الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: قلوب مع محمد

الناشر: دار الكتاب الحديث

من القرآن الكريم

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ (الأحقاف:10)

﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا ﴾ (الإسراء: 107، 108)

﴿ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾ (القصص:52، 53)

﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأنعام:125)

المقدمة

في الليلة السادسة من زيارة البابا لي، أصابني أرق شديد حال بيني وبين النوم، فخرجت خارج غرفتي ـ كعادتي في مثل هذه المواقف ـ لأنشغل بعد النجوم والنظر في أشكال تجمعاتها.. فلم يكن يجلب النوم لعيني مثل النجوم.

بينما أنا كذلك، إذا بي أسمع صوتا عذبا يصدر من غرفة البابا.. وكأنه لحن من ألحان السماء.. فاقتربت أسترق السمع، فإذا بي أسمع البابا، وهو ينشد بصوت خاشع، ممتلئ بحشرجة الدموع، قول الشاعر الصالح، وهو يبث أشواقه لرسول الله r:

كيف لا تسكب الدموعَ عيوني

وهي من قبل أن تراك سجام

كيف لا تذهل العقول وتفنى

أنفسُ العاشقين وهي كرامُ

يا رسول الإله إني محبّ

لك والله شائق مستهامُ

يا رسول الإله في كل حينٍ

لك مني تحية وسلام

يا رسول الإله شوقي عظيم

زائد والغرام فيك غرام

يا رسول الإله إني نزيل

ونزيل الكرام ليس يُضام

سقطت دموع حارة من عيني.. وأنا أكاد أرى ذلك الشاعر الصالح، وهو بين يدي رسول الله r  يخبره بما امتلأ قلبه به من محبته والشوق إليه.

وفي تلك اللحظات خطر على قلبي أجيال من المؤمنين من الذين ملأ حب رسول الله r عليهم كيانهم، فلم يرضوا لعروش قلوبهم المقدسة شمسا غير شمسه:

منهم ذلك الصحابي الجليل الذي جاء إلى رسول الله r ممتلئا حزنا، فقال له النبي r:« يا فلان مالي أراك محزوناً ؟» فقال:« يا نبي اللّه شيء فكرت فيه »، فقال:« ما هو؟ » قال:« نحن نغدوا ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك»[1] 

ومنهم ذلك الرجل العظيم الذي جاء إلى النبي r، فقال:« يا رسول اللّه! إنك لأحب إليَّ من نفسي، وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلتّ الجنة رفعتَ مع النبييّن، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك»[2] 

ومنهم ثوبان مولى رسول الله r.. فقد كان ـ كما يذكر الرواة ـ شديد الحب له r قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن؛ فقال له:« يا ثوبان ما غير لونك ؟» فقال:« يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك؛ لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا »

وقد رسم الشاعر الصالح هذه المشاعر الصادقة، فقال:

شهود طلعة طه نعمة عظمت

قدراً وشاناً وكانت أفضل النعم

وكان ثوبان ذا وجه له شغف

بحبه دمعه يجري بمنسجم

قال الرسول له: مالي أراك كذا

فقال: شوقا لوجه منك مبتسم

إني ذكرتك في سري وفي علني

ففاض دمعي وحبي غير مكتتم

فهل أراك بجنات الخلود أجب

نعم يكون بفضل الله ذي الكرم

 

وعلى هؤلاء جميعا، وعلى جميع أجيال الأمة التي أحزنها ما أحزنهم نزلت هذه الآية:﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69).. فلم يفرح الصحابة ولا الأجيال الكثيرة من الأمة بشيء فرحهم بهذه البشرى[3].

ساد صمت لذيذ على ذلك الجو الذي عبقت فيه أنفاس محبة النبي r سمعت خلاله البابا، وهو ينشد بنغم خاشع قول الشاعر:

يحن الجذع من شوق إليك

و يذرف دمعه حزناً عليك

و يجهش بالبكاء وبالنحيب

لفقد حديثكموكذا يديك

فمالي لا يحن إليك قلبي

و حلمي أن أقبل مقلتيك

و أن ألقاك في يوم المعاد

و ينعم ناظري من وجنتيك

فداك قرابتي وجميع مالي

و أبذل مهجتي دوماً فداك

تدوم سعادتي ونعيم روحي

إذا بذلت حياتي في رضاك

حبيب القلب عذر لا تلمني

فحبي لا يحق في سماك

ذنوبي أقعدتني عن علو

و أطمح أن أُقرب من علاك

لعل محبتي تسمو بروحي

فتجبر ما تصدع من هواك

فتذكرت الجذع كيف حن شوقا إلى رسول الله r.. فرددت بيني وبين نفسي قول الحسن البصري:( يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله r شوقاً إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه)

