المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة
للكتاب: قلوب مع محمد |
الناشر: دار الكتاب الحديث |
الفهرس
فتحت دفتر البابا على فصله السادس،
فوجدت عنوانه (الأولياء)، فقلت: من تقصد بالأولياء؟
قال: أولئك
الذين فتحت لهم أبواب السماء، وانكشفت لهم الحجب، واتسع لهم من الحقائق ما ضاق على
غيرهم، ورأوا من ملكوت الله ما راحوا يبشرون به عباد الله.
قلت: فما
علاقة هؤلاء بشمس محمد r ؟
قال: هؤلاء
هم المستقبل الأعظم لأشعة شمس محمد r .. ولهذا فإنهم أقرب الخلق إليه، وأعرف الخلق به،
وأكثر الخلق أدبا معه.
قلت: بم
استفادوا ذلك القرب، وذلك الأدب؟
قال: بالسير
على قدمه.. فمن سار على قدم رسول الله r.. ومن وحد وجهته إليه ظفر بالأنوار التي لا ينعم بها
إلا المخلصون المخلّصون من شوائب الأنا.
قلت: لا أرى
أسماء في هذا الفصل.. بل أرى كلمات.
قال:
الأولياء كلمات وليسوا أسماء.. وحقائق وليسوا حروفا.
قلت: لم
أفهم..
قال: الولي
الذي يعيش الحقائق تتبناه الحقائق، وتصبح هي المعبرة عنه، فالولي الحيي يعبر عنه
الحياء.. والولي المحب يعبر عنه الحب.. والولي المتوكل يعبر عنه التوكل.. وهكذا.
قلت: أعلم
بعض هذا.. فقد ذكروا لطريق الله معارج ومقامات ومنازل.. ولكل حظه منها.
قال: الأولياء
هم الذين ظفروا بكل ذلك.. ولهذا كانت الكلمات هي المعبر عنهم لا الأسماء.
قلت: أرى
كلمات كثيرة.
قال: سأكتفي
لك في هذا المقام بأربعة منها.. فإني أرى الجدل في عصرنا شديدا.. ولن أذكر لك إلا
ما يطيقون.
قلت: فما
الكلمة الأولى؟
قال: الكلمة
التي توله القلوب، وتملؤها بالأشواق اللذيذة التي لا تعرف الحزن.
قلت: تقصد
محبة الله والشوق إليه !؟
قال: وأقصد
محبة رسوله والشوق إليه.. فيستحيل على من أحب الله أن لا يحب رسوله.
قلت: فكيف
بدا لك أن تسجل هذه الكلمة؟
قال: لذلك
قصة.. كنت في بلاد من بلاد الله.. وكنت مشتت الفؤاد ممتلئا بالأكدار إلى أن سمعت
غناء عذبا من أحد البيوت يردد قول محمد إقبال:
قد كان هذا الكون قبل وجودنا |
روضاوأرزهارا بغير شميم |
والورد فى الأكمام مجهول الشذى |
لا يرتجى ورد بغير نسيم |
بل كانت الأيامُ قبل وجودنا |
ليلا لظالمها وللمظلوم |
لما أطل محمدٌ زكت الرُبا |
و اخضر في البستان كُلُ هشيم |
و أذاعت الفردوس مكنون الشذى |
فإذا الورى في نضرة ونعيم |
فاقتربت من الباب، فوجدته مفتوحا، فدخلت
من غير استئذان، فلم أجد نفسي إلا في حلقة كهالة الشمس تمتلئ بالأنوار.. كانوا
سبعة نفر، وكان كل فرد منهم شمسا لا تختلف عن الشمس.
لم يروني وأنا أدخل، ولم يسمعوني
وأنا أسلم، بل ظلوا على حالهم غارقين في تأملاتهم، فجأة نطق أحدهم يقول:
عبد بنار الشوق فيك معذب |
لكنه أبدا له يستعذب |
جودوا بوصل منكم وبعطفة |
تشفي سقاما لا أراه يذهب |
لي فيكم عشق وفرط صبابة |
وفؤادي منكم فيه نار تلهب |
يا سعد من خصصتموه بودكم |
وبمذهب لكم غدا يتمذهب |
ولقد نأيت عن المنى بخطيئتي |
وحاشاكم أن تطردوا من يذنب |
فتمام قصدي من ندائكم نفحة |
تجلوا الصدا عني كي لا أحجب |
التفت إليه،
وقلت: أي محبوب هذا الذي ملأ عليك كيانك، فرحت تصرح في الوقت الذي يكتم المحبون
فيه حبهم؟
لم يلتفت
إلي، ولم يجبني، بل نطق ثانيهم، وقال:
من مثل أحمد في الكونين نهواه |
بدر جميع الورى في حسنه تاهوا |
من مثله وإله العرش شرفه |
في الخلق والخلق إن الله أعطاه |
الشمس تخجل من أنوار طلعته |
حارت عقول الورى في وصفه معناه |
تبارك الله ما أحلى شمائله |
حاز الجمال فما أبهى محياه |
يا ربع وادي النقا يا أهل كاظمة |
في حيكم قمر في القلب مأواه |
صلى عليه إله العرش ما طلعت |
شمس وما حدا الحادي مطاياه |
قلت: أنتم
تتغنون بحب محمد إذن.. لا بحب ليلى ولبنى !؟
قال ثالثهم:
إذا مدح الشعراء أرباب عصرهم |
مدحت الذي من نوره الكون أبهج |
وإذا ذكروا ليلى ولبنى فإنني |
بذكر الحبيب الطيّب الذكر ألهج |
أما ومحل الهدي تدمي نحورها |
ومن ضمّه البيت العتيق المدجج |
لقد شاقني زوّار قبر محمد |
فشوقي مع الزوّار يسري ويدلج |
تظلّ الهوادي بالهوادج ترتمي |
وما لي في ركب المحبّين هودج |
وتمسي بروق الأبرقين ضواحكا |
فتغري غرامي بالبكا وتهيّج |
وأرتاح من أرواح أطيب طيبة |
إذا المسك في أرجائها يتأرّج |
بلاد بها جبريل يسحب ريشه |
وينزل من جوّ السماء ويعرج |
نبي تغار الشمس من نور وجهه |
بهيّ نقيّ الثغر أحور أدعج |
تزيد به الأيام حسنا ويزدهي |
به الدين والدنيا به تتبرّج |
مكارم أخلاق وحسن شمائل |
وشيمة جود بحره متموّج |
غياث لملهوف وغوث لرائد |
وليث إذا صال الكمي المدجج |
قلت: بالله عليكم
إلا حدثتموني كما يحدث الناس بعضهم، فإني غريب في هذا البلاد، ولا أفهم من الشعر
ما أفهمه من النثر، فانثروا نثر الله عنكم الآلام والأحزان.
قال أحدهم: إن أردت أن ينثر الله عنك
الهموم والأحزان، فتعلق بحبل النبي r.. فلا يحزن من حل بساحته، ولا يعطش من شرب من يده.
قلت: فبأي
حبل أتعلق؟
قالوا جميعا: بحبل الحب.
قلت: وما
حبل الحب؟
قال أحدهم: ليس هناك حبل في الدنيا
غير حبل الحب.
قلت: أنا لم
أسأل عن غير حبال الحب، ولكني سألت عن حقيقة هذا الحبل، وعن مدى جدواه.
قال أحدهم:
حب محمد r هو الذي يربطك بمنبع النور
والجمال.
قلت: وحب
الله؟
قال: لا
يكمل حب الله حتى تمتلئ النفس بحب المعرف بالله والدال عليه والهادي إليه والمعرف
بمراضيه.
قلت: من هذا
الذي اكتمل له هذا؟
قال: لم
يكتمل هذا في أحد كما اكتمل في رسول الله r، فبه عرفنا الله، وبه عبدناه، وبه أشرقت شموس
الحقائق على هذا الكون، وبه انبلجت أنوار الحكم على العقل البشري.
قال آخر: هو الخلاصة التي اجتمعت
فيها جميع الخيرات، والشمس التي صدرت منها جميع الأشعة، والبذرة التي أنبتت شجرة
الجمال في الكون.
قال آخر: كما ان الحياة هي خلاصة
مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها، والعقل
مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور، والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة،
فهي ذاتها الثابتة المستقلة. كذلك الحياة المحمدية - المادية والمعنوية - مترشحة
من الحياة ومن روح الكون، فهي خلاصة خلاصتها والرسالة المحمدية مترشحة من حسّ
الكون وشعورهِ وعقلِه، فهي اصفى خلاصته[1].
قال آخر: إن جمال الكائنات وحياتها
ونورانيتها التي يعيش المؤمن في أكنافها لم تكن لتتحقق لولا رسالة رسول الله r
والمعاني الجميلة التي تحملها.
قال آخر: إن حياة محمد r - المادية والمعنوية - بشهادة آثارها حياة
لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني بشهادة
حقائقه الحيوية روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. فاذا ما فارق نور الرسالة المحمدية
الكون وغادره، مات الكون وتوفيت الكائنات، واذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جنّ
جنونه وفقدت الكرة الأرضية صوابها، وزلزل عقلها، وظلت بلا شعور، وأصطدمت باحدى
سيارات الفـضاء، وقامت القيامة[2].
قال آخر: لنتصور الأرض والكون والبشر
لولا التعاليم التي جاءنا به رسول الله r، ولنتأمل قيمة الحياة لو خلت من الحياة التي بثها رسول الله r.
قال آخر: إن رسول الله r
هو النافذة التي نتطلع بها إلى الحقائق، وهو العين التي نبصر بها أسرار الكون
والحياة، وقد قال بعض السلف:« رأيت الجنة والنار حقيقة »، فقيل له:« وكيف رأيتهما
وأنت في الدنيا؟ »، فقال:« رآهما رسول الله r فرأيتهما بعينيه، ورؤيتي
لهما بعيني رسول الله r آثر عندي من رؤيتهما بعيني، فإن بصري قد يزيغ عند رؤيتهما أو
يطغى، أما بصر الرسول r فما زاغ وما طغى »
قلت: إنكم
تذكرون أوصافا كثيرة يعتبرها بعض قومهم من المبالغات في حق نبيكم.
