إياه، والمسيح هو الذي يدين ويحاسب؟

فإذ اطمأن المشترى إلى هذه النتيجة فقد بقى لديه ما ينغص الفرحة ويكدر الغبطة ذلك أن والديه وأقرباءه قد ماتوا وليس معهم صكوك.

لكن الكنيسة الأم ( الرؤوم لكل المسيحيين ) شملت الكل برحمتها، فأباحت له أن يشترى لمن أحب ( صك غفران ) وما عليه بعد دفع الثمن إلا كتابة اسم المغفور له في الخانة المخصصة، فيغادر المطهر فوراً ويستقر في ظلال النعيم مع المسيح والقديسين.

أما الشقي النكد عديم الحظ فهو ذلك القن الذي لم يستطع أن يحصل من سيده الإقطاعي (المغفور له) على ما يشترى به صكاً من قداسة البابا أو المريض المقعد الذي لا يجد عملاً يخول له الحصول على المغفرة، أو الفقير المعدم الذي يعجز عن استدانة دينارين يشترى بها جنات النعيم، هؤلاء يظلون محرومين من هذه الموهبة مهما بلغت تقواهم وعظم حبهم للمسيح وتعلقهم بالعذراء.

نظرت إلي، وقالت: أتدري ما الأساس الذي بنيت عليه هذه المهزلة؟

قلت:  أنا أعلم أن الأناجيل والرسائل خالية مما يدعمها أو يدل عليها..

قالت:  إنه مبدأ التوسط بين الله والخلق.. فقد أصبحت وظيفة رجل الدين هي التوسط بين الله وخلقه.. فعن طريقة تؤدى الصلاة ويتناول العشاء الرباني وهو الذي يقوم بالتعميد وبمراسم وطقوس الزواج والموت ويتقبل الاعترافات من المذنبين.

وفي الوقت الذي كان رجل الدين فيه يتقبل الاعتراف لم يكن ليدعي حق المغفرة من نفسه لكن المسيح ـ بزعمه ـ يغفر لمن أقر بذنبه بين يدي أحد أتباع كنيسته التي أورثها سلطانه وفرض لها السيادة على العالمين.

وكان الفرد المسيحي يستطيع ضمان الملكوت مع المسيح باعتراف واحد في العمر هو اعتراف ساعة احتضاره، إذ يتم دهن جسده بالزيت المقدس، فيتطهر من كل الأرجاس والذنوب، وكان من العقوبات الصارمة التي تتخذها الكنيسة ضد مخالفيها من الشعوب أو الأفراد حرمانهم من الاعتراف الأخير والصلاة عليهم، فلا يشك مسيحي أنهم ذهبوا إلى الجحيم بسبب ذلك.

واستمر الحال على ذلك فترات طويلة حتى كان مطلع القرن الثالث عشر الميلادي حيث كانت الكنيسة تجتاز مرحلة حاسمة في تاريخها، وكانت بحاجة إلى مزيد من السلطة الدينية والنفوذ المالي لمواجهة أعدائها، فقررت عقد مجمع عام لبحث الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك فعقد المجمع الثاني عشر المعروف باسم مجمع لاتيران سنة 1215م ونجح هذا المجمع في إقرار مسألتين كان لهما أثر بالغ على المسيحية في القرون التالية.

لاشك أنك تعرفهما..

أما أولهما هو ( العشاء الرباني ).. وهو لا يزال حيا بيننا[14].

وأما الثاني.. فهو امتلاك الكنيسة حق الغفران للمذنبين.. وقد أصدروا لتقرير ذلك القرار التالي:« إن يسوع المسيح لما كان قد قلد الكنيسة سلطان منح الغفرانات، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلا منذ الأيام الأولى قد أعلم المجمع المقدس وأمر بأن تحفظ للكنيسة في الكنيسة هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي والمثبتة بسلطان المجامع، ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون أن الغفرانات غير مفيدة أو ينكرون على الكنيسة سلطان منحها غير أنه قد رغب في أن يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراز حسب العادة المحفوظة قديماً والمثبتة في الكنيسة لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بإفراط التساهل»[15]  

بهذا القرار فرض المجمع على كل المسيحيين أن يعترفوا أمام قسيس الأبرشية مرة كل عام لكي يستطيعوا الحصول على الغفران، وتنفيذاً لذلك أخذ الناس يتوافدون على الأبرشيات طلباً للمغفرة ويقدمون للقساوسة الهدايا والصدقات، فارتفع مركز الكنيسة معنويا ومادياً[16].

وبعد فترة من الزمن أخذ هذا التوافد في الفتور وتقاعس كثيرون عن الاعتراف، وفي الوقت نفسه ازداد إلحاح الكنيسة على تثبيت مركزها وتعبئة خزائنها، فقررت اتخاذ وسيلة ناجحة لضمان استمرار ذلك فهداها تفكيرها إلى كتابة الغفرانات في صكوك تباع على الملأ وتنص على غفران أبدى بحيث تكون حافزاً قوياً على دفع المبلغ المالي الذي تقرره الكنيسة أو القيام بالخدمات التي ترغب تنفيذها.

اسمع نص هذا الصك ( ربنا يسوع يرحمك يا …(يكتب اسم الذي سيغفر له) ويشملك باستحقاقات آلامه الكلية القدسية، وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أستحلك من جميع القصاصات والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها، وأيضاً من جميع الافراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة ومن كل علة وإن كانت محفوظة لأبينا الأقدس الباب والكرسي الرسولى، وامحوا جميع أقذار الذنب وكل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر وأدرك حديثاً إلى الشركة في أسرار الكنيسة وأقرنك في شركة القديسين، أردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك حتى أنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدى إلى فردوس الفرح، وإن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة حتى تأتى ساعتك الأخيرة، باسم  الأب والابن والروح القدس)[17]

التفتت إلي، وقالت: أتدري الظروف التي ألجأت الكنيسة لمثل هذه التصرفات؟

قلت:  لا..

قالت:  لقد كانت الكنيسة تواجه في هذه المرحلة ألد وأخطر أعدائها.. أولئك المسلمين الطيبين.. فقد كانت الحروب الصليبية قد استعر إوراها، وبدأت تلوح علامات الهزيمة للصليبيين، وبلغ ضعف الحماس الديني في نفوس الأوربيين مبلغاً كبيراً، وفقد المقاتلون ثقتهم في الكنيسة نتيجة لخيبة أملهم في النصر الذي وعدتهم وعداً قاطعاً، ولم يروا للمسيح والملائكة والقديسيين أثر في معاركهم، بل على العكس تخيلوا أنهم يقفون ضدهم تماماً، وبذلك اهتز موقف الكنيسة وأيقنت أن وعودها المعسولة بالنصر، وقراراتها الشفوية بالمغفرة للمشتركين في الحرب لم تعد تؤدى مفعولاً مؤثراً، فقررت الكنيسة تجسيد هذه الأماني في وثيقة خطية محسوسة يحملها المقاتل، ويندفع للاشتراك في الحملة الصليبية وهو على ثقة وعزم.

وتنفيذاً لذلك برز إلى الوجود مهزلة (صكوك الغفران) وكانت ـ كما يقول ول ديورانت ـ توزع على المشتركين في الحروب الصليبية ضد المسلمين[18].

وبهذا.. فإن هذه الصكوك لم يكن ينالها إلا احد رجلين:

صاحب مال.. يشترى الصك من الكنيسة حسب التسعيرة التي تحددها.

وصاحب سيف.. يبذل دمه في سبيل نصرة الكنيسة والدفاع عنها وحراسة مبادئها.

أما ما عدا هذين.. فيظل محروما لا يملك ثمن الصك.. ولذلك يظل المسكين أسير صراع نفسي مرير وشعور بالحرمان قاتل.

وهكذا فالكل مضحون، والكل خاسرون، والكنيسة هي الرابح الوحيد من هذه الصكوك..

التفتت إلي، وقالت: أتدري ما نهاية هذه الصكوك التي تشكل مفردة مهمة من مفردات برنامج الكنيسة السياسي؟

قلت:  ما نهايتها؟

قالت:  لقد كانت هذه البدعة ـ أول أمرها ـ من أسباب قوة الكنيسة ودعائم شموخها:

فمن ناحية المكانة الدينية ارتفعت منزلة رجال الدين في نظر السذج والجهلة بعد أن منحهم المسيح هذه الموهبة العظيمة، وخيل إليهم أنه ما دام أعطاهم حق المغفرة للناس فبديهي أنه غفر لهم، بل قدسهم ووهبهم من روحه كما يدعون، وبذلك تجب طاعتهم والتزلف إليهم وتملقهم على من أراد التقرب إلى المسيح والحصول على رضاه، وإذ قد آمن الناس – ملوكاً وصعاليك – بحق الغفران، فقد سهل عليهم أن يؤمنوا بمقابلة (حق الحرمان)، ولم يزدادوا طمعاً في ذاك إلا وازدادوا رهبة لهذا.

ومن الوجهة المادية أثرت الكنيسة من عملية بيع الصكوك ثراء فاحشاً حتى أصبحت بحق أغنى طبقات المجتمع الأوروبي آنذاك بما تكدس في خزائنها من أموال وتدفق عليها من عطايا وهبات.

ومن الوجهة السياسية قويت الكنيسة وتدعمت سلطتها بالجحافل البربرية التي تطوعت للقتال في سبيلها من أجل الحصول على الغفران، وبالمقابل انخفضت سلطة الملوك الذين كانوا جنودا للكنيسة بأنفسهم في الحروب الصليبية، إلا من تردد منهم أو حاول التملص من قبضتها فعوقب بالحرمان كما حدث لفريدريك الثاني[19].

كل هذه الثمار جنتها الكنيسة من جراء هذه المهزلة..

ولكن الحصاد الخبيث الذي حصدته من جرائها لا يمكن وصفه..

لقد كانت تلك الصكوك مسماراً في نعش الكنيسة، وبداية لنهايتها، وكانت خسارتها بها عظيمة عظم جنايتها:

فمن الوجهة الاقتصادية تلى الإقبال الهائل على شراء الصكوك انكماش وفتور كالذي يصيب أي بدعة أو ظاهرة جديدة بعد فترة من ظهورها، فنضبت الكثير من موارد الكنيسة في حين ازدادت طمعا وشراهة.. فاضطرت إلى عرض الصكوك بطريقة مبتذلة، فكان الآباء والقساوسة يتجولون في الإقطاعيات، ويبيعونها بأسعار مخفضة، ثم زهيدة، وكلما ازداد العرض قل الطلب وتولد لدى الناس شعور داخلي بأن شراءها إضاعة للمال فيما لا فائدة فيه، أو على الأقل فيما ليس مضمون العاقبة.

وفي الوقت نفسه داهمت المسرح المالي فئة جديدة من الناس أخذت تظهر بوضوح منافسة للطبقتين البارزتين آنذاك (النبلاء) و (رجال الدين) تلك هي الطبقة البورجوازية وحصلت تحولات أخرى كانت بمثابة المؤشر لنهاية النظام الإقطاعي بجملته.

ومن ناحية المكانة الدينية لرجال الدين، فقد بدأت تلك الهالة القدسية المحيطة بهم تتبخر شيئاً فشيئاً بعد زمان من ظهور هذه المهزلة وابتداء الناس يعتقدون أنهم كانوا مخطئين في ذلك الاندفاع الأعمى والتسليم الأبله، وعمق ذلك الاعتقاد تنافس القساوسة على بيع الصكوك مقروناً بسيرتهم السيئة وفجورهم الفاضح، وعجب الناس إذ رأوا كثيراً من الأشرار والطغاة يتبوءون مقاعدهم في الملكوت ببركة الصكوك التي منحها لهم رجال الدين، فكان ذلك إيذاناً بالشك في قداسة رجال الدين أنفسهم ومدى صلاحهم واستحقاقهم للملكوت في ذواتهم.

