الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: موانع الزواج

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

المقدمة 8

أولا ـ موانع الزواج المؤبدة 11

1 ـ مدخل إلى موانع الزواج المؤبدة 12

تعريفات: 12

1 ـ المانع: 12

2 ـ التأبيد: 13

أسباب التحريم على التأبيد وتأصيلها: 14

الحكمة من تحريم هذه الأصناف: 16

حكم الاشتباه في التحريم: 18

حكم الزواج بالمحارم المؤبدة: 19

2 ـ المحرمات من النسب.. 25

أولا ـ تعريف النسب: 25

ثانيا ـ أصناف المحرمات من النسب: 26

1 ـ أصول الرجل من النساء: 27

2 ـ فروع الرجل من النساء: 30

حكم زواج بنت الزنا بأبيها من الزنا: 31

3 ـ فروع أبويه من النساء: 41

4 ـ فروع الأجداد والجدات المنفصلات بدرجة واحدة: 42

3 ـ المحرمات بالمصاهرة 45

أولا ـ تعريف المصاهرة: 45

ثانيا ـ العلاقة  المعتبرة في حرمة المصاهرة: 45

الزواج الصحيح: 46

الزواج الفاسد: 46

العلاقة المحرمة: 47

1 ـ الزنا: 47

من القرآن الكريم: 52

الأدلة العقلية: 55

الترجيح: 57

2 ـ الشذوذ الجنسي: 61

3 ـ المباشرة المحرمة: 63

3 ـ أصناف المحرمات بالمصاهرة 69

1 ـ أصول الزوجة: 69

اشتراط الدخول بالزوجة: 70

موت الزوج قبل الدخول: 75

2 ـ فروع الزوجة التي دخل بها من النساء: 77

اعتبار كون الربيبة في الحجر: 78

الترجيح: 81

الدخول المعتبر في التحريم: 86

الترجيح: 88

3 ـ زوجات أصوله: 88

4 ـ زوجات فروعه: 90

رابعا ـ مستثنيات من المحرمات من الرضاع. 183

4 ـ المحرمات بالرضاعة 92

تعريف الرضاع: 92

أولا ـ أركان الرضاع المحرم وشروطها 93

الركن الأول: الرضيع 93

1 ـ كون الرضيع حيا: 93

2 ـ سن الرضيع: 94

رضاعة الكبير: 94

رضاعة المفطوم: 106

الركن الثاني: لبن الرضاع. 110

حكم اللبن المختلط: 110

الاعتبار الأول:كمية الاختلاط: 110

الاعتبار الثاني: اختلاط اللبن بغيره من المواد 113

اختلاط اللبن بطعام: 113

اختلاط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى: 115

حكم بنوك الحليب وتأثيرها في الحرمة: 117

صفة الرضاع المحرم: 123

مقدار الإرضاع: 127

الترجيح: 133

حكم من ينسب له اللبن [لبن الفحل]: 140

أحوال الفحل الذي ينسب إليه اللبن: 147

الميت والمطلق: 147

الزاني: 150

الملاعن: 154

تفرق الرضعات بين الفحول والنساء: 154

الركن الثالث ـ المرضع 155

1 ـ كون المرضعة امرأة: 155

2 ـ كون المرضع حية: 156

كون المرضع محتملة الولادة: 159

حكم لبن البكر: 160

ثانيا ـ ما يثبت به الرضاع. 162

الإقرار: 163

الحالة الأولى:الاتفاق على الإقرار: 163

الحالة الثانية: الاختلاف في الإقرار: 164

حكم رجوع الرجل عن الإقرار: 164

ثانيا ـ الإقرار من جانب المرأة وحدها: 167

البينة: 169

نصاب الشهادة على الرضاع: 169

حكم شهادة أمي الزوجين بالرضاعة: 174

حكم شهادة المرضعة وحدها على إرضاعها: 175

آثار التفريق بعد ثبوت الرضاع: 176

ثالثا ـ أصناف المحرمات بالرضاعة 177

 

من القرآن الكريم

قال تعالى:﴿ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)﴾ (النساء)

قال تعالى:﴿ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(221) ﴾ (البقرة)

قال تعالى:﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ (النساء: من الآية24)

 

من السنة المطهرة

قال - صلى الله عليه وسلم -:( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا المرأة على ابنة أخيها ولا ابنة أختها، إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) (البخاري ومسلم )

 

المقدمة

لقد اقتضت حكمة الله تعالى في الموازنة بين حاجات الإنسان النفسية والاجتماعية، وحفظ تنظيم حياة الرجل مع المرأة، أن لا يترك للرجل الزواج بكل من شاء من النساء، بل هناك من النساء من تقتضي المصلحة عدم الزواج بهن، لارتباطه معهن بعلاقات أخرى، أو لارتباطهن بعلاقات أخرى.

وهذا التنظيم نص عليه ـ لأهميته ـ القرآن الكريم مجموعا في موضع واحد في قوله تعالى:﴿ وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ (النساء:22 ـ 24)

ونص على جنس آخر منه، أو قريب منه في قوله تعالى:﴿ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (البقرة:221)

وانطلاقا من هذين الموضعين سنتحدث في هذا الجزء عن موانع الزواج سواء كانت على التأبيد، أو كانت مقيدة بقيود معينة تؤقت بها.

فلذلك اكتفينا في هذا الجزء بفصلين: أحدهما للموانع المؤبدة، والثاني: للموانع المؤقتة.

وقد فصلنا بينهما لاختلاف المقاصد الشرعية في كلا القسمين، ولاختلاف نوع المحرمية في كليهما أيضا، ولكثرة المسائل المتعلقة بكل فصل منهما، والتي تستدعي إفراد الكلام عنها.

ونشير هنا إلى أن معظم ما نراه من ترجيحات في هذا الجزء يقتبس من مشكاة قوله تعالى:﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾(النساء: من الآية24)، وهو اعتبار أن الأصل إباحة كل النساء للزواج بمن شاء بهن من الرجال إلا من ورد الدليل الصريح الصحيح باستثنائه.

وذلك لأن المصلحة تقتضي ذلك، فقد يتعلق قلب الرجل بامرأة، ثم يفتى له بتحريمها، مع ورود الخلاف في ذلك، وقد يكون في ذلك فتنة له، أو فتنة لها، والشرع جاء لسد أبواب الفتن لا لفتحها.

أولا ـ موانع الزواج المؤبدة

نتناول في هذا الفصل النوع الأول من أنواع الموانع، وهي الموانع التي وضعها الشرع لتحرم المرأة على التأبيد، باعتبارها أهم الموانع، وهي الأصل عند الإطلاق، وقد قسمنا الفصل إلى أربعة مباحث هي:

·      مدخل إلى موانع الزواج المؤبدة، وقد تحدثنا فيه عن الأحكام الأصلية والعارضة لهذه الموانع.

·      المحرمات بالنسب.

·      المحرمات بالمصاهرة.

·      المحرمات بالرضاعة.

 

1 ـ مدخل إلى موانع الزواج المؤبدة

تعريفات:

1 ـ المانع:

لغة: الـمَنْعُ: أَن تَـحُولَ بـين الرجل وبـين الشيء الذي يريده، وهو خلافُ الإِعْطاءِ، ويقال: هو تـحجيرُ الشيء، مَنَعَه يَمْنَعُه مَنْعاً ومَنَّعَه فامْتَنَع منه وتمنَّع. ورجل  مَنُوعٌ  ومانِعٌ ومَنَّاعٌ: ضَنِـينٌ مُـمْسِكٌ. وفـي التنزيل:﴿ مَنَّاعٍ للـخير ﴾وفـيه: ﴿وإِذا مسَّه الـخيْرُ مَنُوعاً ﴾ ومَنِـيعٌ: لا يُخْـلَصُ إِلـيه فـي قوم مُنَعاءَ، والاسم الـمَنَعةُ والـمَنْعةُ والـمِنْعةُ ورجل  مَنُوعٌ يَمْنَعُ غيره. ورجل مَنِعٌ يمنع نفسه، والـمَنِـيعُ أَيضاً الـمـمتَنعُ، والـمَنُوع الذي منع غيره[1][2].

اصطلاحا: عرفه الأصوليون والفقهاء بأنه ما يلزم من وجوده العدم , ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم[3][4].

وهو إما أن يكون مانعا للحكم، وتعريفه: بأنه وصف وجودي ظاهر منضبط مستلزم لحكمة تقتضي نقيض حكم السبب مع بقاء حكم المسبب، أو يكون المانع لسبب الحكم , والمانع هنا: وصف يخل وجوده بحكمة السبب، وسمي الأول: مانع الحكم ; لأن سببه مع بقاء حكمته لا يؤثر. والثاني: مانع السبب , لأن حكمته فقدت مع وجود صورته فقط.

2 ـ التأبيد:

لغة: الأَبَدُ: الدهر، والـجمع آباد وأُبود، وأَبَدٌ أَبـيد: كقولهم دهر دَهير، ولا أفعل ذلك أَبد الأَبـيد وأَبَد الآباد وأَبَدَ الدَّهر وأَبـيدَ الأَبـيد وأَبَدَ الأَبَدِيَّة؛ وأَبَد الأَبَدين لـيس علـى النسب لأَنه لو كان كذلك لكانوا خـلقاء أَن يقولوا الأَبديّـين؛ وفـي الـمثل: طال الأَبَدُ علـى لُبَد؛ يضرب ذلك لكل ما قَدُمَ. والأَبَدُ: الدائم والتأْبـيد: التـخـلـيد. وأَبَدَ بالـمكان  يَأْبِد، بالكسر، أُبوداً: أَقام به ولـم يَبْرَحْه. وأَبَدْتُ به أُبوداً، كذلك[5].

اصطلاحا: تقييد التصرف بالأبد , وهو الزمان الدائم بالشرع أو العقد، ويقابله التوقيت والتأجيل , فإن كلا منهما يكون إلى زمن ينتهي.

أسباب التحريم على التأبيد وتأصيلها:

للتحريم على التأبيد سببان هما:

نسب: ويراد به هنا القرابة القريبة، ويعبر عن صاحبها بذي الرحم المحرم أي صاحب قرابة يحرم الزواج به.

سبب: ويحرم بالسبب لعلتين: المصاهرة، وهي العلاقة التي تترتب على عقد الزواج وما ألحق به، والرضاع.

وقد نص على أكثر هذه المحرمات في القرآن الكريم، وذلك في الآيتين التاليتين، واللتين لخصتا بإيجاز بليغ معجز كل التفاصيل الفقهية التي ذكرها العلماء:

·  قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾(النساء:22)

·  قوله تعالى:﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(النساء:23)

وقد أشار سيد قطب إلى الحكمة من بدء آيات التحريم بصيغة التحريم مع أن هذه المحرمات كانت محرمة في عرف الجاهلية، فيما عدا حالتين اثنتين:ما نكح الآباء من النساء، والجمع بين الأختين. فقد كانتا جائزتين على كراهة من المجتمع الجاهلي بقوله:( ولكن الإسلام - وهو يحرم هذه المحارم كلها - لم يستند إلى عرف الجاهلية في تحريمها. إنما حرمها ابتداء، مستندا إلى سلطانه الخاص. والأمر في هذا ليس أمر شكليات؛ إنما هو أمر هذا الدين كله. وإدراك العقدة في هذا الأمر هو إدراك لهذا الدين كله، وللأصل الذي يقوم عليه أصل الألوهية وإخلاصها لله وحده... إن هذا الدين يقرر أن التحليل والتحريم هو من شأن الله وحده، لأنهما أخص خصائص الألوهية. فلا تحريم ولا تحليل بغير سلطان من الله. فالله - وحده - هو الذي يحل للناس ما يحل، ويحرم على الناس ما يحرم. وليس لأحد غيره أن يشرع في هذا وذاك، وليس لأحد أن يدعي هذا الحق. لأن هذا مرادف تماما لدعوى الألوهية([6]

وقد ذكرنا ما أشار إليه سيد مع كونه من بديهيات التشريع الإسلامي، والأسس التي تقوم عليها عقيدة المسلم، ردا على بعض المتعالمين الذين يزعمون لأنفسهم التنوير والثقافة، ويتصورون أن للعادات والأعراف الجاهلية دخلا في أحكام الإسلام مستندين لبعض أوجه الشبه بينهما.

الحكمة من تحريم هذه الأصناف:

عرفت المحارم في جميع الأمم، البدائية والمترقية على السواء، وقد تعددت أسباب التحريم، وطبقات المحارم عند شتى الأمم، واتسعت دائرتها في الشعوب البدائية، ثم ضاقت في الشعوب المترقية، وقد ألغى الإسلام كل أنواع القيود الأخرى، التي عرفتها المجتمعات البشرية الأخرى. كالقيود التي ترجع إلى اختلاف الأجناس البشرية وألوانها وقومياتها، والقيود التي ترجع إلى اختلاف الطبقات ومقاماتها الاجتماعية في الجنس الواحد والوطن الواحد، ومن العلل التي ذكرها العلماء لتخصيص هذه الأصناف بالتحريم[7]:

·  إن الزواج بين الأقارب يضوي الذرية، ويضعفها مع امتداد الزمن، لأن استعدادات الضعف الوراثية قد تتركز وتتأصل في الذرية. على عكس ما إذا تركت الفرصة للتلقيح الدائم بدماء أجنبية جديدة، تضاف استعداداتها الممتازة، فتجدد حيوية الأجيال واستعداداتها.

·  إن بعض الطبقات المحرمة كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وكذلك نظائرهن من الرضاعة. وأمهات النساء، وبنات الزوجات - الربائب والحجور - يراد أن تكون العلاقة بهن علاقة رعاية وعطف، واحترام وتوقير، فلا تتعرض لما قد يجد في الحياة الزوجية من خلافات تؤدي إلى الطلاق والانفصال مع رواسب هذه الانفصال - فتخدش المشاعر التي يراد لها الدوام.

·  إن بعض هذه الطبقات كالربائب في الحجور، والأخت مع الأخت، وأم الزوجة وزوجة الأب، لا يصح خدش المشاعر البنوية أو الأخوية فيها. فالأم التي تحس أن ابنتها قد تزاحمها في زوجها، والبنت والأخت كذلك، لا تستبقي عاطفتها البريئة تجاه بنتها التي تشاركها حياتها، أو أختها التي تتصل بها، أو أمها، وهي أمها، وكذلك الأب الذي يشعر أن إبنه قد يخلفه على زوجته. والابن الذي يشعر أن أباه الراحل أو المطلق غريم له، لأنه سبقه على زوجته، ومثله يقال في حلائل الأبناء الذين من الأصلاب، بالنسبة لما بين الابن والأب من علاقة لا يجوز أن تشاب.

·  إن علاقة الزواج جعلت لتوسيع نطاق الأسرة، ومدها إلى ما وراء رابطة القرابة. ومن ثم فلا ضرورة لها بين الأقارب الأقربين، الذين تضمهم آصرة القرابة القريبة. ومن ثم حرم الزواج من هؤلاء لانتفاء الحكمة فيه، ولم يبح من القريبات إلا من بعدت صلته، حتى ليكاد أن يفلت من رباط القرابة.

حكم الاشتباه في التحريم:

نص الفقهاء على أن الأصل في الأبضاع التحريم[8]، فإذا تقابل في المرأة حل وحرمة غلبت الحرمة، وقد بنوا على منع الاجتهاد فيما إذا اختلطت محرم بنسوة قرية كبيرة، فإنه ليس أصلهن الإباحة حتى يتأيد الاجتهاد باستصحابه.

ولهذا كانت موانع الزواج تمنع في الابتداء والدوام لتأيدها واعتضادها بهذا الأصل، أما لو اختلطت محرمة بنسوة غير محصورات فإن له الزواج بمن شاء منهن كي لا تتعطل مصلحة الزواج، وقد قال الخطابي:( لا يكره لأنها رخصة من الله تعالى (

حكم الزواج بالمحارم المؤبدة:

أجمع العلماء على حرمة الزواج بالمحارم، واعتبروا ذلك من أكبر الكبائر، واختلفوا في عقوبة من فعل ذلك على قولين[9]:

القول الأول: أنه زان يجب عليه الحد الشرعي، وهو قول جمهور العلماء، ولكنهم اختلفوا في الحد المقرر لهؤلاء على ثلاثة آراء:

الرأي الأول: من تزوج أمه أو ابنته أو حريمته أو زنى بواحدة منهن عالما بالتحريم , فعليه حد الزنى كاملا , ولا يلحق الولد في العقد،  وهو قول الحسن , ومالك , والشافعي , وأبي ثور , وأبي يوسف , ومحمد بن الحسن - صاحبي أبي حنيفة.

الرأي الثاني: أن يقتل فاعل ذلك محصنا كان أو غير محصن، وهو قول جابر بن زيد، وأبي الشعثاء , وأحمد بن حنبل , وإسحاق بن راهويه , ومن الأدلة على ذلك:

·  عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أباه – هو جد معاوية – إلى رجل أعرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمس ماله[10].

·  عن البراء , قال: مر بنا ناس ينطلقون قلنا: أين تريدون؟ قالوا: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل أتى امرأة أبيه أن نضرب عنقه) قال ابن حزم:( هذه آثار صحاح تجب بها الحجة([11]

·  أن رجلا أسلم وتحته أختان , فقال له علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لتفارقن إحداهما , أو لأضربن عنقك؟

الرأي الثالث: وهو التفريق بين نوع المحارم، وهو مذهب ابن حزم، وقد عبر عن ذلك بقوله: (وأما نحن، فلا يجوز أن نتعدى حدود الله فيما وردت به, فنقول: إن من وقع على امرأة أبيه – بعقد أو بغير عقد أو عقد عليها باسم نكاح وإن لم يدخل بها – فإنه يقتل ولا بد – محصنا كان أو غير محصن – ويخمس ماله, وسواء أمه كانت أو غير أمه , دخل بها أبوه أو لم يدخل بها،  وأما من وقع على غير امرأة أبيه من سائر ذوات محارمه – كأمه التي ولدته من زنى أو بعقد باسم نكاح فاسد مع أبيه – فهي أمه وليست امرأة أبيه , أو أخته , أو ابنته , أو عمته أو خالته أو واحدة من ذوات محارمه بصهر , أو رضاع – فسواء كان ذلك بعقد أو بغير عقد  هو زان , وعليه الحد فقط , وإن أحصن عليه الجلد والرجم كسائر الأجنبيات لأنه زنى , وأما الجاهل في كل ذلك فلا شيء عليه) [12]

القول الثاني: لا حد عليه في ذلك كله , ولا حد على من تزوج بهن ولو كان عالما بقرابتهن منه , عالما بتحريمهن عليه , والولد لاحق به , والمهر  واجب لهن عليه , وليس عليه إلا التعزير دون الأربعين فقط، فإن وطئهن بغير عقد زواج فهو زنى , عليه ما على الزاني من الحد، وهو قول سفيان الثوري , وأبي حنيفة، ودليلهم على ذلك:

·  أن اسم الزنى غير اسم الزواج فواجب أن يكون له غير حكمه، فإذا قلتم: زنى بأمه فعليه ما على الزاني، وإذا قلتم: تزوج أمه , فالزواج غير الزنى فلا حديث يحتاج إلى تخريج في ذلك، وإنما هو زواج فاسد , فحكمه حكم الزواج الفاسد , من سقوط الحد , ولحاق الولد , ووجوب المهر.

·  عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن طليحة نكحت في عدتها، فأتي بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  فضربها ضربات بالمخفقة وضرب زوجها وفرق بينهما، وقال:( أيما امرأة نكحت في عدتها فرق بينها وبين زوجها الذي نكحت ثم اعتدت بقية عدتها من الأول , ثم اعتدت من الآخر وإن كان دخل بها الآخر ثم لم ينكحها أبدا , وإن لم يكن دخل بها اعتدت من الأول وكان الآخر خاطبا من الخطاب (

·  وقال علي - رضي الله عنه - :( إن تابا وأصلحا جعلتهما مع الخطاب (، فهذا دليل صحيح على أن عقد الزواج وإن كان لا يثبت , وجب له حكم الزواج في وجوب المهر بالدخول الذي يكون بعده وفي العدة منه وفي ثبوت النسب وما كان يوجب ما ذكرنا من ذلك، فيستحيل أن يجب فيه حد لأن الذي يوجب الحد هو الزنا , والزنا لا يوجب ثبوت نسب ولا مهر ولا عدة.

·  أن العقوبات إنما تؤخذ من جهة التوقيف لا من جهة القياس فالله تعالى حرم الميتة والدم ولحم الخنزير كما حرم الخمر , وقد جعل على شارب الخمر حدا لم يجعل مثله على أكل لحم الخنزير ولا على أكل لحم الميتة وإن كان تحريم ما أتى به كتحريم ما أتى ذلك، وكذلك قذف المحصنة جعل الله فيه جلد ثمانين وسقوط شهادة القاذف وإلزام اسم الفسق، ولم يجعل ذلك فيمن رمى رجلا بالكفر , والكفر في نفسه أعظم وأغلظ من القذف، فكانت العقوبات قد جعلت في أشياء خاصة , ولم يجعل في أمثالها ولا في أشياء هي أعظم منها وأغلظ، فكذلك ما جعل الله تعالى من الحد في الزنا لا يجب به أن يكون واجبا فيما هو أغلظ من الزنا.

·      وقد أجابوا على الأحاديث التي استدل بها مخالفوهم بالوجوه التالية:

الوجه الأول: لما لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرسول بالرجم , وإنما أمره بالقتل ثبت بذلك أن ذلك القتل ليس بحد للزنا , ولكنه لمعنى خلاف ذلك، وهو أن ذلك المتزوج , فعل ما فعل من ذلك على الاستحلال كما كانوا يفعلون في الجاهلية فصار بذلك مرتدا , فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أن يفعل به ما يفعل بالمرتد، ولهذا يقول أبو حنيفة وسفيان في هذا المتزوج إذا كان أتى في ذلك على الاستحلال أنه يقتل.

الوجه الثاني: أن في الحديث الذي احتج به مخالفوهم (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقد لأبي بردة الراية) ولم تكن الرايات تعقد إلا لمن أمر بالمحاربة , والمبعوث على إقامة حد الزنا , غير مأمور بالمحاربة.

الوجه الثالث: في الحديث أيضا أنه بعثه إلى رجل تزوج امرأة أبيه وليس فيه أنه دخل بها. فإذا كانت هذه العقوبة وهي القتل مقصودا بها إلى المتزوج لتزوجه دل ذلك أنها عقوبة وجبت بنفس العقد لا بالدخول ولا يكون ذلك إلا والعاقد مستحل لذلك.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو تشديد العقوبة على من فعل ذلك، فلا شك في أن حرمة مثل هذا الزواج أعظم من حرمة الزنا، فلذلك نرى أن يعاقب إن كان محصنا بعقوبة الزاني المحصن لأنها أعظم العقوبات، وهي أشد من القتل العادي، أما إن كان غير محصن، فإن ولي الأمر هو الذي يحدد نوع العقوبة بشرط أن لا تقل عن حد الزنا، ويمكن جمعا للنصوص الجمع بين عقوبة الزنا وعقوبة تعزيرية يراها الحاكم إغلاقا لباب مثل هذه الرذائل وردعا لأصحاب مثل هذه النفوس.

2 ـ المحرمات من النسب

ويتعلق به المسائل التالية2:

أولا ـ تعريف النسب:

لغة: النَّسَبُ: نَسَبُ القَراباتِ، وهو واحدُ الأَنْسابِ، والنِّسْبَةُ والنُّسْبَةُ والنَّسَبُ: القَرابةُ؛ وقـيل: هو فـي الآباء خاصَّةً؛ وقـيل: النِّسْبَةُ مصدرُ الانْتِساب؛ والنُّسْبَةُ: الاسمُ، والنَّسَبُ يكون بالآباءِ، ويكونُ إِلـى البلاد، ويكون فـي الصِّناعة، قال الشاعر:

يا عَمْرُو يا بن الأَكْرَمِينَ نَسْبا   قَدْ نَـحَبَ الـمَـجْدُ علـيك نَـحْبا

وجمع النَّسَب أَنْسابٌ. وانْتَسَبَ واسْتَنْسَبَ: ذَكَرَ نَسَبه، ويقال للرجل إِذا سُئِلَ عن نَسَبه: اسْتَنْسِبْ لنا أَي انْتَسِبْ لنا حتـى نَعْرِفَك.

ونَسَبَهُ يَنْسُبُهُ ويَنْسِبُهُ نَسَباً: عَزاه ونَسَبَه: سَأَله أَن يَنْتَسِبَ. ونَسَبْتُ فلاناً إِلـى أَبـيه أَنْسُبه وأَنْسِبُهُ نَسْباً إِذا رَفَعْت فـي نَسَبه إِلـى جَدِّه الأَكبر، ونَسَبْتَ الرجلَ أَنْسُبه، بالضم، نِسْبةً ونَسْباً إِذا ذَكَرْتَ نَسَبه، وانْتَسَبَ إِلـى أَبـيه أَي اعْتَزَى[13].

اصطلاحا: تدخلت في تعريف النسب مثل سائر التعاريف الآراء الفقهية المختلفة، وسنخص موضوع حقيقة النسب وما يتعلق بها بمبحث خاص في الجزء الثاني، ولكنا سنقتصر هنا على بعض التعاريف التي سنذكر مناقشتها في المبحث الذي أشرنا إليه:

فقد عرفه ابن العربي بقوله: هو عبارة عن مرج الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع، إن كان بمعصية كان خلقا مطلقا , ولم يكن نسبا محققا[14].

وعرفه صاحب الروضة البهية بقوله: هو الاتصال بالولادة بانتهاء أحدهما إلى الآخر , كالأب والابن , أو بانتهائهما إلى ثالث , مع صدق اسم النسب عرفا على الوجه الشرعي[15].

ونلاحظ هنا أن هذا المصطلح استعمل فقهيا في مطلق الوصلة بالقرابة، فيقال بينهما نسب أي قرابة وسواء جاز بينهما التناكح أم لا[16].

ثانيا ـ أصناف المحرمات من النسب:

يحرم بهذا السبب أصنافاً أربعة، وهي المجموعة في قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ﴾ (النساء: 23)، وقد جمعت هذه الأصناف في قولهم:(يحرم على الرجل أصوله وفصوله وفصول أول أصوله وأول فصل من كل أصل بعده) [17]، وهذه الأصناف هي:

1 ـ أصول الرجل من النساء:

ويشمل هذا الصنف الأمهات، وهن كل من انتسب إليها بولادة , سواء وقع عليها اسم الأم حقيقة , وهي الوالدة، أو مجازا , وهي التي ولدت الوالدين وإن علت , من ذلك الجدتان: أم الأم وأم الأب , وجدتا الأم وجدتا الأب , وجدات الجدات، وجدات الأجداد، وإن علون  وارثات كن أو غير وارثات , كلهن أمهات محرمات، ومن الأدلة على تحريمهن:

·  كلمة (أُمَّهَاتُكُمْ) في الآية السابقة، لأن الأم في لغة العرب تطلق على من ولدت الشخص مباشرة، وعلى الجدة أيضاً باعتبارها أصلاً له، لأن الأم عندهم هي الأصل، فمعنى هذه الجملة حرمت عليكم أصولكم من النساء.

·   عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال:لم يكذب إبراهيم - عليه السلام - إلا ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله عز وجل، قوله:﴿ إِنِّي سَقِيمٌ﴾(الصافات:89)وقوله ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ﴾(الأنبياء:63)، وقال: بينا هو ذات يوم وسارة،إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي فأتى سارة فقال:  يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأخذ فقال: ادعي الله ولا أضرك فدعت الله فأطلق، ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت، فأطلق فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان إنما أتيتموني بشيطان، فأخدمها هاجر، فأتته وهو يصلي فأومأ بيده مهيا، قالت: رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره وأخدم هاجر قال أبو هريرة:(تلك أمكم يا بني ماء السماء[18])[19]، والشاهد في الحديث قول أبي هريرة- رضي الله عنه - :(تلك أمكم يا بني ماء السماء)، ومخاطبته بذلك العرب المعاصرين له مع بعد زمنهم عن زمن هاجر ـ عليها السلام ـ 

·  عن معاوية بن الحكم - رضي الله عنه -  أنه قدم على رسول الله  - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إني أريد أن أسألك عن أمر لا أسأل عنه أحدا بعدك، من أبونا؟ قال: آدم قال: من أمنا؟  قال: حواء  قال: من أبو الجن قال: إبليس قال: فمن أمهم قال: امرأته) [20]

·  الإجماع، فقد انعقد الإجماع بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن الأمهات تشمل من ذكرنا، وقد نقل الإجماع على ذلك كل العلماء[21]، وهو من المعلوم من الدين بالضرورة.

·   أن الله تعالى حرم العمات والخالات، وهن أولاد الأجداد والجدات , فكانت الجدات أقرب منهن، فكان تحريمهن تحريما للجدات من طريق الأولى كتحريم التأفيف نصا، يكون تحريما للشتم والضرب دلالة[22].

2 ـ فروع الرجل من النساء:

وهن كل أنثى انتسب إليها بولادة كابنة الصلب , وبنات البنين والبنات , وإن نزلت درجتهن، وارثات أو غير وارثات مهما نزلت درجتهن، ومن الأدلة على تحريم هذا الصنف:

·  قوله تعالى: ﴿ وَبَنَاتُكُمْ ﴾، والبنات في اللغة العربية هن فروع الرجل من النساء، فكأن المعنى: وفروعكم, فإن كل امرأة بنت آدم , كما أن كل رجل ابن آدم.

·  قوله تعالى في الآيات الكثيرة:﴿ يا بني آدم ﴾، وهو دليل على أن كل فرع مهما بعد يعتبر ولدا، ومثله قوله تعالى:﴿ يا بني إسرائيل﴾

·  الإجماع، فقد انعقد الإجماع على أن المراد بالبنات الفروع، فيتناول بنات الأبناء وبنات البنات مهما نزلن.

·  أن القرآن الكريم صرح بتحريم بنات الأخ وبنات الأخت، وهن أبعد من بنات الابن وبنات البنت، فتدل الآية على تحريمهن بطريق دلالة النص.

