المؤلف: نور الدين أبو
لحية |
العودة للكتاب: موانع الزواج |
الناشر: دار الكتاب
الحديث |
الفهرس
نتناول في هذا الفصل الحديث عن تتمة الموانع
التي تتنافى مع صحة الزوجية، وقد أفردنا هذا الفصل للحديث عن الموانع المؤقتة، وقد
رأينا حصرها في الموانع التالية:
1. المحرمات
بسبب الجمع.
2. المحرمات
بسبب تعلق حق الغير بها.
3. المحرمات
بسبب اختلاف الدين.
وقد أفردنا لكل نوع من هذه الأنواع
مبحثا خاصا.
ونقصد من المحرمات بسبب الجمع اثنين
من المحرمات، الجمع بين المحرمات والجمع بين أكثر من أربع نسوة، أي أن الحرمة
مؤقتة بزواجه من هذين الصنفين، ومنتهية بافتراقه عمن تحول بينه وبين من حرمت عليه
بهذا السبب، وفي هذا المبحث تفصيل للمحرمات بهذا السبب.
والمراد به[1] كل امرأتين تربطهما علاقة المحرمية بحيث لو فرضنا إحداهما ذكراً لا يحل له أن
يتزوج الأخرى، وذلك مثل: الأختين والبنت وأمها أو جدتها، والمرأة وعمتها أو خالتها
أو بنت أخيها أو أختها.
اتفق الفقهاء[2] على أن الجمع بين المحرمات محرم، وقد نقل الإجماع على ذلك، قال
القرطبي: (وهذا الحديث[3] مجمع على العمل به في تحريم الجمع بين من ذكر فيه بالنكاح، وأجاز
الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها، ولا يعتد بخلافهم لأنهم
مرقوا من الدين وخرجوا منه، ولأنهم مخالفون للسنة الثابتة) [4]
ولسنا ندري أي فرقة من الخوارج يقصد
القرطبي[5]، فالإباضية على القول بكونهم من الخوارج، يرددون ما يقوله أهل
السنة، فقد جاء في النيل، وهو من أهم كتبهم المعتمدة:(باب حرم الجمع بين أختين وإن
من رضاع أو بتسر أو بتخالف وكذا بين البنت والأم والعمة والخالة فإن الجمع بين
محرمتين حرام وضابطه: كل امرأتين بينهما من القرابة أو الرضاع ما يمنع نكاحهما لو
كانت إحداهما ذكرا والأخرى أنثى) [6]
وجاء في الشرح من المبالغة في النكير
على من يفعل ذلك أعظم مما عند أهل السنة أنفسهم، قال الشارح معلقا على الكلام
السابق:(إن تعمد جمعهما في عقدة حرمتا , وكفر هو والشهود والمنكح)
وقد نقل الإجماع على ذلك كذلك ابن حجر،
وذكر ما استثني من الخلاف فيه فقال:(والجمع بين الاختين في التزويج حرام بالإجماع
سواء ينفذ شقيقتين أم من أب أم من أم، وسواء النسب والرضاع، واختلف فيما إذا ينفذ
بملك اليمين، فأجازه بعض السلف، وهو رواية عن أحمد والجمهور وفقهاء الأمصار على
المنع) [7]، ومن الأدلة
على تحريم هذا الصنف، زيادة على الإجماع:
· قوله
تعالى في سياق المحرمات: ﴿ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾(النساء:23)،
وليس المراد الجمع بين الأختين فقط، بل هو إشارة إلى كل جمع فيه علاقة كعلاقة
الأختين.
· قوله
- صلى الله عليه وسلم -: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا المرأة
على ابنة أخيها ولا ابنة أختها، إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) [8]
الحكمة من
تحريم الجمع بين المحارم:
ذكر الفقهاء وجوها من الحكم التي
راعاها الشرع في تحريم الجمع بين المحارم[9] لعل أهمها أن الجمع بين ذواتي رحم محرم في النكاح سبب لقطيعة
الرحم لأن الضرتين يتنازعان ويختلفان ولا يأتلفان هذا أمر معلوم بالعرف والعادة،
وهو يفضي إلى قطع الرحم وهو حرام، والنكاح سبب فيحرم حتى لا يؤدي إليه، وإلى هذا
المعنى أشار النبي - صلى الله عليه وسلم -في آخر الحديث فيما روي أنه قال: (إنكم
لو فعلتم ذلك لقطعتم أرحامهن) [10] وروي في بعض
الروايات:(فإنهن يتقاطعن)، وفي بعضها(أنه يوجب القطيعة)
ولذلك روي عن السلف الصالح - رضي
الله عنهم - ما يدل على كراهة الجمع بين
الأقارب ولو كن من غير المحرمات، فعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يكرهون الجمع بين القرابة في النكاح، وقالوا: إنه يورث الضغائن، وروي عن
عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه
كره الجمع بين بنتي عمين، وقال: (لا أحرم ذلك، لكن أكرهه)، ووجه قوله أن الكراهة
سدا لذريعة القطيعة، وأما عدم الحرمة، فلأن القرابة بينهما ليست بمفترضة الوصل.
وقد استنبط العلماء ما يجب صلته من
الرحم بمن يحرم الجمع بينهم من المحارم، وقد نقل القرافي عن بعض العلماء في ذلك
قوله:(إنما تجب صلة الرحم إذا كان هناك محرمية وهما كل شخصين لو كان أحدهما ذكرا
والآخر أنثى لم يتناكحا كالآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأجداد والجدات وإن
علوا، والأولاد وأولادهم وإن سفلوا والأعمام والعمات والأخوال والخالات، فأما
أولاد هؤلاء فليست الصلة بينهم واجبة لجواز المناكحة بينهم، ويدل على صحة هذا
القول تحريم الجمع بين الأختين والمرأة وعمتها وخالتها لما فيه من قطيعة الرحم،
وترك الحرام واجب وبرهما وترك إذايتهما واجبة، ويجوز الجمع بين بنتي العم وبنتي
الخال وإن كن يتغايران ويتقاطعن وما ذاك إلا أن صلة الرحم بينهما ليست واجبة) [11]
حكم الجمع بين
الأقارب من غير المحارم:
بناء على ما سبق من الحكمة في تحريم
الجمع بين المحارم ورد نهي عام منه - صلى الله عليه وسلم - (أن تنكح المرأة على
قرابتها مخافة القطيعة)،وقد روي من ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم
- أنهم كانوا يكرهون الجمع بين القرابة
مخافة الضغائن، قد كره الإمام مالك هذا، فقد سئل عن ابنتي العم أيجمع بينهما؟
فقال: ما أعلمه حراما، قيل له: أفتكرهه قال: إن ناسا ليتقونه[12].
بل ورد عن بعض السلف ما يمنع الجمع
بين المرأة وقريبتها، سواء كانت بنت عم أو بنت عمة أو بنت خال أو بنت خالة لهذه
العلة، وقد روى ذلك عن إسحاق بن طلحة وعكرمة وقتادة وعطاء، ولكن انعقد الإجماع على
خلاف ذلك، وقد نقله ابن عبد البر وابن حزم وغيرهما، قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا
أبطل هذا النكاح، وهما داخلتان في جملة ما أبيح، خارجتين منه بالكتاب والسنة
والإجماع[13].
وقد وردت الآثار الكثيرة عن السلف
الصالح، تبين جواز الزواج بغير من صرحت بهم النصوص الشرعية، وقيدتهم القاعدة
الفقهية، ومن الآثار الواردة في ذلك جمع الحسن بن الحسن بن علي بين بنتي عم في
ليلة واحدة، فأصبح النساء لايدرين أين يذهبن.
قاعدة تحريم الجمع بين المحارم:
بناء على الحديث السابق، والعلة التي
ذكرها، قرر الفقهاء قاعدة لتحريم الجمع هي (يحرم
الجمع بين كل امرأتين لو فرضنا إحداهما رجلاً لا يحل له أن يتزوج الأخرى) وأصل هذه
القاعدة كما ذكر القرطبي ما روي عن الشعبي أنه قال:(كل امرأتين إذا جعلت موضع
إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج الأخرى، فالجمع بينهما باطل)، قال الراوي: فقلت
له: عمن هذا؟ قال: عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن عبد البر:(وهذا على مذهب
مالك والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وسائر فقهاء الأمصار من أهل الحديث وغيرهم
فيما علمت، لا يختلفون في هذا الأصل) [14]
ولأجل هذا لأصل كره بعض السلف أن
يجمع الرجل بين ابنة رجل وامرأته من أجل أن أحدهما لو كان ذكرا لم يحل له نكاح
الأخرى، ولكن الجمهور على الجواز لأن
المراعى النسب دون غيره من المصاهرة، وسنرى حكم هذا في محله من هذا المبحث.
بعض تطبيقات
قاعدة الجمع بين المحارم:
1 ـ الجمع بين العمتين والخالتين:
وأصل تحريم هذا الجمع ليس القاعدة
التي قررها الفقهاء فقط، بل لها مستند من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
فقد ورد في بعض روايات الحديث السابق، عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنه - صلى
الله عليه وسلم - كره أن يجمع بين العمة والخالة، وبين العمتين والخالتين، وقد حمل
بعض العلماء هذه الرواية على المجاز أي بين العمة وبنت أخيها، فقيل لهما عمتان كما
سمي الشيخان بالعمرين، أي أبي بكر وعمر، وذلك يقتضي أن يكون كلاما مكررا لغير
فائدة، لأنه إذا كان المعنى نهى أن يجمع بين العمة وبنت أخيها، وبين العمتين يعني
به العمة وبنت أخيها، صار الكلام مكررا لغير فائدة، ولو كان كما قال لوجب أن يكون
وبين الخالة[15].
ولذلك فإن التفسير الأقرب للرواية
والذي يخضع معناه للقاعدة السابقة هو أن الحديث نهى أن يجمع بين العمة والخالة،
ويتحقق ذلك بألا يجمع بين امرأتين إحداهما عمة الأخرى والأخرى خالة الأخرى، وذلك
بأن يكون رجل وابنه تزوجا امرأة وإبنتها، فتزوج الرجل البنت، وتزوج الإبن الأم،
فولد لكل واحد منهما ابنة من هاتين الزوجتين، فابنة الأب عمة ابنة الإبن وابنة
الابن خالة ابنة الأب.
أما الجمع بين الخالتين، فيتحقق بأن يكونا امرأتين، كل
واحدة منهما خالة الأخرى، وذلك أن يكون رجل تزوج ابنة رجل، وتزوج الآخر ابنته فولد
لكل واحد منهما ابنة، فابنة كل واحد منهما خالة الأخرى.
ومثله الجمع بين العمتين، فإنه يتحقق
بألا يجمع بين امرأتين كل واحدة منهما عمة الأخرى، وذلك أن يتزوج رجل أم رجل،
ويتزوج الآخر أم الآخر، فيولد لكل واحد منهما ابنة، فابنة كل واحد منهما عمة
الأخرى.
2 ـ الجمع بين المحارم بالرضاع:
إن الرضاع بسبب أخذه حكم النسب بقوله
- صلى الله عليه وسلم -:(يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) [16] شمل الجمع بين
المرأتين اللتين ربطتهما رابطة النسب أو الرضاع، فكما يحرم الجمع بين الأختين نسباً
يحرم الجمع بين الأختين رضاعاً، وكما يحرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من
النسب يحرم الجمع بينها وبين عمتها أو خالتها من الرضاع.
المستثنيات من
التحريم بالجمع بين المحارم:
يستثنى من القاعدة السابقة أو يطبق
على أساسها، ما لو كانت العلاقة من جانب واحد فقط، كأن يجمع الرجل بين امرأة أخرى
كانت زوجة لأبي الأول من قبل، ومثلهما المرأة وزوجة ابنها، لأننا لو فرضنا المرأة
رجلاً لا يحل له التزوج بالأخرى لأنها حليلة ابنه، ولو فرضنا زوجة الابن رجلاً حل
له التزوج بالأخرى لعدم المحرمية بينهما لأن فرضها رجلاً يخرجها عن كونها زوجة
للابن، وقد خالف في ذلك زفر وابن أبي ليلى فقالا بعدم جواز ذلك،لأن البنت لو كانت
رجلا لكان لا يجوز له أن يتزوج الأخرى ; لأنها منكوحة أبيه فلا يجوز الجمع بينهما
كما لا يجوز الجمع بين الأختين.
ومن ذلك الجمع بين المرأة وبنت
زوجها، فقد روي أن عبد الله بن صفوان تزوج امرأة رجل من ثقيف وابنته أي من غيرها،
فسئل عن ذلك ابن سيرين فلم ير به بأسا، وقال: نبئت أن رجلا كان بمصر اسمه جبلة جمع
بين امرأة رجل وبنته من غيرها.
وجمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب
بين بنت على وامرأة علي، وكأنه أشار بذلك إلى دفع من يتخيل أن العلة في منع الجمع
بين الاختين ما يقع بينهما من القطيعة فيطرده إلى كل قريبتين، ولو بالصهارة.
وقد كره قوم من السلف أن يجمع الرجل
بين ابنة رجل وامرأته من أجل أن إحداهما لو كانت رجلا لم يحل له زواج الأخرى والذي
عليه الفقهاء أنه لا بأس بذلك، وأن المراعى في هذا المعنى النسب دون غيره من
المصاهرة فإنه لا بأس أن يجمع بين امرأة الرجل وابنته من غيرها، فعن سلمة بن علقمة
قال: إني لجالس عند الحسن إذا سأله رجل عن الجمع بين البنت وامرأة زوجها، فكرهه،
فقال له بعضهم: يا أبا سعيد، هل ترى به بأسا؟ فنظر ساعة، ثم قال: ما أرى به
بأسا.ولعله كرهه لما سبق ذكره من القطيعة.
وقد فرق بعض العلماء من جهة النظر
بين امرأة الرجل وابنته، وبين المرأة وعمتها، بأن هاتين وما كان مثلهما، أيتهما
جعلت ذكرا لم يحل له الأخرى، وأما امرأة الرجل وابنته من غيرها فإنه لو كان موضع
البنت ابن لم يحل له امرأة أبيه، أو أن يجعلوا موضع المرأة ذكرا فتحل له الأنثى،
لأنه رجل أجنبي تزوج ابنة رجل أجنبي، وليس الأختان ولا العمة مع ابنة أخيها،
والخالة مع ابنة أختها كذلك، لأن هؤلاء أيتهما جعلت ذكرا لم تحل له الأخرى[17].
حالات الجمع
بين المحارم وأحكامها:
للجمع بين المحرمين أحوال اتفق
الفقهاء على حرمة الزواج فيها جميعا، هي[18]:
الحالة الأولى: أن يعقد
عليهما جميعا معا، فلا يصح زواج واحدة منهما، لأنه جامع بينهما، وليست إحداهما
بأولى بجواز زواجها من الأخرى، ولا يجوز تصحيح زواجهما مع تحريم الله تعالى الجمع
بينهما، وغير جائز تخيير الزوج في أن يختار أيتهما شاء من قبل أن العقدة وقعت
فاسدة مثل الزواج في العدة أو هي تحت زوج، فلا يصح أبدا.
الحالة الثانية: أن يتزوج
إحداهما ثم يتزوج الأخرى بعدها، فلا يصح زواج الثانية، لأن الجمع بها حصل وعقدها
وقع منهيا عنه، وعقد الأولى وقع مباحا، فيفرق بينه وبين الثانية.
الحالة الثالثة: أن لا يدري
أيتهما عقد عليها أولا، وفي هذه الحالة لا يجوز له التحري بل يفرق بينه وبينهما،
لأن زواج إحداهما فاسد بيقين - وهي مجهولة - ولا يتصور حصول مقاصد الزواج من المجهولة
فلا بد من التفريق، أما الآثار المالية لهذا التفريق فقد اختلف فيها على قولين:
القول الأول: إن ادعت كل
واحدة منهما أنها هي الأولى ولا بينة لها يقضى لها بنصف المهر، لأن الزواج الصحيح
أحدهما، وقد حصلت الفرقة قبل الدخول لا بصنع المرأة فكان الواجب نصف المهر، ويكون
بينهما لعدم الترجيح إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى، وهو قو ل للحنفية.
القول الثاني: يوقف المشكوك
فيه من ذلك حتى يصطلحن عليه، أو يتبين الأمر وهو مذهب الشافعي.
القول الثالث: لا يلزم
الزوج شيء، وقد روي هذا القول عن أبي يوسف.
القول الرابع: أنه يجب عليه المهر كاملا، وإن قالتا لا ندري
أيتنا الأولى لا يقضى لهما بشيء،لكون المدعية منهما مجهولة إلا إذا اصطلحت على شيء
فحينئذ يقضى لها، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والنخعي، والشعبي، وهو نفس حكمهم في
الميراث فقد روي عنهم ما يدل على أن المهر والميراث يقسم بينهن على حسب الدعاوى
والتنزيل كميراث الخناثى.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذهب
إليه الشافعية من التوقف حتى الاصطلاح أو تبين الأمر، فإن لم يحصل ما رجي من
الاصطلاح كان على الزوج نصف المهر وجوبا لأنه بالعقد على إحداهما وجب عليه نصف المهر،
والخلاف بينهما لا يرفع عنه هذا الوجوب، فإذا استمر عدم اصطلاحهما قسم نصف المهر
بينهما، لأن إحداهما ليست أولى به من الأخرى، ولا يصح في ذلك اللجوء إلى القرعة،
لأنها قد تقع على من لا تستحقه، فلذلك كان الأولى أن نضمن للصادقة منهما بعض حقها،
خيرا من أن يضيع حقها جميعا.
حكم الزواج
بمحرم المعتدة [19]:
اتفق الفقهاء على حرمة الجمع بين
المرأة المطلقة طلاقا رجعيا وأختها قبل انتهاء العدة، وقد نقل القرطبي الإجماع على
ذلك، فقال:(أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له
أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة
المطلقة) [20]
واختلفوا في حكم الزواج بامرأة في
عدة أختها على قولين:
القول الأول:تحريم زواج
المرأة في عدة ذواتي المحارم سواء كانت
العدة من طلاق رجعي أو بائن أو ثلاث أو بالمحرمية الطارئة بعد الدخول، أو بالدخول
في زواج فاسد أو بالوطء في شبهة، وقد روي هذا القول عن علي وزيد بن ثابت - رضي
الله عنهم - وهو مذهب مجاهد وعطاء بن أبي
رباح والنخعي وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل والحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي:
أن ملك الحبس بالعقد قائم، فإن الزوج
يملك منعها من الخروج والبروز، وحرمة التزوج بزوج آخر ثابتة، والفراش قائم حتى لو
جاءت بولد من وقت الطلاق.
أن العدة شرعت وسيلة إلى أحكام
الزواج، فكان الزواج قائما من وجه ببقاء بعض أحكامه، والثابت من وجه ملحق بالثابت
من وجه آخر في باب الحرمة احتياطا، مثلما ألحقت الأم والبنت من وجه بالرضاعة
بالأم، وألحقت بالبنت من كل وجه.
أن الجمع قبل الطلاق إنما حرم لكونه
مفضيا إلى قطيعة الرحم، لأنه يورث الضغينة، وإنها تفضي إلى القطيعة، والضغينة ههنا
أشد لأن معظم النعمة - وهو ملك الحل - الذي هو سبب اقتضاء الشهوة قد زال في حق
المعتدة، وبزواج الثانية يصير جميع ذلك لها وتقوم مقامها وتبقى هي محرومة الحظ
للحال من الأزواج فكانت الضغينة أشد، فكانت أدعى إلى القطيعة بخلاف ما بعد انقضاء
العدة، لأنه حينذاك لم يبق شيء من علائق الزوج الأول فكان لها سبيل الوصول إلى زوج
آخر، فتستوفي حظها من الثاني فتسلى به فلا تلحقها الضغينة.