ومن ناحية المركز السياسي والنفوذ الدنيوي، فقد كان لصكوك الغفران وما أحاط بها من ظروف وملابسات أثره البالغ في العلاقة بين الكنيسة من جهة والملوك والأمراء والنبلاء من جهة أخرى، فقد رأوا أن قبضة الكنيسة تزداد استحكاماً مع الأيام وأنهم وشعوبهم ليسوا إلا أدوات أو صنائع رجال الدين يمنون عليهم بالعفو إن رضوا ويعاقبونهم بالحرمان إن سخطوا، كما أن الثراء الذي حصلت عليه الكنيسة جعلها تبدو منافساً قوياً لأصحاب الإقطاعيات وكبار الملاك، فكان يسيطر على الجميع شعور موحد بالعداوة لها والحقد عليها.

 لذلك لم تكد بوادر الاستنكار ضد تصرفاتها ـ لا سيما صكوك الغفران ـ تبرز للعيان حتى انتهزها الملوك والأمراء فرصة سانحة لحماية الحركات المعارضة وتأجيج سعيرها، ولولا أن بعض المصلحين الكنسيين ـ ولوثر خاصة ـ وجدوا الحماية والعطف من الأمراء والنبلاء لما نجوا من قبضة الكنيسة ونتائج قرارات حرمانها.

ومن ناحية أخرى رأى الأوربيون، حكاماً ومحكومين، الحياة الكريمة التي يعيشها الشرق الإسلامي حيث لا كهنوت ولا طغيان ولا احتكار، فهزت هذه الرؤية أنفسهم وبهرت عيونهم لدرجة أن صكوك الغفران ووعود الكنيسة بالملكوت أصبحت بالنسبة لهم هراء لا طائل تحته يبعث على الاشمئزاز والاستخفاف.

أما من الناحية الاجتماعية، فقد كانت صكوك الغفران سبباً مباشراً في انبعاث الشرارة الأولى التي اندلعت نيرانها فيما بعد، فالتهمت الأوضاع الاجتماعية وأودت بالتعاليم الكنسية والتقاليد الدينية كافة.

 وبذلك.. فقد ساعدت صكوك الغفران بصفة مباشرة على هدم التعاليم الدينية من أساسها والاستهتار بكل المعتقدات والأصول الإيمانية بجملتها وأسهمت في انتشار فكرة إنكار الآخرة والجنة والنار التي لا يقوم دين بغيرها. 

ولا زالت إلى الآن شاهداً قوياً ومستنداً قاطعاً لكل أعداء الدين في الغرب، حيث نشأ عن الكفر برجل الدين وتصرفاته كفر بالدين ذاته وما يتصل به من سلوك وخلق.

لقد كان الخيار الصعب الذي وضعه أعداء الدين أمام الإنسان الأوروبي هو إما أن يؤمن بصكوك الغفران فيحكم على نفسه تلقائياً بالجمود والغباء والرجعية المتناهية، وإما أن يكفر بها فيلزمه بالإطار الذي يحويها بكامله إطار الدين والغيبيات، لا سيما الآخرة.

الاستبداد السياسي:

نظرت إلى مزرعتها، وقالت: لم تكن تلك الثمار الخبيثة التي جنتها الكنيسة هي وحدها ما زرعت.

قلت:  فهل زرعت شيئا آخر غير هذا؟

قالت: أجل.. لقد كانت تقول:« اعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله ».. أليس كذلك؟

قلت:  بلى.. لقد قالت ذلك.. ولا زالت تقوله.

قالت:  ولكنها في الفترة التي استغلت فيها طبية الجماهير ارتدت على قيصر، وحولته عبدا لها.. لا ليحكم بالعدل الذي تقتضي شرائع العدل، وإنما ليسد الفراغ الذي يعانيه نهم الكنيسة.

قلت:  كيف حصل ذلك؟

قالت: لقد ادعت الكنيسة لنفسها سلطة دنوية (أو زمنية Temporal كما يسمونها فى التاريخ الأوروبى) نازعت بها الأباطرة والملوك وأخضعتهم لسلطانها.

فقد أصدر البابا (نقولا الأول) بيانا قال فيه:« أن ابن اله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس فى تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكاما كانوا أو محكومين»[20]

أما البابا (جريجوري السابع)، فقد أعلن أن الكنيسة، بوصفها نظاماً إلهياً، خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية، ومن حق البابا وواجبه، بصفته خليقة الله في أرضه، أن يخلع الملوك غير الصالحين وأن يؤيد أو يرفض اختيار البشر للحكام أو تنصيبهم، حسب مقتضيات الأحوال.

وقد سخر من الملوك والشعوب بقوله:« من ذا الذي يجهل أن الملوك والأمراء يرجعون بأصولهم إلى الذين لا يعرفون الله ثم يتعالون ويصطنعون العنف والغدر ويرتكبون جميع أنواع الجرائم ويطالبون بحقهم في حكم من لا يقلون عنهم – أي الشعب – جشعا وعماية وعجرفة لا تطاق »[21]  

وهي في ذلك لم تطلب سوى سلطانا شخصيا بحتا، وأرضيا بحتا، وهو أن يطأطئ الملوك والأباطرة لها الرؤوس، وأن يعلنوا أنهم خاضعون لسلطانها.

وقد مارست الكنيسة ذلك السلطان بالفعل على الحكام والمحكومين، مع وجود فترات من الصراع المتبادل، حيث يتمرد بعض الملوك والأمراء على سلطة البابا، ويشتد آخرون فى حربهم للبابوات حتى إنهم ليعزلون البابا أو ينفونه أو يسجنونه.. ولكن السلطة الغالبة كانت للكنيسة، تستمدها من سلطانها الروحى الطاغى على قلوب الناس، ومن جيوشها الكثيفة ومن أموالها التى تضارع ما يملكه الملوك وأمراء الإقطاع.

وقد روى (فيشر) قصة الصراع بين البابا هلدبراند وهنرى الرابع إمبراطور ألمانيا فيقول:« ذلك أن خلافا نشب بينهما (بين البابا والإمبراطور) حول مسألة (التعيينات) أو ما يسمى (التقليد العلمانى)، فحاول الإمبراطور أن يخلع البابا، ورد البابا بخلع الإمبراطور وحرمه وأحل اتباعه والأمراء من ولائهم له وألبهم عليه، فعقد الأمراء مجمعا قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على المغفرة لدى وصول البابا إلى ألمانيا فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فوجد الإمبراطور نفسه كالأجرب بين رعيته، ولم يكن فى وسعه أن ينتظر وصول البابا، فضرب بكبريائه عرض الحائط واستجمع شجاعته وسافر مجتازا جبال الألب والشتاء على أشده، يبتغى المثول بين يدى البابا بمرتفعات كانوسا فى تسكانيا، وظل واقفا فى الثلج فى فناء القلعة ثلاثة أيام وهو فى لباس الرهبان متدثرا بالخيش حافى القدمين عارى الرأس يحمل عكازه مظهرا كل علامات الندم وأمارات التوبة حتى تمكن من الظفر بالمغفرة والحصول على رضا البابا العظيم »[22]  

وفي بريطانيا حدثت قصة أخرى مماثلة، فقد حصل نزاع بين الملك هنري الثاني وبين (تومس بكت) رئيس أساقفة كنتربري، بسبب دستور رسمه الملك يقضى على الكثير من الحصانات التي يتمتع بها رجال الدين، ثم أن رئيس الأساقفة اغتيل فروعت المسيحية وثار تأثرها على هنري ودمغته بطابع الحرمان العام. فاعتزل الملك في حجرته ثلاثة أيام لا يذوق فيها الطعام، ثم أصدر أمره بالقبض على القتلة وأعلن للبابا براءته من الجريمة ووعد بأن يكفر بالطريقة التي يرتضيها، وألغى الدستور ورد إلى الكنيسة كل حقوقها وأملاكها، وبالرغم من ذلك لم يحصل على المغفرة حتى جاء إلى كنتوبري حاجاً نادماً ومشى الثلاثة أميال الأخيرة من الطريق على الحجارة الصوان، حافي القدمين ينزف الدم منهما، ثم استلقى على الأرض أمام قبر عدوه الميت وطلب من الرهبان أن يضربوه بالسياط وتقبل ضرباتهم وتحمل كل الإهانات في سبيل استرضاء البابا وأتباعه[23].

لقد روى التاريخ الكثير عن قصة النزاع بين الكنيسة وبين الأباطرة والملوك لأجل هذا..

وليس ثمة شك في أن النصر ظل حليف الكنيسة طيلة القرون الوسطى بسبب سلطتها الروحية البالغة وهيكلها التنظيمي الدقيق واستبدادها المطلق، ولذلك فقد كان البابوات هم الذين يتولون تتويج الملوك والأباطرة، كما كان في إمكانهم خلع الملوك وعزلهم بإرادتهم المحضة، ولم يكن باستطاعة أحد الانفلات من ذلك، ومن رفض الرضوخ فإن حكمه غير شرعي ومن حق البابوية أن تعلن الحرب الصليبية عليه وتحرم أمته.

ولعل أعظم زعيم تحدى سلطات الكنيسة واستطاع مقاومتها مدة غير يسيرة، هو الإمبراطور (فريدريك الثاني) الذي سبق ذكره.. فقد اشتد النزاع بينه وبين البابا (جريجوري التاسع) بسبب رفضه القيام بحملة صليبية على الشرق – وكانت الكنيسة تعد الملوك جنوداً طائعين لها – فحرمه البابا وشهر به في رسالة علنية عدد فيها هرطقاته وذنوبه، فكان على الإمبراطور أن يدفع التهمة عن نفسه برسالة وصفها ويلز بأنها (وثيقة ذات أهمية قصوى في التاريخ، لأنها أول بيان واضح صريح عن النزاع بين مدعيات البابا في أن يكون الحاكم المطلق على عالم المسيحية بأسرة، وبين مدعيات الحكام العلمانيين وقد كان هذا النزاع يسري على الدوام كالنار تحت الرماد ولكنه كان يضطرم هنا على صورة ويتأجج هناك على صورة أخرى. ولكن فريدريك وضع الأمر في عبارات واضحة عامة يستطيع الناس أن يتخذوها أساسا لاتحادهم بعضهم مع بعض للوقوف في وجه الكنيسة[24].

على أن فردريك كان ظاهرة فذة لم تلبث أن تختفي تحت قهر قرارات الحرمان والسطوة الكنسية الباغية، ولم يعرف التاريخ الأوروبي من يماثله إلا بعد أجيال عديدة.

لكن هذا الاستبداد كصكوك الغفران لم يدم طويلا.. فقد ظل سلطان الكنيسة يتداعى فى نهاية القرون الوسطى حتى قام الملوك يعلنون أنهم هم الحكام فى الأرض بمقتضى (الحق الالهى المقدس)، وأنه ليس للبابوات عليهم سلطان إلا السلطان الروحى وحده.

فاستبدلت أوروبا ـ فى الحقيقة ـ طغيانا بطغيان مع فارق واحد، هو أن الطغيان الجديد يبعد تدريجيا ويبعد الناس معه عن سلطان الدين، وفضلا عن ذلك فقد كان انشقاق الملوك عن سلطان البابا يتخذ شكلا قوميا متزايدا، تسانده العوامل الأخرى – السياسية والاقتصادية – التى أحاطت بأوروبا  وشجعت على ظهور القوميات، التى كان لها دور كبير فى بروز الصراعات الحادة فى أوروبا  أولا، ثم فى العالم لكله فى صورة حروب استعمارية فيما بعد.

الديمقراطية

قلت: المهم أن البذور في الأخير تمردت على مزارعي الكنيسة.

قالت:  ولكنها وقعت في أيدي مزارعين لا يقلون عنها خطرا.. راحوا يشوهون البذور لتنسجم مع أهوائهم.

قلت:  من هؤلاء الدجالون؟

قالت:  كثيرون.. وأولهم من ينعتون أنفسهم (الديمقراطيون)..

انتفضت قائلا: أتقولين هذا عن الديمقراطية.. وهي التي تقوم علي حرية الفرد في أن يعمل ما يشاء، ويملك ما يشاء.. إن شعارها الشهير هو الشعار الذي أطلقته الرأسمالية في نشأتها (دعه يعمل ما يشاء Laissez Faire ، دعه يمر من حيث يشاء laissez Passer ) [25]..

إنها الديمقراطية التي نشأ عنها الحرية السياسية وتعدد الأحزاب.. وحرية..

قاطعتني، وقالت: خفف عنك هذا.. فما هو إلا بهرج كاذب سرعان ما يبدو عواره.