حكم زواج بنت الزنا بأبيها من الزنا:

اختلف الفقهاء في اعتبار بنت الزنا من المحرمات المؤبدة بسبب كونها من الفروع على قولين[23]:

القول الأول: أنها لا تحرم عليه، وهو قول الشافعية، لأنها أجنبية عنه ولا تنسب إليه شرعاً، ولا يجري التوارث بينهما، ولا تلزمه نفقتها، ولا يلي زواجها، ونحو ذلك من أحكام النسب، وإذا لم تكن بنتا في الشرع لم تدخل في آية التحريم، فتبقى داخلة في قوله تعالى:﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ (النساء: 24)، فلا تحرم عليه كسائر الأجانب، سواء أطاوعته أمها على الزنا أم لا.

وهم مع قولهم بعدم تحريمها يقولون بكراهة الزواج منها خروجا من الخلاف، وإذا لم تحرم عليه عندهم فأن لا تحرم على غيره من جهته أولى، أما المرأة فيحرم عليها وعلى سائر محارمها زواج ابنها من الزنا، لعموم الآية ولثبوت النسب والإرث بينهما، وهم يستدلون لذلك بعدم حرمة ما نتج عن الزنا فهي أجنبية عنه شرعا بدليل انتفاء سائر أحكام النسب عنها.

وقد اختلف في علة ذلك هل هي الزنا، أو لكونه لا يعرف نسبتها الحقيقية، فعلى العلة الأولى تحرم عليه مطلقا وعلى العلة الثانية (تحرم عليه إن تحقق أنها من مائه بأن أخبره بذلك نبي, كأن يكون في زمن عيسى - صلى الله عليه وسلم -)[24]

وقد اختلف كذلك في المعنى المقتضي للكراهة , فقيل للخروج من الخلاف،كما قال السبكي، وقيل لاحتمال كونها منه، فإن تيقن أنها منه حرمت عليه , وهو اختيار جماعة من الشافعية منهم الروياني.

ولمعرفة وجه ما استند إليه الشافعي في المسألة ننقل هنا مناظرة وقعت بينه وبين من قال بأن الزنا يوجب حرمة المصاهرة [25]، وسنتحدث عن هذه المسألة في محلها من هذا الفصل:

قال الشافعي: الزنا لا يحرم الحلال , وقال به ابن عباس: لأن الحرام ضد الحلال , ولا يقاس شيء على ضده.

فقال الرجل: ما تقول لو قبلت امرأة الرجل ابنه بشهوة حرمت على زوجها أبدا؟

قال الشافعي:لم قلت ذا والله تعالى إنما حرم أمهات نسائكم ونحو هذا بالنكاح فلم يجز أن يقاس الحرام بالحلال؟

فقال الرجل:  أجد جماعا وجماعا.

قال الشافعي: جماعا حمدت به وأحصنت، وجماعا رجمت به , أحدهما نقمة والآخر نعمة, وجعله الله نسبا وصهرا وأوجب به حقوقا , وجعلك محرما لأم امرأتك وابنتها تسافر بهما , وجعل على الزنا نقمة في الدنيا بالحد وفي الآخرة بالنار , إلا أن يعفو الله , فتقيس الحرام الذي هو نقمة على الحلال الذي هو نعمة، فلو قال لك وجدت المطلقة ثلاثا تحل بجماع زوج وإصابة فأحلها بالزنا لأنه جماع كجماع.

فقال الرجل: إذا أخطئ ; لأن الله تعالى أحلها بنكاح زوج.

قال الشافعي: وكذلك ما حرم الله في كتابه بنكاح زوج وإصابة زوج.

فقال الرجل: أفيكون شيء يحرمه الحلال ولا يحرمه الحرام أقول به؟

قال الشافعي: نعم ينكح أربعا فيحرم عليه أن ينكح من النساء خامسة , أفيحرم عليه إذا زنى بأربع شيء من النساء؟

فقال الرجل: لا يمنعه الحرام مما يمنعه الحلال.

قال الشافعي: فقد ترتد فتحرم على زوجها.

فقال الرجل: نعم , وعلى جميع الخلق , وأقتلها وأجعل مالها فيئا.

قال الشافعي: فقد نجد الحرام يحرم الحلال.

فقال الرجل: أما في مثل ما اختلفنا فيه من أمر النساء فلا.

القول الثاني[26]: أنها تحرم عليه، فلا يجوز له التزوج بابنته من الزنا , وبنت ابنه وبنت بنته وإن نزلت , وبنت أخيه وبنت أخته من الزنا , وعمته وخالته , وكذا الأب والابن من الزنا، وكل من يحرم عليه بالنسب، وذهب إلى ذلك معظم العلماء من الحنفية والحنابلة والمالكية في الأصح عندهم.

وقد نص في المغني أنه لا فرق في ذلك بين علمه بكونها منه , مثل أن يطأ امرأة في طهر لم يصبها فيه غيره، ثم يحفظها حتى تضع، أو أن يشترك جماعة في وطء امرأة , فتأتي بولد لا يعلم هل هو منه أو من غيره فإنها تحرم على جميعهم لوجهين:

الوجه الأول: أنها بنت موطوءتهم.

الوجه الثاني: أننا نعلم أنها بنت بعضهم , فتحرم على الجميع، كما لو زوج الوليان، ولم يعلم السابق منهما , وتحرم على أولادهم لأنها أخت بعضهم غير معلوم , فإن ألحقتها القافة بأحدهم  حلت لأولاد الباقين، ولم تحل لأحد ممن وطئ أمها لأنها في معنى ربيبته [27].

وقد استدل أصحاب هذا القول على ذلك بـما يلي:

·  قول الله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ﴾(النساء:23) والآية تتناول كل من شمله هذا اللفظ سواء كان حقيقة أو مجازا، وسواء ثبت في حقه التوارث وغيره من الأحكام أم لم يثبت، إلا التحريم خاصة.

·  أن التعميم في آية التحريم ليس كالعموم في آية الفرائض ونحوها، فلذلك لا يصح الاستدلال بها، كقوله تعالى:﴿ يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ﴾(النساء:11)  وذلك من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أن آية التحريم تتناول البنت وبنت الابن وبنت البنت كما يتناول لفظ العمة عمة الأب والأم مهما نزلن، ومثل هذا العموم لا يثبت لا في آية الفرائض ولا نحوها من الآيات والنصوص التي علقت فيها الأحكام بالأنساب.

الوجه الثاني: إن تحريم الزواج يثبت بمجرد الرضاعة،كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة) [28] وفي لفظ (ما يحرم من النسب)، وهو حديث متفق على صحته، وعمل الأئمة به، فقد حرم الله على المرأة أن تتزوج بطفل غذته من لبنها، أو أن تنكح أولاده، وحرم على أمهاتها وعماتها وخالتها، بل حرم على الطفلة المرتضعة من امرأة أن تتزوج بالفحل صاحب اللبن، وهو الذي وطئ المرأة حتى در اللبن بوطئه، فإذا كان يحرم على الرجل أن ينكج ابنته من الرضاع، ولا يثبت في حقها شيء من أحكام النسب سوى التحريم وما يتبعها من الحرمة، فكيف يباح له زواج بنت خلقت من مائه؟ وأين المخلوقة من مائة من المتغذية بلبن در بوطئه؟

الوجه الثالث: أن الله تعالى قال: ﴿ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ (النساء:23)، وهو احتراز عن ابنه الذي تبناه، كما قال تعالى:﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ (الأحزاب:37)، لأنهم في الجاهلية كانوا يستلحقون ولد الزنا أعظم مما يستلحقون ولد المتبني، فإذا كان الله تعالى قيد ذك بقول من أصلابكم علم أن لفظ البنات ونحوها يشمل كل من كان في لغتهم داخلا في الإسم.

·  قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في امرأة هلال بن أمية بعد الملاعنة:(إن جاءت به أصيهب أريسح حمش الساقين فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الآليتين فهو الذي رميت به، فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الآليتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) [29]

·      أنها أنثى مخلوقة من مائه , وهي حقيقة لا تختلف بالحل والحرمة.

·  أنها بضعة منه , فلم تحل له , كبنته من الزواج , وتخلف بعض الأحكام لا ينفي كونها بنتا , كما لو تخلف لرق أو اختلاف دين.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو قول الجمهور، وثبوت الحرمة بالزنا لأنها ابنته حقيقة وشرعا، أما عدم انتسابها إليه أو عدم إرثها منه، فهو للشك في كونها منه أو من غيره، ولهذا لما زال الشك في حق أمها لأنها هي التي ولدتها نسبت إليها وورثت منها.

والسبب الذي جر إلى القول الأول هو تعميم أحكام الميراث على أحكام النسب، وهما مختلفان اختلافا شديدا، لأن أحكام النسب تتبعض فتثبت من وجه دون وجه، وهو الذي يسميه بعض الفقهاء (حكما بين حكمين) [30]، فقد وافق أكثر المنازعين في ولد الملاعنة على أنه يحرم على الملاعن، ولا يرثه، واختلفوا في استلحاق ولد الزنا إذا لم يكن فراشا على قولين، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -  أنه ألحق ابن وليدة زمعة بن الأسود بن زمعة ابن الأسود وكان قد أحبلها عتبة بت أبي وقاص، فاختصم فيه سعد وعبد ابن زمعة،فقال سعد: ابن أخي عهد إلي أن ابن وليدة زمعة، هذا ابني فقال عبد: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراش أبي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(هو لك يا عبد بن زمعة،الولد للفراش وللعاهرالحجر،احتجبي منه يا سودة) [31] لما رأى من شبهه البين بعتبة، فجعله أخاها في الميراث دون الحرمة[32].

ويلزم الشافعية بناء على هذا أن لا ينسبوا الفرع من الزنا إلى أمه، وأن لا يورثوه، لأن الإرث الحلال لا يأتي به الحرام، أما ما استدل به الشافعي - رضي الله عنه -  مع مناظره، فإن في المناظرة أمورا كثيرة لا تسلم للشافعي، وسنناقشها في محلها الخاص من هذا الفصل.

وقد رد الجمهور على الشافعية بالبنوة اللغوية، ولكن النصوص والأدلة الكثيرة لا تكتفي بذلك، بل تثبت للبنت من الزنا البنوة الشرعية، وقد كان إسحاق بن راهويه يذهب إلى أن ولد الزنى إذا لم يكن مولودا على فراش يدعيه صاحبه، وادعاه الزاني ألحق به، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بأن الولد للفراش عند تنازع الزاني وصاحب الفراش، وهو مذهب الحسن البصري فقد روي عنه في رجل زنى بامرأة فولدت، فادعى ولدها، فقال: يجلد ويلزمه الولد، وهو قول عروة ابن الزبير وسليمان بن ذكر، فقد روي عنهما أنهما قالا: أيما رجل أتى إلى غلام يزعم أنه ابن له، وأنه زنى بأمه، ولم يدع ذلك الغلام أحد فهو ابنه، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام.

قال ابن القيم بعد نقله أدلة من يصحح نسب ابن الزنا:(وهذا المذهب كما تراه قوة ووضوحا،وليس مع الجمهور أكثرُ مِن (الولد للفراش) وصاحبُ هذا المذهب أولُ قائل به، والقياسُ الصحيح يقتضيه، فإن الأبَ أحدُ الزانيـين، وهو إذا كان يلحق بأمه، وينسب إليها، وترثه ويرثُها، ويثبت النسب بـينه وبـين أقارب أمه مع كونها زنت به، وقد وُجِدَ الولدُ مِن ماء الزانيـين، وقد اشتركا فيه، واتفقا على أنه ابنهُما، فما المانِعُ مِن لحوقه بالأب إذا لم يدعِهِ غيرُه؟ فهذا محض القياس) [33]

وسنأتي لمزيد من التفاصيل المرتبطة بهذه المسألة وأدلتها والمقاصد الشرعية المرتبطة بثبوت الأنساب في محلها من هذه السلسلة.

ونرى بناء على ما سبق أمرين:

أولا ـ أن يعاقب من يجرؤ على من يفعل ذلك عالما به بالعقوبات الشديدة، وقد سئل ابن تيمية عن بنت الزنا، هل تزوج بأبيها؟ فأجاب: (مذهب الجمهور من العلماء أنه لا يجوز التزويج بها، وهو الصواب المقطوع به، حتى تنازع الجمهور هل يقتل من فعل ذلك على قولين، والمنقول عن أحمد أنه يقتل من فعل ذلك، فقد يقال هذا إذا لم يكن متأولا، وأما المتأول فلا يقتل وإن كان مخطئا، وقد يقال هذا مطلقا كما قاله الجمهور، إنه يجلد من شرب النبيذ المختلف فيه متأولا، وإن كان مع ذلك لا يفسق عند  الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وفسقه مالك وأحمد في الرواية الأخرى والصحيح أن المتأول المعذور) [34]

ثانيا ـ خطورة إشاعة مثل هذه المسائل أوالقول بها، لتأثيرها السلبي الخطير في بث الشبهات، فهي ما يبحث عنه الأعداء، وقد ذكر ابن تيمية ما جرت عليه مثل هذه الأقوال في عصره من استغلال الأعداء لها، وزرع الفتنة بين المسلمين، فقال: (ومثل هذه المسئلة الضعيفة ليس لأحد أن يحكيها عن امام من أئمة المسلمين لا على وجه القدح فيه ولا على وجه المتابعة له فيها، فإن ذلك ضربا من الطعن في الأئمة وأتباع الأقوال الضعيفة، وبمثل ذلك صار وزير التتر يلقى الفتنة بين مذاهب أهل السنة حتى يدعوهم إلى الخروج عن السنة والجماعة ويوقعهم في مذاهب الرافضة وأهل الإلحاد) [35]

3 ـ فروع أبويه من النساء:

ويشمل هذا الصنف أخواته وبناتهن وبنات إخوته مهما نزلت درجتهن يستوي في ذلك الأخوة والأخوات من جهتين أو من جهة واحدة.

ولا تحرم أخت الأخت إذا لم تكن أختا، وتفسير ذلك ـ كما يذكر ابن العربي ـ أن يكون لرجل اسمه زيد زوجتان عمرة وخالدة , وله من عمرة ولد اسمه عمرو , ومن خالدة بنت اسمها سعادة , ولخالدة زوج اسمه عمرو , وله منها بنت اسمها حسناء , فزوج زيد ولده عمرا من حسناء , وهي أخت أخت عمرو[36].

ومن أدلة تحريم هذا هذا الصنف:

·      مجموع قوله تعالى: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ ﴾ وقوله: ﴿ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ﴾

·      انعقاد الإجماع على ذلك بناء على صراحة النص القرآني.

4 ـ فروع الأجداد والجدات المنفصلات بدرجة واحدة:

ويشمل العمة والخالة، أما العمة: فهي كل امرأة شاركت الأب ما علا في أصليه، والخالة: هي كل امرأة شاركت الأم ما علت في أصليها , أو في أحدهما على تقدير تعلق الأمومة كما تقدم.

ومن تفاصيل ذلك تحريم عمة الأب وخالته، لأن عمة الأب أخت الجد , والجد أب , وأخته عمة , وخالة الأب أخت جدته لأمه , والجدة أم , فأختها خالة , وكذلك عمة الأم أخت جدها لأبيها , وجدها أب وأخته عمة , وخالة أمها جدته، والجدة أم وأختها خالة ; وتتركب عليه عمة العمة ; لأنها عمة الأب كذلك , وخالة العمة خالة الأم كذلك , وخالة الخالة خالة الأم , وكذلك عمة الخالة عمة الأم،قال ابن العربي بعد ذكر هذه التفاصيل التي استنبطها من آية المحرمات:(فتضمن هذا كله قوله تعالى: ﴿ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ ﴾(النساء: من الآية23) بالاعتلاء في التحريم , ولم يتضمنه آية الفرائض بالاشتراك في المواريث , لسعة الحجر في التحريم وضيق الاشتراك في الأموال، فعرق التحريم يسري حيث اطرد , وسبب الميراث يقف أين ورد) [37]

ومثلما ذكرنا سابقا في الأخت لا تحرم أم العمة ولا أخت الخالة على الصورة السابقة في الأخت.

أما الدرجة الثانية من هذا الصنف وما بعدها فهن حلال له، كبنات الأعمام والعمات وبنات الأخوال والخالات.

وقد دل على تحريم هذا الصنف الكتاب والإجماع:

أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ﴾ وكل من ينفصل عن الجد بدرجة يطلق عليه عمة أو خالة مهما علا الجد.

أما الإجماع: فقد انعقد الإجماع على ذلك.

وقد دل على إباحة فروع العمات والخالات، أن الآية اقتصرت عليهن، ولم تتعرض لبناتهن فبقين على الحل لدخولهن تحت قوله تعالى:﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ (النساء: 24)

بل إنه قد ورد التصريح بحلهن في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ (الأحزاب: 50)

والأصل أن ما أحل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون حلالاً لأمته إلا ما قام الدليل على اختصاصه به، ولم يوجد هنا دليل يدل على هذا الاختصاص.

3 ـ المحرمات بالمصاهرة

أولا ـ تعريف المصاهرة:

لغة: الأصْهارُ أهل بيت المرأة، عن الخليل قال: ومن العرب من يجعل الصِّهْرَ من الأحماء والأختان جميعا، كما قال الشاعر:

سميتها إذ ولدت تموت           والقبر صهر ضامن زميت

فأقام الصهر مقام الختن , وهو محمول على المتعارف من ذلك. [38]وصَهَر الشيء فانْصَهَر أي أذابه فذاب وبابه قطع فهو صَهيرٌ، ومنه قوله تعالى:﴿ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾ (الحج:20) [39]

اصطلاحا: عرف ابن عرفة المصاهرة بأنها (زوجة أصله وفرعه، ومن لها على زوجه ولادة، وفرع زوجة مسها، وإن لم تكن في حجره) [40]

ثانيا ـ العلاقة  المعتبرة في حرمة المصاهرة:

يختلف ثبوت المصاهرة بحسب نوع العلاقة التي نشأت عنها المباشرة الجنسية، ويمكن تصنيف أنواع العلاقات وارتباطها بحرمة المصاهرة كما يلي:

الزواج الصحيح:

اتفق العلماء على أن العلاقة الناتجة عن زواج صحيح أو ملك يمين تثبت به حرمة المصاهرة, ويعتبر محرما لمن حرمت عليه ; لأنها حرمت عليه على التأبيد , بسبب مباح , أشبه النسب.

الزواج الفاسد:

وهو مثل الزواج الصحيح، إلا أنه لا يجب بالعقد الفاسد في الزواج حكمه, وإنما يجب بالوطء فيه، وفي حكمه الوطء بشبهة , كوطء امرأة ظنها امرأته[41], وأشباه هذا يتعلق به التحريم كتعلقه بالوطء المباح إجماعا، قال ابن المنذر: (أجمع كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد, أو بشراء فاسد , أنها تحرم على أبيه وابنه وأجداده وولد ولده،وهذا مذهب مالك , والأوزاعي , والثوري , والشافعي , وأحمد , وإسحاق , وأبي ثور وأصحاب الرأي) [42].

ولكن هذه الحرمة مع ذلك لا تجعل الرجل محرما لمن حرمت عليه , ولا يباح له به النظر إليها، لأن الوطء ليس بمباح، ولأن المحرمية تتعلق بكمال حرمة الوطء، ولأن الموطوءة لم يستبح النظر إليها، فلأن لا يستبيح النظر إلى غيرها أولى، والدليل على ثبوت الحرمة بذلك  أنه وطء يلحق به النسب , فأثبت التحريم , كالوطء المباح.

العلاقة المحرمة:

وهي علاقة ليس فيها عقد ولا شبهة عقد، وتشمل هذه العلاقة المحرمة ما يلي:

 

1 ـ الزنا:

اختلف الفقهاء في ثبوت حرمة المصاهرة بالزنا، أي أنه لو زنا الرجل بامرأة، هل يحرم عليه أصولها وفروعها أم لا على قولين:

القول الأول:  أنه لا يثبت بالزنا حرمة المصاهرة، فيجوز له أن يتزوج بأي امرأة من أصول المزني بها وفروعها، كما أن لها التزوج بأي فرد من أصوله وفروعه، وهو مذهب المالكية والشافعية، ومن الأدلة على ذلك[43]:

·  قوله تعالى: ﴿ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ﴾(النساء:23)، ومن زنى بها الابن لا تسمى حليلة لغة ولا شرعا ولا عرفا.

·  أن قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾(النساء:22) إنما المراد به النكاح الذي هو ضد الزنا , ولم يأت في القرآن النكاح المراد به الزنا قط , ولا الوطء المجرد عن عقد.

·      عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يتبع المرأة حراما أينكح أمها؟ أو يتبع الأم حراما أينكح ابنتها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحرم الحرام الحلال، إنما يحرم ما كان بنكاح) وفي رواية: (الحلال لا يفسد بالحرام) [44]

·  عن ابن عمر - رضي الله عنه -  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا يحرم الحرام الحلال) [45]

·  أن التحريم بالعلاقة المحرمة موقوف على الدليل , ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح , وقياس السفاح على الزواج في ذلك لا يصح لما بينهما من الفروق.

·  أن الله تعالى جعل الصهر قسيم النسب , وجعل ذلك من نعمه التي امتن بها على عباده , فكلاهما من نعمه وإحسانه فلا يكون الصهر من آثار الحرام وموجباته كما لا يكون النسب من آثاره.

·  أن في هذا الحكم سدا للذريعة حتى لا يصبح هذا القول ذريعة لفسخ الزواج بالطرق غير الشرعية، قال ابن القيم:(من الحيل المحرمة التي يكفر من أفتى بها تمكين المرأة ابن زوجها من نفسها لينفسخ نكاحها حيث صارت موطوءة ابنه , وكذا بالعكس , أو وطأه حماته لينفسخ نكاح امرأته) [46]

·  إذا كان النسب الذي هو الأصل لا يحصل بالوطء الحرام، فالصهر الذي هو فرع عليه ومشبه به أولى ألا يحصل بالوطء الحرام.

·  أنه لو ثبت تحريم المصاهرة بالزنا ـ فإنه عند القائلين بذلك ـ  لا تثبت المحرمية التي هي من أحكام ثبوت التحريم, فإذا لم تثبت المحرمية لم تثبت الحرمة.

القول الثاني:  أنَّ من زنى بامرأة حرم عليه أصولها وفروعها، وحرم عليها أصوله وفروعه، وهو قول الحسن وقتادة وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار  وسالم بن عبد الله ومجاهد وعطاء وإبراهيم وعامر وحماد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعي، ولم يفرقوا بين وطء الأم قبل التزوج أو بعده في إيجاب تحريم البنت، وهو مذهب ابن حزم إلا أنه فصل في ذلك فقصر التحريم على الفروع مهما نزلوا فقط،أما لو زنى الابن بها ثم تابت لم يحرم بذلك نكاحها على أبيه وجده، ومن زنى بامرأة لم يحرم عليه إذا تاب أن يتزوج أمها , أو ابنتها، وهو نفس حكمه في النكاح الفاسد [47].

وقد اختلف قول مالك في ذلك فقال في الموطإ: إن الزنى لا يحرم شيئا من ذلك، وروى ابن القاسم عن مالك فيمن زنى بأم امرأته أو بابنتها أنه يفارق امرأته ولا يقيم معها، قال ابن القاسم:(وكذلك عندي إذ زنى الرجل بامرأة لم ينبغ لأبيه ولا لابنه أن يتزوجها أبدا) [48]

وقد روى ابن العربي عن مالك رواية رجحها،يقول ابن العربي:(وتركب على هذا ما إذا زنى بامرأة , هل يثبت زناه حرمة في فروعها وأصولها؟ عن مالك في ذلك روايتان ودع من روى , وما روي، أقام مالك عمره كله يقرأ عليه الموطأ ويقرأه لم يختلف قوله فيه: إن الحرام لا يحرم الحلال) [49]

وفي الموطأ تصريح من مالك بذلك، جاء في الموطأ:(قال مالك في الرجل يزني بالمرأة فيقام عليه الحد فيها أنه ينكح ابنتها وينكحها ابنه إن شاء  وذلك أنه أصابها حراما وإنما الذي حرم الله تعالى ما أصيب بالحلال أو على وجه الشبهة بالنكاح قال مالك قال الله تبارك وتعالى اسمه ﴿ وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ (النساء:22)[50]

وقد استدل أصحاب هذا القول على ذلك بما يلي [51]:

من القرآن الكريم:

·  أن قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾(النساء:22)، أوجب تحريم نكاح امرأة قد وطئها أبوه بزنا أو غيره ; لأنه إذ كان الاسم يتناوله حقيقة فوجب حمله عليها[52] , وإذا ثبت ذلك في وطء الأب ثبت مثله في وطء أم المرأة أو ابنتها في إيجاب تحريم المرأة.

·  أن قوله تعالى:﴿ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾(النساء:23) علق التحريم بالدخول، والدخول بها اسم للوطء , وهو عام في جميع ضروب الوطء من مباح أو محظور ونكاح أو سفاح , فوجب تحريم البنت بوطء كان منه قبل تزوج الأم لقوله تعالى:﴿ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾، والدليل على ذلك أنه لو وطئ الأم بملك اليمين حرمت  عليه البنت تحريما مؤبدا بحكم الآية , وكذلك لو وطئها بنكاح فاسد، فثبت أن الدخول لما كان اسما للوطء لم يختص فيما علق به من الحكم بوطء بنكاح دون ما سواه من سائر ضروب الوطء.

من السنة:

·      أن ما ستند إليه أصحاب القول الثاني من نصوص لا يصح الاستدلال بها من وجهين:

الوجه الأول: من حيث الثبوت، فالأخبار التي استدل بها المخالفون باطلة عند أهل المعرفة بالحديث ورواتها غير مرضيين , قال ابن الجوزي[53]: (أما الحديث الأول ففي الطريقين الأولين عثمان بن عبد الرحمن، وهو الوقاصي قال يحيى بن معين ليس بشيء كان يكذب وضعفه ابن المديني جدا وقال البخاري والنسائي والرازي وأبو داود: ليس بشيء وقال الدارقطني: متروك وابن حبان قال: كان يروي عن الثقات الموضوعات لا يجوز الاحتجاج به؛ وفي الحديث الثاني عبد الله بن عمر، وهو أخو عبيد الله قال ابن حبان: فحش خطؤه فاستحق الترك،وفيه إسحاق الفروي قال يحيى: ليس بشيء كذاب وقال البخاري: تركوه([54]

الوجه الثاني: من حيث الدلالة، فالنصوص التي استدل بها المخالفون لا تدل على ما ذهبوا إليه، ومن الاعتراضات التي توجه بها أصحاب هذا القول لفهومهم من تلك النصوص:

·  أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحرم إلا ما كان بنكاح) كان جوابا لمن سأله عن اتباع المرأة , وذلك إنما يكون بأن يتبعها نفسه فيكون منه نظر إليها أو مراودتها على الوطء، وليس فيه إثبات الوطء , فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن مثل ذلك لا يوجب تحريما، وأنه لا يقع بمثله التحريم إلا أن يكون بينهما عقد نكاح وليس فيه للوطء ذكر.

·  أن قوله  - صلى الله عليه وسلم -: (زنا العينين النظر وزنا الرجلين المشي) [55] يحتمل أن النظر بانفراده يحرم، كما يحرم الوطء لتسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه زنا , فأخبر  - صلى الله عليه وسلم -أن ذلك لا يحرم، وأن التحريم إذا لم تكن ملامسة إنما يتعلق بالعقد، وإن لم يكن مسيس، وإذا احتمل هذا الخبر هذا زال الاعتراض به.

·  أن الله تعالى حرم امرأة المظاهر عليه بالظهار , وقد سماه منكرا من القول وزورا , ولم يكن هذا القول محرما مانعا من وقوع تحريم الوطء به.

·  أن الحرام والحلال إنما هو حكم الله تعالى بالتحريم والتحليل , وبما أن حكم الله تعالى بالتحريم في شيء وبالتحليل في غيره لا يتعلق به حكم آخر في إيجاب تحريم أو تحليل إلا بدلالة، فلذلك إن حمل هذا اللفظ على حقيقته لم يكن له تعلق بهذه المسألة.

·  أن المقصود من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الحرام لا يحرم الحلال) أن فعل الحرام لا يحرم الحلال، وهذا لا يصح اعتبار العموم فيه لاتفاق المسلمين على إيجاب تحريم الحرام الحلال وهو الوطء بنكاح فاسد، والطلاق الثلاث في الحيض والظهار، والخمر إذا خالطت الماء، والردة تبطل النكاح، وتحرمها على الزوج،وغير ذلك من الأفعال المحرمة للحلال.

الأدلة العقلية:

·  أن الوطء الذي تحقق بالزنا آكد في إيجاب التحريم من العقد، لأنا لم نجد وطئا مباحا إلا وهو موجب للتحريم , وقد وجدنا عقدا صحيحا لا يوجب التحريم وهو العقد على الأم، فإنه لا يوجب تحريم البنت ولو وطئها حرمت , فعلم من ذلك أن وجود الوطء علة لإيجاب التحريم , فكيفما وجد ينبغي أن يحرم مباحا كان الوطء أو محظورا لوجود الوطء; لأن التحريم لم يخرجه من أن يكون وطئا صحيحا.

·  أن الاتفاق علىكون الوطء بشبهة يحرم مع عدم النكاح، يدل على أن الوطء يوجب التحريم على أي وجه وقع , فوجب أن يكون وطء الزنا محرما لوجود الوطء الصحيح.

·  أن عدم ثبوت النسب الذي استدل به المخالفون ليس له تأثير في ذلك، لأن الصغير الذي لا يجامع مثله لو جامع امرأته حرمت عليه أمها وابنتها ولم يتعلق بوطئه ثبوت النسب , ومن عقد على امرأة نكاحا تعلق بعقد النكاح ثبوت النسب قبل الوطء حتى لو جاءت بولد قبل الدخول وبعد العقد بستة أشهر لزمه.