القول الثاني: الجواز إلا
إذا كانت العدة من طلاق رجعي، وقد روى هذا القول عن عطاء وهي أثبت الروايتين عنه،
وروى عن زيد بن ثابت أيضا، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير
وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد، قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول
مالك، قال القرطبي: وبه نقول، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· قوله
- صلى الله عليه وسلم -:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم
أختين)
· أن
في المسألة إجماعا من الصحابة - رضي الله عنهم - ، فعن عبيدة السلماني أنه قال:
(ما أجمعت الصحابة على شيء كإجماعهم على أربع قبل الطهر، وأن لا تنكح امرأة في عدة
أختها) [21]
· عن
أبي الزناد قال كان للوليد بن عبد الملك أربع نسوة فطلق واحدة البتة، وتزوج قبل أن
تحل، فعاب ذلك عليه كثير من الفقهاء، وليس كلهم عابه، قال سعيد بن منصور: إذا عاب عليه سعيد بن
المسيب فأي شيء بقي.
· أن
المحرم هو الجمع بين الأختين في الزواج، والزواج قد زال من كل وجه لوجود المزيل له
- وهو الطلاق الثلاث أو البائن - ولهذا لو وطئها بعد الطلاق الثلاث مع العلم
بالحرمة لزمه الحد، فلم يتحقق الجمع في الزواج فلا تثبت الحرمة.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول
الثاني، لعدم ثبوت ما يحرم الثانية بعد فراق الأولى، ولا عبرة بعدتها التي لا
علاقة لها بالرجل، لعدم إمكان رجعتها، قال ابن العربي:(وهي من مسائل الخلاف
الطويلة، والذي نجتزئ به الآن أن الله سبحانه نهاه عن أن يجمع، وهذا ليس بجمع منه،
لأن الزواج اكتسبه، والعدة ألزمته، فالجامع بينهما هو الله سبحانه بخلقه، وليس
للعبد في هذا الجمع كسب يرجع النهي بالخطاب إليه) [22]
ومع ذلك ينبغي رعاية مشاعرها إن علم
أن ذلك يؤذيها، فإذية المسلم حرام، حتى لو كانت المؤذاة مطلقته، وهو من حسن الخلق،
ونرى أن للقضاء مراعاة ذلك والأخذ بالقول الأول في حال الحاجة إلى ذلك حفاظا على
الرحم والعلاقات الأسرية، وهو ما قصده الحنفية.
ثانيا: الجمع بين أكثر من أربع نسوة:
من المحرمات مؤقتا بسبب الجمع من كان
له أربع زوجات، فإنه يحرم عليه أن يتزوج بخامسة تحريماً مؤقتاً حتى ينتهي زواجه من
إحداهن إما بالموت أو الطلاق، يستوي في ذلك كون الأربع زوجات حقيقة كلهن أو بعضهن
زوجات والبعض معتدات أو كلهن معتدات باتفاق الفقهاء[23]، بل قد نقل الإجماع على ذلك، ومن الأدلة على ذلك زيادة على
الإجماع قوله تعالى:﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا
مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ (النساء:3)
فقد نصت هذه الآية على العدد المباح من الزوجات، فجعلت غايته أربعاً، ولو كانت
الزيادة مباحة لما اقتصرت على هذا العدد.
وقد ذكر الفقهاء هنا قولا غريبا
توهمه بعضهم، أو اشتبه عليه من قوله تعالى:﴿ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ﴾
فقال: (إن هذه الآية تبيح للرجل تسع نسوة) [24]،وقد حكي هذا
القول عن الظاهرية[25]، وحكي عن ابن الصباغ والعمراني وبعض الشيعة وعن القاسم بن إبراهيم
وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه.
ومن المعاصرين حكى وهبة الزحيلي هذا
القول عن الشيعة، فقال:(لا يجوز للرجل في مذهب أهل السنة أن يتزوج اكثر من أربع
زوجات في عصمته في وقت واحد، ولو في عدة مطلقة... وذهب الظاهرية والإمامية إلى انه
يجوز للرجل أن يتزوج تسعاً، آخذاً بظاهر الآية:﴿) مَثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاع)(النساء: من الآية3) فالواو للجمع لا للتخيير، أي يكون المجموع تسعة) [26]
وما نسبه الزحيلي إلى الشيعة في هذه
المسألة، هو نموذج للاعتماد على النقولات والإشاعات، دون الرجوع إلى مصادر الجهة
ذاتها.
فمصادر الشيعة في التفسير والحديث
والفقه، مجمعة على عدم جواز الزواج من أكثر من أربع زوجات بالزواج الدائم في وقت
واحد كما هو رأي أهل السنة.
فمن اقدم التفاسير الشيعية جاء في
(التبيان في تفسير القرآن) للشيخ محمد بن الحسن الطوسي (385-460)، ما يلي:(ومن
استدل بهذه الآية مثنى وثلاث ورباع على أن نكاح التسع جائز فقد أخطأ لأن ذلك خلاف
الإجماع... فتقدير الآية:﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾(النساء: من الآية3)، فثلاث بدل من مثنى، ورباع
بدل من ثلاث) [27]
وجاء في (مجمع البيان في تفسير
القرآن) للشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي، من أعلام القرن السادس الهجري، ما
يلي:(وقوله تعالى:﴿ مثنى وثلاث ورباع ﴾ معناها اثنتين
اثنتين، وثلاثاً ثلاثا، وأربعاً أربعا، فلا يقال إن هذا يؤدي إلى جواز نكاح التسع،
فان اثنتين وثلاثة وأربعة تسعة، لما ذكرناه، فان من قال دخل القوم البلد مثنى،
وثلاث، ورباع، لا يقتضي اجتماع الأعداد في الدخول، ولأن لهذا العدد لفظاً موضوعاً،
وهو تسع، فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العي، جلّ كلامه عن ذلك وتقدس) [28]
والى أواخر التفاسير الشيعية حيث جاء
في (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل) للشيخ ناصر مكارم الشيـرازي ما يلي:(ولا
بـد مـن التنـبيه إلى أن (الواو) هنا أتت بمعنى (أو) فليس معنى هذه الجملة هو انه
يجوز لكم أن تتزوجوا باثنتين وثلاث وأربع ليكون المجموع تسع زوجات، لأن المراد لو
كان هذا لوجب أن يذكر بصراحة فيقول: وانكحوا تسعاً، لا أن يذكره بهذه الصورة
المتقطعة المبهمة، هذا مضافاً إلى أن حرمة الزواج بأكثر من أربع نسوة من ضروريات
الفقه الإسلامي، وأحكامه القطعية المسلمة) [29]
ومن الأدلة التي حكيت عن أصحاب هذا
القول:
· أن
مثل هذا الأصل العظيم لا يكتفى فيه بالأحاديث الظنية، لا سيما وقد ثبت أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع بين تسع أو إحدى عشرة، وقد قال تعالى لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾(الأحزاب:21)، أما دعوى
اختصاصه بالزيادة على الأربع فهو محل النزاع ولم يقم عليه دليل.
· أن
الواو في قوله تعالى:﴿ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ﴾ للجمع لا
للتخيير.
·
وقد رد عليهم
الفقهاء بأدلة كثيرة لغوية ونصية مع الإجماع، ومن تلك الأدلة:
· أن
هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع كما صرح بذلك ابن حجر،
قال في الفتح: اتفق العلماء على أن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - الزيادة على
أربع نسوة يجمع بينهن[30].
· انتفاء
ما استدلوا به من اللغة لأن مثنى عند العرب عبارة عن اثنين مرتين، وثلاث عبارة عن
ثلاث مرتين، ورباع عبارة عن أربع مرتين، فيخرج من ظاهره على مقتضى اللغة إباحة
ثماني عشرة امرأة، لأن مجموع اثنين وثلاثة وأربعة تسعة.
· أنه
لو قال تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى
فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ﴾(النساء:3)
لما خرج من ذلك جواز زواج التسع لأن مقصود الكلام، وترتيبه حينذاك: فلكم زواج
أربع، فإن لم تعدلوا فثلاثة، فإن لم تعدلوا فاثنتين، فإن لم تعدلوا فواحدة، فنقل
العاجز عن هذه الرتب إلى منتهى قدرته، وهي الواحدة من ابتداء الحل، وهي الأربع.
· أنه
لو كان المراد تسع نسوة لكان تقدير الكلام: فانكحوا تسع نسوة، فإن لم تعدلوا فواحدة، وهذا من ركيك البيان الذي لا يليق
بالقرآن.
· أنه
كان تحت النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من تسع، وإنما مات عن تسع، وله في
الزواج وفي غيره خصائص ليست لأحد بينها تعالى
في سورة الأحزاب.
· عن
ابن عمر- رضي الله عنه -: أن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن
معه فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم -أن يختار منهن أربعاً ويفارق سائرهن[31].
· عن
قيس بن الحارث قال: أسلمت وتحتي ثمان نسوة فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت له ذلك فقال: اختر
منهن أربعاً[32].
ثالثا ـ كيفية
تصحيح العقود الفاسدة بسبب الجمع:
انطلاقا من طريقة الشرع في التعامل
مع الأحكام في الحالتين: الحالة السابقة للتعرف على الحكم، والحالة التالية له،
تحدث الفقهاء هنا عن كيفية تصحيح أنكحة الكفار الذين أسلموا، وهم يجمعون جمعا
فاسدا محرما، وسنتحدث في هذا المطلب الكيفية التي وصفها الفقهاء لذلك، ونقدم لها
بالأصل الذي نشأ عنه الخلاف فيها[33].
حكم العقود
التي وقعت من الكفار قبل الإسلام:
وهي من المسائل المهمة، والتي تمس
الحاجة إليها كثيرا في عصرنا خاصة في البلاد التي يكون فيها الإقبال على الإسلام
تعلما أو تقبلا، وهي لذلك تتطلب فتاوى حذرة خشية جعل مثل هذه المسائل حجابا بين
الناس والإسلام، وقد اختلف الفقهاء في هذ المسألة على قولين:
القول الأول: ينظر إلى صفة
العقد في الكفر، هل له مساغ في الإسلام أم لا، فإن كان له مساغ صححه، وإلا أبطله،
وهو قول الحنفية، فلو تزوج كافر أكثر من أربع في عقد واحد فسد زواج الجميع وإن كان
في عقود ثبت زواج الأربع، وفسد زواج من بعدهن من غير تخيير، واستدلوا على ذلك بما
يلي:
·
أنه قد ثبت عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث بريدة ومعاذ وغيرهما الأمر بدعاء الكفار إلى
أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين والمسلم ليس له أن يتزوج أكثر من
أربع ولا أختين في عقد واحد.
· أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) [34]، وهو نص في
المسألة قاطع للنزاع، لأن عقودهم لم تكن لها المواصفات الشرعية.
· أن
حديث غيلان الذي استدل به الجمهور واعتبروه نصا في المسألة منقطع لا يصح الاستدلال
به , إنما أصله ما أنه - صلى الله عليه وسلم -
قال لرجل من ثقيف أسلم،وعنده أكثر من أربع نسوة:(أمسك منهن أربعا , وفارق
سائرهن)، فهذا هو أصل هذا الحديث , كما رواه مالك عن الزهري , وكما رواه عبد
الرزاق , وابن عيينة , عن معمر , عن الزهري , وقد رواه أيضا عقيل , عن الزهري , ما
يدل على الموضع الذي أخذه الزهري منه، وقد أتى معمر في هذا الحديث لأنه كان عنده
عن الزهري , في قصة غيلان حديثان , هذا أحدهما. والآخر أن غيلان بن سلمة , طلق
نساءه , وقسم ماله , فبلغ ذلك عمر , فأمره أن يرتجع نساءه وماله وقال: (لو مت على
ذلك , لرجمت قبرك , كما رجم قبر أبي وغال في الجاهلية)، فأخطأ معمر فجعل إسناد هذا
الحديث الذي فيه كلام عمر , للحديث الذي فيه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ففسد هذا الحديث من جهة الإسناد[35].
· أنه
مع افتراض ثبوت حديث غيلان، فإنه ليس فيه حجة على ما ذهب إليه الجمهور لأن تزويج
غيلان ذلك إنما كان في الجاهلية , فكان تزويج غيلان للنسوة اللاتي كن عنده حين
أسلم , في وقت كان تزوج ذلك العدد جائزا , والزواج عليه ثابت. ولم يكن للواحدة
حينئذ , من ثبوت الزواج إلا ما للعاشرة مثله , ثم أحدث الله تعالى حكما آخر , وهو
تحريم ما فوق الأربع , فكان ذلك حكما طارئا , طرأت به حرمة حادثة على زواج غيلان ,
فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك أن يمسك من النساء العدد الذي أباحه الله
, ويفارق ما سوى ذلك , وجعل كرجل له أربع نسوة , فطلق إحداهن , فحكمه أن يختار
منهن واحدة فيجعل ذلك الطلاق عليها , ويمسك الأخرى.
· أن
المراد من حديث غيلان ـ في حال صحة الاحتجاج به ـ (اختر منهن أربعا تعقد عليهن
عقدا جديدا)، ومثله قوله في الأختين:(اختر أيتهما شئت)، إنما هو تخيير ابتداء لا
تخيير استدامة لما ذكر من الأدلة، ولو كان تخيير استدامة لاحتمل أن يكون غيلان عقد
عليهن في الحال التي كان يجوز فيها العقد على أكثر من أربع، وذلك في أول الإسلام،
فإن القصر على أربع إنما وقع في سورة النساء، وهي مدنية بالاتفاق، أو يجوز أن يكون
النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم صورة الحال وأنه تزوجهن في عقد واحد، فأمره أن يختار منهن أربعا يبتدئ زواجهن، ولا
سبيل إلى العلم بانتفاء هذا.
· أن
زواج الخمس في عقد واحد لا يختلف فيه حكم البقاء والدوام في المنع فكان باطلا
كزواج ذوات المحارم، لأنه ليس تحريم الخامسة من جهة الجمع، فلم يختلف فيه حال
الابتداء والاستدامة والإسلام والكفر كعقد المرأة على زوجين.
· القياس
على ما لو باع ذمي درهما بدرهمين ثم أسلم قبل القبض، فإنه لا يخير في أحد الدرهمي،
فمثله إذا أسلم وتحته أختان يجب ألا يخير في إحدى الأختين.
· أن
العقد على الخمس في حال الشرك لا يخلو من أحد أمرين: إما أنه صحيح أو فاسد، ولا
يجوز أن يقال إنه صحيح إذ لو كان كذلك لم يجز نقضه بعد الإسلام، فثبت أنه فاسد،
وإذا كان فاسدا لم يصححه الإسلام كزواج ذوات المحارم.
· أنه
عقد على عدد محرم، فلا يثبت فيه التخيير كعقد السلم.
القول الثاني: صحة العقود
التي وقعت من الكفار حال كفرهم، وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن الذين أسلموا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ وقد أسلم على عهده الخلق الكثير، ودخلوا في دين الله أفواجا ـ فلم يسأل أحدا منهم كيف كان عقدك على امرأتك، وهل نكحتها في عدتها أم بعد انقضاء عدتها؟ وهل نكحت بولي وشهود أم لا؟ ولا سأل من كان تحته أختان، هل جمعت بينهما في عقد واحد، أم تزوجت واحدة بعد واحدة؟ ولم يسأل أحدا منهم عن صفة زواجه؟ بل أقرهم على أنكحتهم.
· أن
الرجل إذا أسلم يصير له ما للمسلمين وعليه ما عليهم وقت إسلامه، أما قبل ذلك فلم
يكن كذلك، فلذلك لا يصح احتجاجهم بهذا الحديث، بل هو حجة عليهم لأنه لم يقل:
أخبرهم أن عليهم ما على المسلمين قبل الإسلام، والذي على المسلم أنه لا يمكن من
العقد على أختين ابتداء ولا استدامة.
· أن
قوله - صلى الله عليه وسلم -:(كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) وليس أمره على الجمع
بين الأختين والتزوج بأكثر من أربع، فلذلك رد بالإسلام، وهو لم يقل: إن ما كان في
الجاهلية مما يخالف أمري ومضى وانقضى فهو رد، وإنما يرد منه ما قام الإسلام وهو
على خلاف أمره.
· أن
تحريم ما زاد على الأربع إنما كان من جهة الزيادة على العدد المباح، والزيادة يمكن
إبطالها دون النصاب، فإن المفسدة تختص بها، فلا معنى لتعدية الإبطال إلى النصاب،
فيبقى الزواج في حق الأربع صحيحا فهذا محض القياس، بخلاف زواج ذوات المحارم، فإن
المفسدة التي فيه لا تزول إلا ببطلان الزواج لقيام سبب التحريم.
· أن
تحريم الزائد على أربع إنما نشأ من جهة انضمامه إلى القدر الجائز، وإلا فكل واحدة
منهن لو انفردت صح العقد عليها، بخلاف تحريم ذوات المحارم، فإنه ثابت لذاتها
وعينها، فقياس أحد النوعين على الآخر فاسد.
· أن
تحريم الزائد على الأربع أخف من تحريم ذوات المحارم، ولهذا أبيح لنبينا - صلى الله
عليه وسلم - الزيادة على أربع، ولم تبح له ذوات المحارم فلا يصح اعتبار أحد
النوعين بالآخر، ونحن لا ننظر إلى ابتداء العقد كيف وقع، بل إلى حاله عند الإسلام.
· أن
العقد الذي وقع في حال الكفر على هذا الوجه لا يحكم له بصحة ولا فساد بل يقرون
عليه كما يقرون على كفرهم، فإن استمروا على الكفر لم نتعرض لعقودهم، وإن أسلموا
حكم ببطلان ما يقتضي الإسلام بطلانه من حين الإسلام، لا قبل ذلك، كالحكم في سائر
عقودهم من بياعاتهم وغيرها، فما كان قبل الإسلام فهو عفو لا نحكم له بأحكام
الإسلام.
· قوله
- صلى الله عليه وسلم - في بعض ألفاظ الحديث:(أمسك أربعا وفارق سائرهن)، وهو يقتضي
إمساكهن بالعقد الأول، كما قال تعالى:﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾(الأحزاب:37)،وقوله:﴿
فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ﴾(البقرة:229)، ولا يعقل الإمساك غير هذا، لأن
تفسير (أمسك أربعا) بـ (تزوج أربعا) خروج باللفظ عن القياس إلى الألغاز واللبس
الذي يتنزه عنه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
· أنه
جعل الإمساك والاختيار إليه ولو كان المراد به العقد لكان الاختيار إليهن لا إليه
لأنه لا يعقد عليهن إلا برضاهن.
· أنه
أمره بالاختيار، وهو واجب عليه، ولو كان المراد تجديد العقد لم يجب عليه، ولهذا لو
أبى الاختيار أجبره عليه الحاكم، فإن امتنع ضربه حتى يختار لأنه واجب عليه.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني
لصراحة النصوص الدالة على ذلك، ولعل أهمها فيما نرى ليس نص الحديث الصريح في ذلك،
فقد توجه إليه بالنقد، وإن كنا لا نسلم لكل ما قيل فيه من نقد لكثرة الأحاديث
والشواهد الدالة على صحة الاحتجاج به، ولكن أصرح منه وأقوى دلالة دليلان:
الدليل الأول: هو قوله تعالى:
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ
مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِين﴾(البقرة:278) فقد أمر الله تعالى
بترك ما بقي من الربا دون رد ما قبض، بل كان عفوا كما قال تعالى:﴿فَمَنْ
جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون﴾(البقرة:275)
فأمرهم بترك ما بقى لهم من الربا في الذمم، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا،
وقد أسقط النبى - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم، ولم
يأمرهم برد المقبوض، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(أيما قسم قسم في الجاهلية
فهو على ما قسم وأيما قسم أدركه الاسلام فهو على قسم الاسلام)،وكذلك سائر العقود
له ما سلف منها، ويجب عليه ترك ما يحرمه الإسلام، قال ابن القيم: (وهذه الآية هي الأصل
في هذا الباب جميعه فإنه تعالى لم يبطل ما وقع في الجاهلية على خلاف شرعه، وأمر
بالتزام شرعه من حين قام الشرع) [36]
والدليل الثاني: هو كيفية
تعامله - صلى الله عليه وسلم - مع من أسلم من المشركين مع كثرة الأنكحة الفاسدة في
عهده - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه لم يسأل أحدا منهم عن ذلك، بل كان دوره - صلى
الله عليه وسلم - يقتصر فقط على تصحيح الفاسد، لا إبطال ما كان.