قلت:  العالم كله الآن يسبح بحمد الديمقراطية.. فكيف تذمينها؟

قالت: والعالم كله الآن موقد نيران.. لقد تحولت مزرعة البشرية لأول مرة في التاريخ إلى مزرعة لإنبات النيران بين الدول.. وبين الشعوب.. وبين الأفراد..

لقد حولت الديمقراطية العالم إلى عالم ثيران تتناطح.. ولا يغلب فيها إلا أعظمها قرونا.

الرأي العام:

قلت:  ولكن الديمقراطية هي النظام الوحيد الذي يرجع للرأي العام..

ابتسمت، ونظرت إلى مزرعتها، وقالت: هل ترى لتلك الخضر التي تتربع في ذلك الحقل رأيا؟

قلت:  هي خضر.. وأنا أتحدث عن البشر؟

قالت:  لقد صنعت الديمقراطية كثيرا من القدور طبخت فيها خضر البشرية كما شاءت.. ثم أطلقت على ذلك الطبيخ اسم (رأي عام) لعلك كنت في يوم من الأيام ضحية إحدى تلك القدور.

قلت:  ما تقولين؟

قالت:  اصبر علي.. وسأبرهن لك على ما أقول.

لقد اتخذت الديمقراطية.. أو اتخذ الذين لهم مصلحة في الديمقراطية.. لأنفسهم قدورا كثيرة.. منها الصحافة والإذاعة والسينما والتليفزيون والخطبة والمحاضرة والكتاب.. وغيرها من وسائل الإعلام التي توجه الرأي العام حسبما تشتهي [26]..

سأضرب لك مثالا على قدر من تلك القدور الخطيرة.. وهي الصحافة التي كانت وما تزال من أشد وسائل التأثير.

قلت:  إن الصحافة في بلادنا حرة..

قالت:  ولكنها لا تستطيع أن تعيش بلا معونة خارجية، فهي تتكلف في أحيان كثيرة أضعاف الثمن الذي تباع به للجمهور.

قلت:  فكيف تغطي الصحافة تكاليفها، ثم تربح فوق ذلك أرباحا طائلة؟

قالت:   إنها تعتمد ـ أساسا ـ علي الإعلانات ثم علي الإعانات من أي طريق تجئ.. والإعلانات – بطبيعة الحال – في يد الشركات والمؤسسات الصناعية أي في يد الرأسمالية، ومن ثم فإنه يكفي لقتل أي صحيفة حرة تتجرأ علي المصالح الحقيقية للرأسمالية، أن تمنع عنها الإعلانات فتسقط في هاوية الإفلاس، ولا ضير في الوقت ذاته علي الرأسمالية من مناوشات سطحية في الصحف تنتقد كما تشاء دون أن تصيب الجذور.

فإذا كان الصحافة – التي تؤثر التأثير الأكبر علي الرأي العام واقعة في قبضة الرأسمالية إلي هذا الحد، فلنا أن نتوقع أن تكون الأفكار التي تصوغها وننشرها هي ما تريده الرأسمالية، أو في القليل هي ما لا يتعارض مع المصالح الحقيقة للرأسمالية.

قلت:  ولكن هناك وسائل إعلام أخرى؟

قالت:  هي مثل الصحافة، وبقية وسائل الإعلام.. فهي واقعة بصورة أو بأخري في ذات القبضة الشريرة التي توجه الأفكار وتشكل المواقف للناس.

قلت: عرفت القدر.. ولكني لم أعرف ما يطبخ فيها.

قالت:  في قدور (الرأي العام) يطبخ كل ما يريده (الرأي الخاص)

قلت:  هل تفضلت بذكر مثل عن بعض أنواع الطبيخ؟

قالت: من أهم أنواع الطبيخ في هذه النظام الذي يحركه أرباب الأموال إشعال الحروب.. 

لنفرض أن السادة أرادوا إشعال حرب في مكان ما علي سطح الأرض، وهو أمر يهم الرأسمالية من جميع الوجوه المتخيلة.. وأولها بيع السلاح الذي يدر علي صانعية أرباحا خيالية.. فكيف يهيأ (الرأي العام) لتقبل الحرب أولا، ثم التحمس لها ثانيا، ثم المطالبة بها أخيرا.

تبدأ الصحف – وكذلك وسائل الإعلام – في نشر أخبار قصيرة مثيرة تثير عند الغافلين ـ والرأي العام دائما غافل ـ نوعا من التطلع والانتباه.. ثم يزاد في طول الخبر ويؤتي بمزيد من التفاصيل.. ثم يصبح الموضوع هو الحديث اليومي في الصحافة والإذاعة والتليفزيون.. ثم يزاد في نغمة الإثارة حتي تشحن النفوس بالوقود … ثم تأخذ الصحافة في استطلاع الرأي العام الذي كانت قد وجهته سابقا.. فإذا رأت الرأي العام متحمسا تبدأ في مطالبة الحكومة بالتحرك.. ثم تبدأ الحكومة في الاعداد انطلاقا من مطالبات الرأي العام الذي طبخه أرباب الأموال.. ثم تنطلق شرارة الحرب، ويباع السلاح، ومعه المطامع الكثيرة.. وتتحقق الأهداف المطلوبة من وراء المشروع.

قلت: هذا تحليل رائع.. وهو يدل على عقل ذكي.. ولكن هل في الواقع ما يثبت هذا؟

قالت: كل الواقع يثبت هذا.. سأضرب لك مثالا.. مجرد مثال..

في الحرب العالمية الثانية التي امتدت فشملت معظم أرجاء الأرض، وقتل فيها أربعون مليونا من الشباب في ميادين القتال غير الذين قتلوا من الرجال والنساء والأطفال بعيدا عن ميادين الحرب بالقنابل المدمرة، وغير الذين قتلوا بتأثير القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا في نجازاكي وهيروشيما.. بدأت صحافة الحلفاء.. أي الديمقراطيات في غرب أوربا وفي امريكا.. تتكلم عن هتلر واستعداداته الحربية والأزمات التي يثيرها (وخاصة أزمة ممر دانزج التي اعتبرت الشرارة الأولي للحرب)، وبدأت تكتب عن النازية وعن النظم الدكتاتورية وعداوتها للحرية والديمقراطية وحقوق الانسان.. وأن علي الديمقراطيات التي تشكل (العالم الحر) أن تؤدب هذا الطاغية الذي ينذر بشر مستطير لجميع البشرية.

قلت:  فأنت نازية إذن.. يؤذيك ما قيل في هتلر!؟

قالت: لا.. لقد كان أكثر ماتقوله صحافة (العالم الحر) عن هتلر والنازية الدكتاتورية حقا، وكان هتلر بالفعل طاغيرة جبارا يريد إذلال العالم وإخضاعه لسلطانه، ويصدر عن جنون عنصري مرتكز علي أفضلية الجنس الآري وجدارته بأن يحكم العالم كله..

ولكن الذي يؤذيني أن الذي يقول ذلك لا يقل عن هتلر طغيانا.. هم كالمجرمين الذين يؤلبون على المجرمين لدواعي إجرامية..

لقد كان الحلفاء لا يختلفون على هتلر طغيانا إن لم يكونوا يفوقونه.. فقد كانوا يحكمون العالم كله يومئذ، ويذلونه باسم حضارة (الرجل الأبيض) وجدارته أن يحكم كل شعوب الأرض.

لقد كان ما تقوله صحافة الحلفاء ووسائل إعلامهم حقا بالنسبة للنازية وهتلر، أما ما كانوا يدعونه لأنفسهم من أنهم هم حماة الحرية وحماة حقوق الإنسان، فقد تبين كذبه كله عقب الحرب مباشرة حين خرج الحلفاء منتصرين من الحرب فضربوا بكل وعودهم للشعوب عرض الحائط، بل قالوا لهم في تبجح: لقد حميناكم من النازية فادفعوا ثمن الحماية.. وثمنها أن يكونوا خاضعين لهم يدورون في فلكهم ويخدمون مصالحهم.

التفتت إلي، وقالت: هذا طبيخ راح ضحيته عشرات الملايين من البشر.. ولا زلنا نعاني آثاره إلى الآن..

هناك طبيخ آخر تلى هذا.. لا يزال المسلمون المساكين يصلون ناره.

قلت:  ما هو؟

قالت:  لقد تحدثت الصحافة ومعها جميع وسائل الإعلام عن طغيان هتلر، وعن وحشيته في إبادة اليهود وتعذيبهم.. وركزت وسائل الإعلام على اليهود مع أن حوادث الإبادة التي حصلت لغيرهم لم تقل شأنا [27].. لأن الهدف من ذلك أن يشحن الرأي العام ليعطف علي قضية اليهود بعد إذ كان كارها لهم أشد الكره.. وشيئا فشيئا يتعاطف الناس مع اليهود الذي يعذبهم النازي ويحرقهم أحياء في الأفران.. وقد أتيح للصحافة ولوسائل الإعلام أن تزيد في الأفران ما تشاء حتى تؤجج العواطف وتحرك الرأي العام لضرورة إنشاء وطن قومي لليهود.. وفي فلسطين.. ليطبق على الفلسطينيين المساكين ما طبق على المسيح من التكفير عن خطايا هتلر والنازية.

ولم يكتفوا بذلك.. بل راح الإعلام يؤجج الرأي العام ضد العرب المجرمين الذين أبوا الخروج من ديارهم ليسكنها شعب الله المختار..

التفتت إلي، وقالت: هذا طبيخ قديم جديد.. راح ضحيته الملايين الكثيرة.. وراح ضحيته فوق ذلك مبادئ إنسانية أخطر وأعظم.. وحصل بسببه لبذور البشرية تشويه خطير لا نزال نعاني آثاره.

نظرت إلى مزرعتها بأسى، وقالت: سأضرب لك مثالا عن طبيخ آخر.. يخص الحياة الاجتماعية لا يقل شأنا.

لنفرض أن المطلوب هو تفكك روابط الأسرة ونشر الفساد الخلقي وتحريض المرأة ضد الرجل.. طلبا لمصالح فئة من الناس يستهويها هذا السلوك.

قد تتخذ وسائل الإعلام لأجل هذا وسائل كثيرة.. منها مثلا أن تبدأ الصحافة بمهاجة الزواج المبكر وذكر مضارة.

ومن مضاره التي تذكرها مثلا، وتؤيدها بما تشاء من إحصائيات ودراسات أن تذكر بأن كلا من الزوجين يكون قليل الخبرة بالجنس الآخر نتيجة عدم الاختلاط، ثم قليل الخبرة بالحياة لصغر السن وقلة التجربة، ثم قليل الخبرة بتربية الأولاد.. الذين يجيئون في أول عهد الزواج فتسوء تربيتهم.. لذلك يلزم تأخير سن الزواج مع إباحة الاختلاط حتي يتحقق التعارف بين الجنسين، واكتساب الخبرة اللازمة للزواج، ويتأخر مجئ الأولاد حتي تزداد الخبرة فتحسن تربيتهم.

ثم يظل الحديث عن ضرورة الاختلاط يلح علي الناس حتي يتكون (رأي عام) موافق علي الاختلاط بعد إذا كان معارضا له، ثم يظل الحديث يلح علي الناس حتي يتحمسوا له، ثم يظل الحديث يلح علي الناس حتي يبلغ لحماس للاختلاط أن يتهموا كل معارض له بالرجعية والتخلف والجمود والتأخر ويهددوه بأن عجلة التطور ستسحقه وتقضي عليه.

ثم يقال للمرأة: إن الزواج الباكر والانجاب الكثير يفسد رشاقتها.. ويقتل حيويتها.. ويمنعها من مشاركة الرجل في إدارة شئون المجتمع.

وتظل الصحافة.. ومعها سائر القدور.. تلح علي هذا الأمر حتي تخرج المرأة من فطرتها، وتنظر إلي الزواج علي أنه قيد يعوقها.. وإلى الانجاب علي أنه عدو يفسد جمالها ورشاقتها، وإلى البيت والانشغال به  علي أنه إهدار لطاقتها، بل إهدار لكرامتها.

