المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: النبي
الإنسان |
الناشر: دار الكتاب
الحديث |
الفهرس
بعد أن خرجت من القدس قصدت بلدة
بالعراق يقال لها (كربلاء).. وفيها التقيت الوارث الثاني الذي تعلمت منه حقيقة
العبودية لله.. بل رأيتها تمشي أمامي وبين يدي.
ومعها علمت علما يقينيا لا يزاحمه
الشك بأن محمدا r هو أكمل خلق الله عبودية لله، وأنه لو اجتمعت
جميع عبودية العابدين، ووزنت بعبودية محمد r لله لوزنتها عبودية محمد r .. ولذلك استحق أن ينادى في أشرف المواطن (عبد الله)
كان اسم الوارث الذي تشرفت بلقائه،
والتعلم على يديه هذه العلوم الشريفة (زين العابدين)[1]
وكان أول موقف دلني عليه، وهداني
إليه.. أني دخلت ميضأة في بعض المساجد للوضوء، فرأيت النور يشع منه كما يشع من
الشمس ليس دونها حجاب.. وفجأة رأيت رعدة أصابته، فاقتربت منه، وقلت له: ما بالك..
يا أخي.. هل أنت مريض؟
نظر إلي، والرعدة لا تزال تملك جسده،
وقال: لا.. ولكن أتدري بين يدي من أريد أن أقوم[2]؟
لقد كانت كلماته تبرز من بحر عميق
حشي بأعظم لآلئ الإيمان..
حدثني نفسي أن أتبع هذا الرجل..
فلعله من الورثة الذين يمكنني أن أعرف من خلال مرائيهم محمدا..
وقفت خلفه في الصلاة.. فلم أر صلاة
كصلاته.. ولا خشوعا كخشوعه.. ولا سمتا كسمته [3]..
كان يبدو بمجرد تكبيره تكبيرة
الإحرام، وكأنه قد انتقل إلى عالم آخر لا علاقة له بهذا العالم..
خرج من المسجد بعد أن صلى وأطال في
صلاته حتى لم يبق في المسجد غيره..
في الطريق لقيه بعض الناس، وقال: يا
زين العابدين.. إن فلاناً قد آذاكَ ووقع فيك.
نظر إليه، والابتسامة تملأ وجهه،
وقال: انطلق بنا إليه..
سرت خلفهما، لأنظر المعركة التي يريد
أن يقيمها هذا الرجل مع عدوه..
ما إن وصل حتى أسرع إليه يصافحه،
ويسلم عليه، فتعجبت عجبا عظيما من هذا الموقف، واقتربت لأسمع ما يقال، فسمعته يقول
له: يا أخي، إن كان ما قلتَ في حقاً فغفر الله لي، وإن كان ما قلت في باطلاً، فغفر
الله لك.
قال ذلك، ثم انصرف.. وكأنه يعد
الكلام عدا..
لم يملك الرجل إلا أن يسرع إليه،
ويلتزمه، وهو يبكي، ويقول: لا جرم، لا عدت في أمر تكرهه.
نظر إليه زين العابدين نظرة مملوءة
بالرحمة، وقال: وأنت في حلٍ مما قلت لي[4].
بعد أن امتلأت من حب هذا الرجل..
سألت بعض المارة عنه، فأجابني، وعيناه تغرورقان بالدموع [5]:
هذا
الذي تعرف البطحاء وطأته، |
والبيت
يعرفه والحل والحرم |
هذا
ابن خير عباد الله كلهم، |
هذا
التقي النقي الطاهر العلم |
هذا
ابن فاطمة، إن كنت جاهله، |
بجده
أنبياء الله قد ختموا |
كلتا
يديه غياث عم نفعهما، |
يستوكفان،
ولا يعروهما عدم |
سهل
الخليقة، لا تخشى بوادره، |
يزينه
اثنان: حسن الخلق والشيم |
حمال
أثقال أقوام، إذا افتدحوا، |
حلو
الشمائل، تحلو عنده نعم |
ما
قال: لا قط، إلا في تشهده، |
لولا
التشهد كانت لاءه نعم |
عم
البرية بالإحسان، فانقشعت |
عنها
الغياهب والإملاق والعدم |
يغضي
حياء، ويغضى من مهابته، |
فما
يكلم إلا حين يبتسم |
بكفه
خيزران ريحه عبق، |
من
كف أروع، في عرنينه شمم |
يكاد
يمسكه عرفان راحته، |
ركن
الحطيم إذا ما جاء يستلم |
الله
شرفه قدما، وعظمه، |
جرى
بذاك له في لوحه القلم |
أي
الخلائق ليست في رقابهم، |
لأولية
هذا، أو له نعم |
من
يشكر الله يشكر أولية ذا؛ |
فالدين
من بيت هذا ناله الأمم |
ينمى
إلى ذروة الدين التي قصرت |
عنها
الأكف، وعن إدراكها القدم |
من
جده دان فضل الأنبياء له؛ |
وفضل
أمته دانت له الأمم |
مشتقة
من رسول الله نبعته، |
طابت
مغارسه والخيم والشيم |
ينشق
ثوب الدجى عن نور غرته |
كالشمس
تنجاب عن إشراقها الظلم |
من
معشر حبهم دين، وبغضهم |
كفر،
وقربهم منجى ومعتصم |
مقدم
بعد ذكر الله ذكرهم، |
في
كل بدء، ومختوم به الكلم |
إن
عد أهل التقى كانوا أئمتهم، |
أو
قيل:من خير أهل الأرض؟ قيل: هم |
لا
يستطيع جواد بعد جودهم، |
ولا
يدانيهم قوم، وإن كرموا |
هم
الغيوث، إذا ما أزمة أزمت، |
والأسد
أسد الشرى، والبأس محتدم |
لا
ينقص العسر بسطا من أكفهم؛ |
سيان
ذلك: إن أثروا وإن عدموا |
يستدفع
الشر والبلوى بحبهم، |
ويسترب
به الإحسان والنعم |
حركتني هذه الأبيات لطلب صحبته..
فقصدته، فوجدته يتحدث مع بعض القوم عن العبودية لله ومظاهرها.. فانتظرت حتى انتهى،
وقلت: عهدي بالروحانيين من المسلمين وغيرهم يصنفون السالكين إلى الله أو الواصلين
إلى الله أصنافا عديدة، فمنهم العارفون، ومنهم العباد، ومنهم الزهاد، ومنهم أهل
الفتوة والمروءة..
وعهدي ـ كذلك ـ بهؤلاء يختلفون فيما
بينهم اختلافا شديدا.. فللعارف حظه من عبودية السير الباطني، وللعابد حظه من
عبودية السير الظاهري.. فمن أي هؤلاء أنت؟
قال: أنا أسعى لأن أكون من أهل قوله
تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾
(البقرة: من الآية208)
قلت: ما علاقة الآية بهذا؟
قال: عندما سقط ورثة الأنبياء في
هاوية الجزئية انفصلوا عن أنبيائهم.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:﴿
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا
الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ
يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا
عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (لأعراف:169)
فهؤلاء الذين ورثوا الكتاب ـ ولكنهم
لم يرثوه حقائق تنبني عليها حياتهم، وإنما ورثوه رسوما وطقوسا ـ صاروا يختارون من
دينهم ما يتناسب مع أهوائهم، فيقبلون ما تشاء أهواؤهم، ويرفضون ما ترفضه.
ولذلك، فإن الوارث الحقيقي هو الذي
يقف كالميت بين يدي الغسال في كل ما يأتيه عن نبيه، لا يجادل، ولا يقدم رأيه على
رأيه، ولا سلوكه على سلوكه، ولا فهمه على فهمه.
قلت: فهل هذا هو معنى العبودية؟
قال: أجل.. العبودية هي الخضوع التام
لله.. والخضوع التام لله لا يكون إلا عن معرفة بالله.. ومن عرف الله زهد في غيره..
ومن عرف الله كان له من المروءة ما ينتشر به خيره على غيره.
قلت: فالعابد إذن تجتمع له جميع خصال
الروحانيين؟
قال: لن تكتمل عبوديته إلا بذلك.. كما
لا يكتمل عرفان العارفين، ولا زهد الزاهدين، ولا ورع الورعين، ولا مروءة الفتيان
إلا باجتماع كل ذلك.
قلت: لقد شرفني الله بصحبه رجل من
أهل الله عرفت من خلاله من معرفة محمد بالله ما لا يمكن أن يحصيه الحاصي.