·  أن الله تعالى غلظ أمر الزنا بإيجاب الرجم تارة، وبإيجاب الجلد أخرى، وأوعد عليه بالنار، ومنع إلحاق النسب به , وذلك كله تغليظ لحكمه , فوجب أن يكون بإيجاب ثبوت تحريم المصاهرة به أولى.

·  أن الله تعالى لما حكم ببطلان حج من جامع امرأته قبل الوقوف بعرفة كان الزاني أولى ببطلان الحج لأن بطلان الحج تغليظ لتحريم الجماع فيه؟

·      أن إيجاب  تحريم الأم والبنت بالوطء الحلال يدل على أن الزنا أولى بإيجاب التحريم تغليظا لحكمه.

·  أن خلو الزنا من المهر لا يدل على عدم ثبوت التحريم بالمصاهرة، لأن ما تعلق بالزنا من إيجاب الرجم أو الجلد أغلظ من إيجاب المال، على أن المال والحد يتعاقبان على الوطء فمتى وجب الحد لم يجب المهر، ومتى وجب المهر لم يجب الحد , فكل واحد منهما يخلف الآخر, فإذا وجب الحد فذلك قائم مقام المال فيما تعلق بالوطء من الحكم , فلا فرق بينهما من هذا الوجه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو الأخذ بأحوط الأقوال فيها، لأن الأساس الذي يقوم عليه هذا الباب هو الاحتياط والتورع، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لمن أراد أن يتزوج امرأة فجاءت أمة سوداء فذكرت أنها أرضعتها: (كيف وقد قيل دعها عنك) [56]

ونرى أن سبب هذا الاحتياط ليس النصوص الواردة فيها فقد رأينا ضعفها، وقد قال المناوي عند ذكره لأدلة الفريقين:(وهي مسألة عظيمة في الخلاف ليس فيها خبر صحيح من جانبنا ولا من جانبهم) [57]، ولكن سببه أمرين:

الأول: أنها مسألة خلافية من لدن السلف الصالح، وذلك يدل على أنه قد يكون لها أصل صحيح من الدين، فليست هي بآراء المتأخرين التي قد تحمل عل محامل مختلفة، ومن الآثار الكثيرة الواردة في ذلك عن السلف الصالح[58]:  أن ابن عباس - رضي الله عنه -  فرق بين رجل وامرأته بعد أن ولدت له سبعة رجال كلهم صار رجلا يحمل السلاح , لأنه كان أصاب من أمها ما لا يحل، وعن مجاهد قال: (لا يصلح لرجل فجر بامرأة أن يتزوج أمها)، وقال إبراهيم النخعي: (إذا كان الحلال يحرم الحرام فالحرام أشد تحريما)، وقال ابن معقل: (هي لا تحل في الحلال فكيف تحل له في الحرام)،وقال مجاهد: (إذا قبلها أو لامسها أو نظر إلى فرجها من شهوة حرمت عليه أمها وابنتها)، وعن الشعبي قال: (ما كان في الحلال حراما فهو في الحرام حرام)، وروي عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وعروة بن الزبير فيمن زنى بامرأة، أنه لا يصلح له أن يتزوج ابنتها أبدا.

الثاني: سد الذريعة، وقد ذكر ابن القيم، وهو من أصحاب القول الأول هذا الدليل عند مناصرته لأصحابه كما رأينا عند سرد أدلتهم، ولكن اتخاذ ما ذكره ذريعة بعيد، والقريب ـ الذي نراه ـ من الذرائع، والذي ينبغي أن يسد هو أن الشرع والعقل والعرف يتطلب من الإنسان إذا ارتكب فاحشة في محل ما أن يبتعد عن ذلك المحل ما أطاق حتى لا يزين له الشيطان فعلها من جديد، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾(الإسراء:32)، لأن من زين له الفاحشة الأولى ويسر عليه ولوجها أقدر على تيسير الفاحشة الثانية، وكيف لا يقدر وقد صارت في مرمى يديه؟

وقد يرد على هذا بأن الكلام هنا عن شخص تائب قد تعفف عن الحرام، والجواب على ذلك أن التوبة أمر باطني، وأن صاحبها قد لا يستمر على ثباته، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن سبل الغواية لا حد لها، فلذلك كان الأحوط التورع عن هذا النوع من الزواج.

وقد وافق أصحاب كلا القولين على أن علة تحريم الربيبة التحرز من النظر إليها والخلوة بها بكونها في حجرة وفي بيته[59]، وهذا التحرز ينتفي ويزول أثره إذا ما أقدم على ارتكاب الفاحشة معها، فلذلك كان الأحوط الابتعاد الكلي عن هذا الباب الذي قد يصير ذريعة للحرام.

بل نرى الحرمة المطلقة، وتقنين هذه الحرمة في حال ذيوع وإشاعة القول بفاحشته، أو قيام الدليل عليها، لأن ذلك يضعه في محل تهمة كبيرة، وقد يتزوج الفساق من عجائز لا يقصدون إلا بناتهن، فيجعلون من الزواج الحلال ذريعة للحرام، وفي الواقع من ذلك ما يندى له الجبين.

ولكنا مع ذلك نرى أن هذه الحرمة ليست مؤبدة، لأن للحرمة المؤبدة ضوابط محددة لا تصح الزيادة عليها، وقد قال تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ (النساء: 24)، بل هي حرمة مؤقتة بوقت ثبوت العلة، فإذا انتفت العلة بموت من ارتكب معها الفاحشة أو غيابها، ولم يكن هناك من ينوب عنها انتفى المعلول، وعاد حكم الزواج إلى أصله من الإباحة، إلا إذا تورع الشخص عن ذلك لما ورد عن السلف الصالح - رضي الله عنهم -  من الآثار الدالة على الحرمة.

وليس في القول بهذا ـ كما قد يظن ـ مخالفة للإجماع، باعتبار أن الخلاف القائم في المسألة هو بين الحل والحرمة المؤبدة، وليس هناك من يقول بالحرمة المؤقتة، والجواب على ذلك أن هذا القول يجمع كلا القولين، وينفي محاذير كلا الفريقين، فهو مع القائلين بالحل لأن الله تعالى قال: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ (النساء: 24)، وهو في نفس الوقت مع القائلين بالحرمة، لأن المصلحة الشرعية تقتضي ذلك، وللمصلحة محلها الخاص.

2 ـ الشذوذ الجنسي:

اختلف العلماء في اعتبار الشذوذ الجنسي الحاصل بين الرجل والرجل (اللواط) في سريان الحرمة بالمصاهرة على قولين[60]:

القول الأول: أنه يؤثر في التحريم، فيحرم على اللائط أم الغلام وابنته , وعلى الغلام أم اللائط وابنته، وهو قول الأوزاعي ورواية عن أحمد، وعن الشعبي , وأبي جعفر محمد بن علي ابن الحسين، ومن أدلتهم على ذلك أنه وطء، فنشر الحرمة , كوطء المرأة , ولأنها بنت من وطئه وأمه , فحرمتا عليه , كما لو كانت الموطوءة أنثى.

القول الثاني: أنه لا يؤثر في التحريم، وهو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بما يلي:  

·  عموم قوله تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ (النساء: 24)، فهؤلاء  غير منصوص عليهن , ولا في معنى المنصوص عليهن , فوجب أن لا يثبت حكم التحريم فيهن , فإن المنصوص عليهن في هذا حلائل الأبناء , ومن نكحهن الآباء وأمهات النساء وبناتهن , وليس هؤلاء منهن , ولا في معناهن، وإن قدر بينهما شبه من وجه ضعيف , فلا يجوز تخصيص عموم الكتاب به , واطراح النص بمثله.

·  عدم صحة قياس اللواط على الزنا لأن الوطء في المرأة يكون سببا للبعضية , ويوجب المهر , ويلحق به النسب , وتصير به المرأة فراشا , ويثبت أحكاما لا يثبتها اللواط , فلا يجوز إلحاقه بهن لعدم العلة , وانقطاع الشبه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة ما ذكرنا سابقا من سد الذرائع أمام الانحراف ما أمكن، فالتحريم هنا ليس من باب المحرمية، والتي حددتها النصوص القطعية، ولا مجال للزيادة فيها، ولكنها من باب سد الذريعة، فالعلة فيها احتمال العودة إلى الفاحشة، فإذا انتفت هذه العلة مثلا بموت من فعل معه ذلك أو غيابه بحيث أمن المتزوج على نفسه جاز له الزواج، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما.

3 ـ المباشرة المحرمة:

اتفق الفقهاء[61] على أن من قبل امرأة بغير شهوة فله أن يتزوج ببنتها أو أمها , ويجوز لها الزواج بأصوله أو فروعه، أما التقبيل على الفم أو المس بشهوة[62] فقد اختلفوا في تأثيرهما في حرمة المصاهرة على قولين:

القول الأول: أن المباشرة والتقبيل ولو بشهوة لا يحرم على المقبل أصول من يقبلها ولا فروعها زوجة كانت أم أجنبية، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بعموم قوله تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ (النساء: 24)

القول الثاني: أن المباشرة بشهوة  يوجب حرمة المصاهرة , فمن مس أو قبل امرأة بشهوة لا تحل له أصولها ولا فروعها , وحرمت عليها أصوله وفروعه. ومن قبل أم امرأته بشهوة حرمت عليه امرأته، أما لو قبل أخت امرأته ولو بشهوة فإنه لا تحرم عليه امرأته،  وهو مذهب الحنفية، بل قالوا: لو أن امرأة مست صبيا بشهوة وكان ابن ست أو سبع ثبت بذلك حرمة المصاهرة، قال ناظمهم في ذلك:

ومن هي مست لابن ست بشهوة      يحرمه صهر أو من هو أكبر[63]

ولم يفرقوا في ذلك بين العمد والخطأ والنسيان والإكراه حتى أنه لو أيقظ زوجته ليجامعها، فوصلت يده إلى ابنته منها فقرصها بشهوة، وهي تشتهى، يظن أنها أمها حرمت عليه الأم حرمة مؤبدة، ومثله ما لو أيقظته هي لذلك فقرصت ابنه من غيرها حرمت عليه.

وقالوا: إن الملامسة بلذة والنظر إلى الفرج لا يحرم إلا أن ينزل لعدم إفضائه إلى المقصد الذي هو الوطء، لأنه إنما حرم تحريم الوسائل والوسيلة إذا لم تفض لمقصده سقط اعتبارها[64].

واختلفوا فيما لو أقر بالتقبيل وأنكر الشهوة على ثلاثة آراء هي:

·      لا يصدق , لأن التقبيل لا يكون إلا عن شهوة , فلا يقبل إنكاره إلا أن يظهر خلافه.

·      يصدق، لأن الشهوة أمر باطني.

·      التفصيل بين كونه على الرأس والجبهة والخد، فيصدق، أما على الفم فلا يصدق.

وقد روي عن مالك في المدونة ما يشبه هذا القول، قال ابن القاسم: (سمعت منه في الذي يعبث على ختنته فيما دون الفرج  أن مالكا أمره أن يفارق امرأته , فهذا مثله، وهذا رأيي الذي آخذ به أن لا يتزوجها وأن ما تلذذ به الرجل من امرأة على وجه الحرام , فلا أحب لأبيه ولا لابنه أن يتزوجها , ولا أحب له أن يتزوج أمها ولا ابنتها، وقد أمره مالك أن يفارق من عنده لما أحدث في أمها , فكيف يكون لمن ليست عنده أن يتزوجها) [65]

وقال أبو الطاهر من المالكية: إن اللمس بلذة من البالغ ينشر الحرمة ومن غير البالغ قولان، وبغير لذة لا ينشر مطلقا وفي نظر البالغ للذة قولان المشهور ينشر الحرمة لأنه أحد الحواس والشاذ لا ينشر لأن النظر إلى الوجه لا يحرم اتفاقا وإنما الخلاف في باطن الجسد [66].

بل نص القرطبي على ما يشير إلى أن هذا هو القول الوحيد لمالك، قال في التفسير:(واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث على أنه إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وإبنتها وحرمت على الأب والإبن وهو أحد قولي الشافعي) [67]، بل نص على ما هو أكبر من ذلك، فقال:(واختلفوا في النظر، فقال مالك: إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شئ من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها) [68] 

وقد حكى أبو إسحق الشيرازي هذا القول عن الشافعية، قال في المهذب:(واختلف قوله في المباشرة فيما دون الفرج بشهوة  في ملك أو شبهة، فقال في أحد القولين:هو كالوطء في التحريم لأنها مباشرة لا تستباح إلا بملك فتعلق بها تحريم المصاهرعة كالوطء،  والثاني لا يحرم بها ما يحرم بالوطء لقوله تعالى: ﴿ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾(النساء:23)، ولانها مباشرة لا توجب العدة فلا يتعلق بها التحريم كالمباشرة بغير شهوة، وإن تزوج امرأة ثم وطىء أمها أو بنتها أو وطئها أبوه أو ابنه اليسرى انفسخ النكاح لأنه معنى يوجب تحريما مؤبدا فإذا طرأ على النكاح أبطله كالرضاع) [69]

ومن الأدلة التي استدل به أصحاب هذا القول [70]:

·  قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ ﴾(النساء:22)، فقد فسروا النكاح بالوطء , والتقبيل بشهوة والمباشرة داعية إلى الوطء فقامت مقامه احتياطا للحرمة.

·  رووا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نظر إلى فرج امرأة بشهوة أو لمسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها , وحرمت على ابنه وأبيه) [71]

·  عن عمر - رضي الله عنه -: أنه جرد جارية ونظر إليها ثم استوهبها منه بعض بنيه فقال: أما إنها لا تحل لك.

·  عن ابن عمر - رضي الله عنه -  قال: إذا جامع الرجل المرأة أو قبلها أو لمسها  بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وابنتها.

·  وعن مسروق أنه قال: بيعوا جاريتي هذه , أما إني لم أصب منها إلا ما يحرمها على ولدي من المس والقبلة.

·      عن وهب المنبه أنه قال: (ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها) [72]

الترجيح:

نرى ان الأرجح في المسألة في هذه الحالة مثلما سبق التورع والاحتياط إلا إذا كانت المباشرة تقبيلا في الخد انجر عنه شعور بالشهوة، فإن ذلك غير معتبر، لأن التقبيل في الخد مما تعم به البلوى في كثير من المجتمعات الإسلامية، وهو مع حرمته غير ناشر للحرمة، لأن المقصد الظاهر من ذلك التقبيل هو غير الشهوة.

ومثل ذلك ما نص عليه الحنفية، وفصلوا فيه من النظر إلى الفرج بشهوة، فإن ذلك إن كان قصدا وعمدا وبعلم المرأة وإرادتها، فإنه لا شك في تأثيره وفي كونه كالمباشرة، بل أخطر منها، فلذلك تسري الحرمة بتلك الرؤية.

ونجدد ما ذكرنا سابقا من أن هذه الحرمة مؤقتة سدا للذريعة، أما من حيث النصوص التي استدلوا بها، فلا تنهض للاحتجاج على مثل هذا الحكم، قال ابن حزم: (أما من حرمها بالمس للشهوة دون ما دون ذلك إلى الفرج خاصة، دون ما دون ذلك إلى محاسنها لشهوة، دون ما عدا ذلك، فأقوال لا دليل على صحة شيء منها، إنما هي آراء مجردة لا يؤيدها قرآن ولا سنة ولا رواية ساقطة ولا قياس) [73]

أما إذا كان النظر من غير قصد ولا عمد ولا إرادة أو علم من المرأة فإن ذلك لا تأثير له في الحرمة حتى لو تحقق بالنظر الشهوة، لأن ذلك من المعفو عنه شرعا، ومما تنتفي معه الخطورة واقعا.

3 ـ أصناف المحرمات بالمصاهرة

يحرم بهذا السبب أصناف أربعة:

1 ـ أصول الزوجة:

كأمها وجداتها من جهة الأم أو الأب في أي درجة، لقوله تعالى: ﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ﴾(النساء:23) فإنه معطوف على قوله تعالى:﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ فيكون معناه: وحرمت عليكم أمهات نسائكم، وكلمة الأمهات هنا تتناول الأم المباشرة والجدات كما ذكرنا سابقا، وقد اختلف العلماء هنا في مسألتين2:

اشتراط الدخول بالزوجة:

اختلف الفقهاء في اشتراط الدخول بالزوجة لتحريم أمها على قولين:

القول الأول: أنها تحرم عليه بمجرد العقد سواء دخل بزوجته أو لم يدخل بها،وهو مذهب أحمد ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وهو قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود وابن عمر وجابر وعمران بن حصين وكثير من التابعين، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن قوله تعالى: ﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ﴾(النساء:23) كلام تام بنفسه منفصل عن المذكور بعده ; لأنه مبتدأ وخبر،  إذ هو معطوف على ما تقدم ذكره من قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ﴾(النساء:23) إلى قوله تعالى: ﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ﴾(النساء:23)، والمعطوف يشارك المعطوف عليه في خبره، ويكون خبر الأول خبرا للثاني كقولهم: جاءني زيد وعمرو، فإن معناه: جاءني عمرو، فكان معنى قوله تعالى: ﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ﴾ أي: وحرمت عليكم أمهات نسائكم، وأنه مطلق عن شرط الدخول، فمن ادعى أن الدخول المذكور في آخر الكلمات منصرف إلى الكل فعليه الدليل.

·  أن إضمار شرط الدخول لا يصح في أمهات النساء مظهرا ; لأنه لا يستقيم أن يقال: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ; لأن أمهات نسائنا لسن من نسائنا والربائب من نسائنا ; لأن البنت من الأم وليست الأم من البنت , فلما لم يستقم الكلام بإظهار أمهات النساء في الشرط لم يصح إضماره فيه , فثبت بذلك أن قوله: ﴿ من نسائكم ﴾ إنما هو من وصف الربائب دون أمهات النساء.

·  أنه لو جعلنا قوله تعالى: ﴿ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾(النساء:23) نعتا لأمهات النساء  وجعلنا تقديره: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن لخرج الربائب من الحكم وصار حكم الشرط في أمهات النساء دونهن , وذلك خلاف نص التنزيل , فثبت أن شرط الدخول مقصور على الربائب دون أمهات النساء.

·  قوله - صلى الله عليه وسلم -:(إذا نكح الرجل امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها فله أن يتزوج ابنتها وليس له أن يتزوج الأم) [74] وفي رواية:(أيما رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت عنده فلا بأس أن يتزوج بنتها , وأيما رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت عنده فلا يحل له أن يتزوج أمها) وهو نص في المسألتين.

·  عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -  أنه قال في هذه الآية الكريمة: (أبهموا ما أبهم الله تعالى) أي: أطلقوا ما أطلق الله تعالى، وقد روي عن عمران بن حصين أنه قال: الآية مبهمة أي مطلقة لا يفصل بين الدخول وعدمه.

·  أن ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -  من ذلك روي الرجوع عنه، فإنه روي أنه أفتى بذلك في الكوفة، فلما أتى المدينة ولقي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذاكرهم رجع إلى القول بالحرمة، حتى روي أنه لما أتى الكوفة نهى من كان أفتاه بذلك فقيل: (إنها ولدت أولادا) فقال: (إنها وإن ولدت)

·  أن هذا النكاح يفضي إلى قطع الرحم لأنه إذا طلق ابنتها وتزوج بأمها حملها ذلك على الضغينة التي هي سبب القطيعة فيما بينهما , وقطع الرحم حرام فما أفضى إليه يكون حراما، ولهذا المعنى حرم الجمع بين المرأة وبنتها وبين المرأة وأمها وبين عمتها وخالتها بخلاف جانب الأم حيث لا تحرم ابنتها بنفس العقد على الأم، لأن إباحة النكاح هناك لا تؤدي إلى القطع، لأن الأم في ظاهر العادات تؤثر ابنتها على نفسها في الحظوظ والحقوق  والبنت لا تؤثر أمها على نفسها، ومعلوم ذلك بالعادة، وإذا جاء الدخول تثبت الحرمة لأنه تأكدت مودتها لاستيفائها حظها فتلحقها الغضاضة فيؤدي إلى القطع.

·  أن الحرمة  تثبت بالدخول بالإجماع , والعقد على البنت سبب الدخول بها , والسبب يقوم مقام المسبب في موضع الاحتياط , ولهذا تثبت الحرمة بنفس العقد في منكوحة الأب وحليلة الابن , كان ينبغي أن تحرم الربيبة بنفس العقد على الأم إلا أن شرط الدخول هناك عرفناه بالنص فبقي الحكم في الآية على أصل القياس.

·  أن نص الآية يحتمل أن يكون بمعنى الشرط فيلحق الكل , ويحتمل أن لا يكون فيقتصر على ما يليه فلا يلحق بالشك والاحتمال , وإذا وقع الشك والشبهة فيه , فالقول لما فيه الحرمة أولى احتياطا.

القول الثاني: أن أم الزوجة لا تحرم على الزوج بنفس العقد ما لم يدخل ببنتها، وهو قول مالك وداود الأصفهاني، وروي هذا القول عن عبد الله بن مسعود وجابر، وهو إحدى الروايتين عن علي وزيد بن ثابت، وعن زيد بن ثابت أنه فصل بين الطلاق والموت قال: في الطلاق مثل قولهما وفي الموت مثل قول العامة، وجعل الموت كالدخول; لأنه بمنزلة الدخول في حق المهر وكذا في حق التحريم، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قوله تعالى: ﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾(النساء:23)، فقد ذكر تعالى أمهات النساء، وعطف ربائب النساء عليهن في التحريم بحرف العطف، ثم عقب الجملتين بشرط الدخول، والأصل أن الشرط المذكور والاستثناء بمشيئة الله تعالى عقيب جمل معطوف بعضها على بعض بحرف العطف كل جملة مبتدأ وخبره ينصرف إلى الكل لا إلى ما يليه خاصة، فمن قال مثلا: عبده حر وامرأته طالق وعليه حج بيت الله تعالى إن فعل كذا أو قال: إن شاء الله تعالى فهذا كذلك فينصرف شرط الدخول إلى الجملتين جميعا فلا تثبت الحرمة بدونه.

·      ضعف ما استند إليه المخالفون من نصوص.

الترجيح:

نرى أن الأولى في هذا الأخذ بأحوط القولين، أما من جهة الأدلة فإن المسألة محتملة من جهتين:

أولا: الإمكانية اللغوية لكلا المعنيين فقد اختلف النحاة في الوصف في قوله تعالى: ﴿ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾ فقيل: يرجع إلى الربائب والأمهات , وهو اختيار أهل الكوفة، وقيل: يرجع إلى الربائب خاصة , وهو اختيار أهل البصرة , وجعلوا رجوع الوصف إلى الموصوفين المختلفي العامل ممنوعا كالعطف على عاملين. وجوز ذلك كله أهل الكوفة , ورأوا أن عامل الإضافة غير عامل الخفض بحرف الجر[75].

ثانيا: أن الخلاف فيها كان من الصدر الأول، مع علمهم بالعربية، ولذلك يقول ابن العربي:(واعلموا أن هذه المسألة من غوامض العلم وأخذها من طريق النحو يضعف ; فإن  الصحابة العرب القرشيين الذين نزل القرآن بلغتهم أعرف من غيرهم بمقطع المقصود منهم ; وقد اختلفوا فيه وخصوصا عليا مع مقداره في العلمين , ولو لم يسمع ذلك في اللغة العربية لكان فصاحتها بالأعجمية , فإنما ينبغي أن يحاول ذلك بغير هذا القصد)

موت الزوج قبل الدخول:

اختلف الفقهاء فيما لو مات الزوج قبل الدخول، هل تحرم ابنة زوجته عليه، أم لا على قولين:

القول الأول:  تحرم  ابنتها، وبه قال زيد بن ثابت، وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة، لأن الموت أقيم مقام الدخول في تكميل العدة والصداق , فيقوم مقامه في تحريم الربيبة.

القول الثاني: لا تحرم ابنتها عليه،  وهو قول علي، ومذهب عامة العلماء قال ابن المنذر: أجمع عوام علماء الأمصار على أن الرجل إذا تزوج المرأة , ثم طلقها , أو ماتت قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج ابنتها كذلك قال مالك , والثوري , والأوزاعي , والشافعي , وأحمد , وإسحاق , وأبو ثور , ومن تبعهم[76]، وقد نقل الإجماع على ذلك القرطبي، فقد قال في التفسر:(وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها) [77]

ومن الأدلة على ذلك:

·  قول الله تعالى:﴿ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾(النساء:23) وهو نص لا يترك لقياس ضعيف.

·      أنها فرقة قبل الدخول , فلم تحرم الربيبة، كفرقة الطلاق.

·  أن الموت لا يجري مجرى الدخول في الإحصان والإحلال وعدة الأقراء , وقيامه مقامه من وجه ليس بأولى من مفارقته إياه من وجه آخر , ولو قام مقامه من كل وجه , فلا يترك صريح نص الله تعالى ونص رسوله لقياس ولا غيره إذا ثبت هذا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لعدم تحقق الدخول، وقد قيدت الآية الحرمة عليه، ولو كان الموت معتبرا لنص عليه القرآن الكريم، ودلت عليه السنة، ولا نرى في هذا الأخذ بالأحوط لعدم الحاجة لذلك، فلا ذريعة تسد، ولا مصلحة تراعى، فيبقى القول بالاحتياط لأجل التعبد، والتعبد لا يكون إلا بما دلت عليه صراحة النصوص  وكانت عليه جماهير العلماء، فلذلك فإن الأرجح عدم اعتبار حكم الموت كحكم الدخول لعدم صحة القياس هنا، لأن مبنى التحريم في النساء على التوقيف لا على الاجتهاد، لقوله تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ (النساء: 24)

2 ـ فروع الزوجة التي دخل بها من النساء:

وهن كل بنت للزوجة من نسب أو رضاع , قريبة أو بعيدة , وارثة أو غير وارثة , على حسب ما ذكر في البنات , ويطلق عليها لغة وشرعا الربيبة، وسميت بذلك لأنه يربيها في حجره، فهي مربوبة، وفعيلة هنا بمعنى مفعولة.

وسنذكر هنا مسألتين تتعلقان بالربيبة اختلف فيهما العلماء،هما[78]:

اعتبار كون الربيبة في الحجر:

اختلف الفقهاء في اشتراط كون الربيبة في الحجر لسريان الحرمة على قولين:

القول الأول: إن ذلك شرط، فلا تحرم عليه إلا إذا كانت في حجره،وقد روي عن عمر وعلي - رضي الله عنهم -  أنهما رخصا في ذلك، وهو قول داود والظاهرية يقول ابن حزم::(أما من تزوج امرأة ولها ابنة أو ملكها ولها ابنة , فإن كانت الابنة في حجره ودخل بالأم مع ذلك وطئ أو لم يطأ , لكن خلا بها بالتلذذ لم تحل له ابنتها أبدا , فإن دخل بالأم ولم تكن الابنة في حجره , أو كانت الابنة في حجره، ولم يدخل بالأم , فزواج الابنة له حلال، وأما من تزوج امرأة لها أم أو ملك أمة تحل له ولها أم، فالأم حرام عليه بذلك أبد الأبد - وطئ في كل ذلك الابنة أو لم يطأها)[79]

وكونها في حجره عنده ينقسم قسمين:

أحدهما: سكناها معه في منزله , وكونه كافلا لها.

والثاني: نظره إلى أمورها كولي عليها، لا بمعنى الوكالة , فكل واحد من هذين الوجهين يقع به عليها كونها في حجره.

ومن الأدلة على ذلك:

·      أن الله تعالى حرم الله تعالى الربيبة بشرطين أحدهما أن تكون في حجر المتزوج بأمها والثاني الدخول بالأم كما قال الله تعالى:﴿ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾(النساء:23)، فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم.

·      عن أم حبيبة قالت: يا رسول الله انكح أختي، قال أو تحبين ذلك، قلت: نعم لست لك بمخلية وأحب من شركني في خير أختي قال: فإنها لا تحل لي قلت: فإني أخبرت أنك تخطب درة بنت أبي سلمة، قال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأباها ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن) [80]، والشاهد في هذا الحديث الذي استدل به كلا الفريقين هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها إبنة أخي من الرضاعة) فشرط - صلى الله عليه وسلم - في التحريم الحجر.

·      عن مالك بن أوس قال: كانت عندي امرأة قد ولدت لي، فماتت فوجدت عليها، فلقيت   علي  بن أبي طالب، قال لي: مالك فأخبرته فقال: ألها ابنة، يعني من غيرك قلت: نعم قال: كانت في حجرك قلت:لا هي في الطائف قال: فأنكحها قلت: فأين قوله تعالى ﴿وربائبكم ﴾ قال: إنها لم تكن في حجرك [81].

·      صح عن عمر - رضي الله عنه -  أنه أفتي بذلك من سأله إذ تزوج بنت رجل كانت تحته جدتها، ولم تكن البنت في حجره.

القول الثاني: أن ذلك لا يشترط، فتحرم عليه سواء كانت في حجره أو لم تكن، قال ابن المنذر: وقد أجمع علماء الأمصار على خلاف هذا القول [أي القول السابق]، وقال ابن كثير:(وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف) [82]، ومن الأدلة على ذلك:

·  أن الآية لم تخرج مخرج الشرط , وإنما وصفها بذلك تعريفا لها بغالب حالها , وما خرج مخرج الغالب لا يصح التمسك بمفهومه، قال الطحاوي:(وإضافتهن إلى الحجور إنما ذلك على الأغلب مما يكون عليه الربائب لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك)

·  قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم حبيبة في الحديث السابق:(لا تعرضن علي بناتكن , ولا أخواتكن) [83]

·      أن التربية أو كونها في الحجر لا تأثير لها في التحريم كسائر المحرمات.