ثم يظل تأثير الصحافة ووسائل الإعلام عليها حتي تري أن من حقها أن تستمتع  بالحياة استمتاعا حرا دون أن يفرض علي استمتاعها قيد خلقي أو اجتماعي أو من أي نوع، فمن حقها أن تؤخر الزواج حتي تشبع من الاستمتاع الحر.. ومن حقها أن تؤخر الإنجاب حتي تشبع من العمل خارج البيت، ومن الرشاقة في الحفلات وحلبات الرقص.

ويصبح ذلك كله من مقررات (الرأي العام) النسائي علي الأقل، بل النسائي والرجالي كذلك.. ( أي من مقررات العقل الجمعي )، ويصبح المعارض لذلك هو المجنون الأبله، وهو المتحجر علي أوضاع عفي الزمن عليها ولا يمكن أن تعود.

وهكذا يشكل الرأي العام في مطابخ الديمقراطية في القدور التي يمسكها المفسدون في الأرض ممن يملكون المال والجاه.

الصراع والتفتيت:

قلت:  ولكن مع ذلك.. فمن مزايا هذا النظام أنه يتيح للبسطاء من الناس أن ينتخبوا من يمثلهم، ويطالب بحقوقهم.

ابتسمت، وقالت: ألم تفهم بعد من هم الناس الذين تتعامل معهم الديمقراطية.. إنها تتعامل مع الناس الذين تشكلهم بحسب أهواء المستبدين؟

إنها استبداد يخفي حرية.. وديكتاتورية تختفي في جلابيب ديمقراطية.

قلت: كيف ذلك.. وأنا أرى صناديق حرة.. ومنتخبون أحرارا..

قالت: صدقت في كون الصناديق حرة.. ولكنك لم تصدق في كون الناخبين أحرارا.

قلت:  كيف ذلك؟

قالت:  هل يتاح لأي إنسان أن يصل إلي البرلمان ويوجه الأمور كما يشاء؟

قلت:  هذا ما أفهمه من الديمقراطية؟

قلت:  وهذا من التزوير الذي تشهره الديمقراطية.. ألم تعلم أن النظم الديمقراطية الحرة عبد رقيق لأهل المال.. فلذلك تخضع المعركة الانتخابية للاغنياء من الناس؟

وأولئك الأغنياء لا ينظرون إلى المساكين على أنهم مساكين.. بل ينظر إليهم على أنهم أولئك الأعداء الحاسدون لما في يده من النعمة، الطامعون، الذين يريدون أن ينهبوه وينتقصوا أرباحه.. وينظر إليهم من جهة أخري على أنهم أولئك الطفيليون الذين لا يحسنون شيئا ويطمعون في كل شئ.. أو ينظر إليهم على أنهم الاغبياء الذين وقف بهم غباؤهم عن أن يصعدوا إلي القيم التي وصلواهم إليها.

قلت: ولكن هناك فقراء أو متوسطي يرشحون أنفسهم وينجحون في الانتخابات؟

قالت:  ولكن كيف يصلون إلى هناك؟

قلت: ينضمون إلى أحزاب تحملهم، وتحمل عنهم عبء المعركة الانتخابية.

قالت: فالأحزاب تعرضهم كواجهة إذن.. لتملي عليهم بعد ذلك ما تريد..

بالإضافة إلى ذلك.. أنت ترى والواقع يشهد أن الإنسان إذا دخل الحزب تتغير أحواله كلها ويصبح إنسانا آخر.. ويصبح محترفا في عالم السياسية، وهو وحزبه في أحد حالتين لا ثالث لهما، وفي أحد موقفين: إما أن يكون حزبه في الحكم فهو ملتزم بتأييد الحكومة في كل ما تصنع، سواء كان في دخيلة نفسه مقتنعا بما تفعل أو غير مقتنع.. وإما أن يكون حزبه في المعارضة – أي خارج الحكم – فهو ملتزم بمعارضة الحكومة القائمة في كل ما تصنع إلا أن تكون مصلحة عامة أي يستفيد منها الرأسماليون جميعا، سواء كان في دخيله نفسه مقتنعا بالمعارضة أو غير مقتنع!

وهكذا تسمع صيحات: العدل.. والقيم.. والمبادئ.. والإنسانية … من الحزب المعارض طالما هو في المعارضة، فإذا وصل إلي الحكم سلك ذات السلوك الذي كان ينتقده ويندد به من قبل.. وصار الدور علي الحزب المعارض – الذي كان في الحكم من قبل – لينتقد من الحكومة القائمة ذات الأعمال التي كان يسوغها لنفسه وهو في الحكم، ويتصايح بدعاوي الإنسانية والعدالة والقيم والمبادئ.

سأضرب لك مثلا يوضح ذلك.. أنت  تعرف بدون شك حزب العمال في بريطانيا..

قلت: أجل.. لقد ظل يحكم بريطانيا عهودا طويلة.

قالت:  لقد ظل وهو في المعارضة ينادي بضرورة زيادة أجور العمال، فلما وصل إلي الحكم رفض أن ينفذ ما كان يدعو إليه وهو في المعارضة ـ أو عجز عن تنفيذه! ـ وسلك ذات السلوك الذي كان يعيبه من قبل علي حزب المحافظين، وهو تجميد الأجور خوفا من التضخم.

قلت: ولكن هناك أحرارا يصلون إلي البرلمان، ويقولون قوله الحق، وينتقدون بجرأة، ويطالبون بحقوق أصحاب الحقوق.

قالت:  ولكن كم عدد هؤلاء؟ وما وزنهم في المجالس النيابية؟.. أنت تعلم أن القرارات تؤخذ بالأصوات.

قلت: لا ضير في ذلك.. فالأخذ بالأصوات حل عادل.

قال: هو عادل وصالح حين يكون أصحاب الأصوات من العدول، لا حين يكونون من أصحاب الأهواء، فأما حين يكونون من أصحاب الأهواء، الملتزمين بالمعارضة أو الملتزمين بالتأييد بحكم موقف الحزب الذي يتبعونه، فعندئذ تضيع أصوات القلة من الأحرار في وسط أصوات الكثرة من المزيفين.. وتنفذ مصالح الرأسمالية كلها من خلال اللعبة الهائلة، لعبة الحرية والديمقراطية والتمثيل النيابي والبرلمان إلا الفتات الذي يتساقط في الطريق، أو يسقط عمدا للتلهية، أو يسقط تحت الضغط الشديد.

أما الحرية الحقيقية التي تتيحها الديمقراطية، وكأنما أنشئت من أجلها، فهي الحرية الشخصية.. أي حرية الالحاد وحرية الفساد الخلقي.. فهنا يلتقي الجميع: المعارضون والمؤيدون والشعب والرأسماليون، والحكام والمحكومون.

التفتت إلى مزرعتها، وقالت: إن الديمقراطية الليبرالية تقيد الحرية حيق ينبغي أن توسع، وتوسعها حيث ينبغي أن تضيق.. فحين تمس مصالح الرأسمالية فلا حرية علي الإطلاق.. لعلك تذكر قصة مقتل كنيدي رئيس جمهورية الولايات المتحدة، حين قتل في عام 1963 م لأنه وقف في طريق مصلحة من مصالح الرأسمالية، ثم لعب بقضيته لعبا بحيث لا تنكشف الحقيقة ولا يوقع علي المجرمين الجزاء.

لقد كانت سياسة الرأسمالية يومئذ هي وضع العالم علي حافة الحرب من أجل تنشيط صناعة السلاح وبيعه، وهي ـ كما تعلم ـ من أربح الصناعات بالنسبة إليهم.

ولكن كنيدي كانت له نظرة أخري مختلفة، ينطلق فيها من مصلحة الولايات المتحدة التي هو رئيسها المنتخب لتحقيق مصالحها.. فقد كان رأي كنيدي أن المصلحة القومية للولايات المتحدة تقتصي تهدئه الأحوال العالمية، لكي يوجه الانفاق إلي رفاهية الشعب الأمريكي بدلا من توجيه إلي صناعة الحرب التي لا عائد منها علي الشعب.. لذلك سعي إلي مصالحة الاتحاد السوفيتي والاتفاق معه علي تهدئه الأحوال العالمية، وخطا بالفعل خطوة نحو إشاعة السلام، فمد يده إلي خروشوف الزعيم الروسي القائم بالحكم يومئذ لفتح باب المحادثات التي تؤدي إلي توطيد السلام، وخطا خرشوف من جانبه خطوة فقبل أن يدخل في محادثات السلام.

ورغم أن هذا كان تصرفا حكيما من وجهة النظر الأمريكية البحتة، فضلا عما فيه من إراحة أعصاب العالم من الخوف الدائم من نشوب الحرب، فإن الرأسمالية الأمريكية ذاتها لم توافق عليه لأنه ضد مصالحها الذاتية، لذلك أنشأت إضرابا طويلا في مصانع الصلب علي سبيل الإنذار، مع أن هذا الاضراب يضر المصالح المؤقتة للرأسمالية ولكنه يؤدي إلي كسب أكبر بالضغط علي كنيدي ليترك سياسة التهدئة التي كان يقوم بها بالاتفاق مع خروشوف، فلما لم يأبه كنيدي بالإنذار، ومضي في سياسيته، هددوه مرة ثانية بإضراب آخر في مصانع الصلب استمر مدة أطول من الأولى، ولما لم يرضخ بعد هذا الإنذار الشديد، وأصر علي السياسة التي رآها أكثر تحقيقا لصالح الشعب الأمريكي ـ فضلا عن إراحة العالم من الخوف ـ قرروا أنه لابد من التخلص منه بإجراء أشد، فقتلوه! قتلوه وهو لس فردا عاديا من أفراد الشعب، بل هو رئيس الجمهورية المنتخب برضا الشعب، والمسئول عن مصالح الشعب الأمريكي كله! قتلوه ثم لعبوا بالتحقيق، فلم يجد رئيس الجمهورية المقتول ضمانات التحقيق التي تحفظ حقه ـ وإن كان قتيلا ـ في أن يؤخذ له القصاص من قاتله! ولم تجد الديمقراطية كلها نفعا في إقامة العدل في قضية من القضايا الخطيرة في التاريخ الحديث.. ومضت القصة كلها كأنها حادث عادي لا يثير الانتباه ولا يستحق الإهتمام! وطوي التحقيق..

تلك هي الديمقراطية حين تمس المصالح المباشرة للرأسمالية.

الشيوعية

قلت: أعلم أنك من أبرز الخبراء في شؤون (الماركسية الآسيوية)، وقد صدر لك كتاب قيم في هذا سميته (القوميات والدولة السوفياتية).. أهو جزء من بحثك عن النظم التي تحول الأرض إلى مزرعة طيبة؟

قالت:  أجل..

قلت: فكيف وجدت الشيوعية التي حاول السوفيت في ذلك الحين تطبيقها؟

ابتسمت، وقالت: أولئك الأغبياء حاولوا أن يقلعوا الإنسان من جذوره.. هل تتصور أن الذي حكم العالم في ذلك الحين حفنة من الشيوعيين؟

قلت: ومن حكمه غيرهم؟

قال: حفنة من اللصوص.. راحوا للبذور يشوهونها ويحرفونها ويتلاعبون بقداستها لتنسجم مع أهوائهم.

قلت: ولكنهم كانوا ينادون بحقوق العمال والطبقات الضعيفة.

قالت: صدقت في بعض هذا.. فالشيوعية هى النظام الجاهلى الوحيد الذى فرض على الدولة كفالة كل فرد يعيش فى ظلها، ولكن ذلك لم يكن كرما إنسانيا منها، فهى تأخذ مقابل ذلك الجهد الفرد كله، وتعتبر (من لا يعمل لا يأكل) على الحقيقة لا على المجاز..

ثم إن الدولة تستذل الناس بلقمة الخبز على نحو غير مسبوق فى كل النظم التى مرت بها الجاهلية البشرية على الأقل فى التاريخ الحديث.

وربما كان من الحق أن الناس كانوا دائما فى جاهليات التاريخ مستذلين بلقمة الخبز، يبيعون مقابلها بعض كرامتهم أو كلها، وبعض إنسانيتهم أو كلها.. ولكن النظام البوليسى الصارم الذى يحكم الناس بالحديد والنار والتجسس، ويمنع الناس بالرعب و الإرهاب أن يفتحوا أفواههم بكلمة نقد واحدة ضد الدولة أو الزعيم المقدس أو المذهب أو النظام.. إنه ليفرض على الناس ـ مقابل لقمة الخبز ـ قدرا من الذل ومن ضياع الكرامة الإنسانية لا مثيل له  فى نوعه ودرجته فى كل النظم التى تزعم أنها نظم حضارية على مدار التاريخ.