قال: ذلك شيخي وأستاذي وقدوتي.
قلت: من تقصد؟
قال: ألست تقصد جعفرا الذي يلقب
بالصادق؟
قلت: أجل.. فكيف عرفت؟
قال: لقد صحبته زمنا.. وكل ما تعلمته
وورثته نور من أنواره.. وقبسات من هديه.. وقد صار لي فراسة أعرف بها كل من صحبه أو
لقيه.
قلت: فلن أستفيد ـ إذن ـ منك شيئا
جديدا.
قال: لا.. ستستفيد أشياء جديدة تعرفك
بالإنسان الكامل الذي تبحث عنه.
قلت: أرى لك فراسة عجيبة.
قال: دعنا منها.. وأجبني: هل يمكن
لمن عرف الله، وتلذذ بمعرفته أن يرغب عنه؟
قلت: وكيف يرغب عنه؟
قال: بالالتفات إلى غيره، والخضوع
لغيره، والتسليم لغيره.
قلت: من عرف الله كما عرفه الصادق،
فلن يقع في مثل هذا.
قال: فالعبودية ثمرة المعرفة.. ومن
عرف الله أقبل إليه بكل كيانه، وذلك الإقبال هو العبودية.. فالعبودية خضوع تام
لله.. خضوع راغب مقبل محب متذلل.. لا خضوع كاره مبغض مكره.
قلت: فكيف تكون هذه العبودية؟
قال: لقد بحثت في دفاتر الوراقين عن
رجل اكتملت له العبودية لله لأجعل منه النموذج الأكمل الذي أهتدي بهديه وأستنير
بنوره.. فلم أجد فيها إلا محمدا r.. فهو الإنسان الوحيد الذي اكتملت له العبودية لله بكل تجليات
جمالها.
قلت: فحدثني عن عبودية محمد لربه؟
قال: لقد اتصفت عبادة رسول الله r
لربه بصفتين.. من اجتمعت فيه اكتملت له وراثة رسول الله r في هذا الجانب، ومن كان له بعضها كان له من القصور بحسب تفريطه في
سائر الجوانب.
قلت: فما هي؟
قال: ما كنت قرأته عليك.
قلت: تقصد:﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:208)
قال: أجل.. فقد جمعت هذه الآية
الكريمة أركان العبودية لله، من الخضوع التام لله، والذي يجعل العبد خاليا من أي
شائبة من شوائب الشرك، ومن شمول ذلك الخضوع، فلا يترك العابد طريقا من الطرق إلا
سلكه.. ليس له قصد من سلوكه غير مرضاة الله.
قلت: فهل تحدثني عن تحقق محمد بهذين
الجانبين.
قال: إن شئت ذلك.
قلت: وكيف لا أشاء.. وأنا ليس لي من
هدف في الحياة إلا البحث عن الإنسان الكامل.
قال: فهلم معي إلى البيت، فإن لي شؤونا
فيه مما تقتضيه العبودية، وسنتحدث في الطريق وفي البيت عما تشاء الحديث عنه.
سرت مع زين العابدين إلى بيته، وقد
تعجبت عندما لاحظت بعده عن مركز المدينة.. لقد كان في ضاحية من ضواحي كربلاء، بل
يكاد يكون في ريف من أريافها.
قلت له: إنك تبذل جهدا كبيرا للوصول
إلى المدينة..
قال: أنا لي أسوة برجلين ذكرهما الله
تعالى ليكونا عبرة لنا في الخضوع التام لله في جميع الظروف.
قلت: من هما؟
قال: أما أولهما، فهو الرجل الذي جاء
يحذر موسى من الملأ الذين يأتمرون لقتله، قال تعالى:﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ
بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (القصص:20)
وأما الثاني، فهو الرجل الذي جاء
ينتصر لرسل الله، ويحث قومه على اتباعهم، قال تعالى:﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)
(يّـس:20)
قلت: لقد ظللت متعجبا من ذكر القرآن
لجملة:﴿ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ﴾، فقد كنت أرى أنها نوع من
الحشو مع أن القرآن ـ حسب معرفتي به ـ لا يميل إلى الحشو ولا الإطناب، بل هو يختصر
الكلام اختصارا.
قال: إن القرآن الكريم بذكره لهذا
يدلنا على شرط من شروط العبادة، فالعابد رجل[6] اكتملت فيه الرجولة، فراح لا يبالي بشيء من أجل أن يمارس ما
تتطلبه العبودية من حقوق.
قارن هذين الرجلين اللذين لم يقف في وجه
ما أحسوا أنهم مطالبون به من عبودية لله بأولئك الذين راحوا يبحثون عن المبررات
التي تقف بينهم وبين عبودية لله..
لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم
نماذج من هؤلاء، فقال ـ عند ذكره لمواقف الناس في غزوة الأحزاب ـ:﴿ وَإِذْ
يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا
أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ
النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ
يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا
ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا
(14)﴾ (الأحزاب)
وذكر إخوانا لهم قعد بهم الكسل وما
أوحت إليهم نفوسهم به من التهاون في طاعة الله والكسل عنها، فقال:﴿ قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ
إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ
فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ
بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا
فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)﴾
(الأحزاب)
وفي مقابل هؤلاء ذكر أصحاب الخضوع
المطلق لله.. أولئك ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ (آل عمران:173)
وأولئك الذين كانوا مع محمد r
.. وكان لهم من الإرث منه، ومن السير على قدمه ما استحقوا به أن ينزل في حقهم
قرآنا يقول:﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾
(الفتح:29)
قلت: أليس هذا هو الركن الأول من
أركان العبودية اللذين ذكرتهما لي؟
قال: أجل.. فلا يمكن للعبودية أن
تتحقق لمن لم يستسلم استسلاما مطلقا لله، فراح لا يختار في عبودية ربه إلا ما
اختار الله له.. لقد أمر الله تعالى نبيه r أن يعزم على هذا، ويمارسه في حياته جميعا، فقال:﴿ قُلْ
إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
(الأنعام:162)
وقد ضرب له المثل بإبراهيم u
الذي جعله خضوعه المطلق لله يقدم ولده قربانا لله لما تطلبت منه عبودية الله أن
يفعل ذلك، لقد ذكر الله تعالى ذلك، وصوره في أحسن تعبير، فقال:﴿ وَقَالَ
إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ
(100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ
قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ
مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ
اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ
(106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)﴾ (الصافات)
وهكذا جميع أهل الله من الملائكة
والأنبياء والمقربين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فإنهم لم يمارسوا في حياتهم جميعا
إلا ما يقتضيه الخضوع المطلق لله:
لقد قال الله تعلى يصفهم، ويصف
خضوعهم المطلق لله:﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً
لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) (النساء:172)، وقال:﴿
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (لأعراف:206)، وقال:﴿ وَلَهُ مَنْ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (الانبياء:19)
انظر.. هؤلاء المقربون الموصوفون في
هذه الآيات كلهم وصفوا بالعبودية المطلقة لله، فهم لا يستكبرون عنها ولا يأنفون
ولا يتعاظمون ولا يستحسرون[7] فيعيون وينقطعون.
ولهذا، فإن أعظم شرف يناله المؤمن
ويستحق به تقريب الله هو أن تصح نسبته إلى العبودية لله..
فالله تعالى يشرف عباده المقربين
بنسبته إليه، فيقول:﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى
الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)
(الفرقان:63)، ويقول:﴿ عَيْناً
يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً) (الانسان:6)
وهو يجعل البشارة المطلقة لعباده،
فيقول:﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا
وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ) (الزمر:17)
وهو يجعل الأمن المطلق لهم فقال:﴿
يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)
(الزخرف:68)
وهو يعزل الشيطان عن سلطانه عليهم
خاصة وجعل سلطانه على من تولاه وأشرك به فقال:﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الحجر:42)، وقال:﴿
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)
(الاسراء:65)
وهو يثني على أشرف خلقه وأكرمهم بهذا
الوصف، فيقول عن إبراهيم وإسحق ويعقوب:﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) (صّ:45)
ويقول عن داود:﴿ اصْبِرْ
عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ
أَوَّابٌ) (صّ:17)
ويقول عن سليمان:﴿
وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صّ:30)
ويقول عن أيوب:﴿ وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صّ:44)
ويقول عن المسيح:﴿ إِنْ هُوَ
إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ)
(الزخرف:59)
ويقول عن أكرم خلقه وأعلاهم منزلة،
فيقول ذاكرا أشرف مقاماته مقام تنزل القرآن:﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ
مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا
شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23)، ويقول:﴿
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ
نَذِيراً) (الفرقان:1)، ويقول:﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى
عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) (الكهف:1)، ويقول:﴿
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ)
(الحديد:9)
وفي مقام دعوته إلى الله، وخضوعه
المطلق لله فيها يقول:﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ
كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (الجـن:19)
ويذكر تكريمه له برحلة الإسراء،
فيقول:﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ
مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الاسراء:1)
ولهذا، فإن رسول الله r
كان يعتقد أن أعظم مدح وإطراء يطرى به هو أن تذكر عبوديته لله.. فالعبودية أشرف
وصف يناله العابد لله.
