الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: النبي المعصوم

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

ثامنا ـ تطرف

1 ـ العقيدة

2 ـ السلوك

اليسر:

المقاصدية:

3 ـ المواقف

4 ـ الحياة

ثامنا ـ تطرف

في مساء اليوم الثامن.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (بات روبرتسون)[1].. وهو في أصله قسيس إنجيلي يمتلئ بغضا لمحمد r من أخمص قدمه إلى مفرق رأسه، وكأن بغض كل من يبغض محمدا r قد عجن عجنا محكما، ثم شكل منه قالبه.. ولكنه جاء في ذلك المساء بوجه غير الذي ذهب به.

لقد كنت أعرف هذا الرجل من قبل.. وهو مع كونه قسيسا إلا أنه كان متفتحا إلى درجة التطرف في تفتحه.. فهو يريد أن لا ينضبط بأي ضابط، أو يلتزم بأي قانون، ولكنه يقع تحت ضغط قوانين كثيرة تفرض عليه فرضا.. ثم يحاول أن ينقلب عليها، ولكنه يقع في انقلاب على نفسه وعلى من يحيط به، فلهذا كان مشوشا غاية التشويش.. ولهذا كان يبدو كمن يسبح عكس التيار، فتتقلب به الأمواج كما يحلو لها.

في بدء حياته لم تكن له علاقة بالدين ولا بالكنيسة.. بل كان يبغض كل ما يرتبط بالدين من وصايا وتشريعات معتبرا أنها من قوانين الكبت التي أراد بها الإنسان أن يضيق بها على حياته.

ولكنه.. وبسبب دراسة كلف بها في حياته الجامعية عن (بولس وأثره في المسيحية) تأثر ببولس تأثرا شديدا.. وانخرط في الكنيسة بسبب ذلك التأثر.

ولكن اهتمامه بالمسيح لا يعدل اهتمامه ببولس.. ولعل حبه لبولس يفوق حبه للمسيح.. فهو يعتبره المصحح الأول للمسيحية.. بل يكاد يعتبر المؤسس لها.. وهو يتصور أن أكبر ما جعل للمسيحية كل ذلك التأثير هو ما وصمه بها بولس من تفتح.. ويتصور في نفس الوقت أن أكبر ما حال بين سائر الأديان وبين الوصول للدرجات التي وصلت لها المسيحية هو عدم وجود (بولس) فيها. 

بمجرد دخوله ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟

نظر إليهم بغضب شديد، وقال: لا يمكن لأولئك الصعاليك أن يفهموني، أو يفهموا المنطق الذي أفكر به.. ولهذا من المستحيل أن تكون هناك نتائج إيجابية مع أمثال هؤلاء..

ثم توجه إلى الجماعة قائلا: إنكم في تعاملكم معهم كمن يريد أن يبني قصورا على رمال شاطئ عظيم الأمواج.

ثم التفت إلى الجماعة، وقال: لا أرى أن تضيعوا وقتكم بسماع شريط الأحداث، فلن يرضيكم ما وقع من أحداث.

قال رجل من الجماعة: لا يهمنا أن نرضى أو لا نرضى، المهم هو أن نعرف الأسلوب الذي يفكر به هؤلاء.. فلا يمكن أن نواجه خصما لا نعرفه.

قال بات روبرتسون: ولكنكم قد تحترقون.. أو قد يجرفكم تيارهم.. فالسباحة في وجههم خطيرة..

ثم قال بينه وبين نفسه: سلوني أنا.. أنا الذي رفضت الكل، ولم يستطع أحد أن يستوعبني كاد هؤلاء الصعاليك أن يجرفوني إلى مستنقعاتهم.

لم تلتفت الجماعة إلى قوله.. بل ابتدر أخي.. ووضع القرص في القارئ.. وبدأ شريط الأحداث:

رأينا بات روبرتسون يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: هل تعرفون محمدا؟

قال رجل من الجمع: إن كان لديك حديث عنه، فحدثنا به.. فما أحلى الحديث عن محمد.

قال بات روبرتسون: نعم.. صدقت.. فكلكم تحبون التطرف.. فلذلك تحبون الحديث عن أعظم متطرف في الدنيا.

قال رجل من الجماعة: أمحمد متطرف؟

قال بات روبرتسون: إن لم يكن محمد متطرفا، فليس هناك متطرف في الدنيا.

ثم أضاف يقول: لم يكن محمد إلا مجرد متطرف.. ذو عيون متوحشة تتحرك عبثا من الجنون.

هنا ظهر الحكيم كما يظهر شعاع الشمس مخترقا الظلمات، وصاح: ما الذي تقصد بالتطرف، فلعل لك تصورا للتطرف قد نوافقك عليه، وقد نتفق معك بسببه في كون محمد r متطرفا؟.. وحينذاك سيكون التطرف معنى جميلا.. لأنا لا نعرف خلقا تخلق به محمد r إلا كان خلقا جميلا.

قال بات روبرتسون: التطرف هو التطرف.. وليس للتطرف معنى غير التطرف.

قال الحكيم: أراك تفسر الماء بالماء.. فهلا عدلت إلى كلام واضح مفهوم؟

قال بات روبرتسون: كلامي واضح مفهوم، وأحسب الجميع يفهمه.

قال الحكيم: ما دام الأمر كذلك، فوضح لنا سر تطرف محمد، أو بين لنا دلائل تطرف محمد.. فلا يمكن أن نلقي الدعاوى من غير بينات تدل عليها.

قال بات روبرتسون: أكبر دليل على تطرف محمد هو هؤلاء المتطرفون من أتباع محمد.. والذين يملؤون الدنيا.. أم أنك لا تراهم؟

قال الحكيم: فإذا كان الاستدلال بهذا الشكل، فلا شك أن المسيح u والذي نقدره غاية التقدير، ونحترمه غاية الاحترام، ونستغفر الله من كل إساء تمسه كان قاتلا وإرهابنا وظالما وفاحشا ومتفحشا.

غضب بات روبرتسون، وصاح: كيف ترمي قمة النبل والسلام والعفة والطهارة بهذا.. أم أنك لم تقرأ الإنجيل؟

قال الحكيم: لقد اتبعت منهجك في الاستدلال.. فأنت استدللت على تطرف محمد بوجود المتطرفين من أتباعه، فرحت أطبق هذا المنهج على المسيح وأتباع المسيح.. ولن تجد في العالم.. ولن تجد في جميع دفاتر المؤرخين قوما أساءوا إلى نبيهم كما أساء أتباع المسيح إلى المسيح.. فهم الإرهاببون الذين استعمروا العالم.. وهم اللصوص الذين استولوا على خيراته.. وهم الذين نشروا الرذيلة بكل معانيها، وبكل أصنافها.. فهل تستدل بهؤلاء على المسيح؟

قال بات روبرتسون: المسيح نعرفه من خلال الإنجيل.. لا من خلال من يردد اسم المسيح.. والمسيح منه بريء.

قال الحكيم: ومحمد r نعرفه من خلال سيرته وسنته والكتاب الذي جاء به..

سكت بات روبرتسون، فقال الحكيم: أرى أنك صاحب شبهة تريد أن تبحث عن الحقيقة المرتبطة بها.

قال بات روبرتسون: وما الشبهة التي تراها علقت بعقلي؟

قال الحكيم: لقد رأيت سلوك المسلمين، فرحت تتصور أن هذا السلوك لم يستفده هؤلاء إلا من محمد r.

قال بات روبرتسون: نعم.. كما نتعرف على الأستاذ من خلال تلاميذه، نتعرف على محمد من خلال أتباعه.. من خلال من يذكرون أنهم في حياتهم جميعا يمارسون سنته، ويتبعون هديه.

قال الحكيم: ولكن التلاميذ قد ينحرفون عن منهج أستاذهم، أو قد يفهمون أستاذهم خطأ.. فلذلك نحتاج إلى الرجوع إلى الأستاذ نفسه.

قال بات روبرتسون: وكيف نرجع إلى محمد، وقد طواه الثرى[2]؟

قال الحكيم: لقد كان لمحمد r أتباع أوفياء لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة من حياته إلا سجلوها.. فلذلك ـ نحن المسلمين ـ لا نرى محمدا إلا كما يرى بعضنا بعضا، فهو حي بيننا نعيش معه، ونسمع كلامه، ونتنعم بهديه.

قال بات روبرتسون: ولذلك حكمت على نبيكم من خلالكم.

قال الحكيم: ذلك خطأ، فنحن مع حبنا لنبينا وتعظيمنا له لا نرقى لأن نمثله.. محمد r لا يمثله إلا محمد r.

سكت الحكيم قليلا، ثم قال: دعنا من هذا الجدل.. ولنعتبر ما ذكرته صحيحا.. ولا نريد منك إلا أن تثبته.

قال بات روبرتسون: لن يكلفني عنتا إثباتي لما ادعيته، فكل شيء يدل عليه.. يكفيك فقط أن تقارن بين المسيحية وبين الإسلام لترى التطرف في الإسلام وفي محمد في أرقى درجاته.

ففي الفكر والعقيدة ترى المسيحية دين المحبة.. تبشر بإله محب أرسل ابنه الوحيد ليفدي البشرية من الخطيئة.. بينما محمد يبشر بإله منتقم جبار يكوي كل من خالفه بكل نيران الألم.

وفي السلوك نرى المسيحية دينا بسيطا لا يكلفك إلا بالإيمان، بينما نرى الإسلام دين تكاليف شديدة تبدأ من استيقاظك المبكر مع غسق الفجر.. وتنتهي بليل طويل من القيام، ونهار طويل من الصيام.. وحياة منضبطة بقوانين كثيرة تخنقها حنقا.

وفي المواقف نرى المسيحية تدع ما لقيصر لقيصر وما لله.. بينما نرى الإسلام ينازع الساسة والاقتصاديين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس.. وكل شيء، ليطبعه بطابعه الخاص.

وفي الحياة، نرى المسيحية مع الحياة، فلا تحرم أي متعة من متع الحياة.. بينما نرى الإسلام يملأ حياة الناس بالضيق، فلا يتمنون إلا الموت.

التفت إلى الجمع، وقال: ألا يكفي كل هذا ليجعل الإسلام دين التطرف الأكبر في العالم، ويجعل محمدا الذي جاء بهذا الدين أكبر متطرف في العالم.. بل على مدار التاريخ.

قال الحكيم: هل انتهيت من حديثك.. أم لك مزيد أدلة؟

قال بات روبرتسون: ألا يكفي كل ما ذكرته!؟

قال الحكيم: فدعني أجيبك إذن.

قال بات روبرتسون: لا يمكنك أن تجيبني.. فما ذكرته حقائق لا تقبل الجدل.

قال الحكيم: فأنت متطرف إذن من حيث لا تشعر.. إن التطرف هو أن تشعر بأنك وحدك على الحق، وأن الحق وحده معك.. فإن كنت تشعر بهذا، فلا يمكنني أن أناقشك.

قال بات روبرتسون: لا.. بل أنا متفتح غاية التفتح.

قالت الجماعة: ما دمت كذلك، فدعه يدافع عن نبيه وعن دينه.

قال بات روبرتسون: قل ما شئت.. وأنا أعلم أنك في كل ما تذكره لن تستيطيع أن تفند هذه الحقائق.. فالحقائق لا يمكن أن تفند.

قال الحكيم: لقد ذكرت أربعة نواح.. وأحسنت في ذكرها.. فهي الأسواق التي تعرض فيها بضاعة التطرف.. وقد ذكرت لي بضاعة المسيحية، وما أسأت فهمه من بضاعة الإسلام.. ولهذا سأصحح لك الحقائق التي يعرضها الإسلام في تلك الأسواق.