بالإضافة إلى هذا تلك التفرقة الضخمة فى كل جانب من جوانب الحياة بين أن يكون الإنسان مجرد فرد فى القطيع، وبين أن يكون عضوا فى الحزب ولو فى أسفل درجاته فضلا على الدرجات العليا.

لقد قال (ميليوفان دجيلاس) نائب الرئيس (تيتو) فى كتاب (الطبقة الجديدة) إن الطبقة البيروقراطية الشيوعية الجديدة صاحبة الامتيازات الضخمة تستخدم جهاز الدولة كستار وأداة لتحقيق مآربها وأغراضها الخاصة.. وإذا ما عدنا لدراسة الملكية فإننا سنجدها ليست أكثر من حقوق الربح وحرية السيطرة، وإذا ما اتجه المرء إلى تحديد ربح الطبقة من خلال هذه الحقوق فى إطار تلك الحرية فإن الشيوعية تتجه فى النهاية إلى خلق شكل جديد من أشكال الملكية وخلق طبقة حاكمة مستثمرة جديدة »

ويقول:« إن الطغيان الشيوعى والإرهاب فى أساليب الحكم هما الضمانة لامتيازات طبقة جديدة تبرز على المسرح السياسى.. لقد سبق أن أعلن ستالين عام 1936 مع صدور الدستور الجديد للاتحاد السوفيتى أن الطبقة المستثمرة قد تم القضاء عليها نهائيا.. وفى الحقيقة لقد تم فى المعسكر الشيوعى القضاء التام على قوى الرأسمالية الوطنية التى استؤصلت تماما من الجذور. ولكن مع زوالها بدأت تبرز فى صلب المجتمع الشيوعى  طبقة جديدة لم يسبق للتاريخ أن رأى مثيلا.

ولقد أكدت هذه الطبقة أنها أكثر تسلطا فى الحكم من أى طبقة أخرى ظهرت على مسرح التاريخ، كما أثبتت فى الوقت نفسه أنها تحمل أعظم الأوهام، وأنها تكرس أعتى أساليب الظلم فى مجتمع طبقى جديد.

لقد تم تأميم المقدرات المادية إلا أنه لم يجر توزيعها على أبناء الشعب، بل أصبحت ملكا مكتسبا للطبقة الحاكمة وللأعضاء القياديين للحزب والبيروقراطيين السياسيين.

لقد حاز الأعضاء الكبار من أفراد النخبة الممتازة أفضل المساكن والبيوت كما شيدت لهم الأحياء الخاصة ومنازل الاصطياف، وحصل أمناء سر الحزب ورؤساء البوليس السرى ليس على السلطة العليا وحسب، إنما على أجمل المساكن وأفخم السيارات وسواها من مظاهر الأبهة والعظمة والامتيازات، أما بقية الأعضاء من دونهم فقد حازوا امتيازات متناسبة مع مراكزهم الحزبية.

وليس هناك أية طبقة أخرى فى التاريخ تشابه الطبقة الجديدة فى وحدة تماسكها، ووحدة الفكر والعمل فى دفاعها عن نفسها، وفى قدرتها على إحكام القبضة على كل ما هو واقع تحت سيطرتها منا لملكية الجماعية حتى السلطة الاستبدادية المطلقة[28].

قلت: ومع ذلك..

قاطعتني بغضب قائلة: ما فائدة أن تملأ البذور التي تشوهها قوتا وإداما..

قلت: لم أفهم.

قالت:  ما فائدة أن يملأ الفلاح أرضه بالسماد في الوقت الذي يسيم فيه بذوره الخسف.

قلت: لم أفهم..

قالت:  إن الشيوعية لم تكتف بنظام عادل يحكم الرعية.. بل راحت تفرض على الرعية العقائد والأخلاق..

قلت: هل حقا ما تقولين؟

قالت:  لقد رأيت الواقع بعيني..  بل عشت بعض ذلك الواقع المرير الذي كان يمر به المسلمون، وهم يقولون للشيوعيين: لا نريد خبزكم.. دعونا نموت جوعا واتركوا لنا مساجدنا.. فنحن لا نأكل من طعام الأرض.. بل نأكل من غيث السماء.

قلت: لعل ذلك سلوك حفنة من المجرمين..

قالت:  بل تلك هي الفلسفة الشيوعية..

ويستحيل أن تنفصل الشيوعية عن فلسفتها.

قلت: كيف ذلك؟

قالت:  اذهب، واقرأ المؤلفات الشيوعية لتجد الإلحاد مقرونا بالاقتصاد والسياسة.

وسر ذلك يرجع إلى أن الشيوعية تبدأ من الإلحاد.. فالشيوعية تصر على أن لها إلحادها الخاص وهو في نظرها إلحاد (إيجابي).. كما قال (غارودى) الذي تاب من الشيوعية وولى وجهه قبلة الإسلام.. لقد قال يصف الإلحاد الشيوعي أما الإلحاد الماركسي، فهو في جوهره إنسي (أي إنساني النزعة) منطلقة ليس رفضاً بل هو تأكيد، تأكيد استقلال الإنسان، أما نتيجته فهي رفض كل محاولة لحرمان الإنسان من قدرته المبدعة والمبدعة لذاتها »

ثم يقول في تفصيل ذلك:« إن ما يميز الإلحاد الماركسي البحت هو أنه على خلاف سابقيه، لم يكتف باعتبار الدين خديعة فحسب، اصطنعها المستبدون أو مجرد وهم ولده الجهل بل إن ماركس و أنجلز قد بحثا عن الحاجات الإنسانية التي تلبيها الأديان بهذه الصورة المخادعة، فوصلا ـ كما يقول ماركس ـ إلى أن الأديان هي في وقت واحد: انعكاس لشقاء فعلي واحتجاج على هذا الشقاء.. وهذه الحقيقة التاريخية ( أن الدين انعكاس لشقاء فعلي) هي التي يلخصها ماركس في تعبير مقتضب (الدين أفيون الشعوب) »[29]

وجرياً مع المادية الجدلية وتطبيقاً للتفسير الاقتصادي للتاريخ حول علاقة الفكر بالوجود ترى الشيوعية أن الفكر البشري انعكاس للواقع المادي، فالمادة هي الأساس الوحيد وعنها ينبثق الفكر وتنبثق المشاعر والأحاسيس، ومن هذه المشاعر الدين نفسه.

أي إن وجود الناس هو الذي يحدد مشاعرهم وليس العكس.

وعند تفسير الدين على هذا الأساس يقول أنجلز:« من الأزمنة الموغلة في القدم ـ إذ وصل الفكر بالناس ـ وهم بعد في جهل تام ببنياتهم الجسدية الخاصة، وتحت تأثير أحلامهم ـ إلى القول بأن أفكارهم وأحاسيسهم ليست من فعل أجسادهم ذاتها، بل من فعل روح خاصة تسكن هذا الجسد وتفارقه لحظة الموت، منذ ذلك الحين اضطروا لأن يصطنعوا لأنفسهم أفكاراً عن علاقات هذه الروح مع العالم الخارجي »

« وعلى هذا النحو تماماً – عن طريق تشخيص القوى الطبيعية – ولدت الآلهة الأولى التي اتخذت خلال التطور اللاحق شكلاً غير أرضي أكثر فأكثر، إلى أن حدث أخيراً عملية تجريد … فنشأ على نحو طبيعي خلال التطور العقلي، أن تولدت في عقل الناس من الآلهة المتعددين ذوي السلطة الضعيفة والمقيدة بعضهم حيال بعض، فكرة الإله الواحد المنفرد في الديانات التوحيدية »[30]

ومع ذلك يستنتج أنجلز أن المطالب الجسدية هي منشأ الاعتقادات الفكرية وأن الدين ما هو إلا (الانعكاس الخيالي للأشياء البشرية في دماغ الإنسان)[31]

وما دام أن الوضع الاقتصادي هو الذي يفسر ويحدد المطالب الجسدية فإن النتيجة هي أن الدين ناشئ عن الأوضاع الاقتصادية ولا ينبغي أن يفسر إلا على ذلك (أما المجالات الأيدلوجية التي تحوم أعلى في الفضاء كالدين والفلسفة.. الخ فإنها مؤلفة من بقية – تعود إلى ما قبل التاريخ، وقد وجدها العهد التاريخي أمامه فالتقطها – لما قد نسميه اليوم غباء، إن هذه التصورات المختلفة الخاطئة عن الطبيعة وعن تكون الإنسان ذاته، وعن الأرواح وعن القوى السحرية وهلم جرا ليس لها في الأغلب غير أساس اقتصادي سلبي، فالتطور الاقتصادي الضعيف لعهد ما قبل التاريخ تكون فيه … تصورا خاطئة عن الطبيعة »[32]  

إذن فالاقتصاد – أو البحث عن الطعام والشراب – هو منبع كل عقيدة وتصور وأساس كل مبدأ وقيمة، بل إن الشيوعية لتطبق ذلك على كل معنى وسلوك إنساني: على العلم والحرب … على المشاعر والفنون … على العلاقات الاجتماعية … على كل شئ، فالعلم ـ مثلاً ليس أصله الرغبة الفطرية في اكتشاف الحقيقة ـ فليس في قاموس الشيوعية شئ اسمه الفطرة ولكنه كما قال أنجلز:« إذا كانت العلوم قد نهضت فجأة بعد ليل القرون الوسطى المظلم بقوة لا ريب فيها، ونمت بسرعة المعجزة، فإننا مدينون بهذه المعجزة الجديدة للإنتاج »

وعن الحروب تقول الشيوعية:« إن ما يسمى بالحروب الدينية … كانت تتضمن مصالح طبقية مادية إيجابية، فقد كانت هذه الحروب حروبا طبقية تماما … ورغم أن الصراعات الطبقية كانت عندئذ مغلفة بشعارات دينية، ورغم أن مصالح وحاجات ومطالب مختلف الطبقات كانت مختفية خلف ستار ديني فلم يبدل هذا شيئاً من الأمر، ويمكن تفسيره ببساطة من واقع ظروف تلك الأيام »[33]  

وتقول عن الأخلاق:« إن الناس عن وعي أو لا وعي يستمدون مفاهيمهم الأخلاقية – في التحليل الأخير – من العلاقات العملية التي يقوم عليها وضعهم الطبقي، أي من العلاقات الاقتصادية التي ينتجون بها ويتبادلون فيها »[34]  

وليس أغرب من هذه الأفكار إلا قول أنجلز (إن العمل هو الذي خلق الإنسان) وليس الإله كما يقول الرجعيون من البورجوازيين والإقطاعيين، وحتى لا نحسن الظن فنحمل كلامه على المجاز فقد شرح هذه العبارة شرحاً وافياً ـ نرى فيه إلى جانب الاستنباط العجيب الاستمداد الساذج من الداورينية ـ يقول:« منذ مئات عدة من ألوف السنين … كان يعيش في مكان ما من الدائرة الاستوائية … عرق من القردة الشبيهة بالبشر بلغت تطوراً رفيعاً بوجه خاص، وقد أعطانا داروين وصفاً تقريباً لهذه القردة التي قد تكون أسلافنا.

وقد أخذت هذه القردة – متأثرة بالدرجة الأولى دون شك بنمط – معيشتها الذي يتطلب أن تنجز الأيدي من أجل التسلق غير وظائف الأرجل – أخذت تفقد عادة الاستعانة بأيديها من أجل السير على الأرض واتخذت أكثر فأكثر مشية عمودية، وهكذا تم اجتياز الخطوة الحاسمة لانتقال القرد إلى إنسان »[35]  

وإذا كان الاقتصاد بهذه المثابة فلماذا اعتقد الناس أن شيئاً آخر غيره هو الذي يسير التاريخ وينشئ الأفكار؟ وكيف غابت هذه الحقيقة عنهم حتى أظهرها فلاسفة الشيوعية؟ يجيب الشيوعيون عن ذلك بسهولة قائلين: لا غرابة في ذلك فإن الإنسان أصله قرد وظل يجهل هذه الحقيقة ظاناً أن العناية الإلهية هي التي خلقته حتى عرف ذلك أخيراً.