لقد ورد في الحديث قوله r:(
لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله
ورسوله)[8]،
وحدثت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن
رسول الله r قال لها:( يا عائشة، لو شئت لسارت معي جبال الذهب، أتاني ملك إلى
حجرة الكعبة، فقال: إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: إن شئت كنت نبيا، ملكا وإن شئت
نبيا عبدا، فأشار إلى جبريل: أن ضع نفسك، فقلت: نبيا عبدا، فكان بعد لا يأكل متكئا
ويقول:( آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد)[9]
وحدث عبدالله بن عمرو عن صفته في
الكتب السابقة، فقال:( قرأت في التوراة صفة محمد محمد رسول الله عبدي ورسولي سميته
المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو
ويغفر)[10]
قلت: ألا ترى أن ما ذكرته من وصف
محمد بالعبودية وما تقتضيه من تكاليف يتنافى مع ما يذكره العارفون من أن العبد يصل
في رحلته إلى الله إلى مقام تسقط عنه فيه التكاليف، وترتفع عنه بالتالي العبودية؟
احمر وجهه، وبدا عليه غضب، وقال: من
قال من العارفين ذلك؟.. إن العارفين أعظم من أن يقعوا في مثل هذه الترهات.. لقد
صحبت الكثير منهم، وعرفت في التاريخ سير أكثرهم، ولم أرهم يرددون إلا ما ردده أبو
علي الروذباري عندما سئل عمن يقول:( وصلت إلى درجة لا تؤثر في اختلاف الأحوال)،
فقال:( قد وصل، ولكن إلى سقر)..
ويرددون ما قاله الجنيد لرجل ذكر
المعرفة فقال:( أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى
الله عز وجل)، فقال الجنيد:( إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي
عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا)، ثم قال:( إن العارفين بالله
أخذوا الأعمال عن الله، وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر
ذرة إلا أن يحال بي دونها، لأنه أوكد معرفتي به وأقوى في حالي)..
ويرددون ما قاله أبو الحسين النوري
عندما قال: (من رأيته يدعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن حد علم شرعي، فلا تقربنه،
ومن رأيته يدعي حالة باطنة لا يدل عليها ويشهد لها حفظ ظاهر فاتهمه على دينه)..
وهكذا كل العارفين والمقربين من أهل الله أهل الوارثة الكاملة.
قلت: ولكن ألا ترى في خضوع الرسوم
والطقوس ما يشغل صاحبه عن خضوع القلب.. أليس المطلوب في العبادة قلب الإنسان؟
قال: المطلوب في العبادة الإنسان بكل
لطائفه.. لا قلب الإنسان وحده.. فالخاضع هو الذي خضع كل كيانه لله، فصار يردد ما
كان يقوله رسول الله r حين كان يقول وهو ساجد:( اللهم لك ركعتُ وبك آمنتُ ولك أسلمتُ،
أنت ربي، خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقَلَّتْ به قدمي لله رب
العالمين)[11]
وحين كان يقول وهو مستلق على فراشه
ليؤدي ما أمر به من النوم حفاظا على طاقات جسده:( اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت
وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا
منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك مت وأنت
على الفطرة، واجعلهن من آخر كلامك، قال: فرددتهن لأستذكرهن فقلت: آمنت برسولك الذي
أرسلت. قال: لا، وبنبيك الذي أرسلت)[12]
قلت: إن ما
ذكرته من ارتباط الكمال الإنساني بالخضوع المطلق قد لا يسلم لك، فالكامل ـ في منطق
البشر ـ هو من تحرر لا من خضع.
نظر إلى السماء
بعين ممتلئة دموعا كان يحاول دفعها بكل جهده، ثم أنشد بلحن عذب:
شرف النفوس دخولها في رقهم.. والعبد يحوي الفخر بالتمليك
قلت: ما تقصد؟
قال: أرأيت لو
أوقفك ملك الملوك ببابه، وأذن لك كل حين بزيارته، والحديث معه، وأنت مع كل ذلك تتمتع
بفضله وبره وإحسانه ولطفه لا ينقصك شيء من كل ذلك.. ثم قال لك محذرا: إياك أن ترغب
عني إلى غيري ممن لا يزيدك إلا ألما وشقاء وعناء.. أكان في قوله هذا ما يضر
بحقيقتك وحريتك؟
قلت: ما دمت
أجد كل حاجاتي عنده، وما دامت كل لطائفي تغذى ببره، فمن الغبن أن أنصرف عنه إلى
سواه.
قال: فهذه هي
العبودية، وهذا هو سر الخضوع.. فالخضوع لله تحرر ممن سواه من الشهوات والأهواء
والشياطين التي تقيد الإنسان بأبشع أنواع القيود.
بينما نحن كذلك
إذ قدم ابن له يحمل كتابا، وأخذ يقول، وكأنه يخاطبني: اسمع ما يقول ابن القيم في
شرحه لمنازل الهروي.
قال ذلك، ثم
أخذ يقرأ بخشوع لا يقل عن خشوع أبيه: غاية شرف النفس: دخولها تحت رق العبودية طوعا
واختيارا ومحبة لا كرها وقهرا.
قلب صفحات من
الكتاب، وراح يقرأ:( والناس في هذا المقام ثلاثة: عبد محض، وحر محض، ومكاتب قد أدى
بعض كتابته وهو يسعى في بقية الأداء:
فالعبد المحض
عبد الماء والطين الذي قد استعبدته نفسه وشهوته وملكته وقهرته فانقاد لها انقياد
العبد إلى سيده الحاكم عليه.
والحر المحض هو
الذي قهر شهوته ونفسه وملكها، فانقادت معه وذلت له ودخلت تحت رقه وحكمه.
والمكاتب من قد
عقد له سبب الحرية، وهو يسعى في كمالها فهو عبد ومن وجه حر من وجه، وبالبقية التي
بقيت عليه من الأداء يكون عبدا ما بقي عليه درهم فهو عبد ما بقي عليه حظ من حظوظ
نفسه.
فالحر من تخلص
من رق الماء والطين وفاز بعبودية رب العالمين فاجتمعت له العبودية والحرية
فعبوديته من كمال حريته، وحريته من كمال عبوديته)[13]
وضع (مدارج
السالكين)، وفتح كتيبا آخر كان يحمله باليد الأخرى، وراح يقرأ:( ولقد صدق بعض
العارفين لما قال له بعض الأمراء: سلني حاجتك، فقال له العارف: كيف تقول لي هذا،
ولي عبدان هما سيداك، فقال: ومن هما؟ قال: الحرص والهوى، فقد غلبتهما وغلباك،
وملكتهما وملكاك.. وقال بعضهم لبعض الشيوخ: أوصني، فقال له: كن ملكا في الدنيا تكن
ملكا في الآخرة، قال: وكيف أفعل ذلك؟ فقال: ازهد في الدنيا تكن ملكا في الآخرة..
معناه اقطع حاجتك وشهوتك عن الدنيا، فإن الملك في الحرية والاستغناء)[14]
أغلق الكتاب، وراح إلى سبيله، سألت زين
العابدين عن ابنه هذا، فقال: هذا ابني الأصغر، وقد سميته على جد من أجدادي كان
اسمه الباقر[15]، وهو رجل جمع الله له بين العلم والعبادة، وقد سألت الله أن يكون
كجده عالما عابدا.. فلا خير في علم لا يصحبه عبادة، ولا في عبادة لا يصحبها علم.
قلت: لكنه لم يحينا.. أم أنك أهملت
تأديبه في هذا؟
قال: لا.. أنا لم أهمل تأديبه.. ولا
هو قصر في الأدب.. ولكنه ـ كما تراه ـ مشغول بالعوالم التي توحي له بها الكلمات..