وقد اعتبر ابن القيم هذه المسألة من
المسائل التي ردت فيها السنة الصحيحة للقياس، بقوله بعد ذكر بعض الأحاديث
السابقة:(هذان الحديثان هما الأصول التي نرد ما خالفها من القياس، أما أن نقعد
قاعدة ونقول هذا هو الأصل، ثم نرد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة، فلعمر الله لهدم
ألف قاعدة لم يؤصلها الله ورسوله أفرض علينا من رد حديث واحد، وهذه القاعدة معلومة
البطلان من الدين ; فإن أنكحة الكفار لم يتعرض لها النبي - صلى الله عليه وسلم
-كيف وقعت، وهل صادفت الشروط المعتبرة في الإسلام فتصح أم لم تصادفها فتبطل، وإنما
اعتبر حالها وقت إسلام الزوج ; فإن كان ممن يجوز له المقام مع امرأته أقرهما، ولو كان في الجاهلية قد وقع على غير
شرطه من الولي والشهود وغير ذلك، وإن لم يكن الآن ممن يجوز له الاستمرار لم يقر
عليه كما لو أسلم وتحته ذات رحم محرم أو أختان أو أكثر من أربع ; فهذا هو الأصل
الذي أصلته سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما خالفه فلا يلتفت إليه) [37]
ثم إن هذا القول بعد ذلك ينسجم مع
مقاصد الإسلام التي ترمي إلى تحبيب الناس وتأليف قلوبهم على الإسلام، فمن الحرج
الكبير للداعية، وهو يمسح عرق جهده بعد إقناعه غير المسلمين على الإسلام أن يقول
لهم: إن عقود زواجكم فاسدة، فصححوها، وقد أشار ابن القيم إلى هذه الناحية المهمة
من هذه المسألة فقال عن آثار القول بفساد تلك العقود:(إن في ذلك إضرارا به وتنفيرا
له عن الإسلام من غير مصلحة، وقد أمكن إزالة المفسدة بمفارقة ما زاد على النصاب)
وفصل الكلام عليها كذلك القرافي،
فجعل من فروقه فرقا (بين قاعدة ما يقر من أنكحة الكفار، وقاعدة ما لا يقر منها)وقد
ذكر من أقوال الفقهاء وعللها، ولعل أقربها لمقاصد الشريعة في ذلك ما نقله عن
الشافعية من قولهم بتصحيح عقود الكفار إن هم أسلموا، بل لو اعتقدوا غصب امرأة أو
رضاها بالإقامة مع الرجل بغير عقد أقررناهم عليه، وقد علل ذلك بالترغيب في
الإسلام، وشبه ذلك بسقوط القصاص والغصوب وما جنوه على المسلمين في نفوسهم وأموالهم
وأعراضهم وإثبات ما اكتسبوه بعقود الربا وغيره من ثمن الخمر والخنزير، قال
القرافي:(كل ذلك ترغيبا في الإسلام لأنهم لو فهموا المؤاخذة بذلك لنفروا عن الإسلام) [38]
وبين الاحتمالات التي قد تفضي إلى
الفساد ورد عليها بقوله: أما القضاء بالبطلان مطلقا فمشكل، غاية ما في الباب أن
صداقهم قد يقع بما لا يحل من الخمر والخنزير، وقد يقع ذلك للمسلمين فتختل بعض
الشروط، أو كلها في بعض العقود، فكما لا نقضي بفساد أنكحة عوام المسلمين وجهالهم
من أهل البادية على الإطلاق، بل نفصل ونقول ما صادف الأوضاع الشرعية، واجتمعت
شرائطه فهو صحيح، سواء أسلموا أم لا، وما لم يصادف فهو باطل قبل الإسلام، وقد يصح
بالإسلام، كما نقدم رضاهم بالغصب ونحوه ترغيبا في الإسلام) [39]
وننبه هنا إلى الخطأ الذي يقع فيه
بعض الناس حين يبني الكلام عن معظم هذه الأحكام على العالم الغربي، فيتصور أنه يخاطب
فقط العقل الغربي أوالحضارة الغربية، وينسى الأمم الكثيرة، والتي كان الإقبال فيها
ولا يزال واسعا على الإسلام كالهند والصين والشعوب الإفريقية، والكثير من تلك
الشعوب قد يحتاج لمثل هذه المسائل، فلا يصح إسقاطها أو ادعاء عدم الحاجة إليها
بحجة أن الغرب الآن لا يقول بالتعدد.
بل ذكر ابن تيمية تخريجا يجعل هذه
المسألة، وما ينتج عنها أصلا للعقود الفاسدة التي يجريها المسلمون بسبب الجهل ـ
فهم من هذه الناحية كالكفار قبل إسلامهم ـ يقول ابن تيمية:(ان المسلمين إذا
تعاقدوا بينهم عقودا، ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها، فإن الفقهاء
جميعهم فيما أعلمه يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ
يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد ولا بقول أحد، لا يصح العقد الا الذي يعتقد ان
الشارع أحله، فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود لم يصح عقد إلا بعد ثبوت
إذنه، كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد فانه آثم وإن كان قد صادف الحق) [40]
وهذا تخريج مهم يغني القول به عن
الحرج الذي ينتج عن إبطال العقود التي تقع بين المسلمين ممن يجهلون الأحكام
الشرعية، فإذا ما أرادوا السؤال عنها بعد إيقاعها وجدوا من يبطلها، وقد يخرب البيوت
بإبطالها.
حكم من أسلم
وهو متزوج أما وابنتها:
ويختلف حكم هذه المسألة بحسب حصول
الدخول وعدمه، كما في الحالتين التاليتين:
اختلف الفقهاء فيمن أسلم وتحته أم
وابنتها على قولين:
القول الأول: إن أسلم قبل
دخوله بواحدة منهما فسد زواج الأم، لأنها صارت من أمهات نسائه وثبت زواج البنت
لأنها ربيبة غير مدخول بأمها، وهو قول أحمد وأحد قولي الشافعي اختاره المزني،
واستدلوا على ذلك بما يلي:
·
أن أنكحة
الكفار صحيحة يثبت لها أحكام الصحة، ولذلك لو انفردت إحداهما بالزواج كان صحيحا
لازما من غير اختيار، ولهذا فوض إليه الاختيار،وههنا لا يصح أن يختار من ليس
زواجها صحيحا، لقوله تعالى:﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ﴾(النساء:23)،
وهذه من أمهات نسائه فتكون محرمة.
· أنها
زوجته، فتحرم عليه كما لو طلق ابنتها في حال الشرك، ولأنه لو تزوج البنت وحدها ثم
طلقها حرمت عليه أمها إذا أسلم، فإذا لم يطلقها وتمسك بزواجها فأولى بالتحريم.
· أن
اختصاص الأم بفساد زواجها، لأنها تحرم بمجرد العقد على البنت، فلم يمكن اختيارها،
والبنت لا تحرم قبل الدخول بأمها فيتعين الزواج فيها.
القول الثاني: أن له أن يختار
أيتهما شاء، لأن عقد الشرك إنما يثبت له حكم الصحة إذا انضم إليه الاختيار، فإذا
اختار الأم فكأنه لم يعقد على البنت، فلا تكون من أمهات نسائه، وهو أحد قولي
الشافعي.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة بناء على
ماسبق ذكره القول الثاني، لأن الإسلام يجب ما قبله، فيعتبر هذا المسلم الجديد،
وكأنه لم يعقد عليهما جميعا، ولا حاجة أن نجبره إذا أسلم بمن قد لا يتحرك لها
قلبه، فلذلك كان الأولى تخييره، وهو أقرب لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
كما مر بنا في المسألة السابقة.
اتفق الفقهاء على أن الكافر إذا أسلم
وتحته أم وابنتها، وقد دخل بهما، أو بإحداهما، حرمتا على التأبيد، أما الأم
فلكونها أم زوجته، وأما البنت، فلأنها ربيبته من زوجته التي دخل بها، بل قد نقل
الإجماع على ذلك، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من يحفظ عنه من أهل العلم.
ومثله ما لو دخل بالأم وحدها، لأن
البنت ربيبته المدخول بأمها، والأم حرمت بمجرد العقد على البنت.
أما إن دخل بالبنت وحدها، فإنه يثبت
زواجها ويفسد زواج أمها كما لو لم يدخل بهما.
اختلف الفقهاء في كيفية التعامل مع
من أسلم وهو متزوج أختين بعد اتفاقهم على حرمة ذلك ـ كما سبق بيانه ـ على قولين[41]:
القول الأول: أن له اختيار
واحدة منهما، وهو قول الحسن، والأوزاعي، والشافعي ومالك، وإسحاق، وأبي عبيد، فإن
تزوج أختين، ودخل بهما، ثم أسلم وأسلمتا معه، فاختار إحداهما، لم يطأها حتى تنقضي
عدة أختها لئلا يكون واطئا لإحدى الأختين في عدة الأخرى، واستدلوا على ذلك بما
يلي:
·
ما روى الضحاك
بن فيروز، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان قال: طلق
أيتهما شئت[42].
· أن
أنكحة الكفار صحيحة، وإنما حرم الجمع في الإسلام، وقد أزاله، فصح كما لو طلق إحداهما
قبل إسلامه، ثم أسلم والأخرى في حباله، وهو نفس
الحكم في المرأة وعمتها أو خالتها لأن المعنى في الجميع واحد.
القول الثاني:فساد زواج
الجميع، وهو قول أبي حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي والزهري وأحد قولي
الشافعي، واستدلوا على ذلك بأنه لا يقر من أنكحة الكفار إلا ما وافق الإسلام.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول
الأول بناء على ما ذكر من أدلة، وفي هذه المسألة بعينها يكفي النص الدال على ذلك،
وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -:(طلق أيتهما شئت) فلا يصح العدول عنه بحال، بل
نرى في قوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك شعورا منه برغبة السائل في امرأة معينة
منهما، فلذلك ترك الاختيار له رحمة به وحرصا على مصلحته.
حكم الكافر
الذي يسلم وهو يجمع أكثر من أربع نسوة:
اختلف الفقهاء في الكافر الذي يسلم
وهو يجمع أكثر من أربع نسوة على قولين[43]:
القول الأول: يختار الأوائل
منهن إن كن خمسا، وإن كانتا أختين اختار الأولى، وإن كان تزوجهن في عقدة واحدة فرق
بينه وبينهن، وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف والثوري واستدلوا على ذلك بالأدلة السابقة.
القول الثاني: يختار من
الخمس أربعا أيتهن شاء ومن الأختين أيتهما شاء، وهو قول محمد بن الحسن ومالك
والليث والأوزاعي والشافعي، إلا أن الأوزاعي روي عنه في الأختين أن الأولى امرأته
ويفارق الآخرة، واستدلوا على ذلك بما سبق من أدلة.
الترجيح:
نرى أن الأرجح
في المسألة هو القول الثاني لصحة النصوص الدالة على ذلك ولموافقته لمقاصد الشريعة
من تأليف القلوب والترغيب في الإسلام، وقد سبق بيان بعض ذلك.
2 ـ المحرمات بسبب تعلق
حق الغير بها
وهن من تعلق بهن حق الغير بالزوجية
أو بالاعتداد بعدها، ويلحق بالمعتدة من زواج صحيح المعتدة من دخول بعقد فاسد، أو
مخالطة بشبهة، وتتعلق بهذا الصنف من المحرمات المسائل التالية:
اتفق الفقهاء على حرمة الزواج بمن
تعلق بها حق الغير، ومن الأدلة على ذلك:
· قوله
تعالى عند ذكر المحرمات من النساء:﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلا
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ْ﴾ (النساء:24)،ولفظ المحصنات[44]، وإن أطلق في القرآن الكريم على العفيفات غير المتزوجات إلا أن
المراد منه هنا المتزوجات، وإلا لتناقضت مع آية المائدة حيث عدها ممن أحل لنا،
ولفظ المحصنات عام يشمل كل متزوجة مسلمة كانت أو غير مسلمة، لم يستثن من ذلك إلا
الزوجة التي سبيت وحدها دون زوجها، لأن القرآن استثني من المحصنات ما ملكت الأيمان
في قوله تعالى:﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ﴾ (النساء: 24)، والإحصان أن يحمي الشيء ويمنع منه، فالمحصنات
من النساء ذوات الأزواج لأن الأزواج أحصنوهن ومنعوا منهن[45].
· الآيات
التي أوجبت على المرأة الاعتداد، كقوله تعالى:﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ (البقرة: 228)، وقوله:﴿
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ (البقرة: 234)، وقوله
تعالى: ﴿وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾
(الطلاق: 4)، وقد ورد التصريح بذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ ﴾(البقرة:235)، وهذه الآية
وإن كانت في شأن المعتدة عن وفاة إلا أنه لا فرق بين معتدة ومعتدة فتكون كل معتدة
محرمة على غير من اعتدت منه.
· إجماع
العلماء على ذلك لصراحة النصوص الدالة عليه.
· أن
اجتماع رجلين على امرأة واحدة يفسد الفراش، لأنه يوجب اشتباه النسب وتضييع الولد
وفوات السكن والألفة والمودة فيفوت ما وضع الزواج له.
تأثير تخبيب المرأة على زوجها في
تحريمها عليه:
لغة: الـخَبَب:ُ الـخُبْثُ، والـخَبُّ،
بالفتْـح: الـخَدَّاعُ وهو الـجُرْبُزُ الذي يَسْعَى بـينَ الناسِ بالفَساد؛ ورجلٌ
خَبٌّ وامرأَةٌ خَبَّةٌ، وقد تُكْسَرُ خاؤهُ، فأَمَّا الـمصدر فبالكسر لا غير. والتَّـخبـيبُ:
إِفْسادُ الرجُل عَبْداً أَو أَمَةً لغيرهِ؛ يقال: خَبَّبَها فأَفْسَدَها.
وخَبَّبَ فلانٌ غُلامي أَي خَدَعَه، وقال
أَبو بكر فـي قولهم، خَبَّبَ فُلانٌ علـى فلانٍ صَدِيقَه: معناه أَفسده علـيه؛ وأَنشد:
أُمَيْمة أَمْ صارتْ لقَوْلِ الـمُخَبِّبِ والـخِبُّ: الفسادُ[46].
اصطلاحا: يراد به هنا
في عرف الفقهاء إفساد المرأة على زوجها، ومن المصطلحات المستعملة الآن بدل التخبيب التحريض, ومعناه:
الحث على الشيء والدفع إليه، ومنه قوله تعالى
﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
الْقِتَالِ ﴾(الأنفال:65)، ولكنه في المصطلح الشرعي أعم من
التخبيب; لأنه يكون في الخير والشر , بخلاف التخبيب فإنه لا يكون إلا في الشر.
الحكم التكليفي
لتخبيب المرأة على زوجها:
اتفق الفقهاء على حرمة التخبيب
مطلقا، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لن يدخل الجنة خب ولا بخيل ولا منان) [47]، وقوله - صلى
الله عليه وسلم -:(الفاجر خب لئيم) [48]، ولكنه في أمر
الزواج أعظم إثما، قال - صلى الله عليه وسلم -:(من خبب زوجة امرئ أو مملوكه فليس
منا) [49] أي خدعه
وأفسده ; ولما يترتب عليه من الإفساد والإضرار، والمقصود بالإفساد هنا هو الإفساد
المتعمد، أما غير المقصود فلم يكلف به الشرع.
ولكنه مع ذلك يستحب التنزه عنه، كما
روى المناوي عن شيخه عبد الوهاب الشعراني، قال:(قال شيخنا الشعراوي: ومن ذلك ما لو
جاءته امرأة غضبانة من زوجها ليصلح بينهما مثلا، فيبسط لها في الطعام، ويزيد في
النفقة والإكرام، ولو إكراما لزوجها، فربما مالت لغيره، وازدرت ما عنده، فيدخل في
هذا الحديث، ومقام العارف أن يؤاخذ نفسه باللازم وإن لم يقصده)، ثم حدث عن تجربته
في ذلك فقال:(وقد فعلت هذا الخلق مرارا، فأضيق على المرأة الغضبانة، وأوصي عيالي
أن يجوعوها لترجع، وتعرف حق نعمة زوجها) [50]
الحكم الوضعي
لتخبيب المرأة على زوجها:
انفرد المالكية والحنابلة[51] باعتبار التخبيب من موانع الزواج المؤبدة، وصورته: أن يفسد رجل
زوجة رجل آخر , بحيث يؤدي ذلك الإفساد إلى طلاقها منه , ثم يتزوجها ذلك المفسد،
فهذا الزواج يفسخ قبل الدخول وبعده بلا خلاف عندهم.
وقد أفتى الشيخ عليش من متأخري
المالكية بهذا القول في مسألة عرضت له نصها: أن رجلا أمر امرأة بأن تضارر زوجها
حتى يطلقها، ثم يتزوجها هو، هل يتأبد
تحريمها عليه؟ فأجاب بتأبيد تحريمها عليه معاملة له بنقيض مقصوده، ولئلا
يتسارع الناس إلى إفساد الزوجات، ثم اختار أن تأبيد تحريمها مقيد بدوام أثر
الإفساد لا إن طال الزمن جدا وطلقها الأول باختياره , أو مات عنها[52].
ولكن الرأي المشهور عند المالكية هو
عدم التأبيد، فإذا عادت لزوجها الأول وطلقها
أو مات عنها جاز لذلك المفسد زواجها.
ورجح ابن تيمية أنه لو قتل رجل رجلا
ليتزوج امرأته حرمت على القاتل مع حلها لغيره، ولو جبر امرأته على زوجها حتى
طلقها، ثم تزوجها وجب أن يعاقب هذا عقوبة بليغة، وهذا الزواج باطل في أحد القولين
في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، ويجب التفريق بين هذا الظالم المعتدي وبين هذه المرأة
الظالمة[53].
وهذا القول مع قوته يكاد يكون مستحيل
التطبيق، لأن التعرف على كون المرء مخببا يحتاج إلى تحر كبير، وقد لا يكون الشخص
قاصدا التخبيب، وقد لا يكون سبب فساد المرأة على زوجها التخبيب، والتحري عن ذلك،
فوق ذلك، يستدعي الكشف عن عورات البيوت، وهو منهي عنه شرعا، فلذلك نرى أن الأولى
في هذا الحكم بقاؤه مقصورا على التورع الديني، لا على الحكم القضائي، فيحذر كل من
يفعل هذا من أن يعامل شرعا بخلاف مقصوده دينا وورعا، لا قضاء وحكما.
اختلف الفقهاء في حكم زوجة المفقود[54] بحسب الحالة التي تكون فيها غيبته[55]:
الحالة الأولى:أن تكون غيبة
غير منقطعة، يعرف خبره، ويأتي كتابه، فهذا ليس لامرأته أن تتزوج باتفاق العلماء
إلا أن يتعذر الإنفاق عليها من ماله، فحينئذ لها أن تطلب فسخ الزواج، فيفسخ زواجه،
وأجمع الفقهاء كذلك على أن زوجة الأسير لا تنكح حتى تعلم يقين وفاته، قال ابن
المنذر:(وأجمعوا أن زوجة الأسير لا تنكح حتى يعلم بيقين وفاته ما دام على الإسلام) [56]
ولكن هذا الإجماع ـ فيما نرى ـ مقيد
بعدم حصول الضرر بالمرأة التي يؤسر زوجها لمدة طويلة حتى لو كانت تتيقن حياته،
والضرر ليس متعلقا بالنفقة وحدا، بل قد يكون بحاجة المرأة إلى زوج، وقد أشار إلى هذه
الناحية في حاشية العدوي بقوله:(مثلها زوجة الأسير، فإنهما يبقيان كما هما لانقضاء
مدة التعمير[57]، لتعذر الكشف عن زوجيهما إن دامت نفقتهما، وإلا فلهما التطليق كما
إذا خشيا على نفسيهما الزنا) [58]، وهذا التعبير
مع ما يحمله من صراحة يشير إلى الحاجة التي تستدعي تزوج المرأة، ولو لم تخش الزنا.