قال أحدهم: لو ظللنا طول دهرنا نصف
أفضال نبينا علينا ما انتهينا.
قال آخر: كيف يقولون هذا.. ونحن لم
نخرج عن قوله ' في وصفه:﴿ يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً
وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً) (الأحزاب:45 ـ 46)،
وقوله:﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي
أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (لأعراف:157)، وقوله:﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (لأعراف:158)
قال آخر: إن تعمقك في معاني هذه
الكلمات يهديك إلى بحور من العلم بحقيقة محمد r لا يطيقها الجامدون.
قلت: لم
أفهم.
قال: لقد
وصف القرآن محمدا r بأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم، ورحمة
للعالمين، واعتبره مبشرا ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، ويتلوا عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم، فأي إحسان أجل قدراً
وأعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأي إفضال أعمّ منفعة وأكثر فائدة من
إنعامه على كافة المسلمين، إذ كان ذريعتهم إلى الهداية، ومنقذهم من العماية،
وداعيهم إلى الفلاح والكرامة، ووسيلتهم إلى ربّهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد
لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمدي.
قال آخر: فإذا كان الإنسان يحب من
منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذّي بها
قليل منقطع، فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى
بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملكاً لحسن سيرته أو حاكماً لما يؤثر من قوام طريقته
أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال كلها على
غاية مراتب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل.
قلت: وعيت
هذا.. ولكن الحريصين على صفاء التوحيد من قومكم يخافون على التوحيد في أقل من هذا.
قال أحدهم: فخاطبهم بقوله ':﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا
وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ
اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24)
قلت: فما في
هذه الآية؟
قال: هذه
الآية الكريمة جمعت أصناف ما يحبه الناس ويؤثرونه وتتوجه به حياتهم على أساسه،
ووضعته في كفة ووضعت حب الله ورسوله في كفة أخرى، ثم أنذرت من قدم أهواءه ومحابه
على الله، واعتبرته من الفاسقين.
قال آخر: أما من خالف ذلك وقدم الله
ورسوله على من سواه، فقد أثنى الله عليه بقوله:﴿ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا
آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ
كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22)
ففي الآية الكريمة من أصناف الثواب
والجزاء لمن ضحى بكل محبة وهوى أمام محبة الله ورسوله ما يقصر عنه الوصف.
قلت: هم
يذكرون السنة أكثر من ذكرهم للكتاب.
قال: فاذكر
لهم منها قوله r:« والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم
حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين »[3]، فقد جمع r في هذا الحديث أصناف المحبة، وأمر
بتقديم محبة رسول الله r عليها.
قال آخر: وعندما قال عمر بن الخطاب t
لرسول الله r:« واللّه يا رسول اللّه لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي »،
قال له رسول اللّه r:« لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه »، فقال عمر t:«
فأنت الآن واللّه أحب إليّ من نفسي »، فقال رسول اللّه r:« الآن يا عمر »[4]
قال آخر: وأخبر r
أن حلاوة الإيمان لا تتحقق إلا لمن قدم محبة الله ورسوله على من سواهما، قال r:«
ثَلاثٌ مّنْ كُنَّ فيه وجَدَ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما
سواهمُا، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبهُ إلا لله، وأن يَكرَهَ أن يعود في الكفر كما يكره
أن يُقذف في النار»[5]
قال آخر: هذا الحديث أصل من أصول
الإسلام، وكله حديث عن الحب، وإخبار بأن الحب وما ينتج عنه من مشاعر هو أعمق أعماق
الإسلام.
قلت:
ابتعدوا عن النصوص.. وحدثوا عقلي ببراهين العقول [6].
قال أحدهم: فاسمع ما يقول ابن حجر..
قلت: فما
قال؟
قال: لقد
قال:« إن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها
سالمة من الافات، وهذا هو حقيقة المطلوب وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو
بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفه حالا ومالا فإذا تأمل النفع الحاصل له من
جهة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه
من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إما بالمباشرة وإما بالسبب علم أنه سبب بقاء نفسه
البقاء الأبدي في النعيم السرمدي وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات
فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته اوفر من غيره لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل
منه أكثر من غيره ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه»[7]
قلت: عرفت
دلالة العقل على هذا الحب.. فما ثمراته؟
قال أحدهم:
هذا الحب هو المحرك لكل خير، الداافع لكل كمال.
قال آخر: ولهذا كان الاتباع الحقيقي
لسنة رسول الله r هو الاتباع الصادر عن المحبة.
قال آخر: ويدل على هذا قوله r لأنس بن مالك:« يا بنيَّ إن قدرت أن تصبح وتمسي
ليس في قلبك غِشٌ لأحدٍ فافعل »، ثم قال له:« يا بُنَيَّ وذلك من سنتي، ومن أحيا
سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة »، فقد أخبر r أن علامة حبه له r إحياء سنته.فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة
لله ورسوله.
قال آخر: ويدل على هذا كذلك كل
الأحاديث التي تبين مواصفات القريب من رسول الله r، وهي في مجموعها تدل على الخصال الكبرى التي كان يتصف بها رسول
الله r من الأخلاق الفاضلة التي مدحه بها ربه، فقال ':﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)
قال آخر: الخلق العظيم هو السنة التي
كان عليها رسول الله r، وهي التي أخبر بالأجر الجزيل لمن أحياها، ودليل ذلك الأحاديث
التي تبين موصافات القريب منه r، ومن ذلك قوله r في هذا الحديث الصحيح الصريح:«
إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم
إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون قالوا يا
رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون قال المتكبرون »
قال آخر: وفي أحاديث أخرى يجعل
القريب منه هو القريب من المستضعفين من الناس، كقوله r ترغيبا في الاهتمام بتربية البنات:« من عال جاريتين دخلت أنا وهو
الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه »، وقوله r في كفالة الأيتام:« أنا
وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه يعني السبابة والوسطى »
قال آخر:
وفي حديث آخر يذكر فضل المرأة التي تحبس نفسها على أيتامها، قال r:« أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة
وأومأ يزيد بالوسطى والسبابة امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على
يتاماها حتى بانوا أو ماتوا »
قلت: أرى
قوما يقصرون المحبة على ما يتصورونه إحياء السنة.
قال أحدهم: علامة إحياء السنة
الحقيقي هو أن يعيش حياة رسول الله r بقيمها ومبادئها وسموها، وهو يستحضر رسول الله r
في كل حركة من حركاته، حتى كأنه يشاهده عيانا، وبذلك يكون رسول الله r
هو دليله الأعظم على الله، وعلى الأدب مع الله.
قال آخر: وهذا ما كان يعيشه
الربانيون ويستشعرونه، وهو المراد من إخبارهم عن اجتماعهم برسول الله r،
يقول الشيخ عبد الوهاب الشعراني:« سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: لا يكمل
عبد في مقام العرفان حتى يصير يجتمع برسول الله r أي وقت شاء »
قال آخر: لقد ذكر الشيخ جلال الدين
السيوطي ذلك ثم قال:« رأيت النبي r
واجتمعت به نيفا وسبعين مرة»
قال آخر: ويذكر عن الشيخ إبراهيم
المتبولي أنه كان لا يحصى اجتماعه به r لأنه كان يراه في أحواله كلها ويقول:« ليس لي شيخ إلا رسول الله r
»
قال آخر: ويذكر عن الشيخ أبي العباس
المرسي أنه كان يقول:« لو احتجب عني رسول الله r ساعة ما عددت نفسي من جملة المؤمنين »
قلت: كيف
هذا؟
قال أحدهم: هذا الاجتماع ـ الذي لا
ينكره إلا معاند ـ دليل على الحب المتغلغل في الصدر لرسول الله r
لأن عين القلب والروح لا ترى إلا ما تحبه، وقد كان خيال ليلى يرتسم في عين قلب
المجنون في كل محل.