فلذلك انشغل بها عن غيرها، أو غاب بها عن غيرها.. ولو رآك في غير هذه الحال لحياك
وتعامل معك بما يقتضيه الأدب من المعاملات.
قلت: لا بأس.. فلنرجع إلى موضوعنا..
لقد عرفت أن الخضوع لا يعني إلا اكتمال الحرية.. وعرفت ـ بناء على ذلك ـ أن
الإنسان الكامل هو الذي اكتملت له العبودية، لأنه لا تكتمل حريته إلا بذلك.. ولكني
أرى القرآن يصف كل شيء بالعبودية لله.. ففي القرآن:﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)﴾ (مريم)،
وبذلك يدخل المؤمن والكافر في هذا الشرف..
ومثل ذلك:﴿ وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ
أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) (الفرقان:17)، فقد
اعتبرهم عبيدا له مع كونهم من أهل الضلال.
ومثل ذلك:﴿ قُلِ اللَّهُمَّ
فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ
تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (الزمر:46)
ومثلها جميعا:﴿ تِلْكَ آيَاتُ
اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً
لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران:108).. وغيرها من الآيات التي تنسب هذا الشرف لكل
الكائنات.. والتي يدخل فيها صالحها ومنحرفها، وطيبها وخبيثها.. فأي امتياز بعد هذا
لمحمد، ولمن ذكرت من الأنبياء والصالحين من وصف القرآن لهم بالعبودية؟
قال: العبودية ـ كما عرفت ـ تعني
الخضوع المطلق.. فالطريق المعبد لا يكون معبدا إلا إذا كان مذللا بوطء الأقدام..
والعبودية بهذا تشمل كل شيء.. فكل ما خلق الله خاضع لله ابتداء وانتهاء.. وجودا
واستمرار وجود.. فالله هو القيوم القائم بنفسه المقيم لغيره.. ومن كان بهذه الصفة
كان عبدا لا محالة رضي أم لم يرض.
قلت: فما الشرف الذي ناله من ذكرت من
العباد؟
قال: شرف الرضى بالعبودية.. وشرف
السير الاختياري حسب مقتضياتها.. ففرق بين عبد لا هم له إلا التفكير في الإباق من
رق سيده، بل لا حلم له في حياته إلا هذا الإباق.. وبين عبد استسلم استسلاما كليا
لمولاه، بل هو يعتبر وقوعه في عبودية مولاه هي الشرف الذي لا شرف فوقه، والعزة
التي لا عزة فوقها.
قدم ابنه، وهو يحمل كتابا.. وراح
يقرأ من غير أن يلتفت إلينا:( قال بعض العارفين: من ادعى العبودية، وله مراد باق
فهو كاذب في دعواه، إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته وقام بمراد سيده، يكون
اسمه ما يسمى به، ونعته ما حلي به، إذا دعي باسمه أجاب عن العبودية، فلا اسم له
ولا رسم ولا يجيب إلا لمن يدعوه بعبودية سيده، وأنشأ يقول:
يا
عمرو ثاري عند زهراء يعرفه السامع
والرائي
لا
تدعني إلا بيا عبدها فإنه أصدق
أسمائي
وقال آخر:
مالي
وللفقر إلى عاجز مثلي لا يملك إغنائي
وإنما
يحسن فقري إلى مالك إسعادي وإشقائي
أتيه
عجبا بانتمائي إلى أبوابه إذ قلت مولائي
لا
تدعني إلا بيا عبده فإنه أشرف أسمائي
وما أحسن قول القاضي عياض في مثل
هذا:
ومما
زادني عجبا وتيها وكدت بأخمصي أطأ
الثريا
دخولي
تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا[16]
قال ذلك، ثم انصرف كما فعل في المرة
الأولى، قلت: ما شأن الباقر.. ما باله يأتي، ثم سرعان ما يذهب..
ابتسم زين العابدين، وقال: لقد ذكرت
لك أنه مشغول بعوالم الكلمات التي يسمعها أو يقرؤها.. إنه ـ أحيانا ـ يوقظني ليلا
ليسمعني لطيفة من لطائف العلم، أو حقيقة من حقائق المعرفة.
قلت: بورك لك فيه.. ولا أرى إلا أن
له شأنا..
لم يلتفت زين العابدين لما ذكرت.. بل
راح يكمل حديثه، وكأنه لم يقاطع بشيء، قال: لقد فرق القرآن في أسلوبه بين العبودية
المطلقة عن شرط الرضا، وبين العبودية المقيدة به[17].. ولذلك لن يصعب عليك أن تدرك الفرق بين العبوديتين.
قلت: فهل تحقق محمد بهذا الخضوع
المطلق لله؟
قال: ليس هناك في الدنيا من تحقق به
مثل محمد r.. لقد كان يمثل الخضوع المطلق لله في أجلى تصوراته.. إنه لم يختر
إلا ما اختار الله له، ولم يسلك في حياته إلا السبل التي أمره الله بسلوكها..
لقد قضى محمد r حياته جنديا لله.. لا ينفذ إلا ما يأمره الله به.. وهو في كل ذلك
ممتلئ شوقا وفرحا وسرورا.. لا يصيبه ما يصيب الناس من الكلل والملل، ولا يصيبه ما
يصيبهم من الألفة والضجر.
قلت: عرفت
الركن الأول من أركان العبادة.. فما الركن الثاني؟
قال: القنوت..
قلت: ما
القنوت؟.. أتراه ذلك الذي يقال في الصلاة، واختلف فيه الفقهاء؟
قال: القنوت هو
أن تعطي لكل لطيفة من لطائفك حقها من العبودية، وأن تعمر كل وقت من أوقاتك
بالعبودية المرتبطة به.
قلت: فما
عبودية اللطائف؟
قال: لقد خلق
الله الإنسان مركبا من لبنات كثيرة.. ولكل لبنة قبلتها الخاصة التي تتوجه من خلالها
بالعبودية إلى الله.. فمن وجه لطائفه إلى القبلة التي أمره الله بالتوجه بها
إليها، فقد حقق لها حقها من العبودية.
لقد ذكر رسول
الله r ذلك، وحث عليه، ومارسه، ودعا الناس
إلى ممارسته، لقد جاء في الحديث أن رسول الله r قال: (إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة
مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرا عن
طريق الناس، أو شوكة، أو عظما عن طريق الناس، وأمر بالمعروف، أو نهى عن منكر عدد
تلك الستين وثلاثمائة السلامى، فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار)[18]
وفي حديث آخر،
قال r:( كل سلامى من الناس عليه صدقة كل
يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة ويعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو
يرفع له عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة
وتميط الأذى عن الطريق صدقة) [19]
وذكر r أن ( الإيمان بضع وسبعون أو بضع
وستون شعبة: فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى الطريق. والحياء
شعبة من الإيمان)
ولذلك نرى في
النصوص الدلالة على أفعال الخير الكثيرة، واعتبارها من الأعمال الصالحة المقربة
إلى الله، كما قال r في الحديث الجامع الدال على ذلك:(كل
معروف صدقة)[20]:
ومن ذلك ما
أخبر به من قصة الرجل الذي سقى كلبا، فغفر له بسبب ذلك، قال r:( بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا
فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ
هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه
بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له ) قالوا: يا رسول الله إن لنا في
البهائم أجرا؟ فقال: ( في كل كبد رطبة أجر )[21]
ومنه ما
أخبر به في قوله r: ( لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة
في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين)[22]
ومنه قوله r: ( ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما
أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة)[23]
ومنه قوله r: ( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه
ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى
إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق
تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة)[24]
ومنه قوله r:( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل
الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها)[25]
ومنه قوله r:( عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها
فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون
في المسجد لا تدفن)[26]
ومنه قوله r:( أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز[27] ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء
ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة)[28]
وكان r يوجه كل واحد من أصحابه إلى العبادة
المتناسبة معه:
ومن ذلك ما روي
عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال:(
الإيمان بالله والجهاد في سبيله) قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: ( أنفسها عند أهلها
وأكثرها ثمنا ) قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ( تعين صانعا أو تصنع لأخرق ) قلت: يا رسول
الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: ( تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على
نفسك)[29]
وعنه ـ رضي
الله عنه ـ أن ناسا قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور: يصلون كما نصلي
ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: ( أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون
به: إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر
بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة ) قالوا: يا رسول الله
أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: ( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه
وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)[30]
وعنه ـ رضي الله عنه ـ قال قال لي النبي r: ( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن
تلقى أخاك بوجه طليق)[31]
وعن أبي موسى ـ
رضي الله عنه ـ عن النبي r قال:( على كل مسلم صدقة ) قال: أرأيت إن لم يجد؟ قال:(
يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق ) قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: ( يعين ذا الحاجة
الملهوف ) قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: ( يأمر بالمعروف أو الخير ) قال: أرأيت إن
لم يفعل؟ قال: ( يمسك عن الشر فإنها صدقة)[32]
وعن جابر ـ رضي
الله عنه ـ قال: أراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله r فقال لهم:( إنه بلغني أنكم تريدون أن
تنتقلوا قرب المسجد؟ ) فقالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: ( بني سلمة:
دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم)[33]
وعن أبي المنذر أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رجل لا أعلم رجلا أبعد من المسجد منه وكان لا تخطئه صلاة فقيل له أو فقلت
له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء؟ فقال: ما يسرني أن منزلي إلى
جنب المسجد إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي. فقال
رسول الله r: ( قد جمع الله لك ذلك كله)[34]
وكان رسول الله
r يوجه نساء المسلمات بأن يتصدقن بما
أطقن، ويقول:( يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن[35] شاة) [36]
ما استتم زين العابدين حديثه هذا حتى
جاء (الباقر)، وفي يده كتبه، وراح يسأل أباه قائلا: لقد رأيت اختلاف العلماء في تفاضل
بعض العبادات.. وقد توقفت في بعضها، فلم أدرك فضل بعضها على بعض.