ولا نرى أن في مصلحة المرأة التي
تزوجت حديثا، ثم أسر زوجها أن تنتظره إلى انقضاء مدة التعمير، فقد تموت، وهي
تنتظره، ثم كيف لا يباح لها الزواج، وهي في ريعان شبابها ثم يفتح لها المجال، وهي
تستعد لدخول قبرها.
الحالة الثانية: أن يفقد
وينقطع خبره، ولا يعلم له موضع، ولانقطاع خبره في هذه الحالة احتمالان بحسب احتمال
رجوعه وعدم احتماله:
الاحتمال الأول: احتمال
رجوعه، وهو حال كون ظاهر غيبته السلامة، كسفر التجارة في غير مهلكة، وطلب العلم
والسياحة، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا تزول
الزوجية ما لم يثبت موته، وقد روي ذلك عن علي وأبي قلابة، والنخعي، وأبي عبيد، وهو
قول ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي في الجديد.
القول الثاني: زوال الزواج
بالفسخ بعد مدة من فقده، وقد اختلف في تحديد المدة على الآراء التالية:
الرأي الأول: تتربص أربع
سنين، وتعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا، وتحل للأزواج، وقد ثبت ذلك عن عثمان وابن
مسعود في رواية،وعن جمع من التابعين كالنخعي وعطاء والزهري ومكحول والشعبي وهو قول
مالك والشافعي في القديم، وقد اتفق أكثرهم على أن التأجيل من يوم ترفع أمرها
للحاكم، وعلى أنها تعتد عدة الوفاة بعد مضي الأربع سنين[59]، واستدلوا على ذلك بما يلي:
·
أنه إذا جاز
الفسخ لتعذر الوطء بالعنة، وتعذر النفقة بالإعسار، فلأن يجوز هاهنا لتعذر الجميع
أولى.
· حديث
عمر في المفقود، مع موافقة الصحابة له، وتركهم إنكاره ونص حديث عمر في المفقود بطوله كما أورده ابن
عبد البر:(أن رجلا خرج يصلي مع قومه صلاة العشاء ففقد، فانطلقت امرأته إلى عمر بن
الخطاب فحدثته بذلك، فسأل عن ذلك قومها فصدقوها، فأمرها أن تتربص أربع سنين،
فتربصت ثم أتت عمر فأخبرته بذلك، فسأل عن ذلك قومها فصدقوها، فأمروها أن تتزوج، ثم
إن زوجها الأول قدم، فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب فقال: عمر يغيب أحدكم الزمان
الطويل لا يعلم أهله حياته،قال: إن لي عذرا قال: فما عذرك قال: خرجت أصلي مع قومي
صلاة العشاء، فسبتني الجن، فكنت فيهم زمانا فغزاهم جن مؤمنون فقاتلوهم، فظهروا عليهم
وأصابوا لهم سبايا، فكنت فيمن أصابوا فقالوا: ما دينك قلت: مسلم قالوا: أنت على
ديننا لا يحل لنا سبيك،فخيروني بين المقام وبين القفول، فاخترت القفول، فاقبلوا
معي بالليل يسير يحدو بي وبالنهار إعصار ريح أتبعها، قال: فخيره عمر بين المرأة
والصداق) [60]
الرأي الثاني: إذا مضى عليه
تسعون سنة، قسم ماله. وهذا يقتضي أن زوجته تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج، وتعتبر تسعين
سنة من يوم ولادته ; لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من هذا العمر، فإذا اقترن به
انقطاع خبره، وجب الحكم بموته، كما لو كان فقده بغيبة ظاهرها الهلاك، وهو رواية عن
أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:
·
أن هذه غيبة
ظاهرها السلامة، فلم يحكم بموته.
· أن
خبر عمر ورد في من ظاهر غيبته الهلاك، فلا يقاس عليه غيره.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول
الأول مع جعل تحديد المدة لولي الأمر، لأن فعل عمر - رضي الله عنه - من أمرها بالتربص أربع سنين يرجع للظروف التي
كان يخضع لها الناس في ذلك الوقت من صعوبة التحري، وعدم تيسر التنقل، والحاجة إلى
الزمن في كل ذلك، أما في عصرنا، فنرى إمكانية تقليص المدة بحسب ما يراه الخبراء في
ذلك، فليس في المسألة نص نبوي يحرم تجاوزه، ولا إجماع يحرم خرقه، وفعل عمر - رضي
الله عنه - يرجع لولايته، ولو كان في
المسألة حديث لذكره، وعدم اختلاف الصحابة معه في ذلك لا لكون المسألة توقيفية، بل
لوجوب طاعة ولي الأمر.
وقد ذكرنا هذا لأن تحديد المدة بأربع
سنين، ثم البدء بعد هذه الأربع بعد اتصالها بالحاكم، قد يحمل مضرة كبيرة للمرأة لم
يكلفها الشرع بتحملها.
الاحتمال الثاني:أن يكون ظاهر
غيبته الهلاك، كالذي يفقد من بين أهله ليلا أو نهارا، أو يخرج إلى الصلاة فلا
يرجع، أو يمضي إلى مكان قريب ليقضي حاجته ويرجع، فلا يظهر له خبر، أو يفقد بين
الصفين، أو ينكسر بهم مركب فيغرق بعض رفقته، أو يفقد في مهلكة، وقد اختلف الفقهاء
في ذلك على قولين:
القول الأول: لا تتزوج
امرأة المفقود حتى يتبين موته أو فراقه، وهو قول أبي قلابة، والنخعي، والثوري،
وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والحنفية، والشافعي في الجديد، وهو قول ابن حزم،
واستدلوا على ذلك بما يلي:
·
قوله - صلى
الله عليه وسلم -: (امرأة المفقود امرأته، حتى يأتيها الخبر) [61]
· أنه
شك في زوال الزوجية، فلم تثبت به الفرقة، كما لو كان ظاهر غيبته السلامة.
القول الأول: أن زوجته
تتربص أربع سنين، ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا، وتحل للأزواج، وهو قول عمر
وعثمان وعلي وابن عباس وابن الزبير، وبه قال عطاء، وعمر بن عبد العزيز، والحسن،
والزهري، وقتادة، والليث، وعلي بن المديني، وعبد العزيز بن أبي سلمة. وبه يقول
مالك، والشافعي في القديم وهو ظاهر مذهب أحمد.
إلا أن مالكا قال في المفقود في
القتال: (ليس في انتظار من يفقد في القتال وقت)،وقال سعيد بن المسيب فيه: تتربص
سنة، لأن غلبة هلاكه هاهنا أكثر من غلبة غيره، لوجود سببه، واستدلوا على ذلك بما
يلي:
· أن
هناك قضايا كثيرة انتشرت في الصحابة فلم تنكر.
· أن
الحديث الذي استند إليه المخالفون لم يثبت، ولم يذكره أصحاب السنن.
· أن
قول المخالفين: إنه شك في زوال الزوجية منتف لأن الشك ما تساوى فيه الأمران،
والظاهر في هذه الحالة هلاكه.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة ـ مثلما
ذكرنا سابقا ـ رجوع تحديد مدة التربص لولي الأمر، الذي يبت في كل قضية بحسب
ملابساتها، ولا نرى التربص أربع سنوات كاملة، فقد تكون محرجة للمرأة غاية الحرج،
وقد يصرف عنها الأزواج بعد ذلك، فلذلك الأولى رعاية هذا الجانب، وعدم تضييع هذا
الحق بسبب أمر مشكوك فيه.
أما القول الأول فلا حاجة للرد عليه،
فهو يتنافى مع المقاصد الشرعية من الترغيب في الزواج، ويعتمد في ذلك على حديث رأينا
مدى ضعفه.
الحكم الأصلي
للطلقات الثلاث هو زوال ملك الاستمتاع وزوال حل المحلية أيضا، فلا يجوز للزوج
الأول زواجها قبل التزوج بزوج آخر، لقوله تعالى:﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا
تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾(البقرة:230)
بعد قوله تعالى:﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾
(البقرة: من الآية229)، وتنتهي الحرمة وتحل للزوج الأول بشروط ذكرها الفقهاء نؤجل
الكلام عنها إلى محلها من الجزء الثالث في فصل أحكام الرجعة.
يختلف حكم الزواج بالمرأة الحامل
بحسب سبب حملها على الحالتين التاليتين[62]:
الحالة الأولى:
الحامل من غير الزنى:
وهي من كان حملها ثابت النسب، ويختلف
حكمها بحسب الزوج الذي يريد الدخول بها على الاحتمالات التالية:
إذا كان الزوج
الثاني غير الزوج الأول:
اتفق الفقهاء على أنه لا يصح زواجها
منه، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن
الحمل إذا كان ثابت النسب من الغير سواء أكان من زواج صحيح أم فاسد أم وطء شبهة
لزم حفظ حرمة مائه بالمنع من الزواج.
· أن
عدة الحامل لا تنتهي إلا بوضع الحمل، ولا يجوز زواج معتدة الغير أثناء العدة لقوله
تعالى ﴿ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ ﴾
(البقرة:235) أي ما كتب عليها من التربص.
إذا كان الزوج
الثاني هو الأول:
اتفق الفقهاء على أنه يجوز زواج
الحامل المطلقة البائن بينونة صغرى لمن له الحمل أي الزوج السابق، أما المطلقة
ثلاثا بينونة كبرى فلا يجوز زواجها إلا بعد وضع الحمل اتفاقا، واستدلوا على ذلك
بأن العدة حق الزوج فلا يمنع من التصرف في حقه.
اختلف الفقهاء في صحة زواج الحامل من
زنى على قولين:
القول الأول: لا يجوز
زواجها قبل وضع الحمل، لا من الزاني نفسه ولا من غيره، وهو قول المالكية والحنابلة
وأبي يوسف، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· عموم
قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا توطأ حامل حتى تضع) [63]
· ما
روي عن سعيد بن المسيب أن رجلا تزوج امرأة فلما أصابها وجدها حبلى فرفع ذلك إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - ففرق بينهما، وجعل لها الصداق وجلدها مائة[64].
· أن
ذلك يوقع تلبيسا في النسب، والشرع موضوع على تخليص الأنساب، ولهذا شرعت العدة
والاستبراء.
· أن
ماء الزنا وإن كان لا حرمة له، فماء الزواج له حرمة، ومن حرمته ألا يصب على ماء
السفاح، فيخلط الحرام بالحلال، ويمزج ماء المهانة بماء العزة.
· أن
ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يرى أن
الرجل إذا زنى بالمرأة ثم نكحها أنهما زانيان، ما عاشا.
· أن
هذا الحمل يمنع الوطء ـ كما يرى أصحاب القول الثاني ـ فيمنع العقد أيضا كالحمل
الثابت النسب، لأن المقصود من الزواج هو حل الوطء فإذا لم يحل له وطؤها لم يكن
الزواج مفيدا فلا يجوز، ولهذا لم يجز إذا كان الحمل ثابت النسب.
القول الثاني: أنه يجوز
زواج الحامل من الزنى، إلا أن الحامل إذا تزوجت بغير من زنى بها لا يجوز وطؤها حتى
تضع، وهو مذهب الشافعية وأبي حنيفة ومحمد ومذهب ابن حزم، واستدلوا على ذلك بما
يلي:
·
أن قول الله
تعالى: ﴿ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾(الطلاق:4)إنما
جاء في المطلقة قال الله تعالى: ﴿ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ
مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي
لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾(الطلاق:4) وهذا مردود على أول السورة في المطلقات ومحمول
عليه ما بعده من قوله تعالى: ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ
وُجْدِكُمْ ﴾(الطلاق:6) الآيات كلها.
· أن
الحامل المطلقة، أو المتوفى عنها هي معتدة بنص القرآن، وقد حرم الله عز وجل زواج
المعتدة جملة حتى تتم عدتها، وأما غيرها فلم يأت في القرآن ولا في السنة إيجاب عدة
عليهن، ولا على أحد منهن، وقد استدل بهذا ابن حزم بناء عل عدم صحة القياس [65].
· قول
النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) [66]
· أن
المنع من زواج الحامل حملا ثابت النسب لحرمة ماء الوطء، ولا حرمة لماء الزنى بدليل
أنه لا يثبت به النسب.
· أن
حرمة الوطء بعارض طارئ على المحل لا ينافي الزواج لا بقاء ولا ابتداء كالحيض
والنفاس.
عدم جواز وطئها بعد زواجها لقوله -
صلى الله عليه وسلم -:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره) [67]
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول
الثاني، إذا كان الزاني هو الذي يريد الزواج بالمزني بها، فذلك أقرب إلى مقاصد
الشريعة، لأن من مقاصدها الجليلة المعلومة بالضرورة تضييق نطاق الفاحشة، وإصلاح ما
انجر عنها، والحرص عل ثبوت الأنساب.
أما ما استدل به المخالفون من قوله -
صلى الله عليه وسلم -: (لا توطأ حامل حتى تضع) [68]، فإن الحديث
لا يخالف ما ذكرنا، بل يدل عليه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن وطء
الحامل، وهذا النهي لا يصح إلا إذا كان حملها من غيره، لأن وطء الحامل إذا كان
حملها منه جائز بلا خلاف، فلم يبق إلا أن يكون حملها من غيره، ونهية - صلى الله
عليه وسلم - عن وطئها يدل على جواز زواجها إلا إذا كانت معتدة فقد صرحت النصوص
الأخرى بتحريمها، ثم إن الحديث له سبب خاص، فعن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله في سبايا
أوطاس[69]
ولهذا استدل به العلماء على عين هذه
المسألة، قال الصنعاني: والحديث دليل على أنه يجب على السابي استبراء المسبية إذا
أراد وطأها بحيضة إن كانت حاملا ليتحقق براءة رحمها، وبوضع الحمل إن كانت حاملا،
وقيس علىالمسبية المشتراة والمتملكة بأي وجه من وجوه التملك بجامع ابتداء التملك[70].
وهذه المسألة لا خلاف فيها، بل قد
نقل الإجماع فيها، قال ابن رشد:وأجمعوا على أنه لا توطأ حامل مسبية حتى تضع لتواتر الأخبار بذلك عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - [71].
أما الحديث الثاني، فهو إن صح يحمل
على أن الرجل دلس عليه بالمرأة، فلذلك جاء يشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -، ففرق - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وهو في زواج غير الزاني بالزانية،
وقد ذكرنا حكمه في محله.
ويدل على هذا من النصوص الصريحة قوله
- صلى الله عليه وسلم -:(لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره)، فلم يحدد - صلى
الله عليه وسلم - نوع هذا الحمل، هل هو من زواج أم من سفاح، ومثله قوله - صلى الله
عليه وسلم -:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره)، فهو - صلى
الله عليه وسلم - لم يحدد فيه كذلك سبب هذا الماء
وكلا النصين يستدل بهما من باب مفهوم المخالفة على أنه يجوز أن يسقي زرع
نفسه، بدون تحديد لسبب ذلك الزرع.
هذا من جهة الدلالة النصية أما من
جهة الرؤية المقاصدية، فيمكننا تصور الأخطار التي تنجر عن ترك الزانية تتربص إلى
أن تضع حملها، ثم نطلق عليه (ابن زنا)، ونطلق عليها معه (زانية)، أما السبب في كل
هذا، وهو المجرم الذي تسبب في هذه الألقاب البشعة، فنستقبله بالأحضان إن هو تاب،
ونزعم أنه بتوبته خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فإذا ما فكر بالزواج، وأراد أن
يكفر عن خطيئته، ويتزوج من تسبب في فضيحتها كرهنا له ذلك، ونهيناه أن ينسب ولده
منها إليه.
إن أقل المخاطر في كل هذا أن نزيد من
الأبناء غير الشرعيين في المجتمع، ونحملهم ذنوب آبائهم، فيعيشوا إما مشردين وإما
مجرمين، وإما منتقمين من المجتمع، وفي أحسن أحوالهم يكتمون في صدورهم ما تضيق عن
حمله الجبال.
أما المرأة، فإنها إن لم يقتلها
أبوها في المجتمع المحافظ، ولم تنتحر إن شعرت بهدر كرامتها تصير معول فساد تنشر
الرذيلة وتنتقم من كل رجل بسبب من رماها إلى الشارع، وتنتقم من كل امرأة لتحولها
إلى سبيلها.
فلذلك يكون القول بجواز زواج الزاني
من الزانية، بل فرض ولي الأمر ذلك عليه حلا من الحلول الذي إن لم يقف في وجه
الرذيلة بالكلية، يحد من آثارها.
ولعل المتعصبين إذا سمعوا مثل هذا
الكلام يثورون لتصورهم أن هذا يخالف أصول الدين وفروعه، وأن هذا ما يدعو إليه من
انفلت من الدين باسم حقوق المرأة، وهؤلاء لن نكلمهم نحن، فنحن أعجز عن إقناعهم،
ولكنا نترك ذلك للجيل الفريد الذي طبق الدين حروفا ومقاصد، فعن ابن عمر - رضي الله
عنه - قال: بينما أبو بكر الصديق - رضي
الله عنه - في المسجد إذ جاء رجل فلاث
عليه لوثا من كلام وهو دهش، فقال لعمر: قم
فانظر في شأنه، فإن له شأنا، فقام إليه عمر
فقال: إن ضيفا ضافه فزنى بابنته، فضرب عمر في صدره، وقال: قبحك الله، ألا
سترت على ابنتك، فأمر بهما أبو بكر فضربا الحد، ثم زوج أحدهما الآخر، ثم أمر بهما
أن يغربا حولا.
وقد كانت هذه العقوبة بسبب نشر الأمر
وإخبار ولي الأمر به، ولو سترهما وزوجهما لكان ذلك حسنا، وهو ما عاتبه عليه عمر -
رضي الله عنه -.
وروى نافع أن رجلا استكره جارية
فافتضها، فجلده أبو بكر، ولم يجلدها، ونفاه سنة، ثم جاء فزوجه إياها بعد ذلك،
وجلده عمر ونفى أحدهما إلى خيبر، والآخر إلى فدك، وروى الزهري أن رجلا فجر بامرأة
وهما بكران، فجلدهما أبو بكر، ونفاهما، ثم زوجه إياها من بعد الحول.
وروي أنه تزوج سباع بن ثابت بنت موهب
بن رباح وله ابن من غيرها، ولها بنت من غيره، ففجر الغلام بالجارية، فظهر بها حمل
فسئلت فاعترفت، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فاعترفا، فحدهما وحرض على أن يجمع بينهما، فأبى
الغلام[72]، قال ابن حزم (فهذا عمر يبيح للحامل من زنى الزواج بحضرة الصحابة
- رضي الله عنهم - لا يعرف له مخالف منهم،
وهم يعظمون مثل هذا لو ظفروا به) [73]
فهذه موقف خير من ولي أمور المسلمين
في كيفية التعامل مع مثل هذه الأحوال، أما غيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - ،
وهي المواقف النظرية، فقد قال ابن عباس - رضي الله عنه - في زواج الزاني للزانية: (أوله سفاح وآخره
نكاح)، وعن طاووس قال: قيل لابن عباس - رضي الله عنه - الرجل يصيب المرأة حراما ثم يتزوجها قال: ذاك خير، أو قال ذاك أحسن، وعن عبيد الله بن أبي يزيد
قال: سألت ابن عباس - رضي الله عنه - عن
الرجل يصيب المرأة حراما، ثم يتزوجها قال: الآن حسن، أصاب الحلال، قال: وقال لي
ابن عباس: وما يكره من ذلك قلت: إنه يقول إنه كذا وكذا قال: فهو كذا، وعن ابن عباس
- رضي الله عنه - قال: أعلم أن الله يقبل
التوبة منهما جميعا، كما يقبلها منهما متفرقين، وشبه ابن عمر - رضي الله عنه
- ذلك بمثل رجل سرق ثمرة ثم اشتراها[74].