·  أن الحديث عن علي - رضي الله عنه -  لا يثبت، لأن راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي، وإبراهيم هذا لا يعرف وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة من حيث قوة الأدلة هو القول الأول الذي يشترط كون الربيبة في الحجر لتسري عليها الحرمة، ويكفي للدلالة على ذلك النص القرآني الصريح، الذي وصف الربائب بكونهن في حجوركم، والقول بأن هذا الوصف خرج مخرج الغالب بعيد لا يتناسب مع البلاغة القرآنية التي تعتمد عند بيان الأحكام الدقة والإيجاز، ولا تطنب إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، فأي فائدة في أن يذكر سرد المحرمات في آية واحدة، ثم يذكر في أثنائها هذا الوصف، ثم لا تكون له أي ثمرة عملية إلا مجرد وصف واقع قد يتخلف، ثم ما الحكمة في هذا الوصف إن جرد عن غاية عملية، أو غاية نظرية؟

وقد ذكر ابن القيم من علل الوصف بذلك (جواز جعلها في حجره، وأنه لا يجب عليه إبعادها عنه ومؤاكلتها والسفر والخلوة بها، فأفاد هذا الوصف عدم الامتناع من ذلك) [84] وعقب على ذلك بقوله:(ولما خفي هذا على بعض أهل الظاهر شرط في تحريم الربيبة أن تكون في حجر الزوج)، وهذا التعليل لا ينسجم مع سائر المحرمات، لأن قوله ﴿ وربائبكم ﴾ من غير تقييد بوصف كاف في الدلالة عل ذلك، لأن المحرمية تكفي وحدها للمؤاكلة والسفر والخلوة، فهل يرى ابن القيم أن سائر المحرمات الا يسري عليهن ما ذكره من آثار كونها في الحجر؟

ومن حيث السنة كذلك صرح الدليل الذي استند إليه الفريقان بهذا الشرط، وهو أقوى حجة لأصحاب القول الأول من القول الثاني، لأن الاستدلال بالإطلاق في  قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تعرضن علي بناتكن , ولا أخواتكن) [85] لا يصح لأن المطلق هنا محمول على المقيد في نفس الحديث، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها إبنة أخي من الرضاعة) فشرط - صلى الله عليه وسلم - في التحريم الحجر.

ومما يقوي هذا الاستدلال من الكتاب والسنة الروايتين الواردتين عن علي وعمر ـ رضي الله عنهما ـ والتي صححها المحققون من المحدثين، قال ابن كثير بعد سرده لما روي عن علي - رضي الله عنه -: (هذا إسناد قوي ثابت إلى على ابن أبي طالب على شرط مسلم)، وقال ابن حجر بعد ذكره لحديث علي - رضي الله عنه -: (وقد دفع بعض المتأخرين هذا الأثر وادعى نفى نبوعه بان إبراهيم بن عبيد  لا يعرف، وهو عجيب، فإن الأثر المذكور عند ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة وإبراهيم ثقة تابعي معروف وأبوه وجده صحابيان والأثر صحيح عن علي) وذكر أن ما روي عن عمر - رضي الله عنه -  صحيح أيضا.

وقد ذكر ابن كثير أن ابن تيمية لما سمع حديث علي استشكله استغرابا، قال ابن كثير: (وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله فاستشكله وتوقف في ذلك) [86]

فهذه أدلة قوية جدا لا يمكن دفعها بما ذكره أصحاب القول الثاني، لولا أنه قول الجمهور وعامة العلماء، وقد كان ذلك صارف ابن حجر عن ترجيحه مع قوة دليله، قال ابن حجر: (ولولا الإجماع الحادث في المسألة وندرة المخالف، لكان الأخذ به أولى، لأن التحريم جاء مشروطا بأمرين، أن تكون في الحجر، وأن يكون الذي يريد التزويج قد دخل بالأم، فلا تحرم بوجود أحد الشرطين) [87]

ولكنا مع ذلك نرى أن هذا الإجماع قد خرق قبل حصوله، ولا يمكن بذلك اعتباره إجماعا ولا اعتبار القول بخلافه شذوذا.

ومع ذلك نرى أولوية القول الثاني  من باب التورع والاحتياط لمن شاء، مع الإفتاء بالقول الأول إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ومن الحاجة ما أفتى به علي - رضي الله عنه -  لذلك الرجل.

أما الحكمة الشرعية التي نراها، والتي على أساسها ذكرنا ترجيحاتنا السابقة المتعلقة بالعلاقة المحرمة في المصاهرة، فهي أن الربيبة إذا لم تكن في الحجر بأن كانت متزوجة مثلا لا يحصل لزوج أمها أي طمع فيها، بل يعتبرها كابنته، فلذلك راعت الشريعة هذا الاعتبار، فحفظت البنت التي في حجر زوج أمها بتحريمها عليه، فلا تحتاج إلى تكلف الاحتجاب، لكونه محرما لها، وهو ما سنراه من الحكمة في رضاعة الكبير، فقد روي أن  أن أم سلمة قالت لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي، فقالت عائشة: أما لك في رسول الله أسوة حسنة؟. قالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله، إن سالما يدخل علي وهو رجل , وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرضعيه حتى يدخل عليك[88].

وفي ذلك أيضا سد للذريعة التي قد تحصل بوجود امرأة في البيت هي الربيبة مع أجنبي وهو زوج أمها من غير أن تكون هناك محرمية بينهما، وكلتا الذريعتين تنتفيان بوجودها في غير بيته، فلذلك راعى النص القرآني والحديث النبوي هذا الاعتبار.

الدخول المعتبر في التحريم:

اختلف العلماء في الدخول المعتبر للتحريم على قولين[89]:

القول الأول: الدخول المعتبر في التحريم هو وطؤها الذي كني  عنه بالدخول , فإن خلا بها ولم يطأها , لم تحرم ابنتها، لأنها غير مدخول بها، وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما، وهو مذهب الحنابلة، وظاهر قول الخرقي تحريمها، وذكر ابن حجر أنه أصح قولي الشافعي، واستدلوا على ذلك بما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه -  من قوله:(الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس الجماع الا أن الله حي كريم يكني بما شاء عما شاء ) [90]

القول الثاني: اعتبار التلذذ ولو من غير وطء، وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة والأوزاعي والليث،وأكثر العلماء، وقد ذكرنا سابقا قول ابن حزم:(أما من تزوج امرأة ولها ابنة أو ملكها ولها ابنة , فإن كانت الابنة في حجره ودخل بالأم مع ذلك وطئ أو لم يطأ , لكن خلا بها بالتلذذ لم تحل له ابنتها أبدا)، وهو يفيد عدم اشتراط الوطء.

وذكر الحنفية أنها تثبت باللمس عن شهوة وبالنظر إلى فرجها عن شهوة، ولا تثبت بالنظر إلى سائر الأعضاء بشهوة ولا بمس سائر الأعضاء إلا عن شهوة بلا خلاف.

وفسروا الشهوة بأن يشتهي بقلبه ويعرف ذلك بإقراره لأنه باطن لا وقوف عليه لغيره.

واختلفوا في تحرك الآلة وانتشارها، هل هو شرط تحقيق الشهوة، فاعتبره البعض شرطا ولم يعتبره آخرون، لأن المس والنظر عن شهوة يتحقق بدون ذلك كالعنين والمجبوب ونحو ذلك، وقال الشافعي: لا تثبت حرمة المصاهرة بالنظر وله في المس قولان.

ونص المالكية على أنه إذا نظر إليها بلذة هو وأبوه حرمت عليهما جميعا، وأنه إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شئ من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وإبنتها، لأنه استمتاع  فجرى مجرى النكاح في التحريم، إذ الأحكام إنما تتعلق بالمعاني لا بالألفاظ، واستدلوا بأن النظر اجتماع ولقاء , وفيه بين المحبين استمتاع،واستشهدوا لذلك بقول الشاعر:

أليس الليل يجمع أم عمرو         وإيانا فذاك بنا تداني

نعم وترى الهلال كما أراه  ويعلوها النهار كما علاني[91]

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار الدخول مقصودا به المباشرة لا مجرد النظر خاصة إذا كان ذلك النظر اختلاسا بخلاف النظر للعورة فإنه يؤثر في التحريم بالشروط المذكورة سابقا، والعلة من ذلك ـ فيما نرى ـ أن كلا من المباشرة والجماع يحققان غاية واحدة هي التلذذ، ولا يزيد الجماع على ذلك إلا باحتمال الحمل، وهو باتفاق الفقهاء غير معتبر.

أما حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ، فليس نصا في المسألة لأنه تكلم عن الكناية القرآنية، ولم يقصد الإفتاء في هذا الأمر، فما قاله صحيح، ولكن ليس على عمومه، بل حتى لو قلنا بتعميم قوله لم يكن ذلك بعيدا، لأن الأدب القرآني يشمل المباشرة كما يشمل الجماع، فكلاهما مما يستحيا من ذكره بالتصريح.

3 ـ زوجات أصوله:

ويشملن زوجة أبيه وزوجات أجداده من جهة الأب أو الأم مهما علت مرتبتهن وُجِد دخول بهن أولا، لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾(النساء:22)، فهذه الآية تحرم زوجات الآباء بعبارتها الصريحة، وزوجات الأجداد باعتبار أن اسم الأب يطلق لغة على الأصل المذكر سواء كان مباشراً أو غير مباشر، فيكون معناها: (ولا تنكحوا ما نكح أصولكم من النساء)،وقد انعقد الإجماع على تحريم زوجات الأجداد.

يقول سيد قطب في بيان الحكمة من هذا التحريم:( يبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات: الأول أن امرأة الأب في مكان الأم. والثاني: ألا يخلف الابن أباه؛ فيصبح في خياله ندا له، وكثيرا ما يكره الزوج زوج امرأته الأول فطرة وطبعا، فيكره أباه ويمقته، والثالث: ألا تكون هناك شبهة الإرث لزوجة الأب. الأمر الذي كان سائدا في الجاهلية، وهو معنى كريه يهبط بإنسانية المرأة والرجل سواء. وهما من نفس واحد، ومهانة أحدهما مهانة للآخر بلا مراء)[92]

4 ـ زوجات فروعه:

ويشمل[93] زوجة ابنه وزوجات أبناء ابنه وأبناء بنته وجد دخول بهذه الزوجات أولا إذا كانت الفروع تفرعت عن صلبه، لقوله تعالى في سياق عداد المحرمات: ﴿ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ﴾(النساء:23)، والحلائل جمع حليلة، وهي الزوجة، وقد سميت امرأة الرجل حليلته، لأنها محل إزار زوجها , وهي محللة له، ولأنها تحل معه في فراش واحد.

وقد أجمع العلماء على أن حرمتها بمجرد العقد، قال الطبري:(ولا خلاف بين جميع أهل العلم أن حليلة ابن الرجل حرام عليه نكاحها بعقد ابنه عليها النكاح، دخل بها، أو لم يدخل بها) [94]، ولفظ الأبناء شامل لكل من تفرع عنه من الذكور فتحرم زوجات الفروع مطلقاً، وحليلة ابن الابن وابن البنت وإن سفل تحرم بالإجماع،وبدلالة اللفظ لأن ابن الابن يسمى ابنا مجازا لا حقيقة.

وذكر الصلب في الآية يحتمل معنيين:

المعنى الأول:أن يكون لبيان الخاصية وإن لم يكن الابن إلا من الصلب لقوله تعالى:﴿ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ (الأنعام:38) وإن كان الطائر لا يطير إلا بجناحيه.

المعنى الثاني: أن يكون لبيان القسمة والتنويع، لأن الابن قد يكون من الصلب، وقد يكون من الرضاع، وقد يكون بالتبني أيضا على ما ذكر في سبب نزول الآية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج امرأة زيد بن حارثة بعد ما طلقها زيد وكان ابنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتبني فعابه المنافقون على ذلك, وقالوا: إنه تزوج بحليلة ابنه فنزل قوله تعالى: ﴿ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ﴾(النساء:23)، وقوله تعالى:﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾(الأحزاب:37)

ومن الحكم التي ذكرها العلماء لتحريم حليلة الابن أن حليلة الابن لو لم تحرم على الأب، فإنه إذا طلقها الابن ربما ندم على ذلك ويريد العود إليها،فإذا تزوجها أبوه أورث ذلك الضغينة بينهما، والضغينة تورث القطيعة , وقطع الرحم حرام فيجب أن يحرم حتى لا يؤدي إلى الحرام.

 

4 ـ المحرمات بالرضاعة

تعريف الرضاع:

لغة: رضع،كسمع وضرب، رضعًا، ويحرك، ورضاعاً ورضاعةً، ويكسران، ورضعاً، ككتف، فهو راضع، والـمُرْضِعة والـمُرْضِعُ التـي معها صبـيٌّ تُرْضِعه، قال: ولو قـيل فـي الأُم مُرْضِع لأَنَّ الرَّضاع  لا  يكون إِلاَّ من الإِناث كما قالوا امرأَة حائض وطامث كان وجهاً[95].

اصطلاحا: من التعاريف التي عرف بها الفقهاء الرضاعة:

1. هو عبارة عن إرضاع مخصوص يتعلق به التحريم [96].

2. مص الرضيع اللبن من ثدي الآدمية في وقت مخصوص[97].

3. وصول لبن آدمي أنثى بمحل [98].

وقد تعقبت هذه التعاريف بأنها غير منضبطة، وسنرى ذلك في مسائل هذا المبحث.

أولا ـ أركان الرضاع المحرم وشروطها  

للرضاع المحرم ثلاثة أركان هي المرضع  والرضيع واللبن[99]، وذكر بعض الشافعية ركنا رابعا هو حصوله في الجوف[100]، وهو ركن حقيقة ولكنه مفهوم ومندرج في الأركان السابقة، ولذلك سنكتفي هنا بالأركان الثلاثة والشروط المتعلقة بها:

الركن الأول: الرضيع

وهو المحل الذي تحققت فيه الرضاعة، ومن الشروط التي ترتبط به:

1 ـ كون الرضيع حيا[101]:

يشترط في الرضيع أن يكون حال الرضاعة حيا حياة مستقرة، فلا أثر لوصول اللبن إلى جوف الميت، ولم يذكر هذا الشرط إلا فقهاء الشافعية، واعتبره غيرهم شرطا لا أثر له، لأن التحريم لا ينتشر إلا إلى فروعه , ولا فروع له، ولكن هذا الشرط يرتب آثارا أخرى عند من يقول بجواز تزويج الصغير، منها أنه لو زوجه وليه بنتا يحرم على صاحب اللبن التزوج بها، لأنها زوجة ابنه من الرضاع , وعلى عدم التأثر يحل له أن يتزوجها , وكذلك إذا كان زوجه المرضعة.

ولا نرى صحة هذا التأثير، لأن رضاعة الميت لا اعتبار لها، وهي كإهدار لبن المرأة، فهذه الأحكام تتعلق بالحي لا بالميت، وسنرى بعض الأدلة على هذا في باقي المسائل.

2 ـ سن الرضيع:

ويتعلق بهذا الشرط المسائل التالية[102]:

رضاعة الكبير:

اتفق الفقهاء على أن ارتضاع الطفل، وهو دون الحولين يؤثر في التحريم، واختلفوا فيما زاد على الحولين على الأقوال التالية:

القول الأول: أن مدة الرضاع المؤثر في التحريم حولان , فلا يحرم بعد الحولين، وهو قول ابن شبرمة , وسفيان الثوري , والشافعي , وأبي يوسف , ومحمد بن الحسن , وأبي سليمان، ورواه ابن وهب عن مالك، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      قوله تعالى:﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾(البقرة:233) ووجه الاستدلال بالآية أن الله تعالى جعل الحولين الكاملين تمام الرضاعة , وليس وراء تمام الرضاعة شيء، ومثله قوله تعالى: ﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾(لقمان:14) وقوله تعالى: ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾(الأحقاف:15) وأقل الحمل ستة أشهر، فتبقى مدة الفصال حولين.

·      قوله - صلى الله عليه وسلم -:(لا رضاع إلا ما كان في الحولين) [103]

·  قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام) [104]، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي  - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئا[105].

·      قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يتم بعد حلم، ولا رضاع بعد فصال) [106].

·  أن ما روي أن سهلة بنت سهيل قالت: يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة) [107]. فيحتمل أن يكون ذلك خاصا لسالم كما تأوله سائر نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد روى عبد الله بن زمعة أن أمه زينب بنت أبي سلمة أخبرته أن أمها أم سلمة زوج النبي  - صلى الله عليه وسلم -   كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي  - صلى الله عليه وسلم - أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة، ولا رائينا[108].

·  قال الشافعي بعد نقله لحديث سالم:(وهذا ـ والله تعالى أعلم ـ في سالم مولى أبي حذيفة خاصة، وإذا كان هذا لسالم خاصة، فالخاص لا يكون إلا مخرجا من حكم العام، وإذا كان مخرجا من حكم العام، ولا يجوز في العام إلا أن يكون رضاع الكبير لا  يحرم ولا بد إذا اختلف الرضاع في الصغير والكبير من طلب الدلالة على الوقت الذي إذا صار إليه المرضع فأرضع لم يحرم، والدلالة على الفرق بين الصغير والكبير ما في كتاب الله تعالى:﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾(البقرة:233) فجعل الله عز وجل تمام الرضاع حولين كاملين) [109]، وقد ذكر ابن القيم الوجوه التي قدمت بها سائر أحاديث الرضاعة على هذا الحديث، ومنها: كثرتها وانفراد حديث سالم، وأن جميع ازواج النبي  - صلى الله عليه وسلم -  خلا عائشة رضى الله عنهن في شق المنع، وأنه أحوط، وأن  رضاع الكبير لا ينبت لحما ولا ينشر عظما فلا تحصل به البعضية التي هي سبب التحريم، وأنه يحتمل أن يكون مختصا بسالم وحده، ولهذا لم يجئ ذلك إلا في قصته[110].

·  أن عائشة نفسها، والتي استدل بها المخالفون، روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن رضاع الكبير لا يحرم، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها رجل فقالت: يا رسول الله، إنه أخي من الرضاعة , فقال - صلى الله عليه وسلم -: (انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة). فهذا يوجب أن يكون حكم الرضاع مقصورا على حال الصغر، وهي الحال التي يسد اللبن فيها جوعته ويكتفي في غذائه به.

·  أن ذلك قول السلف الصالح - رضي الله عنهم -  فقد روي عن عن علي وابن عباس وعبد الله وأم سلمة وجابر بن عبد الله وابن عمر - رضي الله عنهم -  أن رضاع الكبير لا يحرم، وعن أبي عطية قال: قدم رجل بامرأته من المدينة , فوضعت فتورم ثديها , فجعل يمجه ويصبه , فدخل في بطنه جرعة منه , فسأل أبا موسى فقال: (بانت منك)، فأتى ابن مسعود فأخبره ففصل , فأقبل بالأعرابي إلى الأشعري فقال: (أرضيعا ترى هذا الأشمط، إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم)، فقال الأشعري: (لا تسألوني عن شيء، وهذا الحبر بين أظهركم) [111]

القول الثاني: الزيادة اليسيرة على الحولين، وقد اختلف في مقدارها على مذهبين:

رأي المالكية[112]: أجاز المالكية زيادة شهر أو شهرين بشرط ألا يفطم قبل انتهاء الحولين فطاما يستغني فيه بالطعام عن اللبن , فإن فطم واستغنى بالطعام عن اللبن ثم رضع في الحولين فلا يحرم.

رأي الحنفية[113]: أن مدة الرضاع المحرم حولان ونصف ولا يحرم بعد هذه المدة , سواء أفطم في أثناء المدة أم لم يفطم، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾ أي: ومدة كل منهما ثلاثون شهرا.

وقال زفر بن الهذيل: ما دام يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع , وإن أتى عليه ثلاث سنين.

القول الثالث[114]: إن إرضاع الكبير تنتشر به الحرمة في حق الدخول والخلوة إذا كان قد تربى في البيت بحيث لا يحتشمون منه للحاجة , وهو مذهب عائشة وعطاء والليث، وابن حزم، يقول ابن حزم:(ورضاع الكبير محرم، ولو أنه شيخ يحرم، كما يحرم رضاع الصغير ولا فرق) [115]، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن الله تعالى أمر الوالدات بإرضاع المولود عامين , وليس في هذا تحريم الرضاعة بعد ذلك، ولا أن التحريم ينقطع بتمام الحولين.

·  أنه ورد في السنة ما يدل على تأثير هذه الرضاعة، فعن زينب بنت أبي سلمة قالت: سمعت أم سلمة زوج النبي  - صلى الله عليه وسلم - تقول لعائشة: والله ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغني عن الرضاعة، فقالت: لم؟ قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله  - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، والله إني لأري في وجه أبي حذيفة من دخول سالم، فقال رسول الله  - صلى الله عليه وسلم -: أرضعيه فقالت: إنه ذو لحية، فقال: أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة، فقالت والله ما عرفته في وجه أبي حذيفة بعد[116].

·  أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الرضاعة من المجاعة) [117] حجة لنا فيه، لأن للكبير من الرضاعة في طرد المجاعة نحو ما للصغير , فهو عموم لكل رضاع إذا بلغ خمس رضعات كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 

·  أن عائشة، رضي الله عنها، مع روايتها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الرضاعة من المجاعة) لكنها رأت الفرق بين أن يقصد رضاعة أو تغذية، فمتى كان المقصود الثاني لم يحرم إلا ما كان قبل الفطام , وهذا هو إرضاع عامة الناس، وأما الأول فيجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم، وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها.

·  أنه ليس في امتناع سائر أمهات المؤمنين من أن يدخل عليهن بهذه الرضاعة شيء ينكر، لأنه يباح لهن أن لا يدخل عليهن من يحل له الدخول عليهن.

·  أن هذا قول بعض الصحابة - رضي الله عنهم -  فقد سأل رجل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -  فقال: إني أردت أن أتزوج امرأة، وقد سقتني من لبنها وأنا كبير تداويت به؟ فقال له علي: لا تنكحها ونهاه عنها، وسأل عطاء بن أبي رباح رجل فقال:  سقتني امرأة من لبنها بعد ما كنت رجلا كبيرا أفأنكحها؟ قال عطاء: لا , قال ابن جريج فقلت له: وذلك رأيك؟ قال: نعم , كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو صحة القول باعتبار رضاع الكبير إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لأن الحديث صحيح من كل الوجوه ثبوتا ودلالة، ولا دليل مما ذكره المخالفون يرفعه، فمن حيث الثبوت قال الشوكاني: (قد قال بعض أهل العلم إن هذه السنة بلغت طرقها نصاب التواتر، وقد استدل بذلك من قال إن إرضاع الكبير يثبت به التحريم) [118]، وقد ذكر من الأسانيد ما يثبت هذه الدعوى.

أما القول باختصاص ذلك بسالم، فلا دليل عليه، ولا تخصيص بدون مخصص، ولو كان ذلك خاصا بسالم لعلمته عائشة، رضي الله عنها، وهي من هي قربا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وامتناع سائر نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على هذا الاختصاص، قال الشوكاني: (ولا حجة في إبائهن لها كما أنه لا حجة في أقوالهن، ولهذا سكتت أم سلمة لما قالت لها عائشة: أما لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  أسوة حسنة، ولو كانت هذه السنة مختصة بسالم لبينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما بين اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذع من المعز، واختصاص خزيمة بأن شهادته كشهادة رجلين) [119] 

وليس في الآية التي استدلوا بها، والتي اعتبرت مدة الرضاعة بحولين، وكما استدل به الشافعي أي دليل على هذا الأمر، لأنها لم تسق لبيان التحريم بالرضاعة.

أما حديث سالم فلا يعارض بالأحاديث الأخرى،كما ذكر ابن القيم، لأنا قد رأينا ضعف الأحاديث التي تحدد الرضاعة بالحولين، أما سائر الأحاديث فيمكن الجمع بينها وبين حديث سالم، والدليل على ذلك أن عائشة، رضي الله عنها، مع قولها بتأثير رضاعة الكبير روت تلك الأحاديث، قال ابن تيمية:(وهذا الحديث أخذت به عائشة وأبى غيرها من أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم -  أن يأخذ به، مع أن عائشة روت عنه: الرضاعة من المجاعة، لكنها رأت الفرق بين أن يقصد رضاعة أو تغذية، فمتى كان المقصود الثانى لم يحرم إلا ما كان قبل الفطام، وهذا هو إرضاع عامة الناس، وأما الأول فيجوز ان احتيج إلى جعله ذا محرم، وقد يجوز للحاجة مالا يجوز لغيرها) [120]،ثم عقب ابن تيمية على ذلك بقوله: (وهذا قول متوجه )

وبهذا يمكن الجمع بين الآثار الواردة عن الصحابة - رضي الله عنهم -  بالتفريق بين رضاعة الكبير ورضاعة الصغير، واعتبار القصد في رضاعة الكبير بخلاف رضاعة الصغير، فلهذا لا تحرم رضاعة الزوج لزوجته كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -  لأنه لم يقصد منها التحريم، وبهذ تندفع كل الشبه التي أوردها من لا يقول برضاعة الكير، قال الشوكاني:(الحق ما  قدمنا من أن قضية سالم مختص بمن حصل له ضرورة بالحجاب لكثرة الملابسة، فتكون هذه الأحاديث مخصصة بذلك النوع، فتجتمع حينئذ الأحاديث ويندفع التعسف من   الجانبين) [121]

والذي دعا إلى ترجيح هذا القول إيماننا أن أغلب أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقواله يراد بها التشريع، ولا تراد بها الخصوصية إلا في أضيق أحوالها، لأن فتح باب القول بالتخصيص يفتح مجالا من رد سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن غلقه، ثم لماذا يخص سالم من دون الناس بهذا الحكم التشريعي مع أن المشكلة التي واجهها سالم قد يواجهها غيره؟ ألا تسع رحمة الشريعة في هذا المجال غير سالم كما وسعت سالما؟

ولهذا نرى جواز الأخذ بهذه الرخصة إذا دعت الحاجة إليها بضوابطها الشرعية المقررة في غير هذا المجال.

أما الأقوال الأخرى والتي وقفت وسطا بين القول الأول والثاني، فهي اجتهادات محضة أفرزها عموما أعراف المناطق المختلفة، ولا دليل نصي يعضدها، قال الجصاص:(لما كانت أحوال الصبيان تختلف في الحاجة إلى الرضاع , فمنهم من يستغني عنه قبل الحولين ومنهم من لا يستغني عنه بعد كمال الحولين , واتفق الجميع على نفي الرضاع للكبير وثبوت الرضاع للصغير على ما قدمنا من الرواية فيه عن السلف , ولم يكن الحولان حدا للصغير إذ لا يمتنع أحد أن يسميه صغيرا وإن أتى عليه حولان  علمنا أن الحولين ليس بتوقيت لمدة الرضاع ; ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قال: (الرضاعة من المجاعة) وقال (الرضاعة ما أنبت اللحم وأنشز العظم) فقد اعتبر معنى تختلف فيه أحوال الصغار وإن كان الأغلب أنهم قد يستغنون عنه بمضي الحولين؟ فسقط اعتبار الحولين في ذلك. ثم مقدار الزيادة عليهما طريقه الاجتهاد ; لأنه تحديد بين الحال التي يكتفي فيها باللبن في غذائه وينبت عليه لحمه , وبين الانتقال إلى الحال التي يكتفي فيها بالطعام ويستغني عن اللبن) [122]

رضاعة المفطوم:

اختلف الفقهاء في اعتبار رضاعة من فطم قبل الحولين على قولين:

القول الأول: أن مدة الحولين مدة الرضاع إذا توالى فيها الرضاع واتصل , ولو فطمته أمه فاستغنى بالطعام , ثم أرضعته بعد ذلك امرأة في الحولين لم يحرم ذلك الرضاع، وإنما يكون ذلك إذا فصل بين الرضاع الأول والثاني فطام كامل باستغنائه عن الرضاع بما انتقل إليه من الطعام فأما فطام يوم أو يومين فإنه ينشر الحرمة، وبه قال الأوزاعي وابن القاسم وأصبغ.

وقال الأوزاعي: إذا فطم لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع , ولو أرضع ثلاث سنين لم يفطم لم يكن رضاعا بعد الحولين.

وروى الحسن عن أبي حنيفة قال: (هذا إذا لم يتعود الصبي الطعام حتى لا يكتفي به بعد هذا الفطام , فأما إذا صار بحيث يكتفي بالطعام لا تثبت الحرمة برضاعه بعد ذلك لأنه بعد ما صار بحيث يكتفي بالطعام فاللبن بعده لا يغذيه, فلا يحصل به معنى البعضية) [123], واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن الحولين مدة لنهاية الرضاع وإكماله كما قال الله تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾(البقرة:233)، فعلق ذلك بإرادة الإتمام , ولو لم يصح فطام قبل ذلك لما علق ذلك بإرادة من يريد إتمام الرضاعة.

·  قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام) [124]

·      قوله - صلى الله عليه وسلم -:(لا رضاع بعد فصال) [125]،وذلك يوجب أنه إذا فصل بعد الحولين أن ينقطع حكمه بعد ذلك.

·  أن ما روي عن السلف - رضي الله عنهم -  من نصوص تدل على ذلك، فقد روي عن علي - رضي الله عنه -: (لا رضاع بعد فصال)، وعن أم سلمة، رضي الله عنها، أنها قالت: (إنما يحرم من الرضاع ما كان في الثدي قبل الفطام) , وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان في الثدي قبل الفطام)، فعلق الحكم بما كان قبل الفطام وبما فتق الأمعاء , وهو نحو ما روي عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: (إنما يحرم من الرضاعة ما  أنبت اللحم والدم)، وعن أبي عطية الوادعي أن رجلا مص من ثدي امرأته فدخل اللبن في حلقه فسأل أبا موسى الأشعري عن ذلك؟ فقال له أبو موسى: حرمت عليك امرأتك , ثم سأل ابن مسعود عن ذلك , قال أبو عطية - ونحن عنده -: فقام ابن مسعود وقمنا معه حتى أتى أبا موسى الأشعري فقال: أرضيعا ترى هذا؟ إنما الرضاع ما أنبت اللحم والعظم؟ فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم، فهذا كله يدل على أنه لم يكن من مذهبهم اعتبار الحولين[126].