1 ـ العقيدة

التفت الحكيم إلى الأشجار الجميلة التي كانت تزين ساحة الحرية، ثم قال: أرأيت لو طلبت من رسام مبدع أن يرسم هذه الأشجار، أو من أديب بليغ أن يصفها، فقام كلاهما بكل ما أوتيا من قوة إبداعية، فرسم الأول، ووصف الثاني.. هل يمكن أحد من الناس أن ينتقدهما، فيقول لهما: أنتما متطرفان بدائيان.. لأنكما رسمتما أشجارا، ولم ترسما ناطحات سحاب، أو سيارات أو طائرات؟

قال بات روبرتسون: لن يقول ذلك أحد إلا إذا كان مسلما متطرفا، فيمكن أن يقوله.

قال الحكيم: ولكنك تقول ذلك الآن.

قال بات روبرتسون: أنا لست مسلما، فكيف عرفت أني أقوله؟

قال الحكيم: لقد زعمت بأن العقيدة التي جاء بها محمد r عقيدة متطرفة.. واعتبرت أن سبب تطرفها هو كونها لا تتحدث عن الله الذي أرسل ابنه الوحيد ليصلب من أجل خطايا البشرية.

قال بات روبرتسون: فما الغرابة في هذا؟

قال الحكيم: لأن العقيدة التي جاء بها الإسلام عقيدة منطقية تصف الكون وحقائق الكون، والأشجار التي يحويها الكون كما هي.. ولكن عقيدتكم التي تفخر بها علينا لا تحوي أي منطق، ولا يدل عليها أي دليل، فأنتم تفرضونها على الكون فرضا[3].

 قال بات روبرتسون: لم أفهم ما الذي تقصده؟

قال الحكيم: أرأيت النار.. والأشواك.. والزلازل.. والبراكين.. والآلام.. والأمراض.. والموت..

قال بات روبرتسون: ومن لم ير كل ذلك.. إلا إذا كان مسلما متطرفا؟

قال الحكيم: فمن خلق كل ذلك؟

قال بات روبرتسون: الله.. الله هو الذي خلق كل ذلك.

قال الحكيم: فالله إذن خلق الأزهار الجميلة، والطيور المغردة.. وخلق بجانبها البراكين والزلازل.. لنعرفه معرفة شاملة كاملة.. فنرجو خيره، ونخاف الآلام التي قد تصيبنا من عقوبته.. فرحتم أنتم تختصرون الله فيما تحبون، أو فيما تملي عليكم شهواتكم.

وأنتم تشبهون في ذلك مجرما أخذ صورة مشوهة عن القاضي.. فقيل له: إنه قاض رحيم محب ودود.. لا يلقي المجرمين إلا بابتسامته العريضة وجنانه الفسيحة.. فراح ذلك المجرم يتطرف في جرائمه لا يقف في وجهه شيء..

قال بات روبرتسون: فهل فعلنا نحن ذلك؟

قال الحكيم: بل لم تفعلوا إلا ذلك.. أنتم تشجعون على الرذيلة والانحراف، وتسمون كل ذلك محبة..

بينما الإسلام يتعامل مع الحقائق كما هي.. ويصف الله بما وصف به نفسه، فهو رحيم ودود.. وهو كذلك شديد العقاب، قال تعالى:﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)﴾ (الحجر)

قال بات روبرتسون: فأنت تقر بأن ربكم يعذب.

قال الحكيم: لست أنا الذي يقر بذلك.. بل كل شيء يقر بذلك.. ولكنه عذاب رحيم لا عذاب منتقم..

امتلأ بات روبرتسون ضحكا، ثم قال: وهل رأيت رحيما يعذب؟

قال الحكيم: أرأيت لو أن أحدهم أراد أن يضرب ما تعارف عليه الناس من قوانين الأكل والشرب عرض الحائط.. فراح يأكل المعادن والزجاج.. وراح يشرب أنواع السوائل التي لا تنسجم مع جسم الإنسان.

قال بات روبرتسون: فمصير هذا الموت المؤكد.

قال الحكيم: فإن ظفر بطبيب حكيم أجرى له عملية جراحية تطهر بطنه من الأوزار التي سببها له فمه.. هل تعتبر ذلك الطبيب قاسيا بإجرائه لتلك العملية؟

قال بات روبرتسون: كلا.. بل هو طبيب رحيم أنقذه من الموت المؤكد؟

قال الحكيم: فهذا هو تصورنا نحن المسلمين لإلهنا، فهو إن عاقب لا يعاقب طلبا للعقوبة.. وإنما يعاقب من منطلق الرحمة[4].. إن قرآننا يقول:﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ )(لأعراف: من الآية156)

ولهذا يربط القرآن الكريم بين ملك الله الذي يعني تدبير الله للأشياء وبين رحمته تعالى، كما قال تعالى:﴿  الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً﴾ (الفرقان:26)

ولذلك ورد في القرآن الكريم الإخبار عن سعة الرحمة الإلهية وشمولها باعتبار الكون مؤسسا عليها إنشاء وتدبيرا، قال تعالى:﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ((الأعراف:من: 156)، وقال تعالى:﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (الأنعام:147)

فالآيتان الكريمتان صريحتان في سعة الرحمة الإلهية وشمولها لكل شيء، ولم يرد في القرآن الكريم اقتران السعة بشيء من صفات الله إلا في صفتي الرحمة والعلم.

قال بات روبرتسون: ولكنا نسمع بأن لإلهكم نارا عظيمة يعذب بها.. فهل ترى تلك النار أتون رحمة؟

قال الحكيم: أتسمح لسلاطينك ووزرائك أن يتخذوا سجونا، ثم لا ترى من حق الله أن يتخذ سجنا..

ثم أضاف: أرأيت إلى تعابيرك عن الله.. إنك تتصور بأن معارفنا هي التي تنتج الحقائق.. لا الحقائق الموجودة على أرض الواقع هي التي تنتج المعرفة.

قال بات روبرتسون: لم أفهم..

قال الحكيم: العقيدة علم بما في الكون من حقائق واقعية.. ولذلك لا ينبغي أن نحتال على تشويهها بأي صورة من صور التشويه، حتى بما نتصوره تشويها يحسنها.. فهو في حقيقته تشويه يسيء إليها[5].

2 ـ السلوك

التفت الحكيم إلى الطريق، وأشار إلى علامة مرور، مكتوب عليها (قف)، وقال: هل ترى هذه العلامة؟

قال بات روبرتسون: وكيف لا أراها.. إلا إذا كنت متطرفا مسلما؟

قال الحكيم: فقد كتب عليها (قف).. فما تعني هذه الكلمة؟

قال بات روبرتسون: هي تأمر السيارات المارة بأن تقف في هذا المحل.

قال الحكيم: ألا ترى بأنها تحد بذلك من حرية المارة؟

قال بات روبرتسون: لا.. بل هي تنظم سير المارة.. ولولا هذه اللافتة التي أبدعتها حضارتنا المستلهمة من تعاليم المسيح لاختلطت الطريق بأهلها.

قال الحكيم: ما دمتم لم تعتبروا أنفسكم متطرفين، وأنتم تحدون من حرية المارة بمثل هذه اللافتات، فلم تعتبرون اللافتات الربانية التي تنظم السير إلى الله من التطرف؟.. أم أنكم تريدون أن تختلط الطريق إلى الله بالمشعوذين والخرافيين والدجالين والمهووسين.

قال بات روبرتسون: ما علاقة ما تقوله بما نحن فيه؟

قال الحكيم: لقد فخرت على محمد بالمسيح.. وزعمت أن محمدا ضيق حياة الناس بما وضع من قوانين السلوك.. بينما لم يفعل المسيح شيئا من ذلك.

قال بات روبرتسون: ذلك صحيح.. ففي المسيحية يكفيك الإيمان.

قال الحكيم: لقد ولد ذلك وجود طوائف كثيرة ممتلئة بالتطرف.. لاشك أنك تعرف الرهبان الذين وضعوا من قوانين السلوك ما صارعوا به الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

لقد روى المؤرخون من ذلك العجائب[6]..

لقد حدثوا عن الراهب ماكاريوس أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائما نحو قنطار من حديد.

وكان صاحبه الراهب يوسيبيس يحمل نحو قنطارين من حديد.. وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح …

ورووا أن الراهب يوحنا عبد ثلاث سنين قائما على رجل واحدة، ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدة، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة.

وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائما، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام.. وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش.

وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح ويتأثمون من غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأنقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس، وقد حدث الراهب اتهينس أن الراهب أنتونى لم يقترف إثم غسل الرجلين طوال عمره، وكان الراهب أبرا هام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين عاماً، وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمان متلهفاً: وأسفاه، لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات.

أما القديس كولمبان فقد (كانت السناجب تجثم على كتفيه فتدخل في قلنسوته وتخرج منها، وهو ساكن)

وفوق هذا كله.. فقد كان الرهبان يتجولون في البلاد ويختطفون الأطفال ويهبونهم إلى الصحراء والأديار، وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم ويربونهم تربية رهبانية، والحكومة لا تملك من الأمر شيئا، والجمهور والدهماء يؤيدونهم ويحبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتهم ويختارون الرهبانية ويهتفون باسمها، وعرف كبار الرهبان ومشاهير التاريخ النصراني بالمهارة في التهريب، حتى روي أن الأمهات كن يسترن أولادهن في البيوت إذا رأين الراهب (أمبروز) وأصبح الآباء والأولياء لا يملكون من أولادهم شيئا، وانتقل نفوذهم وولايتهم إلى الرهبان والقسوس.

فكان الرهبان الذين تفيض قلوبهم حنانا ورحمة، وعيونهم من الدمع، تقسو قلوبهم وتجمد عيونهم على الآباء والأمهات والأولاد، فيخلفون الأمهات ثكالى، والأزواج أيامى، والأولاد يتامى، عالة يتكففون الناس، ويتوجهون قاصدين الصحراء، همهم الوحيد أن ينقذوا أنفسهم في الآخرة، لا يبالون ماتوا أو عاشوا، وحكي (ليكي) من ذلك حكايات تدمع العين وتحزن القلب.

التفت الحكيم إلى بات روبرتسون، وقال: هل حدث ذلك في التاريخ فعلا؟

سكت بات روبرتسون، فأجاب الحكيم نفسه: نعم.. ولا يمكنك إلا أن تقول:( نعم).. فلندع هؤلاء الذين طواهم التاريخ.. ولنذهب إلى المسلمين في جميع مراحل التاريخ.. ولننظر أثر علامة (قف).. و(سر) التي تركها محمد r.

لقد ولدت تلك العلامات التي سماها العلماء أحكاما شرعية حياة منضبطة منظمة صالحة صحية لا يمكنك أن تقارنها بأي حياة لأي متدين في أي دين.

أخرج سواكا من جيبه، ثم قال: في الوقت الذي كان الرهبان فيه يتبارون في الهرب من كل ما تتطلبه النظافة من متطلبات أمرنا نبينا بهذه الآلة العجيبة التي تجمع بين كونها فرشاة أسنان، كأنعم ما تكون الفرشاة.. وبين أحسن معجون للأسنان لم ير العالم مثله بعد في عالم الصناعة[7].

فهل ترى متطرفا ذلك الذي يحض أتباعه على النظافة والطهارة والجمال؟ 

قال بات روبرتسون: ولكن تعاليم الإسلام تعاليم شديدة حتى ما تعتبره طهارة منها فيه شدة وتكلف وتطرف.

قال الحكيم: إن جميع تعاليم الإسلام محكومة بضابطين كلاهما يحرسانها من التطرف، وسأحدثك عنهما باختصار، وإلا فإن التفاصيل التي ترتبط بهما لا يمكن استيعابها في هذا المجلس.