لم أجد ما أقول، فراح أحدهم ينشد
بصوت عذب قصيدة البرعي التي يقول فيها:
هم الأحبة إن جارواوإن عدلوا |
فليس لي معدِلٌ عنهموإن عدلوا |
هم الأحبة إن جارواوإن عدلوا |
والمالكون لقلبي كيفما فعلوا |
فليعلموا أن ودي ما يغيرهم |
تغير من سجاياهم ولا ملل |
و كل شيء سواهم لي به بدلٌ |
عنهموما لي بهم من غيرهم بدلُ |
إني وإن فتتوا في حبهم كبدي |
باقِ على وُدِّهم راضِ بما فعلوا |
شربت كأس الهوى العذري من ظمأٍ |
و لذّ لي في الغرام العلُّوالنهلُ |
فليت شعري والدنيا مفرقةُ |
بين الرفاق وأيام الورى دُوَلُ |
هل ترجع الدارُ بعد البعدِ آنسةً |
و هل تعودُ لنا أيامُنا الأوَلُ |
يا ظاعنين بقلبي أين ما ظعنوا |
و نازلين بقلبي أين ما نزلوا |
ترفّقوا بفؤادي في هَوَادِجِكم |
راحت به يوم راحت بالهوى الإبلُ |
فوالذي حَجّتِ الزوارُ كعبتَه |
و من ألمَّ بها يدعوويبتهلُ |
لقد جرى حُبُّكم مجرى دمي فدمي |
بعد التفرقِ في أطلالكم طَلَلُ |
لم أنس ليلة فارقت الفريق وقد |
عانوا الحبيب عن التوديع وأرتحلوا |
لما تراءت لهم نار بذي سلم |
ساروا فمنقطعٌ عنها ومتصلُ |
لا درَّ درُّ المطايا أينما ذهبت |
إن لم تُنخ حيث لا تثنى لها العُقلُ |
في روضة من رياض الجنة ابتهجت |
حسنا وطاب بها للنازل النزل |
حيث النبوة مضروبٌ سرادقها |
وطالع النور في الآفاق يشتمل |
وحيث من شرّف اللهُ الوجودَ به |
فأستغرق الفضلَ فرداً ما له مثلُ |
محمد سيد السادات من مضرٍ |
سرُّ السرارة شمسٌ ماله طَفَل |
شوارد المجد في مغناه عاكفة |
وريف رأفته غصنُ الجَنَى الخضِلُ |
تثني عليه المثاني كلما تليت |
كما أستنارت به الأقطار والسُّبلُ |
بحرٌ طوارقه برٌّ ومكرمةُ |
بدرٌ على فَلَك العلياء مكتملُ |
ما زال بالنور من صلب إلى رحمٍ |
من عهد آدم في الساداتِ ينتقلُ |
حتى انتهى في الذُّرى من هاشمٍ وسَمَا |
فتىً وطفلاً، توفِّي وهو مكتهلُ |
فكان في الكون لا شكلٌ يُقاسُ به |
ولا على مثله الأقطار تشتملُ |
به الحنيفةُ مُرساةٌ قواعدُها |
فوق النجوم ونهج الحق معتدلُ |
ومنه ظلُّ لواء الحمد يشملنا |
إذا العصاةُ عليهم من لظى ظُلَلُ |
وإنه الحكم العدل الذي نُسِخت |
بدين مِلّتِه الأديان والمِللُ |
يا خير من دفنت في الترب أعظمه |
فطاب من طيبهن السَّهلُ والجبلُ |
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه |
فيه الهدى والندى والعلم والعملُ |
أنت الحبيب الذي نرجو عواطفه |
عند الصراط إذا ما ضاقت الحيلُ |
نرجو شفاعتك العظمى لمُذنبِنا |
بِجَاهِ وَجْهِك عنا تغفَرُ الزّلَلُ |
يا سيدي يا رسول الله خذ بيدي |
في كل حادثة مالي بها قِبَلُ |
قالوا نزيلك لا يؤذي وها أنا ذا |
دمي وعرضي مباحٌ والحِمى هَمَلُ |
وذا المسمى بك أشتد البلاء به |
فارحم مدامعه في الخدِّ تنهملُ |
وحُلَّ عقدة هَمٍّ عنه ما برحت |
واشرح به صدر أمٍّ قلبُها وَجِلُ |
وَصِلْ بمرحمةٍ عبدالرحيم وَمن |
يليه لا خاب فيهِ الظنُ والأملُ |
صلى وسلم ربي دائماً أبدا |
عليك يا خير من يَحْفَى وينتعلُ |
والآل والصحب ما غنَّت مطوقةٌ |
وما تعاقبت الأبكارُ والأُصُلُ |
وأنشد آخر
يقول:
لطيبة عرج إن بين قبابها |
حبيب لأدواء القلوب طبيب |
إذا لم تطب في طيبة عند طيب |
به طابت الدنيا فأين تطيب؟ |
تركتهم على تلك الحال، وانصرفت،
لأسجل هذه الكلمة في هذا المحل.
قلت: ألا
تعرف أسماءهم؟
قال: لو عرفتها
لسجلتها، ولكني كلما قلبت هذا الدفتر على هذا المحل رأيتهم وسمعتهم كعهدي بهم أول
مرة.
قلت: حدثتني
عن الكلمة الأولى، فحدثني عن الثانية.
قال: الكلمة
الثانية هي التعظيم.. انظر في الدفتر إنها تلي كلمة الحب مباشرة.
قلت: لم
كانت كذلك؟
قال: لأنه لا
يعظم في عين الحبيب إلا محبوبه.
قلت: فهل
تروي قصة عن هذه الكلمة؟
قال: أروي
في ذلك قصصا، لكني سأقتصر لك على واحدة منها.
قلت: فحدثني
عنها.
قال: في بلد
من بلاد الله رأيت رجلا عليه سيما الوقار، وعلى جبينه نور يملأ النفس هيبة وجمالا،
وكان في طريقة يسير كما يسير سائر الناس، ولكنه فجأة انحنى على ورقة مرمية على
الأرض، فمسح عنها الأذى، ثم قبلها، ثم وضعها على جيبه، فحدثت نفسي بأن أتبعه لأرى
سر تلك الورقة.
في طريقي خلفه رأيته يدخل حانوت
عطار، ويشتري بعض المسك، ثم يخرج تلك الورقة، ويعطرها بذلك المسك، فلم أجد نفسي
إلا بجانبه، ولم أجد لساني إلا وهو يقول له: ما شأن هذه الورقة التي لقيت منك كل
هذا التعظيم.
لم يحتج إلى وقت يفكر فيه، بل أجاب
مباشرة: هذه ورقة فيها اسم لحبيب غال، واسم الحبيب لا ينبغي أن يهان.. بل ينبغي أن
يعظم ويقدس، ويعطر بكل مسك.
قلت: من
حبيبك هذا الذي ملأته تعظيما ورفعة.
فأجابني على الفور: محمد..
قلت: تقصد
نبي المسلمين؟
قال: أجل..
وهل هناك من حمدته السماء والأرض غيره، فصار محمود الكل.
قلت: لقد
ذكرتني بقول الشاعر:
المصطفى ما زال يعلو قدرَهُ |
حتَّى غدا فى الكون مِسكاً عاطِراَ |
ما قلت هذا حتى شعرت بجميع أعضائه
ترتعد هيبة، ثم راح يقول بصوت امتزج فيه الحب بالتعظيم بالأشواق:
(المصطفى ما زال يعلو قدرَهُ) |
فسما الزمانَ اوائلا وأواخِرا |
طهِّّر فؤادك من شوائب غيِّّه |
حتّى تقابلهُ فؤاداً طاهراً |
يا سيدى ولقد غدوتٌ مناجياً |
عمرى وبتُّ مع الجلال مسامرا |
كم من صغير جاء حيَّك تائبا |
أضحى يسودُ من الرِّجال أكابرا |
والله ما طرأَ العناءُ وسامنى |
الا وأذكُرُهُ فأُصبِحُ ظافراَ |
فاذا نهَلتُ نهَلتُ من نور الهدى |
واذا سكِرتُ سكرتُ عِلماً ذاخراَ |
واذا غفوتُ غفوتُ صباً مُغرماً |
واذا افَقتُ رَأيتَهُ لىَ ناظِراَ |
واذا خشيتُ من العدوِّ وكيده |
كان النبىُّ هو الملاذَ الناصِراَ |
عوَّدتنا منكَ الجميلَ فهب لنا |
منك الوصولَ ولا تردَ الزائراَ |
أَنا ان أكُن جِسما بعيداً انِّما |
رُوحى من النجوى تفيضُ سرائِراَ |
أَرسلتُها بِفَمِ النسيمِ شهِيدةً |
وتَزِِفُّ باِسمِكُمُ السَّلامَ العاطراَ |
فلكم فقيرٍ عزَّ باَسمكَ جاهُهُ |
أمسى يُساجِلُ فى الملوكِ القياصِراَ |
ولَكَم ذليلً نَالَهُ من جاهِكُم |
قَدرٌ فأصبحَ بالمذلَّةِ قاهِراَ |
وَلَكم عَيِىٍّ قَد نظرتَ لِروُحِهِ |
فَرَوَى المعارِفَ ناثِراً أو شاعِراَ |
قَولِى هُو الحَقُّ الصرَّيحُ فَلَم أَكُن |
أرجو بِمَدحِك أن أسُودَ مَظَاهِراَ |
لم أَنسَ حُبَّكَ ما حَييتُ وان أَمُت |
اَجِدُ الغرامَ علىَّ مُدَّ منابِراَ |
ان كنتُ صبَّاً اكتُمُ الوُِجدَان فى |
قَلبِى يَظُنّوُنِى بِحٌبِكَ فاتِراَ |
أنا هائمٌ ومِن المحبةِ هائجٌ |
كالرِّيحِ قَد أزجى السَّحابَ الماطِراَ |
فَأَصُبُُّ فى الاحساس مِن مُهَجِ الوَرَى |
حِكَمَاً تُقَلِّبُهَا القُلُوُبُ مَزَاهِراَ |
يا هَذِهِ ألايَّامَ انِّى ليس لِى |
الا رسُولُ اللهَِ سِرّاً ظَاهِرا |
أنا كُلُّ شئٍ فى الحياةِ تركتُهُ |
وَوَقَفتُ نَفسِى للنَّبِىِّ مُثابِراَ |
والوقفُ لا يُشرَى وليسَ يُباعُ فى |
حالٍ يدومُ الى القيامةِ حاضراَ |
أَنا بِاسمِكُم والى اسمِكُم وَلِوَسمِكُم |
فى رَسمِكُم قَلبِى عَلَى الشِّعرى سَرَى |
لم أنسَ أيَّامَ الطُّفُولَةِ حَيثُما |
كُنتَ المُؤمَّلَ لِى كُنتُ الظافِرَا |
مَا زالَ حُبُّكَ باقياً فى مُهجتى |
يُضفى علىَّ من اليقينِ سرائراَ |
ولقد غسلتُ بواطِنى وظواهِرى |
فى حُبِهِ حتى نُسِبتُ الطَّاهِرا |
نُورُ النَّبىِّ اذا تمكن من فتىً |
لم يُبقِ فِيهِ صغائراً وكبائراَ |
نُورُ النَّبىِّ اذا تمكن من فتىً |
ألفيتَه بَينَ البريةِ ظاهِرا |
فاذا رُزِقتُ محبةً فَبِِفََضلِه |
واذا كَسَبتُ فٌَقَد كَسَبتُ جواهِرا |
قُل لِى عليكَ صلاتُنا وسَلامُنا |
حتّى أعُود على المَحَبَةِ شاكرا |
أرَضَيتَنى كَرَماً وَصَاحَبَنِى الرِّضا |
حتّى وصَلتٌ فَلَستُ أسلُكُ حائراَ |
ما زالَ فضلُكَ فى البريَّةِ سائراً |
يسمو وَيزكو بالنفوسِ ضمائرا |
وَلَكم أراهُ فى العوالِمِ صاعِدا |
حتَّى غدا فى الكون مِسكاً عاطِراَ) |
تعجبت من حضور بديهتيه، وانصياع
الشعر له، فسألته: من أنت؟
قال: عل عقل.
قلت: ذلك القطب
الربانى، صاحب الفيوضات الصمدانية، والعلوم اللدنية ذلك الملهم الذي ينساب الشعر
من فمه كما ينساب المال الزلال.
قال: هم
يقولون هذا.
قلت: بأي
بركة نلت هذا؟
قال: ببركة
الحبيب..
قلت: وبأي
بركات الحبيب نلت ذلك؟
قال: ببركة
التعظيم..