ويعبر أنجلز عن ذلك قائلا:« ينسى الناس أن الظروف الاقتصادية لحياتهم هي منشأ الحقوق التي لديهم، مثلما أنهم نسوا أنهم قد نسلوا من عالم الحيوان »[36]  

وانطلاقاً من تأليه الاقتصاد على هذا النحو وانطلاقاً من اعتبار تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام، ومن الانتكاس بالإنسان وجعل معدته هي العليا وروحه وعقله السفلي جاء في التفسير الاقتصادي للتاريخ.

وهو تفسير يقوم على مبادئ خطيرة فيها هلاك الإنسان ودماره.. وأخطر ما يقوم عليه حتمية الصراع بين المتناقضات، وذلك يعني بالنسبة للمجتمع البشري الصراع بين الطبقات، وبين المصالح المادية المتعارضة، وهو صراع حام لا يهدأ على الإطلاق، وسببه الوحيد (البحث عن الطعام) و(امتلاك وسائل الإنتاج)

2 ـ نظام الإسلام

قلت: يكفيني ما ذكرته من نماذج عن نظم البشر، فحدثيني عن نظام الإسلام الذي أبديت إعجابك الشديد به.

قالت:  أنا لم أبد إعجابا ناشئا عن مجاملات شخصية.. بل كان نتيجة بحث طويل في هذه المزرعة.. في بطون الفلسفات والتواريخ.

قلت: ما علاقة مزرعتك بهذا البحث؟

قالت:  لقد رأيت في علاقاتي الطويلة مع البذور الزراعية أن هناك بذورا تمتلك قوة عجيبة على الحفاظ على شخصيتها وقوتها.. فهي تنبت في كل محل.. وتواجه كل إعصار.. وتقاوم كل الأمراض والطفيليات.. وهي مع ذلك كله تعطي ثمارا يانعة طيبة تتوقف عليها حياة البشر والكائنات.

قلت: أهذه البذور لا تحتاج إلى فلاحين!؟

قالت:  هي تحتاج إليهم.. ولكنها قد تعيش من دونهم بنفس قوتها وصلابتها.

قلت: دعيني من هذه البذور.. واعبري بنا إلى بذور البشر.

الفرد:

قالت: لقد بحثت عن النظم التي حولت البشر إلى هذا النوع  المستعصي من البذور، فلم أجد إلا نظام الإسلام.

قلت: لم أفهم ما تقصدين.

قالت:  لقد علم محمد أو المصدر الذي تلقى منه محمد أن نظام البشر لو وكل إلى طائفة من الناس.. فإن هذه الطائفة سوف تستهويها الكراسي والعروش، فتنحرف ببذور البشر عن الفطرة التي فطروا عليها.

قلت: فماذا فعل؟

قال: بعث من التعاليم السامية والأدوية النافعة ما يجعل من كل فرد دولة قائمة بذاتها بجميع أجهزتها..

لقد أشار محمد إلى هذه النتيجة العظيمة، فقال:«:« المؤمنون تتكافا دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم »[37]  

قلت: لم أفهم هذا.. هل يمكن هناك أن يكون هناك نظام في الدنيا يقوم على الفرد.

قالت: كل الأنظمة تتلاعب بالأفراد لتجعلهم محلا صالحا لإملاءاتها.. لقد ذكر القرآن هذا، فقال:﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (الزخرف:54)

لقد علل القرآن ذلك الهوان الذي أصاب المصريين المستضعفين على يد الفراعنة المستكبرين بالفسق والانحراف الذي جعل فرعون يستخف بهم.

ليس فرعون وحده هو الذي مارس هذا الأسلوب..

كل الفراعنة.. وكل المستبدين في التاريخ.. راحوا يخاطبون الرغبة والرهبة في قلوب الرعية ليملوا لها بعد ذلك ما يشاءون.

لقد رأينا النظام الديمقراطي كيف ينشر حرية الانحراف.. ليحول من الرعية حميرا يركبهم سادتهم من الرأسماليين.

ورأينا مثله النظام الشيوعي الذي لا يعترف إلا بالقيم المادية.. ليحول من الأفراد عجينة لينة يتلاعب بها الحزب ورفقاء الحزب كما يشتهون.

قلت: والإسلام..!؟

قالت: الإسلام جعل للفرد ـ بفضل منظومة كاملة من التشريعات والتوجيهات ـ حصونا منيعة يستحيل على أي حاكم في الدنيا أن يخرقها.

لقد لاحظت بنفسي في الاتحاد السوفيتي كيف يرمي المسيحيون مسيحيتهم غير مبالين بها.. بينما يتشبث المسلمون بإسلامهم.. ولا يتنازلون عنه مهما كان.

قلت: أعرف صمود الإسلام.. ولكني أبحث عن النظام.. والنظام لابد له من منظم.

قالت: لقد وضع الإسلام ـ بنصوصه المقدسة ـ جميع النظم العادلة وجميع الحرس القائمين عليها في نفوس المؤمنين.. فاستغنى المؤمنين بإيمانهم عن سياسة الساسة.

قلت: كيف ذلك؟

قالت:  سأذكر لك بعض ما يبرهن لك على ذلك [38].

أصدر عمر بن الخطاب ـ وهو الخليفة الثاني من خلفاء المسلمين ـ قانوناً يمنع غش اللبن بخلط بالماء.. ولكن هل تستطيع عين القانون أن ترى كل مخالف؟ وهل تستطيع يده أن تقبض على كل غاش!

قلت: القانون أعجز من أن يستطيع أن يفعل هذا..

قالت:  ولكن الإيمان الذي تمتلئ به قلوب الرعية هو الذي يستطيع أن يطبق هذا بالقوانين وبغير القوانين..

في ذلك الحين مر عمر بامرأة تريد أن تخلط اللبن طمعاً في زيادة الربح، والبنت تذكرها بمنع أمير المؤمنين، فترد الأم: أين نحن من أمير المؤمنين؟! إنه لا يرانا.. ولكن البنت المؤمنة ترد قائلة: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فرب أمير المؤمنين يرانا.

لقد ملأ الإسلام قلوب الأفراد شعورا بأن الله هو الملك وهو الحاكم الأعلى.. ولذلك فإن طاعة المؤمنين تتوجه له سواء عدل الحكام أو انحرفوا.

روى الطبري أنه لما هبط المسلمون (المدائن) وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحق معه. فدفعه إلى صاحب الأقباض فقال الذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه.. فقالوا له: أخذت شيئاً؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به..فعرفوا أن للرجل شأناً فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه.. فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه.. فسأل عنه فإذا هو (عامر بن عبد قيس).

وقد نقل إلى عمر كثير من الغنائم التي يخف حملها ويغلو ثمنها، أداها بأنفسهم جنود مخلصون لوجه الله لا يريدون جزاءاً ولا شكوراً، فقال في إعجاب وتقدير: إن قوماً أدوا هذا لأمناء!

وقال عبد الله بن دينار: خرجت مع عمر بن الخطاب إلى مكة فعرسنا في بعض الطريق فانحدر بنا راع من الجبل، فقال له: يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم، فقال: إني مملوك، فقال ـ اختباراً له ـ: قل لسيدك أكلها الذئب، فقال الراعي: فأين الله؟

فبكى عمر ثم غدا مع المملوك، فاشتراه من مولاه، وأعتقه وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقك في الآخرة.

هذا الإيمان هو الذي ربى العدالة في قلوب حكام المسلمين الذين ملأتهم مهابة الله والخوف منه.. لا مهابة البرلمان أو الشعب..

سمع أنس عمر.. وقد دخل حائطاً.. وهو يقول لنفسه:« عمر بن الخطاب أمير المؤمنين!! بخ بخ!! والله لتتقين الله ابن الخطاب، أو ليعذبنك!! »

وهذا الإيمان هو الذي جعله في عام المجاعة المعروف بعام الرمادة لا يأكل إلا الخبز والزيت حتى أسود جلده، فيكلمه بعض الصحابة في ذلك، فيقول: بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع!

ورأى يوماً فتاة صغيرة تتمايل من الجوع. فقال: من هذه؟ فقال ابنه عبد الله: هذه ابنتي. قال: فما بالها؟. قال: إنك تحبس عنا ما في يدك فيصيبنا ما ترى. فقال: يا عبد الله، بيني وبينكم كتاب الله، والله ما أعطيكم إلا ما فرض الله لكم. أتريدون مني أن أعطيكم ما ليس لكم فأعود خائنا؟!

قال ابن كثير يصفه بعد أن ذكر أعماله الجليلة وفتوحاته العظيمة:« وكان متواضعاً في الله، خشن العيش خشن المطعم، شديداً في ذات الله، يرقع الثوب بالأديم ويحمل القربة على كتفيه، مع عظم هيبته، ويركب الحمار عرياً، والبعير مخطوماً بالليف، وكان قليل الضحك لا يمازح أحداً، وكان نقش في خاتمة، (كفى بالموت واعظاً يا عمر)

وهذا الخليفة العادل علي بن أبي طالب يقول له جعد بن هبيرة: يا أمير المؤمنين، يأتيك الرجلان، أنت أحب إلى أحدهما من أهله وماله، والآخر لو يستطيع أن يذبحك لذبحك فتقضي لهذا على هذا!

قال: فلهزه علي وقال: إن هذا شيء لو كان لي لفعلت، ولكن إنما ذاك شيء لله.

ويحدثنا الشعبي أن علياً ضاعت منه درع فوجدها عند نصراني. فأقبل به إلى القاضي «شريح» يخاصمه، وقال علي: هذه الدرع درعي ولم أبع ولم أهب.

فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين.

فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب! فالتفت شريح إلى على وقال: يا أمير المؤمنين، ألك بينة؟

فابتسم علي وقال: أصاب شريح، ما لي بينة.

فقضى بالدرع للنصراني، فأخذها ومس خطوات ثم رجع، فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقتضي فيقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، سقطت منك وأنت منطلق إلى صفين.

قال: أما إذ أسلمت فهي لك.

كان الإيمان هو الذي يحكم الخليفة والقاضي، فلم يحاول الخليفة المؤمن أن يتخذ القوة لأخذ حقه أو يؤثر على القاضي ليحكم في صالحه، ولم يحاول القاضي المؤمن أن يطوع النصوص إرضاء لأميره ـ رغم ما يعتقد من صدقه ـ فالشرع سيد على الجميع: الأمير والسوقة. والمسلم والنصراني سواء.

وكان علي يلبس القميص ـ وقد اشتراه بثلاثة دراهم ـ ويقول: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري عورتي!!

ومفتاح هذا الزهد وتلك العدالة ما قاله بعضهم: كان علي يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبياع والبقال، فيفتح عليه القرآن، ويقرأ:﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83)، ثم يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من الناس.

وهذا عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الذي يقول فيه مالك ابن دينار: يقولون: مالك زاهد!.. أي زهد عندي؟ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فاغرة فاها، فتركها جملة.

دخل على امرأته يوماً فسألها أن تقرضه درهماً يشتري به عنبا، فلم يجد عندها شيئاً.. فقالت له: أنت أمير المؤمنين وليس في خزائنك ما تشتري به عنبا؟! فقال: هذا أيسر من معالجة الأغلال والأنكال غداً في نار جهنم.

وقد اجتهد في مدة ولايته -مع قصرها- حتى رد المظالم، وصرف إلى كل ذي حق حقه، وكان مناديه ينادى في كل يوم: أين الغارمون؟ أين الراغبون في الزواج؟ أين اليتامى؟ أين المساكين؟ حتى أغنى كلاً من هؤلاء.

ومع عدله وزهده، ورده للمظالم، وشدته على نفسه وأقاربه كان يناجي ربه ليقول: اللهم إن عمر ليس أهلاً أن تناله رحمتك، ولكن رحمتك أهل أن تنال عمر.

وأثنى عليه رجل فقال له: جزاك الله عن الإسلام خيراً يا أمير المؤمنين. فقال: بل جزى الله الإسلام عني خيراً.