قاطعتني ألحان البابا العذبة، وهي تردد قول الشاعر:

جاءت إليك حمامة مشتاقة

تشكو إليك بقلب صب واجف

من أخبر الورقاء أن مقامكم

حرموأنك منزل للخائف

فتذكرت تلك الحمامة العاقلة العاشقة التي حدث حديثها عبد الله بن مسعود، فقال: كنا مع رسول الله r في سفر ومررنا بشجرة فيها فرخا حمرة، فأخذناهما، قال فجاءت الحمرة إلى رسول الله r وهي تصيح فقال النبي r:« من فجع هذه بفرخيها؟» قال: فقلنا: نحن قال:« فردوهما »[4]

قاطعتني ألحان البابا مرددة:

لا تلوموا أُحداً لاضطراب

إذ علاه فالوجد داءُ

أُحد لا يلام فهو محبٌ

ولكم أطرب المحب لقاءُ

فتذكرت تلك المحبة المتبادلة بين رسول الله r وجبل أحد، والتي عبر عنها r في قوله:« هذا جبل يحبنا ونحبه »[5]   

ردد البابا بشوق قصيدة أحمد شوقي المشهورة التي استهلها بفرح الأكوان بمحمد: 

ولد الهدى فالكائنات ضياء

وفم الزمان تبسموثناء

الروح والملأ الملائك حوله

للدينوالدنيا به بشراء

و الوحي يقطر سلسلاً من سلسل

و اللوحوالقلم البديع رواء

يوم يتيه على الزمان صباحه

و مساءه بمحمد وضاء

بك بشر الله السماء فزينت

و تضوعت مسكاً بك الغبراء

يا من له الأخلاق ما تهو العلا

منها وما يتعشق الكبراء

زانتك في الخلق العظيم شمائل

يغرى بهن ويولع الكرماء

فشعرت بذلك الفرح العظيم الذي سرى في قلوب الأمة عندما جاءها الحبيب، فراحت تحتضنه بكل مشاعرها حتى نسيت في حبه النفس والأهل والمال.

في ذلك الحين تذكرت زيد بن الدثنة.. وما أدراك ما زيد بن الدثنة !؟

لقد أخرجه أعداؤه من أهل مكة من الحرم ليقتلوه، فقال له أبو سفيان:« أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك لضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ » فقال زيد:« والله ما أحبّ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة، وإنّي جالس في أهلي»، فقال أبو سفيان:« ما رأيت الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمدا»[6] 

وذكرت تلك الأنصارية التي قتل أبوها وأخوها وزوجها، فأخبروها بذلك، فقالت:« ما فعل الله برسول الله؟ » قالوا:« بحمد الله كما تحبين »، قالت:« أرونيه حتى أنظره »، فلما رأته قالت:« كل مصيبة بعدك جلل»[7] 

وذكرت ذلك الرجل الصالح الذي ادخر لآخرته أعظم زاد يمكن أن يدخره مؤمن.. فعن أنس بن مالك قال:« بينا أنا ورسول الله r خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله r  ما أعددت لها ؟» قال:« ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله »، قال:« فأنت مع من أحببت »[8] 

وذكرت تلك الأمنية العزيزة التي كانت تتردد في نفس ربيعة بن كعب الأسلمي.. فلما واتته الفرصة راحة يطلبها من رسول الله r.. قال يحدث عن نفسه: كنت أبيت عند النبي r فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي:« سل » فقلت:« يا رسول اللّه أسألك مرافقتك في الجنة »، فقال:« أو غير ذلك؟ » قلت:« هو ذاك »، قال:« فأعني على نفسك بكثرة السجود »[9]

وذكرت قول أنس بن مالك.. وهو يبين الأثر العظيم الذي أحدثه غياب رسول الله r.. لقد قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله r المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء ولما نفضنا عن رسول الله r الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا)[10] 

***

 

 لم يخطر على بالي أولئك الأصحاب الأجلاء فقط في تلك اللحظات اللذيذة.. فقد كانوا بعضا من آلاف.. بل من عشرات الآلاف.. بل من ملايين المسلمين عبر أجيال المسلمين الطويلة..