قلت: لا
يعظم إلا الله.. فكيف رحت تشرك بالله؟
قال: أرأيت
لو أن فنانا مبدعا أراك لوحة من لوحاته في منتهى الجمال، فرحت تهينها وتحتقرها،
فإذا سألك عن ذلك قلت له: أنا أهينها حتى لا يبقى عظيما في عيني غيرك.. أترى هذا
عين العقل؟
قلت: بل
أراه عين الحمق.. ولن أنال من هذا الفنان إلا الازدراء.
قال: لم؟
قلت: لأني
احتقرت صنعته.. ولا يمكن أن أشعره بتعظيمي له إلا من خلال تعظيمي لصنعته.
قال: وهكذا
الأمر مع محمد r.. فهو عصارة الجمال التي أمرنا
الله بعبوديته من خلال التأمل فيها وتعظيما وامتلاء قلوبنا بمحبتها.. فلو أهناها
لأهنا الله.
قلت: ولكن الحريصين
على صفاء التوحيد يخالفونك في هذا.. ويعتبرون كل هذا شركا.
قال: فاقرأ
عليهم قوله ' للنبي r:﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا
وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ
يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ
عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾(الفتح)
قلت: فما في
هذه الآيات؟
قال: في هذه
الآيات يأمر الله الأمة بتعظيم محمد، ويربط الفلاح بذلك.
قلت: فما
الفرق بين المسلمين والمسيحيين في هذا .. ما دام المسيحيون يعظمون المسيح،
والمحمديون يعظمون محمدا.
قال: الفرق
بينهما عظيم.. فالمحمديون يعظمون محمدا عبودية لله، وتحقيقا لأمر الله، وفيضا من
فيوضات تعظيم الله.. بينما المسيحيون يعظمون المسيح لذات المسيح.. فيجعلون للمسيح
شركة في الألوهية.
قلت: وتعظيم
المسلمين؟
قال: أرأيت
لو أنك أرسلت رسولا برسالة لقوم من الناس، فأهانوا رسولك، واحتقروه مع علمهم بأنه
رسولك؟
قلت: هم
يحتقرونني بذلك ويهينونني.
قال: فلذلك
ربط الله ' طاعته بطاعة رسوله، وتعظيمه بتعظيم رسوله، ومحبته
بمحبة رسوله.
لقد قال الله ':﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ
تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾ (النساء:80)
قلت: فرق
عظيم بين الطاعة والتعظيم.
قال: فقد
قال الله ':﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ
يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ
شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ
كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ
مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)﴾ (النور)
قلت: فما في
هذه الآية مما نحن فيه؟
قال: فيها
كل ما نحن فيه.. فالله ' في هذه الآيات يأمر بتعظيم النبي r، وعدم التعامل معه كما يتعامل
الناس بعضهم مع بعض.
لقد قال ابن عباس في تفسير الآيات:
كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل، عن ذلك، إعظامًا
لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه قال: فقالوا: يا رسول الله، يا نبي الله.
وقال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه r،
وأن يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يسود[8].
بل إن الله ' نهى المؤمنين عن كل سلوك لا ينسجم مع الأدب مع رسوله، فقال:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ﴾ (البقرة: 104).. وقال:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ
بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ
عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ
لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا
حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
﴾ (الحجرات)
بل إن الله ' شرع لمناجاة النبي r من باب التعظيم له تقديم صدقة على ذلك، فقال ':﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ
الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المجادلة:12)
قلت: وعيت
كل ما ذكرته من القرآن.. ولكن هؤلاء الحريصين على صفاء التوحيد لا يرجعون للقرآن
بل يرجعون لهدي السلف.
قال: ومن
السلف؟
قلت:
الصحابة .. ومن بعدهم من القرون الأولى.. فهم يعتبرون فهمهم هو الفهم.. وتفسيرهم
هو التفسير.
قال:
فأخبرهم عن قول ذلك الصحابي في حديثه الطويل:« وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول
الله r، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت
أطيقُ أن أملأ عيني منهُ إجلالاً له، ولو سئلتُ أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن املأ
عيني منه »
وأخبرهم عن قول أنس أن رسول الله r
كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار، وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر، فلا يرفع
أحدُ منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمرُ، فإنهما كانا ينظران إليه، وينظر إليهما،
ويبتسمان إليه، ويبتسمُ لهما.
وأخبرهم عما حصل لما أذنت قريش
لعثمان في الطواف بالبيت حين وجهه النبي r إليهم في القضية، فأبى وقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله r.
وقد وصف حال الصحابة y
في جلوسهم أمام رسول الله r بأنهم « وكأنهم على رؤوسهم الطير»[9]، وفي روايات
أخرى:« إذا تكلم أطرق جلساؤه وكأنما على رؤوسهم الطير » وهو كناية على « السكون
والوقار وأنهم لم يكن فيهم طيش ولا خفة لأن الطير لا تكاد تقع إلا على شيء ساكن»[10]
وقد كانوا y ـ لحبهم الشديد له ـ يتبركون بآثاره وكل ما يرتبط به، فكان r
لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقاً إلا تلقوها
بأكفهم، فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا أمرهم
بأمر ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدَّونَ إليه النظر
تعظيماً له.
وعندما رأى بعض المشركين ذلك منهم
قال لقومه « يا معشر قريش، إني جئتُ كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في
ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه، وقد رأيت قوماً لا
يسلمونه أبداً»
وعن أنس قال رأيت النبي r
والحلاق يحلقه، وقد أطاف به أصحابه ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل[11].
وعنه قال لما كان يوم أحد انهزم الناس عن رسول
الله r وأبو طلحة بين يدي النبي r مجوب عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع لقد كسر
يومئذ قوسين أو ثلاثة، قال: وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول: انثرها
لأبي طلحة، قال: فأشرف النبي r ينظر إلى القوم، فقال له أبو طلحة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله،
لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك[12].
سكت قليلا يستجمع أنفاسه، ثم قال:
أخبرهم بحديث أبي جحيفة عندما قال: خرج
رسول الله r بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه
فيتمسحون به [13].
وأخبرهم بحديث أنس عندما قال: كان
رسول الله r إذا صلى الغداة جاء خدم أهل المدينة بآنيتهم فيها الماء فلم يؤت
باناء الا غمس يده فيه فربما في الغداة جاؤوا الباردة فيغمس يده فيها.
وأخبرهم بما روي أن أبا محذورة كانت
له قصة في مقدم رأسه يرسلها فتبلغ الارض إذا جلس فقلنا له: ألا تحلقها؟فقال: ان
رسول الله r مسح عليها بيده، فلم أكن لاحلقها حتى أموت، فما حلقها حتى مات [14].
وأخبرهم بما حدث به أبو سعيد الخدري
عندما قال: كنت يوما عند رسول الله r فأتى بتمر يفرقه علينا وكنا ندنيه منه ليمسه لما نرجو من بركة
يده، فإذا رآه قد اجتمع فرقه بيننا [15].
وروى البخاري عن عروة عن السائب بن
يزيد ـ رضي الله عنه ـ قال: ذهبت بي خالتي
الى رسول الله r فقالت: يا رسول الله، ان ابن أختي وقع فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة
ثم توضأ فشربت من وضوئه..الحديث.
وأخبرهم بما حدث به خالد بن الوليد
عندما قال: أعتمرنا مع رسول الله r فعلق شعره فاستبق الناس الى شعره، فسبقت الى الناصية فأخذتها
فاتخذت قلنسوة فجعلتها في مقدمة القلنسوة فما وجهت في وجه الا فتح لي [16].
وأخبرهم بما فعله مالك بن سنان لما
أصيب رسول الله r في وجهه يوم أحد.. حيث مص دم رسول الله r وازدرده فقال له: (أتشرب الدم ؟) قال: أشرب دم رسول الله r
فقال النبي r:(من خالط دمي دمه لا يضره الله)[17]
قلت: هم لا
يكتفون بالصحابة.. بل يشترطون أن يوافقهم على ذلك التابعون.
قال: فحدثهم
عن أخبار مالك بن أنس.. لقد قال عنه مصعب بن عبد الله:« كان مالك إذا ذكر النبي
يتغير لونه انحنى حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك فقال: لو رأيتم ما
رأيت لما أنكرتم على ما ترون لقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد
نسأله عن حديث أبدا إلا يبكى حتى نرحمه.
ولقد كنت أرى جعفر بن محمد، وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي
r اصفر لونه وما رأيته يحدث عن رسول الله إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زمانا فما كنت
أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصليا، وإما صامتا، وإما يقرأ القرآن ولا يتكلم فيما
لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله.
ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر
النبي r، فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة
لرسول الله r.
ولقد كنت آتى عامر بن عبد الله بن
الزبير، فإذا ذكر عنده النبي r بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.
ولقد رأيت الزهري، وكان لمن أهنأ
الناس وأقربهم فإذا ذكر عنده النبي r فكأنه ما عرفك ولا عرفته.
ولقد كنت آتى صفوان بن سليم، وكان من
المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي r بكى فلا يزال يبكى حتى يقوم الناس عنه ويتركوه.
لم أجد ما أقول، فقلت له: هم لا
يبالون إلا بالمحدثين.
قال:
فأخبرهم عن تعظيم المحدثين لرسول الله r.. لقد حدث عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود فكان
مما قال: وما سمعته قط يقول: قال رسول الله r إلا مرة، فنظرت إليه وقد حل إزاره وانتفخت أوداجه،
واغرورقت عيناه، فقال:« أو نحو ذلك أو دون، أو قريباً من ذلك، أو شبه ذلك »
وقال ضرار بن مرة:« كانوا يكرهون أن يحدثوا عن رسول
الله r وهم على غير وضوء »، قال إسحاق: فرأيت الأعمش إذا أراد
أن يتحدث وهو على غير وضوء تيمم.
وكان مالك يلبس أحسن ثيابه، ويتطيب، ويأخذ
زينته للتحديث بحديث رسول الله r.