قال زين العابدين: وما هي هذه
العبادات التي توقف الباقر فيها؟
قال الباقر: الزراعة والصناعة
والتجارة.. فإني بعد البحث المضني لم أعرف أي عبادة من هذه العبادات أفضل من
غيرها.
ذلك أني وجدت رسول الله r
يقول في الزراعة:( ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو
بهيمة إلا كان له به صدقة)
ووجدته يقول في الصناعة:( ما أكل أحد
طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من
عمل يده)
ووجدته يقول في التجارة:( التاجر
الصدوق يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء)
قال زين العابدين: أراك نسيت حديث
النيات.. ألم تكن تحفظه وتبحث عن معانيه؟
قال الباقر: بلى.. وهل يدخل في هذا
الباب؟
قال زين العابدين: أجل.. ألم يقل r:(
إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريءٍ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله
فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها فهجرته
إلى ما هاجر إليه)[37]
قال الباقر: بلى.. والحديث متفق على
تصحيحه.
قال زين العابدين: فالأعمال مطلقة..
يدخل فيها كل ما يمارسه الإنسان من تصرفات.
قال الباقر: أعرف ذلك.. ولكني أسأل
عن أفضل الأعمال، لا عن النيات.
قال زين العابدين: الأعمال الفاضلة
تحدد بشيئين: النيات، والأوقات.. فالأعمال الصالحة تربو درجاتها بالنيات الصالحة،
وعندما تعمل في أوقاتها المحددة.
قال الباقر: فطبق لي الأصل الذي
ذكرته على ما سألتك عنه.
قال زين العابدين[38]: حين تقل الأقوات، ويكون المجتمع في حاجة إلى غذائه اليومي الذي
لا عيش له إلا به، تكون الزراعة أفضل من غيرها، لحماية الأمة من الجوع، الذي هو
بئس الضجيع، وتوفير الأمن الغذائي لها، وخصوصا إذا كان في الزراعة بعض المشقة
والصعوبة، فالصبر عليها يكون من أفضل الأعمال.
وحيث تكثر الأقوات، وتتسع دائرة
الزراعة، ويحتاج الناس إلى الصناعات المختلفة، للاستغناء عن الاستيراد من غير
المسلمين من ناحية، ولتشغيل الأيدي العاملة من ناحية أخرى، ولحماية حرمات الأمة
وحدودها ـ بالنسبة للصناعات الحربية ـ من ناحية ثالثة، ولتفادي نقص الكفاية
الإنتاجية للأمة، من ناحية رابعة، تكون الصناعة أفضل.
وحين تتوافر الزراعة والصناعة،
ويحتاج الناس إلى من ينقل ما تنتجه هذه وتلك من البلاد إلى آخر، فهو وسيط جيد بين
المنتج والمستهلك، وكذلك عندما يسيطر على السوق التجار الجشعون المحتكرون والمستغلون
لحاجات جماهير الخلق، والمتلاعبون بأسعار السلع، فهنا تكون التجارة أفضل، وخصوصا
إذا كان من الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء
الزكاة.
قال الباقر: وإن احتيج إلى هؤلاء
جميعا؟
قال زين العابدين: يكون الفضل فيها
بحسب النيات.. هكذا علمنا رسول الله r.
قال الباقر: أتدري يا أبت.. إن ما
ذكرته من الأوقات ذكرني بمسألة كان قد طرحها ابن القيم في مدراجه.. وقد أفاض
فيها.. فإن أذنت لي، وأذن لي ضيفك الكريم قرأت لكما منها.
قال زين العابدين: اقرأ يا ولدي..
فنحن لم نكن نتكلم إلا في هذا الباب.
فتح الباقر الكتاب، وراح يقرأ[39]: (اختلف العلماء في أفضل العبادات اختلافا بعيدا، وتعددت أقوالهم
وتباينت)
وقد اقتصر ابن القيم من هذه الأقوال
على أربعة أصناف، أما الصنف الأول، فعندهم أنفع العبادات وأفضلها: أشقها على
النفوس وأصعبها، وهؤلاء: هم أهل المجاهدات..
وأما الصنف الثاني، فقد ذكروا أن
أفضل العبادات التجرد، والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، واطراح
الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها..
وأما الصنف الثالث، فرأوا أن أنفع العبادات
وأفضلها: ما كان فيه نفع متعد، فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر. فرأوا خدمة
الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع
أفضل. فتصدوا له وعملوا عليه، واحتجوا بقول النبي r:( الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم حيلة)[40]
واحتجوا بقوله r لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ:( لأن يهدي الله بك رجلا واحدا
خير لك من حمر النعم)، وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي.
واحتجوا بقوله r:( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن
ينقص من أجورهم شيء)
واحتجوا بقوله r:( إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير)، وقوله r:(
إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، والنملة
في جحرها)
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا
بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم، ونفعهم في معاشهم ومعادهم، لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع
عن الناس والترهب، ولهذا أنكر النبي r على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع للتعبد، وترك مخالطة
الناس.. ورأى هؤلاء التفرق في أمر الله، ونفع عباده، والإحسان إليهم، أفضل من
الجمعية عليه بدون ذلك.
وأما الصنف الرابع، فذهبوا إلى أن
أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته،
فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل
وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف القيام
بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب.
والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال
بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب،
وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو
فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس:
الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج
إلى الجامع. وإن بعد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى
المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار
ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية
القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على
فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان
على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة:
الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة:
الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد. فهو أفضل من الجهاد غير
المتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان:
لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه
أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو
موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة
الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم، فإن المؤمن الذي يخالط
الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خير من
اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه. فإن علم أنه إذا خالطهم
أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة
الله في ذلك الوقت والحال. والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.
نظر الباقر إلى الكتاب، وقال: وقد
رجح ابن القيم عبودية هذه الصنف الأخير، وقال عنهم:( وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق،
والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من
العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله على وجه واحد،
وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة
الله تعالى أين كانت. فمدار تعبده عليها. فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية،
كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا
دأبه في السير حتى ينتهي سيره.. فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد
رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن
رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله
رأيته معهم، فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيده القيود، ولم
يكن عمله على مراد نفسه، وما فيه لذتها وراحتها من العبادات، بل هو على مراد ربه،
ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه. فهذا هو المتحقق (إياك نعبد وإياك نستعين)
حقا، القائم بهما صدقا، ملبسه ما تهيأ، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به
في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا، لا تملكه إشارة، ولا
يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حر مجرد، دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين
الآمر أنى توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مضاربه، يأنس به كل محق، ويستوحش
منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع. وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة حتى شوكها،
وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو لله
وبالله ومع الله، قد صحب الله بلا خلق، وصحب الناس بلا نفس. بل إذا كان مع الله
عزل الخلائق عن البين، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى
عنها. فواها له! ما أغربه بين الناس! وما أشد وحشته منهم! وما أعظم أنسه بالله
وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه!! والله المستعان، وعليه التكلان)[41]
التفت إلى
الباقر، وقلت: فهل تحقق محمد بكل هذا؟
رأيت وجهه قد
تغير تغيرا شديدا، وقال: كيف تقول هذا.. إن محمدا r هو المعلم الأكبر لعبادة الله.. وهو أعرف العارفين
بالله.. وهو أعبد العابدين لله.