القول الثاني: أنه لا يعتبر الفطام إذا تم الرضاع في المدة المحددة،وهو قول جمهور العلماء، وقال به من المالكية مطرف وابن الماجشون، واستدلوا على ذلك بأن للحولين اختصاصا بالرضاع فإذا وجد فيها حرم كما لو اتصل.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، وهو تقييد الحرمة باستمرار الرضاعة لمدة حولين ما لم يحصل فطام في أثناء الحولين، فإن حصل الفطام فإن ما سبق من الأدلة يدل على عدم التحريم.

ولا يتناقض هذا مع ما ذكرنا سابقا من تأثير إرضاع الكبير في التحريم، لأن إرضاع الكبير للتحريم رخصة محلها الحاجة الداعية لذلك، ووجود الاستثناء في الرخصة لا يلغي العزيمة، بل نرى أن الرخصة هنا هي عدم التحريم، لأن الحاجة قد تدعو إلى الزواج بمثل هذه المرأة، فتكون رخصة في حقه، والأصل في المحرمات كما دلت النصوص هو التوقيف إلا ما دل عليه الدليل.

والدليل على عدم التناقض أن الصحابة - رضي الله عنهم -  القائلين بانتشار الحرمة برضاع الكبير يقولون بهذا القول، ويستحيل عليهم التناقض في مثل هذا.

الركن الثاني: لبن الرضاع

حكم اللبن المختلط:

يختلف حكم اللبن المختلط بغيره بحسب كمية المختلط والمادة المختلط بها على الاعتبارين التاليين[127]:

الاعتبار الأول:كمية الاختلاط:

اللبن المختلط بمائع لم يغلب عليه: اتفق الفقهاء على أن اللبن المشوب بمائع لم يغلب عليه، بأن كان اللبن غالبا بحيث بقيت صفاته، مؤثر في الحرمة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المخالط نجسا كالخمر وأن يكون طاهرا كالماء ولبن الشاة.

اللبن المختلط بما يغلب عليه:اختلف الفقهاء إذا كان اللبن مشوبا بما غلب عليه على قولين:

القول الأول: أن اللبن المغلوب لا يؤثر في التحريم، وهو مذهب الحنفية والمالكية، وقد اعتبر الحنفية الغلبة بأمرين:

·      بالأجزاء إذا خلط لبن المرأة بلبن الحيوان أو بالماء.

·      بتغير اللون والطعم إذا خلط بالدواء ونحوه.

·      واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أن اسم اللبن يزول بغلبة غيره عليه.

·  أن اللبن المغلوب متى كان لونه ظاهرا فقد حصل شربه ويحصل منه إنبات اللحم وإنشاز العظم فحرم , كما لو كان غالبا , وهذا فيما إذا كانت صفات اللبن باقية، فأما إن صب في ماء كثير لم يتغير به لم يثبت به التحريم ; لأن هذا ليس بلبن مشوب ولا يحصل به التغذي ولا إنبات اللحم ولا إنشاز العظم فليس برضاع ولا في معناه , فوجب أن لا يثبت حكمه فيه.

·  أن الشرع علق الحرمة في باب الرضاع بمعنى التغذي على ما نطقت به الأحاديث، واللبن المغلوب بالماء لا يغذي الصبي لزوال قوته، فإنه لا يقع الاكتفاء به في تغذية الصبي فلم يكن محرما.

القول الثاني: أنه يثبت التحريم، وهو مذهب الشافعية والحنابلة:

قال الشافعية: يحرم وإن كان اللبن مغلوبا , بأن لم يبق من صفاته شيء , بشرط أن يشرب الطفل الجميع أو يشرب بعضه , إذا تحقق أن اللبن قد وصل إلى الجوف بأن بقي منه أقل من قدر اللبن , وأن يكون اللبن مقدارا لو انفرد لأثر.

وقال الحنابلة: اللبن المشوب كالمحض في إثبات التحريم به على المذهب , والمشوب هو المختلط بغيره , والمحض هو الخالص الذي لا يخالطه سواه , سواء شيب بطعام أو شراب أو غيره , وسواء أكان غالبا أو مغلوبا , لأن أجزاء اللبن حصلت في بطنه فأشبه ما لو كان لونه ظاهرا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول بعدم التحريم، لأن التغذية مع كونها تتحقق باختلاط اللبن بالمائع أو عدم اختلاطه، فالمواد المختلطة به لا تزيل عنه التغذية، ومع ذلك لا يتحقق عنصران هامان سنتحدث عنها في هذا المبحث، وهما: أن هذه الرضعة لا تعتبر من الرضعات المشبعات التي يتم بها التحريم، بل الإشباع الذي تم هنا هو بالمواد التي اختلطت باللبن بالإضافة إلى اللبن نفسه، والثاني أن هذا الرضيع شرب اللبن، ولم يرضعه، وسنتحدث عن دلائل هذين المعنيين في محلهما من هذا المبحث.

الاعتبار الثاني: اختلاط اللبن بغيره من المواد

اختلاط اللبن بطعام:

اختلف الفقهاء في اللبن المخلوط بطعام على قولين:

القول الأول: أن التحريم يثبت به لوصول عين اللبن إلى جوف الطفل , وحصول التغذية به، وهو مذهب الجمهور.

القول الثاني: لا تأثير للبن المخلوط بطعام ولا المتغير هيئته , ولا ما مسته النار لأن اسم الرضاع لا يقع عليه، وهو مذهب الحنفية وقول عند المالكية، وفيما يلي تفصيل آرائهم في ذلك:

مذهب الحنفية:اختلف الحنفية فيما لو كان اللبن هو الغالب على رأيين[128]:

الرأي الأول: لا تثبت به الحرمة، وهو رأي أبي حنيفة لأن إلقاء الطعام في اللبن يغيره فهو يرق به، وربما يتغير به لونه فيصير بمنزلة ما لو غيرته النار.

الرأي الثاني: تثبت به الحرمة، وهو رأي أبي يوسف ومحمد لأن الحكم للغالب , والغالب هو اللبن ولم يغيره شيء عن حاله.

مذهب المالكية: سئل ابن القاسم عن لبن صنع فيه طعام حتى غاب اللبن في الطعام فكان الطعام الغالب واللبن لبن امرأة ثم طبخ على النار حتى عصد وغاب اللبن أو صب في اللبن ماء حتى غاب اللبن وصار الماء الغالب أو جعل في دواء فغاب اللبن في ذلك الدواء فأطعم الصبي ذلك كله أو أسقيه، فأجاب: لا أحفظ عن مالك فيه شيئا، وأرى أن لا يحرم هذا لأن اللبن قد ذهب وليس في الذي أكل أو شرب لبن يكون به عيش الصبي ولا أراه يحرم شيئا[129].

وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون أنه يحرم إذا كان الطعام أو الشراب الغالب , وروى عنه القاضي أبو محمد هذه الرواية فقال يحرم وإن كان اللبن مستهلكا[130].

واستدلوا على ذلك بما يلي: 

·  إن كانت النار قد مست اللبن وأنضجت الطعام حتى تغير , فليس ذلك برضاع لأن النار غيرته فانعدم بها معنى التغذي باللبن , وإنبات اللحم , وإنشاز العظم.

·      إن كانت النار لم تمسه والطعام هو الغالب لا تثبت به الحرمة لأن المغلوب في حكم المستهلك.

·      أن الطعام أكل والموجب للحرمة شرب اللبن دون الأكل.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، للعلل التالية:

العلة الأولى هي أن اسم اللبن لا ينطبق على الطعام الذي صنع منه ذلك اللبن، وبالتالي لا يعتبر من أكله رضيعا، والأصل في الأسماء الشرعية تحقق مسمياتها، خاصة في الأمور غير معقوله المعنى، فإن غابت الأسماء غابت معها الأحكام.

والعلة الثانية، أن طبخ اللبن بالنار يغير بعض محتوياته، وهذا مما لا خلاف فيه علميا، فبعض الفيتامينات تحرق، وبعض المواد تحلل، فلا يبقى من حيث مكوناته نفس اللبن الذي خرج من الأم.

والعلة الثالثة، وهي أهم العلل أن هذه الرضعة لا يتحقق بها الإشباع باللبن، بل الإشباع يكون بالطعام الذي يحتوي على ذلك اللبن، فلذلك لا تحرم، لأن الحديث الذي نص على قيود الرضاعة المحرمة اشترط كونها مشبعة، وسنرى بعض تفاصيل ذلك فيما يأتي.

اختلاط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى:

اتفق أكثر الفقهاء على أنه يثبت التحريم من المرأتين إذا تساوى لبنهما[131]،أما إذا غلب لبن إحداهما على الأخرى، فاختلفوا في ذلك على قولين:

القول الأول: تثبت الحرمة منهما جميعا، وهو قول الجمهور ورواية عن أبي حنيفة، وهو قول محمد بن الحسن وزفر، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أن الشيء يكثر بجنسه , ولا يصير مستهلكا به.

·  أن ذلك يعتبر كأنه ارتضع من كل واحدة منهن لأنه لو شيب بماء أو عسل , لم يخرج عن كونه رضاعا محرما , فمثله ما لو شيب بلبن آخر[132].

القول الثاني: تثبت به الحرمة بينه وبين من يكون لبنها غالبا، وهو قول أبي يوسف، لأن المغلوب لا يظهر حكمه في مقابلة الغالب.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن اختلاط لبن امرأتين يجعل من الرضيع راضعا لكل واحدة منهما رضعة غير مشبعة، وبالتالي لا تدخل تلك الرضعة في الرضعات المحرمة، كما سنرى.

حكم بنوك الحليب وتأثيرها في الحرمة:

وهي من القضايا المعاصرة، حيث يقوم البنك بجمع لبن الاَمّهات عن طريق التبرع أو البيع ثمّ تبريده وحفظه في ثلاجات بضعة أشهر، أو تجفيفه وإعطاءه للأطفال المحتاجين للرضاعة الطبيعية، وقد اختلف فيها الفقهاء بناء على أقوالهم في اشتراط الرضاعة بمص الثدي على قولين:

القول الأول: أن هذه الرضاعة لا تحرم ولو فرض أنهما شربا من لبن امرأة واحدة، لأن المحرم هو ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفيه فقط، أما من سقي لبن امرأة فشربه من إناء , أو حلب في فمه فبلعه أو أطعمه بخبز أو في طعام، أو صب في فمه , أو في أنفه , أو في أذنه , أو حقن به لا يحرم كل ذلك شيئا , ولو كان ذلك غذاءه دهره كله، وهو مذهب الظاهرية، وقول الليث بن سعد وهو المشهور عند الاِمامية[133]، وسنذكر هنا بعض ما استدل به الإمامية المعاصرون، ونذكر أدلة ابن حزم في محلها من هذا المبحث، فقد استدل الإمامية على ذلك بما يلي:

·  عدم صدق مفهوم الرضاع والارضاع والارتضاع بالوجور ومن الكأس، ولذا لا يصدق على من شرب لبن البقر من الكوب مثلاً أنه ارتضع من البقر، يقول صاحب الجواهر: (بل لا يبعد أنْ يكون في حكم وجور الحليب الوجور من الثدي، فإنّ المعتبر هو ما كان بالتقامه الثدي وامتصاصه، بل قد يشكّ في جريان حكمه بالامتصاص من غير رأس الثدي فضلاً عن الامتصاص من غير الثدي كثقب ونحوه، بل وفي جذب الصبي اللبن من الثدي بغير الفم) [134]

·  ما روي عن الحسين - رضي الله عنه -  قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين، فقال: إنّ إمرأتي حلبت من لبنها في مكوك ـ أي طاس يشرب به ـ فاسقته جاريتي، فقال: أوجع امرأتك وعليك بجاريتك، وهو هكذا في قضاء علي- رضي الله عنه - [135].    

·  أنّه لو كانت العلّة هي انشاز العظم وانبات اللحم بأي شيءٍ كان لوجب أنّ نقول اليوم بأن نقل دم امرأة إلى طفل يحرمها عليه ويجعلها أُمّه، لأن التغذي بالدم في العروق أسرع وأقوى تأثيراً من اللبن.               

القول الثاني: التحريم، وهو القول الذي اتفق عليه أعضاء مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406هـ/22 – 28 ديسمبر 1985م، بعد أن عرض على المجمع دراسة فقهية، ودراسة طبية حول بنوك الحليب، وقد قرر المجلس منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي، وسريان حرمة الرضاع منها، وقد استند في هذين القرارين على المعطيات الثلاثة التالية:

·  أن بنوك الحليب تجربة قامت بها الأمم الغربية، ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية والعلمية فيها فانكمشت وقل الاهتمام بها.

·  أن الإسلام يعتبر الرضاع لُحمة كلحمة النسب، يحرم به ما يحرم من النسب بإجماع المسلمين، ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط أو الريبة.

·  أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج – إلقاء المرأة ولدها قبل أوانه لغير تمام الأيام، وإن كان تام الخلق – أو ناقصي الوزن أو المحتاج إلى اللبن البشري في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما رآه أصحاب القول الثاني من منع تكوين هذا النوع من البنوك في الحالة العادية لعدم الحاجة إلى ذلك، ولكن إذا اقتضت الضرورة ذلك، بأن احتاجت مستشفيات الأطفال مثلا إلى لبن المرأة، للضرورة الصحية، فإن تمكنت النساء من الذهاب إلى إرضاع الطفل، في محل علاجه، فهو أفضل، ويستحسن في هذه الحالة أن لا يصل إرضاع كل امرأة لكل طفل خمس رضعات حتى لا تتحقق المحرمية.

فإن لم تتمكن من الذهاب، فإنه يمكن اللجوء إلى تكوين هذه البنوك، ويمكن للقائمين عليها تفادي حصول المحرمية، وذلك بمراعاة القيود التي وضعها الفقهاء، كما أنه يمكن ـ من باب الضرورة ـ  الأخذ بالقول الأول الذي يشترط في الرضاعة مص الثدي، وهو قول له مبرراته الشرعية المعتبرة، وسنرى المزيد منها في هذا المبحث.

أما رد ذلك بحجة أن هذه البنوك قد يكون المقصد منها الربح، فلا حرج في ذلك إذا تحققت بها مصالح الناس، وقد ذكر ابن القيم ـ بحسه الفقهي ـ كلاما يقرب للمقصود من هذه البنوك المعاصرة، فقال:(إن الذين منعوا هذه الإجارة لما رأوا إجارة الظئر ثابتة بالإجماع والمقصود بالعقد إنما هو اللبن، وهو عين تمحلوا لجوازها أمرا يعلمون والمرضعة والمستأجر بطلانه، فقالوا: العقد إنما وقع على وضعها الطفل في حجرها ثديها فقط، واللبن يدخل تبعا، والله يعلم والعقلاء قاطبة أن الأمر ليس كذلك، وضع الطفل في حجرها ليس مقصودا أصلا، ولا ورد عليه عقد الإجارة لا عرفا ولا ولا شرعا، ولو أرضعت الطفل وهو في حجر غيرها أو في مهده لاستحقت الأجرة، ولو كان المقصود إلقام الثدي المجرد لاستؤجر له كل امرأة لها ثدي ولو لم يكن لها لبن، وهو القياس الفاسد حقا والفقه البارد، فكيف يقال: إن إجارة الظئر على خلاف ويدعى أن هذا هو القياس الصحيح) [136]، فقوله:(ولو أرضعت الطفل وهو في حجر غيرها أو في مهده لاستحقت الأجرة) وصف دقيق لم يجري به العمل في هذه البنوك، وهو دليل على صحة تحريم ذلك، ولكنه يبقى مع ذلك خلافا للأولى إن لم تمس الحاجة إليه.

ونحن لا نوافق رأي المجمع الفقهي بما يحدث في المجتمعات الإسلامية من تعاون، فإن ذلك ليس عاما من جهة، ثم إن الحاجة قد تختلف من منطقة إلى أخرى، فيكون التعاون بين المناطق جميعا عن طريق هذه البنوك، مثلما يحصل مع بنوك الدم.

صفة الرضاع المحرم:

اختلف الفقهاء في صفة الرضاع المحرم على قولين[137]:

القول الأول: أن المحرم هو ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفيه فقط، أما من سقي لبن امرأة فشربه من إناء , أو حلب في فمه فبلعه أو أطعمه بخبز أو في طعام، أو صب في فمه , أو في أنفه , أو في أذنه , أو حقن به لا يحرم كل ذلك شيئا , ولو كان ذلك غذاءه دهره كله، وهو مذهب الظاهرية، والإمامية، وقول الليث بن سعد،  واستدلوا على ذلك بما يلي:

4. أنه لا يسمى إرضاعا إلا ما وضعته المرأة المرضعة من ثديها في فم الرضيع، يقال: أرضعته ترضعه إرضاعا، ولا يسمى رضاعة ولا إرضاعا إلا أخذ المرضع  أو الرضيع بفيه الثدي وامتصاصه إياه، وأما كل ما عدا ذلك مما ذكرنا فلا يسمى إرضاعا , ولا رضاعة ولا  رضاعا , إنما هو حلب وطعام وسقاء , وشرب وأكل وبلع, وحقنة وسعوط وتقطير، ولم ترد بذلك النصوص الشرعية.

·  أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما حرم بالرضاعة التي تقابل بها المجاعة ولم يحرم بغيرها شيئا، فلا يقع تحريم بما قوبلت به المجاعة من أكل أو شرب أو وجور أو غير ذلك , إلا أن يكون رضاعة

·  أنه لا يصح القياس في هذه المسألة، وإلا كان الرضاع من الشاة إرضاعا محرما لشبهه بالرضاع من امرأة  لأنهما جميعا رضاع، والمخالفون لا يحرمون بغير النساء.

القول الثاني:أن السعوط واللدود والوجور[138]تحرم كتحريم الرضاع، وهو مذهب أبي حنيفة  ومالك , والشافعي،وقول الشعبي، ونص الحنفية على أن أن اللبن وإن تنجس بنجس وقع فيه يؤثر في التحريم لأنه غذاء يحصل به إنبات اللحم وانتشار العظم[139].

وقد اختلف أصحاب هذا القول في الحقنة على الرأيين التاليين[140]:

الرأي الأول: أنها لا تنشر الحرمة،وهو مذهب أبي حنيفة , ومالك، والمنصوص عن أحمد، واستدلوا على ذلك بأنه ليس برضاع  ولا في معناه , فلم يجز إثبات حكمه فيه , ويفارق ذلك فطر الصائم , فإنه لا يعتبر فيه إنبات اللحم , ولا إنشاز العظم , وهذا لا يحرم فيه إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم، ولأنه وصل اللبن إلى الباطن من غير الحلق , أشبه ما لو وصل من جرح.

الرأي الثاني: أنها تحرم،وهو مذهب الشافعي، لأنه سبيل يحصل بالواصل منه الفطر, فتعلق به التحريم كالرضاع.

وقد استدل أصحاب هذا القول على ذلك بما يلي:

·      أن هذه السبل توصل إلى المعدة فلذلك أثرت في التحريم.

·  جعله - صلى الله عليه وسلم - الرضاعة المحرمة ما استعمل لطرد الجوع، وذلك موجودا في السقي والأكل.

·  القياس على فساد الصوم بوصول أي شيء إلى الجوف من أي منفذ، ولهذا نص الحنفية على التحريم إن وصل اللبن إلى جوفه من الجانب الأعلى لا من الجانب الأسفل، واستدل ابن القاسم من المالكية على تأثير ما لو حقن بلبن فوصل إلى جوفه حتى يكون له غذاء بقول مالك في  الصائم يحتقن: إن عليه القضاء إذا وصل ذلك إلى جوفه. [141]

·  أن سالم بن أبي الجعد مولى الأشجعي حدثه أن أباه أخبره أنه سأل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -  فقال: إني  أردت أن أتزوج امرأة وقد سقتني من لبنها وأنا كبير تداويت به؟ فقال له علي: لا تنكحها ونهاه عنها، وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -  يقول: إن سقته امرأته من لبن سريته , أو سقته سريته من لبن امرأته لتحرمها عليه فلا يحرمها ذلك[142].

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لأن اسم الرضاعة الشرعية لا يتحقق إلا بمص الثدي، أما شرب اللبن من غير ثدي، فإنه لا يتحقق به أهم عنصر في الرضاعة، وهو عملية المص، وقد نص العلماء على تأثيرها النفسي الكبير على الطفل، ولا يبعد أن يعتبر الشرع ذلك في تأثيره في المحرمية.

ولو كان الأمر متعلقا بحصول التغذية وحدها أو تمثيل الغذاء في الجسم لكان نقل الدم إلى الصغير مؤثرا في حصول المحرمية، ولم يقل بذلك أحد.

أما الاستدلال بإفطار الصائم بنفوذ الغذاء إلى الجوف من غير الفم، فهي مسألة خلافية، ومع ذلك لا يصح الاستدلال بها أوالقياس عليها لوجود الفارق، فليس هناك ما يجمع بين الصيام الذي هو قربة وله شروطه الخاصة، وبين هذا النوع من الإرضاع الذي قد يكون مكروها لتأديته إلى إيقاع محرمية بين الناس قد تسبب بعد ذلك حرجا لهم.

ولا يتناقض هذا الترجيح مع ما ذكرنا سابقا من حصول المحرمية برضاعة الكبير، لأن لرضاعة الكبير شروطها الخاصة التي تختلف عن سائر الشروط.

مقدار الإرضاع:

اختلف الفقهاء في مقدار الرضاعة المحرمة على الأقوال التالية[143]:

القول الأول: إن قليل الرضاع وكثيره يثبت الحرمة، وروي هذا القول عن علي , وابن عباس , وبه قال سعيد بن المسيب , والحسن , ومكحول , والزهري , وقتادة , والحكم , وحماد , , والأوزاعي , والثوري , والليث، وإليه ذهب الحنفية والمالكية وأحمد في رواية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن قوله تعالى:﴿ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ ﴾(النساء:23) وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يحرم بالرضاعة ما يحرم بالنسب)، قد ورد الرضاع فيهما مطلقاً، والأصل في المطلق أن يحمل على إطلاقه حتى يثبت ما يقيده، ولم يثبت عندهم هذا التقييد.

·  عن عقبة بن الحارث - رضي الله عنه -  قال: تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء فقالت: أرضعتكما فأتيت النبي  - صلى الله عليه وسلم - فقلت: تزوجت فلانة بنت فلان، فجاءتنا امرأة سوداء  فقالت لي: إني قد أرضعتكما، وهي كاذبة فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه، قلت إنها كاذبة قال: كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما، دعها عنك) [144] فقد أمره - صلى الله عليه وسلم - بالمفارقة ولم يستفسر منه عن عدد الرضعات، وتركه الاستفسار دليل على أنه ليس فيه عدد مقدر، بل يكفي فيه أصل الإرضاع.

·  أن ما تعلق به المخالفون من النصوص الدالة على الخمس منسوخ، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه -  قال: آل أمر الرضاع إلى أن قليله وكثيره يحرم، وروي عن ابن عمر - رضي الله عنه -  أن القليل يحرم، وعنه أنه قيل له: إن ابن الزبير - رضي الله عنه -  يقول: لا بأس بالرضعة والرضعتين، فقال: قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير, قال تعالى:﴿ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ﴾(النساء:23)

·  أن الذي يحرم به في حديث سهلة أنه - صلى الله عليه وسلم -لم يرد أن يشبع سالما خمس شبعات في خمسة أوقات متفاصلات جائعا، لأن الرجل لا يشبعه من اللبن رطل ولا رطلان، فأين تجد الآدمية في ثديها قدر ما يشبعه، هذا محال عادة , فالظاهر أن معدود (خمسا) فيه المصات.

·      أن حديث الإملاجة محمول على المص والجذب مما لم يدر معه لبن يصل إلى الجوف.

·      أن الرضاع وإن قل يحصل به نشوء بقدره فكان الرضاع مطلقا مظنة بالنسبة إلى الصغير.

القول الثاني: أن التحريم لا يثبت إلا بخمس رضعات، فإن كان أقل من ذلك لا تحصل المحرمية، وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة في الرأي الراجح من مذهبهم، وروي هذا القول عن عائشة , وابن مسعود , وابن الزبير , وعطاء , وطاوس، وقد اختلف الحنابلة والشافعية في حد الرضعة المشبعة كما يلي:

مذهب الحنابلة [145]: إن المرجع في معرفة الرضعة إلى العرف لأن الشرع ورد بها مطلقا , ولم يحدها بزمن ولا مقدار , فدل ذلك على أنه ردهم إلى العرف , فإذا ارتضع الصبي , وقطع قطعا بينا باختياره , كان ذلك رضعة , فإذا عاد كانت رضعة , أخرى، فأما إن قطع لضيق نفس , أو للانتقال من ثدي إلى ثدي, أو لشيء يلهيه , أو قطعت عليه المرضعة , نظر فإن لم يعد قريبا فهي رضعة , وإن عاد في الحال , فإذا عاد فهي رضعة أخرى. وهذا اختيار أبي بكر , وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل.

مذهب الشافعية [146]: إن التقم الرضيع الثدي ثم لها بشيء قليلا، ثم عاد كانت رضعة واحدة ولا يكون القطع إلا ما انفصل انفصالا بينا واستدل على ذلك بأن الحالف لا يأكل بالنهار إلا مرة فإذا أكل وتنفس بعد الازدراد إلى أن يأكل يكون ذلك كله مرة واحدة وإن طال.

وقالوا: لو أخذ ثديها الواحد فأنفد ما فيه ثم تحول إلى الآخر مكانه فأنفد ما فيه كانت هذه رضعة واحدة.

ومن أدلة القول الثاني:

·  أن علة التحريم بالرضاع هي أنه ينبت لحم الصغير وينشز عظمه لقوله - صلى الله عليه وسلم -:(لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم) [147] ولا يكون ذلك إلا برضاع يوم كامل على الأقل، وهو لا يقل عن خمس رضعات.

·      أن النبي  - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تحرم المصة ولا المصتان) [148] 

·  عن أم الفضل قالت: دخل أعرابي على نبي الله  - صلى الله عليه وسلم -،وهو في بيتي فقال: يا نبي الله إني كانت لي امرأة فتزوجت عليها أخرى، فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت امرأتي الحدثي رضعة أو رضعتين، فقال نبي الله  - صلى الله عليه وسلم -:(لا تحرم  الإملاجة والإملاجتان) [149]

·      أن رجلا من بني عامر بن صعصعة قال:يا رسول الله هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال: لا[150]. 

·  عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن , نسخت بخمس معلومات , فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهن فيما يقرأ من القرآن) [151]، فهذا الحديث يتضمن شيئين: حكما , وكونه قرآنا , فما ثبت من الحكم يثبت بالأخبار الصحيحة , وأما ما فيه من كونه قرآنا فهذا لم نثبته، ولم نتصور أن ذلك قرآن إنما نسخ رسمه , وبقي حكمه.

القول الثالث: يحرم الثلاث فصاعدا، وهو قول أبي ثور ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحرم المصة ولا المصتان) [152]، ومفهومه: أن الثلاث تحرم.

·  أن حديث عائشة، رضي الله عنها، لم يثبت أنه قرآن إلا بالتواتر , وليس هذا بمتواتر، وهو قراءة شاذة، والقراءة الشاذة لا يجوز الاستدلال بها.

·  أن الرضعة والرضعتين ليس لهما تأثير , كما أنه قد يسقط اعتبارها , كما يسقط اعتبار ما دون نصاب السرقة حتى لا تقطع الأيدي بشيء من التافه , واعتباره في نصاب الزكاة, فلا يجب فيها شيء إذا كان أقل , ولا بد من حد فاصل، وهو الثلاث.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة، والأوفق بمصالح الناس، والأقرب لمناهج الشريعة هو القول الثاني، مع تسليمنا بأن هذه المسألة من المسائل المحتملة، ولذلك كان الخلاف فيها من زمن الصحابة - رضي الله عنهم -  فقد تنازعوا في هذه المسألة كما تنازع التابعون بعدهم [153]، قال ابن تيمية عن هذه المسألة: (وهي من أشهر مسائل النزاع، والنزاع فيها من زمان الصحابة،  والصحابة - رضي الله عنهم -   تنازعوا في هذه المسألة والتابعون بعدهم) [154]

ويرجع سبب ذلك ـ والله أعلم ـ إلى تورعهم، أو أن الحديث لم يبلغهم، أو أنه بلغهم من غير الطريق الذي يثقون به، أما رد الحديث كما رده المتأخرون بحجة شذوذ القراءة، فليس ذلك معروفا عنهم، فقد اشتهرت الروايات الكثيرة عنهم في هذا الباب مما يسمى بمنسوخ التلاوة مع بقاء الحكم، ولم يرد أحد منهم بهذه الحجة  بل ولم يردها المتأخرون كذلك بهذه الحجة، ومنها أنه كان يقرأ: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم)، ومنها (لو أن لابن آدم واديا من ذهب لابتغى اليه ثانيا ولو أن له ثانيا لابتغى اليه ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب)، وقد قيل إن هذا كان في سورة ص، ومنها (بلغوا قومنا إنا قد لقينا ربنا ورضينا عنه) [155]

ولذلك لا يصح أن يعتبر هذا الحديث وأمثاله قراءة شاذة، بل نرى أنه من الأحكام التي كانت معروفة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتعير بالقرآن عن التكاليف الشرعية معروف في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - ، ومن ذلك قولهم: (كنا نؤتى الإيمان قبل القرآن)، وقد قال باحتمالية هذا التفسير، والذي نراه أقرب التفاسير لهذا النوع من النسخ، ابن قتيبة في قوله:(وإذا جاز أن يبطل العمل به وتبقى تلاوته جاز أن تبطل تلاوته ويبقى العمل به، ويجوز أن يكون أنزله وحيا إليه كما كان تنزل عليه أشياء من أمور الدين، ولا يكون ذلك قرآنا كتحريم نكاح العمة على بنت أخيها والخالة على بنت أختها، والقطع في ربع دينار،ولا قود على والد ولا على سيد، ولا ميراث لقاتل، وكقوله  - صلى الله عليه وسلم -:(يقول الله تعالى إني خلقت عبادي جميعا حنفاء)وكقوله:(يقول الله عز وجل من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا وأشباه)،هذا وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(أوتيت الكتاب ومثله معه) يريد ما كان جبريل عليه السلام يأتيه به من السنن، وقد رجم رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - ورجم الناس بعده وأخذ بذلك الفقهاء) [156]

ومع ذلك، فإنه لو اعتبرنا الحديث قراءة شاذة لا يصح رده، لأن الحديث يتضمن شيئين حكما , وكونه قرآنا , فما ثبت من الحكم يثبت بالأخبار الصحيحة , وأما ما فيه من كونه قرآنا فلم نثبته ولم نتصور أن ذلك قرآن إنما نسخ رسمه , وبقي حكمه، ثم إن اعتبار القراءة الشاذة لا يجوز الاستدلال بها مخالف لأكثر العلماء، بل ذكر ابن عبد البر إجماع العلماء على أن القراءة الشاذة إذا صح النقل بها عن الصحابة , فإنه يجوز الاستدلال بها في الأحكام [157].