وقال ابن أبي الزناد: كان سعيد بن
المسيب، وهو مريض، يقول:« أقعدوني ؛ فإني أكره أن أحدث حديث
رسول الله r وأنا مضطجع »
ومرّ مالك بن أنس على أبي خازم ـ وهو
يحدث ـ فجازه، وقال:« إني لم أجد
موضعاً أجلس فيه، فكرهت أن آخذ حديث رسول الله r وأنا قائم »
وكان محمد بن سيرين يتحدث فيضحك،
فإذا جاء الحديث خشع.
وقال سعيد بن عامر:« كنا عند هشام الدستوائي فضحك رجل
منا، فقال له هشام الدستوائي: تضحك وأنت تطلب الحديث !؟
بينما نحن كذلك إذا بنا نرى رجلين
يتشاجران، وأخذ أحدهما يسب الآخر، وكان اسمه محمدا.. فتغير صاحبي تغيرا شديدا،
واحمر وجهه، وسقطت دموع حارة من عينيه، ثم اندفع إليهما ينهرهما، ويحذرهما من سب
النبي r، فقال الساب: أنا لم أسب نبينا.. ولكني سببت هذا الرجل الذي لم
يحفظ حرمة اسمه.
فتوجه إلى المشتوم، وقال: إن لم تترك
ما أنت فيه فدع عنك هذا الاسم العظيم.
قال: هو اسم
سماني به أبي، وما كنت لأدعه لقولك، أو لقول أحد من الناس، فمن سبني باء بإثمي.
قال صاحبي: ألم تعلم ما روي من نهي
عمر عن التسمي باسم محمد؟
قال الرجل:
لا أعلم إلا أنه يستحب التسمية بأسماء الأنبياء والصالحين.
قال: لمن
حفظ حرمتهم.. لقد ذكر أن عمر t سمع رجلاً يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب:« فعل الله
بك يا محمد » فدعاه فقال:« أرى رسول الله r يسب بك والله لا تدعى محمداً ما بقيت » وسماه عبد
الرحمن.
وقد ورد في هذا المعنى حديث جاء فيه:
« يسمونهم محمدا ويلعنونهم»[18]
قال ذلك، ثم انصرف، وهو يقول: عذرك
يا رسول الله.. عذرك يا حبيب الله.. لا تؤاخذنا بفعل السفهاء.
ندم الرجلان، وأخذا يعتذران إليه..
تركتهما كذلك، وانصرفت وفي نفسي ألم عظيم.. فالمسيح بين قومنا يهان ويحتقر وتمثل
الأفلام التي تسيئ إليه، ولا أحد من أدعياء حب المسيح يتحرك أو تأخذه الغيرة.
قلت: فما
الكلمة الثالثة؟
قال:
الالتجاء.
قلت: ما
تقصد بالالتجاء؟
قال: المحب
الشغوف بحبيبه لا يصبر على فراقه، ولهذا تراه يحن إليه كل حين، ويلتجئ إليه في كل
مناسبة.
قلت: ذاك قد
يصح مع حبيب حي.. ولكنه لن يصح أبدا مع حبيب ميت.
قال: إن
المحبوب يموت عند جميع الناس إلا عند من يحب.. فإنه يظل حيا، ولذلك لا حرج عليه أن
يلتجئ إليه.
قلت: ولكن
الناس يضحكون عليه حينذاك، وقد يرمونه بالجنون.
قال: المحب
الصادق يستلذ جنونه في محبوبه.
قلت: عد بنا
إلى هذه الكلمة وعلاقتها برسول الله r.. وعلاقتها بعد ذلك بالأولياء.
قال: لقد
لاحظت من خلال معايشتي لبعض هؤلاء أولياء، أو كتاباتهم، أنهم لا يتعاملون في
علاقتهم برسول الله r إلا كما يتعامل الأحياء مع
الأحياء.
قلت: ألا
يعتقدون موته!؟.. فإن كان كذلك، فاقرأ عليهم قول الله ':﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)
(الزمر:30)
قال: قد
قرأت عليهم قوله ':﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ (آل عمران:169)
قلت: ما
علاقة هذا بذاك؟
قال: ألم
يخبر الله ' عن موت الشهداء؟
قلت: بلى..
فقد قال ':﴿ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾(آل عمران:157)، وقال ':﴿ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ
لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) (آل عمران:158)
قال: ألا
ترى أن الله ' الذي أخبر بموتهم هو الذي أخبر بحياتهم؟
قلت: بلى..
قال: فكذلك
الأمر مع رسول الله r..
التفت إلي، وقال: ثم ألا تعجب أن
نقول بحياة الشهداء، ثم لا نقول بحياة سيد الشهداء.
قلت: فنلفرض
أني وعيت ما ذكرت، فما ينتج عنه؟
قال: ألم
تقرأ قوله ':﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ﴾(النساء: من الآية64)!؟
قلت: بلى.. فما
فيها من العلم المرتبط بهذا؟
قال: سأقص
عليك قصة تعلق بها أولياء الله، فراحوا يعيشونها.
قلت: حدثني
عنها.
قال: ذكر
الحافظ السمعاني عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: قَدِمَ علينا أعرابي بعدما دفنّا
الرسول r بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر
النبي r، وحثا من ترابه على رأسه، وقال:
يا رسول الله، قُلتَ فسمعنا قولك، ووعيتَ عن الله ما وَعينا عنك، وكان فيما أنزلَ
عليك:﴿ وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ (النساء: من الآية64)، وقد ظلمت نفسي، وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر:
أنه قد غُفر لك[19].
وفي رواية أخرى عن أبي شبل محمد بن
النعمان بن شبل الباهلي قال: دخلتُ المدينة فانتهيتُ إلى قبر النبي r،
فإذا أعرابي يُوضع على بعيره، فأناخه وعَقَله، ثم دخل إلى القبر الشريف، فسلَّم
سلامًا حسنًا، ودعا دعاءً جميلاً ثم قال:« بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنّ
الله خصّك بوحيه وأنزل عليك كتابًا جمع لك فيه علم الأولين والآخرين، وقال في
كتابه وقوله الحق:﴿ وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ
لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ (النساء: من الآية64)، وقد أتيتك
مقرًا بالذنوب، مستشفعًا بك إلى ربك، فهو ما وعد.
ثم التفت إلى القبر، وقال:
يا خير من دفنت بالقاع أعظُمُه |
فطاب من طيبهنّ القاعُ والأكمُ |
أنت النبي الذي تُرجى شفاعته |
عند الصّراط إذا ما زلّت القدمُ |
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه |
فيه العفاف وفيه الجود والكَرَمُ |
ثمّ ركب راحلته فما أشكُّ ـ إن شاء
الله ـ إلا أنه راحَ بالمغفرة، ولم يُسمَع بأبلغ من هذا قط.
وذكر محمد بن عبد الله العُتبي هذا،
وزاد في آخره: فغلبتني عيناي، فرأيت النبي r في النوم، فقال لي:« يا عُتبي، الحق الأعرابي وبشّره أنّ
الله قد غفر له»[20]
قلت: إن
الفقهاء ينكرون مثل هذا.
قال: إن سيد
الفقهاء مالك.. وكان يشعر هذه المشاعر في مدينة رسول الله r وأمام قبره r.. وقد روي بالأسانيد الصحيحة أنه لما ناظر الخليفة
أبو جعفر المنصور مالكًا في مسجد رسول الله r، قال له الإمام مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع
صوتك في هذا المسجد، فإنّ الله عزّ وجلّ أدّب قومًا، فقال:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ﴾ (الحجرات:2)، ومدح قومًا فقال:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (الحجرات:3)،
وذم آخرين، فقال:﴿ إِنَّ
الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾(الحجرات:4)، وإنّ حُرمته ميتًا كحُرمته حيًا.
فاستكان لها أبو جعفر، وقال: يا أبا
عبد الله، أستقبلُ القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله r ؟
فقال الإمام مالك: ولمَ تصرف وجهك
عنه، وهو وسيلتك ووسيلةُ أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة، بل استقبله
واستشفِع به، فيشفّعك الله[21].
قلت: أحسبني
وعيت ما ذكرته من هذا.. فما لازمه؟
قال: لازمه
كل ما سمعته من مخاطبات الأولياء لرسول الله r وشكواهم إليه، فهم لا يشكون لميت.
قلت: إن من
قومي من يعتبر ذلك شركا، وقد قال بعضهم[22] عن قول البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به |
سواك عند حلول الحادث العمم |
« هذا الشاعر
يستغيث بالرسول r، ويقول له: لا أجد من ألتجئ إليه عند نزول الشدائد العامة إلا
أنت، وهذا من الشرك الأكبر الذي يُخلد صاحبه في النار إن لم يتب منه، لقوله تعالى:﴿
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ
فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ (يونس:106)، أي المشركين، لأن الشرك
ظلم عظيم، وقوله r:« من مات وهو
يدعو من دون الله نداً دخل النار »[23]
ابتسم، وقال: ما أعجب هؤلاء.. وما
أسرعهم في اتهام المؤمنين، بل الأولياء من المؤمنين بالكفر والشرك، ألم يسمعوا ما
ورد في التحذير من ذلك.
قلت: بلى..
سمعوا.. ولكنهم يعتقدون أن ما يذكرونه هو الحق الذي لا حق غيره.
قال:
أفتراهم إذا جثوا بين يدي الطبيب يشكون حالهم إليه مشركون بذلك؟
قلت: لم يقل
بهذا أحد من الناس.
قال: فكيف
يزعمون إذن بأن من شكى لحبيبه وطبيبه حاله، يكون مشركا.
سكت قليلا، ثم قال: الشرك معروف، وهو
ما يعتقده قومي حين يعتبرون المسيح إلها أو أقنوما من إله.
قلت: ولكنهم
يتصورون مخاطبة رسول الله r ودعائه شركا، لأنه لا يدعى إلا الله.
قال: ولم أر
المسلمين يدعون غير الله عوامهم وخواصهم، فلا أحد منهم يعتقد إلها غير الله..
قلت: وهذا
الخطاب الذي يتوجهون به لرسول الله r، وكأنهم يستغيثون به !؟
قال: هم
يفعلون ذلك كما يفعل كل البشر مع الأطباء حين يستلقون أمامهم كما يستلقي الميت بين
يدي الغسال ينتظرون منهم أن يكونوا واسطة للشفاء الذي ينزله الله، فالله هو الشافي،
والطبيب واسطة.