قال رجل من القوم: فما هما؟

قال الحكيم: اليسر والمقاصدية، وقد أشار إليهما مجتمعين قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة:6)

ففي هذه الآية الكريمة ذكر الله رفع الحرج عن عباده، وهو يدل على التيسير، ثم علل السر في تلك التكاليف التي قدر يراها البعض تكاليف شاقة، بأنها تكاليف ذات مقاصد شريفة تصب في مصلحة الإنسان، وهو ما يرفع المشقة في فعلها، لأن أي إنسان يسترخص أي جهد يبذله إذا ما كان فيه مصلحة له.

وقد جمع كلتا الناحيتين قوله r في تعليل النهي عن الصلاة وقت النعاس:( إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعسٌ لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه)[8] 

اليسر:

قال رجل من القوم: فحدثنا عن الضابط الأول؟

قال الحكيم:  جميع الشرائع التي جاء بها نبينا r تتصف باليسر.. بل إنه إذا وقع العسر في أمر من الأوامر، أو نهي من النواهي رفع التكليف به.. وفي ذلك قال العلماء (إذا ضاق الأمر اتسع)[9]، و( المشقة تجلب التيسير)

ضحك بات روبرتسون، وقال: المشقة تجلب التيسير!؟.. ما هذا؟

قال الحكيم: هذه القاعدة الأصولية تنص على أن الأحكام التي ينشأ عن تطبيقها حرج على المكلف ومشقة في نفسه أو ماله، فإن الشرع قد أجاز له عدم القيام بها.

قال بات روبرتسون: فهي من وضع الفقهاء إذن لا من إرشاد نبيكم وتعليمه!؟

قال الحكيم: ما كان لفقهائنا أن يتجرأوا، فيضيفوا إلى الدين حرفا من غير أن يجدوا له دليلا من النصوص..

نعم.. هم ليسوا معصومين في استنباطاتهم، ولكنهم مع هذه القاعدة على الخصوص، ومع القواعد التي تشبهها معصومون في هذا الاستنباط، لأنهم يستندون فيه إلى الدلائل القطعية التي لا يرقى إليها شك..

لقد قال الله تعالى يقرر هذه القاعدة:﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(البقرة: من الآية185)، وقال:﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)(المائدة: من الآية6)، وقال:﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:78)

ومثل ذلك ما ورد في الأحاديث، مثل قوله r:(بعثت بالحنيفية السمحة)[10]

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قيل: يا رسول الله، أي الأديان أحب إلى الله؟ فقال r:( الحنيفية السمحة)[11]، وقال r:( إن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)[12]، وقال r:( إن الله شرع الدين فجعله سهلا سمحا واسعا ولم يجعله ضيقا)[13]، وقال r:( إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره)[14]، وقال r:( إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بهم العسر)[15] 

وقد مارس رسول الله r ـ الذي تنسبه إلى التطرف ـ هذا السلوك في أوسع مجالاته، وفي كل مجالاته، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:( ما خير رسول الله r بين أمرين، إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما)[16] 

التفت إلى الجمع، وقال: سأسرد لكم بعض الأحداث التي وقعت في عهده r، والتي تدل على مدى تيسيره r على أمته، ومدى حرصه على رفع الحرج عنها. 

قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: ( بينما نحن جلوس عند النبي r إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله r: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا، قال: فمكث النبي r، فبينا نحن على ذلك أتي النبي r بعرق فيها تمر ـ والعرق: المكتل ـ قال: أين السائل؟ فقال: أنا، قال: خذها فتصدَّق بها فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها ـ يريد الحرتين ـ أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي r حتى بدت أنيابه ثم قال:( أطعمه أهلك )[17]

وحدث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r جالسا في المسجد، وأصحابه معه، إذ جاء أعرابي، فبال في المسجد، فقال أصحابه: مه، مه، فقال رسول الله r:( لا تزرموه، دعوه)، ثم دعاه، فقال له:( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء ـ أو كما قال رسول الله r ـ إنما هي لقراءة القرآن، وذكر الله، والصلاة)، ثم قال رسول الله r لرجل من القوم:( قم فائتنا بدلو من ماء)، فشنه عليه، فأتاه بدلو من ماء، فشنه عليه[18].

التفت إلى الجمع، وقال: هل رأيتم مثل هذه البساطة والتيسير والرفق.. رجل يبول في مسجده المقدس الذي هو من أشرف مساجد الدنيا، فلا يزيد على أن يعلمه ويوجهه من غير أن يعنفه أو يوبخه.

وحدث جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت أصلي مع النبي r الصلوات، فكانت صلاته قصداً[19]وخطبته قصداً[20].

وحدث الحكم بن حزن الكلفي قال: قدمت على عهد رسول الله r سابع سبعة، أو تاسع تسعة، فأذن لنا، فدخلنا، فقلنا: يا رسول الله أتيناك لتدعو لنا بخير، فدعا لنا بخير، وأمر بنا فأنزلنا، وأمر لنا بشئ من تمر والشان إذ ذاك دون، فلبثنا بها أياما شهدنا بها الجمعة مع النبي r، فقام متوكئا على قوس أو عصا، فحمد الله، وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم قال:( أيها الناس إنكم لن تطيقوا، ولن تفعلوا، كل ما أمرتم ولكن سددوا وأبشروا)[21]

ولهذا كان r يتشدد مع المتشددين، بل يخبر بهلاكهم في تشددهم، قال r:( هلك المتنطعون[22])، قالها ثلاثاً[23].

وشبه r هؤلاء المتنطعين المتشددين بالمنبت[24]، فقال:( إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فان المنبت لا أرضا قطع ولاظهرا أبقى)[25]

وبما أن الحماسة كانت تتقد في قلوب أصحابه r، فتدفعهم إلى المبالغة في الأعمال والتشدد فيها حرصا على مرضاة الله تعالى، فقد كان النبي r يصحح لهم ذلك، ويأمرهم بالتوسط والاعتدال، ويخبرهم بأن الله يحب أن تؤتى رخصه بقدر ما يحب أن تؤتى عزائمه[26].

ومما يروى في ذلك ما روي أن أن معاذا ـ رضي الله عنه ـ أم قومه ليلة في صلاة العشاء بعد ما صلاها مع النبي r، فافتتح سورة البقرة، فتنحى رجل من خلفه وصلى وحده، فقال له: نافقت، ثم ذكر ذلك للنبي r، فقال الرجل: يا رسول الله إنك أخرت العشاء، وإن معاذا صلى معك ثم أمنا، وافتتح سورة البقرة، وإنما نحن أصحاب نواضح نعمل بأيدينا، فلما رأيت ذلك تأخرت وصليت، فقال r:( أفتان أنت يا معاذ؟ اقرأ سورة كذا، اقرأ سورة كذا)[27] 

وحدثت عائشة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r دخل عليها، وعندها امرأةٌ، فقال: من هذه؟ قالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها، قال:( مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله[28]حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه)[29]

وذكر أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r دخل المسجد، فإذا حبلٌ ممدودٌ بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟، قالوا: هذا حبلٌ لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال النبي r:( حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد)[30]

وحدث بريدة الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: خرجت ذات يوم لحاجة، وإذا أنا بالنبي r يمشي بين يدي، فأخذ بيدي، فانطلقنا نمشي جميعاً، فإذا نحن برجل يصلي يكثر الركوع والسجود فقال النبي r:( أتراه يرائي؟)، فقلت: الله ورسوله أعلم، فترك يده من يدي، ثم جمع يديه، فجعل يصوبهما ويرفعهما ويقول:( عليكم هدياً قاصداً عليكم هدياً قاصداً عليكم هدياً قاصداً، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه)[31]

وفي رواية عنه أن النبي r سمع رجلا يصلي يقرأ، فقال لبريدة: أتعرف هذا؟ قلت: نعم يا رسول الله، هذا أكثر أهل المدينة صلاة، فقال النبي r:( لا تسمعه فيهلك، إنكم أمة أريد بكم اليسر)[32]

وحدث جعدة بن هبيرة قال: ذكر للنبي r مولى لبني عبد المطلب يصلي ولا ينام، ويصوم ولا يفطر، فقال:( أنا أصلى، وأنام، وأصوم وأفطر، ولكل عمل شرة ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى السنة فقد اهتدى، ومن تكن إلى غير ذلك فقد ضل)

وروي أن ثلاثة رهطٍ جاءوا إلى بيوت أزواج النبي r، يسألون عن عبادة النبي r، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا: أين نحن من النبي r قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال: أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله r إليهم فقال:( انتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)[33]

وحدث ابن عباسٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما النبي r يخطب إذا هو برجلٍ قائمٍ، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي r:( مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه)[34] 

وحدث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ عن نفسه قال: أخبر النبي r أني أقول: والله لأصومن النهار، ولأقومن الليل ما عشت، فقال رسول الله r: أنت الذي تقول ذلك؟ فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: فإنك لا تستطيع ذلك؛ فصم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيامٍ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يومين، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود r، وهو أعدل الصيام ـ وفي رواية: هو أفضل الصيام ـ فقلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. فقال رسول الله r: لا أفضل من ذلك، قال عبد الله: ولأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله r أحب إلي من أهلي ومالي[35].

وفي روايةٍ: ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟، قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل: صم وأفطر، ونم وقم فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن بحسبك أن تصوم في كل شهرٍ ثلاثة أيامٍ، فإن لك بكل حسنةٍ عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر، فشددت فشدد علي، قلت: يا رسول الله إني أجد قوةً، قال: صم صيام نبي الله داود ولا تزد عليه، قلت: وما كان صيام داود؟ قال: نصف الدهر فكان عبد الله يقول بعدما كبر: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله r.

وحدث حنظلة بن الربيع الأسيدي ـ رضي الله عنه ـ عن نفسه، فقال: لقيني أبو بكرٍ، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله ما تقول؟! قلت: نكون عند رسول الله r يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عينٍ، فإذا خرجنا من عند رسول الله r عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقي مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله r فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله r: وما ذاك؟، قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عينٍ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. فقال رسول الله r:( والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً ثلاث مراتٍ)[36]

وقد فقه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ هذه الدروس التربوية، فصار يربي بعضهم بعضا على معانيها، ومما يروى في ذلك ما حدث به أبو جحيفة وهب بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: آخى النبي r بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلةً فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجةٌ في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل فإني صائمٌ، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال له: نم فنام، ثم ذهب يقوم فقال له: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا جميعاً، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه، فأتى النبي r، فذكر ذلك له، فقال النبي r:( صدق سلمان)[37]

المقاصدية:

قال رجل من القوم: فحدثنا عن الضابط الثاني.

قال الحكيم:  جميع الشرائع التي جاء بها نبينا r تتصف بالمقاصدية.

أرسل بات روبرتسون ضحكة عالية، ثم قال: المقاصدية!؟.. ما المقاصدية؟

قال الحكيم: إن الله الحكيم الذي لم يخلق العبث لم يشرع العبث.. ولذلك فإن من مزايا الشريعة أن كل شيئ فيها مفهوم الغاية واضح المقصد، يفهمه كل ذي عقل ببساطة ويسر، فيستحيل أن يقول العقل شيئا، ويقول الشرع خلافه.

قال بات روبرتسون: أتتيه علي بشريعتكم.. كل دين يقول أهله هذا.

قال الحكيم: فأنبئني عن الحكمة من الشرائع التي وردت في العهد القديم، والتي تختص بالمرأة الحائض.. لاشك أنك تعرفها، ولا شك أنك تعرف كثرتها.