3 ـ المحرمات بسبب اختلاف
الدين
يختلف حكم المحرمات بسبب اختلاف
الدين بحسب اعتقاد أهل الدين بكتاب أو عدم اعتقادهم، ويمكن تصنيف ذلك كما يلي:
ويتعلق بحكم الزواج من أهل الكتاب
المسائل التالية:
اختلف الفقهاء في تعريف أهل الكتاب
على قولين:
القول الأول: إن أهل
الكتاب هم كل من يؤمن بنبي ويقر بكتاب، ويشمل اليهود والنصارى، ومن آمن بزبور
داود، وصحف إبراهيم وشيث، وذلك لأنهم يعتقدون دينا سماويا منزلا بكتاب.
القول الثاني: إن أهل
الكتاب هم اليهود والنصارى بفرقهم المختلفة، وهو قول جمهور الفقهاء[75]، واستدلوا على ذلك بما يلي:
·
قوله تعالى: ﴿
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا
وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾(الأنعام:156)
· أن
تلك الصحف كانت مواعظ وأمثالا لا أحكام فيها، فلم يثبت لها حكم الكتب المشتملة على
أحكام.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن أهل
الكتاب المقصودون في القرآن الكريم هم اليهود والنصارى خاصة بفرقهم المختلفة، كما
صرحت بذلك الآيات الكثيرة، ومنها قوله تعالى: ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا
مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُون﴾(آل عمران:65)، وقوله تعالى:﴿ قُلْ
يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ
وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾(المائدة:68)، فدل
ذلك على أن أهل الكتاب هم أهل التوراة والانجيل، وهم اليهود والنصارى، ولكن ذلك لا
يمنع من دخول غيرهم فيهم، بأدلة سنذكرها في محلها من هذا المبحث.
أما قوله تعالى: ﴿ أَنْ
تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا ﴾(الأنعام:156)،
فليس مقصودا به حصر إنزال الكتب في اليهود والنصارى، وقد أجاب على ذلك ابن حجر بقوله:(وأجيب
بأن المراد مما يتحقق عليه القائلون، وهم قريش لأنهم لم يشتهر عندهم من جميع
الطوائف من له كتاب الا اليهود والنصارى، وليس في ذلك نفى بقية الكتب المنزلة
كالزبور وصحف إبراهيم وغير ذلك) [76]، وأجاب على
ذلك ابن حزم بقوله:(إنما قال الله تعالى هذا بنص الآية نهيا عن هذا القول لا
تصحيحا له وقد قال تعالى:﴿ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ
قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ﴾(النساء:164) [77]
اختلف الفقهاء في حكم الزواج
بالكتابيات على قولين:
القول الأول: حل نساء أهل
الكتاب،وهو قول أكثر العلماء، قال ابن قدامة:(ليس بين أهل العلم، بحمد الله،
اختلاف في حل حرائر أهل الكتاب. وممن روي عنه ذلك عمر، وعثمان، وطلحة، وحذيفة
وسلمان، وجابر، وغيرهم. قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك،
وروى الخلال، بإسناده، أن حذيفة، وطلحة، والجارود بن المعلى، وأذينة العبدي،
تزوجوا نساء من أهل الكتاب، وبه قال سائر أهل العلم) [78]، واستدلوا على
ذلك بما يلي:
· قول
الله تعالى:﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِين﴾(المائدة:5)
· إجماع
الصحابة على ذلك، بل زواجهم من الكتابيات، فعثمان ـ مثلا ـ تزوج نائلة بنت
الفرافصة الكلبية وهي نصرانية على نسائه، وطلحة بن عبيد الله تزوج يهودية من أهل
الشام.
· أن
قوله تعالى:﴿ وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾(البقرة:221)
غير محمول عل أهل الكتاب، لأن لفظة المشركين بإطلاقها لا تتناول أهل الكتاب، بدليل
قوله تعالى:﴿لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ﴾(البينة:1)،
وقوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ
الْبَرِيَّة﴾ِ(البينة:6)، وقوله تعالى:﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾(المائدة:82)،
وقوله تعالى:﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَلَا الْمُشْرِكِينَ ﴾(البقرة:105)، وسائر آي القرآن نجد الفصل في جميعها
بين المشركين وأهل الكتاب، فدل على أن لفظة المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل
الكتاب.
القول الثاني: حرمة الزواج
بالكتابيات، وهو أشهر أقوال الإمامية[79] مع جوازه في زواج المتعة وملك اليمين[80]، وقد استدل الإمامية على ذلك بما يلي:
·
عموم قوله
تعالى:﴿ وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾(البقرة:221)،
وقوله:﴿ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ﴾(الممتحنة:10)
· بعض
القرائن التي حفت بالحكم والتي تخص هذه الإباحة بزواج المتعة، وأول هذه القرائن،
قوله تعالى:﴿ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ ﴾(المائدة:5)، ولو أن لفظة الأجر تطلق على المهر في نوعي
الزواج الدائم والمؤقت، إلا أنها غالبا ما ترد لبيان المهر في الزواج المؤقت، أي
أنها تناسب هذا الأخير أكثر، والقرينة الثانية: قوله تعالى:﴿ مُحْصِنِينَ
غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ﴾ (المائدة:5) فهي تتلاءم
أكثر مع الزواج المؤقت، لأن الزواج الدائم ليس فيه شبه بالزنا أو الصداقة السرية
لكي ينهى عنه.
· الروايات
الكثيرة عن أهل البيت - رضي الله عنهم -
والتي تنهى عن هذا الزواج، ومنها ماروي عن جعفر الصادق - رضي الله عنه
- في الرجل المؤمن يتزوج النصرانية
واليهودية، فقال: إذا أصاب المسلمة، فما يصنع باليهودية والنصرانية؟ فقل: يكون
يكون له فيها الهوى، فقال: إن فعل، فليمنعها من شرب الخمر، وأكل الخنزير، واعلم أن
عليه في دينه غضاضة.
وهو كذلك قول بعض العلماء المعاصرين،
ومنهم سيد قطب الذي قال: (وهناك خلاف فقهي في حالة الكتابية التي تعتقد أن الله
ثالث ثلاثة، أو أن الله هو المسيح بن مريم، أو أن العزيز ابن الله.. أهي مشركة
محرمة. أم تعتبر من أهل الكتاب وتدخل في النص الذي في المائدة، والجمهور على أنها
تدخل في هذا النص، ولكني أميل إلى اعتبار
الرأي القائل بالتحريم في هذه الحالة. وقد رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنه
- قال:(لا أعلم شركا أعظم من أن تقول ربها
عيسى) [81]
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن
الحكم الأصلي للزواج من الكتابيات هو الإباحة التي لا جدال فيها لقطعية النصوص
الواردة في ذلك، وهي لا تحتمل تأويلا ولا تعطيلا.
ولكن الأحكام العارضة لهذا الزواج
تختلف بحسب الأحوال والأماكن والأزمان والمصالح التي تجنى من ذلك الزواج، والمضار
التي قد تسد، فلذلك تعتري هذا النوع من الزواج الأحكام الشرعية الأخرى.
فقد يكون مستحبا إذا طمع بالزواج
منها إسلامها، أو تأليف قلوب قومها، وأمن في نفس الوقت من ضرر هذا الزواج على دينه
ودين أولاده، ولعل هذه الحكمة هي المقصودة بالدرجة الأولى من إباحة الزواج
بالكتابيات.
وقد يكون مكروها فيما لو كان غرضه من
الزواج بها الهوى المجرد عن الغاية الدينية، وكان في ذلك رغبة عن المسلمات، مع أمن
الفتنة علىنفسه وأولاده، قال ابن جرير بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج
الكتابيات:(وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات، أو لغير ذلك من
المعاني) [82]، ولعل في
تقديم جواز الزواج بالمحصنات من المؤمنات
على المحصنات من أهل الكتاب دليل على هذا، فكأن التعبير الحكيم يشير بهذا التقديم
إلى أولوية الزواج بالمسلمة.
وقد روي أن حذيفة تزوج يهودية فكتب
إليه عمر:خل سبيلها. فكتب إليه:أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال:لا أزعم أنها
حرام ولكن أخاف أن تعاظلوا المؤمنات منهن. وفي رواية أخرى أنه قال:المسلم يتزوج
النصرانية. والمسلمة؟
وروي أن عمر قال للذين تزوجوا من
نساء أهل الكتاب: طلقوهن، فطلقوهن إلا حذيفة، فقال له عمر: طلقها، قال: تشهد أنها
حرام؟ قال: هي جمرة، طلقها. قال: تشهد أنها حرام؟ قال: هي جمرة. قال: قد علمت أنها
جمرة، ولكنها لي حلال، فلما كان بعد طلقها، فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟
قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمرا لا ينبغي لي.
وقد يكون حراما وهو إذا ما خشي على
دينه أو دين أولاده، بأن ينسبوا إليها.
أما الوجوب، فيكون ـ مثلا ـ فيما لو
كان في محل وجب عليه فيه الزواج، ولم يكن هناك غير أهل الكتاب.
انطلاقا من هذا الحكم الإجمالي، فإن
مثل هذه الزيجات في عصرنا يميل الكثير منها إلى الحرمة، ومن الأمور المحرمة للزواج
من الكتابيات التي ذكرها العلماء المعاصرون، ما لو كان عدد المسلمين قليلا في بلد
-كجالية من الجاليات مثلا-، قال يوسف القرضاوي في ذلك:(فالراجح هنا أن يحرم على
رجالهم زواجهم بغير المسلمات، لأن زواجهم بغيرهن في هذا الحال، مع حرمة زواج
المسلمات من الآخرين، قضاء على بنات المسلمين أو على فئة غير قليلة منهن بالكساد
والبوار، وفي هذا ضرر محقق على المجتمع المسلم. وهو ضرر يمكن أن يزال بتقييد هذا
المباح وتعليقه إلى حين[83].
ومنها أن يخشى على نفسه وبيته، قال
سيد قطب في تعليل قوله بالحرمة:(ونحن نرى اليوم أن هذه الزيجات شر على البيت
المسلم، فالذي لا يمكن إنكاره واقعيا أن الزوجة اليهودية أو المسيحية أو اللادينية
تصبغ بيتها وأطفالها بصبغتها، وتخرج جيلا أبعد ما يكون عن الإسلام، وبخاصة في هذا
المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه، والذي لا يطلق عليه الإسلام إلا تجوزا في حقيقة
الأمر، والذي لا يمسك من الإسلام إلا بخيوط واهية شكلية تقضي عليها القضاء الأخير
زوجة تجيء من هناك!) [84]
والناحية الأخرى، والتي قد تقوي
القول بالتحريم، وتجعله أصلا في عصرنا، هو انتشار الرذيلة في المجتمعات التي تزعم
لنفسها ونزعم لها أنها مجتمعات كتابية، وهي بذلك تخالف ناحية مهمة ربما تكون من
علل الترخيص في الزواج بالكتابيات، وهي تصريح كتبهم بتحريم الزنا، لكن المجتمع
الغربي الآن يبيحه، ويجمع على إباحته، بل يعتبر القول بتحريمه شذوذا في الرأي،
وكبتا للغريزة.
فالتوراة مثلا تعاقب على الزنا،
وتعتبره أمرًا محرمًا، بل تفرض عليه عقوبة الرجم، كما هي مفروضة في الشريعة
الإسلامية، بيد أن هذه العقوبة غير مطبقة الآن في الشريعة اليهودية، حتى عند
اليهود في دولتهم المزعومة، حيث يزعمون قيام دولتهم على أساس العقيدة الدينية
لليهود، وقد جاء في التلمود منسوبًا إلى موسى - عليه السلام - قوله: (لا تشته
امرأة قريبك، فمن يزني بامرأة قريبه يستحق الموت).
وقد شرط الشارع لإباحة الكتابية توفر
الحصانة[85]، وهي العفة، قال ابن جرير:(يقال للمرأة إذا هي عفت وحفظت فرجها من
الفجور قد أحصنت فرجها فهي محصنة، كما قال جل ثناؤه:﴿ ومريم ابنة عمران
التي أحصنت فرجها﴾ بمعنى حفظته من الريبة ومنعته من الفجور، وإنما قيل
لحصون المدائن والقرى حصون لمنعها من أرادها وأهلها وحفظها ما وراءها ممن بغاها من
أعدائها، ولذلك قيل للدرع درع حصينة) [86]
والإحصان هنا، كما نراه، ليس فقط عن
ممارسة الفواحش الظاهرة، بل يعم كذلك ما يؤدي إليها من التبرج الفاحش، أو أن تكون
كما ورد في الحديث (لا ترد يد لامس)، أو عدم التفريق في مجالسها بين المحارم
والأجانب، وغير ذلك مما يجب عل المسلمة في ذات نفسها، وهو مما يؤكد كون الأصل في
عصرنا حرمة زواج المسلم بالكتابية، فأي كتابية على هذه الصورة، اللهم إلا أن تكون
كتابية لا يحول بينها وبين الإسلام إلا زواجها من المسلم.
أما رأي الإمامية، فهو وإن كان
الكثير من علماء الإمامية المعاصرين يرجحون خلافه، إلا أنه من حيث علاقته
بالمقاصد الشرعية من القوة بمكان زيادة
على أن القرائن المحفوفة بالآية تحتمله، وقد طرحنا سابقا حلا وسطا يوفق بين زواج
المتعة بين أهل السنة والإمامية، ونرى هنا أن أليق من يطبق عليه هذا النوع من
الزواج هو هذا المحل، فالمسلم المهاجر إلى بلاد الغرب قد يضطر لهذا النوع من
الزواج بضوابطه الشرعية، ويكون قصده الأول من ذلك هو تحصين نفسه عن سعار الشهوات
التي تحيط به، ما دام مقيما بتلك البلاد، ثم هو بعد زواجه ينظر في مدى صلاحية ذلك
الزواج للاستمرار أو الاكتفاء بمدة الحاجة إليه، فإن كان في الزوجة استعدادا
للإسلام أو ألف قلبها عليه أو أسلمت استمر الزواج، أما إن استمرت مصروفة عنه، وفي
ظل الظروف التي تحيط بالعالم الإسلامي، فإن المستحب هنا بل الواجب هو الفراق،
ولعله لهذا الاعتبار أمر عمر - رضي الله عنه -
الصحابة بتطليق زوجاتهن الكتابيات بعد استقرار أحوالهن، وقد روى الإمامية
عن الحسين - رضي الله عنه - قوله: ما أحب
للرجل أن يتزوج اليهودية والنصرانية مخافة أن يتهود ولده أو يتنصر.
والخلاصة التي نخرج بها من هذا
الترجيح، والتي تتعلق بحكم الزواج من الكتابيات في عصرنا أنه مباح بالشروط
التالية:
أن تكون كتابية حقيقة، لأن معظم
المجتمع الغربي الآن مجتمع لا ديني، ونسبة المسيحيين فيه قليلة جدا، ولا يصح ما
نراه في الإحصائيات من كثرة العالم المسيحي.
· أن
لا تكون كتابية محاربة، وسنرى تفصيل هذا الشرط وأدلته لاحقا.
· أن
تكون عفيفة، ماضيا وحضرا، فكرا وسلوكا، أي أنها تعف عن الفواحش سلوكا بعدم
ممارستها، وفكرا بعدم اعتبارها حرية شخصية، حتى لا تربي أولادها على ذلك.
· أن
لايكون في الزواج بها إضرارا بالمسلمات.
· أن
يكون زواجة بها للحاجة الملحة، والأفضل أن يكون مؤقتا إلا إذا رأى استعدادها
للإسلام.
· أن
ينسب أولاده منها إليه، وأن يقوم هو بتربيتهم،وتنشئتهم على الإسلام، ويستحب إن لم
يطمع في إسلامها أن يتجنب إنجاب الولد منها.
فإذا انضم إلى هذه الشروط ما ذكرناه
سابقا من عوارض الحكم الشرعي يمكن استنتاج الأحكام العارضة وشروطها.
اختلف الفقهاء في الزواج بالكتابيات
المحاربات[87]على قولين[88]:
القول الأول: الكراهة الشديدة
للزواج بالكتابيات المحاربات، وهو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بعمةم
النصوص الواردة في ذلك.
القول الثاني: حرمة الزواج
من الكتابيات المحاربات، وقد حكى هذا القول ابن تيمية عن الإمام أحمد،قال ابن
تيمية:(كلام الإمام أحمد عامة يقتضي تحريم التزويج بالحربيات وله فيما إذا خاف على
نفسه روايتان) [89]
وهو رأي قد نستشفه من قول الإمام
مالك، ففي المدونة سئل ابن القاسم:(ما قول مالك في زواج نساء أهل الحرب؟ قال:
بلغني عن مالك أنه كرهه، وقال يضع ولده في أرض الشرك ثم يتنصر أو ينصر فلا يعجبني.
قلت فيفسخ نكاحهما؟ قال: إنما بلغني عن مالك أنه كرهه ولا أدري هل يفسخ أم لا،
وأنا أرى أن يطلقها ولا يقيم عليها من غير قضاء) [90]
ونرى أن هذه النص من حيث ما استند
إليه قد يفيد الحرمة ولا يحمل على مجرد الكراهة ففي المدونة بعد قول مالك عن ابن
شهاب قوله: (قد أحل الله نساء أهل الكتاب وطعامهم غير أنه لا يحل للمسلم أن يقدم
على أهل الحرب من المشركين لكي يتزوج فيهم
أو يلبث بين أظهرهم)، وحرمة الإقامة بين أهل الحرب تقتضي حرمة الزواج بالكتابية،
لأنه لو تزوج بأرضه لا تبقى الكتابية محاربة، لأن المحاربة في العرف الشرعي مرتبطة
بالأرض والدار.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول
الثاني، لأن الأدلة الكثيرة التي استدل بها العلماء على الكراهة، لا تقتصر عليها
بل تدل على الحرمة، ومنها:
· أن
ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لا تحل
نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربا، وتلا قوله تعالى: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾(التوبة:
29).
· قوله
تعالى:﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ
أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ
اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾(المجادلة: 22)،
والزواج يوجب المودة لقوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً
وَرَحْمَةً ﴾(الروم:21)
· أن
ولده ينشأ في دار الحرب على أخلاق أهلها، وذلك منهي عنه، قال - صلى الله
عليه وسلم -:
(أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين) [91]، وقد أخذ رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل دخل
في الإسلام فقال: تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان، وإنك لا ترى
نار مشرك إلا وأنت له حرب) [92]
·
أن قوله تعالى:
﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ مخصص لقوله تعالى: ﴿
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾(المائدة:5) قاصرلحكمه على الذميات منهن دون الحربيات.
وهذا يتناسب مع مقاصد الشريعة التي
توحد بين قلوب المسلمين ومشاعرهم، فأي شعور بالانتماء للإسلام من مسلم يتزوج
يهودية، قد تكون عينا لقومها، أو على الأقل تحمل قلبا يحمل الحقد على الإسلام
والمسلمين، أو على أقل من ذلك أن لا يستطيع الكلام معها عن النار التي تلتهب في
قلبه، وهو يرى ويسمع ما يحدث لإخوانه ومقدساته بأيدي قومها.
ومثل ذلك قد يقال عن غيرها من أهل
الكتاب، إن كانوا حقا من أهل الكتاب.
وقد استدل الشيخ بهذا على حرمة الزواج
بأهل الكتاب المعاصرين، فقال:(والنصارى في هذا العصر يحاربون المسلمين محاربة
حقيقية، فالإنجليز احتلوا الهند منذ قرون وأذاقوا المسلمين هناك أنواع الذل
والهوان وانتشر الإسلام بجهاد الخلفاء العثمانيين في ألبانيا ويوغوسلافيا رومانيا
وبلغاريا والنمسا، فقام الإنجليز بمحاربة الإسلام في تلك البلاد، حتى قضى عليه ولم
يبق فيها إلا مساجد خاوية وأوقاف عليها وعلى كتب العلم من عهد الدولة العثمانية.