قلت: إن العبادة كما اصطلحت عليه
الأعراف هي الصلاة والذكر وقراءة القرآن والصيام.. فكيف تعمم العبادة بهذا الشكل؟
قال: أنا لم أعمم، بل القرآن الكريم
مؤدب رسول الله r ومعلمه، ومؤدب الأمة ومعلمها، هو الذي علمنا علم ذلك.. فالله
تعالى يقول في القرآن:﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى
حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177)
وهو يرد على الذين يغالون في الطقوس،
وينسون الحقائق قائلا:﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(البقرة: من الآية189)
وهو يرد على الذين يهتمون بالقرابين،
ويغفلون عن التقوى التي هي الأصل في التقربات، فيقول:﴿ لَنْ يَنَالَ
اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ
كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ
الْمُحْسِنِينَ) (الحج:37)
قلت: وعيت هذا.. ولكني أرى قوما من
الناس يرددون ما تردد أنت وأبوك.. وهم لا يقصدون من ذلك إلا ما يقصده الكسالى من
تهربهم من مشاق التكاليف، خاصة ما كان منها من قبيل النوافل، فهم لا يقومون ليلا، ولا
يصومون نهارا، ولا يذكرون الله إلا قليلا.. فإذا ما عوتبوا في ذلك ذكروا عن
العبادة ما ذكرت.
قال: كيف تقول هذا فيمن نزل عليه
قوله تعالى:﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) (الاسراء:79)، ونزل عليه قبلها قوله
تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا
(2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ
الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4)﴾ (المزمل)؟
قلت: هذه أوامر.. والأوامر قد تنفذ،
وقد يفرط فيها.. ولم نر أحدا من الناس يستدل على فعل فعله بأنه أمر به.
قال: كلهم يصدق عليه ما ذكرت إلا
محمد r.. فقد تمثلت فيه جميع حروف القرآن ومعانيه حتى صار قرآنا يمشي على
الأرض.
وإن شئت أن أدلك على شهادة شافية
كافية، فاكتف بقوله تعالى:﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ
أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ
الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ (المزمل:
من الآية20)
وقد تظافرت الشهادات الدالة على ما
دلت عليه هذه الآية الكريمة:
وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: قام
النبي r ليلة وهو يصلي في المسجد، فقمت أصلي وراءه يخيل إلي أنه لا يعلم،
فاستفتح بسورة البقرة، فقلت: إذا جاء مائة آية ركع، فجاءها فلم يركع، فقلت: إذا
جاء مائتي آية ركع فجاءها فلم يركع، فقلت: إذا ختمها ركع فختمها فلم يركع فلما
ختم، قال: (اللهم لك الحمد)، ثم استفتح آل عمران فقلت: إذا ختمها ركع فختمها ولم
يركع وقال: (اللهم لك الحمد)، ثم استفتح النساء، فقلت: إذا ختمها ركع، فختمها فلم
يركع وقال: (اللهم لك الحمد) ثلاثا ثم استفتح بسورة المائدة، فقلت: إذا ختمها ركع،
فختمها فركع فسمعته يقول: (سبحان ربي العظيم)، ويرجع شفتيه فأعلم أنه يقول غير
ذلك، فلا أفهم غيره، ثم استفتح بسورة الأنعام، فتركته وذهبت[42].
وعنه قال: أتيت رسول الله r
ذات ليلة لأصلي بصلاته، فاستفتح الصلاة فقرأ قراءة ليست بالرفيعة ولا الخفيفة،
قراءة حسنة يرتل فيها يسمعنا، قال: ثم ركع نحوا من سورة قال ثم رفع رأسه فقال:
(سمع الله لمن حمده ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)، ثم قام نحوا من سورة،
وسجد نحوا من ذلك حتى فرغ من الطول وعليه سواد من الليل[43].
وعنه قال: لقد لقيت رسول الله r
بعد العتمة، فقلت: يا رسول الله ائذن لي أن أتعبد بعبادتك فذهب وذهبت معه إلى
البئر، فأخذت ثوبه فسترت عليه، ووليته ظهري، ثم أخذ ثوبي فستر علي حتى اغتسلت، ثم
أتى المسجد فاستقبل القبلة، وأقامني عن يمينه، ثم قرأ الفاتحة، ثم استفتح سورة
البقرة، ولا يمر بآية رحمة إلا سأل الله، ولا آية تخويف إلا استعاذ، ولا مثل إلا
فكر حتى ختمها ثم كبر، فرفع، فسمعته يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) ويرد فيه
شفتيه حتى أظن أنه يقول: (وبحمده)، فمكث في ركوعه قريبا من قيامه، ثم رفع رأسه ثم
كبر فسجد فسمعته يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى) ويرد شفتيه، فأظن أنه يقول:
(وبحمده)، فمكث في سجوده قريبا من قيامه، ثم نهض حين فرغ من سجدته فقرأ فاتحة
الكتاب، ثم استفتح (آل عمران) لا يمر بآية رحمة إلا سأل ولا مثل إلا فكر، حتى
ختمها، ثم فعل في الركوع والسجود كفعل الأول، ثم سمعت النداء بالفجر، قال حذيفة
فما تعبدت عبادة كانت علي أشد منها[44].
وعنه، أنه صلى مع رسول الله r
من الليل فلما دخل في الصلاة قال: (الله أكبر، سبحان ذي الملك والجبروت والكبرياء
والعظمة)، ثم قرأ (البقرة) قراءة ليست بالخفيضة ولا بالرفيعة، حسنة يرتل فيها
ليسمعنا، ثم يركع، فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول: (سبحان ربي العظيم) ثم
يرفع رأسه فكان قيامه نحوا من ركوعه وهو يقول: (سمع الله لمن حمده)، ثم قال:
(الحمد لله ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة)، فكان سجوده نحوا من قيامه،
وكان يقول (سبحان ربي الأعلى) ثم رفع رأسه، وكان بين السجدتين نحوا من السجود وكان
يقول: (رب اغفر لي، رب اغفر لي) حتى قرأ (البقرة) و(آل عمران) و(الأنعام)،
و(النساء) و(المائدة) و(الأنعام) قال شعبة: لا أدري المائدة ذكر أو الأنعام[45].
وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال:
صليت مع رسول الله r ليلة، فلم يزل قائما) وفي لفظ (فأطال حتى هممت بأمر سوء قلنا ما
هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي r)[46]
وعنه، أنه صلى مع رسول الله r
في رمضان، فركع فقال في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) مثل ما كان قائما، ثم جلس يقول:
(رب اغفر لي رب اغفر لي) مثل ما كان قائما ثم سجد فقال: (سبحان ربي الأعلي) مثل ما
كان قائما، فما صلى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال إلى الغداة)[47]
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:
(كان رسول الله r لا يدع قيام الليل، وكان إذا مرض أو تعب صلى قاعدا)[48]
وعنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان
رسول الله r إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم، أو وجع عن
قيام الليل من النهار اثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله r قرأ القرآن كله في ليلة ولا صلى ليلة إلى الصبح ولا صام شهرا
كاملا إلا رمضان)[49]
وعنها ـ رضي الله عنها ـ أن سعد بن
هشام سألها عن وتر رسول الله r فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله تعالى ما شاء أن
يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ[50].
وعنها قالت: (إن كان رسول الله r
ليوقظه الله عز وجل من الليل فما يجئ السحر حتى يفرغ من حزبه)[51]
وعنها قالت لما سئلت عن صلاة رسول
الله r في جوف الليل: (ما صلى العشاء في جماعة ثم يرجع إلى أهله، إلا صلى
أربع ركعات أو ست، ولقد مطرنا مرة بالليل فطرحنا نطعا فكأني أنظر إلى ثقب فيه ينبع
منه الماء وما رأيته متفيئا الأرض بشئ من ثيابه قط)[52]
وعنها لما سئلت عن صلاة رسول الله r
بالليل، قالت: (كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن
المؤذن وثب فإن كان به حاجة اغتسل والا توضأ وخرج)[53]
وعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أنها
قالت لمن سألها عن قراءة رسول الله r وصلاته: (ما لكم ولصلاته وقراءته، كان يصلي العتمة ثم يسبح، ثم
يصلي بعدها ما شاء الله من الليل ثم يرقد) وفي لفظ (كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى
ثم يصبح ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا)[54]
وعنها قالت: (كان رسول الله r
يصلي ثم ينام قد ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح)[55]
وعنها: أن رسول الله r
قسم سورة البقرة في ركعتين[56].