سكت بات روبرتسون، فقال الحكيم: سأقرأ عليك بعض النصوص التي تدل عليها.. لقد جاء في (سفر اللاويين:15: 19 -27) هذ النص.. واسمح لي أن أقرأه لك بطوله.. (وإذا حاضت المرأة فسبعة أيام تكون في طمثها، وكل من يلمسها يكون نجسا إلى المساء. كل ما تنام عليه في أثناء حيضها أو تجلس عليه يكون نجسا، وكل من يلمس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء. وكل من مس متاعا تجلس عليه، يغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء. وكل من يلمس شيئا كان موجودا على الفراش أو على المتاع الذي تجلس عليه يكون نجسا إلى المساء. وإن عاشرها رجل وأصابه شيء من طمثها، يكون نجسا سبعة أيام. وكل فراش ينام عليه يصبح نجسا. إذا نزف دم امرأة فترة طويلة في غير أوان طمثها، أو استمر الحيض بعد موعده، تكون كل أيام نزفها نجسة كما في أثناء طمثها. كل ما تنام عليه في أثناء نزفها يكون نجسا كفراش طمثها، وكل ما تجلس عليه من متاع يكون نجسا كنجاسة طمثها. وأي شخص يلمسهن يكون نجسا، فيغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء)

التفت الحكيم إلى بات روبرتسون، وقال: أرأيت هذه التفاصيل المشددة التي تجعل المرأة الحائض كالكلب العقور يخشى الكل من الاقتراب منه.. تخيل المرأة يأتيها الطمث لمدة سبعة أيام تكون فيها نجسة ومنبوذة من الآخرين، ثم تستمر بعد فترة نجاستها أسبوعا آخر، أى نصف شهر، وهذا يعنى نصف سنة.. أي أنها ستظل نصف عمرها نجسة منبوذة.

ليس هذا فقط هو كل شريعة التوراة المرتبطة بالحائض.. هناك تكاليف أخطر.. اسمع..:« وفي اليوم الثامن تأخذ لنفسها يمامتين أو فرخي حمام وتأتي بهما الى الكاهن الى باب خيمة الاجتماع. فيعمل الكاهن الواحد ذبيحة خطية والآخر محرقة ويكفر عنها الكاهن أمام الرب من سيل نجاستها »(اللاويين ( 15: 29 -30)

هل ترى هذا حكما معقولا.. إن المرأة في العادة تستحي من علم أي أحد بحيضها، فكيف تفعل هذا أمام الناس، وأمام الكاهن.. ثم ما جريمتها حتى تصبح نجسة.. ولماذا ترتبط أكثر أحكام التوراة بالحمام والكباش والشواء!؟

ومثل ذلك أحكام النفاس في الكتاب المقدس.. اسمع:« إذا حملت امرأة وولدت ذكرا، تظل الأم في حالة نجاسة سبعة أيام، كما في أيام فترة الحيض... وعلى المرأة أن تبقى ثلاثة وثلاثين يوما أخرى إلى أن تطهر من نزيفها، فلا تمس أي شيء مقدس، ولا تحضر إلى المقدس، إلى أن تتم أيام تطهيرها. وإن ولدت أنثى فإنها تظل في حالة نجاسة مدة أسبوعين كما في فترة الحيض، وتبقى ستة وستين يوما حتى تتطهر من نزيفها »( اللاويين: 12: 1 -5)

ألا ترى الجور الذي تحمله هذه النصوص على الإناث؟.. ألا ترى كيف تجعل مدة طهارة المرأة في حال كون المولود أنثى ضعف طهارة كون المولود ذكرا!؟

التفت الحكيم إلى الجمع، وقال: إن هذه التعاليم جميعا تخلو منها شريعة محمد r لسبب بسيط، وهو أن هذه الشريعة شريعة مقاصدية تلاحظ علل الأحكام وأغراضها، ولهذا ذكر تعالى حكم الحائض وعلته بقوله:﴿ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة:222)

انظر.. الآية الكريمة تكتفي بتحريم إتيان الحائض، وتعلل ذلك بعلة معقولة لم تزدها الأيام إلا قوة[38].. لقد اعتبرت الأذى مقصورا على محله، ولم تتعداه إلى غيره.

لقد ورد في الحديث عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي r فأنزل الله تعالى الآية السابقة، فقال رسول الله r:( اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه[39].

التفت الحكيم إلى بات روبرتسون، وقال: هذا مجرد نموذج عن المفارقة الكبرى بين تشريعات الإسلام، وتشريعات اليهودية والمسيحية.. ومثلها سائر الديانات..

الإسلام ينطلق في كل تشريع من المقاصد التي تجتمع جميعا بتفاصيلها وفروعها لتخدم الإنسان فردا ومجتمعا وفق نظام دقيق وتشريعات محكمة..

حتى ما يظهر أنه جوانب تعبدية محضة فإن الشريعة تربطها بالمقاصد التي تخدم الإنسان، وتخدم الإنسانية، لقد قال الله تعالى في الصلاة مبينا دورها التربوي النفسي:﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت:45)، وقال:﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة:45)

وأما خدمتها للإنسانية، فقد شرع الله للمسلمين أن يصلوا جماعة في المسجد ليؤلف ذلك بين قلوبهم ويزيد المودة بينهم، قال تعالى:﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)﴾ (النور)

وهكذا الأمر بالنسبة للصيام، فقد قال تعالى معللا الحكمة منه:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)

وهكذا الأمر بالنسبة للتشريعات المرتبطة بالطهارة، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة:6)

أما في جوانب المعاملات المختلفة، فإن الشريعة تنطلق فيها من رعاية المصالح التي تحفظ الحقوق، وترعى الحرمات، وتسد كل منافذ الخلل التي قد يتسرب منها الجور، أو تنتشر منها القسوة.. فالشريعة رحمة كلها عدالة كلها. 

 

 

 

 

 

3 ـ المواقف

التفت الحكيم إلى الطريق، وأشار إلى شرطي كان يقف في الطريق، وقال: أرأيت إلى هذا الشرطي الهادئ الوديع المسالم؟

قال بات روبرتسون: وكيف لا أراه.. إلا إذا كنت متطرفا مسلما؟

قال الحكيم: فهل ستراه يظل على هدوئه ووداعته ومسالمته إن رأى من يخالف القانون أو يعتدي على المارة؟

قال بات روبرتسون: لا.. بل سينقلب حينها وحشا كاسرا.

قال الحكيم: تقصد أنه عند ملاقاته للصوص والمجرمين ينقلب من الاعتدال إلى التطرف.

قال بات روبرتسون: لا.. بل يظل معتدلا.. بل إنه لو بقي في مكانه لم يحرك ساكنا إن رأى المجرمين كان شريكا لهم في جرائمهم.

قال الحكيم: فإن اضظره ذلك السلوك العنيف إلى استعمال السلاح.

قال بات روبرتسون: لا حرج عليه في استعماله ما دام أعداء السلام يستعملونه.

قال الحكيم: فقد أقررت إذن بجميع القوانين التي تحكم على المواقف بكونها معتدلة أو متطرفة.

قال بات روبرتسون: لم أفهم ما الذي تقصده؟

قال الحكيم: لقد فخرت على محمد r بمقولة المسيح:( دع ما لقيصر لقيصر)..

قال بات روبرتسون: أجل فعلت ذلك.. ولا أزال مصرا عليه.

قال الحكيم: فإذا قال هذا الشرطي (دع ما للص للص).. و(دع ما للمجرم للمجرم) هل تقبل منه ذلك؟

قال بات روبرتسون: الحكيم ذكر قيصرا ولم يذكر المجرمين.

قال الحكيم: فإذا تحول المجرمون إلى قياصرة.. أو تحول القياصرة إلى مجرمين..

قال بات روبرتسون: فأنت تزعم بأن محمدا وأتباعه شرطة.. أو يمارسون وظائف الشرطة.

قال الحكيم: إن كانت وظيفة الشرطة هي حفظ الأمن والسلام والحريات من أن تنتهك أو تخترق، فإن محمدا r وجميع أمته كلفوا بأن يكونوا شرطة يحفظون السلام في العالم لحفظ المستضعفين من بطش المستكبرين.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، وسماه شهادة، فقال:﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ (البقرة: من الآية143)

فمن معاني الشهادة هذه الوظيفة الخطيرة التي انتدب لها كل مؤمن، بل كل حر في العالم.. فلا يمكن للحر أن يرى اللصوص ثم يسكت عليهم، أو يرى المجرمين، ثم يغض الطرف عنهم.

قال بات روبرتسون: فهذا هو الذي جعل الإسلام دين سيف إذن؟

قال الحكيم: الأصل في استعمال السيف في الإسلام الحرمة.. فالمسلم لا يسل سيفه إلا للضرورة القصوى التي استدعت ذلك.

قال بات روبرتسون: فلماذا سل الإسلام سيفه إذن على الأمم؟

قال الحكيم: الإسلام لم يسل سيفه على أي أمة من الأمم.

قال بات روبرتسون: فأنت لا تقرأ التاريخ إذن.

قال الحكيم: لقد سل الإسلام سيفه على أولئك الأباطرة الذين وقفوا سدا بين الشعوب والحرية التي أتاحها الله لهم.

سكت قليلا، ثم قال: ما دمت قد قارنت بين المسيحية والإسلام.. فسأضرب لك مثلين عن شعبين، وكيف تعامل معهم قومك، وكيف تعامل معهم قومي.

أما أولهما، فمصر.. لقد قال نبينا r يوصينا بمصر، وبأهل مصر:( إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا)[40]، وفي حديث آخر قال رسول الله r:( ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط[41]، فاستوصوا بأهلها خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا)[42]

ومنذ أوصى النبي r بهذه الوصية، وأهل مصر ينعمون بسماحة الإسلام ورحمة الإسلام، فلم تمتد إليهم يد تؤذيهم، ولا لسان يجرحهم، بل تحول المصريون إلى حماة للإسلام، ومدافعين عنه، بل أصبحت مصر بعد فترة وجيزة عاصمة الإسلام.

قارن هذا بما فعله أهل دينك بالمصريين الذين لم يفرحوا بشيء كفرحهم بالفتح الإسلامي.

قال رجل من القوم: هذا هو النموذج الأول.. ونحسب كل الأدلة معك فيه، فلا يزال الأقباط المصريون أكبر شاهد على مدى تسامح الإسلام مع المصريين في جميع فترات تاريخه، فحدثنا عن النموذج الثاني. 

قال الحكيم: النموذج الثاني هم اليهود..

هنا انتفض بات روبرتسون انتفاضة شديدة، فقد كان يحن لليهود أكبر من حنينه للمسيح نفسه، وقال: أتذكر اليهود.. وتنسى ما فعل نبيكم باليهود[43].

قال الحكيم: لن أتحدث عن موقف قومك من اليهود، فأنت أدرى الناس به.. ولكني سأحدثك عن موقف نبينا r..

ولو تأملت المعاهدات التي صدرت عن النبي r لوجدتها عين التسامح والموادعة والمساواة، ومن هذه المعاهدات إعلان دستور المدينة الذي اشتمل على سبع وأربعين فقرة، ومما ورد فيها من الحديث عن اليهود: (إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين).. و(وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه[44]وأهل بيته).. و( إن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم )[45] .. و( إذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصلحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين).. و(إن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره).. و( إنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله r)[46]

وقد حافظ رسول الله r على ما اقتضته هذه المعاهدة إلى أن خانوها بأنفسهم، فلقوا إثم خيانتها[47]..

لقد كانت أفواه اليهود في ذلك الوقت تلقي بسمومها على رسول الله r والمسلمين.. ومع ذلك لم يكن المسلمون ولا رسول الله r يقابلونهم إلا بالجدال بالتي هي أحسن، أو غض الطرف عما يقولون.

حدث أنس ـ رضي الله عنه ـ فذكر ( أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت[48]، فسأل أصحاب النبيِّ r النبيَّ r فأنزل الله تعالى:﴿ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة:222)، فقال رسول الله r:( اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول: كذا وكذا، فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صل حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي r، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما[49].