 قلت: أنت تتحدثين عن حكام عادلين قد نجد مثلهم في جميع الأمم؟

قالت:  أنا لا أتحدث عنهم كحكام.. ولكن كأفراد تربوا على هدي الإسلام، فامتلأوا بالقيم النبيلة..

قارن هذا بالفضائح الكثيرة التي تسمعها كل حين من القائمين على هذه النظم التي تعتبر نفسها في قمة العدل والأخلاق..

قلت: ولكن نظم المسلمين العادلة لم تستمر طويلة.. لقد حكم المسلمون فترة طويلة بالحكم العضوض.

قالت:  ومع ذلك لم يؤثر فيهم ذلك النوع من الحكم.. لقد كان ذلك الحكم قاصرا على وظائف محدودة لا تكاد تكون لها علاقة كبرى بالرعية.. فلذلك كانت حصون الإيمان التي حصن بها الإسلام الفرد المسلم حاجزا دون تأثير الحكام الظلمة.

سأضرب لك أمثلة عن النظام الذي كان يحكم المجتمع بعيدا عن السلطة..

يروي الغزالي عن محمد بن المنكدر أنه كان له شقق بعضها بخمسة دراهم، وبعضها بعشرة فباع غلامه في غيبته لأعرابي شقة من الخمسيات بعشرة فلما عاد ابن المنكدر وعرف، لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوى خمسة بعشرة.

فقال الأعرابي: يا هذا قد رضيت.

فقال: وإن رضيت. فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك، وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك.. فرد عليه خمسة، وانصرف الأعرابي.

ويروي أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان، منها ضرب قيمة كل حلة منه أربعمائة درهم، وضرب كل حلة مائتان، فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين، فاستحسنها ورضيها، فاشتراها -أي بأربعمائة- فمشى بها وهي على يديه فاستقبله يونس. فعرف حلته. فقال للأعرابي بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة. فقال: لا تساوى أكثر من مائتين فارجع حتى تردها. فقال: هذه تساوى في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها. فقال له يونس: انصرف معي فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها. ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم. وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله. وقال: أما استحييت؟ أما اتقيت الله أتربح مثل الثمن، وتترك النصح للمسلمين؟! فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها. قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك!!

ويذكر أبو الحسن الندوي كيف كانت هذه الأخلاق العالية منتشرة في المجتمعات الإسلامية إلى عهد قريب قال: حدثني بعض الثقات المعمرين الذين أدركوا عهد الأشراف في الحجاز، أن تجار مكة كانوا في ذلك العهد على جانب عظيم من المواساة لزملائهم، والنظر في مصالحهم والإخلاص والإيثار لهم، قال: كان بعض التجار إذا أتاه زبون في آخر النهار وقد باع ما يكفيه لقوت يومه وما حدده من الربح والوارد، ولم يكن زميله الجار سعيد الحظ في ذلك اليوم، قال له في لطف وهدوء:« دونك هذا الدكان الذي هو بجواري! تجد عنده ما تجده عندي، وقد لاحظت قلة الزبائن عنده هذا اليوم، فهو أحق بأن تشتري منه »

ويتحدث ليوبولد فايس ـ الذي أسلم بعد أن أقام في بلاد المسلمين مدة طويلة ـ عن مدينة إسلامية عربية كبيرة هي (دمشق) فيقول:« وقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها، إن أمنهم الباطني كان يمكن أن يرى في الطريقة التي كان أصحاب الدكاكين يعامل بها بعضهم بعضاً، أولئك التجار في الحوانيت الصغيرة، أولئك الذين لا ينون ينادون على المارة، أولئك كانوا يبدون وكأنما ليس فيهم أيما قدر من الخوف والحسد، حتى أن صاحب دكان منهم ليترك دكانه في عهدة جاره ومزاحمه، كلما دعته حاجة إلى التغيب بعض الوقت، وما أكثر ما رأيت زبوناً يقف أمام دكان غاب صاحبه عنه يتساءل فيما بينه وبين نفسه، ما إذا كان ينتظر عودة البائع، أو ينتقل إلى الدكان المجاور، فيتقدم التاجر المجاور دائماً -للتاجر المزاحم- ويسأل الزبون عن حاجته ويبيعه ما يطلب من البضاعة -لا بضاعته هو بل بضاعة جاره الغائب- ويترك له الثمن على مقعده. أين في أوروبا يستطيع المرء أن يشاهد مثل هذه الصفقة؟»[39]

المجتمع:

قلت: وعيت ما ذكرته من أهمية الفرد في جميع النظم.. ولكن الفرد كالبذرة يحتاج إلى التربة الطيبة التي تحتضنه.

قالت:  وهذا ما فعله الإسلام.. فقد ركز على بناء المجتمع بناء سليما بنفس تركيزه على الفرد.

ولهذا.. فقد أغنت التربية العظيمة التي امتلأت بها المجتمعات الإسلامية الرعية عن راعيها.. فلم يعد للنظام الحكام أي أهمية في ظل مجتمع يعيش في تكافل وتناصر وتناصح عجيب.

قلت: كيف تقول ذلك.. والدولة بنظامها السياسي هي التي تؤسس المدارس والمستشفيات وجميع المرافق العامة التي تحتاجها الرعية.

قالت:  لقد تولى المجتمع الإسلامي الذي نفخ فيه الإسلام روح التكافل كل هذه الوظائف.. فلم يعد للحاكم أي علاقة بأي حاجة من حاجات رعيته.. ولم يعد للحاكم أي قدرة على استذلال رعيته بهذه الحاجات.

قلت: إن هذا لعجيب..

قالت:  هو الواقع الذي تدل عليه كل الدلائل.. وسأضرب لك من الأمثلة ما يبرهن لك على ذلك.

لقد ملأت النصوص المقدسة التي يرتلها المسلمون كل حين حبا لبعضهم البعض، فصاروا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

أخذ عمر بن الخطاب أربعمائة دينار، فجعلها في صرة، ثم قال لغلامه: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تله (تشاغل) في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع. فذهب بها الغلام إليه.. فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفدها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره، فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل، فقال: اذهب بها إلى معاذ وتله في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: رحمه الله ووصله. تعالي يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة هي امرأة معاذ وقالت: نحن والله مساكين، فأعطنا، فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فرمى بهما إليها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره: فسر بذلك فقال: انهم اخوة بعضهم من بعض [40]!!

وروى أن عيراً قدمت لعبد الرحمن، فكان لأهل المدينة يومئذ رجة، فقالت عائشة: ما هذا؟ قيل لها: هذه عير عبد الرحمن بن عوف قدمت، فقالت عائشة: أما إني سمعت رسول الله r يقول:« كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصراط، يميل به مرة ويستقيم أخرى، حتى يفلت ولم يكده ».. فبلغ ذلك عبد الرحمن فقال: هي وما عليها صدقة، قال راوي القصة: وكان عليها أفضل منها، قال وهي يومئذ خمسمائة راحلة[41].

وروي عن ابن عمر قال: أهدى إلي رجل من أصحاب رسول الله r رأس شاة فقال: فلان أحوج إليه مني، فبعث به إليه. فبعث به هو أيضاً إلى آخر يراه أحوج منه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول، بعد أن تداوله سبعة!

عن ابن عمر قال:« لقد أتى علينا زمان -أو قال حين- وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم »[42]  

التفتت إلي، وقالت: أتدري ما السر الذي جعلهم يفعلون هذا؟

قلت: ما هو؟

قالت:  تلك التعاليم العظيمة التي امتلأت بها آيات القرآن وأحاديث محمد.. لقد جعلتهم يجودون بالغالي والنفيس في سبيل المصالح العامة.. عن أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأمصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (اسم حديقة له) وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله r يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية:﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (آل عمران:92)، قام أبو طلحة إلى رسول الله r فقال: يا رسول الله، أن الله تبارك وتعالى يقول:﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالي إلى بيرحاء، وإنها صدقة. أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله r:« بخ بخ.. ذاك مال رابح! ذاك مال رابح »[43]

قلت: إن كل ما ذكرته طيب.. ولكن حاجات المجتمع أعظم من أن تفي بها مثل هذه التصرفات التي تصدر عن فئات محدودة.

قالت: لا.. لم تكن هذه تصرفات فئات محدودة.. لقد كانت تنتشر كوعي عام في المجتمع يسد كل حاجاته، ويكفي جميع مصالحه.

سأضرب لك مثالا على شريعة من شرائع الإسلام استطاعت أن تلبي من حاجات المجتمع ما لم تستطع الدول المعاصرة بجميع أساطيلها أن تفي به.

قلت: ما هذه الشريعة؟

قالت:  الوقف..

لقد سمع المسلمون محمدا يقول:« إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم نافع، أو ولد صالح يدعو له »[44]  

فراحوا يتنافسون على أن يترك كل مسلم خلفه وقفا صالحا يكتب له أجره بعد موته.. فلذلك غطت الأوقاف الخيرية كل الحاجات الاجتماعية.

لقد نهض الوقف برسالة ضخمة في إقامة المؤسسات الخيرية، ورعايتها، وبرزت أهميته بوجه خاص، في توفر الرعاية الاجتماعية، للطبقات الضعيفة، والفقيرة، ولكل محتاج إلى العون، والرعاية،كابن السبيل، وطالب العلم، والمريض، بل اتسع نطاقه ليشمل أوجه الحياة الاجتماعية[45]، وتكاثرت الأوقاف، وتنوعت تعبيراً عن إحساس الواقفين، بأن هناك ثغرة في المجتمع لا بد أن تستر، أو منكراً يجب أن يزول، أو معروفاً مهملاً يجب أن يراعى[46].

ومن نماذج ذلك ما ذكره ابن بطوطة عن أوقاف دمشق حينما دخلها قال: «والأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها،ومصارفها لكثرتها، فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، يعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسرى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل يعطون منها ما يأكلون، ويلبسون، ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق، ورصفها، لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليها المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير»[47]

ومن أطرف أنواع الوقف التي حكاها ابن بطوطة في دمشق وقف الأواني يقول: «مررت يوماً ببعض أزقة دمشق، فرأيت به مملوكاً صغيراً قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني، وهم يسمونها الصحن، فتكسرت، واجتمع عليه الناس، فقال له بعضهم أجمع شقفها، واحملها معك لصاحب  أوقاف الأواني، فجمعها وذهب الرجل معه إليه، فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن، وهذا من أحسن الأعمال، فإن سيد الغلام لا بد له أن يضربه على كسر الصحن، أو ينهره، وهو أيضاً ينكسر قلبه، ويتغير لأجل ذلك، فكان هذا الوقف جبراً للقلوب، جزى الله خيراً من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا»[48]

ومن أنواع الوقف وقف للقرض المالي بدون فائدة، ووقف لختان الأطفال اليتامى، وأوقاف لنظافة المدينة، وأوقاف لإيناس المرضى، وأوقاف للنساء النافرات من أزواجهن، وأوقاف للمعاقين، هذا فضلاً عن المساجد، والمدارس، والمكتبات، والربط، والمستشفيات، وكان المحسنون يبنون المستشفيات، ويوقفون عليها الأوقاف، وكذا المدارس، والجامعات وأنواع الخدمات الأخرى، كالسقاية، والطرق، والمساكن، وغيرها، مما يصعب حصره[49].

الأمة:

قلت: عرفت أهمية الفرد والمجتمع في النظام الإسلامي.. ولكن المجتمعات لابد لها من نظام سياسي يحميها.. وهذا ما لم يفلح الإسلام فيه مقارنة بغيره.

قالت: وكيف عرفت أنه لم يفلح؟

قلت: لقد حكم المسلمون دول كثيرة كان النزاع بينها شديدا.

قالت: نعم.. لقد وقعت أخطاء كثيرة في هذا الباب.. ولكنها لم تكن ناتجة عن الاستمداد من الشريعة الإسلامية.. بل كان مصدرها الأهواء والعصبيات..

ولكن مع ذلك.. فإن ما حصل من ذلك لا يساوي شيئا أمام ما يحصل في هذا العصر..

قلت: كيف ذلك؟

قالت:  إن اهتمامنا المتزايد بتفاصيل التاريخ السياسي للمسلمين هو الذي جعلنا نحمل تلك النظرة القاسية.