كلهم كانوا على قلب رجل واحد يمتلئون محبة وتعظيما لرسول الله.. يجتمعون به وبحبه وبالشوق إليه، ويفترقون على ذلك.

وكانت المعاني النبيلة التي أشرقت عليهم من شمس محمد r تملؤهم بالسعادة والسكينة.. وتحول قلوبهم إلى قلب رجل واحد، فهم إخوة في الله، لهم شمس واحدة يستنيرون بنورها، ويستدفئون بدفئها.

 لكن مرارة الحسرة عادت، فكدرت ذلك الشوق اللذيذ..

لقد اختلط ذلك الشوق اللذيذ لتلك الأجيال السامية بحسرة وألم على أجيالنا التي امتلأت قلوبها بالأهواء، فراحت تبحث في القمامات والمزابل والمستنقعات عن حب تملأ به قلوبها، فلم تجد في المزابل إلا الجرذان والخنافس.

***

 

التفت البابا، فرآني، فقام من مجلسه، ودعاني أن أدخل عليه.

دخلت، وحييته معتذرا عن تنصتي عليه، فقال: لا بأس عليك.. ربما لا يصلح لحديثنا الذي وعدتك به أمس إلا هذا المجلس.. وفي هذا الوقت من الليل الذي يفترش فيه المحبون أقدامهم ليتنعموا بحرارة الأشواق الرفيعة.

قلت: لقد سمعتك تنشد أبياتا ممتلئة حبا ساميا، وأشواقا طاهرة.

قال: تلك بعض نفثات قلوب المحبين التي امتلأت بحرارة الإيمان والمحبة والشوق.

قلت: أيام جميلة هي تلك الأيام التي عاصرها أولئك الشعراء.

قال: وتلك الأيام لن تنقضي.. إن القلوب التي عبرت لرسول الله r عن محبتها وأشواقها لا تزال حية تنبض بالحياة.

قلت: أين ذلك.. وقد ملأ الإعلام المنحرف قلوب الناس بالأشواق المدنسة، والهمم المنحطة.. لقد صار الحب بين الناس ـ في ظل هذه الحضارة المتعفنة ـ مرادفا للانحراف والفساد والرذيلة.. وصارت أشواق المحبين الرفيعة سلعة رخيصة تباع في سوق النخاسة.. وصار الأبطال في هذا الزمان هم كل راقص ومطبل ومزمر وناعق.

قال: ذلك سراب سرعان ما يفطن له الناس.. وذلك ضباب سرعان ما تشرق عليه الشمس لينقشع عن الحقيقة.

قلت: إلى متى !؟

قال: ذلك ليس بعيدا.. بل كل شيء يقرب إليه.

نظر من كوة النافذة إلى السماء المزينة بزينة النجوم، ثم قال: لقد عرفت في حياتي الطويلة كثيرا من الناس لاحظت في عيونهم ووجوههم وقلوبهم حرارة الشوق العظيم إلى محمد r.. لقد تشرفت بلقائهم والحديث إليهم..

قاطعته قائلا: فهل ستحدثني عنهم؟

قال: أجل.. لقد وعدتك بذلك.. فسأحدثك اليوم عن القلوب التي امتلأت بحب محمد r.. أو شعرت في لحظة من لحظات الصدق بتعظيمها لرسول الله r ولما جاء به.

قلت: في أي بقعة من بقع العالم ظفرت بهذه القلوب؟

قال: في كل بقاع العالم التي زرتها.. ليس هناك محل في الأرض إلا وفيه من يلهج لسانه بذكر محمد، ويلهج قلبه بالشوق إلى محمد.

قال ذلك، ثم قام إلى محفظته، وأخرج دفترا هو أشبه بالسفر، وقد كتب عليه هذا العنوان (قلوب مع محمد)، ثم سلمنيه، قلت: ما هذا؟

قال: في هذا الدفتر الذي صحبني طيلة فترات حياتي لم أسجل إلا نفحات الصدق التي فاهت بها الألسن في لحظات تقدسها.