أما سائر الأحاديث التي أخذ بها سائر الفقهاء فهي إما أنها ليست نصا في المسألة، فلا يعرج عليها، وإما أنها تفسير لهذالحديث.

فإطلاق النصوص في الدليل الأول من أدلة القول الأول لا يصح الاستدلال به، لأن المطلق يحمل على المقيد، ويجوز أن يقيد القرآن بالسنة باتفاق الفقهاء، وكثير من الأحكام تجري على ذلك، ومن بينها معظم مسائل الرضاع.

أما حديث عقبة، فلا يصح الاستدلال به كذلك لأنه ليس نصا في المسألة، بل الحديث نص في التورع عند احتمال الإرضاع، أو أن الخشية من كون سبب الرد هو كون الإخبار به جاء من أمة سوداء، أو غير ذلك من الاعتبارات، أما عدم استفساره - صلى الله عليه وسلم - فيحتمل أن يكون بسب اشتهار أن الإرضاع المحرم لا يكون إلا بخمس، أو أن الأمر كان قبل تقييده بالخمس.

ثم إن من استدلوا بهذا الحديث يخالفونه في اعتبار شهادة المرأة وحدها، وروي من طريق عمر والمغيرة بن شعبة وعلي بن أبي طالب وابن عباس أنهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك فقال عمر: فرق بينهما إن جاءت بينة وإلا فخل بين الرجل وامرأته الا أن يتنزها، ولو فتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين الزوجين الا فعلت وقال الشعبي: تقبل مع ثلاث نسوة بشرط أن لا تتعرض نسوة لطلب أجرة وقيل: لا تقبل مطلقا وقيل: تقبل في ثبوت المحرمية دون ثبوت الأجرة لها على ذلك وقال مالك: تقبل مع أخرى وعن أبي حنيفة: لا تقبل في الرضاع شهادة النساء المتمحضات وعكسه الإصطخري من الشافعية وأجاب من لم يقبل شهادة المرضعة وحدها بحمل النهي في قوله فنهاه عنها على التنزيه، وبحمل الأمر في قوله دعها عنك على الإرشاد[158]

أما اعتبار الحديث منسوخا، فإن ذلك قد يكون فهما من ابن مسعود - رضي الله عنه -  أوغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - ، وهو مردود بقول عائشة، رضي الله عنها، راوية الحديث بعدم النسخ.

أما حديث رضاعة الكبير، فإن لرضاعة الكبير أحكاما خاصة، فهو رخصة للحاجة، وللرخصة أحكامها الخاصة التي تختلف بها عن سائر الأحكام، وقد ذكرنا بعضها في محالها الخاصة.

أما اعتبار النشوة علة في التحريم، فغير صحيح لأن النشوة شيء باطني لا يعلم، ثم إن اعتبارها يحتاج إلى دليل  فكيف يرد الحديث الصحيح من أجلها.

أما أحاديث المصة والمصتين والإملاجة والإملاجتين، فإنهما يصبان في نهر هذا الحديث، فكليهما لا يعتبر المحرمية بقليل الرضاعة، ولكنهما مع ذلك لا يحددان عددا بعينه كما فهم أصحاب القول الثالث، بل إنهما يفسران على ضوء هذا الحديث.

هذا من حيث الأدلة، أما من حيث المصالح التي اعتبرها الشرع، فإن المرأة قد تحمل في مجتمعاتنا الصبي في حجرها فيبكي، فتلقمه ثديها، فيرضع، ثم تذهب، وقد لا تراه بعد ذلك،  فلو قلنا بالتحريم لأجل ذلك لحصلت مشقة كبيرة للناس بسبب تقييد مثل هذه الأمور.

والأخطر من ذلك أن يصبح هذا الأمر وسيلة للتفريق بين الأزواج، فتأتي مثل هذه المرأة لتزعم صادقة أو كاذبة حصول الرضاعة فتفرق بين الأزواج، وتتخذ من الشريعة سلما لذلك، فلذلك اعتبرت الشريعة هذا العدد حتى لا يصدق إلا على من تريد حقيقة أن تحصل به المحرمية بينها وبين من تريد إرضاعه، ثم إن إرضاعها خمس رضعات مشبعات مظنة ليعلم ذلك ويحفظ بخلاف المصة والمصتين.

أما من حيث ملاءمة هذا الحكم لمناهج الشريعة ومقاصدها، فإن من مقاصد الشريعة تضييق دائرة المحرمية، فتحا لباب الاختيار، ودرءا للمفاسد التي قد تحصل بسبب توسيع دائرة المحرمية، فلذلك حصرت إما في كبار السن كالأم والجدة والعمات والخالات، أو في من يسكن مسكنا واحدا كالأخوات، والقول بالتحريم بقليل الرضاعة توسيع لهذا الضيق.

وفي اختيار الخمس دون غيرها تناسبا مع الأعداد التي راعتها الشرعية، لا ندري سرها بالضبط، وقد ذكر ابن تيمية كثيرا من الأمثلة التي تعضد اعتبار هذا العدد، وإن كان ذلك من باب الأمارة لا من باب الاستدلال، قال ابن تيمية:(والتقييد بالخمس له أصول كثيرة في الشريعة، فإن الإسلام بني على خمس،والصلوات المفروضة خمس، وليس فيما دون خمس صدقة،والأوقاص بين النصب خمس أو عشر أو خمس عشرة، وأنواع البر خمس، كما قال تعالى ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾(البقرة:177)، وأولو العزم خمس،  وأمثال ذلك) [159]

ثم إن الشريعة في أكثر أحكامها تفصل المجمل بالعدد والمقدار والحدود، خاصة ما يتعلق بالجوانب غير معقولة المعنى، كالصلاة والزكاة والصيام والمواريث والحدود وغيرها، والرضاعة من هذا الباب، لأن ترك المجال مفتوحابدون تقييد يجعل الناس يقفون مواقف شتى قد لا تعتبر الكثير منها الشريعة.

هذا ما نراه راجحا في المسألة، وإنما أطلنا فيها لأن الفتوى عندنا بخلافها، وقد رأينا الكثير من البيوت تهدم في القرى والأرياف، أو يضيق على الناس باب الاختيار بسبب المصة والمصتين.

حكم من ينسب له اللبن [لبن الفحل]:

عرف الجصاص لبن الفحل بقوله: هو الرجل يتزوج المرأة فتلد منه ولدا، وينزل لها لبن بعد ولادتها منه فترضع به صبيا[160]، أو هو أن ترضع امرأة رجل ذكرا, وترضع امرأته الأخرى أنثى، وقد اختلف العلماء في سريان التحريم بذلك على الأقوال التالية[161]:

القول الأول: أن لبن الفحل لا يحرم شيئا، وإنما يحرم من الرضاعة ما كان من قبل النساء, ولا يحرم ما كان من قبل الرجال، وهو قول سعيد بن المسيب , وعطاء بن يسار, وسليمان بن يسار  وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وقد وردت بعض الآثار عن السلف الصالح في ذلك ومنها [162]:

·  عن عائشة، رضي الله عنها، أنها كانت تأذن لمن أرضعته أخواتها , وبنات أخيها ولا تأذن لمن أرضعته نساء إخوتها وبني إخوتها.

·      عن عبد الله بن عمر أنه قال: لا بأس بلبن الفحل.

·  عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود أن أمه زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير قالت زينب: فأرسل إلي عبد الله بن الزبير يخطب ابنتي أم كلثوم على أخيه حمزة بن الزبير وكان حمزة ابن الكلبية , فقلت لرسوله: وهل تحل له؟ إنما هي بنت أخيه , فأرسل إلي ابن الزبير إنما تريدين المنع أنا وما ولدت أسماء إخوتك , وما كان من ولد الزبير من غير أسماء فليسوا لك بإخوة فأرسلي فاسألي عن هذا؟ فأرسلت فسألت , وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون وأمهات المؤمنين، فقالوا: إن الرضاعة من قبل الرجال لا تحرم شيئا؟ فأنكحتها إياه , فلم تزل عنده حتى هلكت.

·  أن حمزة بن الزبير بن العوام تزوج ابنة زينب بنت أم سلمة وقد أرضعت أسماء بنت أبي بكر زينب بنت أم سلمة بلبن الزبير.

·  قال يحيى بن سعيد: وكانت امرأة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قد أرضعت حمزة بن عبد الله بن عمر فولد لسالم بن عبد الله من امرأة أخرى غلام اسمه عمر فتزوج بنت حمزة بن عبد الله بن عمر. 

·      أن سالم بن عبد الله بن عمر زوج ابنا له أختا له من أبيه من الرضاعة.

ومن الأدلة على هذا القول:

·  أن الله تعالى ذكر حرمة الرضاع في جانب النساء فقال:﴿ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ ﴾(النساء:23)، فلو كانت الحرمة تثبت من جانب الرجال لبينها الله تعالى  كما بين الحرمة بالنسب.

·  أن الحرمة في حق الرجل لا تثبت بحقيقة فعل الإرضاع , فإنه لو نزل اللبن في ثندوة الرجل فأرضع به صبيا لا تثبت الحرمة , فلأن لا تثبت في جانبه بإرضاع زوجته أولى.

القول الثاني: التحريم بلبن الفحل، وهو قول سفيان الثوري , والأوزاعي , والليث بن سعد , وأبي حنيفة , ومالك , والشافعي , وأبي سليمان وأصحابهم، القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق , وطاوسا , وعطاء بن أبي رباح , والحسن البصري وغيرهم من السلف، وهو قول الظاهرية، قال ابن عبد البر: وإليه ذهب فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام وجماعة أهل الحديث.

وعلى هذا القول لو كان لرجل امرأتان فحملتا منه وأرضعت كل واحدة منهما صغيرا أجنبيا ; فقد صارا أخوين لأب من الرضاعة، فإن كان أحدهما أنثى فلا يجوز النكاح بينهما ; لأن الزوج أخوها لأبيها من الرضاعة , وإن كانا أنثيين لا يجوز لرجل أن يجمع بينهما ; لأنهما أختان لأب من الرضاعة وتحرم على آباء زوج المرضعة ; لأنهم أجدادها من قبل الأب من الرضاعة وكذا على إخوته ; لأنهم أعمامها من الرضاعة وأخواته عمات المرضع فيحرمن عليه، وأما أولاد إخوته وأخواته فلا تحرم المناكحة بينهم ; لأنهم أولاد الأعمام والعمات ويجوز النكاح بينهم في النسب فيجوز في الرضاع. 

ومن أدلة أصحاب هذا القول:

·  عن عائشة، رضي الله عنها، أنه جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن عليها بعد الحجاب , وكان أبو القعيس أبا عائشة من الرضاعة، قالت عائشة: فقلت: والله لا آذن لأفلح حتى أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أبا القعيس ليس هو الذي أرضعني , ولكن أرضعتني امرأته , فلما دخل علي رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - قلت: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن علي، فكرهت أن آذن حتى أستأذنك؟ قالت: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ائذني له) [163]

·  عن عائشة أم المؤمنين قالت: جاء عمي من الرضاعة بعد ما ضرب الحجاب فاستأذن علي فلم آذن له , فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائذني له فإنه عمك , فقلت: يا رسول الله فإنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل قال: تربت يمينك ائذني له فإنه عمك) [164]

·  عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن أمه زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام قالت زينب: فكان الزبير يدخل علي وأنا أمتشط، فيأخذ بقرن من قرون رأسي يقول: أقبلي علي فحدثيني أرى أنه أبي وما ولد فهم إخوتي[165].

·  عن ابن عباس - رضي الله عنه -  أنه سئل عن رجل كانت له امرأتان أرضعت إحداهما جارية , والأخرى غلاما , أيحل أن يتناكحا؟ فقال ابن عباس: لا , اللقاح واحد[166].

·  أن الحرمة بالرضاع كما تثبت من جانب الأمهات تثبت من جانب الآباء وهو الزوج الذي نزل لبنها بوطئه , فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شبهه بالنسب في التحريم , والحرمة بالنسب تثبت من الجانبين فكذلك بالرضاع.

·  أن لبن المرأة مشترك بينها وبين من كان سبباً فيه وهو الرجل ولولاه لما كان لبن فينسب الطفل إليهما معاً.

·  أن استدلال المخالفين بالقرآن غير مسلم لأن من الأحكام ما يثبت بالقرآن , ومنها ما يثبت بالسنة , فحرمة الرضاع في جانب الرجل مما يثبت بالسنة.

·  أن الله تعالى بين الحرمة في القرآن الكريم في جانب المرضعة لا في جانب زوجها لأن البيان من الله تعالى بطريقين: بيان إحاطة وبيان كفاية , فبين في النسب بيان إحاطة وبين في الرضاع بيان كفاية من باب الاستدلال بالمنصوص عليه على غيره وهو أن الحرمة في جانب المرضعة لمكان اللبن وسبب حصول اللبن ونزوله هو ماؤهما جميعا، فكان الرضاع منهما جميعا.

الترجيح: 

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، لورود النصوص الصحيحة الصريحة في ذلك، ومع ذلك نرى أولوية الفتوى بالقول الأول في حال العلم بالرضاعة بعد الزواج، أو في حال ضرورة معينة دعت إلى ذلك، أخذا بقول من رأى ذلك من الصحابة - رضي الله عنهم - ، فلا يبعد شرعا أن يكون في الحكم الشرعي وجهان، وجه أراده الشرع ورضيه هو الأصل، ووجه ترك للاحتياط والضرورة، وهو أكثر ما اختلف فيه العلماء حتى يعود إليه من يحتاج إليه، ولا حجر في الفتوى به إن تحققت بذلك مصلحة أو درئت مفسدة.

أحوال الفحل الذي ينسب إليه اللبن:

اختلف الفقهاء القائلون بتأثير لبن الفحل في الحرمة بالرضاع في بعض أحوال الرجل الذي نتج عنه اللبن، ومن تلك الأحوال[167]:

الميت والمطلق:

اتفق الفقهاء على أنه تثبت الأبوة باللبن ولو بعد الطلاق أو الموت ولو طال زمن الرضاعة، فإذا طلق زوجته أو مات عنها ولها لبن فأرضعت به طفلا قبل أن تتزوج فالرضيع ابن المطلق أو الميت من الرضاع يستوي في ذلك لو ارتضع في العدة أو بعدها، أو قصرت المدة أم طالت حتى لو انقطع اللبن ثم عاد، فهو باستمراره منسوب إليه، فإن تزوجت بعد العدة زوجا وولدت منه فاللبن بعد الولادة للثاني  سواء انقطع وعاد أم لم ينقطع، وسواء زاد أو لم يزد لأن لبن الأول ينقطع بالولادة من الثاني , فإن حاجة المولود إلى اللبن تمنع كونه لغيره، ولأن اللبن تبع للولد، والولد للزوج الثاني، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر، ولا يصح للخلاف في اعتبار لبن الفحل.

أما إن لم تلد من الثاني , وبقي لبن الأول بحاله لم يزد ولم ينقص فهو للأول سواء حبلت من الثاني أم لم تحبل، لأن اللبن كان للأول ولم يجد ما يجعله من الثاني فبقي للأول،  أما إن حبلت من الثاني وزاد اللبن بالحمل فاختلف فيه الفقهاء على قولين:

القول الأول: إنه للأول ما لم تلد، وهو مذهب الحنفية والشافعية في القول الأصح عندهم.

القول الثاني: إن اللبن لهما، وهو مذهب الحنابلة، وبعض الحنفية والمالكية، وهذه بعض تفاصيل أقوالهم وأدلتها في ذلك:

مذهب الحنفية: اختلف قول الحنفية في المسألة على الآراء التالية:

·  إن علم أن هذا اللبن من الثاني بأن ازداد لبنها فالرضاع من الثاني، وإن لم يعلم فالرضاع من الأول، وهو قول أبي يوسف، ووجه قوله أن الحامل قد ينزل لها لبن، فلما ازداد لبنها عند الحمل من الثاني دل أن الزيادة من الحمل الثاني، إذ العادة أن اللبن ينقص بمضي الزمان ولا يزداد، فكانت الزيادة دليلا على أنها من الحمل الثاني لا من الأول.

·  أنها إذا حبلت فاللبن للثاني , وهو رواية الحسن بن زياد، ووجه هذه الرواية أن العادة أن بالحمل ينقطع اللبن الأول ويحدث عنده لبن آخر، فكان الموجود عند الحمل الثاني من الحمل الثاني لا من الأول فكان الرضاع منه لا من الأول.

·      الرضاع منهما جميعا إلى أن تلد فإذا ولدت فهو من الثاني، وهو قول محمد وزفر، ووجه هذا القول أن اللبن الأول باق والحمل سبب لحدوث زيادة لبن، فيجتمع لبنان في ثدي واحد فتثبت الحرمة بهما كما في اختلاط أحد اللبنين بالآخر بخلاف ما إذا وضعت لأن اللبن الأول ينقطع بالوضع ظاهرا وغالبا فكان اللبن من الثاني، فكان الرضاع منه لأن زيادة اللبن عند حدوث الحمل ظاهر في أنه من الثاني،وبقاء لبن الأول يقتضي كون أصله منه فوجب أن يضاف إليهما.

مذهب المالكية: ذهب ابن القاسم إلى أنه إن حملت من الثاني فأرضعت صبيا فإنه ابن الزوج الأول والثاني واللبن لهما جميعا إن كان اللبن الأول لم ينقطع، وقال ابن الحاجب: لبن الدارة لصاحبه إلا أن ينقطع ولو بعد سنين.

وقد استدل في المدونة بقول مالك من أن ماء الرجل يغيل اللبن ويكون فيه غذاء،وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لقد هممت أن أنهى عن الغيلة[168])[169]، وفسر الغيلة أن يطأ الرجل امرأته وهي ترضع، لأن الماء يغيل اللبن , وتكون منه التغذية[170].

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو الرجوع لأهل الاختصاص من العلماء، وذلك بالتعرف على تركيبة اللبن الذي حصل بعد الولادة، هل هي استمرار للبن السابق أم أنها تركيبة جديدة،  فيكون اللبن للثاني.

وعلى ضوء معلوماتي البسيطة في هذا المجال أرى أنه للثاني، لأن تركيبة لبن الوليد الجديد تتناسب مع عمره،  بخلاف الكبير، والله أعلم.

الزاني:

اتفق الفقهاء على أن المرأة إن ولدت من الزنى فنزل لها لبن فأرضعت به صبيا صار الرضيع ابنا لها، لأنه رضع لبنها حقيقة والولد منسوب إليها , واختلفوا في ثبوت الحرمة بين الرضيع وبين الرجل الذي ثاب اللبن بوطئه  على قولين[171]:

القول الأول: أنه يشترط في ثبوت الحرمة بين الرضيع وبين صاحب اللبن أن يكون اللبن لبن حمل ينتسب إلى الواطئ بأن يكون الوطء في نكاح أو شبهة،أما إن نزل اللبن بحمل من الزنى فلا تثبت الحرمة بين الرضيع والفحل الزاني، وهو مذهب الشافعية والخرقي وابن حامد من الحنابلة،وهو الأوجه عند الحنفية.

وهو مذهب بعض المالكية[172]، قال ابن المواز: وإذا أرضعته بلبن الزنا فهو ابن لها ولا يكون ابنا للذي زنى بها لأنه يحد , ولا يلحق به الولد فيبقى النظر إذا درئ عنه الحد ولم يلحق به الولد هل ينشر الحرمة، ولابن يونس: أما لبن الزنا فلا يحرم من قبل الفحل , وأما كل لبن من وطء بفساد نكاح مما لا حد فيه أو وطء يجوز بالملك فالحرمة تقع به من قبل الرجل والمرأة.

وقد نص الشافعي علىكراهة الزواج منها من باب التورع، قال الشافعي:(أكره له في الورع أن ينكح بنات الذي ولد له من زنا كما أكرهه للمولود من زنا وإن نكح من بناته أحدا لم أفسخه لأنه ليس بابنه) [173]، واستدل على ذلك بقضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابن أمة زمعة لزمعة وأمر سودة أن تحتجب منه لما رأى منه من شبهه بعتبة فلم يرها.

واستدل أصحاب هذا القول عليه بما يلي:

·      أنه لبن غير محترم، فلذلك لا يثب عنه الحرمة.

·      أن التحريم بينهما فرع لحرمة الأبوة , فلما لم تثبت حرمة الأبوة لم يثبت ما هو فرع لها.

القول الثاني: إن لبن الفحل ينشر الحرمة , وإن نزل بزنى، وهو مذهب المالكية , وبعض الحنابلة وهو رواية عند الحنفية،  واستدلوا على ذلك بأنه ينشر الحرمة فاستوى في ذلك مباحه ومحظوره كالوطء. فإن الواطئ حصل منه ولد ولبن , ثم إن الولد ينشر الحرمة بينه وبين الواطئ فكذلك اللبن،ولأنه رضاع ينشر الحرمة إلى المرضعة فينشرها إلى الواطئ.

وقد نص الحنابلة على أنه لو وطئ رجلان امرأة , فأتت بولد , فأرضعت بلبنه طفلا , صار ابنا لمن ثبت نسب المولود  منه , سواء ثبت نسبه منه بالقافة أو بغيرها، فإذا ألحقته القافة بهما صار الرضيع ابنا لهما لأن الرضيع في كل موضع تبع للمناسب

أما إن لم يثبت نسبه منهما لتعذر القافة، أو لاشتباهه عليهم حرم عليهما، لأنه يحتمل أن يكون منهما , ويحتمل أن يكون ابن أحدهما , فيحرم عليه أقاربه دون أقارب الآخر كما لو اختلطت أخته بغيرها [174].

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة من باب تضييق دائرة المحرمية، وتيسيرا لما قد يحصل من هذا الباب، وسترا على من حصل منهما ذلك، وحفاظا عل مشاعر من أرضع بذلك اللبن القول بعدم التحريم، لأن القول به يلزم عنه مفاسد كبيرة، ولنتصور هذ المفاسد عندما يقال: فلان ابن فلان من رضاع الزنا، أو أخو فلانة لابنة الزاني من رضاع الزنى، فإن في هذا إذية للرضيع ولأبويه من الرضاع إن تابا، وقرن للرضاعة وهي مباحة، بل قد تكو مستحبة أو واجبة في حال الحاجة بالزنا، وهو كبيرة من أعظم الكبائر، وفيه زيادة على ذلك إشاعة لذكر الفواحش في المجتمع الإسلامي، وقد أمر الشرع بالستر لتتقيد دائرتها في أضيق المجالات.

الملاعن:

اتفق الفقهاء على أنه إذا نفى زوج المرضعة ولدها بلعان , فأرضعت معه صغيرة بلبنه لم تثبت الحرمة بين الزوج وبين الرضيع لانتفاء نسبة اللبن إليه بانتفاء الولد عنه، وإن نفاه بعد الرضاع انتفى الرضيع عنه أيضا كما انتفى الولد، وإن استلحق الولد بعد اللعان لحق الرضيع، والقاعدة في ذلك (أن كل من يثبت منه النسب يثبت منه الرضاع، ومن لا يثبت منه النسب لا يثبت منه الرضاع)

تفرق الرضعات بين الفحول والنساء:

وصورة تفرق الرضعات بين الفحول هي أنه لو كان لامرأة لبن من زوج فأرضعت به طفلا ثلاث رضعات، وانقطع لبنها فتزوجت آخر، فصار لها منه لبن , فأرضعت منه الطفل رضعتين أخريين، وقد اتفق القائلون بأن الخمس محرمات على أنها صارت أما له، ولم يصر واحد من الزوجين أبا له لأنه لم يكمل عدد الرضاعات من لبنه، ويحرم على الرجلين لكونه ربيبهما لا لكونه ولدهما.

وصورة تفرق الرضعات بين النساء هي ما لو أرضعت زوجاته طفلا كل واحدة رضعة أو اثنتين فلا يصرن أمهات له أما الزوج فيصير أبا له، لأن الجميع لبنه وهن كالأوعية وقيل: لا تثبت الأبوة بذلك  وهو ما نراه راجحا، لأن لبن الفحل تابع للبن المرأة فلا يصح عدم التحريم بالمرأة مع التحريم بالفحل.

الركن الثالث ـ المرضع

ويشترط فيها الشروط التالية:

1 ـ كون المرضعة امرأة:

فلا يحرم الرضاع من غير المرأة  لأنه لا يحقق العلاقة المحرمة، وقصد الفقهاء من هذا القيد إخراج ما يلي[175]:

·  الرجل، فلا يثبت بلبنه في حال خروجه شذوذا، لأنه ليس معدا للتغذية فلم يتعلق به التحريم كغيره من المائعات، لكن الشافعية مع ذلك نصوا على كراهة نكاح من ارتضعت منه.

·      الخنثى المشكل إلا إن بانت أنوثته فيحرم، وإلا فلا.

·   البهيمة , فلو ارتضع صغيران من شاة مثلا لم يثبت بينهما أخوة فتحل مناكحتهم،  لأن الأخوة فرع الأمومة، فإذا لم يثبت الأصل لم يثبت الفرع.

·  الجنية إن تصور رضاعها بناء على ما ذكرنا سابقا من كلام الفقهاء عن نكاح الجن، ولذلك يعبرون عن هذا الشرط بالآدمية بدل المرأة، وقد رددنا على ذلك سابقا بما يكفي عن إعادته هنا.

·  الصبية التي  لا يحتمل ولادتها لصغرها بأن تبلغ سن الحيض وهو تسع سنين، وقد ذكر هذا الشرط الحنفية والشافعية،ولم يشترط المالكية ذلك فيحرم عندهم لبن الصغيرة التي لا تحتمل الوطء.

2 ـ كون المرضع حية:

اختلف الفقهاء في اشتراط حياة المرضع على قولين[176]:

القول الأول: ثبوت التحريم بلبن المرأة الميتة كما يحرم لبن الحية، وهو قول أبي ثور , والأوزاعي , والمالكية , والحنفية , وابن المنذر، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب الظاهرية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  الدلالة اللغوية، فإن اسم الرضاع لا يقف على الارتضاع من الثدي، فإن العرب تقول يتيم راضع، وإن كان يرضع بلبن الشاة والبقر، ولا على فعل الارتضاع منها بدليل أنه لو ارتضع الصبي منها وهي نائمة يسمى ذلك رضاعا حتى يحرم،ويقال: أرضع هذا الصبي بلبن هذه الميتة كما يقال: أرضع بلبن الحية.

·      أن لبن الميتة يدفع الجوع وينبت اللحم وينشز العظم ويفتق الأمعاء فيوجب الحرمة.

·  أن اللبن كان محرما في حال الحياة والعارض هو الموت واللبن لا يموت كالبيضة ورووا  عن عمر - رضي الله عنه -   أنه قال (اللبن لا يموت) [177]

·  أن الحرمة التي اتصفت بها المرأة في حال الحياة ما ثبتت باعتبار الأصالة والتبعية، بل باعتبار إنبات اللحم وإنشاز العظم، وقد بقي هذا المعنى بعد الموت فتبقى الحرمة بخلاف حرمة المصاهرة، لأنها تثبت لدفع فساد قطيعة الرحم.

·  أن اعتبار المرأة نجسة بموتها يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المؤمن لا ينجس) [178] وقد علمنا أن المؤمن في حال موته وحياته سواء، هو طاهر في كلتا الحالتين , ولبن المرأة بعضها , وبعض الطاهر طاهر.

·  على اعتبار أن الميتة نجسة، فإن اللبن طاهر بعد الموت وإن تنجس الوعاء  الأصلي له لأن نجاسة الظرف إنما توجب نجاسة المظروف إذا لم يكن الظرف معدنا للمظروف وموضعا له في الأصل، فأما إذا كان في الأصل موضعه ومظانه فنجاسته لا توجب نجاسة المظروف، فالدم الذي يجري بين اللحم والجلد في المذكاة لا ينجس اللحم لما كان في معدنه ومظانه فكذلك اللبن.

القول الثاني: يشترط أن تكون المرضع حية حياة مستقرة عند انفصال اللبن منها، وهو مذهب الشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أن حكم الرضاع هو الحرمة، والمرأة بالموت خرجت من أن تكون محلا لهذا الحكم ولهذا لم تثبت حرمة المصاهرة بوطئها فصار لبنها كلبن البهائم ولو ارتضع صغيران من لبن بهيمة لا تثبت حرمة الرضاع بينهما.

·  أن المرضعة أصل في هذا الحكم فأولا يثبت في حقها ثم يتعدى إلى غيرها، فإذا لم يثبت في حقها فكيف يتعدى إلى غيرها، بخلاف ما إذا حلب حال حياتها ثم أوجر الصبي بعد وفاتها  لأنها كانت محلا قابلا للحكم وقت انفصال اللبن منها فلا يبطل بموتها بعد ذلك.

·      أن اللبن قد ينجس بموتها لتنجس وعائه وهو الثدي فأشبه البول والدم.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني بناء عل ما سبق من أنه لا تحرم المصة ولا المصتان، لأن رضاعة الصبي من الميتة خمس رضعات مشبعات غير ممكنة، لأن المواد المغذية المكونة للبن تحتاج إلى غذاء المرأة، والمرأة بموتها لا تتغذى، ولأن مثل هذه الرضاعة قد تستمر يوما كاملا، وهو كاف لتحليل جسم المتوفاة، ونشر السموم في جسمها، ومع ذلك لا نرى واقعية هذه المسألة إلا إذا حصلت الرضاعة مرة أو مرتين فيمكن تصورها، وذلك لا ينشر الحرمة كما ذكرنا.