ومثل ذلك محمد.. فالله هو الرحيم
الرحمن.. وقد جعل من خلقه وسائط لرحمته.. ومنهم محمد.
قلت: هم
يعتبرون ما تقوله شركا.
قال: ألا
يؤمن هؤلاء بالشفاعة العظمى؟
قلت: بلى..
هم يؤمنون.. بل إني أراهم يبدعون منكرها.
قال: فهي
واسطة من الوسائط ووسيلة من الوسائل.
سكت، فقال: ألم يقرأوا حديث الأعمى؟
قلت: ابن أم
مكتوم !؟
قال: لا..
الأعمى الذي حدث حديثه عثمان بن حنيف، حيث ذكر أن رجلا ضريرا أتى النبي r، فقال:« ادع الله أن يعافني »، فقال:« إن شئت أخرت
ذلك وهو خير، وإن شئت دعوت »، قال:« فادعه » قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن، ثم يصلي
ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء، فيقول:« اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي
الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي، اللهم شفعه في
وشفعني فيه»[24]
قلت: بلى.. قرأوه..
ولكنهم قيدوه بصنوف من التأويلات جعلته خاصا بهذا الأعمى.
قال: ولكن
ظاهره لا يحتمل أي تقييد.
قلت: لقد
أول ابن تيمية هذا الحديث بصنوف من التأويلات وصرفه عن ظاهره، فقال:« وهذا الأعمى
شفع له النبي r فلهذا قال في دعائه:« اللهم فشفعه
في »، فعلم أنه شفيع فيه »
واستشهد بقوله r:« إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك » فقال: «ادع لي»، بأنه طلب من
النبي r أن يدعو له، فأمره النبي r أن يصلى ويدعو هو أيضا لنفسه، ويقول في دعائه:« اللهم فشفعه في»،
فدل ذلك على أن معنى قوله:« أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد »، أي بدعائه وشفاعته.
واستشهد بقول عمر t:«
اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا »، وقال:« فالحديثان معناهما
واحد فهو علم رجلا أن يتوسل به في حياته، كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا
أجدبوا، ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلا عنه »
ومن استشهاده بحديث عمر t
قوله:« فلو كان التوسل به حيا وميتا سواء والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم
يدع له الرسول لم يعدلوا عن التوسل به وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه وأقربهم
إليه وسيلة إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله »
ابتسم، وقال: لا أرى أي تناف بين
الجمع بين دعاء رسول الله r ودعاء غيره، فإن الدعاء كلما كثر، واشتد الإلحاح فيه، كلما ازداد
اليقين بتحقق إجابته.
أما إخبار عمر t بأنهم كانوا يستشفعون في حياته r به r في ذلك الموقف، فلأنه كان يريد الاستشفاع بالعباس t،
وهو حي أمامه، وهو لا يتنافى مع التوسل، فالاستشفاع أو طلب الدعاء قد يحتاج إلى
اشتراط الحياة بخلاف التوسل الذي لا يحتاج إلى هذا الشرط.
قلت: ومما
أول به ابن تيمية الحديث قوله:« وكذلك لو كان كل أعمى توسل به، ولم يدع له الرسول r بمنزلة ذلك الأعمى لكان عميان
الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم
السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله
ورسوله وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء وينفع وما لم يشرع ولا ينفع، وما
يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير
العسير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه »
ابتسم، وقال: سأجيبك على هذا من من
جهتين:
الأولى هي أن من الصحابة y
من رضي بحاله، ولم يسأل الله تغييره رضى بقسمة الله، بل في حديث الأعمى دليل على
استحباب ذلك، وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة t قال: جاءت امرأة إلى النبي r، وبها طيف، فقالت:« يا رسول اللّه إني أصرع، وأتكشف، فادع اللّه
أن يشفيني »، فقال:« إن شئت دعوت لك أن يشفيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة »، فقالت:« بل أصبر ولي الجنة، ولكن ادع اللّه لي
أن لا أتكشف »، فدعا لها فكانت لا تتكشف[25].
والثانية: أن اشتراط تأييد كل ما ورد
من الأحاديث القولية أو الفعلية لرسول الله r بالآثار الدالة على الفعل به من الصحابة y يكلفنا شططا، بل يلغي أكثر السنن.
فلذلك يكتفي العلماء كلهم ـ بما فيهم
ابن تيمية ـ بما ورد من الأحاديث، بل يرون أن في خلاف الصحابة y
للأحاديث دليل على عدم بلوغ الحديث للصحابة، لا دليلا على ضعف الحديث أو صرفه عن
حقيقة معناه.
وقد جعل ابن تيمية نفسه ـ هذا المعنى
ـ من أسباب الخلاف الفقهي في كتابه ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، بل اعتبره
أول الأسباب، فقال:« السبب الأول أن لايكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث
لم يكلف أن يكون عالما بموجبه، وإذا لم يكن قد بلغه وقد قال في تلك القضية بموجب
ظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس أو موجب استصحاب فقد يوافق ذلك الحديث تارة
ويخالفه أخرى وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض
الأحاديث فان الاحاطة بحديث رسول لله r لم تكن لأحد من الأمة »
ثم ذكر أن النبى r
كان يحدث أو يفتى أو يقضى أو يفعل الشيء، فيسمعه أو يراه من يكون حاضرا ويبلغه
أولئك أو بعضهم لمن يبلغونه، فينتهي علم ذلك إلى من يشاء الله من العلماء من الصحابة
والتابعين ومن بعدهم، ثم في مجلس آخر قد يحدث أو يفتى أو يقضى أو يفعل شيئا ويشهده
بعض من كان غائبا عن ذلك المجلس ويبلغونه لمن أمكنهم، فيكون عند هؤلاء من العلم
ماليس عند هؤلاء، وعند هؤلاء ماليس عند هؤلاء.
ثم ذكر أن تفاضل العلماء من الصحابة y
ومن بعدهم بكثرة العلم أو جودته لا بالإحاطة بجميع حديث رسول الله r
فهذا لا يمكن ادعاؤه.
ثم ذكر نموذجا على هذا بالخلفاء
الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله
r وسنته وأحواله، فإن عمر t ـ والذي استدل ابن تيمية بحديثه على إنكار التوسل برسول الله r
بعد موته ـ لم يكن يعلم سنة الاستئذان حتى أخبره بها أبو موسى،
واستشهد بالأنصار، ولم يكن يعلم أن المرأة ترث من دية زوجها، بل يرى أن الدية
للعاقلة حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان وهو أمير لرسول الله t على بعض البوادي يخبره أن رسول الله r ورث امرأة اشيم الضبابى من دية زوجها، فترك رأيه لذلك وقال:« لو لم نسمع بهذا لقضينا
بخلافه »، ولم يكن يعلم حكم المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف t
أن رسول الله r قال:« سنوا بهم سنة أهل الكتاب»
ولما قدم سرغ وبلغه أن الطاعون
بالشام استشار المهاجرين الأولين الذين معه ثم الأنصار ثم مسلمة الفتح فاشار كل
عليه بما رأى ولم يخبره أحد بسنة حتى قدم عبد الرحمن بن عوف t فاخبره بسنة رسول الله r في الطاعون وأنه قال:« إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا
منه وإذا سمعتم به بارض فلا تقدموا عليه »
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على احتمال
أن ما ذكره عمر t ناتج عن عدم سماعه لحديث الأعمى.
قلت: فلم لم
ينكر عليه.. ولم لم يخبر بالحديث كما خبر في الآثار السالفة؟
قال: لأن ما
قاله عمر لا يريد به التوسل بمعناه الاصطلاحي، وإنما يريد به طلب الدعاء من الحي،
أما عدم إخباره بما ورد في حديث الأعمى، فقد لا يكون الراوي حاضرا، حتى يبلغه.
قلت: مما
استدل به ابن تيمية في التفريق بين حياته وموته r أنه ليس في طلب الدعاء منه ودعائه هو والتوسل بدعائه
ضرر، بل هو خير بلا شر، وليس في ذلك محذور ولا مفسدة، فإن أحدا من الأنبياء ـ
عليهم السلام ـ لم يعبد في حياته بحضوره، فإنه ينهي من يعبده ويشرك به، ولو كان
شركا أصغر كما نهى النبي r من سجد له عن السجود له، أما بعد موته، فيخاف الفتنة
والإشراك به كما أشرك بالمسيح والعزير وغيرهما.
قال: إن هذا
يختلف باختلاف المتوسل واعتقاده، فإن كان يعتقد الوساطة الشركية، فهو حرام، بل قد
يكون كفرا، أما إن أراد به التوسل الإيماني الذي هو استشعار محبة رسول الله r وشفقته على أمته والتوسل بهما إلى
الله، فإن في ذلك من المصالح الإيمانية والتربوية ما لا يصح طرحه من أجل هذه
المفسدة المشكوكة.
ثم لو طرحت أحكام الشريعة بهذا
الأسلوب، فإن الكثير من الأحكام قد تتعرض للإلغاء خوفا من المفاسد التي قد تنجر
عنها.
قلت: وعيت
كل هذا.. ولكن لم لم يكن هذا النوع من الوساطة شركا.
قال: إن ذلك
ينبع من معين اسم عظيم من أسماء الله الحسنى هو اسم الشكور.
قلت: الشكور
!؟.. أجل هو اسم من أسماء الله الحسنى.
قال: فما
يفعله الأولياء في هذا الباب من التعامل مع النبي r ينبع من معين هذا الاسم.
قلت: لم
أفهم.. كيف ذلك؟
قال: إن اسم الله الشكور يقتضي
مجازاة الله عباده على أعمالهم الصغيرة بالعوض الكير المجانس لأعمالهم ورغباتهم[26].
ومن هذه النافذة تفهم النصوص المجيزة
للتوسل بأنواعه: التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين والأعمال الصالحة وغيرها
مما ورد النصوص بجوازه.
فالتوسل بالعمل الصالح ـ مثلا ـ إن
اعتقد أنه واسطة صحيحة، وأن الله يجب أن يجازي المكلفين، كان سوء أدب مع الله،
فالله U:)
لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الانبياء:23)، والله غني عن
أعمال عباده.