وعنها قالت: كنت أقوم مع رسول الله r
ليلة التمام وكان يقرأ (بالبقرة) و(آل عمران) و(النساء) فلا يمر بآية فيها تخويف
إلا دعا واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله تعالى ورغب إليه[57].
وعن مسلم بن مخراق قال: قلت لعائشة ـ
رضي الله عنها ـ: إن عندنا قوما يقرؤون القرآن مرة وثلاثة في ليلة فقالت: أولئك
قرؤوا ولم يقرؤوا، لقد رأيتني وأنا أقوم مع رسول الله r في الليل التمام يقرأ بسورة (البقرة، وآل عمران والنساء) لا يمر
بآية رجاء إلا سأل ربه ودعا، ولا يمر بآية تخويف إلا دعا ربه واستعاذ)[58]
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن
رسول الله r قال: (قال لي جبريل: قد حبب إليك الصلاة فخذ منها ما شئت)[59]
وعنه قال: بت عند خالتي ميمونة، فصلى
رسول الله r العشاء، ثم جاء فصلى أربع ركعات، ثم نام ثم قام
فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه فصلى خمس ركعات ثم صلى ركعتين ثم نام حتى سمعت
غطيطه، ثم خرج إلى الصلاة[60].
وعنه قال: أهدى رسول الله r
إلى أبي بكرة فاستصغرها أبي، قال: انطلق بها إلى رسول الله r فائت فقل: إنا قوم نعمل، فإن كان عندك أسن منها
فابعث بها إلينا، فقال: يا ابن عمي وجهها إلى إبل الصدقة، فوجهتها، ثم أتيته في
المسجد، فصليت معه العشاء، فقال: ما تريد أن تبيت عند خالتك الليلة؟ قد أمسيت
فوافقت ليلتها من رسول الله r فأتيتها فعشتني، ووطأت لي بعباءة فافترشتها، فقلت لأعلمن ما يعمل
رسول الله r فدخل رسول الله r فقال: (يا ميمونة)، فقالت: لبيك يا رسول الله فقال: (أما أتاك ابن
أختك؟)، قالت بلي هو هذا، قال: (أفلا عشيتيه؟ إن كان عندك شئ) قالت: قد فعلت، قال:
(قد وطئت له) قالت: نعم فمال إلى فراشه فلم يضطجع عليه واضطجع حوله، ووضع رأسه على
الفراش، فمكث ساعة، فسمعته نفخ في النوم، فقلت: نام، وليس بالمستيقظ وليس بقائم
الليلة، ثم قام حيث قلت: ذهب الربع ( الثلث ) من الليل فأتى سواكا له ومطهرة
فاستاك حتى سمعت صرير ثناياه تحت السواك، ثم قام إلى قربة فحل شناقها، فأردت أن
أقوم فأصب عليه فخشيت أن يذر شيئا من عمله، فلما توضأ دخل مسجده فصلى أربع ركعات
فقرأ في كل ركعة مقدار خمسين آية يطيل فيها الركوع والسجود، ثم جاء إلى مكانه الذي
كان عليه فاضطجع هويا، فنفخ وهو نائم، فقلت: ليس بقائم الليل..حتى يصبح، فلما ذهب
نصف الليل أو ثلثه أو قدر ذلك فقام..يصنع مثل ذلك ثم دخل مسجده فصلى أربع ركعات
على قدر ذلك ثم جاء إلى مضجعه فاتكأ عليه فنفخ، فقلت: ذهب به النوم وليس بقائم حتى
يصبح، ثم قام حين بقي سدس الليل أو أقل فاستاك، ثم توضأ فافتتح بفاتحة الكتاب ثم
قرأ (سبح اسم ربك الأعلى) ثم ركع وسجد، ثم قام فقرأ بفاتحة الكتاب و(قل هو الله
أحد) ثم قنت فركع وسجد فلما فرغ قعد حتى إذا ما طلع الفجر ناداني فقلت: لبيك يا
رسول الله، قل: (قم ـ فو الله ما كنت بنائم ـ فقمت فتوضأت، فصليت خلفه، فقرأ
بفاتحة الكتاب و(قل هو الله أحد) ثم ركع وسجد ثم قام في الثانية فقرأ بفاتحة
الكتاب و(قل يا أيها الكافرون) الحديث[61].
وعن أم قيس بنت محصن ـ رضي الله عنها
ـ (أن رسول الله r لما أسن وحمل اللحم، اتخذ عمودا في مصلاه يعتمد عليه)[62]
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: كان
رسول الله r يتسوك من الليل مرتين، أو ثلاثا، كلما رقد فاستيقظ استاك وتوضأ،
وصلى ركعتين أو ركعة[63].
وعن الحجاج بن عمرو المازني ـ رضي
الله عنه ـ قال: (أيحسب أحدكم إذا قام من الليل يصلي حتى يصبح أنه قد تهجد، إنما
التهجد المرء يصلي بعد رقدة، ثم الصلاة بعد رقدة، وتلك كانت صلاة رسول الله r)[64]
وعن أم هانئ ـ رضي الله عنها ـ قالت:
(كنت أسمع قراءة النبي r بالليل وأنا على عريشي)[65]
وعن عوف بن مالك ـ رضي الله عنه ـ
قال: قمت مع رسول الله r فلما ركع قدر سورة البقرة يقول في ركوعه: (سبحان ذي الجبروت
والملكوت والكبرياء والعظمة)[66]
وعنه قال: قمت مع رسول الله - r
- ذات ليلة فقام فصلى فقرأ سورة (البقرة) لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ولا يمر
بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه: (سبحان ذي الجبروت
والملكوت والكبرياء والعظمة)، ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ثم قام
فقرأ بآل عمران ثم قرأ سورة سورة)[67]
وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: ألا
يقوم أحدكم فيصلي أربع ركعات قبل العصر ويقول فيهن ما كان رسول الله r
يقول: (تم نورك فهديت فلك الحمد، عظم حلمك فعفوت فلك الحمد، بسطت يدك فأعطيت فلك
الحمد، ربنا وجهك أكرم الوجوه وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أفضل العطية وأهنؤها، تطاع
ربا فتشكر، وتعصى ربنا فتغفر وتجيب المضطر، وتكشف الضر وتشفي السقيم، وتغفر الذنب
وتقبل التوبة، ولا يجرى بآلائك أحد، ولا يبلغ مدحتك قول قائل)[68]
وعن رجل من بني غفار صحب رسول الله r
قال: خرجنا مع رسول الله r إلى مكة، فلما وصلنا نزلنا منزلا، فقلت: لأرقين صلاة رسول الله r
حتى أرى فعله، واضطجع رسول الله r هويا من الليل، واضطجعت قريبا منه ثم سمعته بعدها تنفس تنفس
النائم ثم استيقظ، ثم نظر إلى أفق السماء ثم قرأ هذه الآيات:﴿ إِنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190) الآيات التي في آل عمران ختمها[69] ثم أهوى رسول الله r إلى فراشه، فاستل منه سواكا، فاستن به، ثم قام، فاستكب ماء من
قربة في قدح له، ثم توضأ فأسبغ وضوءه، ثم قام فصلى أربع ركعات، لا أدري ركوعهن
أطول أم قيامهن أم سجودهن، حتى قلت: قد صلى قدر ما نام، ثم انصرف فنام، ثم استيقظ
فقرأ بالآيات التي كان قرأ بها، ثم استن فتوضأ وصلى أربع ركعات، ثم غلب علينا
النعاس حتى السحر[70].
وعن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة،
أن رجلا قال: لأرمقن صلاة رسول الله r قال: فصلى العشاء، ثم اضطجع غير كثير قام ففرغ من حاجته، ثم أتى
مؤخرة الرحل، فأخذ منها السواك فاستن وتوضأ، فوالذي نفسي بيده ما ركع حتى ما أدري
ما مضى من الليل أكثر أم ما بقي وحتى أدركني النوم، أمثال الجبال[71].