ثم سعوا في إبطال الخلافة الإسلامية، حتى كان السلطان عبد الحميد آخر خليفة أسقطوه
بعد الحرب العالمية الأولى، واحتلوا مصر والعراق، وعمدوا إلى الشام فجعلوا أقاليمه
الأربعة دويلات صغيرة، فأعطوا سوريا ولبنان لفرنسا، وسموا الأردن إمارة وجعلوا
عليها الأمير عبد الله، وتركوا فلسطين تحت أيديهم ليسلموها إلى اليهود تنفيذاً
لوعد بلفور لعنه الله، وأطلقوا لفرنسا يدها في مراكش، لتسكت عنهم في مصر.
وفرنسا احتلت الجزائر وتونس منذ مدة
طويلة، وإيطاليا احتلت طرابلس وأذاقت أهلها ألواناً من العذاب، وإسبانيا تحتل سبتة
ومليلية وبعض الجزر بالمغرب إلى الآن، وبعد الحرب العالمية الأخيرة اغتصب اليهود
بمعاونة إنجلترا وأمريكا فلسطين، وأنشأوا بها دولة إسرائيل، واعترف بها دول
النصارى في هيئة الأمم المتحدة، وأيدوا حقها في اغتصاب فلسطين والقدس، والمنصف
منهم من يطلب أن يكون للفلسطينيين دولة بجانب دولة اليهود، وهذه محاربة علنية.
يضاف إلى ذلك ما يصرح به المستشرقون
من طعن في الإسلام ونبي الإسلام، وما يقوم به المبشرون بالتبشير بالنصرانية في
بلاد المسلمين، وما تصرح به اليونسكو في نشراتها من الطعن في المسلمين وتاريخهم،
سوى ما يأتي من زعمائهم في بعض المناسبات من تصريحات تنضح بالحقد والعداوة للدين
الإسلامي) [93]
اعتبار النسب
في زواج الكتابيات:
اختلف الفقهاء في اعتبار نسب الكتابية،
أي بأن تكون من قوم أهل كتاب، على قولين[94]:
القول الأول: اعتبار
الآباء في إباحة الزواج من الكتابيات، وهو قول للشافعي، بل إنه قال:(أصل ما أبني
عليه أن الجزية[95] لا تقبل من أحد دان دين كتاب إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبل نزول
الفرقان، فلا تقبل ممن بدل يهودية بنصرانية أو نصرانية بمجوسية أو مجوسية بنصرانية
أو بغير الإسلام، وإنما أذن الله عز وجل بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قبل
محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك خلاف ما أحدثوا من الدين بعده، فإن أقام على ما
كان عليه وإلا نبذ إليه عهده، وأخرج من بلاد الإسلام بماله وصار حربا)لكن المزني
روى عنه في كتاب النكاح:(إذا بدلت بدين يحل نكاح أهله فهو حلال) [96]
القول الثاني: أن العبرة
بدين الشخص لا بدين آبائه، وهو قول جمهور الفقهاء، واستدلوا على ذلك بما يلي:
·
أنه لا يتعلق
به شيء من آبائه إذا كان هو على دين باطل لا يقبله الله فسواء كان آباؤه كذلك أو
لم يكونوا.
· أن
النبي -
صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من يهود اليمن وإنما دخلوا في اليهودية بعد
المسيح - عليه السلام - في زمن تبع وأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وخلفاؤه من بعده من نصارى العرب ولم يسألوا أحدا منهم عن مبدأدخوله في النصرانية،
هل كان قبل المبعث أو بعده، وهل كان بعد النسخ والتبديل أم لا.
·
أن سكوت القرآن
والسنة عن اعتبار ذلك في جميع المواضع وعن الإيماء إليه والدلالة عليه دليل على
عدم اعتباره.
· أن
إطلاق النصوص وعمومها المطرد في جميع المواضع متناول لكل من اتصف بتلك الصفة ولم
يرد فيهما موضع واحد مخصص ولا مقيد، فيجب التمسك بالعام حتى يقوم دليل على تخصيصه.
· أن
عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته في أهل الكتاب بعد نزول الآية مبين أنه
المراد منهما، وقد علم أنه لم يبن في أخذ الجزية وحل الذبائح والزواج إلا على مجرد
دينهم لا على آبائهم وأنسابهم.
· أن
من دان بدينهم من الكفار بعد نزول الفرقان يون بذلك قد انتقل من دينه إلى دين خير
منه وإن كانا جميعا باطلين.
· أن
دين أهل الكتاب قد صار باطلا بمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا فرق بين
من اختاره بنفسه ممن لم يتقدم دخول آبائه فيه قبل ذلك وبين من دخل فيه ممن تقدم
دخول آبائه فيه، فإن كل واحد منهما اختار دينا باطل،ا وما على الرجل من أبيه وأي
شيء يتعلق به منه.
· أن
تبعية الشخص لأبيه منقطعة ببلوغه، بحيث صار مستقلا بنفسه في جميع الأحكام، فما بال
تبعية الأب بعد البلوغ أثرت في إقراره على دين باطل قد قطع الإسلام تبعيته فيه.
· أن
نسبة من دخل في اليهودية بعد بعث المسيح وترك دين المسيح كنسبة من دخل في
النصرانية بعد مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كلاهما دخل في دين باطل
منسوخ.
· أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يؤمر بالجهاد كان يقر الناس على ما هم عليه،
ويدعوهم إلى الإسلام، بل كانت المرأة تسلم وزوجها كافر فلا يفرق الإسلام بينهما،
ولم ينزل تحريم المسلمة على الكافر إلا بعد صلح الحديبية.
· أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع قبل فرض الجهاد ولا بعده وثنيا دخل في دين
أهل الكتاب، بل ولا يهوديا تنصر أو نصرانيا تهود أو مجوسيا دخل في التهود والتنصر.
· أنه
لو لم يعرف له أب لكونه لقيطا أو انقطع نسبه من أبيه بكونه ولد زنى فإن ذلك لا
يمنع اعتباره في دينه بنفسه، ولو كان من شرط ذلك دخول آبائه في الدين قبل النسخ
والتبديل لم يثبت لهذا حكم دينه ولم يقر عليه لعدم أبيه حسا وشرعا إذ تبعيته هنا
منتفية وإنما له حكم نفسه.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول
الثاني لعدم ورود أي دليل نصي يقيد أهل الكتاب بما ذكر الشافعي من قيود، ولو فرض
صحة ما قال، فإن أمر الزواج بأهل الكتاب يغدو مستحيلا لصعوبة التعرف على التاريخ
الديني لمن يزعم أنه من أهل الكتاب، اللهم إلا أن يكونوا من اليهود المحافظين، وقد
شكك الكثير من العلماء المحدثين في انتساب الكثير منهم إلى بني إسرائيل خاصة وأن
اليهود ينسبون اليهودي إلى أمه لا إلى أبيه عل خلاف النسب عندنا.
زيادة على ذلك، فمما ورد في كتاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدل على هذا، فقد جاء فيه :(أما بعد
فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم
الأريسيين و﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(آل عمران: من الآية64)) [97]
قال ابن حجر في الكلام على هذا
الحديث :(واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام أن كل من دان بدين أهل الكتاب كان في
حكمهم في المناكحة والذبائح، لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل وهم ممن دخل
في النصرانية بعد التبديل، وقد قال له ولقومه :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾،
فدل على أن لهم حكم أهل الكتاب، خلافاً لمن خص ذلك بالإسرائيليين أو بمن علم أن
سلفه ممن دخل في اليهودية أو النصرانية قبل التبديل)
اختلف الفقهاء في مراتب أهل الكتاب
من حيث فضل بعضهم على بعض على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إنه لا تفاوت
بين البهود والنصارى، وهو قول أكثر العلماء، ولذلك لم يفرقوا في الأحكام بين
اليهود والنصارى من حيث جواز المناكحة فيما بينهم، وجواز شهادة بعضهم على بعض،
وجواز أكل ذبيحتهم، وحل زواج نسائهم للمسلمين، وغير ذلك من الأحكام الفقهية لأنهم أهل ملة واحدة وإن اختلفت نحلهم، ولأنه
يجمعهم اعتقاد الشرك والإنكار لنبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
القول الثاني: أن النصرانية
شر من اليهودية، وهو ما ذهب إليه بعض فقهاء الحنفية، منهم ابن نجيم وصاحب الدرر
وابن عابدين، ومما فرعوا على هذا التفضيل قولهم بلزوم كون الولد المتولد من يهودية
ونصراني أو عكسه تبعا لليهودي لا النصراني.
القول الثالث: أن كفر اليهود أغلظ من كفر النصارى، لأنهم يجحدون
نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ونبوة عيسى - عليه السلام -، وكفر النصارى أخف
لأنهم يجحدون نبوة نبي واحد، ولأن اليهود أشد جميع الناس عداوة للمؤمنين، وأصلبهم
في ذلك، وأما النصارى فهم ألين عريكة من اليهود، وأقرب إلى المسلمين منهم.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن
الكفر جميعا ملة واحدة، أما كون بعضهم أقرب إلى المسلمين من الآخر، فيختلف من محل
إلى محل آخر، ويختلف باختلاف الأزمنة، فنصارى العرب مثلا أقرب كثيرا إلى المسلمين
من غيرهم، بل إنهم يشعرون بانتمائهم للحضارة الإسلامية أكثر من شعورهم بالانتماء
للعالم المسيحي، ويهود السامرة بالنسبة لليهود أقرب من غيرهم من اليهود، وهؤلاء
أقرب من اليهود المتصهينين.
والاعتبارات في ذلك كثيرة، وهي مصدر
خطورة الزواج الدائم من أهل الكتاب، فمن شابه أباه فما ظلم.
تغيير الكتابية
لدينها بعد الزواج:
نص الفقهاء[98] على أنه إذا انتقلت الكتابية إلى دين غير دين أهل الكتاب فحكمها
كالمرتدة، لأن غير أهل الكتاب لا يحل زواج نسائهم، فمتى كان قبل الدخول، انفسخ
زواجها في الحال، ولا مهر لها، لأن الفسخ
من قبلها، وإن كان بعده فينتظر انقضاء العدة، وقيل ينفسخ في الحال.
ويشملون الأصناف التالية:
اختلف الفقهاء في حكم زواج المسلم من
المجوس على قولين[99]:
القول الأول: أنهم من أهل
الكتاب، ولذلك يجوز الزواج منهم، وهو قول بعض السلف وأبي ثور، وهو مذهب ابن
حزم،وقد استدل على ذلك بما يلي [100]:
· أن
المجوس أهل كتاب، ولذلك يجوز الزواج بنسائهم، والدليل على أنهم أهل كتاب قول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا انسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(التوبة: 5) فلم يبح لنا ترك قتلهم إلا بأن يسلموا فقط،
وقال تعالى:﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾(التوبة:29)،
فاستثنى الله تعالى أهل الكتاب خاصة بإعفائهم من القتل بغرم الجزية مع الصغار من
جملة سائر المشركين الذين لا يحل إعفاؤهم إلا أن يسلموا، وقد صح أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر[101]،فدل ذلك على أنهم أهل كتاب.
· أن
الحديث الذي استدل به المخالفون، وهو ما كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم قبل ومن أبى ضربت عليه الجزية على أن لا
تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة، مرسل ولا حجة في مرسل، وأن ما ورد فيه من أنه
(لا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة) ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -.
· أن
القول بذلك روي عن جماعة من السلف، فقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم
يعلمونه، وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر، فوقع على بنته أو أخته، فاطلع عليه بعض
أهل مملكته، فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد، فامتنع منهم، ودعا أهل مملكته،
وقال: أتعلمون دينا خيرا من دين آدم، وقد أنكح بنيه بناته، فأنا على دين آدم قال:
فتابعه قوم، وقاتلوا الذين يخالفونهم، حتى قتلوهم، فأصبحوا وقد أسري بكتابهم، ورفع
العلم الذي في صدورهم، فهم أهل كتاب) [102]
· لما
هزم أهل الأسفيذار انصرفوا فجاءهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فأجمعوا
فقالوا: بأي شيء تجري في المجوس من الأحكام فإنهم ليسوا بأهل كتاب، وليسوا بمشركين
من مشركي العرب، فتجري فيهم الأحكام التي أجريت في أهل الكتاب أو المشركين، فقال
علي بن أبي طالب: بل هم أهل كتاب
· أن
امرأة حذيفة - رضي الله عنه - كانت
مجوسية.
· أنه
من الخطأ أن يكون الله تعالى أمر أن لا تقبل جزية من مشرك إلا من أهل الكتاب، ولا
أن تنكح مشركة إلا الكتابية وأن لا تؤكل ذبيحة مشرك إلا كتابي، ثم يفرق بين
الأحكام المذكورة، فيمنع من بعضها ويبيح بعضها.
القول الثاني: أنهم ليسوا
أهل الكتاب، ولذلك لا يجوز الزواج منهم، وهو قول أكثر الفقهاء، واستدلوا على ذلك
بما يلي:
·
قوله تعالى:﴿
وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا
أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ
دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾(الأنعام:156)،فأخبر تعالى أن أهل الكتاب
طائفتان، فلو كان المجوس أهل الكتاب لكانوا ثلاث طوائف كمن قال: إنما لي على فلان
جبتان، لم يكن له أن يدعي أكثر منه.
· أن
الله تعالى عندما ذكر الملل المختلفة قال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(الحج:17) فذكر الملل الست وذكر أنه يفصل بينهم
يوم القيامة، ولكنه لما ذكر الملل التي فيها السعداء قال: ﴿ إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(البقرة:62)،
وقال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ
وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(المائدة:69) في موضعين ولم يذكر
المجوس ولا المشركين، فلو كان في هاتين الملتين سعيد في الآخرة كما في الصابئين
واليهود والنصارى لذكرهم،فلو كان لهم كتاب لكانوا قبل النسخ والتبديل على هدى، وكانوا يدخلون الجنة
إذا عملوا بشريعتهم، كما كان اليهود والنصارى قبل النسخ والتبديل، فلما لم يذكر
المجوس في هؤلاء، علم أنه ليس لهم كتاب.
· أن
المجوس لا ينتحلون شيئا من كتب الله المنزلة على أنبيائه، وإنما يقرءون كتاب
زرادشت وكان متنبيا كذابا، فليسوا إذا أهل كتاب.
· قال
عمر - رضي الله عنه -: ما أدري كيف أصنع بالمجوس وليسوا أهل كتاب فقال عبد الرحمن
ابن عوف: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(سنوا بهم سنة أهل الكتاب)،
فصرح عمر بأنهم ليسوا أهل كتاب، ولم يخالفه عبد الرحمن ولا غيره من الصحابة.
· روى
عبد الرحمن بن عوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (سنوا بهم سنة أهل
الكتاب) ; فلو كانوا أهل الكتاب لما قال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) ولقال هم من
أهل الكتاب.
· أنه
أخذ الجزية من مجوس هجر وقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، وإنما قال ذلك في الجزية
خاصة، وقد روي ذلك في خبر آخر عن الحسن بن محمد قال: (كتب النبي - صلى الله عليه
وسلم -إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام، قال: فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما
علينا، ومن أبى فعليه الجزية غير أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم)
· أنه
روي النهي عن صيد المجوس عن علي وعبد الله وجابر بن عبد الله والحسن وسعيد بن
المسيب وأبي رافع وعكرمة، وهذا يوجب أن لا يكونوا عندهم أهل كتاب.
· أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى صاحب الروم: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة
سواء بيننا وبينكم)، وكتب إلى كسرى ولم ينسبه إلى كتاب.
· أنه
لما اقتتلت فارس والروم، وانتصرت الفرس، ففرح بذلك المشركون ; لأنهم من جنسهم ليس
لهم كتاب، واستبشر بذلك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لكون النصارى أقرب
إليهم، لأن لهم كتابا، وأنزل الله تعالى:﴿ الم(1)غُلِبَتْ الرُّومُ(2)فِي
أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾(الروم:1 ـ
3)، وهو يبين أن المجوس لم يكونوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -وأصحابه لهم
كتاب.
· أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من المجوس، وقال: (سنوا بهم سنة أهل
الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم). وهذا مرسل،وقد عمل بهذا المرسل عوام
أهل العلم، والمرسل في أحد قولي العلماء حجة كمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى
الروايتين عنه، وفي الآخر هو حجة إذا عضده قول جمهور أهل العلم، وظاهر القرآن أو
أرسل من وجه آخر، وهذا قول الشافعي، فمثل هذا المرسل حجة باتفاق العلماء [103].
· أنه
لم يثبت أن حذيفة تزوج مجوسية، وقد ضعف أحمد رواية من روى عن حذيفة أنه تزوج
مجوسية. وقال أبو وائل يقول: تزوج يهودية. وهو أوثق ممن روي عنه أنه تزوج مجوسية.
وقال ابن سيرين: كانت امرأة حذيفة نصرانية. ومع تعارض الروايات لا يثبت حكم إحداهن
إلا بترجيح، على أنه لو ثبت ذلك عن حذيفة، فلا يجوز الاحتجاج به مع مخالفته الكتاب
وقول سائر العلماء [104].
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن
المجوس ليسوا كالمشركين، بل هم أقرب إلى أهل الكتاب لورود الحديث في ذلك، ولكن
الزواج من نسائهم يبقى مرتبطا بالتعرف على عقيدتهم وعلى اقتناع من يريد أن يتزوج
منهم بوجود كتاب سماوي لديهم.
وكرأي شخصي قد لا أجد الفرصة في هذا
المحل للاستدلال له، أرى أن المجوس من أهل الكتاب، وأن دينهم من الأديان السماوية،
ولو لم ينص عليه في القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم اقتصر على التأريخ الديني
للمنطقة التي نزل فيها أما سائر المناطق، فقد أشار إليها إشارات مجملة كقوله
تعالى:﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾(فاطر:24)،
ولكن إباحة الزواج منهم تبقى مرتبطة بالمصالح الشرعية التي تنتج عن ذلك الزواج،
وفق الضوابط المذكورة سابقا.
وهذا الذي قلنا ليس بدعا في الرأي،
بل نرى الكثير ممن أرخوا للأديان ينصون على نبوة زرادشت ويسمونه نبي المجوس، وممن انتصر
لذلك، وقد توفر له من العلم بالملل والنحل ما يؤهله لذلك ابن حزم، فقد قال في
الفصل: (أما زرادشت فقد قال كثير من المسلمين بنبوته) [105] ثم عقب على
ذلك بقوله:(ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن صحت عنه معجزة، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ
مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾(فاطر:24)، وقال تعالى:﴿
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ
عَلَيْكَ ﴾(النساء:164)) [106]
ثم بين أن الذي ينسب إليه المجوس من
الأكذوبات باطل مفترى منهم، واستدل على ذلك بالتحريفات الواقعة في الديانات
المختلفة،، ثم بين قاعدة جليلة في ذلك فقال:(وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا
مقصورين على رجال من أهلها، وكانا محظورين على من سواهما فالتبديل والتحريف مضمون
فيهما، وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كان طول مدة دولتهم عند المؤبذ، وعند ثلاثة
وعشرين هربذا، لكل هربذ سفر قد أفرد به وحده لا يشاركه فيه غيره من الهرابذة ولا
من غيرهم، ولا يباح بشيء من ذلك لأحد سواهم، ثم دخل فيه الخرم بإحراق الإسكندر
لكتابهم أيام غلبته لدارا بن دارا، وهم مقرون بلا خلاف منهم أنه ذهب منه مقدار
الثلث ذكر ذلك بشير الناسك وغيره من علمائهم) [107]
ونفس ما دفع به ابن حزم عن زرادشت ما
نسبه إليه المجوس ذكره غيره من العلماء، قال الباقلاني:(وكذلك الجواب عن المطالبة
بصحة أعلام زرادشت إما أن نقول إنها في الأصل مأخوذة عن آحاد، لأن العلم بصدقهم
غير واقع لنا، أو نقول إنه نبي صادق ظهرت على يده الأعلام، ودعا إلى نبوة نوح
وإبراهيم، وإنما كذبت المجوس عليه في إضافة ما أضافته إليه من القول بالتثنية وقدم
النور والظلام وحدوث الشيطان من فكرة وشكة شكها بعض أشخاص النور، وهو بمنزلة كذب
النصارى على المسيح - عليه السلام - من دعائه إلى اعتقاد التثليث والاتحاد والاختلاط،
وأن مريم ولدت مسيحا بلاهوته دون ناسوته وغير ذلك) [108]
وقد ذكر ابن حزم أن هذا القول ليس
بدعة للمتأخرين، بل أن من السلف من قال بذلك، قال:(وممن قال أن المجوس أهل كتاب
علي بن أبي طالب وحذيفة رضي الله عنهما، وسعيد بن المسيب وقتادة وأبو ثور وجمهور
أصحاب أهل الظاهر، وقد بينا البراهين الموجبة لصحة هذا القول في كتابنا المسمى
الإيصال في كتاب الجهاد منه وفي كتاب الذبائح منه وفي كتاب النكاح منه) [109]، ثم
قال:(ويكفي من ذلك صحة أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزية منهم، وقد حرم
الله عز وجل في نص القرآن في آخر سورة نزلت منه وهي براءة أن تؤخذ الجزية من غير
كتابي)
لغة: جمع الصابئ. والصابئ: من خرج من
دين إلى دين. يقال: صبأ فلان يصبأ: إذا خرج من دينه، وتقول العرب: صبأت النجوم إذا
طلعت.