لكن إن نظر إليه من باب اسم الله
الشكور، فذكر العمل، وطلب الجزاء كما تطلب المنن لم يكن في ذلك حرج على الداعي، بل
قد ورد في النصوص الكثيرة ما يدل عليه.
ولعل أشهر ما ورد من ذلك حديث
الثلاثة الذين أووا إلى غار، فسأل كل واحد منهم بعمل عظيم أخلص فيه لله، فهذا سأل
ببره لوالديه، وهذا سأل بعفته التامة، وهذا سأل بأمانته وإحسانه، وكل ذلك مما يحبه
الله ويرضاه، ومحبة الله لذلك العمل تقتضي إجابة صاحبه.
وقد كان ابن مسعود t
يقول وقت السحر:« اللهم أمرتني فأطعتك، ودعوتني فأجبتك، وهذا سحر فاغفر لي » وكان
ابن عمر t يقول على الصفا:« اللهم إنك قلت وقولك الحق:) ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )(غافر: من الآية60)، وإنك لا تخلف
الميعاد، ثم ذكر الدعاء المعروف.
ومن هذا الباب شرعت الصلاة على رسول
الله r، فإن من لم يشكر الناس لم يشكر الله.
بل إن الله U وصانا بالشكر للوالدين، وهما سبب حياتنا الطينية المجازية، فقال U:) وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ
إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان:14)فكيف لا يستحق رسول الله r منا الشكر، وهو سبب حياتنا الروحية الحقيقية.
ولهذا اعتبر r من لم يصل عليه بخيلا،
فقال r:« البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي »
ومن هذا الباب ما ورد من الآثار في
ربط الصلاة على رسول الله r بأشياء، لولا الوساطة الشرعية لرسول الله r لم تتحقق، مثل قول القائل عند الدخول إلى المسجد:« أعوذ باللّه
العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، الحمد للّه، اللهمّ صلّ
وسلم على محمد وعلى آل محمد؛ اللهمّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك »
قلت: فما
علاقة التوسل والشكوى والاستغاثة باسم الله الشكور؟
قال: إن
الله برحمته وفضله وشكره لعباده جعل من جزاء الرسول r الذي امتلأ قلبه بالرحمة لأمته بل للخلق جميعا،
الشفاعة العظمى يوم القيامة، والتوسل باب من أبوابها، كلاهما يطل من نافذة هذا
الاسم.
زيادة على أن المتوسل برسول الله r
يستحضره ويشعر بمنة الله به عليه، وفي ذلك الشعور توسل لاستجابة الدعاء، فللدعاء
شروطه التي إن توفرت لا يخطئ أبدا.
وانطلاقا من هذا، فإن التوسل برسول
الله r هو نوع من الحضور معه، والشعور بمعيته، وله تأثير كبير في ربط
القلب بمحبته، وهو السبيل الصحيح لسلوك سنته.
فالتوسل بذلك، والذي يستحضر فيه قلب
السائل رسول الله r، ثم يستشفع به إلى الله، مع الخلو من اعتقاد الوساطة الشركية،
والامتلاء بالشعور بالمنة، يملأ القلب شعورا برسول الله r.
أما اعتقاد أن هذا خاص بحياة رسول
الله r، فلا دليل صريح عليه من النصوص، بل قد يكون فهما من عمر t،
مع أن قوله t لا يدل على حرمة الاستشفاع به r بعد موته.
والقول بذلك يحرم الأمة جميعا من هذا
الخير الجزيل، فلا يتمتع به على مقتضى هذا القول إلا المصاحبون لرسول الله r.
زيادة على ذلك، فإنا نتوسل برسول
الله r في كل الأحكام الشرعية، فنرجع إليه لنعلم أحكام الله، بل إن الله
هو الذي أمرنا بالرجوع إليه مطلقا حيا أو ميتا، كما قال U:)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59)، وليس هناك من يقول بأن هذا خاص
بحياته r.
ثم من قال بأن موت رسول الله r
يغاير حياته، فإن كان الشهداء، وهم أدنى بآلاف آلاف الدرجات من رسول الله r
قد نفى الله موتهم، ونهى عن اعتقاد ذلك، فقال U:)
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169)، فكيف برسول الله r
وهو سيد الشهداء والعارفين والنبيين ؟
ثم، إن رسول الله r
أخبر بأن أعمال أمته تعرض عليه، وأنه يدعو لهم، فقال r:« حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا
لكم، تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله تعالى وإن رأيت شرا استغفرت لكم »
فإن شك في هذا الحديث، فقد قال ':﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
(التوبة:105)
قلت: قد
يقال بأن هذه رؤية وليست دعاء أو شفاعة؟
قال: إن كان
الله ' أخبر بدعوة الملائكة ـ عليهم السلام ـ للمؤمنين، كما
قال ':﴿
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا
وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) (غافر:7)، فإن كان هذا مع
حملة العرش، فكيف برسول الله r، ومع أمته التي كلف بها، وهو أحرص الخلق عليها؟
وقد أخبر r أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في
البرزخ، فقال r:« إن أعمالكم تعرض على
أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا:
اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا»[27]
فإن جاز هذا للعشائر والأقارب، وهم
أفراد من الأمة، فكيف لا يجوز لرسول الله r، وهو أحن على أمته من آبائهم، وأمهاتهم، وقد قال ':﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)(الأحزاب: من الآية6)
قلت: فما
الكلمة الرابعة؟
قال: الألم.
قلت: الألم
!؟
قال: أجل..
قلت: عهدي
بأولياء الله أسعد الخلق حياة، وأهنأهم نفسا، حتى وكأن الجنة عجلت لهم.
قال: لكن
بعض الآلام تعتريهم.
قلت: القلب
الذي يعرف الله لا يعرف الألم.
قال: هو ألم
أشبه بألم يعقوب لفقد يوسف.. فمقام يعقوب العظيم عند الله، ومقام يعقوب العظيم في
درجات السلوك إلى الله لم يمنعاه من ذلك الحزن الذي عبر عنه الله ' بقوله:﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ
عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ (يوسف:84)
ومقام رسول الله r
في سلم الولاية لم يمنعه من قوله عندما توفي ابنه
إبراهيم:«
قلت: فما
الحزن الذي يعتري الأولياء.. فيشعرهم بالألم.
قال: فقد
رسول الله r..
قلت: ألم
تخبرني قبل الحين أنهم يستشعرون حياته؟
قال: الحياة
مراتب.. فقد يكون شخصا حيا، ولكنك تستشعر ألما لبعده عنك.
قلت: ولكن
الأولياء كما ذكرت لي لا يغيبون عن رسول الله.. ولا يغيب رسول الله عنهم..
قال: ذلك
لقاء الأرواح.. والأولياء يتلهفون على لقاء الأشباح..
التفت إلي، وقال: ألم تسمع حديث
ثوبان وغيره من الصحابة وشكواهم لرسول الله r ألم الفراق؟
قلت: بلى..
قال: ولهذا
كانت أعظم المصائب التي حلت بالمؤمنين فقدانهم لرسول الله r.. قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ:« لما مات رسول الله
r اقتحم الناس ـ حين ارتفعت الرنة وسجى
رسول الله r الملائكة بثوبه ـ فاختلفوا فكذب
بعضهم بموته وأخرس بعضهم فما تكلم إلا بعد البعد، وخلط آخرون فلاثوا الكلام بغير
بـيان، وبقي آخرون معهم عقولهم، وأقعد آخرون.. فكان عمر بن الخطاب فيمن كذب
بموته.. وعلي فيمن أقعد.. وعثمان فيمن أخرس.
فخرج عمر على الناس وقال: إن رسول
الله r لم يمت، وليرجعنه الله تعالى، وليقطعن أيدي وأرجل رجال من
المنافقين يتمنون لرسول الله r الموت، إنما واعده الله U كما واعد موسى وهو آتيكم »
وذكر مكي عن عبدالله أنه لما مات
النبي r قال:« اللهم أعمني حتى لا أري شيئا بعده؛ فعمي مكانه »، وروي أنه
قال:« للهم أعمني فلا أرى شيئا بعد حبيبي حتى ألقى حبيبي؛ فعمي مكانه »
ولم يكن قويا في هذا الموقف الشديد
إلا أبا بكر t الذي ربط الله على قلبه ليواسي المسلمين في نبيهم r،
ولكنه مع ذلك ظل باطنه يحترق فلا يكاد يمسك نفسه، فقد روي أنه لما بلغه الخبر دخل
بـيت رسول الله r، وهو يصلي على النبـي r وعيناه تهملان وغصصه ترتفع كقصع الجرّة، وهو في ذلك جلد الفعل
والمقال، فأكب عليه فكشف عن وجهه وقبل
جبـينه ومسح وجهه وجعل يبكي ويقول:« بأبـي وأنت وأمي ونفسي وأهلي، طبت حياً
وميتاً، انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبـياء والنبوّة، فعظمت عن الصفة
وجللت عن البكاء، وخصصت حتى صرت مسلاة وعممت حتى صرنا فيك سواء، ولولا أن موتك كان
اختياراً منك لجدنا لحزنك بالنفوس، ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفذنا عليك ماء
العيون، فأما ما لا نستطيع نفيه عنا فكمدوا وادّكار محالفان لا يبرحان، اللهم
فأبلغه عنا، اذكرنا يا محمد صلى الله عليك عند ربك، ولنكن من بالك، فلولا ما خلفت
من السكينة لم يقم أحد لما خلفت من الوحشة، اللهم أبلغ نبـيك عنا واحفظه فينا »
وقد استمر هذا الحزن بالصحابة y
أمدا طويلا، عن أنس قال: قال أبو بكر بعد وفاة رسول الله r لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن
نزورها، كما كان رسول الله r، قال: فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها:« ما يبكيك فما عند الله
خير لرسوله » قالت:« إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكني أبكي لكون الوحي
انقطع من السماء » قال: فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها »[28]
وقد كانت حرقة حب رسول الله r
هي سبب وفاته t، فعن عبد الله بن عمر t قال:« كان سبب موت أبي بكر وفاة رسول الله r كمد، فما زال جسمه يحري حتى مات »
ولهذا كانت وفاة رسول الله r
هي عزاء المؤمن عن كل مصيبة، كما قال رسول الله r:« إذا أصيب أحدكم بمصيبة،
فليذكر مصيبته بي ليعزه ذلك عن مصيبته »[29]
سكت قليلا، ثم قال: ألا ترى شغف
الأولياء بالقبر الشريف.. فهم يعتبرونه أشرف بقعة في الأرض.