وعن جمع من الصحابة ـ رضي الله عنهم
ـ: (أن رسول الله - r - لما نزل عليه قوله تعالى:﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً) (الفتح:1) صام وصلى حتى تورمت قدماه وساقاه[72]، فقيل له: أتتكلف هذا بنفسك، وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما
تأخر؟)، فقال: (أفلا أكون عبدا شكورا)، فلما بدن وكثر لحمه صلى جالسا، فإذا أراد
أن يركع قام، فقرأ نحوا من ثلاثين آية أو أربعين آية ثم ركع[73].
***
بقيت في صحبة زين العابدين ثلاث
سنوات.. وقد عرفت خلالها أن ألوان العبادة التي جاء بها محمد r
لم يأت بمثلها دين من الأديان، ولا فكر من الأفكار.
وعلمت ـ من خلال صحبته ـ علم اليقين
أن محمدا r هو سيد العباد.. وأنه لو جمعت عبودية جميع العابدين ووزنت بعبودية
محمد r لرجحت عبوديته.
قلت: فكيف ظهر لك أن تفارقه؟
قال: بل هو الذي ظهر له أن يفارقني؟
تعجبنا قائلين: كيف.. هل هجرك بعد
إدناء.. وقلاك بعد محبة؟
قال: مثله لا يعرف الهجر.. ولا
العداوة.. ولا البغضاء.
قلت: فكيف فارقك إذن؟
قال: لقد كان رجلا لا يتحرك حركة إلا
بميزان دقيق.. إن قوله تعالى:﴿ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً)(النساء: من الآية103) لم تكن عنده محصورة في
الصلاة التي يعرفها الناس.. بل كانت الصلاة عنده كل حياته.. فلذلك كانت حياته كلها
موقوتة بمواقيتها المضبوطة.
قلت: فهل دق جرس فراقه لك، ففارقك؟
قال: بل جاءته رسالة من بعض البلاد
النائية تطلب منه أن يأتي ليبلغ رسالة الله، فراح يسعى كما سعى ذلك الرجل من أقصى
المدينة لينصر رسل الله.
([2]) الحادثة كما رواها عبد الرحمن بن حفص القرشي قال: كان علي بن
الحسين إذا توضأ يصفرّ فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول:
تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟
وعن
عبد الله بن أبي سليم قال: كان علي بن الحسين إذا مشى لا تجاوز يده فخذه، ولا يخطر
بيده، وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: مالك؟ فقال: ما تدرون بين يدي
مَن أقوم ومن أناجي؟
([3]) روي أنه وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين، وهو ساجد، فجعلوا
يقولون له: يابن رسول الله النار، يا ابن رسول الله النار. فما رفع رأسه حتى
أُطفئت. فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ قال: ألهتني عنها النار الأخرى.
([4])وقد روي مثل هذا أحاديث كثيرة عن زين العابدين ـ رضي الله عنه ـ
منها أن رجلا كلّمه افترى عليه، فقال: إن كنّا كما قلت فنستغفر الله، وإن لم نكن
كما قلت فغفر الله لك. فقام إليه الرجل فقبل رأسه وقال: جعلت فداك، ليس كما قلت
أنا فاغفر لي، قال: غفر الله لك. فقال الرجل: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
([5]) هذه القصيدة في الأصل للفرزدق، وقد قالها في مدح زين العابدين ـ
رضي الله عنه ـ وقصتها هي ما روي أن هشام بن عبد الملك حج قبل أن يلي الخلافة،
فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه، فجاء علي بن الحسين فوقف له الناس وتنحوا حتى
استلم، فقال الناس لهشام: من هذا؟ قال: لا أعرفه.
فقال
الفرزدق: لكني أعرفه، هذا علي بن الحسين.. ثم قال القصيدة.. وننبه إلى أنا نقلناها
هنا مع بعض التصرف.
والغرض
من ذكرها هنا هو تبيان صفات العابد الوارث للنبي r.. وقد أحسن الفرزدق في جمعها أيما إحسان.
([6]) نريد بالرجولة هنا معناها الشرعي، والذي لا يختص بالذكور، فهي
تدل على جملة من الخصال الكريمة كنا قد أشرنا إليها في كتاب (العشرة الزوجية) من
سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية) عند حديثنا عن معنى القوامة وشروطها، وفي اللغة ما
يساعد على تعميمها على الرجال والنساء، كما قال الشاعر:
كلُّ
جار ظَلَّ مُغْتَبِطاً غيرَ جيران بني
جَبَله
خَرَقُوا
جَيْبَ فَتاتِهم لم يُبالوا حُرْمَة الرَّجُله
وحكى
ابن الأَعرابي أَن أَبا زياد الكلابي قال في حديث له مع امرأَته:( فَتَهايَجَ
الرَّجُلانِ)، يعني نفسه وامرأَته كأَنه أَراد:(فَتَهايَجَ الرَّجُلُ والرَّجُلة)،
فغَلَّب المذكر، وتَرَجَّلَتِ المرأَةُ صارت كالرَّجُل وفي الحديث:(كانت عائشة ـ
رضي الله عنها ـ رَجُلة الرأْي) انظر: (لسان العرب، مادة: رجل)
([9]) رواه البيهقي عن يحيى بن أبي كثير مرسلا وزاد (فإنما أنا عبد)،
ورواه هناد عن عمرو بن مرة وزاد:( فوا الذي نفسي بيده لو كانت الدنيا تزن عند الله
جناح بعوضة ما سقى منها كافرا كأسا) ولتعدد هذه الطرق رمز السيوطي في الجامع
الصغير لحسنه.
([17])ذكر ابن القيم أن وصف هذا النوع من العبودية لا يأتي إلا على أحد
خمسة أوجه، هي:
الأول:
منكرا كقوله:﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي
الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:93)،
الثاني:
معرفا باللام، كقوله:﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ)(غافر:
من الآية31)
الثالث:
مقيدا بالإشارة أو نحوها كقوله:﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ
هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) (الفرقان:17)
الرابع:
أن يذكروا في عموم عباده، فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر كقوله:﴿ قُلِ
اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
(الزمر:46)
الخامس:
أن يذكروا موصوفين بفعلهم كقوله:﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53)، وقد يقال:
إنما سماهم عباده إذ لم يقنطوا من رحمته وأنابوا إليه واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم
من ربهم فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة. (انظر: مدارج السالكين)
ونظير
هذا ما ورد في القنوت والسجود، كما قال تعالى في القنوت الخاص:﴿ أَمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو
رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9) وقال في حق
مريم:﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا
فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ
وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (التحريم:12)، وغيرها.
وقال
في القنوت العام:﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) (البقرة:116)،
وقال:﴿ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)
(الروم:26)، أي خاضعون أذلاء.
وقال في السجود الخاص:﴿ إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ
يَسْجُدُونَ) (لأعراف:206)
([21])رواه البخاري ومسلم، وفي رواية للبخاري: ( فشكر الله له
فغفر له فأدخله الجنة )، وفي رواية لهما ( بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله
العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فاستقت له به فسقته فغفر لها
به)
([22])رواه مسلم، وفي رواية له: ( مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق
فقال والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأدخل الجنة)، وفي رواية لهما: (
بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له)
([23])رواه مسلم، وفي رواية له: ( فلا يغرس المسلم غرسا فيأكل منه
إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة )، وفي رواية له: ( لا
يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة)
([72])وفي رواية: (صام وصلى حتى انتفخت) وفي لفظ: (حتى تفطر، وفي لفظ:
حتى ترم قدماه))، وفي رواية: (وتعبد حتى صار كالشن البالي) وفي لفظ: اجتهد.
([73])رواه أحمد، والشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن المغيرة
بن شعبة، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن عساكر، عن عائشة وابن عساكر وأبو يعلى،
والبزار، والطبراني، برجال الصحيح، وأبو القاسم البغوي، عن أنس، والطبراني، وابن
عساكر عن النعمان بن بشير، والطبراني، وابن عساكر، والخطيب، عن أبي جحيفة،
والطبراني عن عبد الله بن مسعود، وابن ماجه، والترمذي، في (الشمائل) والبزار برجال
الصحيح، وابن مردويه، والبيهقي في (الأسماء) و(الشعب)، وابن عساكر، عن أبي هريرة،
وابن عساكر عن نبيط بن شريط الأشجعي وابن عساكر والإمام أحمد، في (الزهد) عن
الحسن.