اصطلاحا: ورد ذكر
الصابئة في القرآن الكريم مع أهل الملل في ثلاثة مواضع، منها: قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(البقرة:62)، وقد
اختلف العلماء فيهم على أقوال كثيرة، منها:
·
أنهم قوم كانوا
على دين نوح - عليه السلام -
· هم
قوم يشبه دينهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين
نوح - عليه السلام -
· أنهم
صنف من النصارى ألين منهم قولا. وهو مروي عن ابن عباس وبه قال أحمد في رواية.
· هم
قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية.
· هم
قوم بين النصارى والمجوس.
ونرى أن الأرجح في هذه الاختلافات
صدقها جميعا، وأن الصايئة ليست ديانة قائمة بذاتها، وإنما هي فروع من الديانات
المختلفة، وأنها نوع من نزوع بعض أهل تلك الديانات للروحانيات مقابل الطقوس التي
يهتم بها أصحاب الديانة الأصلية، قال الشهرستاني: (الصبوة في مقابلة الحنفية، وفي
اللغة صبأ الرجل إذا مال وزاغ فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء
قيل لهم الصابئة، وقد يقال صبأ الرجل إذا عشق وهوى، وهم يقولون
الصبوة هي الانحلال عن قيد الرجال، وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين، كما
أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين، والصابئة تدعي أن مذهبها هو
الاكتساب، والحنفاء تدعي أن مذهبها هو الفطرة،فدعوة الصابئة إلى الاكتساب ودعوة الحنفاء
إلى الفطرة) [110]
اختلف الفقهاء في الصابئة على قولين[111]:
القول الأول: أنهم من أهل
الكتاب من اليهود أو النصارى، وهو قول أبي حنيفة، وفي قول لأحمد، وهو أحد وجهين
عند الشافعية: أنهم جنس من النصارى.
القول الثاني: أنهم إن
وافقوا اليهود والنصارى في أصول دينهم، من تصديق الرسل والإيمان بالكتب كانوا
منهم، وإن خالفوهم في أصول دينهم لم يكونوا منهم، وكان حكمهم حكم عبدة الأوثان[112]، وهو المذهب عند الشافعي، وما صححه ابن قدامة من الحنابلة.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة بناء على
ما سبق من تعريفهم أن حكمهم حكم الدين الذي تفرعوا عنه، فإن كان الدين كتابيا
كانوا أهل كتاب، وحكمهم حينذاك حكم سائر أهل الكتاب لأن القرآن الكريم لم يخص
طائفة منهم دون طائفة، فلس الكاثوليكي المتعصب، ولا اليهودي المتصهين بخير من
الصابئ.
لا نلاحظ في كتب الفقه القديمة ولا
الحديثة ـ بحسب اطلاعنا ـ كلاما خاصا بالديانة البوذية، بل نرى معظم الحديث فيها
عن المجوس والصابئة، ولهذا سنتكلم عنها انطلاقا من المقدمات السابقة، ونرى أن
الحديث عنها أهم من الحديث عن المجوس والصابئة، فالبوذية اليوم تنتشر بين عدد كبير
من الشعوب الآسيوية، فهي تنتشر في الصين واليابان والتبت ونيبال وسومطره، وبورما
وسيلان وسيام، وغيرها بل هي تنتشرفي أوروبا وأمريكا، فلذلك كان لزاما على من يتحدث
على هذه المسألة أن يوفي هذه الديانة حقها، فهل للبوذية شبهة كتاب، أم أنهم
كالمشركين والملحدين وغيرهم ممن لا يحل الزواج منهم، سنحاول التعرف على حكم ذلك في
المسائل التالية:
هي ديانة ظهرت في لهند بعد الديانة
البرهمية في القرن الخامس قبل الميلاد، وقد كانت بدايتها متوجهة إلى العناية
بالإنسان، كما أن فيها دعوة إلى الزهد والخشونة ونبذ الترف والمناداة بالمحبة
والتسامح وفعل الخير، لكنها لم تلبث بعد موت مؤسسها أن تحولت إلى معتقدات باطلة
ذات طابع وثني، وقد غالى أتباعها في مؤسسها حتى ألهوه ومؤسسها هو سدهارتا جوتاما
المقلب ببوذا (560 ـ 480 ق.م).
انطلاقا من كثير من المعتقدات التي تطبع
الديانة البوذية يمكن اعتبارها من الديانات الكتابية المحرفة، وبما أن ديانتهم من
الديانات السابقة على الإسلام فإن القول بصحة الزواج منهم قد يجد محله من البحث
والنظر خاصة إن تحققت بذلك بعض المصالح الشرعية من تأليف القلوب بين المسلمين
والبوذيين، ولا نجرؤ على أي قول في ذلك هنا، ولكن سنضع بعض العلامات التي قد تشير
إلى ما ذكرنا، وبالتالي قد تفتح المجال لفتوى بهذا الشأن، فمن الدلائل التي قد
تشير إلى ما ذكرنا:
· أن
بوذا، وهو الاسم الديني لمؤسس الديانة البوذية، له نوع علاقة بمعنى النبوة، فإن
معنى بوذا باللغة السنسكريتية العالم الذي وصل إلى درجة(البوذة) وهو العلم الكامل،
والنبي هو الذي لديه العلم الحقيقي الكامل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(أنا
أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، وعلى أقل تقدير قد يشير إلى مصطلح العارف الذي
يتداوله المسلمون بناء على النصوص الشرعية، ثم إن هذا اللقب ليس خاصا بواحد، بل
يستحقه عندهم أناس كثيرون من أهل النفوس العالية.
· أن
حياته تشير إلى كثير من الدلائل التي قد تحمل على القول بنبوته، فقد نشأ أميراً
فشب مترفاً في النعيم، ولما بلغ السادسة والعشرين هجر زوجته منصرفاً إلى الزهد
والتأمل في الكون ورياضة النفس وصمم على أن يعمل على تخليص الإنسان من آلامه التي
منبعها الشهوات، وهو يتشابه في كثير من ذلك مع سير الأنبياء ـ عليهم الصلاة
والسلام ـ
· أن
البوذيين يعتقدون في بوذا أنه سيدخلهم الجنة، وفي تعاليم بوذا دعوة إلى المحبة
والتسامح والتعامل بالحسنى والتصدق على الفقراء وترك الغنى والترف والأمر بالزهد
والتقشف وفيها تحذير من النساء والمال وهي أوجه شبه واضحة مع الديانات الكتابية.
· أن
للبوذية كتب ككتب أهل الكتاب، هي عبارات منسوبة إلى بوذا أو حكاية
لأفعاله سجلها بعض أتباعه، ونصوص تلك الكتب تختلف بسبب انقسام البوذيين، فبوذيو
الشمال اشتملت كتبهم على أوهام كثيرة تتعلق ببوذا أما كتب الجنوب فهي أبعد قليلاً
عن الخرافات، ويتشابهون في ذلك مع الفرق المختلفة لليهود والنصارى.
· أن
ما يعتقده البوذيون الآن من أن بوذا هو ابن الله، وأنه الذي يتحمل ذنوب البشر
ويخلصهم، وأن حلول الروح القدس على العذراء(مايا) كان منه بوذا، وقد دلَّ على
ولادة بوذا نجم في السماء (نجم بوذا)، وأنه فرحت جنود السماء والملائكة بولادة
بوذا وأنه قال لأمه وهو طفل: إنه أعظم الناس جميعاً، وأنه في آخر أيامه نزل على رأسه نور أحاط به، وأنه
الكائن العظيم الواحد من نور غير طبيعية وسيحاسب الأموات على أعمالهم، وأنه لما
مات بوذا، قال أتباعه: صعد إلى السماء بجسده بعد أن أكمل مهمته على الأرض سيعود
ثانية إلى الأرض ليعيد السلام والبركة إليها هذا تشبه ما عند النصارى حتى قيل
بتأثر النصرانية بها في كثير من المعتقدات.
· أن
أقواله تحمل الكثير من المعاني التي جاءت بها الديانات السماوية، فقد كان الناس في
نظره وأمام دعوته سواء متساوين في الحقوق والواجبات، وكان يقول: (كما أنه لا فرق
بين جسم الأمير وجسم المتسول الفقير وكذلك لا فرق بين روحيهما كل منهما أهل لإدراك
الحقيقة والانتفاع بها في تخليص نفسه ويكفي للوصول إلى هذا الحال أن يريده
الإنسان)
وفي الأخير نقول: إن ما نراه من
امتداد البوذية زمانا ومكانا ومعتنقين يحيل أن يكون سبب ذلك أصلا بشريا أو مذهبا
أرضيا، فالواقع يثبت أن كل المذاهب البشرية والأفكار الأرضية لا يكون لها مثل هذا
الامتداد، وقد قال باحتمال نبوة بوذا من المعاصرين محمد فريد وجدي في دائرة معارف
القرن العشرين في مادة:بوذا، فقد قال بعد أن سرد سيرته:(نقول إن أمر (البوذا) هذا
عجيب، ولا يبعد أن يكون واحداً من المرسلين، ولا نمتنع من الجزم بذلك مع ما يصادف
في مذهبه من المقررات الظاهرة البطلان، فلا شك أنها من وضع الكهان، وخرافات
الرهبان، وقد حدث مثل ذلك في أكثر الأديان واللّه أعلم) [113]
ولكن الفتوى في ذلك تتطلب بالإضافة
إلى ما ذكرنا موقفهم من الزنا ونحوه من الفواحش لأن القرآن الكريم اشترط لصحة
الزواج من أهل الكتاب كون نسائهم من المحصنات، وقد رأينا أن كلا من اليهودية
والنصرانية تحرم الزنا والفواحش بغض النظر عن الممارسات السلوكية لأتباع هاتين
الديانتين، وذلك يتطلب دراسة خاصة حول هذا الأمر، وحول جدوى إنشاء هذا النوع من
العلاقات معهم، ولا نرى في ذلك خرقا للإجماع، لأن الإجماع على حل الزواج من أهل
الكتاب دون تخصيص دين بعينه بدليل الاختلاف في الصابئة والمجوس.
ولعل أهم ما دعانا إلى طرح هذا
الموضوع هنا هو علاقته بالرؤية المقاصدية للزواج، فمن مقاصده التي نص عليها
العلماء من زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القبائل المختلفة تأليف قلوب
أهلها على الإسلام، ونرى أن الصراع الموجود الآن بين المسلمين وغيرهم لا ينبغي أن
ينسي المسلمين واجب الدعوة إلى الله وتأليف القلوب على الإسلام، وربما تكون
الديانات الشرقية في كثير من النواحي أقرب إلى فهم الإسلام واعتناقه من الغرب
الأوروبي والأمريكي، والدليل التاريخي يثبت ذلك.
وهم المشركون، ويلحق بهم من لا دين
له، أو أصحاب الكثير من المذاهب الحديثة التي تمس جوهر الاعتقاد وحكم العلماء
عليها بالكفر،وقد اتفق الفقهاء على حرمة زواج المسلم منهم[114]، لقوله تعالى:﴿ وَلَا
تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾(البقرة:221)
وقد بين الفقهاء العلة التي من أجلها
أحلت الكتابية ولم تحل المشركة، ومن خلالها تتضح كثير من المسائل المعاصرة
المتعلقة بالزواج من غير المسلمات،ولا بأس أن ننقل هنا ما يقوله الكاساني في ذلك
لأهميته، قال في بيان الفرق:(والفرق أن الأصل أن لا يجوز للمسلم أن ينكح الكافرة ;
لأن ازدواج الكافرة والمخالطة معها مع قيام العداوة الدينية لا يحصل السكن والمودة
الذي هو قوام مقاصد الزواج إلا أنه جوز زواج الكتابية لرجاء إسلامها، لأنها آمنت
بكتب الأنبياء والرسل في الجملة، وإنما نقضت الجملة بالتفصيل بناء على أنها أخبرت
عن الأمر على خلاف حقيقته، فالظاهر أنها متى نبهت على حقيقة الأمر تنبهت، وتأتي
بالإيمان على التفصيل على حسب ما كانت أتت به على الجملة، هذا هو الظاهر من حال
التي بني أمرها على الدليل دون الهوى والطبع، والزوج يدعوها إلى الإسلام وينبهها
على حقيقة الأمر، فكان في نكاح المسلم إياها رجاء إسلامها فجوز نكاحها لهذه
العاقبة الحميدة بخلاف المشركة، فإنها في اختيارها الشرك ما ثبت أمرها على الحجة
بل على التقليد بوجود الإباء عن ذلك من غير أن ينتهي ذلك الخبر ممن يجب قبول قوله
واتباعه - وهو الرسول - فالظاهر أنها لا تنظر في الحجة ولا تلتفت إليها عند الدعوة
فيبقى ازدواج الكافر مع قيام العداوة الدينية المانعة عن السكن والازدواج والمودة
خاليا عن العاقبة الحميدة فلم يجز إنكاحها) [115]
فهذا فهم مقاصدي جليل له فائدة عظيمة
في حل كثير من الخلافات حول أحكام الزواج بسبب اختلاف الدين.
ونقصد بها المذاهب التي انحرفت عن
الإسلام الصحيح انحرافا جليا أخرجها عن الملة، أما انحرافات الأديان الأخرى أو
الإصلاحات التي تمت فيها، فلا علاقة لها بهذا، حتى لو كان أهل ذلك الدين يحكمون
بتكفيرهم، لأن الكفر ملة واحدة، فلذلك يجوز الزواج وفق الضوابط السابقة بالنصارى
مهما اختلفت فرقهم، ولو كان يكفر بعضهم بعضا.
أما المذاهب الضالة التي انحرفت عن
الإسلام انحرافا جليا، فإن الفقهاء اتفقوا على حرمة الزواج منهم، لأنهم مرتدون
أولا، ولأن القرآن قصر الإباحة على أهل الكتاب من قبلنا، وهؤلاء ليسوا كذلك، وقد
ذكر ابن تيمية حكم الزواج من النصيرية، فقال:(اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء
(النصيرية) لا تجوز مناكحتهم، ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم، ولا يتزوج منهم
امرأة، ولا تباح ذبائحهم) [116]
ولا يمكننا هنا أن نذكر هذه الفرق
جميعا، ولكنا سنتكلم عن فرقتين مشتهرتين تمس الحاجة إلى معرفة حكم الزواج منهما،
هما:
وهم فرقة من الباطنية لهم عقائد
سرية، وهم متفرقون بين جبال لبنان وحوران والجبل الاعلى من أعمال حلب، وقد ظهر
مذهب الدروز في مصر في القرن الحادي عشر الميلادي على عهد الحاكم بأمْرِ الله الخليفة الفاطمي، دعا إليه محمد بن إسماعيل
الدرزي وقد قدم مصر من بلاد الفرس فوافق الحاكم في دعواه الالوهية، ودعا الناس
للايمان به، وأضاف إلى هذا الدين طائفة من العقائد القديمة وعقائد غلاة الشيعة،
فلم تصادف هذه الدعوة قبولا في مصر، ففر صاحبها إلى الشام فوجد هنالك آذانا مصغية.
وقد ظلت معتقدات الدروز في طي الخفاء
حتى استولى إبراهيم بن محمد علي على معابدهم في جبل حاصبيا، ووجد في كتبهم كنه
مذهبهم تفصيلا.
ومن خلال ذلك يمكن الحكم على مذهبهم،
فمن معتقداتهم أن الحاكم بأمْرِ الله هو اللّه نفسه، وقد ظهر على الارض عشر مرات
أولاها في العلي ثم في الباز إلى أن ظهر عاشر مرة في الحاكم بأمْرِ الله، وأن
الحاكم لم يمت بل اختفى حتى اذا خرج يأجوج ومأجوج ويسمونهم القوم الكرام تجلى
الحاكم على الركن اليماني من البيت بمكة، ودفع إلى حمزة سيفه المذهب، فقتل به
ابليس والشيطان، ثم يهدمون الكعبة ويفتكون بالنصارى والمسلمين ويملكون الأرض كلها
إلى الابد.
ويعتقدون بالانجيل والقرآن فيختارون
منهما ما يستطيعون تأويله ويتركون ما عداه، ويقولون ان القرآن أوحى إلى سلمان
الفارسي، فأخذه محمد ونسبه لنفسه ويسونه في كتبهم المسطور المبين.
ومع أننا قد لا نثق تمام الثقة بما
ذكر هنا، فقد يكون فيه ما فيه من الغلو إلا أن العلماء المعاصرين متفقون بحسب
سماعنا لفتاواهم على حرمة الزواج منهم لردتهم عن الإسلام ارتدادا كليا.
وهي مجموعة دينية من الهنود الذين
ظهروا في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلادي داعين إلى دين
جديد يمزج بين الديانتين الإسلامية والهندوسية تحت شعار(لا هندوس ولا مسلمون)، وقد
عادوا المسلمين خلال تاريخهم، وبشكل عنيف، كما عادوا الهندوس، بهدف الحصول على وطن
خاص بهم، وذلك مع الاحتفاظ بالولاء الشديد للبريطانيين خلال فترة استعمار الهند.
والسيخ يدعون إلى التوحيد ويسايرون
المسلمين بتحريم عبادة الأصنام، ويبيحون الخمر وأكل لحم الخنززير ويحرمون لحم
البقر مجاراة للهندوس، ولا شك لذلك وغيره في حرمة الزواج منهم، فهم من المذاهب
الضالة أولا، وهم من المحاربين ثانيا، فقد اشتهر السيخ خلال حكمهم بالظلم والغلظة
على المسلمين، من مثل منعهم من أداء الفرائض الدينية والأذان وبناء المساجد في
القرى، فضلاً عن المصادمات المسلحة بينهما والتي قتل خلالها كثير من المسلمين
الأبرياء.
اتفق الفقهاء على حرمة الزواج بالمرتدة
وحرمة زواج المسلمة بالمرتد، وعلى وجوب الفسخ مطلقا، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن
الزواج شرع للبقاء , والمرتد يقتل فلا يحصل به ما شرع لأجله.
· أن
الزواج شرع لمصالحه وهي السكن والازدواج والتوالد والتناسل لا لعينه فإذا فات ما
شرع له لم يشرع أصلا، فالبيع ـ مثلا ـ لما كانت شرعيته لإفادة الملك لم يشرع في
محل لا يقبل حكمه.
اختلف الفقهاء في تعجيل الفرقة بعد
ثبوت الردة من أحد الزوجين على قولين:
القول الأول: الفسخ حال حصول
الردة سواء كان ذلك قبل الدخول أو بعده، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وروي ذلك عن
الحسن، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، وزفر، وأبي ثور، وابن المنذر، واستدلوا على
ذلك بأن ما أوجب فسخ الزواج استوى فيه ما قبل الدخول وبعده، كالرضاع.