قلت: بلى..
وقد أنكر عليهم البعض ذلك.
قال: لا ينبغي
أن ينكر عليهم.. فأحب تراب الله لأهل الله التراب الذي ضم رسول الله.. إنه عطرهم
الذي يستنشقون أريجه، ودواؤهم الذي يحميهم من العلل ويملؤهم بالصحة.
قلت: فهل لك
قصة مع القبر الشريف؟
قال: أجل..
وهي قصة لن أنساها ما حييت.
قلت: كيف
أذن لك في دخول الحرم، والحرم لا يدخله إلا مسلم؟
قال:
أتحسبني زرتك قبل أن أزور حبيبي r.. لقد كان أول ما فعلته بعد إسلامي أن زرت قبر رسول
الله r.. وفي الطريق إليه رأيت وليا من
أولياء الله يردد:
أتيتُك راجلاً وَوَدِدْتُ أني |
مَلَكْتُ سَوَاد عيني أَمْتَطيهِ |
وما لي لا أسِيرُ على المآقي |
إلى قبرٍ رسولُ الله فيهِ |
فأسرعت إليه، وقلت له: رويدك.. احذر
أن يسمعك بعض المتشددين، فيرميك بالشرك.
قال:
فليفعلوا بي ما يشاءون.. فأنا لم أخرج عن هدي السلف، ولا عن أدب الخلف.
قلت: ما
تقول؟
قال: لقد كان
حسان بن ثابت من سلف الأمة، ومن صحابة رسول الله r، وقد قال مخاطبا قبره r:
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت |
بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد |
وبورك لحد منك ضمن طيبا |
عليه بناء من صفيح منضد |
تهيل عليه الترب أيد وأعين |
عليه وقد غارت بذلك أسعد |
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة |
عشية علوه الثرى لا يوسد |
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم |
وقد وهنت منهم ظهور وأعضد |
يبكون من تبكي السموات يومه |
ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد |
وهل عدلت يوما رزية هالك |
رزية يوم مات فيه محمد ؟ |
وقد روي عن ابن المنكدر t
أنه كان يجلس مع أصحابه فكان يصيبه صمات، فكان يقوم كما هو حتى يضع خده على قبر
النبي r ثم يرجع، فعوتب في ذلك، فقال: إنه يصيبني خطر، فإذا وجدت ذلك
استعنت بقبر النبي r.
وكان يأتي موضعا من المسجد يتمرغ فيه،
ويضطجع، فقيل له في ذلك فقال: إني رأيت النبي r في هذا الموضع[30].
قلت: هذا
السلف.. فما فعل الخلف؟
قال: لقد
ورث السلف حسان وغيره أمة من الصالحين أنتجوا تراثا عريضا من معاني الحب ولدت أمام
قبر رسول الله r، فهذا أحدهم يقول:
قف عند قبر التهامي والثم الجدثا |
وانشق عبير الهدى ممن به مكثا |
واجثُ احتراماً بداع الوجد مدّكراً |
فجر النبوة وامدح خير من بُعثا |
محمدٌ سيد الأكوان قاطبة |
إذ مجده كابراً عن كابر ورثا |
ما أنجب الدهر ذا خلق وذا خلقٍ |
في الفضل يشبهه مذ جاءنا حدثا |
([6]) حاول العلماء ـ كما فعلوا مع محبة الله ـ أن يبحثوا في الأسباب الدافعة لحب رسول الله r، وهي كما نرى لا يمكن حدها بأسباب
معينة، فكل شخص دوافعه الخاصة، والتي تختلف باختلاف درجة حبه لرسول الله r ودرجة قربه منه ودرجة تعرفه عليه
ودرجة ترقيه في مقامات الإيمان.
وأقل هذه الدرجات ما يبالغ فيه البعض من
وصف الصورة الخلقية لرسول الله r في مدحه والثناء عليه بذلك والمبالغة
فيه إلى درجة لا نرى أن رسول الله r يرضى عنها.
فرسول الله r مع ما أوتي من حسن الخلقة، والذي
ذكره واصفوه، وأثنوا عليه به ليس هو الأصل الدافع للحب، فالحب المؤسس على الجسد قد
يليق بالغواني ولا يليق برسول الله r.
فالترغيب الحقيقي في رسول الله r لا يكون بذكر صورته وشكله، وإنما
بذكر خلقه وكمالاته، ومع ذلك لا نرى مانعا من ذكر صورته الخلقية لتكون مكملا
لصورته الحقيقية لا أصلا لها.
وانطلاقا من هذا نرى بعض التشويه في شخص
رسول الله r، والذي يمارسه البعض باسم إحياء السنة، فيتصور أن السنة هي طول
اللحية وقصر القميص مع تجهم الوجه والتشدد في محله وغير محله.
وعلاج هذه الظاهرة بالوصف الشامل لرسول
الله r، انطلاقا من قربه من ربه، وانتهاء بعلاقته التي شملت كل ما يمكن
أن يؤسسه الإنسان من علاقات.
وهذا الوصف وحده ـ والذي يعتمد القرآن
الكريم والسنة الصحيحة ـ كاف وحده لملأ القلوب بمحبة رسول الله r، والتفاني في حبه.
وبمثل هذه المبالغة في وصف الهيئة
الشكلية لرسول الله r نرى في المقابل بعض المبالغة في وصف مقاماته r الروحية وقربه من ربه وعلاقته
بالخلق، حتى تحول رسول الله r بذلك إلى سر غامض، وتحولت رسالته إلى
مجموعة ألغاز لا يفهمها إلا خاصة الخاصة، وكأن رسالة رسول الله r العامة الشاملة خاصة بهذه الثلة
القليلة التي تفردت بالتعمق في حقيقتها.
وإلى هذين المعنيين، وإلى هذين الفريقين
أشار r بقوله:« لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا:
عبدالله ورسوله »
وهذا نهي صريح منه r عن وصفه بما ليس في من الصفات
التماسا لمدحه، كما وصفت النصارى عيسى u بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن
الله فكفروا بذلك وضلوا.
وبدخل فيه أيضا وصفه ببعض ما هو فيه مما
ينتج خللا في التعرف عليه r، كمن يقتصر على وصف خلقته الجسدية، أو مقاماته الروحية، أو حياته
في بيته، أو حياته مع صحابته، أو غزواته.
ولهذا استغل المستشرقون ما ورد في
غزواته r لتصويره بصورة المحارب الذي لا يهدأ، والذي لا يكون له الوقت
الكافي للتوجيه والتربية.
بل وقع في ذلك بعض المسلمين حين تصور
الدين سيفا مرفوعا على كل هامة، وتصور الدعوة إلى الله وفتح القلوب على دينه حروبا
وغزوات لا تنتهي.
وقد غفل هؤلاء عن الأوصاف التي وصف بها
رسول الله r في القرآن الكريم، أو التي تناقلها أهل الكتاب في كتبهم، وكلها
ترجع إلى الرحمة واللطف وحسن المعاملة مع جميع الخلق.
فهذه هي أوصاف رسول الله r في القرآن الكريم، قال الله U:) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)
فالله U في هذه الآية الكريمة ذكر له اسمين
من أسمائه الحسنى، قال الحسين بن الفضل:« لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من
أسمائه إلا للنبي محمد r ؛ فإنه قال:) ) بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(التوبة: من الآية128)، وقال:)
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(الحج: من الآية65)
وفي آية أخرى يمن عليه بالرحمة التي ملأ
بها قلبه، قال U:) فَبِمَارَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ[6]
وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل
عمران:159)
فالرحمة هي خلق رسول الله r الذي تنبع منه كل أخلاقه، كما قال
الحسن البصري t:« هذا خلق محمد r بعثه اللّه به»، بل كما قال r:« إنما أنا رحمة مهداة »[6]،
بل كما قال U:)
)وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:107)
ولهذا عندما قيل له r:« يا رسول اللّه ادع على المشركين،
»، قال:«:« إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت
رحمة »
([8]) هذا هو المعنى الأول في تفسير قوله ':﴿ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ﴾ (النور: من الآية63)،
والمعنى الثاني:﴿ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ
كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ﴾ أي: لا تعتقدوا أن
دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا.
حكاه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطية العَوفي.
وهذا المعنى أيضا من التعظبم، وهو من
أقوى الأدلة على جواز التوسل بالنبي r بل استحبابه، باعتبار التوسل نوعا من
طلب الدعاء من المتوسل إليه.
([9]) وقد رويت في ذلك أحاديث كثيرة، انظر:
البخاري:3/1045، ابن حبان: 16/185، الحاكم: 1/208، أبو داود: 4/3 وغيرها.
([19]) ورواها بنحو لفظها: الإمام البيهقي في شعب
الإيمان 3/495، وانظر: سبل الهدى والرشاد 12/380، وفاء الوفا 4/ 1361، وأبو اليمن
ابن عساكر في إتحاف الزائر ص 68/69، وابن النجار في الدرة الثمينة، ص224، وابن حجر
الهيتمي في تحفة الزوار ص55.
([20]) رواها الإمام النووي في (الإيضاح) ص454، وابن
بشكوال في (القربة إلى رب العالمين بالصلاة على محمد سيد المرسلين r ) الورقة (16/أ)
([21]) ذكر هذه القصة: القاضي عياض بسنده في الشفا:
2/41، والقسطلاني في المواهب اللدنية، وأبو اليمن ابن عساكر في إتحاف الزائر،
ص153، والعز بن جماعة في هداية السالك: 3/138 وقال الإمام الزرقاني في شرحه على
المواهب اللدنية: 4/580 ردًا على من أنكرها: هذا تهوّر عجيب، فإنّ الحكاية رواها
أبو الحسن علي بن فهر في كتابه (فضائل مالك) بإسناد حسن، وأخرجها القاضي عياض في
الشفا من طريقه عن شيوخ عدة من ثقات مشايخه. فمن أين أنها كذب؟! وليس في إسنادها
وضّاعٌ ولا كذّاب.