كون المرضع محتملة الولادة:

اختلف الفقهاء في السن التي يعتبر فيه إرضاع المرأة على قولين[179]:

القول الأول: أن تكون محتملة للولادة بأن تبلغ سن الحيض وهو تسع سنين, فلو ظهر لبن الصغيرة دون تسع سنين فلا يحرم , بخلاف من بلغت هذه السن، لأنه وإن لم يتيقن بلوغها بالحيض فاحتمال البلوغ قائم , والرضاع تلو النسب فاكتفي فيه بالاحتمال، وهو مذهب الحنفية والشافعية.

القول الثاني: أن لبن الصغيرة التي لا تحتمل الوطء يؤثر في التحريم، وهو مذهب المالكية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار بلوغ المرأة سن المحيض، لأن اللبن الذي قد يسيل قبل ذلك، ربما يكون من السوائل التي يفرزها الجسم لعلة من العلل، وليس لبنا عاديا، والشرع اعتبر في مثل هذه الأمر ما يتعارف عليه الناس لا ما يحصل من شذوذ.

حكم لبن البكر:

اختلف الفقهاء في حكم لبن البكر لو جاءها من غير وطء فأرضعت به طفلا على قولين[180]:

القول الأول: أنه ينشر الحرمة، وهو مذهب مالك , والثوري , والشافعي , وأبي ثور , والحنفية،ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بأنه لبن امرأة فتعلق به التحريم , كما لو ثاب بوطء , ولأن ألبان النساء خلقت لغذاء الأطفال , وإن كان هذا نادرا , فجنسه معتاد.

القول الثاني: أنه لا ينشر الحرمة لأنه نادر , لم تجر العادة به لتغذية الأطفال , فأشبه لبن الرجال،وهو رواية عن الحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في هذه المسألة هو نفسه الأرجح في المسألة السابقة من أن الشرع بنى هذه الأمور على الأحوال العادية لا على الأحوال الشاذة، أما كلام الفقهاء فيها والذي قد يستغربه البعض أو يصفه بالترف الفكري، فليس كذلك، لأن دور الفقيه هو الإجابة عن كل التساؤلات التي يطرحها المجتمع، ولا يكلف في أحيان كثيرة بالتأكد من صدق ذلك أو عدمه.

وقد سئل مالك  عن رجل أرضع صبية ودر عليها , فقال مالك: ويكون ذلك؟ قالوا: نعم قد كان , قال مالك: لا أراه يحرم وإنما أسمع الله تبارك وتعالى يقول: ﴿ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ﴾(النساء:23) فلا أرى هذا أما، فقيل له: أرأيت لبن الجارية البكر التي لا زوج لها , أيكون رضاعها رضاعا إذا أرضعت صبيا في قول مالك أم لا؟ قال: قال مالك: إن ذلك رضاع وتقع به الحرمة ; لأن لبن النساء يحرم على كل حال[181].

فقد سأل مالك عن مدى واقعية ما سئل عنه، فلما أجيب بالإيجاب لم يتكلف التعرف على كيفية ذلك ولا سببه، وإنما أجاب بما يدعوه إليه دوره، وهو الفتوى بغض النظر عن صدق المستفتي، ولهذا لا ينبغي أن يتخذ الجواز الشرعي لأمر من الأمور دليلا على جوازه الواقعي، كما أن الجواز العقلي لا يدل بالضرورة على الجواز العادي.

ثانيا ـ ما يثبت به الرضاع

نظرا لخطورة الحكم بالإرضاع وما ينتج عنه من تفريق بين الزوجين أو منع للزواج فقد اتفق الفقهاء على أنه لو  شك في وجود الرضاع أو في عدده بنى على اليقين , لأن الأصل عدم الرضاع في الصورة الأولى وعدم حصول المقدار المحرم في الصورة الثانية، قال في المغني:(إذا وقع الشك في وجود الرضاع , أو في عدد الرضاع المحرم , هل كملا أو لا؟ لم يثبت التحريم; لأن الأصل عدمه , فلا نزول عن اليقين بالشك , كما لو شك في وجود الطلاق وعدده) [182] إلا أنها مع ذلك تكون من الشبهات وتركها أولى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) إلا أن يكون متزوجا بها فلا يعمل حينذاك إلا باليقين.

ولأجل التعرف على اليقين يستحب إشهار الرضاعة بين الناس حرصا على عدم اختلاط الأنساب، ولهذا نرى استحباب توثيق الرضاع بوثائق رسمية وإشهاره.

أما إذا لم يكن معروفاً ولا ثبتا ولا مشتهرا فإنه يحتاج إلى الدليل، والمثبت له أحد أمرين:

الإقرار:

وهو أن يعترف الطرفان، الرجل والمرأة أو أحدهما على حصول الرضاع، وذلك على التفصيل الآتي[183]:

الحالة الأولى:الاتفاق على الإقرار:

إذا اتفق الزوج والزوجة على الإقرار بحصول الرضاع ثبتت الحرمة بينهما بهذا التصادق مطلقاً سواء كان هذا الإقرار قبل الزواج أو بعده، أما إذا كان قبله فلا يحل لهما الإقدام على الزواج، وإن كان بعده وجب عليهما أن يتفرقا وإلا فرق القاضي بينهما ووجب لها الأقل من المهر المسمى ومهر المثل ككل نكاح فاسد أعقبه دخول، ولا تجب لها نفقة في عدتها ولا سكنى.

الحالة الثانية: الاختلاف في الإقرار:

فقد يكون الإقرار من الرجل وحده  وقد يكون من المرأة وحدها، وتفصيل أحكام ذلك كما يلي:

أولا ـ الإقرار من جانب الرجل وحده: إذا كان الإقرار من جانب الرجل وحده وكذبته المرأة، ثبت التحريم أيضاً فلا يحل له أن يقدم على زواجها إن كان إقراره قبل الزواج فإن كان بعده وجب أن يفارقها، فإن لم يفعل فرق القاضي بينهما، فإذا افترقا قبل الدخول وجب لها نصف المهر، وإن كان بعده وجب لها كل المهر المسمى والنفقة والسكنى في العدة سدا للذريعة حتى لا يتوصل به لإسقاط حقوق المرأة المترتبة عليه.

حكم رجوع الرجل عن الإقرار:

اختلف الفقهاء فيما لو رجعالرجل عن إقراره، هل يصح رجوعه أم لا، وهل يقبل قضاء أم لا على قولين:

القول الأول: أنه إذا صح الإقرار , فرجع عنه المقر أو رجعا لم يقبل قضاء , وأما فيما بينه وبين ربه فينبني ذلك على علمه بصدقه، فإن علم أن الأمر كما قال فهي محرمة عليه ولا نكاح بينهما , وإن علم كذب نفسه فالنكاح باق بحاله, وقوله كذب لا يحرمها عليه ; لأن المحرم حقيقة الرضاع لا القول، وهو مذهب جمهور الفقهاء، واستدلوا على ذلك بأنه أقر بسبب الفرقة، فلا يملك الرجوع كما لو أقر بالطلاق ثم رجع بأن قال لامرأته: كنت طلقتك ثلاثا ثم قال: أوهمت , والدليل عليه أنه لو قال لأمته: هذه امرأتي أو أمي أو أختي أو ابنتي ثم قال: أوهمت أنه لا يصدق وتعتق.

القول الثاني: إن رجع عن إقراره فقال: كنت واهماً أو ناسياً قبل منه هذا الرجوع في الحالتين بشرط ألا يكون أكد إقراره الأول بما يفيد اليقين كقوله أعلم أنها أختي. أو أشهد عليه. فيجوز له بعد الرجوع أن يعقد عليها، وإن كان بعد العقد بقي العقد قائماً كما كان، لأن الرضاع مما يخفى أمره فربما يكون إقراره أولا بالرضاع بناء على خبر ظنه صادقاً، ثم تبين له كذبه. وهذا يدعو إلى التجاوز عن تناقضه في الإقرار أولاً والرجوع عنه ثانياً،فإن كان أكد الأول أو أشهد عليه فلا يقبل منه الرجوع ويبقى التحريم قائماً، واستدلوا على ذلك بأن الإقرار إخبار فقوله: هذه أختي إخبار منه أنها لم تكن زوجته قط لكونها محرمة عليه على التأبيد. فإذا قال: أوهمت ; صار كأنه قال: ما تزوجتها ثم قال: تزوجتها وصدقته المرأة ولو قال ذلك ; يقران على النكاح كذا هذا بخلاف الطلاق ; لأن قوله: كنت طلقتك ثلاثا إقرار منه بإنشاء الطلاق الثلاث من جهته ولا يتحقق إنشاء الطلاق إلا بعد صحة النكاح فإذا أقر ثم رجع عنه لم يصدق وبخلاف قوله لأمته: هذه أمي أو ابنتي ; لأن ذلك لا يقتضي نفي الملك في الأصل.

الترجيح:

نرى أن الأرجح أنه إذا كان مصدر معرفة الرضاعة من الرجل وحده، ولم تكن هناك بينة أخرى، قبل رجوعه كما قبل إقراره، فلا معنى لتصديقه في أحدهما وتكذيبه في الآخر، ويبقى الأمر بينه وبين الله تعالى.

ولا نرى في رجوعه أي غرابة، بل قد يكون علامة صدقه،فقد يكون توهم أولا، ثم زال وهمه، أو قد يكون قوله الأول بناء على قول فقهي وقوله الثاني بناء على قول آخر، والاحتمالات في ذلك كثيرة، فكيف نقبل منه ما نشك فيه، وما ليس أصلا، ونطرح الأصل المتيقن، ثم كيف لا يتوفر من الشهود أو البينات على الرضاعة غيره؟ إن ذلك كله يستدعي القول بصحة رجوعه، بل تشجيعه على الرجوع إلى الحق في حال إقراره بالرضاعة، لأن الشرع متشوف إلى لم شمل الأسر لا تفريقها.

ثانيا ـ الإقرار من جانب المرأة وحدها:

اختلف الفقهاء فيما لو ادعت الزوجة الرضاع بينها وبين الزوج، فأنكر الزوج ولا بينة على قولها، علىقولين:

القول الأول: لا ينفسخ النكاح  لأنه حق عليها , وإن كان قبل الدخول، فلا مهر لها  لأنها تقر بأنها لا تستحقه، فإن كانت قد قبضته لم يكن للزوج أخذه منها، لأنه يقر بأنه حق لها , وإن كان بعد الدخول فأقرت بأنها كانت عالمة بأنها أخته , وبتحريمها عليه ومطاوعة له في الوطء فلا مهر لها ; لأنها أقرت بأنها زانية مطاوعة , وإن أنكرت شيئا من ذلك فلها المهر  لأنه وطء بشبهة , وهي زوجته في ظاهر الحكم، لأن قولها عليه غير مقبول، وهو مذهب جمهور الفقهاء.

القول الثاني: التفريق بين تزويجها برضاها أو عدم رضاها، وهو مذهب الشافعية، على الحالتين التاليتين:

إن أقرت الزوجة بالرضاع وأنكر الزوج , صدق بيمينه إن زوجت منه برضاها , بأن عينته في إذنها لتضمنه إقرارها بحلها له , فلم يقبل منها نقيضه , وتستمر الزوجية ظاهرا بعد حلف الزوج على نفي الرضاع.

إن لم تزوج برضاها، بل زوجت إجبارا , أو أذنت بغير تعيين الزوج , فالأصح عندهم تصديقها بيمينها ما لم تمكنه من وطئها مختارة لاحتمال صحة ما تدعيه , ولم يسبق منها ما ينافيه , فأشبه إقرارها قبل النكاح , ولها مهر مثلها إن وطئ ولم تكن عالمة بالحكم مختارة في التمكين , لا المسمى لإقرارها بنفي استحقاقها. فإن قبضته لم يسترد منها لزعمه أنه لها , وإن لم يدخل بها أو كانت عالمة بالتحريم مختارة في التمكين فلا شيء لها ; لأنها بغي مطاوعة. والمنكر للرضاع يحلف على نفي العلم ; لأنه ينفي فعل الغير , ومدعيه يحلف على البت.

الترجيح:

نرى أن هذه المسألة تخضع لشروط الشهادة التي سبق ذكرها، فقد تكون الزوجة متهمة بادعائها الرضاع طلبا للتفريق بينها وبين زوجها مع أن الشرع جعل لذلك وسائل أخرى يمكن اتخاذها، ولكنها قد تكون مكلفة وشاقة عليها، فلذلك ربما تحتال بادعاء الرضاعة، فينتهج معها الحاكم لذلك أساليب التحري المختلفة للتيقن من صدق كلامها، فإن صدقت حصل التفريق، ولا حاجة هنا ليمين الزوج، لأنه يحلف على ما لم يعلم صدقه. 

البينة:

وهي عند إنكار أحد الزوجين للرضاعة، وتتعلق بالبينة المسائل التالية[184]:

 

نصاب الشهادة على الرضاع:

اختلف الفقهاء في نصاب الشهادة على الرضاع على قولين:

القول الأول: أنه يثبت بشهادة العدول , رجلين أو رجل وامرأتين , ولا يقبل أقل من ذلك , ولا شهادة النساء بانفرادهن، وهو مذهب الحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قول عمر - رضي الله عنه - :(لا يقبل على الرضاع أقل من شاهدين)، وكان ذلك بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم -  , ولم يظهر النكير من أحد , فصار إجماعا.

·  أن هذا مما يطلع عليه الرجال في الجملة , فلا يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد، لأن قبول شهادتهن بانفرادهن في أصول الشرع للضرورة , وهي ضرورة عدم اطلاع الرجال على المشهود به , فإذا جاز الاطلاع عليه في الجملة لم تتحقق الضرورة.

·  أن ثدي المرأة يجوز لمحارمها النظر إليه، فثبت أن هذه شهادة مما يطلع عليه الرجال، فلا يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد ; لأن قبول شهادتهن بانفرادهن في أصول الشرع للضرورة وهي ضرورة عدم اطلاع الرجال على المشهود به فإذا جاز الاطلاع عليه في الجملة ; لم تتحقق الضرورة بخلاف الولادة، فإنه لا يجوز لأحد فيها من الرجال الاطلاع عليها فدعت الضرورة إلى القبول.

·  أنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث المرأة لم يفرق بينهما، بل أعرض ولو كان التفريق واجبا لما أعرض فدل قوله - صلى الله عليه وسلم -) فارقها(على بقاء النكاح.

·  روي أن رجلا تزوج امرأة فجاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما فسأل الرجل عليا - رضي الله عنه - ، فقال:(هي امرأتك ليس أحد يحرمها عليك، فإن تنزهت فهو أفضل) لأنه يحتمل أن تكون صادقة في شهادتها فكان الاحتياط هو المفارقة.

القول الثاني: التفريق بين الرشيد وغيره، وهو مذهب المالكية، حيث قالوا: إنه يثبت الرضاع بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين مطلقا قبل العقد وبعده، ويعمل قبل العقد في غير الرشيد بإقرار أحد الأبوين , ولو أما , وأولى بإقرارهما معا , فيفسخ إذا وقع , ولا يعتبر إقرارهما بعده.

أما بعد العقد فيقبل شهادة رجل وامرأة، أما شهادة امرأتين على الرضاع فقد رويت عن مالك في ذلك روايتان:

الأولى: أنه لا يكفي في ذلك إلا أن يفشو عند الجيران ويظهر وينتشر، لأن الرضاع وإن كان مما ينفرد به النساء فتتعلق به أحكام شرعية ولا يكاد يخفى أمره غالبا بل يفشو فإذا عرا من الظهور والانتشار ضعفت الشهادة.

الثانية: أن شهادتهما مقبولة , وإن لم يفش اعتبارا بسائر الشهادات.

القول الثالث: يثبت الرضاع بشهادة رجلين , وبرجل وامرأتين , وبأربع نسوة  لأنه مما لا يطلع الرجال عليه إلا نادرا , ولا يثبت بدون أربع نسوة، وهو مذهب الشافعية، واستدلوا على ذلك بأن الشهادة على الرضاع شهادة على عورة، إذ لا يمكن تحمل الشهادة إلا بعد النظر إلى الثدي وإنه عورة فيقبل فيه شهادة النساء على الانفراد كالولادة.

القول الرابع: يثبت الرضاع بشهادة المرأة المرضعة، وهو مذهب الحنابلة، أما الإقرار بالرضاع فلا يثبت إلا بشهادة رجلين عليه إن أقر بذلك، واستدلوا على ذلك بحديث عقبة السابق من أنه جاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما, فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -فذكرت له ذلك فقال: كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما[185]، وهو يدل على الاكتفاء بالمرأة الواحدة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة التشدد في قبول الشهادات وخاصة بعد البناء، وهو ما عليه المالكية الذين اعتبروا اشتهار الرضاعة دون شهادة الآحاد[186]، وقد أفتي ابن القاسم في مسألة أخطر من هذه ـ ذكر الله تعالى أنها كانت فاحشة ومقتا وساء سبيلا، وبشهادة رجل عن فعل نفسه ـ معتبرا ما ذكرنا من رد الشهادات في هذا لأجل التهمة، واستدل لذلك بحكم مالك في شهادات الإرضاع إن لم تشتهر، ففي المدونة، وتحن عنوان:(الرجل يريد نكاح المرأة فيقول له أبوه قد وطئتها فلا تطأها)، هذا الاستفتاء المنقول بتصرف: أرأيت لو أن رجلا خطب امرأة فقال له والده: قد كنت تزوجتها، أو لم يرد الابن شيئا من هذا إلا أنه قد سمع ذلك من أبيه وكذب الولد الوالد في جميع ذلك، وقال: لم تفعل شيئا من هذا وإنما أردت بقولك أن تحرمها علي؟

فأجاب ابن القاسم: (لم أسمع من مالك فيه شيئا، إلا أن مالكا قال لي في الرضاع في شهادة  المرأة الواحدة، إن ذلك لا يجوز ولا يقطع شيئا إلا أن يكون قد فشا وعرف) ونفس الحكم نقله عن مالك  في شهادة المرأتين في الرضاع أنها (لا تجوز أيضا إلا أن يكون شيئا قد فشا وعرف في الاهلين والمعارف والجيران، فإذا كان كذلك رأيتها جائزة)

واستنتج ابن القاسم الإجابة على تلك المسألة الخطيرة من هذا القول لمالك فأجاب سائله بقوله:(فشهادة الوالد في مسائلك التي ذكرت بمنزلة شهادة المرأة في الرضاع لا أراها جائزة على الولد إذا تزوج أو اشترى جارية إلا أن يكون شيئا قد فشا من قوله قبل ذلك وعرف وسمع) [187]    

وبهذا القول تنتفي الكثيرمن الذرائع التي تتخذ من القول بحصول المحرمية بالرضاعة وسيلة للتفريق بين المتزوجين أو الحيلولة بينهم وبين الزواج. 

حكم شهادة أمي الزوجين بالرضاعة:

اختلف الفقهاء في في حكم شهادة أمي الزوجين بالرضاعة على قولين:

القول الأول: أن شهادة أمي الزوجين على الرضاع بين الزوجين مقبولة كالأجنبيتين لضعف التهمة، وهو مذهب المالكية.

القول الثاني: التفريق بين مصدر الدعوى إن كان الزوج أو الزوجة، وهو مذهب الشافعية، فلو كان فيمن يشهد بالرضاع أم المرأة أو بنتها , فالحكم في ذلك على التفصيل التالي:

·  إن كان الزوج مدعيا , والمرأة منكرة قبلت شهادتها، وكذا لو شهدت الأم أو البنت من غير تقدم دعوى على سبيل الحسبة.

·  إن كانت الزوجة مدعية، فلا تقبل للتهمة، لأن المقرر عدم قبول شهادة الأصل لفرعه , وتقبل عليه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذهب إليه الشافعية من الاحتياط، تفاديا للتهمة التي تحملها شهادة الأم مع ابنتها، فلو كانت الشهادة متيقنة،وكانت صاحبتها محتسبة لأدلت بها في حينها قبل الزواج، ولم تحتج إلى إقرار البنت حتى تدلي بها.

حكم شهادة المرضعة وحدها على إرضاعها:

اختلف الفقهاء في قبول شهادة المرضعة وحدها عن إرضاعها على قولين:

القول الأول: تقبل شهادة المرضعة وحدها على فعل نفسها، وهو مذهب الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      حديث عقبة السابق.

·      أنه فعل لا يحصل به لها نفع مقصود , ولا تدفع به ضررا , فقبلت شهادتها فيه كفعل غيرها.

القول الثاني: تقبل مع غيرها , ولا تقبل وحدها، وهو مذهب الشافعية والمالكية، واشترط الشافعية لقبول شهادتها فيمن يشهد أن لا تطلب أجرة , فإن طلبت أجرة الرضاع فلا تقبل للتهمة.

ونص الشافعية والحنابلة على أنه لا تقبل الشهادة على الرضاع إلا مفصلة , فلا يكفي قول الشاهد: بينهما رضاع، بل يجب ذكر وقت الإرضاع وعدد الرضعات , كأن يقول: أشهد أن هذا ارتضع من هذه خمس رضعات متفرقات خلص اللبن فيهن إلى جوفه في الحولين أو قبل الحولين لاختلاف العلماء في ذلك.

الترجيح:

نرى أن الأرجح النظر إلى المسألة من ناحيتين:

ناحية القضاء، بالتشدد في البينة سدا للذريعة حتى لا تصبح دعوى الرضاعة وسيلة للتفريق بين الزوجين كما يحصل أحيانا في المجتمع.

والناحية الثانية: ناحية الديانة والورع، ويفرق في ذلك بين حالتين:

قبل الدخول: والأرجح في هذ الحالة أن يفترقا ولو بشهادة امرأة واحدة لاحتمال صدق هذه الشهادة في الواقع، وحتى لا تصبح تلك الشهادة ذريعة للتفرق بعد ذلك، بشرط أن لا تكون المرأة متهمة في شهادتها، وهو نفس ما عقب به مالك على شهادة النساء في الرضاعة كما ذكرنا في الترجيح السابق (قال مالك: وأحب إلي أن لا ينكح وأن يتورع) [188]

بعد الدخول:  والأرجح في هذه الحالة هو التشدد حفاظا على الأسرة كما هو في سائر أحكام الرضاعة إن حصلت بعد الدخول.

آثار التفريق بعد ثبوت الرضاع:

بعد الافتراق أو التفريق الحاصل بعد ثبوت الرضاعة يجب ما يجب في كل عقد فاسد، وهو[189]:

قبل الدخول: لا شيء لها من المهر.

بعد الدخول: يجب لها أقل المهر وهو إما مهر المثل إن لم يكن سمى لها مهراً أو المسمى إذا كان سمى مهراً معيناً، لأن المسمى إن كان هو الأقل فقد رضيت به الزوجة فلا يزاد على ما رضيت به، وإن كان مهر المثل هو الأقل فهو الواجب الأصلي في كل زواج فاسد ولا يعدل عنه إلا إذا وجد مقتض للعدول عنه.

ثالثا ـ أصناف المحرمات بالرضاعة

يحرم بالرضاع ثمانية أصناف[190] أشار إليها قوله تعالى في آية المحرمات: ﴿ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ ﴾(النساء:23)، وقد قال العلماء: إن اقتصار القرآن على الأم إشارة إلى تحريم كل من اتصل بعمود النسب من الأصول والفروع، واقتصاره على الأخوات إشارة إلى تحريم جوانب النسب وحواشيه.

لأن إطلاق الأم على المرضعة والأخوات على بناتها يجعل من الرضيع جزءا ممن أرضعته كأولادها،وأكد ذلك بأخوة أولادها له فيكون ذلك الرضيع ابناً لهما بمنزلة الابن من النسب، فيأخذ حكمه في كل ما يتعلق بالتحريم بالنسبة للأصناف المحرمة بالنسب من البنات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت.

وقد فصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أجمله القرآن ووضح ما أشار إليه في جملة أحاديث منها ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه -  أن النبي  - صلى الله عليه وسلم - أريد على ابنة حمزة فقال: (إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم) [191]، وفي رواية من النسب.

وفي رواية عائشة رضي الله عنها، قال  - صلى الله عليه وسلم -: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة) ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في درة بنت أبي سلمة: (إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأباها ثويبة) [192]

ومنها الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها: أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب قالت: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله أخبرته بالذي صنعت فأمرني أن آذن له[193].

وسنسرد هنا المحرمات بالرضاع بناء على القائلين باعتبار لبن الفحل، فالمحرمات بالرضاع تتمثل في الأصناف التالية:

الأصول من الرضاع:وهن أمه وأم أمه وأم أبيه من الرضاع مهما علت درجتهن، فإذا رضع طفل من امرأة حرم عليه الزواج بمن أرضعت لأنها صارت أماً له، وكذلك بأم أمه وإن علت وأم أبيه رضاعاً وهو زوج المرضعة مهما علت درجتها لأنهن صرن جدات له كما حرم عليه ذلك من النسب.

الفروع من الرضاع: وهن ابنته وبنت بنته وبنت ابنه من الرضاع وإن نزلن، فإذا رضعت طفلة من امرأة صارت ابنة لزوج المرضعة الذي كان سبباً في إدرار لبنها فيحرم على ذلك الرجل التزوج بهذه البنت وفروعها، ولو كان الرضيع طفلاً ابناً له فيحرم عليه التزوج ببناته وبنات أولاده مهما نزلن كما يحرم ذلك من النسب.

فروع أبويه من الرضاع: أي أخواته وبناتهن وبنات أخوته من الرضاع مهما نزلت درجتهن يستوي في ذلك من رضع معه أو قبله أو بعده لأنه برضاعه صار أخاً للجميع.

فروع جديه من الرضاع في الدرجة الأولى فقط:  وهن عماته وخالاته من الرضاع، لأنه برضاعه صارت أخوات المرضعة خالات له وأخوات زوجها عمات له، فيحرم عليه التزوج واحدة منهن كما يحرم ذلك من النسب، وأما بناتهن فهن حلال له كما في بنات الخالات والعمات من النسب.

زوجات فروعه: أي زوجة ابنه وابن بنته من الرضاع وإن نزل سواء دخل الفرع بزوجته أو لا، وقد اختلف الفقهاء في حكمها، والجمهور على تحريمها بناء على القول بلبن الفحل وعلى التحريم بالمصاهرة، ويدخلونها بذلك في قوله تعالى: ﴿ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ﴾(النساء:23)، ولا يخرجونها بقوله:﴿ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ﴾

لكن الأرجح من ذلك هو ما اختاره كثيرمن العلماء، ومنهم ابن القيم والشوكاني [194]، وهو عدم التحريم بذلك، ومن الأدلة التي ساقها ابن القيم لذلك:

·  أن التحريم بالرضاع فرع على تحريم النسب، لا على تحريم المصاهرة فتحريم الرضاع أصل قائم بذاته، والله تعالى لم ينص في كتابه على تحريم الرضاع إلا من النسب، ولم ينبه على التحريم به من جهة الصهر،لا بنص ولا إيماء ولا إشارة، بل أمر أن يحرم به ما يحرم من النسب، وفي ذلك إرشاد وإشارة إلى أنه لا يحرم ما يحرم بالصهر، ولولا أنه أراد الإقتصار على ذلك لقال:(حرموا من الرضاع ما يحرم النسب والصهر)

·  أن الرضاع مشبه بالنسب، ولهذا أخذ منه بعض أحكامه،وهو الحرمة والمحرمية دون التوارث والإنفاق وسائر أحكام النسب، فهو نسب ضعيف، فأخذ بحسب ضعفه بعض النسب، ولم يقو على سائر أحكام النسب، وهو ألصق به من المصاهرة، فكيف يقوى على أحكام المصاهرة مع قصوره عن أحكام مشبهه وشقيقه.  

·  أن المصاهرة والرضاع لا نسب بينهما ولا شبهة نسب ولا بعضية ولا اتصال، ولو كان تحريم الصهرية ثابتا لبينه الله ورسوله بيانا شافيا يقيم الحجة، ويقطع العذر فمن الله البيان وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم والإنقياد.

هذه خلاصة ما ذكره ابن القيم من الأدلة، ونحن نرجحها لا من باب قوة ما فيها من أدلة فقط، بل لتناسبها مع المصالح الشرعية التي تضع دائرة المحرمية في أضيق الحدود، فتقتصر على المنصوص عليه دون غير المنصوص، وقد قال تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ (النساء: 24)

ومع ذلك نقول ما قال ابن القيم في ختام تحقيقه في المسألة:(فهذا النظر في هذه المسألة، فمن ظفر فيها بحجة، فليرشد إليها، وليدل عليها، فإنا لها وبها معتصمون، والله الموفق للصواب) [195] 

أصول زوجته من الرضاع: وهن أمها وجداتها من جهة الأب والأم، فيحرم عليه التزوج بواحدة منهن بمجرد العقد عليها سواء دخل بها أو لم يدخل، كما يحرم ذلك من النسب.

فروع زوجته من الرضاع: وهن بناتها وبنات أولادها من الرضاع وإن نزلت درجتهن، فإذا تزوج رجل امرأة كانت متزوجة قبله بآخر وأرضعت طفلة فإن هذه الطفلة بنتها من الرضاع وتصير بالنسبة له بنت زوجته فتحرم عليه إذا دخل بأمها كما يحرم عليه التزوج بإحدى فروعها من الإناث مثل ما يحرم عليه بناتها من النسب.

زوجات أصله من الرضاع: أي زوجات أبيه وجده وإن علا سواء دخل بها الأب أو الجد أو لا، فلو رضع طفل من امرأة متزوجة صار زوجها أباً له من الرضاع وأبو الزوج جداً له كذلك فإن كان للزوج زوجة أخرى غير من أرضعته حرم على الرضيع التزوج بها لأنها زوجة أبيه من الرضاع، كما يحرم عليه التزوج بامرأة أبيه من النسب.