القول الثاني: أن الردة إن
حصلت بعد الدخول تربص بها حتى انقضاء العدة، فإن أسلم المرتد قبل انقضائها، فهما
على الزواج، وإن لم يسلم حتى انقضت بانت منذ اختلف الدينان، وهو قول الشافعي
ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أنه
لفظ تقع به الفرقة، فإذا وجد بعد الدخول، جاز أن يقف على انقضاء العدة، كالطلاق
الرجعي، أو اختلاف دين بعد الإصابة، فلا يوجب فسخه في الحال، كإسلام الحربية تحت
الحربي.
· أن
قياسه على إسلام أحد الزوجين أقرب من قياسه على الرضاع.
نرى أن الأرجح في المسألة، والأوفق
بمقاصد الشريعة هو القول الثاني، لأن تعجيل الفرقة قد يزيد الطين بلة، أما التربص،
ورأب الصدع، ومحاولة إقناع المرتدة أو المرتد، وتلمس السبل الكفيلة بذلك، فإنه قد
يعيد الفرع إلى أصله، فلأن يكسب المسلمون أخا أو أختا لهم خير من أن يكسب الأعداء
صديقا يناصرهم، خاصة في هذا العصر الذي تألب فيه الأعداء على المسلمين.
ثم إن مما يدعو إلى هذا التربص أن
الحكم بالردة ليس شيئا هينا، فهناك اعتبارات مختلفة لنوع الردة لا يطيق الفتوى
فيها إلا العلماء الفحول، والتربص قد يترك الفرصة للنظر والبحث والتحقق، زيادة على
التوضيح والإقناع، فقد يكون للمرتد شبهة لا يقدر على الإجابة عليها إلا العلماء
الذين يفقهون الشبهة، وتكون لهم في نفس الوقت القدرة العلمية والخلقية على الإجابة
عليها.
وقد ذكرنا القدرة الخلقية لأن
الكثيرة من الشبهات لا يؤكدها إلا التعصب وضيق الصدر وتكميم الأفواه، ولو فسح
المجال للحوار الهادئ المؤدب لانتصر الحق وظهر، ولرجع المرتد وتاب.
([1])
كشاف القناع: 5/74، المغني: 7/88، المهذب: 2/43، الأم: 5/176، الإقناع
للشربيني: 2/419، مغني المحتاج: 3/180، الهداية شرح البداية: 1/192، البح الرائق:
3/247، حاشية ابن عابدين: 3/39، المبسوط: 30/289، حاشية العدويك 2/77، بداية
المجتهد: 2/32.
([2]) ولم
يخالف في ذلك إلا عثمان البتي فإنه أجاز الجمع فيما سوى الأختين وسوى المرأة
وبنتها، واحتج بقوله U:) وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾
حيث ذكر المحرمات، وذكر فيما حرم الجمع بين الأختين، وأحل ما وراء ذلك، والجمع
فيما سوى الأختين لم يدخل في التحريم فكان داخلا في الإحلال، ولكن هذا يخالف
النصوص الصريحة في تحريم الجمع بين المحارم، ولذلك لا عبرة بهذا الخلاف، انظر:
بدائع الصنائع: 2/262.
([5])
ومثل القرطبي، الجصاص فقد قال بعد نقله اتفاق العلماء:« وشذت طائفة من
الخوارج بإباحة الجمع بين من عدا الأختين، وأخطأت في ذلك وضلت عن
سواء السبيل» أحكام القرآن للجصاص: 3/79، وانظر:المغني:7/88.
([8]) انظر
الروايات المختلفة للحديث في: البخاري: 5/1965، مسلم: 2/1029، الترمذي: 3/433،
النسائي: 3/293 ابن ماجة: 1/621، الموطأ: 2/532، أحمد: 1/77، ابن حبان: 9/376
البيهقي: 8/29.
([18]) ذكر
الفقهاء حالتين أخريين للجمع لا توجد في زماننا ،وتفصيلها كما يلي:
ـ أن يجمع بين وطئهما بملك اليمين، فيطأ إحداهما
ثم يطأ الأخرى قبل إخراج الموطوءة الأولى من ملكه، فهذا ضرب من الجمع، وقد اختلف
السلف في ذلك على قولين:
القول الأول: إباحة
الجمع بينهما ،وقد روي عن عثمان وابن عباس ذلك، وقالا: " أحلتهما آية
وحرمتهما آية "
القول الثاني: التحريم
:وقال به عمر وعلي وابن مسعود والزبير وابن عمر وعمار وزيد بن ثابت، قال الشعبي:
سئل علي عن ذلك فقال: " أحلتهما آية وحرمتهما آية[18]
" فإذا أحلتهما آية وحرمتهما آية فالحرام أولى، وعن إياس بن عامر قال: سألت
علي بن أبي طالب عن الأختين بملك اليمين وقد وطئ إحداهما هل يطأ الأخرى ؟ فقال:
" أعتق الموطوءة حتى يطأ الأخرى " وقال: " ما حرم الله من الحرائر
شيئا إلا حرم من الإماء مثله إلا عدد الأربع "
وقد نقل الجصاص الإجماع على ذلك، وأن الخلاف
كان قاصرا على السلف ،يقول:« وقد كان فيه خلاف بين السلف ثم زال وحصل الإجماع على
تحريم الجمع بينهما بملك اليمين» ـ الجمع بين الأختين إحداهما بالزواج والأخرى
بملك اليمين، نحو أن تكون عنده امرأة بزواج فيشتري أختها أنه لا يجوز له وطؤهما
جميعا، وقد اتفق الفقهاء على حرمة ذلك، وهو يدل على أن تحريم الجمع قد انتظم ملك
اليمين كما انتظم الزواج لأن عموم قوله تعالى: { وأن تجمعوا بين الأختين } يقتضي
تحريم جمعهما على سائر الوجوه، وهو موجب لتحريم تزويج المرأة وأختها تعتد منه لما
فيه من الجمع بينهما في استحقاق نسب ولديهما وفي إيجاب النفقة المستحقة بالزواج
والسكنى لهما.انظر تفصيل المسألة في: أحكام القرآن للجصاص:2/186، المحلى:9/132، المبسوط :4/202.
([19]) وهو
ما يطلق عليه مجازا« عدة الرجل»، ومنع الرجل من الزواج هنا لا يطلق عليه عدة، لا
بالمعنى اللغوي، ولا بالمعنى الاصطلاحي، وإن كان يحمل معنى العدة، قال النفراوي:
المراد من حقيقة العدة منع المرأة لأن مدة منع من طلق رابعة من زواج غيرها لا يقال
له عدة، لا لغة، ولا شرعا، لأنه لا يمكن من الزواج في مواطن كثيرة، كزمن الإحرام
أو المرض ولا يقال فيه أنه معتد، انظر :بدائع الصنائع:2/263، الموسوعة
الفقهية:29/306.
([25]) هذا
ما نقه الشوكاني وحكاه عن صاحب البحر« نيل الأوطار:6/178»، وقد نسب هذا القول إلى
الظاهرية مع أن ابن حزم إمام الظاهرية يحكم بالحد على من تزوج الخامسة فكيف يجيز
التاسعة، بل نجده في المحلى يرد على من قال بتخفيف الحد عن من تزوج الخامسة بقوله
:« أنه ليس زواجا، لأن الله تعالى حرمه، وإذ ليس زواجا فهو عهر، فإذا هو عهر فعليه
حد الزنى وعليها كذلك إن كانا عالمين بأن ذلك لا يحل ولا يلحق فيه الولد أصلا، فإن
كانا جاهلين فلا حد في ذلك، وإن كان أحدهما جاهلا والآخر عالما فالحد على العالم
ولا شيء على الجاهل، وأما من قال: إنه يجلد أدنى الحدين فليس بشيء لما ذكرنا هنالك
من أنه زان أو غير زان، فإن كان زانيا فعليه حد الزنى كاملا، وإن كان غير زان فلا
شيء عليه، لأن بشرته حرام إلا بقرآن أو بسنة.»«انظر: المحلى:12/192» بل إنه في
موضع آخر يحكم بالكقر على من يعتقد ذلك يقول:« لم يختلف في أنه لا يحل لأحد زواج
أكثر من أربع نسوة أحد من أهل الإسلام، وخالف في ذلك قوم من الروافض لا يصح لهم
عقد الإسلام»«انظر: المحلى:9/7 »، وقد حكى في مراتب الإجماع الإجماع على حرمة ذلك،
حيث قال فيه:« اتفقوا أن نكاح الحر البالغ العاقل العفيف المحجور المسلم أربع
حرائر زوان لمآء فأقل حلال واتفقوا على أن نكاح أكثرمن أربع زوجات لا يحل لأحد بعد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »«
مراتب الإجماع:1/62» ولعل مراد من نقل ذلك عن الظاهرية قصده الآخذين
بمجرد ظواهر النصوص ولو كانوا من العامة من غير قصد لمذهب ابن حزم ،وهو ما نجده
أمثاله كثيرا في كتب الفقه.
([26]) الزحيلي،
الدكتور وهبة، الفقه الإسلامي وأدلته،دار الفكر، دمشق، الطبعة الثالثة 1989م، ج7، ص166.
([28])
الطبرسي، الفضل بن الحسن،
مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1995م، ج3،ص84.
([31]) قال
ابن حجر:رواه الشافعي عن الثقة عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه نحوه ورواه بن
حبان، ورواه أيضا الترمذي وابن ماجة كلهم من طرق عن معمر منهم بن علية وغندر ويزيد
بن زريع وسعيد ونصف بن يونس وكلهم من أهل البصرة قال البزار جوده معمر بالبصرة
وأفسده ظاهرا فأرسله وقال الترمذي قال البخاري هذا محفوظ، تلخيص الحبير:3/168،
التحقيق في أحاديث الخلاف: 2/276، أحمد: 213، الدارقطني: 3/269، البيهقي: 7/183،
الترمذي: 3/435، الحاكم: 2/209، ابن حبان: 9/465.
([32]) قال
ابن كثير: رواه أبو داود وابن ماجه، وفي إسناده نظر لانه من رواية محمد ابن عبد
الرحمن بن أبي ليلي عن حميضة بن الشمردل عن قيس بن الحارث، تحفة الطالب: 344، وقال
في التفسيرعن بعض أسانيده: وهذا الإسناد حسن وهذا الإختلاف لا يضر مثله لما للحديث
من الشواهد، تفسير ابن كثير: 1/452، وانظر: البيهقي: 7/183، الدارقطني: 3/271، أبو
داود: 2/272، مسند أبي يعلى: 12/292.
([33])
انظر: أحكام أهل الذمة: 2/297، كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه:
29/157، المغني: 7/121، المهذب: 2/46، الأم: 4/665، حاشة البجيرمي: 3/381، مغني
المحتاج: 3/181، حاشية ابن عابدين: 3/200، المبسوط: 5/54، شرح فتح القدير: 3/240،
بدائع الصنائع: 2/314، حاشية العدوي: 2/94، اختلاف العلماء: 160، شرح معاني
الآثار: 3/252..
([42]) قال
الترمذي: هذا حديث حسن، الترمذي: 3/436، أبو داود: 2/272، ابن ماجة: 1/627، مسند
الشافعي 275، الدارقطني: 3/273.
([48]) قال
في كشف الخفاء: قال الصغاني: موضوع واعترض بأن اسناده جيد كما قال المناوي، وبأن
الامام أحمد رواه عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ المنافق بدل الفاجر، كشف الخفاء:
2/387، أحمد: 2/349.
([54])
ذكرنا هذه المسألة لتناسبها مع هذا المبحث، ولها زيادة على هذا تفاصيل أخرى
انظرها في محلها من هذه السلسلة، وقد كررنا هناك بعض ما ذكرناه هنا لتيسير
الاطلاع.
([57])
والتعمير عند المالكية مدته سبعون سنة من يوم ولد، واختار الشيخان أبو محمد
عبدالله بن أبي زيد وأبو الحسن علي القابسي ثمانين ،وحكم بخمس وسبعين سنة، والراجح
الأول، انظر: الشرح الكبير:2/482.
([60]) قال
ابن عبد البر: هذا خبر صحيح من رواية العراقيين والمكيين مشهور، وقد روى معناه المدنيون
في المفقود إلا أنهم لم يذكروا معنى اختطاف الجن للرجل، ولا ذكروا تخيير المفقود
بين المرأة والصداق، التمهيد: 12/184.
([61])
رواه الدارقطني من حديث المغيرة بن شعبة، وقد سئل أبو حاتم عنه فقال: منكر
وفي إسناده سوار ابن مصعب عن محمد بن شرحبيل وهما متروكان، انظر: الدراية: 2/143،
قال ابن حجر: وإسناده ضعيف، وضعفه أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق وابن القطان
وغيرهم، تلخيص الحبير:3/232، وانظر:البيهقي: 7/444، الدارقطني: 3/312، مسند
الشافعي: 303، مصنف ابن أبي شيبة: 3/521.
([62])
المحلى:9/156، أحكام القرآن لابن العربي: 3/338 ،بدائع الصنائع: 2/369
،المغني: 7/107، تبيين الحقائق: 2/113، درر الحكام: 1/232، أسنى المطالب: 3/393،
منح الجليل: 4/300.
([63]) قال
ابن حجر: رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري، تلخيص
الحبير:1/171، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه،
المستدرك:2/212، الترمذي:4/133، الدارمي: 2/224، البيهقي: 5/329.
([66])
البخاري: 2/724، مسلم: 2/1081، الموطأ:2/739، الترمذي: 3/463، أبو داود:
2/282، النسائي: 3/378، ابن ماجة: 1/647، الدارميك 2/203.
([68]) قال
ابن حجر: رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري، تلخيص
الحبير:1/171، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه،
المستدرك:2/212، الترمذي:4/133، الدارميك 2/224، البيهقي: 5/329..
([75]) ذكر
الشافعي في الأم قولا أيده وانتصر له، وهو تخصيص أهل الكتاب ببني إسرائيل دون
غيرهم، ومن أدلته على ذلك أن « الله عز وجل ذكر نعمته على بني إسرائيل في غير موضع
من كتابه وما آتاهم دون غيرهم من أهل دهرهم كان من دان دين بني إسرائيل قبل
الإسلام من غير بني إسرائيل في غير معنى من بني إسرائيل أن ينكح، لأنه لا يقع
عليهم أهل الكتاب بأن آباءهم كانوا غير أهل الكتاب ومن غير نسب بني إسرائيل فلم
يكونوا أهل كتاب إلا بمعنى ،لا أهل كتاب مطلق فلم يجز والله تعالى أعلم أن ينكح
نساء أحد من العرب والعجم غير بني إسرائيل دان دين اليهود والنصارى بحال »ثم ذكر قول
عمر بن الخطاب: « ما نصارى العرب بأهل كتاب وما تحل لنا ذبائحهم وما أنا بتاركهم
حتى يسلموا، أو أضرب أعناقهم » الأم:4/193..
([79])
اختلف الإمامية في المسألة على الأقوال التالية:
1 ـ قول بعدم الجواز مطلقاً.
2 ـ قول بالجواز متعة لا دواماً، وبملك اليمين.
3 ـ قول بالجواز في حالة الاضطرار وعدم وجود
المسلمة.
4 ـ قول بالجواز مطلقاً على كراهية.
5 ـ قول بالجواز مطلقاً بدون كراهية.
([85])
اختلف المفسرون في المراد بالمحصنات في الآية التي أباحت الزواج
بالكتابيات، فقيل: أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء، وقد حكاه ابن جرير عن مجاهد
أو أن المراد بهن الحرة العفيفة ،وهو قول الجمهور، قال ابن كثير: هو الأشبه لئلا
يجتمع فيها أن تكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها
على ما قيل في المثل:حشفا وسوء كيلة»، ثم قال: والظاهر من الآية أن المراد
بالمحصنات العفيفات عن الزنا، كما قال تعالى في الآية الأخرى:) مسافحات ولا متخذات أخدان ﴾، انظر:
تفسير ابن كثير: 2/21.
([87]) أهل
الحرب أو الحربيون: هم غير المسلمين الذين لم يدخلوا في عقد الذمة، ولا يتمتعون
بأمان المسلمين ولا عهدهم.
([88])
أحكام القرآن للجصاص: 1/458، المبسوط :5/50 ،شرح السير الكبير :5/1827،
الفتاوى الكبرى:5/460، التاج والإكليل :5/133 ،حاشية البجيرمي على المنهج :3/373،
الأم:4/272.
([91]) قال
ابن الملقن: رواه أبو داود والترمذي من رواية جرير بن عبد الله قالا ورواه جماعة
بدون جرير وهو أصح وقال البخاري وأبو حاتم الرازي والدارقطني إنه صحيح، خلاصة
البدر المنير: 2/354، وانظر: أبو داود:3/45، البيهقي: 8/131.
([92]) قال
ابن كثير: وهذا مرسل من هذا الوجه وقد روي متصلا من وجه آخر عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال: أنا بريء من
كل مسلم بين ظهراني المشركين، ثم قال
لايتراءى ناراهما.تفسير ابن كثير:2/331.
([93])
انظر: دفع الشك والارتياب عن تحريم
نساء أهل الكتاب، السيد عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري
الحسني.
([95])
كلام الفهاء عن جواز أخذ الجزية يدل على جواز الزواج إلا ما يتعلق بالمجوس
فلهم حكمهم الخاص كما سيأتي.
([99])
المدونة :2/214، الأم:4/193 ،أحكام القرآن للجصاص: 2/463، الأحكام
السلطانية :183، المبسوط: 4/211، شرح السير الكبير :1/149، شرح البهجة :4/142،
مواهب الجليل :3/477.
([112])
ظاهر قول المالكية اعتبارهم من أهل الأوثان لذلك لم يجيزوا الزواج منهم،
انظر: الفواكه الدواني :2/19.
([114])
بخلاف الأمة فقد اختلف في جواز وطئها باعتبارها ملك يمين على قولين:
القول
الأول: أنه لا يباح وطء الإماء منهن بملك اليمين، وهو قول جمهور العلماء
قال ابن عبد البر: « على هذا جماعة فقهاء الأمصار، وجمهور العلماء، وما خالفه
فشذوذ لا يعد خلافا. ولم يبلغنا إباحة ذلك إلا عن طاوس»، واستدلوا على ذلك بأن
إباحة وطئهن منسوخة بقوله U :) ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ﴾
القول
الثاني: جواز وطئهن باعتبارهن ملك يمين، وهو قو ل طاووس، واختاره ابن
تيمية، ونصره بأدلة كثيرة منها :
ـ
أن الأصل الحل ولم يقم على تحريمهن دليل من نص، ولا إجماع، ولا قياس، فبقي حل
وطئهن على الأصل وذلك أن ما يستدل به من ينازع في حل زواجهن بقوله U: ) ولا تنكحوا المشركات ﴾ وقوله: ) ولا تمسكوا بعصم الكوافر ﴾ إنما يتناول
الزواج ولا يتناول الوطء بملك اليمين. ومعلوم أنه ليس في السنة ولا في القياس ما
يوجب تحريمهن، فيبقى الحل على الأصل.
ـ
أن عموم قوله U : ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلَّا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾(المؤمنون5
ـ6) يقتضي عموم جواز الوطء
بملك اليمين مطلقا، إلا ما استثناه الدليل.
ـ
عموم قوله U :) والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ﴾
ـ
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث يوم حنين بعثا قبل
أوطاس، فأصابوا لهم سبايا، فكأن ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - تحرجوا من غشيانهن، من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله U في ذلك:)والمحصنات
من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ﴾، قال: فهن لهم حلال إذا انقضت عدتهن.
ـ
أن الصحابة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان
أكثر سباياهم من كفار العرب، وهم عبدة أوثان، فلم يكونوا يرون تحريمهن لذلك، ولا
نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريمهن، ولا أمر الصحابة
باجتنابهن، وقد دفع أبو بكر إلى سلمة بن الأكوع امرأة من بعض السبي، نفلها إياه،
وأخذ عمر وابنه من سبي هوازن، وكذلك غيرهما من الصحابة.انظر: الفتاوى الكبرى
:3/105، المغني :7/103، أحكام القرآن لابن العربي: 1/217.