وعند ما قتل أحد الصحابة في أحد أحياء اليهود في خيبر رضي r وقبل يمين اليهود إذ أقسموا أنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله، فعن بشير بن يسار قال: ( زعم أن رجلًا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر، فتفرقوا فيها فوجدوا قتيلًا، وقالوا للذي وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا وما علمنا قاتلًا، فانطلقوا إلى النبي r فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلًا، قال: الكُبرَ الكبرَ، فقال لهم: تأتون البينة على من قتله؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله r أن يُطَّلَّ دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة[50].

التفت إلى بات روبرتسون، وقال: هل رأيت نبلا كهذا النبل، أو كرما كهذا الكرم[51].. لقد فعل ذلك مع كونه في موضع قوة، يستطيع أن يفرض بها ما يشاء على من يشاء.

سكت الحكيم قليلا، ثم قال: وهذه المواقف المملوءة بالتسامح والرحمة واللطف كانت هي القاسم المشترك في جميع معاملات النبي r مع جميع أصناف الخلق.

حدث عبد الله بن مغفل المزني، قال: كنا مع رسول الله r بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله، وكأني بغصن من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله r، فرفعته عن ظهره، وعلي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله r: ( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)، فأخذ سهيل يده فقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال:( اكتب باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة)، فأمسك بيده فقال: لقد ظلمناك إن كنت رسولًا، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال:( اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنا رسول الله)، قال فكتب، فبينما نحن كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم النبي r، فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله r:( هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أمانًا)، فقالوا: لا، فخلى سبيلهم، فأنزل الله تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (الفتح:24)[52]

التفت إلى بات روبرتسون، وقال: لقد كان بإمكان رسول الله r أن يأسرهم أو أن يقتلهم، ولكن سماحته أبت عليه ذلك.

وعندما أظفر الله نبيه r على أعدائه الذين استعملوا كل الأساليب القذرة لحربه ماذا قال لهم؟

سكت الجمع، فقال: لقد قال لهم ‏:‏ ‏(‏يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم‏؟‏‏)‏، قالوا‏:‏ خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال‏:‏ (‏فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته‏:﴿ ‏لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ﴾ اذهبوا فأنتم الطلقاء‏)‏‏‏

قال بات روبرتسون: ولكن الإسلام الذي تزعم أنه أبدى تسامحا عجيبا في معاملة غير المسلمين كان شديد القسوة على المسلمين العصاة.. قارن ما وضع الإسلام من حدود شديدة بما حصل من المسيح مع تلك المرأة الخاطئة[53].

قال الحكيم: إن الحدود في الإسلام ليست إلا نوعا من الروادع التي تحفظ المجتمع من السقوط في حمأة الرذيلة، أوحمأة اللاأمن.. وهي مجرد إجراء من الإجراء لا أنها كل الشريعة كما يتوهم المتوهمون..

إن جميع العقوبات التي وضعها الإسلام للردع عن الجريمة لا تعدو سبع عقوبات، وكلها تمس طهارة المجتمع الذي جاءت تشريعات الإسلام لتحافظ على طهارته، وهي الحرابة ( قطع الطريق )، والردة، والبغي، والزنا، والقذف، والسرقة، وشرب الخمر.

وكل هذه الحدود لا تنفذ إلا بعد شروط شديدة، ومن السهل رفعها بأي شبهة من الشبهات.

سأضرب لك مثالا على ذلك بحد الزنا.. هذا الحد الذي شرعه الله لتطهير المجتمع من الانحراف.

فهذا الحد في الشريعة لم يأمر به الإسلام إلا بعد أن امتلأ المجتمع نظافة وطهارة، ثم لم يأمر بتنفيذه إلا في ظل ضوابط شديدة تكاد تحيل وقوعه إلا بالنسبة لجريء على قيم المجتمع غير مبال بتخريبها.

لقد قال تعالى يذكر البينة التي على أساسها يقوم الحد:﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:4)

إن البينة التي ذكرتها هذه الآية الكريمة لا يمكن تحققها إلا في إنسان وقح لا يراعي لنفسه، ولا للمجتمع أي حرمة.

ولهذا يندر أن يقع مثل هذا.. بل لم يثبت مثل هذا، فلم نسمع في تاريخ المسلمين أن أُقيم حد الزنا بتوافر أربعة شهود.

سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثالا كان رسول الله r يعلم فيه بأن امرأة وقعت في الزنا، وهي محصنة، ومع ذلك لم يقم عليها رسول الله r الحد، ولم يعمل علمه في إقامة الحد عليها، روي أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي r بشريك بن سمحاء، فقال النبي r:( البينة أو حدِّ في ظهرك)، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البيّنة؟ فجعل النبي r يقول:( البيّنة وإلا حد في ظهرك)، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه قوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) (النورفانصرف النبي r فأرسل إليها فجاء هلال فشهد، والنبي r يقول:( إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟)، ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها، وقالوا: إنها موجبة، قال ابن عباس: فتلكّأت، ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي r:( أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الإليتين خدلّج الساقين فهو لشريك بن سمحاء)، فجاءت به كذلك، فقال النبي r:( لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن)[54] 

قال بات روبرتسون: ولكن محمدا أقام الحد على ماعز.

قال الحكيم: لم يقمه النبي r إلا بعد إلحاح شديد من ماعز بأن يقيم عليه الحد ليطهره من إثمه.. سأحكي لك القصة.. فمن خلال الأحداث وحدها تعرف روح التسامح التي كان يتعامل بها محمد r مع المذنبين.

لقد روي أن ماعز بن مالك جاء إلى النبي r، فقال: يا رسول الله، طهرني، فقال: ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء، فقال: يا رسول الله، طهرني، فقال رسول الله r: ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء، فقال: يا رسول الله، طهرني، فقال النبي r مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة، قال له رسول الله r: فيم أطهرك؟ فقال: من الزنا، فسأل رسول الله r: أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: أشرب خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله r: أزنيت[55]؟ فقال: نعم، فأمر به فرجم، فكان الناس فيه فرقتين، قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، أنه جاء إلى النبي r، فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة، قال: فلبثوا بذلك يومين، أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله r وهم جلوس، فسلم، ثم جلس، فقال: استغفروا لماعز ابن مالك، قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك، قال: فقال رسول الله r:( لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم)[56]

التفت إلى بات روبرتسون، وقال: ألا ترى حرص رسول الله r على عدم إقامة الحد على الرجل، والاكتفاء بتوبته.. ولكن الرجل أصر، ولولا أنه أصر لما أقام عليه النبي r الحد[57].

قال بات روبرتسون: أتقصد بأن ماعزا لو لم يأت ليقر بذنبه ما أرسل محمد شرطته ليبحثوا عنه، ويستجوبوه؟

قال الحكيم: أجل.. فالمسلم لا يتتبع عورات الناس، ليفضحهم.. ولهذا فإن المذنب الذي يكتفي بستر الله له، ثم يتوب إلى الله من غير أن يقام عليه حد، فإن الله يتوب عليه إلا إذا استوجب ذنبه حقا من الحقوق، فإن يجب عليه إرجاعه.

لقد ذكر ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r بعد أن أقام الحد على ماعز الأسلمي، قام فقال: (اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها، فمن ألمّ في شيء منها فليستتر)[58] 

بل قد روي أن النبي r عاتب هزالا ـ وهو الرجل الذي دفع ماعزاً للاعتراف عند النبي r ـ وقال له:( لو سترته لكان خيراً لك)

وقد فقه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ هذه الدروس، فلهذا كانوا أبعد الناس عن تتبع عورات الناس، عن عبد الرحمن بن عوف: أنه حرس ليلة مع عر بالمدينة، فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه، إذا باب مجاف ( أي مغلق ) على قوم، لهم فيه أصوات مرتفعة، فقال عمر ـ وأخذ بيد عبد لرحمن ـ:  أتدري بيت من هذا؟ قال: لا، قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب ( أي يشربون الخمر ) فما ترى؟ قال عبد الرحمن: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه: نهانا الله عز وجل، فقال: ( ولا تجسسوا)، فقد تحسسنا! فانصرف عمر عنهم وتركهم )[59]

ويروى أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقد رجلا من أصحابه، فقال لابن عوف: انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر، فأتيا منزله، فوجدا بابه مفتوحا، وهو جالس ومرأته تصب له في الاناء فتناوله إياه، فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا، فقال ابن عوف لعمر: وما يدريك ما في الاناء؟ فقال عمر: أتخاف أن يكون هذا التجسس؟ قال: بل هو التجسس، قال: وما التوبة من هذا؟ قال: لا تعلمه بما اطلعت عليه من أمره، ولا يكونن في نفسك إلا خير، ثم انصرفا[60].

بل إن المذنبين ـ من فرط تسامح الولاة معهم ـ صاروا يتبجحون عليهم، وينتقدون من يبحث عن عوراتهم، حدث الحسن قال: أتى عمر رجل فقال: إن فلانا لا يصحو فدخل عليه عمر، فقال: إني لأجد ريح شراب يا فلان أية أية هذا؟ فقال الرجل: يا ابن الخطاب، وأية أية هذا ألم ينهك الله أن تجسس؟ فعرفه عمر فانطلق وتركه[61].

وعن ثور الكندي أن عمر بن الخطاب كان يعس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنى، فتسور عليه، فقال: يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت في معصيته؟ فقال: وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل علي، إن أكن عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاث، قال:﴿ وَلا تَجَسَّسُوا )(الحجرات: من الآية12)، وقد تجسست، وقال:﴿ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا )(البقرة: من الآية189)، وقد تسورت علي، وقد دخلت علي بغير إذن وقال الله تعالى:﴿ لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا )(النور: من الآية27)، قال عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، فعفا عنه، وخرج وتركه[62].

وعن زيد بن وهب، قال: أتى رجل ابن مسعود، فقال: هل لك في الوليد بن عقبة، ولحيته تقطر خمراًٍ؟! فقال: إن رسول الله r نهانا من التجسس، إن يظهر لنا نأخذه[63].

سكت قليلا، ثم قال: بل إن النبي r كان يحث على الستر، وعلى عدم تتبع عورات المسلمين، ويخبر عن الجزاء العظيم المعد لذلك، وذلك ما يمنع من استيفاء الأركان التي يقام بها الحد.. فالحد لا يقام إلا بالشهود، قال r:( من ستر أخاه المسلم في الدنيا، ستره الله في الدنيا والآخرة)[64]، وقال r:( من رأى عورة فسترها، كان كمن استحيا موؤودة من قبرها)[65]، وقال r:( من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته)[66]

سكت قليلا، ثم قال: أتدري.. لقد روي أن ماعز بن مالك فرّ حين وجد مسّ الحجارة ومسّ الموت فقال رسول الله r:( هلا تركتموه؟)[67] 

وفي رواية: وجد مسّ الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردوني إلى رسول الله r فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله r غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله r وأخبرناه، قال: فهلا تركتموه وجئتموني به[68].

قال بات روبرتسون: فأنت بهذه النصوص التي تنقلها تكاد تلغي أهم ما يطلبه أولئك المتطرفون الذين يريدون تطبيق الشريعة.

قال الحكيم: إن كان تطبيق الشريعة في تصورهم هو مجرد تطبيق الحدود، فقد أساءوا فهم الشريعة.. فالحدود في الشريعة زواجر لا انتقام.. وهي في ذلك كأسلحة الردع التي تخزنها الدول في مخازنها، لا لتنتقم بها، وإنما لتحافظ بها على سلطتها ومهابتها.