فتحت الدفتر، فرأيت فيه أسماء كثيرة.. فسألت: ما هذه الأسماء؟

قال: هذه أسماء من قدر الله لي أن ألقاهم، وأتنعم بالحديث معهم عن رسول الله r، وقد كان كل فرد منهم شعاعا من الأشعة التي اهتديت بها إلى شمس محمد r.

رحت أقلب الكتاب فهالتني كثرة الأسماء.. فرحت أسأل: أكل هؤلاء التقيتهم؟

قال: أجل.. كلهم قيض الله أن يكونوا سببا من أسباب هدايتي.

قلت: فهلا أذنت لي، فوضعت فهرسا ييسر عليك الاطلاع عليهم؟

قال: لقد فعلت.. لقد صنفت من رأيتهم إلى عشرة أصناف، يشملون أكثر أنواع الناس.. ففيهم: العامة والخاصة.. وفيهم الأدباء والفنانون.. وفيهم العلماء والأولياء.. وفيهم الأحبار والمفكرون.. وفيهم الأصدقاء والأعداء.

قلت:.. والأعداء !؟

قال: أجل.. حتى الأعداء لم يملكوا ـ في لحظة من لحظات الصدق، أو لحظة من لحظات عودة الوعي ـ إلا أن يعبروا عن تقديرهم الشديد لرسول الله r.

قلت: فستقص علي قصة كل اسم من هذه الأسماء.

قال: لا يفي العمر جميعا ببعض ذلك.. فلي مع كل اسم قصة من القصص.

قلت: فستحدثني عن بعضها..

قال: سأحدثك عن أفراد من كل صنف.. وأنت تستدل بمن ذكرت على من لم أذكر..

قلت: ألم تلق معلمي (معلم السلام) في بداية هذا النوع من الأشعة، كما تعودت أن تلقه !؟

قال: بلى.. لقد لقيته.. وقد كان سببا في أن أتخذ هذا الدفتر..

قلت: فحدثني عنه، فما أعظم شوقي إليه.

قال: كان يوما من أيام الشتاء الباردة.. وكان الثلج يتساقط.. ونحن في مقبرة نشيع جثمان بطل من أبطال ألمانيا..

قلت: من هو؟

قال: أعفني من هذا السؤال.. فلو عرف أهل عصرنا هذا من هو لاتهموني أو اتهموا أخي بما لا طاقة لنا به.

قلت: فكيف التقيت معلم السلام في ذلك الموقف.. هل كان أحد المشيعين؟

قال: لست أدري.. فجأة استدرت، فرأيته خلفي، وهو ينظر باستغراق لأفواه المتحدثين، وهم يرسلون مراثيهم تصحبها دموعهم.

كنت أحسبه متأثرا كالجمع الحاضر.. ولكن وجهه الواجم لم يبد لي أي أثر أو أي تأثر.

بعد انتهاء حفل التأبين، اقتربت منه، وقلت: لا شك أنك حزين لفقد هذا البطل العظيم الذي امتلأت قلوب الدنيا حزنا عليه.

قال: ويوشك أن تمتلئ بغضا له.

قلت: أخفض من صوتك.. ما الذي تقول؟

قال: أقول الحقيقة.. لقد كنت أطالع وجوه المتحدثين.. فلم أر فيها أي نسمة من نسمات الصدق.. وكنت أحلل تلك الدموع، فلم أرها غير دموع التماسيح.. وكنت أحلل تلك الكلمات، فلم أرها غير أكاذيب المنافقين..

قلت: فكيف عرفت بارتداد القلوب عنه؟

قال: لأن القلوب لا يمكن أن تظل على النفاق.. والأعين لا يمكن أن تظل ترسل دموع التماسيح.

قلت: كل الناس يحصل لهم هذا.. يمدحون، ثم يهجون.. ويشكرون ثم يكفرون.

قاطعني، وقال: إلا الصادقون.. فالقلوب لا تزداد لهم إلا محبة.. والأعين لا تزداد لهم إلا شوقا.. والأفواه لا تزداد لهم إلا مدحا.

قلت: فمن هؤلاء !؟

قال: أنا أبحث عنهم.. لقد اتخذت دفترا أسجل فيه منحنيات الحب والبغض..

قلت: هذه أول مرة أسمع بهذا النوع من المنحنيات.

قال: لأن البشر انشغلوا بمنحنيات العمران عن منحنيات الإنسان.