قلت: لم أفهم ما الذي تريدين قوله.

قالت: لو جمعنا حالات الاضطراب التي مر بها الحكم السياسي في جميع التاريخ الإسلامي وقارناه بحالات الاستقرار.. لوجدنا الاضطراب حالات نادرة في أماكن محدودة في عصور محدودة..

ألا ترى أن الدولة الواحدة في عصرنا تمر في عقد واحد من السنين بجميع أنواع الحكم.. وكل حكم يحاول أن يلغي من قبله؟

قلت: هذه حقيقة.. ونحن نعيشها.

قالت:  ولكن الدول الإسلامية الكبرى التي حكمت بلاد الإسلام حكمته لقرون طويلة.. ساد فيها الاستقرار فترات طويلة.

نعم.. ربما تكون قد وقعت بعض المظالم.. ولكنها مظالم محصورة جدا.

قلت: وحاجات المجتمع.

قالت:  لقد ذكرت لك أن المجتمع الإسلامي حاول أن يستغني بتكافله التام عن تغير السياسات والحكام.. وهذا ما ضمن للمجتمع استقرارا أعظم بكثير من استقرار السياسة[50].

***

ما وصلت (هيلين كارير دانكوس) من حديثها إلى هذا الموضع حتى سقطت دموع حارة من عينيها، فقلت لها: ما يبكيك؟

قالت:  شيئان.

قلت: ما هما؟

قلت: أما أولهما.. فموقف قومنا الذين تاهوا بأنفسهم وبعقولهم وبمجالسهم الكثيرة عن الفضائل العظيمة التي جاء الإسلام بها.

فراحوا يفخرون عليه.. وهم في ذلك كالمجرم الذي يفخر على القضاة.. وكالأمي الذي يفخر على العلماء.. وكالفاسق الذي يفخر على القديسين. 

قلت: والثاني؟

قالت: على أولئك المسلمين الذين تصوروا نظام الإسلام قاصرا على كراسي الحكام.. فراحوا ينازعونهم كراسيهم، ويشوهون أنفسهم ودينهم بذلك النزاع.

قلت: ولكن.. هل يرضى مسلم بأن يحكمه فاسق؟

قالت:  التغيير ليس بذلك الأسلوب.. التغيير في الإسلام يبدأ بإقامة دولة الفرد الصالح.. فإذا صلح الفرد صلح المجتمع.. وإذا صلح المجتمع لم يملك الحاكم إلا أن يصلح أو يستقيل.

قلت: إني أعجب لك حضرة المستشرقة الفاضلة.. كيف تقفين من الإسلام كل هذه المواقف، ثم لا أراك تعلنين إسلامك!؟

نظرت إلى الأفق البعيد، ثم قالت: ذلك حلم جميل عساني أفيق بعض الأيام عليه.

قلت: لم أفهم ما تقصدين.

قالت: أتعرف رجاء جارودي؟

قلت: أجل.. وكيف لا أعرفه؟

قالت:  لقد كان أستاذا لي.. لقد عرف كل الأنظمة التي حكمت البشرية في جميع مراحلها.. وكان يبحث عن نظام يجمع بين العدالة والرحمة، فلم يجده إلا في الإسلام.. فأسلم.

قلت: سألتك عنك لا عن رجاء.

قالت:  أحيانا تجد لغيرك من الجرأة عن التعبير عنك أعظم مما تجده من نفسك.

قالت ذلك، ثم انصرفت..

انصرفت بعدها، ومعي بصيص جديد من النور اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد.

 



([1])  هي المستشرقة (هيلين كارير دانكوس) Helene Carrere d' Encansse.. باحثة فرنسية معاصرة، وهي واحدة من أبرز الخبراء في شؤون (الماركسية الآسيوية)، وقد صدر كتابها (القوميات والدولة السوفياتية) في باريس عام 1987 فأثار ضجة ما تزال مستمرة وترجم فورًا إلى عدد من اللغات الحية.

ولها شهادات كثيرة للإسلام تتعلق بنظامه الاجتماعي، وقدرته على الصمود، ومن ذلك قولها:«.. أن جميع المعلومات [السوفيتية الرسمية] تتضافر لتوحي بأن الإسلام يحتضر ببطء في الاتحاد السوفيتي، مع احتضار الجيل الذي لم ينشأ على الإيديولوجية السوفيتية. ولكن معلومات مضادة لا تلبث أن تناقض هذه الصورة، فالتحقيقات الاجتماعية المتزايدة في الاتحاد السوفيتي حول هذا الموضوع، تبين أن المجتمع الإسلامي لا يزال متعلقًا بمعتقداته، وأن ما يقارب نصف الأشخاص الذين جرى استجوابهم في الوسط الريفي صرحوا بتمسكهم بالإيمان. وعلى سبيل المثال نورد تحقيقًا أجري عام 1972 بجمهورية كاراكالبك الملحقة بأزبكستان، وقد دلّ هذا التحقيق على أن 23 بالمائة من الرجال و20 بالمائة من النساء يعلنون عن إلحادهم، فيكون 77 بالمائة من الذكور و80 بالمائة من الإناث مؤمنين.. وفي شمال القوقاس أعلن 20 بالمائة فقط من السكان عن كونهم ملحدين (عام 1974).. [هذا رغم] أن الباحثين في الأوساط الإسلامية يلحظون غالبًا تحفظًا من قبل السكان في الكشف عن حقيقة إيمانهم »

ومن أقوالها التي جعلتنا نختارها للحوار معها في هذه الفصل قولها:« هنالك خاصية ثانية للإسلام تزيد الوضع [في الاتحاد السوفيتي] تعقيدًا فهو، على نقيض المسيحية التي تفصل بين أمور الدين وأمور الدنيا، يجمع بين المجالين. فالعقيدة الإسلامية، وهي ثمرة القرآن والسنة، تفرض على المؤمنين وجود مؤسسات خاصة، مهمتها الإشراف على الحياة الاجتماعية. والدولة السوفيتية، في برنامجها التأحيدي [الذي يستهدف فرض إيدلوجية واحدة] لم يكن باستطاعتها أن توافق على وجود نظام خاص للطائفة الإسلامية، فألغت في أوائل سني استلامها السلطة، العناصر الأساسية فيه، أي النظام القانوني والمؤسسات الشرعية والأسس المالية المعتمدة. وبعد أن جعلت الديانة الإسلامية ديانة أفراد معينين لا ديانة طائفة، وبعد أن حرمت من مؤسساتها، ونزعت منها أمور الدنيا، هل بقي لها وجود منظم أم هي أضحت هيكلاً لا يلبث أن يتفتت مع غياب آخر فوج من المؤمنين؟ هنالك وقائع كثيرة وساطعة تشهد بأن التشاؤم فيما يتعلق بمستقبل الإسلام كان يمكن القبول به في الماضي القريب، ولكنه اليوم لم يعد له من أساس، بل على العكس، فهذه الوقائع توحي بأن الإسلام يبعث من جديد، وفي ظروف جديدة، وأن هذا البعث المرتكز إلى وجود واع وإرادي لا إلى وجود استمراري، تدعمه وتوجهه المراجع الإسلامية العليا »

ومن أقوالها:« نجد في صحف الجمهوريات الإسلامية عدة إشارات.. يفهم منها أن التضامن الإسلامي [في الاتحاد السوفيتي] بات في ازدياد، وأن المؤمنين أضحى لهم تأثير متصاعد على السكان غير الممارسين لدينهم » (انظر: كتابها (القوميات والدولة السوفييتية)، ص 143 فما بعدها،وانظر: قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل)

([2])  انظر: فصل (الإنسانية) من هذه الرسالة.

([3])  سنتناول التفاصيل المرتبطة بهذا والشبهات المثارة حوله في رسالة (عدالة للعالمين) من هذه السلسلة.

([4])  انظر: العلمانية، سفر الحوالى، ومذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب.. وغيرها من المراجع التي تؤرخ للعلمانية.

([5])  معالم تاريخ الإنسانية 3: 720.

([6])  رواه الترمذي، وقال:« هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث.

([7]) أشعة خاصة بنور الإسلام:23.

([8])  وذلك أن اسم بطرس هو  “peter” ولفظ “pert” يعنى صخرة.. في تاريخ أوروبا الوسطى: 1/107.

([9])  المشكلة الأخلاقية ص 167.

([10])  قصة الحضارة ج 14 ص 425.

([11])  فشر: تاريخ أوروبا  ج 2، ص 362.

([12])  معالم تاريخ الإنسانية ج 3 ص 895.

([13])  انظر في هذا المراجع السابقة.. وخصوصا العلمانية لسفر الحوالى، ومذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب.

([14]) تحدثنا عنه في فصل (صمود) من هذه الرسالة.

([15])  محاضرات في النصرانية: 194.

([16])  تاريخ العالم: 5/502.

([17])  المسيحية: 214، وانظر: محاضرات في النصرانية.

([18])  قصة الحضارة: 15/ 66.

([19])  هو الإمبراطور (فريدريك الثاني)، وهو أعظم زعيم تحدى سلطات الكنيسة واستطاع مقاومتها مدة غير يسيرة، ويرجع ذلك إلى المؤثرات الإسلامية في ثقافته وشخصيته، فقد كان مجيدا للعربية مغرما بالحضارة الإسلامية، حتى أن الكنيسة اتهمته باعتناق الإسلام وسمته (الزنديق الأعظم)، أما المفكرون المعاصرون فيسميه بعضهم (أعجوبة العالم) وبعضهم (أول المحدثين)، انظر حول سيرته كتاب الزنديق الأعظم، وفصل أعجوبة العام، ج3، ويلز.

([20])قصة الحضارة لول ديورانت ج 14 ص 352.

([21])  فيشر تاريخ أوروبا: 2/ 147.

([22])  فيشر تاريخ أوروبا  ج 1 ص 260.

([23])  انظر قصة الحضارة 15/ 194 وما بعدها.

([24])  معالم تاريخ الإنسانية: 5/ 224. وانظر كتاب الزنديق الأعظم: جوزيف جاي ديس، ترجمة أحمد نجيب هاشم.

([25])  يطلق الشيوعيين علي الديمقراطية الغربية وصف (الليبرالية)، وهم يقصدون به الذم لا المدح ويعنون به الديمقراطية التي يتمتع فيها الرأسماليون بحرية استغلال الطبقة الكادحة.

([26])  انظر: مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب.

([27])  انظر التفاصيل والأرقام المثبتة لذلك في (الموسوعة اليهودية) للمسيري.

([28])  انظر كتاب (العلمانية) لسفر عبد الرحمن الحوالى، وهو من أحسن ما كتب فى موضوع العلمانية.

([29])  ماركسية القرن العشرين: مقتطفات: 144 146.

([30])  نصوص من أنجلز: 61.

([31])  المصدر السابق: 133.

([32])  المصدر السابق: 187.

([33])  حرب الفلاحين في ألمانيا: 46.

([34])  نصوص من أنجلز: 159.

([35])  المصدر السابق: 160.

([36])  المصدر السابق: 162.

([37])  رواه أبو داود والنسائي والحاكم.

([38])  انظر هذه الأمثلة في (الإيمان والحياة)، يوسف القرضاوي.

([39])الطريق إلى مكة ص 167باختصار.

([40])  رواه الطبراني في الكبير.

([41])  رواه ابن سعد.

([42])  رواه البخاري في الأدب المفرد.

([43])  رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([44])  أحمد.

([45])         انظر محمد بن عبد الله، الوقف في الفكر الإسلامي 1/11.

([46])         انظر  د. جمال برزنجي، الوقف الإسلامي وأثره في تنمية المجتمع (نماذج معاصرة لتطبيقاته في أمريكا الشمالية) ص 140، ضمن أبحاث ندوة نحو دور تنموي للوقف في الكويت عام 1993م.

([47])         ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة ص104.

([48])         المرجع السابق ص137.

([49])         انظر ناجي معروف، أصالة الحضارة العربية ص310، 311.

([50])  هناك تفاصيل كثيرة مرتبطة بالجانب السياسي في الإسلام والشبهات المثارة حوله في رسالة (عدالة للعالمين)