ولهذا ورد في الحديث ( تعافوا الحدود بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب)[69]

وقد ذكر ابن مسعود هيئة رسول الله r عند إقامة بعض الحدود، فقال: ( إني لأذكر أول رجل قطعه رسول الله r أتى بسارق، فأمر بقطعه، وكأنما أسف[70]وجه رسول الله r، فقالوا: يا رسول الله، كأنك كرهت قطعه؟ قال: ( وما يمنعني؟ لا تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم! إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد إلا أن يقيمه، إن الله عفو يحب العفو:﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(النور: من الآية22)

بل كان الرجل يأتي إلى النبي r، فيعترف بأنه أتى ما يوجب الحد، فلا يسأله عن هذا الحد: ما هو؟ وكيف اقترفه؟ بل يعتبر اعترافه هذا ـ الذي قد يعرضه للعقوبة ـ توبة من ذنبه، وندماً على ما فرط منه، فهو كفارة له، فقد روى أبو داود في باب ( في الرجل يعترف بحد ولا يسميه) عن أبي أمامة: أن رجلاً أتى النبي r فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقمه علي. قال: ( توضأت حين أقبلت )؟ قال: نعم. قال: ( هل صليت معنا حين صلينا )؟ قال: نعم. قال: ( اذهب، فإن الله تعالى قد عفا عنك)[71]

ولأجل هذا ذهب العلماء إلى أن من حق الإمام أو القاضي أن يسقط الحد بالتوبة إذا ظهرت أماراتها.

سكت قليلا، ثم قال: ليس ذلك فقط.. بل إن النصوص المقدسة تأمرنا بالإحسان إلى المذنبين.. ونسيان ما بدر منهم من إساءة إلينا، لقد ورد في سبب نزول قوله تعالى:﴿ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور:22) أن الآية نزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، وعندما نزلت الآية قال الصديق: بلى، والله إنا نحب يا ربنا أن تغفر لنا، ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا.

تصور.. هذا الدين الذي ملأ قلوب أهله بالسماحة حتى صار الرجل الذي هو وزير النبي r وصاحبه يحسن إلى من قذف ابنته في عرضها.. وابنته هذه هي زوجة رسول الله r..

فهل ترى في جميع حياة الزعماء والقادة مثل هذا الموقف!؟

4 ـ الحياة

التفت الحكيم إلى الحاضرين، وقال لبات روبرتسون: أترى هؤلاء الحاضرين؟

قال الحكيم: أعمى أنا.. أو متطرف أنا.. إن لم أكن أراهم.

قال الحكيم: أنت ترى بأن لكل واحد من هؤلاء حياته الخاصة، وأسلوب تفكيره، وما يحب، وما يبغض.. وكل هؤلاء لا يحب أحد أن يتدخل في خصوصياته.

قال بات روبرتسون: نعم.. ما علاقة هذا بما نحن فيه؟

قال الحكيم: ألست ترى بأن أخطر تطرف هو أن نفرض على الناس أسلوبا معينا في الحياة؟

قال بات روبرتسون: أجل.. وذلك ما فعله الإسلام.

قال الحكيم: بل ذلك ما يريد قومك أن يفرضوه بكل الطرق، ثم يعتبرون من يقع أسيرا للأنماط التي يريدون فرضها للحياة وللأحياء حرا.. ويعتبرون المتحرر منها متطرفا.

قال بات روبرتسون: لم أفهم ما الذي تقصده؟

قال الحكيم: لقد سمى النبي r العصر الذي نحن فيه عصر استبداد، فقال:( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عضوضا فتكون ما شاء الله، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم ملكا جبرية ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)[72] 

أتدري ما الفرق بين الملك العضوض، والملك الجبرية؟

قال بات روبرتسون: لا.. هذه المصلطحات لم تدخل دوائر معارفنا بعد.

قال الحكيم: هذه المصظلحات هي التي جاء بها نبينا r لينبه العامة والخاصة في كل الأحقاب إلى البحث عن الحياة الحرة التي لا يتسلط عليها أهل الملك العضوض، ولا أهل الملك الجبري.

قال بات روبرتسون: فمن هما؟

قال الحكيم: أهل الملك العضوض هم الذين ابتليت بهم البشرية في أكثر عهودها، وهو ملك يقوم على الجباية.. ودور الحاكم فيه أن يسلب أموال رعيته، فإن لم يكن لها أموال عضها ليمص بعض دمائها.

وأما أهل الملك الجبري، فهم الذين لا يكتفون بسلب الرعية أموالها، وإنما يسلبون منها حريتها، فيفرضون عليها كيف تفكر، وكيف تعيش، وما تأكل، وما تلبس.

قال بات روبرتسون: فأي بشر هم الذين ابتلوا بهذا النوع من الحكم؟

قال الحكيم: قومي وقومك.. قومي ببعدهم عن الإسلام، وقومك بانحرافهم عن الفهم الصحيح لحقيقة الإنسان، وما تتطلبه حياة الإنسان.

طأطأ بات روبرتسون، وقال: في هذه الناحية أنت محق.. أنا أشعر بأن ساسة قومي متطرفون في سلوكهم مع الرعية.. ولكن هل تسمي ذلك استبدادا؟.. أنا لا أفهم الاستبداد إلا بقوانين الطوارئ التي تفرض عليكم كل حين.

قال الحكيم: أخطر استبداد أن لا يترك لك المستبد إلا خيارا واحدا هو الخيار الذي يختاره لك.. وقومك يمارسون هذا.. ولعلك أنت أيضا تمارسه من حيث تشعر، ومن حيث لا تشعر.

قال بات روبرتسون: لم أفهم..

قال الحكيم: ربما تكون لك.. أو كانت لك قناة إعلامية.. فرحت تملؤها بالإشهارات عن أصناف المأكولات والمشمومات والملبوسات.. وأنت لا يهمك ما يحويه ذلك من مضار ومنافع.. ولكن يهمك الكسب الذي ينال قناتك لتظل تؤدي رسالتها.

سكت قليلا، ثم قال: ليس هذا فقط.. بل لعلك كنت تشهر لأصناف السجائر..

قاطعه بات روبرتسون، وقال: فلنفرض حصول ذلك.. ألسنا نضع أسفل الإشهار عبارة (مضر بالصحة)

ابتسم الحكيم، وقال: وما تجدي تلك العبارة..

قال بات روبرتسون: يراها ناس فينفرون من السجائر.. فيحقق الإشهار عكس هدفه.

قال الحكيم: فضعوا نفس الإعلان في كل ما تشهرونه.. فأنت تشهرون كل شيء حتى الخنا والفجور تدعون إليه صباح مساء.. لتجعلوا حياة الناس موضوعة في قالب حديدي ختم عليه الشيطان لا يستطيعون منه فكاكا.

قال بات روبرتسون: ولكن الإسلام حين يقيد الناس بتلك التوجيهات يملؤها بالضيق.

قال الحكيم: لقد ذكرت لك أن الإسلام يتيح لكل إنسانه حياته الحرة النظيفة.. فهو لا يتدخل في كل ما يستجم به الناس من أصناف اللهو واللعب بشرط واحد، وهو أن لا تكون مضرة بهم أو بمجتمعهم أو بحقيقتهم الإنسانية ووظيفتهم التي أرسلوا للأرض من أجلها.

سكت قليلا، ثم قال: لعل السبب في حكمك على الرسول r بالتطرف هو ما تراه من بعض المسلمين من عبوس وتجهم، ويعتبرون ذلك دينا.

قال بات روبرتسون: ذلك صحيح.. ألا تعتبر ذلك كافيا في الحكم بالتطرف؟

قال الحكيم: لقد ذكرت لك أنه لا يحكم على أحد إلا من خلال تصرفاته.. ولذلك، فلنرجع إلى رسول الله r وما تنص عليه كتب السنة والسيرة لنرى مدى صدق ارتباط ذلك برسول الله r.

لقد حدث زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ وقد طُلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله r، فقال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّ فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، قال:( فكل هذا أحدثكم عن رسول الله r؟)[73]

فقد كانت حياة رسول الله r ـ بحسب هذا الحديث ـ لا يختلف عن حياة سائر الناس، فلا تكلف فيها ولا تطرف.

وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ تذكر موقفا من المواقف التي عاشتها مع رسول الله r: كان عندي رسول الله r  وسودة بنت  زمعة  فصنعت حريرة، وهي دقيق  يطبخ بلبن أو  دسم، وجئت به، فقلت لسودة: كلي، فقالت: لا أحبه، فقلت: والله لتأكلن أو  لألطخن به وجهك، فقالت: ما أنا بذائقته، فأخذت بيدي من الصحفة شيئاً منه فلطخت به وجهها، ورسول الله r جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله r ركبتيه لتستقيد مني، فتناولت من الصفحة شيئاً فمسحت به وجهي! وجعل رسول الله r يضحك[74]. 

وكان r يمازح أصحابه، ويتطلف معهم في مزاحه، ومما روي في ذلك أن عجوزا قصدته، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها  r:( يا أم فلان، إنّ الجنة لا يدخلها عجوز! )، فبكت المرأة، لأنها أخذت الكلام على ظاهره، فأفهمها r أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزاً، بل شابة حسناء، وتلا عليها قول الله تعالى في نساء الجنة:) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرباً أتراباً ( (الواقعة: 35 ـ37)[75]

وجاء رجل يسأله أن يحمله على بعير، فقال له r:( لا أحملك إلا على ولد الناقة!) فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة؟! ـ  انصرف ذهنه إلى الحُوار الصغير ـ فقال r:( وهل تلد الإبل إلا النوق؟)[76]

ويروى أن أم أيمن جاءت إلى النبي r، فقالت: إن زوجي يدعوك، فقال r:(  ومن هو ؟.. أهوالذي بعينه بياض[77]؟)، قالت: والله ما بعينه بياض! فقال r:( بلى إنّ بعينه بياضاً )، فقالت: لا، والله، فقال r:( ما من أحد إلا بعينه بياض )[78]

وقد عُرف بعض الصحابة بالضحك في حياته r، وأقرهم r عليه، ومنهم النعيمان بن عمر الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ وهو ممن شهد العقبة الأخيرة، وشهد بدراً وأحداً، والخندق، والمشاهد كلها معه r.

ومن أحاديثه أنه كان لا يدخل المدينة طُرفة إلا اشترى منها، ثم جاء بها إلى النبي r، فيقول: هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها، أحضره إلى النبي r قائلاً: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول r:( أو لم تهده لي؟) فيقول:( إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله! )   فيضحك، ويأمر r لصاحبه بثمنه.

ومن نوادره أنه دخل أعرابي على النبي r، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري: لوعقرتها فأكلناها، فإنّا قد قرمنا إلى اللحم؟ ففعل، فخرج الأعرابي وصاح: واعقراه يا محمد! فخرج النبي r فقال:( من فعل هذا؟) فقالوا:  النعيمان، فاتبعه  يسأل  عنه حتى وجده  قد  دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، واستخفى تحت سرب لها فوقه جريد، فأشار رجل إلى النبي r حيث هو  فأخرجه فقال له:( ما حملك على ما صنعت؟ ) قال: الذين دلوك عليّ يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك قال: فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم غرمها للأعرابي.