رابعا ـ مستثنيات من المحرمات من الرضاع

ذكر الفقهاء أن قاعدة (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ليست على إطلاقها، بل هناك صور مستثناة يثبت فيها التحريم بالنسب ولا يثبت التحريم بالرضاعة لوجود العلاقة المحرمة في النسب وعدم وجودها في الرضاع، ومن تلك الصور المذكورة[196]:

أم الأخ أو الأخت من الرضاع: إذا رضع طفلان من امرأة فصارا أخوين بالرضاع، ثم رضع أحدهما من مرضعة أخرى فهذه المرضعة تكون بالنسبة للذي لم يرضع منها أم أخيه من الرضاع فتحل له، وكذا لو كان لأخيه من الرضاع أم من النسب فإنها تحل له أيضاً لعدم وجود المحرم لأنها أجنبية في الحالتين.

ولو كان الطفلان أخوين من النسب ورضع أحدهما من أجنبية وصارت أماً له من الرضاع جاز لأخيه أن يتزوجها لأنها أم أخيه رضاعة، بينما لا يجوز له أن يتزوج أم أخيه نسباً لأنها إمَّا أمه إن كانا شقيقين أو امرأة أبيه إن لم يكن شقيقاً، وكلتاهما محرمة.

أخت ابنه أو بنته من الرضاع: إذا رضع طفل من امرأة صار ابناً لزوجها من الرضاع، فإذا كان لهذا الطفل أخت من النسب لم ترضع من تلك المرأة فإنه يحل لذلك الزوج أن يتزوج هذه البنت وهي أخت ابنه من الرضاع لعدم المحرم بينهما، ومثله إذا كان للرجل ابن من النسب رضع من امرأة أجنبية ولها بنت نسبية أو رضاعية فلذلك الرجل أن يتزوج بهذه البنت وهي أخت ابنه من الرضاع لانعدام العلاقة المحرمة بينهما. بينما لا يجوز له أن يتزوج أخت ابنه من النسب لأنها إمَّا بنته أو بنت امرأته التي دخل بها وكلتاهما محرمة عليه.

ومثل ذلك أن يرضع الطفل من جدته لأمه فتصير أمه أختاً له من الرضاع، فلا تحرم على زوجها لأنها صارت برضاع طفلها من أمها أختاً له من الرضاع فقط وأخت الابن من الرضاع لا يحرم التزوج بها ابتداءً فلا يؤثر الرضاع الطارئ على تلك الزوجية بقاء من باب أولى.

أم ولد ولده رضاعاً: إذا أرضعت أجنبية ابن الابن أو ابن البنت فإنها تصير أم هذا الابن رضاعاً فيحل لجد الولد أن يتزوجها مع أنه لا يجوز له أن يتزوج أم ابن ابنه أو أم بنته نسباً، لأن الأولى زوجة ابنه والثانية بنته، والأولى محرمة بالمصاهرة والثانية بالنسب. وكذلك لو أرضعت زوجة الابن طفلاً أجنبياً فإنه يكون ابن ابن رضاعاً فإذا كانت له أم نسيبة أو رضاعية أخرى لا تحرم على الجد الذي هو أبو زوج تلك المرضعة.

أم العمة أو العم أو الخال أو الخالة من الرضاع: لعدم العلاقة المحرمة بينما تحرم إذا كانت من النسب لأنها إمَّا جدة لأب أو لأم أو امرأة الجد.

وقد تكلم ابن تيمية عل ما اعتبره الفقهاء مستثنيات من القاعدة التي نص عليها الحديث، وأنكر اعتبار ذلك، قال في الفتاوى الكبرى:(استثنى بعض الفقهاء المتأخرين من هذا العموم صورتين , وبعضهم أكثر من ذلك , وهذا خطأ, فإنه لا يحتاج أن يستثنى من الحديث شيء)، ثم بين وجه ذلك، ونحن ننقل كلامه هنا لأثره في إزالة اعتقاد شبهة الاستثناء من جهة، ولتوضيح كيفية معرفة أصناف المحرمات بالرضاع من جهة ثانية، وهذا تلخيص ما ذكره ابن تيمية:

إذا ارتضع الرضيع من المرأة خمس رضعات من الحولين , صارت المرأة أمه , وصار زوجها الذي جاء اللبن بوطئه أباه , فصار ابنا لكل منهما من الرضاعة , وحينئذ فيكون جميع أولاد المرأة من هذا الرجل ومن غيره , وجميع أولاد الرجل منها ومن غيرها إخوة له , سواء ولدوا قبل الرضاع أو بعده باتفاق الأئمة. وإذا كان أولادهما إخوته , كان أولاد أولادهما أولاد إخوته , فلا يجوز للمرتضع أن يتزوج أحدا من أولادهما , ولا أولاد أولادهما , فإنهما إما إخوته وإما أولاد إخوته , وذلك يحرم من الولادة. وإخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته من الرضاع , وأبوها وأمها أجداده وجداته من الرضاع , فلا يجوز له أن يتزوج أحدا من إخوتها , ولا من أخواتها , وإخوة الرجل أعمامه وعماته , وأبو الرجل وأمهاته أجداده وجداته , فلا يتزوج بأعمامه وعماته , ولا بأجداده وجداته , لكن يتزوج بأولاد الأعمام والعمات. فإن جميع أقارب الرجل حرام عليه. إلا أولاد الأعمام والعمات وأولاد الخال والخالات.

وإذا  كان المرتضع ابنا للمرأة وزوجها فأولاده أولاد أولادهما , ويحرم على أولاده ما يحرم على الأولاد من النسب , فهذه الجهات الثلاث منها تنتشر حرمة الرضاع، وأما إخوة المرتضع من النسب , وأبوه من النسب , وأمه من النسب , فهم أجانب أبيه وأمه وإخوته من الرضاع , ليس بين هؤلاء وهؤلاء صلة ولا نسب ولا رضاع , لأن الرجل يمكن أن يكون له أخ من أبيه , وأخت من أمه , ولا نسب بينهما , بل يجوز لأخيه من أبيه أن يتزوج أخته من أمه , فكيف إذا كان أخ من النسب وأخت من الرضاع , فإنه يجوز لهذا أن يتزوج هذا , ولهذا أن يتزوج بهذا. وبهذا تزول الشبهة التي تعرض لبعض الناس , فإنه يجوز للمرتضع أن يتزوج أخوه من الرضاعة بأمه من النسب , كما يتزوج بأخته من النسب ويجوز لأخيه من النسب أن يتزوج أخته من الرضاعة، وهذا لا نظير له في النسب , فإن أخا الرجل من النسب لا يتزوج بأمه من النسب , وأخته من الرضاع ليست بنت أبيه من النسب ولا ربيبته , فلهذا جاز أن تتزوج به فيقول من لا يحقق: يحرم في النسب على أخي أن يتزوج أمي ولا يحرم مثل هذا في الرضاع، وهذا غلط منه , فإنه نظير المحرم من النسب أن تتزوج أخته أو أخوه من الرضاعة بابن هذا الأخ أو بأمه من الرضاعة , كما لو ارتضع هو وآخر من امرأة , واللبن لفحل فإنه يحرم على أخته من الرضاعة أن تتزوج أخاه وأخته من الرضاعة , لكونهما أخوين للمرتضع , ويحرم عليهما أن يتزوجا أباه وأمه من الرضاعة لكونهما ولديهما من الرضاعة لا لكونهما أخوي ولديهما.

قال ابن تيمية بعد سرده لكيفة تطبيق المحرمات بالرضاعة على المحرمات بالنسب:(فمن تدبر هذا ونحوه زالت عنه الشبهة) [197]

 

 



([1])   لسان العرب:8/43.

(1) .

([3])   احترز بهذا التعريف من ثلاثة أمور: الأول: احتراز من السبب ; لأنه يلزم من وجوده الوجود. والثاني: احتراز من الشرط  لأنه يلزم من عدمه العدم. والثالث: احتراز من مقارنة المانع لوجود سبب آخر. فإنه يلزم الوجود لا لعدم المانع , بل لوجود السبب الآخر , كالمرتد القاتل لولده , فإنه يقتل بالردة , وإن لم يقتل قصاصا , لأن المانع لأحد السببين فقط، انظر: شرح الكوكب المنير:143.

(2) .

([5])   لسان العرب: 3/68.

([6])   الظلال :1/610.

([7])   انظر: الظلال: 1/610، الأسرة والمجتمع للدكتور علي عبد الواحد وافي: 26.

([8])   المنثور في القواعد الفقهية: 177.

([9])   المحلى :12/199 فما بعدها، شرح معاني الآثار :3/148، إعلام الموقعين:3/223.

([10])   البيهقي: 6/295، البزار: 8/251، مسند الروياني: 2/127.

([11])   المحلى :12/199.

([12])   المحلى :12/199.

([13])   لسان العرب:1/755.

([14])   أحكام القرآن لابن العربي:3/447..

([15])   الروضة البهية :8/.

([16])   البحر الرائق:7/72.

([17])   أسنى المطالب :3/148، أنوار البروق:3/118.

([18])   قال ابن عبد البر: «كأنه خاطب بذلك العرب، لكثرة ملازمتهم للفلوات التي بها مواقع القطر، لأجل رعى دوابهم.. وقيل أراد بماء   السماء  زمزم لأن الله أنبعها لهاجر فعاش ولدها بها فصاروا كأنهم أولادها »، واستدل به لمن زعم أن العرب كلهم من ولد إسماعيل.فتح الباري: 6/394.

([19])   البخاري: 3/1225.

([20])   رواه الطبراني في الأوسط وفيه طلحة بن زيد ضعفه البخاري وأحمد وذكره ابن حبان في الثقات، مجمع الزوائد: 1/193، المعجم الأوسط:6/197.

([21])   انظر: المغني:7/84..

([22])   بدائع الصنائع:2/257.

([23])   أسنى المطالب :3/148، مغني المحتاج:4/287، المبسوط:4/204.

([24])   أسنى المطالب :3/148.

([25])   الأم: 5/164، وقد رد على هذه المناظرة الجصاص بكلام طويل ،انظر:أحكام القرآن للجصاص:2/167، إعلام الموقعين:3/191..

([26])   مطالب أولي النهى:5/95، بدائع الصنائع :2/257.

([27])   المغني :7/91.

([28])   البخاري: 2/956، مسلم: 2/1068، الدارمي: 2/607، البيهقي: 6/275، أبو داود: 2/221، النسائي: 3/295 الموطأ:2/607، أحمد: 6/44.

([29])   قال ابن كثير: رواه أبو داود عن الحسن بن علي عن يزيد بن هارون به نحوه مختصرا، ولهذا الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة، انظر: تفسير ابن كثير:3/267.

([30])   زاد المعاد:5/410.

([31])   سبق تخريجه.

([32])   كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه: 32/137، وانظر: الفتاوى الكبرى:2/226.

([33])   زاد المعاد:5/411.

([34])   كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه: 32/134.

([35])   كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه: 32/137.

([36])   أحكام القرآن:1/478.

([37])   أحكام القرآن :1/479.

([38])   أحكام القرآن للجصاص :3/503.

([39])   مختار الصحاح:156.

([40])   شرح حدود ابن عرفة :164.

([41])   اختلف المالكية في من أراد التلذذ بزوجته ،فالتذ بابنتها منه أو من غيره بغير وطء في ظلام مثلا ظانا أنها زوجته، فذهب ابن شعبان في جماعة إلى أنه يفارقها لنشره الحرمة وظاهر إطلاقهم، , ونزلت بابن التبان ففارق زوجته، وذهب القابسي وأبو الطيب عبد المنعم إلى أنه يفارقها استحبابا واختاره ابن محرز وألف فيها تأليفا , وألف المازري فيها كشف الغطاء عن لمس الخطأ، انظر: منح الجليل :3/330، التاج والإكليل :5/110.

([42])   انظر: تفسير القرطبي:5/114.

([43])   إعلام الموقعين: 3/190، وانظر: الفتاوى الكبرى:6/318، مطالب أولي النهى :5/92.

([44])   مجمع الزوائد: 4/268، سنن البيهقي الكبرى: 9/169، الدارقطني: 3/268، والحديث ضعيف جدا، انظر: التحقيق في أحاديث الخلاف:2/275، فيض القدير:6/447، الكامل في ضعفاء الرجال:5/165، وسنشير إلى أسباب الضعف عند ذكر أدلة القول الثاني.

([45])   أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر t، وهو ضعيف مثل الحديث الذي سبقه، وبعضهم يعتنبره روياة للحديث السابق، انظر: البيان والتعريف: ولكن ابن الجوزي ذكره حديثا مفردا، واعتبره من جملة حديثين استدل بهما أصحاب هذا القول، التحقيق في أحاديث الخلاف: 2/275.

([46])   إعلام الموقعين: 3/190.

([47])   المحلى: 9/147.

([48])   المدونة :2/197، وانظر :المنتقى: 3/308.

([49])   أحكام القرآن:1/496.

([50])   المنتقى:3/307.

([51])   أحكام القرآن للجصاص :2/163 ،فما بعدها، المنتقى:3/308.

([52])   راجع الفصل الأول في حقيقة النكاح.

([53])   ذكر ابن الجوزي أن أصحاب القول الأول لم يستدلوا إلا بالحديثين السابقين،  التحقيق في أحاديث الخلاف:2/276..

([54])   التحقيق في أحاديث الخلاف:2/276.

([55])   الحاكم: 2/510.

([56])   البخاري: 5/1962، الترمذي: 10/30، أبو داود: 3/306، النسائي: 3/494، أحمد: 3/451، ابن حبان: 10/30.

([57])   فيض القدير: 6/447.

([58])   المحلى:9/147، المصنف لابن أبي شيبة:3/468.

([59])   انظر: المغني: 7/90..

([60])   المغني: 7/91، المحلى: 9/148، منح الجليل :3/331.

([61])   التاج المذهب لأحكام المذهب:2/140، رد المحتار:6/729، البحر الرائق: 3/107، المبسوط: 4/208، بدائع الصنائع: 3/233، المهذب: 2/42.

([62])   ضابط المس بشهوة  أن تنتشر الآلة أو تزداد انتشارا، وليس مجرد اللذة العابرة، انظر: لسان الحكيم:317.

([63])   البحر الرائق :3/106.

([64])   فتح القدير :3/222، البحر الراائق: 3/107.

([65])   المدونة:2/197.

([66])   أنوار البروق في أنواع الفروق :3/117.

([67])   القرطبي: 5/113.

([68])   القرطبي: 5/113.

([69])   المهذب: 2/42.

([70])   فتح القدير :3/224.

([71])   قال في المغني :« وحديثهم لا نعرف صحته , وإنما هو من كلام ابن أشوع وبعض قضاة العراق كذلك قال الإمام أحمد وقيل: إنه من قول ابن عباس»المغني:7/90، انظر: المصنف لابن أبي شيبة: 3/481.

([72])   وفي رواية أخرى عنه: إنا نجده مكتوبا من كشف عن   فرج امرأة  وابنتها فهو ملعون» مصنف عبد الرزاق: 7/194، وهو كذلك في الأم: 7/30.

([73])   المحلى: 9/527.

([74])   قال الترمذي: هذا حديث لا يصح من قبل إسناده، وإنما رواه بن لهيعة والمثنى عن عمرو بن شعيب والمثنى وابن لهيعة يضعفان في الحديث، الترمذي:3/425، وانظر: سنن البيهقي الكبرى: 7/160.

([75])   أحكام القرآن لابن العربي :1/484.

([76])   المغني: 7/86..

([77])   القرطبي:5/113.

([78])   المغني:7/85.

([79])   المحلى:9/140.

([80])   البخاري: 5/1954، مسلم: 2/1072، ابن حبان: 9/422، البيهقي: 7/75، النسائي: 3/290، ابن ماجة: 1/624.

([81])   ذكره في فتح الباري: 9/158.

([82])   تفسير ابن كثير: 1/472.

([83])   سبق تخريجه.

([84])   زاد المعاد: 5/122.

([85])   سبق تخريجه.

([86])   تفسير ابن كثير: 1/472.

([87])   فتح الباري: 9/158.

([88])   مسلم: 2/1077، الترمذي: 3/458، النسائي: 3/301، المجتبى: 6/104، مسند إسحق بن راهويه: 1/110.

([89])   بدائع الصنائع:2/261، المغني:7/85.

([90])   فتح الباري: 9/158.

([91])   أحكام القرآن لابن العربي:1/477، تفسير القرطبي: 5/113.

([92])   في ظلال القرآن: 1/607.

([93])   المغني: 7/86، بدائع الصنائع:2/260، وغيرها من المراجع.

([94])   تفسير الطبري: 4/323.

([95])   مختار الصحاح: 1/103، لسان العرب :8/125.

([96])   الجوهرة النيرة:2/27.

([97])   فتح القدير :3/438.

([98])   شرح حدود ابن عرفة :224.

([99])   حاشيتا قليوبي وعميرة:4/63 ،الموسوعة الفقهية :22/241، وغيرها.

([100])   شرح البهجة:4/373.

([101])   حاشية البجيرمي على المنهج:4/98، حاشية الجمل :4/476، نهاية المحتاج:7/176.

([102])   القرطبي: 5/110، أحكام القرآن للجصاص: 2/113، المهذب: 2/155، الأم: 5/28، المبسوط: 5/135، شرح فتح القدير: 3/445، لسان الحكيم: 323، بدائع الصنائع: 4/5، حاشية الدسوقي: 4/158، التمهيد: 8/263، مختصر اختلاف العلماء: 2/315.

([103])   قال في الدراية: رواه الدار قطنى من حديث ابن عباس، وأخرجه ابن إن الهيثم بن جميل نفرد برفعه عن ابن عيينة إن أصحاب ابن عيينة وقفوه، وهو الصواب، وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة وعبدالرزاق وسعيد بن منصور، وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفا عن على وابن مسعود، انظر: الدراية: 2/68، وقال ابن الجوزي: قال الدارقطني لم يسنده عن ابن عيينة من الهيثم وهو ثقة حافظ، التحقيق في أحاديث الخلاف: 2/305، وانظر: الدارقطني: 4/174، سنن سعيد بن منصور: 1/278، مصنف ابن أبي شيبة: 3/550، مصنف عبد الرزاق: 7/465، تلخيص الحبير: 4/4.

([104])   الترمذي: 3/458، النسائي: 3/301، مسند إسحق بن راهويه: 1/119..

([105])   سنن الترمذي: 3/458.

([106])   سبق تخريجه.

([107])   مسلم: 2/1077، الترمذي: 3/458، النسائي: 3/301، المجتبى: 6/104، مسند إسحق بن راهويه: 1/110.

([108])   مسلم: 2/1078.

([109])   الأم:5/28.

([110])   إعلام الموقعين: 4/347.

([111])   انظر: تفسير القرطبي:5/110.

([112])   المدونة:2/297.

([113])   المبسوط:136، بدائع الصنائع:4/5.

([114])   المحلى: 10/205، المبسوط:136، بدائع الصنائع:4/5 ،المغني :8/142.

([115])   المحلى: 10/205.

([116])   سبق تخريجه.

([117])   البخاري:2/936، مسلم: 2/1078، أبو داود: 2/228، النسائي: 3/301، ابن ماجة:1/626، أحمد: 6/94.

([118])   نيل الأوطار: 7/119.

([119])   نيل الأوطار: 7/119.

([120])   كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه: 34/60.

([121])   نيل الأوطار: 7/123.

([122])   أحكام القرآن للجصاص :1/561.

([123])   المبسوط:5/138.

([124])   الترمذي: 3/458، النسائي: 3/301، مسند إسحق بن راهويه: 1/119.

([125])   قال في نصب الراية ـ ملخصا ـ:  روى من حديث علي ومن حديث جابر، فحديث علي رواه الطبراني في معجمه الصغير، أما حديث جابر فرواه أبو داود الطيالسي في مسنده، ورواه بن عدي في الكامل وأعله بحرام، ونقل عن الشافعي وابن معين أنهما قالا الرواية عن حرام حرام، نصب الراية:3/219، وانظر: البيهقي: 7/319.

([126])   أحكام القرآن للجصاص: 1/561، المحلى:10/205، بدائع الصنائع:4/9.

([127])   تبيين الحقائق :2/184، مغني المحتاج:5/126.

([128])   المبسوط /5/140، بدائع الصنائع :4/11، الأشباه والنظائر:108.

([129])   المدونة:2/303.

([130])   المنتقى:4/155.

([131])   نقل بعضهم الإجماع في ذلك وهو غير مسلم لما سنعرفه من شروط الرضاع ،انظر:درر الحكام :1/357.

([132])   المغني :8/140.

([133])   وهو قول الشيخ يوسف القرضاوي من المعاصرين، وقد رأيت له مقالا في هذا الموضوع بعد كتابة هذا المطلب، انتصر فيه لهذا القول، ومن ضمن ما قاله :« أننا لا نجد هنا ما يمنع من إقامة هذا النوع من ((بنوك الحليب))، ما دام يحقق مصلحة شرعية معتبرة، ويدفع حاجة يجب دفعها. آخذين بقول مَن ذكرنا من الفقهاء، مؤيداً بما ذكرنا من أدلة وترجيحات »، وهذا انطلاقا من الاتجاه المرجح الذي اختاره في أمور الرضاع هو التضييق في التحريم كالتضييق في إيقاع الطلاق.

وقال ردا على من يقولون بالأخذ بالأحوط :« عندما يعمل المرء في خاصة نفسه، فلا باس أن يأخذ بالأحوط والأورع، بل قد يرتقي فيدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعموم، وبمصلحة اجتماعية معتبرة، فالأولى بأهل الفتوى أن ييسروا ولا يعسروا، دون تجاوز للنصوص المحكمة، أو القواعد الثابتة، ولهذا جعل الفقهاء من موجبات التخفيف: عموم البلوى بالشيء مراعاة لحال الناس ورفقاً بهم، هذا بالإضافة إلى أن عصرنا الحاضر ـ خاصة ـ أحوجُ ما يكون إلى التيسير والرفق بأهله.

على أن مما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أن الاتجاه في كل أمر إلى الأخذ بالأحوط دون الأيسر أو الأرفق أو الأعدل، قد ينتهي بنا إلى جعل أحكام الدين مجموعة ((أحوطيات)) تجافي روح اليسر والسماحة التي قام عليها هذا الدين. قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((بعثت بحنيفية سمحة))، ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)

([134])   جواهر الكلام :29 / 294.

([135])   الكافي:5/445، وفي الأصل بدل الترضي  التسليم، وقد أبدلناه بهذا هنا، وفي غيره من المواضع لسببين: الأول اعتقادنا أن الترضي لا يقل عن السلام من حيث المعنى،  والثاني خشية من أن يسوء فهم بعض المتعصبين لمثل هذا،  فاخترنا سد الذريعة على أمانة النقل، لأن كلا الأمرين صحيح، ولا نعتقد أن إخواننا الإمامية يستاءون من الترضي.

([136])   زاد المعاد: 5/827.

([137])   المحلى :10/185، المدونة:2/295، الخرشي:4/177، سبل السلام:2/312 ،حاشية الجمل:4/477.

([138])   الوجور هو وضع اللبن تحت اللسان، واللدود ما صب من جالب الشق، والسعوط الدواء يصب في الأنف، انظر:التاج والإكليل :5/535.

([139])   المبسوط :30/296.

([140])   المغني :8/140، شرح البهجة:4/275.

([141])   التاج والإكليل :5/536.

([142])   مصنف عبد الرزاق: 7/461، المحلى: 10/8..

([143])   الأم :5/30، أحكام القرآن لابن العربي :1/481 ،الفتاوى الكبرى :3/168، مجمع الأنهر:1/375 ،الخرشي:4/177، الفواكه الدواني:2/55 ،مطالب أولي النهى :5/601، سبل السلام:2/310.

([144])   البخاري: 5/1962، الترمذي: 10/30، أبو داود: 3/306، النسائي: 3/494، أحمد: 3/451، ابن حبان: 10/30.

([145])   المغني :8/138، الإنصاف :9/375.

([146])   الأم :5/29 ،أسنى المطالب :3/418.

([147])   قال ابن حجر: رواه أبو داود من حديث أبي موسى الهلالي، وفيه قصة له مع أبي موسى في رضاع الكبير، وأبو موسى وأبوه قال أبو حاتم مجهولان، لكن أخرجه البيهقي من وجه آخر من حديث أبي حصين، تلخيص الحبير: 4/4، وانظر: مجمع الزوائد: 4/262، البيهقي: 7/461، أحمد: 1/432.

([148])   مسلم: 2/1074، الترمذي: 3/455، أبو داود: 2/224، ابن ماجة: 1/624، ابن حبان: 10/38، البهقي: 7/454، الدارقطني: 4/175.

([149])   مسلم: 2/1074.

([150])   المسند المستخرج علىصحيح مسلم:4/124، البيهقي: 7/455، النسائي: 3/299.

([151])   مسلم: 2/1075، البيهقي: 7/453، أبو داود: 2/223، النسائي: 3/298، ابن ماجة: 1/625، الموطأ:2/608..

([152])   سبق تخريجه.

([153])   انظر أقوال السلف في ذلك :المصنف لابن أبي شيبة:3/144.

([154])   الفتاوى الكبرى :3/168.

([155])   انظر هذه النصوص في: التمهيد: 4/274.

([156])   تأويل مختلف الحديث: 314.

([157])   انظر: الفتاوى الكبرى :3/168.

([158])   فتح الباري: 5/269.

([159])   الفتاوى الكبرى: 4/85.

([160])   أحكام القرآن للجصاص :2/180.

([161])   العناية شرح الهداية :3/448، مجمع الأنهر :1/378 ،بدائع الصنائع: 4/4، الخرشي :4/176 ،المنتقى: 4/150، أحكام القرآن لابن العربي:1/483، أحكام القرآن للجصاص :2/180، المغني :7/87، الفتاوى الكبرى:3/171، المحلى: 10/178.

([162])   المصنف :3/187.

([163])   البخاري: 5/1962، مسلم: 2/1069، الموطأ: 2/602، النسائي: 3/302.

([164])   البخاري: 5/2007، المسند المستخرج من صحيح مسلم: 4/117، الدارمي: 2/207، البيهقي: 7/452، ابن ماجة: 1/627، الموطأ:2/601، أحمد: 6/36.

([165])   مصنف ابن أبي شيبة: 4/18.

([166])   مصنف ابن أبي شيبة: 4/18.

([167])   المدونة:2/296، حاشية الدسوقي :2/504، الأم:5/31، تحفة المحتاج:8/292، بدائع الصنائع:4/10 ،المبسوط:5/133 ،فتح القدير:3/448 ،المغني :8/143، الجوهرة النيرة:2/28.

([168])   الغيلة بكسر الغين المعجمة أي جماع مرضع أو حامل، يقال أغالت واغتلت المرأة إذا حبلت وهي مرضعة ،ويسمى الولد المرضع مغيل،ا والغيل بالفتح ذلك اللبن، وكانت العرب يحترزون عنها ويزعمون أنها تضر الولد ،وهو من المشهورات الذائعة بينهم، انظر: فيض القدير: 5/280.

([169])   مسلم: 2/1067، الترمذي: 4/405، أبو داود: 4/9، النسائي: 3/206، الموطأ:2/607، أحمد: 6/361.

([170])   المدونة :2/296.

([171])   المنتقى :4/149 ،حاشية الصاوي:2/723 ،العناية شرح الهداية:3/448، رد المحتار:3/220، الإنصاف :8/115.

([172])   التاج والإكليل :5/538.

([173])   الأم :5/32.

([174])   المغني :8/144.

([175])   الأم: 5/28، أسنى المطالب :3/416 ،كشف الأسرار:1/17 ،الفواكه الدواني:2/55.

([176])   المدونة: 2/299، الأم:5/33، المحلى:10/188،المبسوط:5/140، المغني:8/140، المنتقى:4/149، الإنصاف:9/336، أسنى المطالب:3/416 ،الخرشي:4/176.

([177])   انظر: مصنف عبد الرزاق: 4/539.

([178])   البخاري: 1/109، مسلم: 1/282، ابن حبان: 4/70، النسائي: 1/122، ابن ماجة 1/178، أحمد :2/235.

([179])   البحر المحيط :8/16 ،الجوهرة النيرة:2/29 ،التاج والإكليل:5/535 ،حاشيتا قليوبي وعميرة:4/63.

([180])   المدونة:2/299 ،المغني: 8/145، المغني:8/145 ،تبيين الحقائق:2/185.

([181])   .

([182])   المغني: 8/138.

([183])   الأم: 5/37، الفتاوى الكبرى:3/170، أسنى المطالب:3/413 ،الخرشي:4/181 ،رد المحتار:3/223 ،منح الجليل :4/282 ،فتح العلي المالك:2/91.

([184])   بدائع الصنائع :4/14، المصنف لابن أبي شيبة: 3/323، المبسوط:5/137، بدائع الصنائع:4/14 ،الفتاوى الكبرى:3/163 ،الطرق الحكمية:71 ،تبصرة الحكام:1/358.

([185])   سبق تخريجه.

([186])   المنتقى:5/221.

([187])   المدونة الكبرى: 4/247.

([188])   المدونة الكبرى: 4/247.

([189])   المغني :8/155، تحفة المحتاج:8/298، المبسوط:10/170، التاج والإكليل :5/539.

([190])   الأم :5/28، المحلى:9/131، المبسوط :5/132، بدائع الصنائع:2/261 ،الفتاوى الهندية:1/343، شرح البهجة:4/378،  المغني :7/87، الإنصاف :9/329 ،الخرشي:4/178 ،حاشية الدسوقي:2/504، فتح العلي المالك:2/79، نيل الأوطار :6/376، أحكام القرآن لابن العربي :1/479 ،أحكام القرآن للجصاص :2/177.

([191])   سبق تخريجه.

([192])   سبق تخريجه.

([193])   سبق تخريجه.

([194])   انظر: زاد المعاد: 5/124، نيل الأوطار: 7/123.

([195])   زاد المعاد:5/125.

([196])   المبسوط: 5/138، تبيين الحقائق:2/183 ،الإنصاف:8/113 ،الخرشي:4/179 ،تنقيح الفتاوى الحامدية:1/33.

([197])   الفتاوى الكبرى:3/158.