قلت: عرفت قيمة منحنيات العمران.. فما قيمة منحنيات الإنسان؟

قال: لقد جعل الله في قلوب البشر جواذب نحو الحقيقة.. قد يشردون عنها، ولكنهم سرعان ما يعودون إليها.. هي كإبرة البوصلة.. تحركها ذات اليمين، وذات الشمال، ولكنها تأبى إلا أن تعود إلى المحل الذي تنجذب إليه.

قلت: عرفت قيمة إبرة البوصلة.. فبها نميز الشمال من الجنوب.. وبها نهتدي في طريق البر والبحر.

قال: وببوصلة القلوب نعرف الصادقين من الكاذبين.. ونهتدي إلى أهل الحقائق، وأهل الدجل.

قلت: لقد ذكرتني بما قالت لي العذراء في ذلك الحلم الجميل.. لقد قالت في وصف تلك الشمس المقدسة وامتلأت القلوب حبا لها، وشوقا إليها»[11]

قال: لقد ذكرت لك العذراء مقياسا من مقاييس الحقيقة.. فابحث عنه.. فكل من بحث وصل.

قلت: أين !؟

قال: سر في أرض الله.. واتخذ لنفسك دفترا.. وابحث عن نبرات الصدق الحقيقي التي تنطلق من القلوب.. ففي تلك النبرات ما يدلك على تلك الشمس المقدسة.

قلت: لكل شخص وجهة هو موليها.

قال: ولكن الناس يفترقون في كل شيء إلا عند الشمس، فإنهم يجتمعون.. يجتمع الجميع.

قلت: لم أفهم.

قال: لقد كنا نشيع ذلك البطل الهمام في نظرنا.. وفي نظر أهل بلدنا!؟

قلت: أجل..

قال: ولكن قلوب الآلاف.. بل عشرات الآلاف.. بل الملايين.. تلعن هذا النعش الذي كنا نسمع تأبينه.

قلت: أجل.. وهم أحرار فيما يحبون، وفيما يبغضون.

قال: بل هم مجبرون على ذلك.. فلولا ما فعل بهم ما أبغضوه.

قلت: ولكن هؤلاء الذين أحبوه فعل لهم.. فلذلك أحبوه.

قال: وهذا مقياس آخر.

قلت: لم أفهم.

قال: هذا البطل الهمام أرضى هؤلاء على حساب أولئك.. فلذلك أبغضوه.. وسيبغضه هؤلاء أيضا.. لأن القلوب لا بد أن تعود إلى لحظات الصدق لترى الإجرام إجراما والعدل عدلا.

قلت: فأين الذي تجتمع عليه كل القلوب؟

قال: ذاك ما أبحث عنه.. فمن ظفر به ظفر بالإكسير الذي يجعله إنسانا.

قلت: فسلمني دفتر قلوبك لأنطلق مما وصلت إليه في بحثي.

قال: لا تسلم لك الحقائق إلا بالمعاناة.. فسر، وسل القلوب، وابحث.. فما وصل إلا من سار.

قال ذلك، ثم انصرف.

في ذلك المساء اشتريت دفترا.. وصرت أبحث عن كل نفحة صدق تفوح بها الألسن في لحظة تقدسها.

وهذا هو الدفتر.. وهذه قصته.

 

                           

 

 

 

 

 



([1])  روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق، وعكرمة، وعامر الشَّعْبي، وقتادة، وعن الربيع بن أنس، قال ابن كثير: وهو من أحسنها سندًا. (تفسير ابن كثير:2/354)

([2])  رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه (صفة الجنة)، من طريق الطبراني، عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال، عن عبد الله بن عمران العابدي، به، ثم قال: لا أرى بإسناده بأسا، ورواه الطبراني في الأوسط برقم (3308) وقال: غريب من حديث فضيل ومنصور تفرد به العابدي، قال الهيثمي في المجمع (7/7): "رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران وهو ثقة.

([3])  روى ذلك البخاري ومسلم.

([4])  رواه أبو داود والحاكموقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

([5])  رواه البخاري.

([6])  رواه ابن اسحاق وابن سعد.

([7])  رواه ابن اسحاق.

([8])  رواه الطبراني في الكبير.

([9])  رواه أبو داود والترمذي.

([10])  رواه الترمذي.

([11])  انظر الرسالة الأولى من هذه السلسلة.