ومما يروى عنه أن أبا  بكر  الصديق  ـ رضي الله عنه ـ خرج في تجارة إلى بصرى  قبل موت النبي r بعام، ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة، وكانا قد شهدا بدراً، وكان نعيمان على الزاد، فقال له سويبط ـ وكان رجلاً مزّاحاً ـ:( أطعمني )، فقال:( لا، حتى يجيء أبوبكر)، فقال: أما والله لأغيظنك، فمروا بقوم فقال لهم سويبط: تشترون مني عبداً؟ قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام، وهوقائل لكم: إني حر، فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه، فلا تفسدوا عليّ عبدي، قالوا: بل نشتريه منك، قال: فاشتروه منه بعشر قلائص، قال: فجاؤوا فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلاً، فقال نعيمان: إن هذا يستهزىء بكم، وإني حر، لست بعبد، قالوا: قد أخبرنا خبرك، فانطلقوا به، فجاء أبوبكر t، فأخبره سويبط فأتبعهم،  فرد  عليهم  القلائص وأخذه، فلما قدموا على النبي r أخبروه قال: فضحك النبي r وأصحابه منها حولاً.

قال بات روبرتسون: ولكن الإسلام مع ذلك يحرم الغناء.. مع أن النفس الشريفة ترغب فيه.

قال بات روبرتسون: النفس الشريفة والنفس الخبيثة ترغب فيه.. فلذلك أباح الإسلام ما تطلبه النفس الطيبة، ونهى عما تطلبه النفس الخبيثة.

لقد تعامل الإسلام مع الغناء كما تعامل مع الطعام والشراب وكل شيء [79].. فأباح الطيبات وحرم الخبائث.. وهو لم يحرمها لأجل ما فيها من متعة، وإنما حرمها لأجل ما فيها من ضرر.. فالإسلام لا يضاد الرغبات التي لا تعقب ألما..

لقد نص الله تعالى على قاعدة هذا، فقال:﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (لأعراف:32)

ومما يروى في هذا من سيرة رسول الله r ما حدثت به عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: لقد رأيت النبي r يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأمه[80].

ويروى أنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان والنبي r متغشٍ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فكشف النبي r عن وجهه وقال:( دَعْهُما يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّها أَيَّامُ عِيدٍ)

وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت النبي r يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال النبي r:( أَمناً يَا بَنِي أَرْفِدَةَ)، يعني من الأمن، ومن حديث عمرو بن الحارث عن ابن شهاب نحوه وفيه: تغنيان وتضربان.

وفي حديث أبي طاهر عن ابن وهب: والله لقد رأيت رسول الله r يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله r وهو يسترني بثوبه ـ أو بردائه ـ لكي أنظر إلى لعبهم ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا الذي أنصرف.

وقالت عائشة رضي الله عنها: دخل عليّ رسول الله r وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه، فدخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله r فأقبل عليه رسول الله r وقال:( دَعْهُما)، فلما غفل غمزتهما، فخرجتا. وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق والحراب فإما سألت رسول الله r وإما قال:( تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ) فقلت: نعم، فأقامني وراءه وخدّي على خده ويقول:( دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ) حتى إذا مللت قال:( حَسْبُكِ) قلت: نعم، قال:( فَاذْهَبِي)

التفت إلى بات روبرتسون، وقال: فهذه الأحاديث كلها في الصحيحين وهو نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام، وفيها دلالة على أنواع من الاستجمام المباح: ففيها إباحة اللعب، ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب، بل إن النبي r قال لهم:( دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ)، وهذا أمر باللعب والتماس له.. وفيها فعل ذلك في المسجد.. وفيها منعه لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما عن الإِنكار والتغيير وتعليله بأنه يوم عيد أي هو وقت سرور.. وفيها وقوفه طويلاً في مشاهدة ذلك وسماعه.. وفيها قوله r ابتداء لعائشة:( أَتَشْتَهِينَ أَنْ تَنْظُرِي؟).. وفيها أن رسول الله r كان يقرع سمعه صوت الجاريتين وهو مضطجع، فدل هذا على أن صوت النساء غير محرم، بل إنما يحرم عند خوف الفتنة.

قال بات روبرتسون: ولكن الفقهاء يخالفونك في كل ذلك؟

قال الحكيم: ديننا نأخذه من نبينا قبل أن نأخذه من أقوال الفقهاء.. بل إن أقوال الفقهاء نحاكمها إلى أحاديث نبينا، فإن وافقته قبلناها، وإلا رفضناها.

وما دمت قد ذكرت الفقهاء، فسأحكي لك قصة فقيه من كبار الفقهاء الأمة لترى الفرق بينه وبين المتنطعين المتشددين.

قال إبراهيم الحراني: حججت مع أمير المؤمنين الرشيد فدخلت مسجد رسول الله r ؛ فبينا أنا بين القبر والمنبر إذ أنا برجل حسن الهيئة خاضب، ومعه رجل في مثل حاله؛ فحانت مني التفاتة فإذا هو يقوس حاجبه ويفتح فاه، ويلوي عنقه ويشير بعينه، فتجوزت في صلاتي ثم سلمت فقلت: أفي مسجد رسول الله r تتغنى؟! فقال: قنعك الله خزية، ما أجهلك! أما في الجنة غناء؟ قلت: بلى لعمري فيها ما تشتهي النفس وتلذ الأعين، قال: أما نحن في روضة من رياض الجنة؟ قلت: لا! قال: واحرباه! أترد على رسول الله r قوله: بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة! فنحن في تلك الروضة. قلت: قبح الله شيخاً ما أسفهه! قال: بالقبر والمنبر لما أنصت إلي؟ فتخوفت ألا أنصت؛ فاندفع يغني بصوت يخفيه:

فليست عشيات الحمى برواجعٍ   إليك، ولكن خلّ عينيك تدمعا

بكت عيني اليسرى فلما زجرتها   عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

فوالله إن قمت إلى الصلاة لما دخل قلبي؛ فلما رأى ما نزل بي قال: يا بن أم، أرى نفسك قد استجابت وطابت، فهل لك في زيادة؟ قلت: ويحك! في مسجد رسول الله r قال: أنا والله أعرف بالله ورسوله منك، فدعنا من جهلك؛ ثم تغنى:

فلو كان واشٍ بالمدينة داره    وداري بأقصى حضرموت اهتدى ليا

وماذا لهم لا أحسن اللّه حفظهم    من الشأن في تصريم ليلى حباليا

فقال له صاحبه: يا بن أم؛ أحسنت والله، وعتق أهلك، لو كان أمير المؤمنين الرشيد في هذا الموضع لخلع عليك ثيابه طرباً. قال: فقمت وهما لا يعلمان من أنا، فدخلت على أمير المؤمنين فأعلمته الخبر؛ فقال: أدركهما لا يفوتانك.

فوجهت من جاء بهما، فلما دخلا عليه دخلا بوجوه قد ذهب ماؤها، وأنا قائم على رأسه، فقال: يا إبراهيم؛ هذان هما؟ قلت: نعم، فنظر إلي المغني منهما وقال: سعاية في جوار رسول الله r؟ فسري عن أمير المؤمنين بعض غضبه، وتبسم فقال: ما كنتما فيه؟ قالا: في خير قال: فماذا الخير؟ فسكتا. فقال للمغني منهما: من أنت؟ فابتدره جماعة فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا ابن جريج فقيه مكة، فقال: فقيه مكة يتغنى في مسجد رسول الله r، قال: يا أمير المؤمنين؛ لم يكن ذلك مني بالقصد للغناء، ولكني كنت أسمعت هذا المخزومي يعني صاحبه صوتين، فلم يزالا في قلبي حتى التقينا، فأحببت أن يأخذهما عني، فأخذهما، وحلف أني قد أحسنت، وأنه لو كان في الموضع أمير المؤمنين لخلع علي وسكت.

فقال الرشيد: تركت من الحديث شيئاً؟ قال: ما تركت شيئاً يا أمير المؤمنين. قال: والله لتقولن. قال: يا أمير المؤمنين، زعم أنك لو كنت في موضعه لخلعت علي ثياباً مشقوقةً طرباً.

فتبسم وقال: أما هذا فلا، ولكن نخلعها عليك صحيحةً فهي خير لك، ثم دعا بثياب فلبسها ونبذ ثيابه، وأمر له بعشرين ألف درهم ولصاحبه بعشرة آلاف درهم. وقال: لا تعودن لهذا. فقال صاحبه: إلا أن يحج أمير المؤمنين ثانية، فضحك وقال: ألحقوه بصاحبه في الجائزة.

***

بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (نيقتاس البيزنطي) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..

التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.

أما أنا.. فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



([1]) أشير هنا إلى قسيس إنجيلي يُدعى (بات روبرتسون)، وهو معروف باهتماماته السياسية، وتأييده المطلق لإسرائيل، وهو يمتلك عددا من المؤسسات الإعلامية، من بينها ( نادي الـ 700 ) وهو برنامج تلفزيوني يصل إلى عشرات الملايين في الولايات المتحدة، إضافة إلى محطة (البث النصراني) الفضائية التي تصل إلى 90 دولة في العالم بأكثر من 50 لغة، ومنها إذاعة الشرق الأوسط المتخصصة في التنصير في منطقة العالم العربي، وقد سعى إلى الترشيح لمنصب الرئيس الأمريكي عام 1988م، ويقف خلف إنشاء أقوى تحالف سياسي ديني في الحزب الجمهوري وهو التحالف النصراني، وهو يملك جامعة أصولية هي جامعة (بجينت pegent ) وقد ألقى كلاما قبيحا في برنامج ( هانتي وكولمز hannity & colmes ) والذي بثته قناة ( FOX NEWS ) حيث قال:( كان ـ أي محمد ـ مجرد متطرف ذو عيون متوحشة تتحرك عبثا من الجنون)

وقوله هذا هو الذي جعلنا نختاره لهذا الفصل.

([2]) ذكرنا هذا مراعاة للجانب الفني، أما الحقيقة، فهي أن أجساد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ لا يأكلها التراب، وقد ورد في الحديث الصحيح قوله r:( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، فقال رجل: يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ ـ يعنى بليت ـ فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) رواه أحمد والدارمي وابن ماجة والنسائي.. وغيرهم.

([3]) سنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في الرسائل الثلاثة الأخيرة من هذه السلسلة.

([4]) ولهذا يرد في القرآن الكريم ارتباط العذاب باسم الرحمن.. كما قال تعالى على لسان إبراهيم u:﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً﴾ (مريم:45)

فقد ذكر إبراهيم u الرحمن، ولم يقل الجبار ولا القهار، للدلالة على أن العذاب لا يتنافى مع الرحمة الإلهية، كما لا يتنافى الكي أو الحقنة أو الدواء المر إذا وضعت في مواضعها التي تقتضيها حكمة الجسم مع رحمة الطبيب.

ولذلك قال تعالى: ﴿ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ﴾ (يّـس:23)، فقد نسب إرادة الضر إلى الرحمن ليدل على أن هذا الضرر في حقيقته رحمة، اقتضاه التدبير الإلهي.

ومثل ذلك قوله تعالى:﴿ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً﴾ (مريم:69)، وقال تعالى:﴿ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً﴾ (مريم:75)

انظر التفاصيل الدالة على هذا في رسالة (أسرار الأقدار) من مجموعة (عيون الحقائق) من (رسائل السلام)

 

([5]) أرجأنا الكلام عن التفاصيل المرتبطة بتطرف العقائد غير الإسلامية لنتحدث عنه في الأجزاء الثلاثة الأخيرة من هذه السلسلة.

([6]) انظر: قصة الحضارة 14: 365.

 

([7]) فالسواك من السنن التي وردت بها النصوص الكثيرة، بل ربطه r بالعبادات، فقال:( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة)( البخاري ومسلم)، وفي رواية:« عند كل وضوء »

بل كان r ( لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ)( أبو داود)، وكان r (إذا دخل بيته بدأ بالسواك)( مسلم)، و(كان إذا قام من الليل يشوص فمه بالسواك)( البخاري ومسلم)

وهذه المشروعية تشمل الصائم والمفطر، فعن عبد الرحمن بن غنم قال: سألت معاذ بن جبل: أتسوك وأنا صائم؟ قال: نعم! قلت: أي النهار؟ قال: غدوة أو عشية! قلت: إن الناس يكرهونه ويقولون إن رسول الله r قال: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؟ قال: سبحان الله! لقد أمرهم بالسواك، وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً! ما في ذلك من الخير شيء، بل فيه شر(لطبراني، قال الحافظ في التلخيص: إسناده جيد)

([8]) رواه البخاري ومسلم.

([9]) أصل هذه القاعدة من عبارات الإمام الشافعي الرشيقة، وقد أجاب بها في ثلاثة مواضع:

( أحدها ) فيما إذا فقدت المرأة وليها في سفر فولت أمرها رجلا يجوز، قال يونس فقلت له كيف هذا؟ قال إذا ضاق الأمر اتسع.

( الثاني ) في أواني الخزف المعمولة بالسرجين أيجوز الوضوء منها؟ فقال: إذا ضاق الأمر اتسع.

(الثالث) حكى ( بعض شراح المختصر ) أن الشافعي سأل عن الذباب يجلس على غائط ثم يقع على الثوب فقال إن كان في طيرانه ما يجف فيه رجلاه، وإلا فالشيء إذا ضاق اتسع ووضح.

ولهم عكس هذه القاعدة (إذا اتسع الأمر ضاق) ومثال ذلك أن قليل العمل في الصلاة لما اضطر إليه سومح به وكثيره لما لم يكن به حاجة لم يسامح به، وكذلك قليل البراغيث وكثيره.

وقد جمع الغزالي بين القاعدتين بقوله: كل ما تجاوز عن حده انعكس إلى ضده.

ونظير هاتين القاعدتين في التعاكس قولهم: يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء. (انظر: المنثور في القواعد الفقهية للزركشي: 1/120)

([10]) رواه أحمد والديلمي.

([11]) رواه أحمد والطبراني والبزار وغيرهما.

([12]) رواه الطبراني في الأوسط.

([13]) رواه الطبراني.

([14]) رواه أحمد.

([15]) رواه ابن مردويه.

([16]) رواه البخاري ومسلم.

([17]) رواه البخاري ومسلم.

([18]) رواه مسلم.

([19])أي بين الطول والقصر.

([20])رواه مسلم.

([21]) رواه أبو نعيم وأبو يعلى وابن عساكر.

([22])المتنطعون: المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد.

([23]) رواه مسلم.

([24]) يقال للرجل إذا انقطع به في سفره وعطبت راحلته: قد انبت، من البت: القطع، وهو مطاوع بت يقال: بته وأبته. (النهاية: 1/92)

([25]) رواه البزار، وفي رواية عن عبد الله بن عمرو قال r:( إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فان المنبت لا بلغ بعدا، ولا أبقى ظهرا، واعمل عمل امرئ يظن أن لا يموت إلا هرما، واحذر حذر امرئ يحسب أنه يموت غدا) رواها ابن عساكر.

([26]) وفي ذلك يقول رسول الله r:( إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، إن الله بعثني بالحنيفية السمحة دين ابراهيم، ثم قرأ:﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(الحج: من الآية78)) رواه الحاكم.

([27]) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية:( اقرأ والشمس وضحاها، والضحى، والليل إذا يغشى، وسبح اسم ربك الأعلى)

([28]) ومعنى لا يمل الله أي: لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم، ويعاملكم معاملة المال حتى تملوا فتتركوا، فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم.

([29]) رواه البخاري ومسلم.

([30]) رواه البخاري ومسلم.

([31]) رواه أحمد ورجاله موثقون.

([32]) رواه ابن جرير، وسنده صحيح.

([33]) رواه البخاري ومسلم.

([34]) رواه البخاري.

([35])رواه البخاري ومسلم.

([36]) رواه مسلم.

([37])رواه البخاري.

 

([38]) أثبت العلم الحديث الأذى الذي يلحق كلا من الرجل والمرأة عند المعاشرة الجنسية حال الحيض.

فالغشاء المبطن للرحم يقذف أثناء الحيض، وبفحص دم الحيض تحت المجهر نجد بالإضافة إلى كرات الدم الحمراء و البيضاء قطعاً من الغشاء المبطن للرحم. ويكون الرحم متقرحاً نتيجة لذلك.فهو معرض للعدوى البكتيرية.

و تقل مقاومة الرحم للميكروبات الغازية، ويصبح دخول الميكروبات الموجودة على سطح القضيب يشكل خطراً داهما على الرحم.. وتكون مقاومة المهبل لغزو البكتيريا في أدنى مستواها أثناء الحيض.. إذ يقل إفراز المهبل الحامض الذي يقتل الميكروبات، ويصبح الإفراز أقل حموضة إن لم يكن قلوي التفاعل...

كما تقل المواد المطهرة الموجودة بالمهبل أثناء الحيض إلى أدنى مستوى لها.. ليس ذلك فحسب ولكن جدار المهبل الذي يتألف من عدة طبقات يقل أثناء الحيض إلى أدنى مستوى لها.

وبالإضافة إلى هذا تزيد شراسة الميكروبات أثناء الحيض في دم الحيض وخاصة ميكروبات السيلان، وتنتقل الميكروبات من قناة الرحم إلى مجرى البول البروستات والمثانة.

والتهاب البروستات سرعان ما يزمن لكثرة قنواتها الضيقة الملتفة والتي نادراً ما يتمكن الدواء ـ بكمية كافية ـ من قتل الميكروبات المختفية في تلافيفها..فإذا ما أزمن التهاب البروستاتا فإن الميكروبات سرعان ما تغزوا بقية الجهاز البولي التناسلي فتنتقل إلى الحالبين ثم إلى الكلى.. و هو العذاب المستمر..حتى نهاية الأجل...

وقد ينتقل الميكروب من البروستاتا إلى الحويصلات المنوية فالحبل المنوي فالبربخ فالخصيتين.. و قد يسبب ذلك عقماً بسبب انسداد قناة المني.

وتصاب الغدد بالتغير فتقل أفرازاتها، ويبطئ النبض وينخفض ضغط الدم فيسبب الشعور بالدوخة و الفتور و الكسل ·

ولا يقتصر الأذى على الحائض بل ينتقل الأذى إلى الرجل الذي وطئها أيضاً. انظر: خلق الإنسان بين الطب و القرآن، د. محمد على البار.

([39]) رواه مسلم.

([40]) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

([41])القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما , وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به (شرح مسلم 16 / 97 )

([42]) رواه مسلم.

([43]) سنرى التفاصيل المرتبطة باليهود وعلاقة النبي r بهم في فصل (حروب) من هذه الرسالة.

([44])لا يهلك غيرها.

([45])هذه النفقة في الحرب خاصة، شرط عليهم المعاونة له على عدوه، ولهذا كان r يسهم لليهود إذا غزوا مع المسلمين لهذا الشرط الذي شرط عليهم من النفقة، ولولا هذا لم يكن لهم في غنائم المسلمين سهم.

([46]) هذه المعاهدة ورد ذكرها في كتاب الأموال لأبي عبيد ص 292 - 295 والأموال لابن زنجويه 2 / 466 - 470 وسيرة ابن هشام 2 / 92 والروض الأنف 4 / 293 ومجموعة الوثائق السياسية من ص 41 - 50.

([47]) انظر تفاصيل الخيانة وآثارها في فصل (حروب) من هذه الرسالة.

([48]) لم يجتمعوا بهن، ولا تزال التعاليم المشددة المتعلقة بالحائض موجودة في العهد القديم، ففيه:( وإذا حاضت المرأة فسبعة أيام تكون في طمثها، وكل من يلمسها يكون نجسا إلى المساء. كل ما تنام عليه في أثناء حيضها أو تجلس عليه يكون نجسا، وكل من يلمس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء. وكل من مس متاعا تجلس عليه، يغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء. وكل من يلمس شيئا كان موجودا على الفراش أو على المتاع الذي تجلس عليه يكون نجسا إلى المساء. وإن عاشرها رجل وأصابه شيء من طمثها، يكون نجسا سبعة أيام. وكل فراش ينام عليه يصبح نجسا. إذا نزف دم امرأة فترة طويلة في غير أوان طمثها، أو استمر الحيض بعد موعده، تكون كل أيام نزفها نجسة كما في أثناء طمثها. كل ما تنام عليه في أثناء نزفها يكون نجسا كفراش طمثها، وكل ما تجلس عليه من متاع يكون نجسا كنجاسة طمثها. وأي شخص يلمسهن يكون نجسا، فيغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء »(سفر اللاويين:15: 19 -27)

بل إن هذه التعاليم القاسية تظل تلاحق المرأة حتى بعد انتهاء حيضتها:( وفي اليوم الثامن تأخذ لنفسها يمامتين أو فرخي حمام وتأتي بهما الى الكاهن الى باب خيمة الاجتماع. فيعمل الكاهن الواحد ذبيحة خطية والآخر محرقة ويكفر عنها الكاهن أمام الرب من سيل نجاستها) (اللاويين ( 15: 29 -30)

([49]) رواه مسلم.

([50]) رواه البخاري.

([51])قال القرطبي في المفهم: فعل r ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق، وقال القاضي عياض: هذا الحديث أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ جميع الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين وإن اختلفوا في صور الأخذ به.

قال النووي عند شرحه لهذا الحديث: وفي هذا دليل لصحة يمين الكافر والفاسق واليهودي (انظر: شرح مسلم 11 / 147 )

([52]) رواه أحمد والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ( مجمع الزوائد 6 / 145)، وقد رواه مسلم بنحوه مختصرًا.

 

([53]) سنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في سائر الرسائل، وخاصة (رحمة للعالمين)

([54]) رواه البخاري.

([55]) هذه هي الرواية الصحيحة التي تتناسب مع جلال النبوة، أما ما يروى من تلفظه r بلفظ فاحش ليتأكد من كونه زنا حقيقة، فلا نرى صحته، بل هو من تزيدات الرواة ـ وما أكثرها ـ ونعجب من حرص البعض على تلك الصيغة، وتركهم لسائر الصيغ، بل رواية تلك الصيغة في المجالس مع ما فيها من خدش الحياء.

([56]) رواه مسلم وأبو داود والنسائي.

([57])روي عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كنا، أصحاب رسول الله r نتحدث، أن الغامدية وماعز بن مالك، لو رجعا بعد اعترافهما، أو قال: لو لم يرجعا بعد اعترافهما، لم يطلبهما، وإنما رجمهما عند الرابعة.(رواه أبو داود والنسائي في الكبرى)

([58]) رواه عبد الرزاق في المصنف.

([59]) رواه الحاكم.

([60]) رواه ابن المنذر.

([61]) رواه ابن المنذر.

([62]) رواه الخرائطي في مكارم الاخلاق.

([63]) رواه أبو داود والحاكم.

([64]) رواه أحمد.

([65]) رواه البخاري في الأدب، وأبو داود والحاكم.

([66]) رواه ابن ماجة.

([67])  رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه.

([68]) رواه ابن إسحق.

([69]) رواه أبو داود والحاكم والنسائي.

([70])أي بدا عليه الأسى.

([71]) رواه أبو داود.

([72]) رواه أحمد.

([73] )  البيهقي.

([74] )  أبو يعلى.

([75] )  الترمذي.

([76] )  الترمذي.

([77] )  أراد به  البياض  المحيط بالحدقة.

([78] )  ابن أبي الدنيا.

([79]) انظر تفاصيل الأقوال والأدلة المرتبطة بها في (المقدمات الشرعية للزواج) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)

([80]) انظر الحديث برواياته المختلفة في: البخاري: 1/335، 3/1298، مسلم: 2/609، ابن حبان: 13/180، مجمع الزوائد: 2/204، البيهقي: 7/92، المجتبى: 3/195، أحمد: 6/56.